روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

السبت، 4 يونيو 2022

مقدمة ابن الصلاح/ من المقدمة الي النوع الرابع والعشرون

 

[مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال الشيخ الإمام الحافظ مفتي الشام تقي الدين أبو عمر عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الشهرزوري الشافعي، المعروف بابن الصلاح، عليه الرحمة: «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا». 

الحمد لله الهادي من استهداه الواقي من اتقاه الكافي من تحرى رضاه، حمدا بالغا أمد التمام ومنتهاه. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا والنبيين وآل كل ما رجا راجٍ مغفرته ورحماه، آمين.

 

هذا، وإن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة وأنفع الفنون النافعة يحبه ذكور الرجال وفحولتهم ويُعنى به محققو العلماء وكملتهم ولا يكرهه من الناس إلا رُذالتهم وسفلتهم. وهو من أكثر العلوم تولجا في فنونها لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها. ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء وظهر الخلل في كلام المخلين به من العلماء.

 

ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيما، عظيمة جموع طلبته رفيعة مقادير حفاظه وحملته. وكانت علومه بحياتهم حية وأفنان فنونه ببقائهم غضة ومغانيه بأهله آهلة فلم يزالوا في انقراض، ولم يزل في اندراس حتى آضت به الحال إلى أن صار أهله إنما هم شرذمة قليلة العدد ضعيفة العُدد، لا تغني على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غفلا ولا تعنى في تقييده بأكثر من كتابته عطلا مُطَّرِحين علومه التي بها جل قدره مباعدين معارفه التي بها فخم أمره.

 

فحين كاد الباحث عن مشكله لا يلفي له كاشفا والسائل عن علمه لا يلقى به عارفا، منَّ الله الكريم تبارك وتعالى عليَّ - وله الحمد - أن أجمع بكتاب معرفة أنواع علوم الحديث هذا الذي باح بأسراره الخفية وكشف عن مشكلاته الأبية وأحكم معاقده وأقعد قواعده وأنار معالمه وبين أحكامه وفصل أقسامه وأوضح أصوله وشرح فروعه وفصوله وجمع شتات علومه وفوائده وقنص شوارد نكته وفرائده. فالله العظيم - الذي بيده الضر والنفع والإعطاء والمنع - أسأل وإليه أضرع وأبتهل متوسلا إليه بكل وسيلة متشفعا إليه بكل شفيع أن يجعله مليا بذلك وأملى وفيِّا بكل ذلك وأوفى. وأن يعظم الأجر والنفع به في الدارين، إنه قريب مجيب. «وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».

 

وهذه فهرسة أنواعه:

 

فالأول منها: معرفة الصحيح من الحديث.

 

الثاني: معرفة الحسن من الحديث.

 

الثالث: معرفة الضعيف من الحديث.

 

الرابع: معرفة المسند.

 

الخامس: معرفة المتصل.

 

السادس: معرفة المرفوع.

 

السابع: معرفة الموقوف.

 

الثامن: معرفة المقطوع وهو غير المنقطع.

 

التاسع: معرفة المرسل.

 

العاشر: معرفة المنقطع.

 

الحادي عشر: معرفة المعضل ويليه تفريعات منها في الإسناد المعنعن ومنها في التعليق.

 

الثاني عشر: معرفة التدليس وحكم المدلّس.

 

الثالث عشر: معرفة الشاذ.

 

الرابع عشر: معرفة المنكر.

 

الخامس عشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد

 

السادس عشر: معرفة زيادات الثقات وحكمها

 

السابع عشر: معرفة الأفراد.

 

الثامن عشر: معرفة الحديث المعلل.

 

التاسع عشر: معرفة المضطرب من الحديث.

 

العشرون: معرفة المدرج في الحديث.

 

الحادي والعشرون: معرفة الحديث الموضوع.

 

الثاني والعشرون: معرفة المقلوب.

 

الثالث والعشرون: معرفة صفة من تُقبل روايته ومن تُرد روايته.

 

الرابع والعشرون: معرفة كيفية سماع الحديث وتحمّله، وفيه بيان أنواع الإجازة وأحكامها وسائر وجوه الأخذ والتحمل، وفيه علم جم.

 

الخامس والعشرون: معرفة كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده، وفيه معارف مهمة رائقة.

 

السادس والعشرون: معرفة كيفية رواية الحديث وشرط أدائه وما يتعلق بذلك، وفيه كثير من نفائس هذا العلم.

 

السابع والعشرون: معرفة آداب المحدِّث.

 

الثامن والعشرون: معرفة آداب طالب الحديث.

 

التاسع والعشرون: معرفة الإسناد العالي والنازل.

 

الموفي ثلاثين: معرفة المشهور من الحديث.

 

الحادي والثلاثون: معرفة الغريب والعزيز من الحديث.

 

الثاني والثلاثون: معرفة غريب الحديث.

 

الثالث والثلاثون: معرفة المسلسل.

 

الرابع والثلاثون: معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه.

 

الخامس والثلاثون: معرفة المصحَّف من أسانيد الأحاديث ومتونها.

 

السادس والثلاثون: معرفة مختلِف الحديث.

 

السابع والثلاثون: معرفة المزيد في متصل الأسانيد.

 

الثامن والثلاثون: معرفة المراسيل الخفي إرسالها.

 

التاسع والثلاثون: معرفة الصحابة رضي الله عنهم.

 

الموفي أربعين: معرفة التابعين رضي الله عنهم.

 

الحادي والأربعون: معرفة أكابر الرواة عن الأصاغر.

 

الثاني والأربعون: معرفة المدبج وما سواه من رواية الأقران بعضهم عن بعض.

 

الثالث والأربعون: معرفة الإخوة والأخوات من العلماء والرواة.

 

الرابع والأربعون: معرفة رواية الآباء عن الأبناء.

 

الخامس والأربعون: عكس ذلك: معرفة رواية الأبناء عن الآباء.

 

السادس والأربعون: معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر تباعد ما بين وفاتيهما.

 

السابع والأربعون: معرفة من لم يروِ عنه إلا راوٍ واحد.

 

الثامن والأربعون: معرفة من ذكر بأسماء مختلفة أو نعوت متعددة.

 

التاسع والأربعون: معرفة المفردات من أسماء الصحابة والرواة والعلماء.

 

الموفي خمسين: معرفة الأسماء والكنى.

 

الحادي والخمسون: معرفة كنى المعروفين بالأسماء دون الكنى.

 

الثاني والخمسون: معرفة ألقاب المحدثين.

 

الثالث والخمسون: معرفة المؤتلف والمختلف.

 

الرابع والخمسون: معرفة المتفق والمفترق.

 

الخامس والخمسون: نوع يتركب من هذين النوعين.

 

السادس والخمسون: معرفة الرواة المتشابهين في الاسم و النسب المتمايزين بالتقديم والتأخير في الابن والأب.

 

السابع والخمسون: معرفة المنسوبين إلى غير آبائهم.

 

الثامن والخمسون: معرفة الأنساب التي باطنها على خلاف ظاهرها.

 

التاسع والخمسون: معرفة المبهمات.

 

الموفي ستين: معرفة تواريخ الرواة في الوفيات وغيرها.

 

الحادي والستون: معرفة الثقات والضعفاء من الرواة.

 

الثاني والستون: معرفة من خلَّط في آخر عمره من الثقات.

 

الثالث والستون: معرفة طبقات الرواة والعلماء.

 

الرابع والستون: معرفة الموالي من الرواة والعلماء.

 

الخامس والستون: معرفة أوطان الرواة وبلدانهم.

 

وذلك - أي النوع الخامس و الستون - آخرها وليس بآخر الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى، إذ لا تحصى أحوال رواة الحديث وصفاتهم ولا أحوال متون الحديث وصفاتها وما من حالة منها ولا صفة إلا وهي بصدد أن تفرد بالذكر وأهلها، فإذا هي نوع على حياله ولكنه نصب من غير أرب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

مقدمة ابن الصلاح

المقدمة

ابن الصلاح   النوع الأول: معرفة الصحيح

 

====

 

 

النوع الأول من أنواع علوم الحديث: معرفة الصحيح من الحديث

 

اعلم- علمك الله وإياي - أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف:

 

أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معللا.

 

وفي هذه الأوصاف احتراز عن المرسل والمنقطع والمعضل والشاذ وما فيه علة قادحة وما في راويه نوع جرح. وهذه أنواع يأتي ذكرها إن شاء الله تبارك وتعالى.

 

فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث. وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو: لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف، كما في المرسل.

 

ومتى قالوا: هذا حديث صحيح، فمعناه: أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة. وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر، إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول.

 

وكذلك إذا قالوا في حديث: إنه غير صحيح، فليس ذلك قطعا بأنه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر، وإنما المراد به: أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور، والله أعلم.

فوائد مهمة

 

إحداها: الصحيح يتنوع إلى متفق عليه ومختلف فيه كما سبق ذكره. ويتنوع إلى مشهور وغريب وبين ذلك.

 

ثم إن درجات الصحيح تتفاوت في القوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تبتنى الصحة عليها. وتنقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العاد الحاصر. ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق. على أن جماعة من أئمة الحديث خاضوا غمرة ذلك، فاضطربت أقوالهم.

 

فروينا عن إسحاق بن راهويه أنه قال: أصح الأسانيد كلها: الزهري عن سالم عن أبيه. وروينا نحوه عن أحمد بن حنبل.

 

وروينا عن عمرو بن علي الفلاس أنه قال: أصح الأسانيد: محمد بن سيرين عن عَبيِدة عن علي. وروينا نحوه عن علي بن المديني. روي ذلك عن غيرهما.

 

ثم منهم من عين الراوي عن محمد وجعله أيوب السختياني. ومنهم من جعله ابن عون.

 

وفيما نرويه عن يحيى بن معين أنه قال: أجودها: الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله.

 

وروينا عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: أصح الأسانيد كلها: الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي.

 

وروينا عن أبي عبد الله البخاري - صاحب الصحيح - أنه قال: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. وبنى الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي على ذلك: أن أجلّ الأسانيد الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه: لم يكن في الرواة عن مالك أجلُّ من الشافعي رضي الله عنهم أجمعين، والله أعلم.

 

الثانية: إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريِّا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان. فآل الأمر إذا - في معرفة الصحيح والحسن - إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتدة المشهورة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف، وصار معظم المقصود - بما يتداول من الأسانيد خارجا عن ذلك - إبقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة، زادها الله تعالى شرفا، آمين.

 

الثالثة: أول من صنف الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم. وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري من أنفسهم. ومسلم - مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه - يشاركه في أكثر شيوخه.

 

وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز. وأما ما روينا عن الشافعي رضي الله عنه من أنه قال: ما أعلم في الأرض كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك - ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ - فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي البخاري ومسلم.

 

ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحا وأكثرهما فوائد. وأما ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري - أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ - من أنه قال: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج. فهذا - وقول من فضل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري - إن كان المراد به: أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح، فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها على الوصف المشروط في الصحيح، فهذا لا بأس به. وليس يلزم منه أن كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح على كتاب البخاري. وإن كان المراد به: أن كتاب مسلم أصح صحيحا فهذا مردود على من يقوله. والله أعلم.

 

الرابعة: لم يستوعبا الصحيح في صحيحيهما ولا التزما ذلك.

 

فقد روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صحَّ وتركت من الصحاح لملال الطول.

 

وروينا عن مسلم أنه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا - يعني في كتابه الصحيح - إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه.

 

قلت: أراد - والله أعلم - أنه لم يضع في كتابه إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم.

 

ثم إن أبا عبد الله بن الأخرم الحافظ قال: قلَّ ما يفوت البخاري ومسلما مما يثبت من الحديث. يعني في كتابيهما. ولقائل أن يقول: ليس ذلك بالقليل، فإن المستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله كتاب كبير يشتمل مما فاتهما على شيء كثير وإن يكن عليه في بعضه مقال فإنه يصفو له منه صحيح كثير. وقد قال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. وجملة ما في كتابه الصحيح سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المتكررة. وقد قيل: إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث. إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين. وربما عدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين.

 

ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشهورة لأئمة الحديث: كأبي داود السجستاني وأبي عيسى الترمذي وأبي عبد الرحمن النسائي وأبي بكر بن خزيمة وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم. منصوصا على صحته فيها.

 

ولا يكفي في ذلك مجرد كونه موجودا في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي وكتاب النسائي وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره.

 

ويكفي مجرد كونه موجودا في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه ككتاب ابن خزيمة. وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على كتاب البخاري وكتاب مسلم ككتاب أبي عوانة الإسفرائيني وكتاب أبي بكر الإسماعيلي وكتاب أبي بكر البرقاني وغيرها، من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح في كثير من أحاديث الصحيحين. وكثير من هذا موجود في الجمع بين الصحيحين لأبي عبد الله الحميدي.

 

واعتنى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين وجمع ذلك في كتاب سماه المستدرك أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين: مما رآه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما أو على شرط البخاري وحده أو على شرط مسلم وحده، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما.

 

وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به. فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحُتج به ويُعمل به إلاَّ أن تظهر فيه علَّة توجب ضعفه.

 

ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم بن حبان البستي رحمهم الله أجمعين. والله أعلم.

 

الخامسة: الكتب المخرجة على كتاب البخاري أو كتاب مسلم رضي الله عنهما، لم يلتزم مصنفوها فيها موافقتهما في ألفاظ الأحاديث بعينها من غير زيادة ونقصان لكونهم رووا تلك الأحاديث من غير جهة البخاري ومسلم طلبا لعلوِّ الإسناد فحصل فيها بعض التفاوت في الألفاظ.

 

وهكذا ما أخرجه المؤلفون في تصانيفهم المستقلة: كالسنن الكبير للبيهقي وشرح السنة لأبي محمد البغوي وغيرهما، مما قالوا فيه: أخرجه البخاري أو مسلم، فلا يستفاد بذلك أكثر من أن البخاري أو مسلما أخرج أصل ذلك الحديث مع احتمال أن يكون بينهما تفاوت في اللفظ، وربما كان تفاوتا في بعض المعنى فقد وجدت في ذلك ما فيه بعض التفاوت من حيث المعنى.

 

وإذا كان الأمر في ذلك على هذا فليس لك أن تنقل حديثا منها وتقول: هو على هذا الوجه في كتاب البخاري أو كتاب مسلم إلا أن تقابل لفظه أو يكون الذي خرجه قد قال أخرجه البخاري بهذا اللفظ.

 

بخلاف الكتب المختصرة من الصحيحين، فإن مصنفيها نقلوا فيها ألفاظ الصحيحين أو أحدهما. غير أن الجمع بين الصحيحين للحُميدي الأندلسي منها يشتمل على زيادة تتمات لبعض الأحاديث كما قدمنا ذكره، فربما نقل من لا يميز بعض ما يجده فيه عن الصحيحين أو أحدهما وهو مخطئ لكونه من تلك الزيادات التي لا وجود لها في واحد من الصحيحين.

 

ثم إن التخاريج المذكورة على الكتابين يستفاد منها فائدتان: إحداهما: علو الإسناد. والثانية: الزيادة في قدر الصحيح لما يقع فيها من ألفاظ زائدة وتتمات في بعض الأحاديث يثبت صحتها بهذه التخاريج، لأنها واردة بالأسانيد الثابتة في الصحيحين أو أحدهما وخارجة من ذلك المخرج الثابت، والله أعلم.

 

السادسة: ما أسنده البخاري ومسلم - رحمهما الله - في كتابيهما بالإسناد المتصل فذلك الذي حكما بصحته بلا إشكال. وأما المعلق - وهو الذي حُذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر - وأغلب ما وقع ذلك في كتاب البخاري وهو في كتاب مسلم قليل جدا، ففي بعضه نظر.

 

وينبغي أن تقول: ما كان من ذلك ونحوه بلفظ فيه جزم وحكم به على من علقه عنه فقد حكم بصحته عنه.

 

مثاله: قال رسول الله ﷺ: كذا وكذا، قال: ابن عباس كذا، قال مجاهد: كذا، قال عفان: كذا. قال القعنبي: كذا، روى أبو هريرة كذا وكذا، وما أشبه ذلك من العبارات.

 

فكل ذلك حكم منه على من ذكره عنه بأنه قد قال ذلك ورواه فلن يستجيز إطلاق ذلك إلا إذا صح عنده ذلك عنه.

 

ثم إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابة: فالحكم بصحته يتوقف على اتصال الإسناد بينه وبين الصحابي.

 

وأما ما لم يكن في لفظه جزم وحكم، مثل: رُوي عن رسول الله ﷺ كذا وكذا أو روي عن فلان كذا، أو في الباب عن النبي ﷺ كذا وكذا، فهذا وما أشبهه من الألفاظ ليس في شيء منه حكم منه بصحة ذلك عمن ذكره عنه، لأن مثل هذه العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضا. ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه، والله أعلم.

 

ثم إن ما يتقاعد من ذلك عن شرط الصحيح قليل، يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه، الذي يشعر به اسمه الذي سماه به، وهو: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه.

 

وإلى الخصوص الذي بيناه يرجع مطلق قوله: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح.

 

وكذلك مطلق قول الحافظ أبي نصر الوايلي السجزي: أجمع أهل العلم - الفقهاء وغيرهم - على أن رجلا لو حلف بالطلاق: أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي ﷺ قد صح عنه، ورسول الله - ﷺ- قاله لا شك فيه، أنه لا يحنث والمرأة بحالها في حبالته.

 

وكذلك ما ذكره أبو عبد الله الحميدي في كتابه الجمع بين الصحيحين من قوله: لم نجد من الأئمة الماضين - رضي الله عنهم - أجمعين من أفصح لنا في جميع ما جمعه بالصحة إلا هذين الإمامين.

 

فإنما المراد بكل ذلك: مقاصد الكتاب وموضوعه ومتون الأبواب دون التراجم ونحوها، لأن في بعضها ما ليس من ذلك قطعا.

 

مثل قول البخاري: باب ما يذكر في الفخذ ويروى عن ابن عباس وجَرهَد ومحمد بن جحش عن النبي ﷺ: «الفخذ عورة».

 

وقوله في أول باب من أبواب الغسل: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ: «الله أحق أن يستحي منه».

 

فهذا قطعا ليس من شرطه، ولذلك لم يورده الحميدي في جمعه بين الصحيحين، فاعلم ذلك فإنه مهم خافٍ، والله أعلم.

 

السابعة: وإذا انتهى الأمر في معرفة الصحيح إلى ما خرجه الأئمة في تصانيفهم الكافلة ببيان ذلك - كما سبق ذكره - فالحاجة ماسة إلى التنبيه على أقسامه باعتبار ذلك.

 

فأولهما: صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعا.

 

الثاني: صحيح انفرد به البخاري، أي عن مسلم.

 

الثالث: صحيح انفرد به مسلم، أي عن البخاري.

 

الرابع: صحيح على شرطهما، لم يخرجاه.

 

الخامس: صحيح على شرط البخاري، لم يخرجه.

 

السادس: صحيح على شرط مسلم، لم يخرجه.

 

السابع: صحيح عند غيرهما، وليس على شرط واحد منهما.

 

هذه أمهات أقسامه، وأعلاها الأول، وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا: صحيح متفق عليه. يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه. لكن اتفاق الأئمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول.

 

وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به. خلافا لقول من نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ.

 

وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولا هو الصحيح لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ. والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبتني على الاجتهاد حجة مقطوعا بها وأكثر إجماعات العلماء كذلك.

 

وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها: القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، والله أعلم.

 

الثامنة: إذا ظهر بما قدمناه انحصار طريق معرفة الصحيح والحسن الآن في مراجعة الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة فسبيل من أراد العمل أو الاحتجاج بذلك - إذا كان ممن يسوغ له العمل بالحديث أو الاحتجاج به لدى مذهب - أن يرجع إلى أصل قد قابله هو أو ثقة غيره بأصول صحيحة متعددة مروية بروايات متنوعة، ليحصل له بذلك- مع اشتهار هذه الكتب وبعدها عن أن تقصد بالتبديل والتحريف - الثقة بصحة ما اتفقت عليه تلك الأصول، والله أعلم.==

النوع الثاني: معرفة الحسن من الحديث

 

روينا عن أبي سليمان الخطابي - رحمه الله - أنه قال بعد حكايته أن الحديث عند أهله ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي قدمنا ذكرها: الحسن: ما عرف مخرجه واشتهر رجاله. قال: وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء.

 

وروينا عن أبي عيسى الترمذي رضي الله عنه أنه يريد بالحسن: أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون حديثا شاذا ويروى من غير وجه نحو ذلك.

 

وقال بعض المتأخرين: الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن ويصلح للعمل به.

 

قلت: كل هذا مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح. وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث جامعا بين أطراف كلامهم ملاحظا مواقع استعمالهم فتنقَّح لي واتضح أن الحديث الحسن قسمان:

 

أحدهما: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه ولا هو متهم بالكذب في الحديث - أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سبب آخر مفسق - ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف، بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر، حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذا ومنكرا، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل.

 

القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا، ويعتبر في كل هذا - مع سلامة الحديث من أن يكون شاذا ومنكرا - سلامته من أن يكون معللا.

 

وعلى القسم الثاني يتنزل كلام الخطابي.

 

فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرق في كلام من بلغنا كلامه في ذلك، وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن وذكر الخطابي النوع الآخر مقتصرا كل واحد منهما على ما رأى أنه يُشكل معرضا عما رأى أنه لا يشكل. أو أنه غفل عن البعض وذهل، والله أعلم، هذا تأصيل ذلك وتوضيحه.

تنبيهات وتفريعات

 

أحدها: الحسن يتقاصر عن الصحيح في أن الصحيح من شرطه: أن يكون جميع رواته قد ثبتت عدالتهم وضبطهم وإتقانهم، إما بالنقل الصريح أو بطريق الاستفاضة، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.

 

وذلك غير مشترط في الحسن، فإنه يُكتفى فيه بما سبق ذكره من مجيء الحديث من وجوه وغير ذلك مما تقدم شرحه.

 

وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية مُستبعد، ذكرنا له نص الشافعي رضي الله عنه في مراسيل التابعين: أنه يقبل منها المُرسل الذي جاء نحوه مسندا وكذلك لو وافقه مرسل آخر أرسله من أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، في كلام له ذكر فيه وجوها من الاستدلال على صحة مخرج المرسل لمجيئه من وجه آخر.

 

وذكرنا له أيضا ما حكاه الإمام أبو المظفر السمعاني وغيره عن بعض أصحاب الشافعي من أنه: تُقبل رواية المستور وإن لم تقبل شهادة المستور، ولذلك وجه متجه، كيف وإنا لم نكتف في الحديث الحسن بمجرد رواية المستور على ما سبق آنفا. والله أعلم.

 

الثاني: لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوما بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة، مثل حديث: «الأذنان من الرأس» ونحوه، فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن لأن بعض ذلك عضد بعضا كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفا.

 

وجواب ذلك: أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت:

 

فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة. فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه له. وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر.

 

ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته. وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا.

 

وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة. والله أعلم.

 

الثالث: إذا كان راوي الحديث متأخرا عن درجة أهل الحفظ والإتقان، غير أنه من المشهورين بالصدق والستر، وروي مع ذلك حديثه من غير وجه، فقد اجتمعت له القوة من الجهتين وذلك يرقي حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصحيح. مثاله:حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة».

 

فمحمد بن عمرو بن علقمة: من المشهورين بالصدق والصيانة لكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته، فحديثه من هذه الجهة حسن. فلما انضم إلى ذلك كونه روي من أوجه أخر زال بذلك ما كنا نخشاه عليه من جهة سوء حفظه وانجبر به ذلك النقص اليسير، فصح هذا الإسناد والتحق بدرجة الصحيح، والله أعلم.

 

الرابع: كتاب أبي عيسى الترمذي رحمه الله أصل في معرفة الحديث الحسن وهوالذى نوَّه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه.

 

ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله، كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرها.

 

وتختلف النسخ من كتاب الترمذي في قول: هذا حديث حسن. أو: هذا حديث حسن صحيح ونحو ذلك. فينبغي أن تصحح أصلك به بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه.

 

ونص الدارقطني في سننه على كثير من ذلك.

 

ومن مظانه سنن أبي داود السجستاني رحمه الله. روينا عنه انه قال: ذكرت فيه الصحيح ومايشبه ويقاربه. وروينا عنه أيضا ما معناه: أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب. وقال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بيَّنته ومالم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض.

 

قلت: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن، عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود.

 

وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق، إذ حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ: أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه. وقال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأى الرجال، والله اعلم.

 

الخامس: ما صار إليه صاحب المصابيح رحمه الله من تقسيم أحاديثه إلى نوعين: الصحاح والحسان، مريدا بالصحاح ما ورد في أحد الصحيحين أو فيهما، وبالحسان ما أورده أبو داود والترمذي وأشباههما في تصانيفهم. فهذا اصطلاح لا يعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك. وهذه الكتب تشتمل على حسن وغير حسن كما سبق بيانه، والله أعلم.

 

السادس: كتب المسانيد غير ملتحقة بالكتب الخمسة التي هي: الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما يورد فيها مطلقا كمسند أبي داود الطيالسي ومسند عبيد الله بن موسى ومسند أحمد بن حنبل ومسند إسحاق بن راهويه ومسند عبد بن حميد ومسند الدارمي ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البزار أبي بكر وأشباهها، فهذه عادتهم فيها: أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثا محتجا به. فلهذا تأخرت مرتبتها - وإن جلَّت لجلالة مؤلفيها - عن مرتبة الكتب الخمسة وما التحق بها من الكتب المصنفة على الأبواب، والله أعلم.

 

السابع: قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حديث حسن لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح لكونه شاذا أو معللا.

 

غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له علَّة ولم يقدح فيه، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه، لأن عدم العلَّة والقادح هو الأصل والظاهر، والله أعلم.

 

الثامن: في قول الترمذي وغيره: هذا حديث حسن صحيح إشكال، لأن الحسن قاصر عن الصحيح كما سبق إيضاحه. ففي الجمع بينهما في حديث واحد جمع بين نفي ذلك القصور وإثباته.

 

وجوابه: أن ذلك راجع إلى الإسناد، فإذا روي الحديث الواحد بإسنادين: أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح استقام أن يقال فيه: إنه حديث حسن صحيح، أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر.

 

على أنه غير مستنكر أن يكون بعض من قال ذلك أراد بالحسن معناه اللغوي، وهو: ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده، فاعلم ذلك، والله أعلم.

 

التاسع: من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما يحتج به. وهو الظاهر من كلام الحاكم أبي عبد الله الحافظ في تصرفاته، وإليه يومىء في تسميته كتاب الترمذي بالجامع الصحيح. وأطلق الخطيب أبو بكر أيضا عليه اسم الصحيح وعلى كتاب النسائي. وذكر الحافظ أبو الطاهر السلفي الكتب الخمسة وقال: اتفق على صحتها علماء الشرق والغرب.

 

وهذا تساهل، لأن فيها ما صرحوا بكونه ضعيفا أو منكرا أو نحو ذلك من أوصاف الضعيف. وصرَّح أبو داود فيما قدمنا روايته عنه بانقسام ما في كتابه إلى صحيح وغيره والترمذي مصرِّح فيما في كتابه بالتمييز بين الصحيح والحسن.

 

ثم إن من سمَّى الحسن صحيحا لا ينكر أنه دون الصحيح المقدم المبين أولا، فهذا إذا اختلاف في العبارة دون المعنى، والله أعلم. ==

النوع الثالث: معرفة الضعيف من الحديث

 

كل حديث لم يجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن المذكورات فيما تقدم، فهو حديث ضعيف. وأطنب أبو حاتم بن حبان البستي في تقسيمه فبلغ به خمسين قسما إلا واحدا، وما ذكرته ضابط جامع لجميع ذلك.

 

وسبيل من أراد البسط: أن يعمد إلى صفة معينة منها فيجعل ما عدمت فيه - من غير أن يخلفها جابر على حسب ما تقرر في نوع الحسن - قسما واحدا. ثم ما عدمت فيه تلك الصفة مع صفة أخرى معينة قسما ثانيا. ثم ما عدمت فيه مع صفيتين معينتين قسما ثالثا. وهكذا إلى أن يستوفي الصفات المذكورات جمعاء. ثم يعود ويعين من الابتداء صفة غير التي عينها أولا، ويجعل ما عدمت فيه وحدها قسما ثم القسم الآخر ما عدلت فيه مع عدم صفة أخرى، ولتكن الصفة الأخرى غير الصفة الأولى المبدوء بها لكون ذلك سبق في أقسام عدم الصفة الأولى، وهكذا هلمَّ جرا إلى آخر الصفات.

 

ثم ما عدم فيه جميع الصفات هو القسم الأخر الأرذل. وما كان من الصفات له شروط فاعمل في شروطه نحو ذلك، فتتضاعف بذلك الأقسام.

 

والذي له لقب خاص معروف من أقسام ذلك: الموضوع والمقلوب والشاذ والمعلل والمضطرب والمرسل والمنقطع والمعضل، في أنواع سيأتي عليها الشرح إن شاء الله تعالى.

 

والملحوظ فيما نورده من الأنواع عموم أنواع علوم الحديث، لا خصوص أنواع التقسيم الذي فرغنا الآن من أقسامه. ونسأل الله تبارك وتعالى تعميم النفع به في الدارين، آمين. ==

النوع الرابع: معرفة المسند

 

ذكر أبو بكر الخطيب الحافظ رحمه الله: أن المسند عند أهل الحديث هو الذي اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه، وأكثر ما يستعمل ذلك فيما جاء عن رسول الله ﷺ دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم.

 

وذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ: أن المسند ما رفع إلى النبي ﷺ خاصة. وقد يكون متصلا، مثل: مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ. وقد يكون منقطعا، مثل: مالك عن الزهري عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ. فهذا مسند، لأنه قد أسند إلى رسول الله ﷺ وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من ابن عباس، رضي الله عنهم.

 

وحكى أبو عمر عن قوم: أن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعا إلى النبي ﷺ.

 

قلت: وبهذا قطع الحاكم أبو عبد الله الحافظ ولم يذكر في كتابه غيره.

 

فهذه أقوال ثلاثة مختلفة، والله أعلم. ==

النوع الخامس: معرفة المتصل

 

ويقال فيه أيضا: الموصول، ومطلقه يقع على المرفوع والموقوف.

 

وهو الذي اتصل إسناده، فكان كل واحد من رواته قد سمعه ممن فوقه حتى ينتهي إلى منتهاه.

 

مثال المتصل المرفوع من الموطأ: مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله ﷺ.

 

ومثال المتصل الموقوف: مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر قوله. والله أعلم. ==

النوع السادس: معرفة المرفوع

 

وهو: ما أضيف إلى رسول الله ﷺ خاصةً. ولا يقع مطلقه على غير ذلك نحو الموقوف على الصحابة وغيرهم.

 

ويدخل في المرفوع المتصل والمنقطع والمرسل ونحوها، فهو والمسند عند قوم سواء، والانقطاع والاتصال يدخلان عليهما جميعا. وعند قوم يفترقان في: أن الانقطاع والاتصال يدخلان على المرفوع، ولا يقع المسند إلا على المتصل المضاف إلى رسول الله ﷺ.

 

وقال الحافظ أبو بكر بن ثابت: المرفوع ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول ﷺ أو فعله. فخصصه بالصحابة، فيخرج عنه مرسل التابعي عن رسول الله ﷺ.

 

قلت: ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابلة المرسل فقد عنى بالمرفوع المتصل، والله أعلم. ==

النوع السابع: معرفة الموقوف

 

وهو: ما يروي عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول الله ﷺ.

 

ثم إلى منه ما يتصل الإسناد فيه إلى الصحابي فيكون من الموقوف الموصول. ومنه ما لا يتصل إسناده فيكون من الموقوف غير الموصول، على حسب ما عرف مثله في المرفوع إلى الرسول الله ﷺ، والله أعلم.

 

وما ذكرناه من تخصيصه بالصحابي فذلك إذا ذكر الموقوف مطلقا، وقد يستعمل مقيدا في غير الصحابي فيقال: حديث كذا وكذا، وقفه فلان علىعطاء أو على طاووس، أو نحو هذا.

 

وموجود في اصطلاح الفقهاء الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر. قال أبو القاسم الفوراني منهم فيما بلغنا عنه: الفقهاء يقولون: الخبر ما يروى عن النبي ﷺ، والأثر ما يروى عن الصحابة، رضي الله عنهم ==

النوع الثامن: معرفة المقطوع

 

وهو غير المنقطع الذي يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ويقال في جمعه: المقاطع والمقاطيع.

 

وهو: ما جاء عن التابعين موقوفا عليهم من أقوالهم أو أفعالهم.

 

قال الخطيب أبو بكر الحافظ في جامعه: من الحديث المقطوع. وقال: المقاطع هي الموقوفات على التابعين. والله أعلم.

 

قلت: وقد وجدت التعبير بالمقطوع عن المنقطع غير الموصول في كلام الإمام الشافعي وأبي القاسم الطبراني وغيرهما، والله أعلم.

تفريعات

 

أحدها: قول الصحابي: كنا نفعل كذا أو كنا نقول كذا إن لم يضفه إلى زمان رسول الله ﷺ فهو من قبيل الموقوف. وإن أضافه إلى زمان رسول الله ﷺ فالذي قطع به أبو عبد الله بن البيِّع الحافظ وغيره من أهل الحديث وغيرهم: أن ذلك من قبيل المرفوع.

 

وبلغني عن أبي بكر البرقاني: أنه سأل أبا بكر الإسماعيلي الإمام عن ذلك، فأنكر كونه من المرفوع.

 

والأول هو الذي عليه الاعتماد، لأن ظاهر ذلك مشعر بأن رسول الله ﷺ اطلع على ذلك أقررهم عليه. وتقريره أحد وجوه السنن المرفوعة، فإنها أنواع: منها أقواله ﷺ ومنها أفعاله. ومنها تقريره وسكوته عن الإنكار بعد اطلاعه.

 

ومن هذا القبيل قول الصحابي كنا لا نرى بأسا بكذا ورسول الله ﷺ فينا أو: كان يقال كذا وكذا على عهده. أو: كانوا يفعلون كذا وكذا في حياته ﷺ

 

فكل ذلك وشبهه مرفوع مسند، مخرج في كتب المسانيد.

 

وذكر الحاكم أبو عبد الله -فيما رويناه عن المغيرة بن شعبة قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يقرعون بابه بالأظافير - أن هذا يتوهمه من ليس من أهل الصنعة مسندا، يعني مرفوعا، لذكر رسول الله ﷺ فيه، وليس بمسند بل هو موقوف.

 

وذكر الخطيب أيضا نحو ذلك في جامعه.

 

قلت: بل هو مرفوع كما سبق ذكره. وهو بأن يكون مرفوعا أحرى لكونه أحرى باطّلاعه ﷺ عليه. والحاكم معترف بكون ذلك من قبيل المرفوع، وقد كنا عددنا هذا فيما أخذناه عليه. ثم تأوَّلناه له على أنه أراد أنه ليس بمسند لفظا بل هو موقوف لفظا، وكذلك سائر ما سبق موقوف لفظا، وإنما جعلناه مرفوعا من حيث المعنى. والله أعلم.

 

الثاني: قول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا من نوع المرفوع والمسند عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم. وخالف في ذلك فريق منهم أبو بكر الإسماعيلي. والأول هو الصحيح لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنهي، وهو رسول الله ﷺ.

 

وهكذا قول الصحابي: من السنة كذا فالأصح أنه مسند مرفوع لأن الظاهر أنه لا يريد به إلا سنَّة رسول الله ﷺ وما يجب اتباعه.

 

وكذلك قول أنس رضي الله عنه: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. وسائر ما جانس ذلك. فلا فرق بين أن يقول ذلك في زمان رسول الله ﷺ وبعده ﷺ.

 

الثالث: ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي أو نحو ذلك، كقول جابر رضي الله عنه: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل «نساؤكم حرث لكم». الآية. فأما سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى رسول الله ﷺ فمعدودة في الموقوفات. والله أعلم.

 

الرابع: من قبيل المرفوع الأحاديث التي قيل في أسانيدها عند ذكر الصحابي: يرفع الحديث أو: يبلغ به أو: ينميه أو: رواية.

 

مثال ذلك: سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، رواية: تقاتلون قوما صغار الأعين.. الحديث.

 

وبه عن أبي هريرة يبلغ به، قال: الناس تبع لقريش.. الحديث.

 

فكل ذلك وأمثاله كناية عن رفع الصحابي الحديث إلى رسول الله ﷺ. وحكم ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع صريحا.

 

قلت: وإذا قال الراوي عن التابعي: يرفع الحديث أو: يبلغ به فذلك أيضا مرفوع ولكنه مرفوع مرسل. والله أعلم. ==

النوع التاسع: معرفة المرسل

 

وصورته التي لا خلاف فيها: حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم كعبيد الله بن عدي بن الخيار ثم سعيد بن المسيب وأمثالهما، إذا قال: قال رسول الله ﷺ.

 

والمشهور: التسوية بين التابعين أجمعين في ذلك، رضي الله عنهم.

 

وله صور اختلف فيها: أهي من المرسل أم لا ؟

 

إحداها: إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي فكان فيه رواية راوٍ لم يسمع من المذكور فوقه: فالذي قطع به الحاكم الحافظ أبو عبد الله وغيره من أهل الحديث: أن ذلك لا يسمى مرسلا وأن الإرسال مخصوص بالتابعين.

 

بل إن كان من سقط ذكره قبل الوصول إلى التابعي شخصا واحدا سمي منقطعا فحسب، وإن كان أكثر من واحد سمي معضلا ويسمى أيضا منقطعا. وسيأتي مثلا ذلك إن شاء الله تعالى.

 

والمعروف في الفقه وأصوله: أن كل ذلك يسمى مرسلا، وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكر الخطيب وقطع به، وقال: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي ﷺ، وأما ما رواه تابع التابعي عن النبي ﷺ فيسمونه المعضل، والله أعلم.

 

الثانية: قول الزهري وأبي حازم ويحيى بن سعيد الأنصاري وأشباههم من أصاغر التابعين: قال رسول الله ﷺ، حكى ابن عبد البر: أن قوما لا يسمونه مرسلا بل منقطعا، لكونهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين، وأكثر روايتهم عن التابعين.

 

قلت: وهذا المذهب فرع لمذهب من لا يسمي المنقطع قبل الوصول إلى التابعي مرسلا.

 

والمشهور التسوية بين التابعين في اسم الإرسال كما تقدم، والله أعلم.

 

الثالثة: إذا قيل في الإسناد: فلان عن رجل - أو: عن شيخ - عن فلان.

 

أو نحو ذلك، فالذي ذكره الحاكم في معرفة علوم الحديث: أنه لا يسمى مرسلا بل منقطعا. وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع المرسل، والله أعلم.

 

ثم اعلم: أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر، كما سبق بيانه في نوع الحسن. ولهذا احتج الشافعي رضي الله عنه بمرسلات سعيد بن المسيب رضي الله عنهما، فإنها وجدت مسانيد من وجوه أخر ولا يختص ذلك عنده بإرسال ابن المسيب كما سبق.

 

ومن أنكر ذلك زاعما أن الاعتماد حينئذ يقع على المسند دون المرسل، فيقع لغوا لا حاجة إليه، فجوابه: أنه بالمسند تتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال حتى يحكم له مع إرساله بأنه إسناد صحيح تقوم به الحجة على ما مهدنا سبيله في النوع الثاني. وإنما ينكر هذا من لا مذاق له في هذا الشأن.

 

وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم.

 

وفي صدر صحيح مسلم: المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة.

 

وابن عبد البر - حافظ المغرب - ممن حكى ذلك عن جماعة أصحاب الحديث.

 

والاحتجاج به مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما -رحمهم الله - في طائفة، والله أعلم.

 

ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه: مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله ﷺ ولم يسمعوه منه، لأن ذلك في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة لأن الصحابة كلهم عدول، والله أعلم. ==

النوع العاشر: معرفة المنقطع

 

وفيه وفي الفرق بينه وبين المرسل مذاهب لأهل الحديث وغيرهم.

 

فمنها ما سبق في نوع المرسل عن الحاكم صاحب كتاب معرفة أنواع علوم الحديث من أن المرسل مخصوص بالتابعي. وأن المنقطع: منه: الإسناد فيه قبل الوصول إلى التابعي راوٍ لم يسمع من الذي فوقه، والساقط بينهما غير مذكور، لا معينّا ولا مبهما.ومنه: الإسناد الذي ذكر فيه بعض رواته بلفظ مبهم، نحو: رجل أو: شيخ أو غيرهما.

 

مثال الأول: ما رويناه عن عبد الرازق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيع عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين..» الحديث. فهذا إسناد إذا تأمله الحديثي وجد صورته صورة المتصل، وهو منقطع في موضعين: لأن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري وإنما سمعه من النعمان بن أبي شيبه الجندي عن الثوري. ولم يسمعه الثوري أيضا من أبي إسحاق، إنما سمعه من شريك عن أبي إسحاق.

 

ومثال الثاني: الحديث الذي رويناه عن أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير عن رجلين عن شداد بن أوس عن رسول الله ﷺ في الدعاء في الصلاة «اللهم إني أسالك الثبات في الأمر..» الحديث. والله اعلم.

 

ومنها: ما ذكره ابن عبد البر رحمه الله، وهو: أن المرسل مخصوص بالتابعين، والمنقطع شامل له ولغيره، وهو عنده: كل ما لا يتصل إسناده سواء كان يعزى إلى النبي ﷺ أو إلى غيره.

 

ومنها أن المنقطع مثل المرسل، وكلاهما شاملان لكل ما لا يتصل إسناده، وهذا المذهب أقرب. صار إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم. وهو الذي ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في كفايته. إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال: ما رواه التابعي عن النبي ﷺ. وأكثر ما يوصف بالانقطاع: ما رواه من دون التابعين عن الصحابة، مثل مالك عن ابن عمر ونحو ذلك. والله أعلم.

 

ومنها: ما حكاه الخطيب أبو بكر عن بعض أهل العلم بالحديث: أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه موقوفا عليه، من قوله أو فعله. وهذا غريب بعيد، والله أعلم. ==

النوع الحادي عشر: معرفة المعضل

 

وهو لقب لنوع خاص من المنقطع. فكل معضل منقطع وليس كل منقطع معضلا.

 

وقوم يسمونه مرسلا كما سبق.

 

وهو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدا.

 

وأصحاب الحديث يقولون: أعضله فهو معضَل، بفتح الضاد. وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة، وبحثت فوجدت له قولهم: أمر عضيل أي مستغلق شديد. ولا التفات في ذلك إلى معضِل- بكسر الضاد - وإن كان مثل عضيل في المعنى.

 

ومثاله: ما يرويه تابعي التابعي قائلا فيه: قال: رسول الله ﷺ، وكذلك ما يرويه من دون تابعي التابعي عن رسول الله ﷺ أو عن أبي بكر وعمر وغيرهما، غير ذاكر للوسائط بينه وبينهم.

 

وذكر أبو نصر السجزي الحافظ قول الراوي بلغني نحو قول مالك بلغني عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: «للمملوك طعامه وكسوته..» الحديث وقال - أي السجزي - أصحاب الحديث يسمونه المعضل.

 

قلت: وقول المصنفين من الفقهاء وغيرهم: قال: رسول الله ﷺ كذا وكذا، ونحو ذلك، كله من قبيل المعضل لما تقدم. وسماه الخطيب أبو بكر الحافظ في بعض كلامه مرسلا وذلك على مذهب من يسمى كل مالا يتصل مرسلا، كما سبق.

 

وإذا روى تابع التابع عن التابع حديثا موقوفا عليه، وهو حديث متصل مسند إلى رسول الله ﷺ: فقد جعله الحاكم أبو عبد الله نوعا من المعضل.

 

مثاله: ما رويناه عن الأعمش عن الشعبي قال: يُقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا ؟ فيقول: ما عملته، فيختم على فيه.. الحديث. فقد أعضله الأعمش، وهو عند الشعبي: عن أنس عن رسول الله ﷺ، متصل مسند.

 

قلت: هذا جيد حسن، لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين: الصحابي ورسول الله ﷺ، فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى، والله أعلم.

تفريعات

 

أحدها: الإسناد المعنعن وهو الذي يقال فيه فلان عن فلانعده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع، حتى يتبين اتصاله بغيره.

 

والصحيح - والذي عليه العمل - أنه من قبيل الإسناد المتصل. وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم. وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه، وكاد أبو عمر بن عبد البر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك. وادعى أبو عمرو الداني - المُقرئ الحافظ - إجماع أهل النقل على ذلك.

 

وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضا مع براءتهم من وصمة التدليس. فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك. وكثُر في عصرنا وما قاربه بين المنتسبين إلى الحديث استعمال عن في الإجازة، فإذا قال أحدهم: قرأت على فلان عن فلان أو نحو ذلك، فظن به أنه رواه عنه بالإجازة. ولا يخرجه ذلك من قبيل الاتصال على مالا يخفى، والله أعلم.

 

الثاني اختلفوا في قول الراوي أنَّ فلانا قال كذا وكذا هل هو بمنزلة عن في الحمل على الاتصال إذا ثبت التلاقي بينهما حتى يتبين فيه الانقطاع.

 

مثاله: مالك عن الزهري: أن سعيد بن المسيب قال كذا.

 

فروينا عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى عن فلان و أن فلاناسواء.

 

وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أنهما ليسا سواء.

 

وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أن عن و أنَّ سواء، وأنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، يعني مع السلامة من التدليس، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا كان حديث بعضهم عن بعض - بأي لفظ ورد - محمولا على الاتصال حتى يتبين فيه الانقطاع.

 

وحكى ابن عبد البر عن أبي بكر البرديجي: أن حرف أن محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى. وقال: عندي لا معنى لهذا لإجماعهم على أنَّ الإسناد المتصل بالصحابي سواء فيه قال: قال رسول الله ﷺ أو: أن رسول الله ﷺ قال أو: عن رسول الله ﷺ أنه قال أو سمعت رسول الله ﷺ يقول، والله أعلم.

 

قلت: ووجدت مثل ما حكاه عن البرديجي أبي بكر الحافظ للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل، فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال: أتيتُ النبي ﷺ وهو يصلي فسلمت عليه فرد علي السلام. وجعله مسندا موصولا. وذكر رواية قيس بن سعد لذلك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الحنفية: أن عمارا مرَّ بالنبي ﷺ وهو يصلي.. فجعله مرسلا، من حيث كونه قال: إن عمارا فعل ولم يقل عن عمار، والله أعلم.

 

ثم إن الخطيب مثَّل هذه المسألة بحديث نافع عن ابن عمر عن عمر: أنه سأل النبي ﷺ: أينام أحدنا وهو جنب ؟. الحديث. وفي رواية أخرى: عن نافع عن ابن عمر أن عمر:قال يا رسول الله... الحديث. ثم قال: ظاهر الرواية الأولى يُوجب أن يكون من مسند عمر عن النبي ﷺ. والثانية ظاهرها يُوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن النبي ﷺ.

 

قلت: ليس هذا المثال مماثلا لما نحن بصدده لأنَّ الاعتماد فيه في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور إنما هو على اللقي والإدراك، وذلك في هذا الحديث مشترك متردد لتعلقه بالنبي ﷺ وبعمر رضي الله عنه وصحبة الراوي ابن عمر لهما، فاقتضى ذلك من جهة: كونَه رواه عن النبي ﷺ، ومن جهة أخرى: كونَه رواه عن عمر عن رسول الله ﷺ، والله اعلم.

 

الثالث: قد ذكرنا ما حكاه ابن عبد البر من تعميم الحكم بالاتصال فيما يذكره الراوي عمن لقيه بأيِّ لفظ كان. وهكذا أطلق أبو بكر الشافعي الصيرفي ذلك فقال: كل من عَلِمَ له سماع من إنسان فحدث عنه فهو على السماع حتى يعلم أنه لم يسمع منه ما حكاه. وكل من علم له لقاء إنسان فحدَّث عنه فحكمه هذا الحكم.

 

وإنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه.

 

ومن الحُجة في ذلك وفي سائر الباب: أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرواية عنه - من غير ذكر الواسطة بينه وبينه - مدلسا، والظاهر السلامة من وصمة التدليس، والكلام فيمن لم يُعرف بالتدليس.

 

ومن أمثلة ذلك: قوله قال فلان كذا وكذا مثل أن يقول نافع: قال ابن عمر. وكذلك لو قال عنه ذكر أو: فعل أو: حدَّث أو: كان يقول كذا وكذا وما جانس ذلك، فكل ذلك محمول ظاهرا على الاتصال وأنه تلقى ذلك منه من غير واسطة بينهما مهما ثبت لقاؤه له على الجملة.

 

ثم منهم من اقتصر في هذا الشرط المشترط في ذلك ونحوه على مطلق اللقاء أو السماع كما حكيناه آنفا. وقال فيه أبو عمرو المقري: إذا كان معروفا بالرواية عنه. وقال فيه أبو الحسن القابسي: إذا أدرك المنقول عنه إدراكا بيِّنا.

 

وذكر أبو المظفر السمعاني في العنعنة: أنه يشترط طول الصحبة بينهم.

 

وأنكر مسلم بن الحجاج في خطبة صحيحه على بعض أهل عصره حيث اشترط في العنعنة ثبوت اللقاء والاجتماع وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا: أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصرٍ واحدٍ وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها.

 

وفيما قاله مسلم نظر، وقد قيل: إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم: علي بن المديني والبخاري وغيرهما، والله أعلم.

 

قلت: وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ذكر فلان ونحو ذلك، فافهم كل ذلك فإنه مهم عزيز، والله أعلم.

 

الرابع: التعليق الذي يذكره أبو عبد الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وغيرُه من المغاربة في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها - وقد استعمله الدارقطني من قبل - صورته صورة الانقطاع وليس حكمه حكمه ولا خارجا ما وجد ذلك فيه منه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، وذلك لما عرف من شرطه وحكمه، على ما نبهنا عليه في الفائدة السادسة من النوع الأول.

 

ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر - أو: أبي مالك -الأشعري عن رسول الله ﷺ: «ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف..» الحديث. من جهة أن البخاري أورده قائلا فيه: قال هشام بن عمار.. وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح.

 

والبخاري رحمه الله قد يفعل ذلك لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثِّقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه. وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع، والله أعلم.

 

وما ذكرناه من الحكم في التعليق المذكور فذلك فيما أورده منه أصلا ومقصودا لا فيما أوردهُ في معرض الاستشهاد، فإن الشواهد يحتمل فيها ما ليس من شرط الصحيح معلقا كان أو موصولا.

 

ثم إن لفظ التعليق وجدته مستعملا فيما حُذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر. حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد.

 

مثال ذلك: قوله: قال: رسول الله ﷺ كذا وكذا. قال ابن عباس كذا وكذا. روى أبو هريرة كذا وكذا. قال سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة كذا وكذا. قال الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ كذا وكذا. وهكذا إلى شيوخ شيوخه.

 

وأما ما أورده كذلك عن شيوخه فهو من قبيل ما ذكرناه قريبا في الثالث من هذه التفريعات.

 

وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسما من التعليق ثانيا وأضاف إليه قول البخاري في غير موضع من كتابه وقال لي فلان وزادنا فلان فوسم ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث المعنى، وقال: متى رأيت البخاري يقول وقال لي وقال لنا فاعلم أنه إسناد لم يذكره للاحتجاج به وإنما ذكره للاستشهاد به. وكثيرا ما يُعِّبر المحِدثُون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قلَّما يحتجون بها.

 

قلت: وما ادعاه على البخاري مخالف لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاري، وهو العبد الصالح أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، فقد روينا عنه أنه قال: كل ما قال البخاري قال لي فلان فهو عرض ومناولة.

 

قلت: ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره، ولا في مثل قوله يروى عن فلان، ويذكر عن فلان وما أشبهه مما ليس فيه جزم على من ذكر ذلك بأنه قاله وذكره. وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار، وتعليق الطلاق ونحوه، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال، والله أعلم.

 

الخامس: الحديث الذي رواه بعض الثِّقات مرسلا وبعضهم متصلا: اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل.

 

مثاله: حديث «لا نكاح إلا بولي» رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه، أبي موسى الأشعري، عن رسول الله ﷺ مسندا هكذا متصلا.

 

ورواه سفيان الثوري، وشعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي ﷺ مرسلا هكذا.

 

فحكى الخطيب الحافظ: أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل.

 

وعن بعضهم: أن الحكم للأكثر.

 

وعن بعضهم: أن الحكم للأحفظ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته.

 

ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا، فيقبل خبره وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة.

 

قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح.

 

قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله. وسُئل البخاري عن حديث: «لا نكاح إلا بولي» المذكور، فحكم لمن وصله، وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، فقال البخاري: هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان، وهما جبلان، لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية.

 

ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصلهُ هو الذي أرسله، وصله في وقت وأرسله في وقت. وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي ﷺ ووقفه بعضهم على الصحابي. أو رفعه واحدٍ في وقتٍ ووقفهُ هو أيضا في وقتٍ آخر. فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه، لأنه علم ما خفي عليه. ولهذا الفصل تعلق بفصل زيادة الثقة في الحديث وسيأتي إن شاء الله تعالى، وهو أعلم ==

النوع الثاني عشر: معرفة التدليس وحكم المدلس

 

التدليس قسمان:

 

أحدهما: تدليس الإسناد، وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه موهما أنه سمعه منه. أو: عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه. ثم قد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر.

 

ومن شأنه أن لا يقول في ذلك أخبرنا فلان ولا حدثنا وما أشبههما. وإنما يقول قال فلان، أو: عن فلان ونحو ذلك.

 

مثال ذلك: ما روينا عن علي بن خشرم قال: كنا عند بن عيينة، فقال: قال الزهري، فقيل له: حدثكم الزهري ؟ فسكت، ثم قال: قال الزهري، فقيل له: سمعته من الزهري ؟ فقال: لا، لم أسمعه من الزهري، ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري.

 

القسم الثاني: تدليس الشيوخ، وهو: أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه، أو يكنِّيه، أو ينسبهُ، أو يصفهُ بما لا يَعرف به، كي لا يُعرف.

 

مثاله: ما روي لنا عن أبي بكر بن مجاهد، الإمام المقري: أنه روى عن أبي بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني فقال: حدَّثنا عبد الله بن أبي عبد الله. وروى عن أبي بكر محمد بن الحسن النقَّاش المفسر المقري، فقال: حدثنا محمد بن سند، نسبه إلى جدٍ له، والله أعلم.

 

أما القسم الأول: فمكروه جدا، ذمَّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذما له. فروينا عن الشافعي الإمام رضي الله عنه أنه قال: التدليس أخو الكذب. وروينا عنه أنه قال: لأن أزني أَحبُ إليِّ من أن أُدلَّس. وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير.

 

ثم اختلفوا في قبول رواية من عرف بهذا التدليس: فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحا بذلك، وقالوا: لا تُقبل روايته بحال، بَّين السماع أو لم يبِّين.

 

والصحيح التفصيل: وأن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبِّين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه. وما رواه بلفظ مبين للاتصال، نحو سمعت، وحدثنا، وأخبرنا وأشباهها فهو مقبول مُحتج به.

 

وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جدا: كقتادة، والأعمش، والسفيانين، وهشام بن بشير، وغيرهم.

 

وهذا لأن التدليس ليس كذبا، وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل.

 

والحكم بأنه لا يقبل من المدلس حتى يبِّين قد أجراه الشافعي رضي الله عنه فيمن عرفناه دلَّس مرة، والله أعلم.

 

وأما القسم الثاني: فأمره أخف، وفيه تضييع للمروي عنه، وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله وأهليته.

 

ويختلف الحال في كراهة ذلك بحسب الغرض الحامل عليه، فقد يحمله على ذلك كون شيخه الذي غَّير سمته غير ثقة، أو كونه متأخر الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعة دونه، أو كونه أصغر سنا من الراوي عنه، أو كونه كثير الرواية عنه فلا يحب الإكثار من ذكر شخصٍ واحدٍ على صورةٍ واحدةٍ.

 

وتسمح بذلك جماعة من الرواة المصنفين، منهم الخطيب أبو بكر، فقد كان لهَجِا به في تصانيفه، والله أعلم. ==

النوع الثالث عشر: معرفة الشاذ

 

روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال الشافعي رحمه الله: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس.

 

وحكى الحافظ أبو يَعلى الخليلي القزويني نحو هذا عن الشافعي وجماعة من أهل الحجاز. ثم قال: الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة. فما كان، عن غير ثقة فمتروك لا يُقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحُتج به.

 

وذكرالحاكم أبو عبد الله الحافظ: أن الشاذ هو الحديث الذي يتَّفرد به ثقة من الثقات، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة. وذكر أنه يغاير المعلَّل من حيث أن المعلِّل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علته كذلك.

 

قلت: أما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذ غير مقبول.

 

وأما ما حكيناه عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط، كحديث: «إنما الأعمال بالنيات» فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ. ثم تَّفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد، على ما هو الصحيح عند أهل الحديث.

 

وأوضح من ذلك في ذلك: حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن النبي ﷺ نهى عن بيع الولاء وهبته. تَّفرد به عبد الله بن دينار.

 

وحديث مالك، عن الزهري، عن أنس: أن النبي ﷺ دخل مكة وعلى رأسه مغفر. تَّفرد به مالك عن الزهري.

 

فكل هذه مخرجة في الصحيحين، مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد تَّفرد به ثقة. وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة. وقد قال مسلم بن الحجاج: للزهري نحو تسعين حرفا، يرويه عن النبي ﷺ، لا يشاركه فيها أحد، بأسانيد جياد. والله أعلم.

 

فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم، بل الأمر في ذلك على تفصيل نبيه فنقول:

 

إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه: فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فينظر في هذا الراوي المُنفرد: فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه، كما فيما سبق من الأمثلة.وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارما له، مزحزحا له عن حيز الصحيح.

 

ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال: فيه فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تَّفرده استحسنَّا حديثه ذلك، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف. وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر.

 

فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان: أحدهما: الحديث الفرد المخالف. والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف، والله أعلم. ==

النوع الرابع عشر: معرفة المنكر من الحديث

 

بلغنا عن أبي بكر أحمد بن هارون الَبرديجي الحافظ: أنه الحديث الذي ينفرد به الرجل، ولا يعرف متنه من غير روايته، لا من الوجه الذي رواه منه ولا من وجه آخر. فأطلق البرديجي ذلك ولم يفصل.

 

و إطلاق الحكم على الَّتفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث، والصواب فيه التفصيل الذي بيناه آنفا في شرح الشاذ.

 

وعند هذا نقول: المنكر ينقسم قسمين، على ما ذكرناه في الشاذ، فإنه بمعناه.

 

مثال الأول، وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات: رواية مالك، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمر بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله ﷺ قال: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».

 

فخالف مالك غيره من الثقات في قوله: عمر بن عثمان، بضم العين.وذكر مسلم صاحب الصحيح في كتاب التمييز أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال فيه: عمرو بن عثمان يعني، بفتح العين، وذكر أن مالكا كان يشير بيده إلى دار عمر بن عثمان، كأنه علم أنهم يخالفونه، وعمرو وعمر جميعا ولد عثمان، غير أن هذا الحديث إنما هو عن عمرو، بفتح العين، وحكم مسلم و غيره على مالك بالوهم فيه، والله أعلم.

 

ومثال الثاني، وهو الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده: مارويناه من حديث أبي زكير يحيى بن محمد بن قيس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله ﷺ قال: «كلوا البلح بالتمر، فإنَّ الشيطان إذا رأى ذلك غاظه، ويقول عاش بن آدم حتى أكل الجديد بالخلق». تَّفرد به أبو زكير، وهو شيخ صالح، أخرج عنه مسلم في كتابه، غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحتمل تفرده، والله أعلم. ==

النوع الخامس عشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد

 

هذه أمور يتداولونها في نظرهم في حال الحديث، هل تَّفرد به راويهِ أو لا ؟ وهل هو معروف أو لا ؟

 

ذكر أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الحافظ رحمه الله: إن طريق الاعتبار في الأخبار مثاله: أن يروي حماد بن سلمة حديثا لم يتابع عليه، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ.

 

فينظر: هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين ؟ فإن وجد علم أن للخبر أصلا يرجع إليه، وإن لم يوجد ذلك: فثقة غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة. وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي ﷺ، فأي ذلك وجد يعلم به أن للحديث أصلا يرجع إليه، وإلا فلا.

 

قلت: فمثال المتابعة أن يروي ذلك الحديث بعينه عن أيوب غير حماد، فهذه المتابعة التامة، فإن لم يروه أحد غيره عن أيوب لكن رواه بعضهم عن ابن سيرين أو عن أبي هريرة، أو رواه غير أبي هريرة عن رسول الله ﷺ، فذلك قد يطلق عليه اسم المتابعة أيضا، لكن يقصر عن المتابعة الأولى بحسب بعدها منها، ويجوز أن يسمى ذلك بالشاهد أيضا.

 

فإن لم يرو ذلك الحديث أصلا من وجه من الوجوه المذكورة، لكن روي حديث آخر بمعناه فذلك الشاهد من غير متابعة، فإن لم يرو أيضا، بمعناه حديث آخر فقد تحقق فيه الَّتفرد المطلق حينئذ. وينقسم عند ذلك إلى مردود منكر وغير مردود، كما سبق.

 

وإذا قالوا في مثل هذا: تَّفرد به أبو هريرة، وتَّفرد به عن أبي هريرة ابن سيرين، وتَّفرد به عن ابن سيرين أيوب، وتَّفرد به عن أيوب حماد بن سلمة، كان في ذلك إشعارا بانتفاء وجوه المتابعات فيه.

 

ثم اعلم: أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودا في الضعفاء. وفي كتاب البخاري و مسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء فلان يُعتبر به وفلان لا يُعتبر به وقد تقدم التنبيه على نحو ذلك، والله أعلم.

 

مثال للمتابع والشاهد: روينا من حديث سفيان وابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال: «لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به» ورواه بن جريج، عن عمرو، عن عطاء، ولم يذكر فيه الدباغ.

 

فذكر الحافظ أحمد البيهقي لحديث ابن عيينة متابعا وشاهدا:

 

أما المتابع: فإن أسامة بن زيد تابعه عن عطاء.وروى بإسناده، عن أسامة، عن عطاء عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ قال: «ألا نزعتم جلدها فدبغتموه، فاستمتعم به».

 

وأما الشاهد: فحديث عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: «أيما إِهاب دُبغ فقد طُهر».والله أعلم. ==

النوع السادس عشر: معرفة زيادات الثقات وحكمها

 

وذلك فن لطيف تستحسن العناية به.وقد كان أبو بكر بن زياد النيسابوري وأبونعيم الجرجاني وأبو الوليد القرشي الأئمة مذكورين بمعرفة زيادات الألفاظ الفقهية في الأحاديث.

 

ومذهب الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث فيما حكاه الخطيب أبو بكر: أن الزيادة من الثقة مقبولة إذا تفرد بها، سواء كان ذلك من شخصٍ واحدٍ بأن رواه ناقصا مرة ورواه مرة أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصا.

 

خلافا لمن رد من أهل الحديث ذلك مطلقا، وخلافا لمن رد الزيادة منه وقبلها من غيره. وقد قدَّمنا عنه حكايتهُ عن أكثر أهل الحديث فيما إذا وصل الحديث قوم وأرسله قوم: أن الحكم لمن أرسله، مع أن وصله زيادة من الثقة.

 

وقد رأيت تقسيم ما ينفرد به الثقة إلى ثلاثة أقسام:

 

أحدها: أن يقع مخالفا منافيا لما رواه سائر الثقات، فهذا حكمه الرد كما سبق في نوع الشاذ.

 

الثاني: أن لا تكون فيه منافاة ومخالفة أصلا لما رواه غيره. كالحديث الذي تَّفرد برواية جملته ثقة، ولا تَّعرض فيه لما رواه الغير بمخالفة أصلا، فهذا مقبول. وقد ادعى الخطيب فيه اتفاق العلماء عليه، وسبق مثاله في نوع الشاذ.

 

الثالث: ما يقع بين هاتين المرتبتين، مثل زيادة لفظه في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث.

 

مثاله: ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ فرض زكاة الفطر من رمضان، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين.

 

فذكر أبو عيسى الترمذي: أن مالكا تفرد من بين الثقات بزيادة قوله: من المسلمين.

 

وروى عبيد الله بن عمر، وأيوب، وغيرهما هذا الحديث: عن نافع عن ابن عمر دون هذه الزيادة، فأخذ بها غير واحد من الأئمة واحتجوا بها، منهم الشافعي و أحمد، رضي الله عنهم، والله أعلم.

 

ومن أمثلة ذلك حديث: «جُعلت لنا الأرض مسجدا، وجُعلت تربتها لنا طهورا». فهذه الزيادة تفرد بها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي، وسائر الروايات لفظها: «وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا».

 

فهذا وما أشبهه يشبه القسم الأول من حيث: إن ما رواه الجماعة عام، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص، وفي ذلك مغايرة في الصفة ونوع من المخالفة يختلف به الحكم.

 

ويشبه أيضا القسم الثاني من حيث: إنه لا منافاة بينهما.

 

وأما زيادة الوصل مع الإرسال: فإن بين الوصل والإرسال من المخالفة نحو ما ذكرناه، ويزداد ذلك بأن الإرسال نوع قدح في الحديث، فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل. ويجاب عنه: بأن الجرح قدم لما فيه من زيادة العلم، والزيادة ههنا مع من وصل، والله أعلم.

 

==

النوع السابع عشر: معرفة الأفراد

 

وقد سبق بيان المهم من هذا النوع في الأنواع التي تليه قبله، لكن أفردته بترجمة كما أفرده الحاكم أبو عبد الله. ولما بقي منه فنقول:

 

الأفراد منقسمة إلى ما هو فرد مطلقا، وإلى ما هو فرد بالنسبة إلى جهة خاصة.

 

أما الأول فهو ما ينفرد به واحد عن كل أحد، وقد سبقت أقسامه وأحكامه قريبا.

 

وأما الثاني: وهو ما هو فرد بالنسبة، فمثل ما ينفرد به ثقة عن كل ثقة.وحكمه قريب من حكم القسم الأول.

 

ومثل ما يقال فيه: هذا حديث تفرد به أهل مكة، أو: تفرد به أهل الشام، أو: أهل الكوفة، أو: أهل خراسان، عن غيرهم. أو: لم يروه عن فلان غير فلان، وإن كان مرويا من وجوه عن غير فلان، أو: تفرد به البصريون عن المدنيين، أو: الخراسانيون عن المكيين، وما أشبه ذلك، ولسنا نطول بأمثلة ذلك فإنه مفهوم دونها. وليس في شيء من هذا ما يقتضي الحكم بضعف الحديث، إلا أن يطلق قائل قوله: تفرد به أهل مكة، أو: تفرد به البصريون عن المدنيين، أو: نحو ذلك، على ما لم يروه إلا واحد من أهل مكة، أو واحد من البصريين ونحوه، ويضيفه إليهم كما يضاف فعل الواحد من القبيلة إليها مجازا. وقد فعل الحاكم أبو عبد الله هذا فيما نحن فيه، فيكون الحكم فيه على ما سبق في القسم الأول، والله أعلم. =

النوع الثامن عشر: معرفة الحديث المعلل

 

ويسميه أهل الحديث المعلول وذلك منهم - ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس: العلة والمعلول - مرذول عند أهل العربية واللغة.

 

اعلم: أن معرفة علل الحديث من أجل علوم الحديث وأدقها وأشرفها، وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، وهي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه.

 

فالحديث المعلل هو: الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهرة السلامة منها.

 

ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر.

 

ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به، أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع ممن الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه.

 

وكثيرا ما يعللون الموصول بالمرسل، مثل: أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء أيضا بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول، ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه.

 

قال الخطيب أبو بكر: السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط.

 

وروى عن علي بن المديني قال: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطأه.

 

ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث، وهو الأكثر، وقد تقع في متنه.

 

ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعا، كما في التعليل بالإرسال والوقف. وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن.

 

فمن أمثلة ما وقعت العلة في إسناده من غير قدح في المتن: ما رواه الثقة يَعلى بن عبيد عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: «البيعان بالخيار»..» الحديث. فهذا إسناد متصل بنقل العدل عن العدل، وهو معلل غير صحيح، والمتن على كل حال صحيح، والعلة في قوله: عن عمرو بن دينار، إنما هو عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه. فوهم يَعلى بن عبيد، وعدل عن عبد الله بن دينار إلى عمرو بن دينار، وكلاهما ثقة.

 

ومثال العلة في المتن: ما انفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس، من اللفظ المصرح بنفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه: فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، من غير تعرض لذكر البسملة، وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في الصحيح، و رأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له. ففهم من قوله: كانوا يستفتحون بالحمد لله، أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ، لأن معناه أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس فيه تعرض لذكر التسمية.

 

وانضم إلى ذلك أمور، منها: أنه ثبت عن أنس: أنه سُئل عن الافتتاح بالتسمية، فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئا عن رسول الله ﷺ، والله أعلم.

 

ثم اعلم: أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث، المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به، على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل. ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح. وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث.

 

ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف، نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط، حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول، كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ، والله أعلم. ==

النوع التاسع عشر: معرفة المضطرب من الحديث

 

المضطرب من الحديث: هو الذي تختلف الرواية فيه، فيرويه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجه آخر مخالف له.

 

وإنما نسميه مضطربا إذا تساوت الروايتان، أما إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى: بأن يكون راويها أحفظ، أو أكثر صحبة للمروي عنه، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات المعتمدة، فالحكم للراجحة، ولا يطلق عليه حينئذ وصف المضطرب، ولا له حكمه.

 

ثم قد يقع الاضطراب في متن الحديث، وقد يقع في الإسناد، وقد يقع ذلك من راوٍ واحدٍ، وقد يقع بين رواة له جماعة.

 

والاضطراب موجب ضعف الحديث، لإشعاره بأنه لم يضبط، والله أعلم.

 

ومن أمثلته: ما رويناه عن إسماعيل بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده حريث، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ في المصلي: «إذا لم يجد عصا ينصبها بين يديه فليخط خطا».

 

فرواه بشر بن المفضل وروح بن القاسم عن إسماعيل هكذا. ورواه سفيان الثوري عنه، عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه، عن أبي هريرة. ورواه حميد بن الأسود، عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث بن سليم، عن أبيه، عن أبي هريرة. ورواه وهيب وعبد الوارث، عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن جده حريث. وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج: سمع إسماعيل، عن حريث بن عمار، عن أبي هريرة.

 

وفيه من الاضطراب أكثر مما ذكرناه، والله أعلم. ==

النوع العشرون: معرفة المدرج في الحديث

 

وهو أقسام:

 

منها: ما أدرج في حديث رسول الله ﷺ من كلام بعض رواته، بأن يذكر الصحابي - أو: من بعده - عقيب ما يرويه من الحديث كلاما من عند نفسه، فيرويه مَن بعده موصولا بالحديث، غير فاصل بينهما بذكر قائله، فيلتبس الأمر فيه على من لا يعلم حقيقة الحال، ويتوهم أن الجميع عن رسول الله ﷺ.

 

ومن أمثلته المشهورة: ما رويناه في التشهد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن الحسن بن الحر، عن القاسم بن مخيمرة، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله ﷺ علمه التشهد في الصلاة فقال: «قل: التحيات لله..» فذكر التشهد، وفي آخره: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» هكذا رواه أبو خيثمة عن الحسن بن الحر، فأدرج في الحديث قوله: فإذا قلت هذا إلى آخره، وإنما هذا من كلام ابن مسعود، لا من كلام رسول الله ﷺ.

 

ومن الدليل عليه: أن الثقة الزاهد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان رواه عن رواية الحسن بن الحر كذلك. واتفق حسين الجعفي وابن عجلان وغيرهما في روايتهم عن الحسن بن الحر على ترك ذكر هذا الكلام في آخر الحديث. مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره، عن ابن مسعود على ذلك، ورواه شبابة عن أبي خيثمة ففصله أيضا.

 

ومن أقسام المدرج: أن يكون متن الحديث عند الراوي له بإسناد، إلا طرفا منه، فإنه عنده بإسناد ثان، فيدرجه من رواه عنه على الإسناد الأول، ويحذف الإسناد الثاني، ويروي جميعه بالإسناد الأول.

 

مثاله: حديث بن عيينة وزائدة بن قدامة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر: في صفة صلاة رسول الله ﷺ، وفي آخره: أنه جاء في الشتاء، فرآهم يرفعون أيديهم من تحت الثياب. والصواب: رواية من روى عن عاصم بن كليب بهذا الإسناد صفة الصلاة خاصة، وفصل ذكر رفع الأيدي عنه، فرواه عن عاصم، عن عبد الجبار بن وائل، عن بعض أهله، عن وائل بن حجر.

 

ومنها: أن يدرج في متن حديث بعض متن حديث آخر، مخالف للأول في الإسناد.

 

مثاله: رواية سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنس: أن رسول الله ﷺ قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا..» الحديث. فقوله: لا تنافسوا أدرجه ابن أبي مريم من متن حديث آخر، رواه مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، فيه: «لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا،». والله أعلم.

 

ومنها أن يروي الراوي حديثا عن جماعة، بينهم اختلاف في إسناده، فلا يذكر الاختلاف، بل تدرج روايتهم على الاتفاق.

 

مثاله: رواية عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن كثير العبدي، عن الثوري، عن منصور والأعمش وواصل الأحدب، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم.. الحديث. وواصل إنما رواه عن أبي وائل عن عبد الله، من غير ذكر عمرو بن شرحبيل بينهما، والله أعلم.

 

واعلم: أنه لا يجوز تعمد شيء من الإدراج المذكور. وهذا النوع قد صنف فيه الخطيب أبو بكر كتابه الموسوم ب الفصل للوصل المدرج في النقل فشفى وكفى، والله أعلم. ==

النوع الحادي والعشرون: معرفة الموضوع

 

وهو المختلق المصنوع.

 

اعلم: أن الحديث الموضوع شر الأحاديث الضعيفة، ولا تحل روايته لأحد علم حاله في أي معنى كان، إلا مقرونا ببيان وضعه. بخلاف غيره من الأحاديث الضعيفة التي يحتمل صدقها في الباطن، حيث جاز روايتها في الترغيب والترهيب، على ما نبينه قريبا إن شاء الله تعالى.

 

وإنما يعرف كون الحديث موضوعا بإقرار واضعه، أو ما يتنزل منزلة إقراره. وقد يفهمون الوضع من قرينة حال الراوي أو المروي، فقد وضعت أحاديث طويلة يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها.

 

ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلدين، فأودع فيها كثيرا مما لا دليل على وضعه، وإنما حقه أن يذكر في مطلق الأحاديث الضعيفة.

 

والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررا قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابا فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونا إليهم. ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها، والحمد لله.

 

وفيما روينا عن الإمام أبي بكر السمعاني: أن بعض الكرامية ذهب إلى جواز وضع الحديث في باب الترغيب والترهيب.

 

ثم إن الواضع: ربما صنع كلاما من عند نفسه فرواه، وربما أخذ كلاما لبعض الحكماء أو غيرهم، فوضعه على رسول الله ﷺ.

 

وربما غلط غالط، فوقع في شبه الوضع من غير تعمد، كما وقع لثابت بن موسى الزاهد في حديث: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.

 

مثال: روينا عن أبي عصمة - وهو نوح بن أبي مريم -أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة.

 

وهكذا حال الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب، عن النبي ﷺ في فضل القرآن سورة فسورة. بحث باحث عن مخرجه، حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر الوضع لبِّين عليه. ولقد أخطأ الواحدي المفسر، ومن ذكره من المفسرين، في إيداعه تفاسيرهم، والله أعلم. ==

النوع الثاني والعشرون: معرفة المقلوب

 

هو نحو حديث مشهور عن سالم جعل عن نافع، ليصير بذلك غريبا مرغوبا فيه.

 

وكذلك: ما روينا أن البخاري رضي الله عنه قدم بغداد فاجتمع قبل مجلسه قوم من أصحاب الحديث، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ثم حضروا مجلسه وألقوها عليه، فلما فرغوا من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة التفت إليهم، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، فأذعنوا له بالفضل.

 

ومن أمثلته، ويصلح مثالا للمعلل: ما رويناه عن إسحاق بن عيسى الطباع قال: حدثنا جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني».

 

قال إسحاق بن عيسى: فأتيت حماد بن زيد، فسألته عن الحديث، فقال: وهم أبو النضر، إنما كنا جميعا في مجلس ثابت البناني وحجاج بن أبي عثمان معنا، فحدثنا حجاج الصواب: عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني». فظن أبو النضر أنه فيما حدثنا ثابت عن أنس.

 

أبو النضر هو جرير بن حازم، والله اعلم.

 

فصل قد وفينا بما سبق الوعد بشرحه من الأنواع الضعيفة والحمد لله، فلننبه الآن على أمور مهمة: أحدها: إذا رأيت حديثا بإسناد ضعيف، فلك أن تقول هذا ضعيف وتعني أنه بذلك الإسناد ضعيف. وليس لك أن تقول هذا ضعيف، وتعني به ضعف متن الحديث، بناء على مجرد ضعف ذلك الإسناد، فقد يكون مرويا بإسناد آخر صحيح يثبت بمثله الحديث. بل يتوقف جواز ذلك على حكم إمام من أئمة الحديث بأنه لم يروَ بإسناد يثبت به، أو بأنه حديث ضعيف، أو نحو، هذا مفسرا وجه القدح فيه. فإن أطلق ولم يفسر، ففيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى، فاعلم ذلك فإنه مما يغلط فيه، والله اعلم.

 

الثاني: يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد، ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة، من غير اهتمام ببيان ضعفها، فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما. وذلك كالمواعظ، والقصص، وفضائل الأعمال، وسائر فنون الترغيب والترهيب، وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد، وممن روينا عنه التنصيص على التساهل في نحو ذلك: عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، رضي الله عنهما.

 

الثالث: إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسناد فلا تقل فيه: قال رسول الله ﷺ كذا وكذا، وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة بأنه ﷺ قال ذلك. وإنما تقول فيه: روي عن رسول الله ﷺ كذا وكذا، أو: بلغنا عنه كذا وكذا، أو ورد عنه، أو: جاء عنه، أو: روى بعضهم، وما أشبه ذلك. وهكذا الحكم فيما تشك في صحته وضعفه، وإنما تقول: قال رسول الله ﷺ فيما ظهر لك صحته بطريقه الذي أوضحناه أولا، والله اعلم. ==

 

**

النوع الثالث والعشرون: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته، وما يتعلق بذلك من قدح وجرح وتوثيق وتعديل

 

أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على: أنه يشترط فيمن يحتج بروايته: أن يكون عدلا، ضابطا لما يرويه. وتفصيله: أن يكون مسلما، بالغا، عاقلا، سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل، حافظا إن حدَّث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدَّث من كتابه.

 

وإن كان يحدث بالمعنى: اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني، والله أعلم.

 

ونوضح هذه الجملة بمسائل:

 

إحداها: عدالة الراوي: تارة تثبت بتنصيص معدِّلين على عدالته، وتارة تثبت بالاستفاضة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة، استغني فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصا، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، رضي الله عنه، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه.

 

وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ، ومثل ذلك بمالك، وشعبة، والسفيانين، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، ووكيع، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومن جري مجراهم في نباهة الذكر و استقامة الأمر، فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم، وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين.

 

وتوسَّع ابن عبد البر الحافظ في هذا فقال: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل، محمول في أمره أبدا على العدالة، حتى يتبين جرحه. لقوله ﷺ: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله». وفيما قاله اتساع غير مرضي، والله اعلم.

 

الثانية: يعرف كون الراوي ضابطا بأن نعتبر روايته بروايات الثقاة المعروفين بالضبط والإتقان. فإن وجدنا رواياته موافقة - ولو من حيث المعنى- لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبْتا. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم، عرفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله أعلم.

 

الثالثة: التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور، لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه، وذلك شاق جدا.

 

وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا مبين السبب، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بدَّ من بيان سببه، لينظر فيما هو جرح أم لا.

 

وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله. وذكر الخطيب الحافظ: أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل: البخاري، ومسلم، وغيرهما.

 

ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم، كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وكإسماعيل بن أبي أويس، وعاصم بن علي، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم. واحتج مسلم بسويد بن سعيد، وجماعة اشتهر الطعن فيهم. وهكذا فعل أبو داود السجستاني. وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة.

 

وعقد الخطيب بابا في بعض أخبار من استفسر في جرحه، فذكر ما لا يصلح جارحا.

 

منها عن شعبة أنه قيل له: لمَ تركت حديث فلان ؟ فقال: رأيته يركض علي برذون، فتركت حديثه.

 

ومنها: عن مسلم بن إبراهيم أنه سُئل عن حديث الصالح المري، فقال: ما يصنع بصالح ؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة فامتخط حماد، والله أعلم.

 

قلت: ولقائل أن يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل. وقلَّ ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم: فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك. أو: هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت، ونحو ذلك. فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر.

 

وجوابه: أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به، فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية، يوجب مثلها التوقف.

 

ثم من انزاحت عنه الريبة منهم، ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما، ممن مسَّهم مثل هذا الجرح من غيرهم. فافهم ذلك، فإنه مخلص حسن، والله أعلم.

 

الرابعة: اختلفوا في أنه: هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد، أو: لا بدَّ من اثنين. فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلاّ باثنين، كما في الجرح والتعديل في الشهادات. ومنهم من قال- وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره - أنه يثبت بواحد، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات، والله أعلم.

 

الخامسة: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل: فالجرح مقدم، لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل. فإن كان عدد المعدلين أكثر: فقد قيل: التعديل أولى. والصحيح - والذي عليه الجمهور - أن الجرح أولى، لما ذكرناه، والله أعلم.

 

السادسة: لا يجزي التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل، فإذا قال: حدثني الثقة، أو نحو ذلك، مقتصرا عليه، لم يكتفَ به، فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما. خلافا لمن اكتفى بذلك. وذلك: لأنه قد يكون ثقة عنده، وغيره قد اطّلع على جرحه بما هو جارح عنده، أو بالإجماع، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف. بل إضرابه عن تسميته مريب، يوقع في القلوب فيه ترددا. فإن كان القائل لذلك عالما أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه، على ما اختاره بعض المحققين.

 

وذكر الخطيب الحافظ: أن العالم إذا قال: كل من رويت عنه فهو ثقة وإن لم أُسمه. ثم روى عن من يكون مزكيا له، غير إنا لا نعمل بتزكيته هذه، وهذا على ما قدمناه، والله أعلم.

 

السابعة: إذا روى العدل عن رجل وسماه لم تجعل روايته عنه تعديلا منه له، عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم.

 

وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي: يجعل ذلك تعديلا منه له، لأن ذلك يتضمن التعديل.

 

والصحيح هو الأول، لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل فلم يتضمن روايته عنه تعديله. وهكذا نقول: إن عمل العالم، أو فتياه على وفق حديث، ليس حكما منه بصحة ذلك الحديث. وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحا منه في صحته ولا راويه، والله أعلم.

 

الثامنة: في رواية المجهول، وهو في غرضنا ههنا أقسام:

 

أحدها: المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعا. وروايته غير مقبولة عند الجماهير، على ما نبهنا عليه أولا.

 

الثاني: المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة، وهو عدل في الظاهر، وهو المستور فقد قال بعض أئمتنا: المستور من يكون عدلا في الظاهر، ولا تعرف عدالة باطنه. فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من ردَّ رواية الأول، وهو قول بعض الشافعيين وبه قطع، منهم الإمام سليم بن أيوب الرازي. قال: لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن بالراوي. ولأن رواية الأخبار تكون عند من يعتذر عليه معرفة العدالة في الباطن، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر. وتفارق الشهادة، فإنها تكون عند الحكام، ولا يتعذر عليهم ذلك، فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن.

 

قلت: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم، والله أعلم.

 

الثالث: المجهول العين، وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين، ومن روى عنه عدلان وعيَّناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة.

 

ذكر أبو بكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسائل سئل عنها: أن المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفه العلماء، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد. مثل: عمرو ذي مر، وجبار الطائي، وسعيد بن ذي حدان، لم يروِ عنهم غير أبي إسحاق السبيعي. ومثل الهزهاز بن ميزن، لا راوي عنه غير الشعبي. ومثل جري بن كليب، لم يروِ عنه إلا قتادة.

 

قلت: قد روي عن الهزهاز الثوري أيضا.

 

قال الخطيب: وأقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه. وهذا مما قدمنا بيانه، والله أعلم.

 

قلت: قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راو واحد، منهم مرداس الأسلمي، لم يرو عنه قيس بن أبي حازم. وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد منهم ربيعة بن كعب الأسلمي، لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن. وذلك منهما مصّير إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولا مردودا برواية واحد عنه. والخلاف في ذلك متجه نحو اتجاه الخلاف المعروف في الاكتفاء بواحد في التعديل، على ما قدمناه، والله أعلم.

 

التاسعة: اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته:

 

فمنهم من رد روايته مطلقا، لأنه فاسق ببدعته. وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول.

 

ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن. وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي، لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم.

 

وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية، ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء.

 

وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه خلافا بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدعُ إلى بدعته، وقال: أما إذا كان داعية، فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته.

 

وقال أبو حاتم بن حبان البستي، أحد المصنفين من أئمة الحديث: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافا.

 

وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها، والأول بعيد مُباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة.

 

وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول، والله أعلم.

 

العاشرة: التائب من الكذب في حديث الناس، وغيره من أسباب الفسق، تقبل روايته، إلا التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله ﷺ، فإنه لا تقبل روايته أبدا، وإن حسنت توبته، على ما ذُكر عن غير واحد من أهل العلم.

 

منهم: أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري.

 

وأطلق الإمام أبو بكر الصيرفي الشافعي فيما وجدت له في شرحه لرسالة الشافعي، فقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه، لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك.

 

وذكر أن ذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة، وذكر الإمام أبو المظفر السمعاني المروزي أن من ذكر في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه، وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي. والله أعلم.

 

الحادية عشرة: إذا روى ثقة عن ثقة حديثا وروجع المروي عنه فنفاه:

 

فالمختار أنه إن كان جازما بنفيه بأن قال ما رويته، أو كذب علي، أو نحو ذلك، فقد تعارض الجزمان، والجاحد هو الأصل، فوجب رد حديث فرعه ذلك، ثم لا يكون ذلك جرحا له يوجب رد باقي حديثه، لأنه مكذب لشيخه أيضا في ذلك، وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه، فتساقطا.

 

أما إذا قال المروي عنه: لا أعرفه، أو لا أذكره، أو نحو ذلك، فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه، ومن روى حديثا ثم نسيه: لم يكن ذلك مسقطا للعمل به عند جمهور أهل الحديث، وجمهور الفقهاء، والمتكلمين.

 

خلافا لقوم من أصحاب أبي حنيفة، صاروا إلى إسقاطه بذلك. وبنوا عليه ردَّهم: حديث سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله ﷺ: «إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها، فنكاحها باطل...» الحديث. من أجل أن ابن جريج قال: لقيت الزهري، فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه.

 

وكذا حديث ربيعة الرأي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ: قضى بشاهد ويمين، فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: لقيت سهيلا، فسألته عنه، فلم يعرفه.

 

والصحيح ما عليه الجمهور، لأن المروي عنه بصدد السهو والنسيان، والراوي عنه ثقة جازم، فلا يرد بالاحتمال روايته. ولهذا كان سهيل بعد ذلك يقول حدثني ربيعة عني، عن أبي... ويسوق الحديث.

 

وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعد ما حدثوا بها، عمن سمعها منهم، فكان أحدهم يقول: حدثني فلان، عني، عن فلان، بكذا وكذا.

 

وجمع الحافظ الخطيب ذلك في كتاب أخبار من حدث ونسي.

 

ولأجل أن الإنسان معرَّض للنسيان، كره من كره من العلماء الرواية عن الأحياء، منهم الشافعي رضي الله عنه، قال لابن عبد الحكم: إياك والرواية عن الأحياء، والله أعلم.

 

الثانية عشر: من أخذ على التحديث أجرا منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث. روينا عن إسحاق بن إبراهيم: أنه سُئل عن المحدث يحدث بالأجر ؟ فقال: لا يكتب عنه. وعن أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي نحو ذلك.

 

وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلي بن عبد العزيز المكي، وآخرون، في أخذ العوض على التحديث. وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه. غير أن في هذا من حيث العرف خرما للمروءة، والظن يساء بفاعله، إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه، كمثل ما حديثنيه الشيخ أبو المظفر، عن أبيه الحافظ أبي سعد السمعاني: أن أبا الفضل محمد بن ناصر السلامي ذكر: أن أبا الحسين بن النقور فعل ذلك، لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجواز أخذ الأجرة على التحديث، لأن أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله، والله أعلم.

 

الثالثة عشر: لا تُقبل رواية من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه، كمن لا يبالي بالنوم في مجلس السماع، وكمن يحدث لا من أصل مقابل صحيح. ومن هذا القبيل من عرف بقبول التلقين في الحديث. ولا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه. جاء عنشعبة أنه قال: لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ.

 

ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في روايته، إذا لم يحدث من أصل صحيح.

 

وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه.

 

وورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم: أن من غلط في حديث وبُين له غلطه، ولم يرجع عنه وأصرَّ على رواية ذلك الحديث، سقطت روايته ولم يكتب عنه. وفي هذا نظر، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك، والله أعلم.

 

الرابعة عشرة: أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، وكان عليه من تقدم.

 

ووجه ذلك: ما قدمنا في أول كتابنا هذا من كون المقصود المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد، والمحاذرة من انقطاع سلسلتها. فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده. وليكتفَ في أهلية الشيخ بكونه: مسلما، بالغا، عاقلا، غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه: بوجود سماعه مثبتا بخط غير مهتم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه.

 

وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى، فإنه ذكر في ما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه، الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن يكون القراءة عليهم من أصل سماعهم.

 

ووُجِّه ذلك: بأن الأحاديث التي قد صحت، أو وقفت بين الصحة والسقم، قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث. ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم، لضمان صاحب الشريعة حفظها.

 

قال البيهقي: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم: فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره. والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خُصَّت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله أعلم.

 

الخامسة عشر: في بيان الألفاظ المستعملة بين أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل. وقد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه الجرح والتعديل فأجاد وأحسن. ونحن نرتبها كذلك، ونورد ما ذكره، ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك عن غيره إن شاء الله تعالى.

 

أما ألفاظ التعديل فعلى مراتب:

 

الأولى: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل للواحد إنه ثقة، أو: متقن فهو ممن يحتج بحديثه.

 

قلت: وكذا إذا قيل ثبت، أو: حجة. وكذا إذا قيل في العدل إنه حافظ، أو: ضابط، والله أعلم.

 

الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل إنه صدوق، أو: محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية.

 

قلت: هذا كما قال، لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه ويختبر، حتى يعرف ضبطه. وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع.

 

وإن لم يستوفِ النظر المعرِّف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطا مطلقا، واحتجنا إلى حديث من حديثه، اعتبرنا ذلك الحديث، ونظرنا: هل له أصل من رواية غيره ؟ كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر.

 

ومشهور عن عبد الرحمن بن مهدي القدوة في هذا الشأن أنه حدث، فقال: حدثنا أبو خلدة، فقيل له: أكان ثقة ؟ فقال: كان صدوقا، وكان مأمونا، وكان خيرا- وفي رواية: وكان خيارا - الثقة شعبة وسفيان.

 

ثم إن ذلك مخالف لما ورد عن ابن أبي خيثمة، قال: قلت ليحيى بن معين إنك تقول: فلان ليس به بأس، وفلان ضعيف ؟ قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف فليس هو بثقة، لا تكتب حديثه.

 

قلت: ليس في هذا حكاية ذلك عن غيره من أهل الحديث، فإن نسبه إلى نفسه خاصة، بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم، والله أعلم.

 

الثالثة: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل شيخ فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية.

 

الرابعة: قال: إذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار.

 

قلت: وجاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال: كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث، والله أعلم.

 

وأما ألفاظهم في الجرح فهي أيضا على مراتب:

 

أولاها: قولهم لين الحديث. قال ابن أبي حاتم: إذا أجابوا في الرجل بلين الحديث، فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه اعتبارا.

 

قلت: وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام، فقال له: إذا قلت فلان لين ايش تريد به ؟ قال: لا يكون ساقطا متروك الحديث، ولكن مجروحا بشيء لا يسقط عن العدالة.

 

الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قالوا ليس بقوي فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه، إلا أنه دونه.

 

الثالثة: قال: إذا قالوا ضعيف الحديث فهو دون الثاني، لا يطرح حديثه، بل يعتبر به.

 

الرابعة: قال: إذا قالوا متروك الحديث، أ و ذاهب الحديث، أوكذاب فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة.

 

قال الخطيب أبو بكر: أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال حجة، أو: ثقة. وأدونها أن يقال كذاب ساقط. أخبرنا أبو بكر بن عبد المنعم الصاعدي الفراوي، قراءة عليه بنيسابور قال:أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ: أخبرنا الحسين بن الفضل: أخبرنا عبد الله بن جعفر: حد ثنا يعقوب بن سفيان، قال: سمعت أحمد بن صالح قال: لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه. قد يقال: فلان ضعيف، فأما أن يقال: فلان متروك، فلا، إلا أن يجمع الجميع على ترك حديثه.

 

ومما لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب قولهم فلان قد روى الناس عنه، فلان وسط، فلان مقارب الحديث، فلان مضطرب الحديث، فلان لا يحتج به، فلان مجهول، فلان لا شيء، فلان ليس بذاك وربما قيل ليس بذاك القوي، فلان فيه - أو: في حديثه - ضعف. وهو في الجرح أقل من قولهم فلان ضعيف الحديث، فلان ما أعلم به بأسا. وهو في التعبير دون قولهم لا بأس به. وما من لفظة منها ومن أشباهها إلا ولها نظير شرحناه، أو أصل أصلناه، ننبه إن شاء الله تعالى به عليها. والله أعلم.

 

*

*********************************************

 

======

 

 

محتويات

 

1 النوع الرابع والعشرون: معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه

2 بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله ومجامعها ثمانية أقسام

3 القسم الأول: السماع من لفظ الشيخ:

4 القسم الثاني من أقسام الأخذ والتحمل: القراءة على الشيخ

4.1 تفريعات

5 القسم الثالث من أقسام طرق نقل الحديث وتحمله: الإجازة

6 القسم الرابع من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه: المناولة

6.1 القول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة:

7 القسم الخامس من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه: المكاتبة:

8 القسم السادس من أقسام الأخذ ووجوه النقل: إعلام الراوي لطالب:

9 القسم السابع من أقسام الأخذ والتحمل: الوصية بالكتب:

10 القسم الثامن: الوجادة:

 

النوع الرابع والعشرون: معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه

 

اعلم: أن طرق نقل الحديث وتحمله على أنواع متعددة، ولنقدم على بيانها بيان الأمور:

 

أحدها: يصح التحمل قبل وجود الأهلية، فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام وروى بعده. وكذلك رواية من سمع قبل البلوغ وروى بعده.

 

ومنع من ذلك قوم فأخطأوا لأن الناس قبلوا رواية أحداث الصحابة كالحسن بن علي، وابن عباس، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأشباههم، من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وما بعده. ولم يزالوا قديما وحديثا يحضرون الصبيان مجالس التحديث والسماع، ويعتدون بروايتهم لذلك، والله أعلم.

 

الثاني: قال أبو عبد الله الزبيري: يستحب كتب الحديث في العشرين، لأنها مجتمع العقل. قال: وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض.

 

وورد عن سفيان الثوري قال: كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة.

 

وقيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم ؟ فقال: كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارا حتى يستكلموا عشرين سنة. وقال موسى بن هارون: أهل البصرة يكتبون لعشر سنين. وأهل الكوفة لعشرين، وأهل الشام لثلاثين، والله أعلم.

 

قلت: وينبغي بعد أن صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد أن يبكر بإسماع الصغير في أول زمان يصح فيه بسماعه. وأما الاشتغال بكتبه الحديث، وتحصيله، وضبطه، وتقييده، فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له. وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس ينحصر في سن مخصوص، كما سبق ذكره آنفا عن قوم، والله أعلم.

 

الثالث: اختلفوا في أول زمان يصح فيه سماع الصغير.

 

فروينا عن موسى بن هارون الحمال - أحد الحفاظ النقاد - أنه سئل: متى يسمع الصبي الحديث ؟ فقال: إذا فرق بين البقرة والدابة، وفي رواية بين البقرة والحمار.

 

وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه سئل: متى يجوز سماع الصبي للحديث ؟ فقال: إذا عقل وضبط. فذكر له عن رجل أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة. فأنكر قوله وقال: بئس القول.

 

وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الأسدي، عن أبي محمد عبد الله بن محمد الأشيري، عن القاضي الحافظ عياض بن موسى السبتي اليحصبي قال: قد حدد أهل الصنعة في ذلك أن أقله سن محمود بن الربيع. وذكر رواية البخاري في صحيحه بعد أن ترجم متى يصح سماع الصغير بإسناده عن محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي ﷺ مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين، من دلو. وفي رواية أخرى: أنه كان ابن أربع سنين.

 

قلت: التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فصاعدا سمع ولمن لم يبلغ خمسا حضر أو: أحضر. والذي ينبغي في ذلك: أن تعتبر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعا عن حال من لا يعقل فهما للخطاب وردا للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه، وإن كان دون خمس. وإن لم يكن كذلك لم نصحح سماعه، وإن كان ابن خمس، بل ابن خمسين.

 

وقد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: رأيت صبيا ابن أربع سنين، قد حمل إلى المأمون، قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي.

 

وعن القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني قال: حفظت القرآن ولي خمس سنين. وحملت إلى أبي بكر بن المقرئ لأسمع منه ولي أربع سنين. فقال بعض الحاضرين: لا تُسَمِّعوا له فيما قرئ، فإنه صغير. فقال لي ابن المقرئ: اقرأ سورة الكافرين، فقرأتها، فقال: اقرأ سورة التكوير، فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ سورة المرسلات، فقرأتها، ولم أغلط فيها. فقال ابن المقرئ: سمّعوا له والعهدة عليَّ.

 

وأما حديث محمود بن الربيع: فيدل على صحة ذلك من ابن خمس مثل محمود، ولا يدل على انتفاء الصحة فيمن لم يكن ابن خمس ولا على الصحة فيمن كان ابن خمس ولم يميز تمييز محمود رضي الله عنه، والله أعلم.

بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله ومجامعها ثمانية أقسام

القسم الأول: السماع من لفظ الشيخ:

 

وهو ينقسم إلى إملاء، وتحديث من غير إملاء، وسواء كان من حفظه أو من كتابه.

 

وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير. وفيما نرويه عن القاضي عياض بن موسى السبتي - أحد المتأخرين المطلعين - قوله: لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت فلانا يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان.

 

قلت: في هذا نظر، وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصا بما سُمع من غير لفظ الشيخ -على ما نبينه إن شاء الله تعالى -أن لا يطلق فيما سمع من لفظ الشيخ، لما فيه من الإيهام والإلباس والله أعلم.

 

وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب: أن أرفع العبارات في ذلك سمعت ثم حدثنا وحدثني فإنه لا يكاد أحد يقول سمعت في أحاديث الإجازة والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه. وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له حدثنا. وروي عن الحسن أنه كان يقول حدثنا أبو هريرة ويتأول أنه حدث أهل المدينة، وكان الحسن إذ ذاك بها، إلا أنه لم يسمع منه شيئا.

 

قلت: ومنهم من أثبت له سماعا من أبي هريرة، والله اعلم.

 

ثم يتلو ذلك قول أخبرنا وهو كثير في الاستعمال، حتى أن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ من حدثهم إلا بقولهم أخبرنا. منهم حماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وعبيد الله بن موسى، وعبد الرزاق بن همام، ويزيد بن هارون، وعمرو بن عون، ويحي بن يحيى التميمي، وإسحاق بن راهويه، وأبو مسعود أحمد بن الفرات، ومحمد بن أيوب الرازيان، وغيرهم.

 

وذكر الخطيب عن محمد بن رافع قال: كان عبد الرزاق يقول أخبرنا حتى قدم أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، فقالا له: قل حدثنا فكل ما سمعت مع هؤلاء قال: حدثنا، وما كان قبل ذلك قال: أخبرنا.

 

وعن محمد بن أبي الفوارس الحافظ قال: هشيم، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، لا يقولون إلا أخبرنا فإذا رأيت حدثنا فهو من خطأ الكاتب، والله أعلم.

 

قلت: وكان هذا كله قبل أن يشيع تخصيص أخبرنا بما قرئ على الشيخ، ثم يتلو قول أخبرنا قول أنبأنا ونبّأنا وهو قليل في الاستعمال.

 

قلت: حدثنا، وأخبرنا أرفع من سمعت من جهة أخرى، وهي أنه ليس في سمعت دلالة على أن الشيخ رواه الحديث وخاطبه به، وفي حدثنا وأخبرنا دلالة على أنه خاطبه به ورواه له، أو هو ممن فُعل به ذلك.

 

سأل الخطيب أبو بكر الحافظ شيخه أبا بكر البرقاني الفقيه الحافظ - رحمهما الله تعالى - عن السر في كونه يقول فيما رواه عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الآبندوني سمعت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا فذكر له: أن أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسرا في الرواية، فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره، فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل إليه. فلذلك يقول سمعت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده.

 

وأما قوله قال لنا فلان، أو ذكر لنا فلان فهو من قبيل قوله حدثنا فلان غير أنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة، وهو به أشبه من حدثنا.

 

وقد حكينا في فصل التعليق - عيب النوع الحادي عشر - عن كثير من المحدثين استعمال ذلك معبرين به عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات.

 

وأوضع العبارات في ذلك أن يقول: قال فلان، أو: ذكر فلان من غير ذكر قوله لي ولنا ونحو ذلك. وقد قدمنا في فصل الإسناد المعنعن أن ذلك وما أشبهه من الألفاظ محمول عندهم على السماع، إذا عرف لقاؤه له وسماعه منه على الجملة، لا سيما إذا عرف من حاله أنه لا يقول قال فلان إلا فيما سمعه منه.

 

وقد كان حجاج بن محمد الأعور يروي عن ابن جريج كتبه، ويقول فيها قال ابن جريج فحملها الناس عنه، واحتجوا برواياته، وكان قد عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه.

 

وقد خصص الخطيب أبو بكر الحافظ القول بحمل ذلك على السماع بمن عرف من عادته مثل ذلك، والمحفوظ المعروف ما قدمنا ذكره. والله أعلم.

القسم الثاني من أقسام الأخذ والتحمل: القراءة على الشيخ

 

وأكثر المحدثين يسمونها عرضا من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ.

 

وسواء كنت أنت القارئ، أو قرأ غيرك وأنت تسمع، أو قرأت من كتاب، أو من حفظك، أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه، أو لا يحفظه لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره.

 

ولا خلاف أنها رواية صحيحة، إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه، والله أعلم.

 

واختلفوا في أنها: مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه ؟

 

فنقل عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما: ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه. وروي ذلك عن مالك أيضا.

 

وروي عن مالك وغيره: أنهما سواء. وقد قيل: إن التسوية بينهما مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة، و مذهب مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم.

 

والصحيح: ترجيح السماع من لفظ الشيخ، والحكم بأن القراءة عليه مرتبة ثانية. وقد قيل: إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق، والله أعلم.

 

وأما العبارة عنها عند الرواية بها فهي على مراتب: أجودها وأسلمها أن يقول قرأت على فلان. أو قرئ على فلان، وأنا أسمع فأقر به فهذا شائع من غير إشكال.

 

ويتلو ذلك ما يجوز من العبارات في السماع من لفظ الشيخ مطلقة، إذا أتى بها هنا مقيدة، بأن يقول حدثنا فلان قراءة عليه، أو: أخبرنا قراءة عليه ونحو ذلك. وكذلك أنشدنا قراءة عليه في الشعر.

 

وأما إطلاق حدثنا، وأخبرنا في القراءة على الشيخ، فقد اختلفوا فيه على مذاهب:

 

فمن أهل الحديث من منع منهما جميعا، وقيل: إنه قول ابن المبارك، ويحيى بن يحيى التميمي، وأحمد بن حنبل، والنسائي وغيرهم.

 

ومنهم من ذهب إلى تجويز ذلك، وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا. وقد قيل: إن هذا مذهب معظم الحجازيين، والكوفيين، وقول الزهري، ومالك، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، في آخرين من الأئمة المتقدمين، وهو مذهب البخاري صاحب الصحيح في جماعة من المحدثين.

 

ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضا أن يقول سمعت فلانا.

 

والمذهب الثالث: الفرق بينهما في ذلك، والمنع من إطلاق حدثنا، وتجويز إطلاق أخبرنا. وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وهو منقول عن مسلم صاحب الصحيح، وجمهور أهل المشرق.

 

وذكر صاحب كتاب الإنصاف محمد بن الحسن التميمي الجوهري المصري: أن هذا مذهب الأكثر من أصحاب الحديث الذين لا يحصيهم أحد، وأنهم جعلوا أخبرنا علما يقوم مقام قول قائله: أنا قرأته عليه، لا أنه لفظ به لي. قال: وممن كان يقول به من أهل زماننا أبو عبد الرحمن النسائي، في جماعة مثله من محدثينا.

 

قلت: وقد قيل: إن أول من أحدث الفرق بين هذين اللفظين ابن وهب بمصر.

 

وهذا يدفعه أن ذلك مروي عن ابن جريج والأوزاعي، حكاه عنهما الخطيب أبو بكر، إلا أن يعني أنه أول من فعل ذلك بمصر، والله أعلم.

 

قلت: الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث، والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف. وخير ما يقال فيه: إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين، ثم خصص النوع الأول بقول حدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة، والله أعلم.

 

ومن أحسن ما يحكى عمن يذهب هذا المذهب ما حكاه الحافظ أبو بكر البرقاني، عن أبي حاتم محمد بن يعقوب الهروي، أحد رؤساء أهل الحديث بخراسان: أنه قرأ على بعض الشيوخ عن الفربري صحيح البخاري، وكان يقول له في كل حديث حدثكم الفربري فلما فرغ من الكتاب سمع الشيخ يذكر: أنه إنما سمع الكتاب من الفربري قراءة عليه، فأعاد أبو حاتم قراءة الكتاب كله، وقال له في جميعه أخبركم الفربري. والله أعلم.

تفريعات

 

الأول: إذا كان أصل الشيخ عند القراءة عليه بيد غيره، وهو موثوق به، مراع لما يقرأ، أهل لذلك: فإن كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه فهو كما لو كان أصله بيد نفسه، بل أولى، لتعاضد ذهني شخصين عليه. وإن كان الشيخ لا يحفظ ما يقرأ عليه، فهذا مما اختلفوا فيه: فرأى بعض أئمة الأصول أن هذا سماع غير صحيح. والمختار: أن ذلك صحيح، وبه عمل معظم الشيوخ وأهل الحديث.

 

وإذا كان الأصل بيد القارئ، وهو موثوق به دينا ومعرفة، فكذلك الحكم فيه، وأولى بالتصحيح.

 

وأما إذا كان أصله بيد من لا يوثق بإمساكه له، ولا يؤمن إهماله لما يقرأ، فسواء كان بيد القارئ أو بيد غيره، في أنه سماع غير معتد به، إذا كان الشيخ غير حافظ للمقروء عليه، والله أعلم.

 

 

الثاني: إذا قرأ القارئ على الشيخ قائلا أخبرك فلان، أو: قلت أخبرنا فلان أو نحو ذلك، والشيخ ساكت، مصغ إليه، فاهم لذلك، غير منكر له، فهذا كاف في ذلك.

 

واشترط بعض الظاهرية وغيرهم إقرار الشيخ نطقا، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو الفتح سليم الرازي، وأبو نصر بن الصباغ من الفقهاء الشافعيين. قال أبو نصر: ليس له أن يقول حدثني أو أخبرني وله أن يعمل بما قرئ عليه، وإذا أراد روايته عنه قال قرأت عليه، أو: قرئ عليه وهو يسمع.

 

وفي حكاية بعض المصنفين للخلاف في ذلك: أن بعض الظاهرية شرط إقرار الشيخ عند تمام السماع: بأن يقول القارئ للشيخ وهو كما قرأته عليك ؟، فيقول: نعم.

 

والصحيح أن ذلك غير لازم، وأن سكوت الشيخ على الوجه المذكور نازل منزلة تصريحه بتصديق القارئ، اكتفاء بالقرائن الظاهرة. وهذا مذهب الجماهير من المحدثين والفقهاء وغيرهم، والله أعلم.

 

الثالث: فيما نرويه عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ رحمه الله قال: الذي أختاره في الرواية، وعهدت عليه أكثر مشايخه، وأئمة عصري: أن يقول في الذي يأخذه من المحدث لفظا وليس معه أحد حدثني فلان وما يأخذه من المحدث لفظا ومعه غيره حدثنا فلان وما قرأ على المحدث بنفسه أخبرني فلان وما قرئ على المحدث وهو حاضر أخبرنا فلان.

 

وقد روينا نحو ما ذكره عن عبد الله بن وهب، صاحب مالك رضي الله عنهما. وهو حسن رائق.

 

فإن شك في شيء عنده أنه من قبيل حدثنا، أو: أخبرنا أو من قبيل حدثني، أو: أخبرني لتردده في أنه كان عند التحمل والسماع وحده أو مع غيره، فيحتمل أن نقول: ليقل حدثني أو: أخبرني لأن عدم غيره هو الأصل. ولكن ذكر علي بن عبد الله المديني الإمام عن شيخه يحيى بن سعيد القطان الإمام، فيما إذا شك أن الشيخ قال: حدثني فلان أو قال حدثنا فلان أنه يقول حدثنا.

 

وهذا يقتضي فيما إذا شك في سماع نفسه في مثل ذلك أن يقول حدثنا. وهو عندي يتوجه بأن حدثني أكمل مرتبة وحدثنا أنقص مرتبة، فليقتصر إذا شك على الناقص، لأن عدم الزائد هو الأصل، وهذا لطيف. ثم وجدت الحافظ أحمد البيهقي رحمه الله قد اختار بعد حكايته قول القطان ما قدمته.

 

ثم إن هذا التفصيل من أصله مستحب وليس بواجب، حكاه الخطيب الحافظ عن أهل العلم كافة. فجائز إذا سمع وحده أن يقول حدثنا أو نحوه لجواز ذلك للواحد في كلام العرب. وجائز إذا سمع في جماعة أن يقول حدثني لأن المحدث حدثه وحدث غيره، والله أعلم.

 

الرابع: روينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: اتبع لفظ الشيخ في قوله حدثنا، وحدثني، وسمعت، وأخبرنا ولا تعدوه.

 

قلت: ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه: أخبرنا ب حدثنا، ونحو ذلك، وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف وتفصيل سبق، لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما. ولو وجدت من ذلك إسنادا عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام الآخر من باب تجويز الرواية بالمعنى. وذلك وإن كان فيه خلاف معروف فالذي نراه الامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة والمجامع المجموعة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وما ذكره الخطيب أبو بكر في كفايته من إجراء ذلك الخلاف في هذا فمحمول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث، غير موضوع في كتاب مؤلف، والله أعلم.

 

الخامس: اختلف أهل العلم في صحة سماع من ينسخ وقت القراءة، فورد عن الإمام إبراهيم الحربي، وأبي أحمد بن عدي الحافظ، والأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني الفقيه الأصولي وغيرهم نفي ذلك.

 

وروينا عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي، أحد أئمة الشافعيين بخراسان: أنه سئل عمن يكتب في السماع ؟ فقال: يقول حضرت ولا يقل حدثنا، ولا أخبرنا.

 

وورد عن موسى بن هارون الحمال تجويز ذلك. وعن أبي حاتم الرازي قال: كتبت عند عارم وهو يقرأ، وكتبت عند عمرو بن مرزوق وهو يقرأ. وعن عبد الله بن المبارك: أنه قرئ عليه وهو ينسخ شيئا آخر غير ما يقرأ.

 

ولا فرق بين النسخ من السامع والنسخ من المسمع.

 

قلت: وخير من هذا الإطلاق التفصيل. فنقول:

 

لا يصح السماع إذا كان النسخ بحيث يمتنع معه فهم الناسخ لما يقرأ، حتى يكون الواصل إلى سمعه كأنه صوت غُفل.

 

ويصح إذا كان بحيث لا يمتنع معه الفهم. كمثل ما رويناه عن الحافظ العالم أبي الحسن الدارقطني: أنه حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار، فجلس بنسخ جزءا كان معه وإسماعيل يملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ. فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك. ثم قال: تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن ؟ فقال: لا. فقال الدارقطني: أملى ثمانية عشر حديثا فعدت الأحاديث فوجدت كما قال. ثم قال أبو الحسن: الحديث الأول منها عن فلان عن فلان ومتنه كذا. والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا. ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها، فتعجب الناس منه، والله أعلم.

 

السادس: ما ذكرناه في النسخ من التفصيل يجري مثله فيما إذا كان الشيخ أو السامع يتحدث، أو كان القارئ خفيف القراءة يفرط في الإسراع. أو كان يهينم بحيث يخفي بعض الكلم، أو كان السامع بعيدا عن القارئ، وما أشبه ذلك.

 

ثم الظاهر: أن يعفى في كل ذلك عن القدر اليسير، نحو الكلمة والكلمتين.

 

ويستحب للشيخ أن يجيز لجميع السامعين رواية جميع الحزء أو الكتاب الذي سمعوه، وإن جرى على كله اسم السماع. وإذا بذل لأحد منهم خطه بذلك كتب له: سمع مني هذا الكتاب وأجزت له روايته عني. أو نحو هذا، كما كان بعض الشيوخ يفعل. وفيما نرويه عن الفقيه أبي محمد بن أبي عبد الله بن عتاب الفقيه الأندلسي، عن أبيه رحمهما الله أنه قال: لا غنى في السماع عن الإجازة، لأنه قد يغلط القارئ ويغفل الشيخ، أو يغلط الشيخ إن كان القارئ ويغفل السامع، فينجبر له ما فاته بالإجازة.

 

هذا الذي ذكرناه تحقيق حسن.

 

وقد روينا عن صالح بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما قال: قلت لأبي: الشيخ يدغم الحرف يعرف أنه كذا وكذا ولا يفهم عنه، ترى أن يروي ذلك عنه ؟ قال: أرجو أن لا يضيق هذا.

 

وبلغنا عن خلف بن سالم المخرمي قال سمعت ابن عيينة يقول نا عمرو بن دينار يريد حدثنا عمرو بن دينار لكن اقتصر من حدثنا على النون والألف فإذا قيل له قل حدثنا عمرو قال: لا أقول، لأني لم أسمع من قوله حدثنا ثلاثة أحرف وهي حدث لكثرة الزحام.

 

قلت: قد كان كثير من أكابر المحدثين يعظم الجمع في مجالسهم جدا، حتى ربما بلغ ألوفا مؤلفة، ويبلغهم عنهم المستملون، فيكتبون عنهم بواسطة تبليغ المستملين، فأجاز غير واحد لهم رواية ذلك عن المملي.

 

روينا عن الأعمش رضي الله عنه قال: كنا نجلس إلى إبراهيم، فتتسع الحلقة، فربما يحدث بالحديث فلا يسمعه من تنحى عنه، فيسأل بعضهم بعضا عما قال، ثم يروونه وما سمعوه منه.

 

وعن حماد بن زيد: أنه سأله رجل في مثل ذلك، فقال: يا أبا إسماعيل كيف قلت ؟ فقال: استفهم ممن يليك.

 

وعن بن عيينة: أن أبا مسلم المستملي قال له: إن الناس كثير لا يسمعون، قال ألا تسمع أنت ؟ قال: نعم، قال: فأسمعهم.

 

وأبى آخرون ذلك.

 

روينا عن خلف بن تميم قال: سمعت من سفيان الثوري عشرة آلاف أو نحوها، فكنت أستفهم جليسي، فقلت لزائدة، فقال لي: لا تحدث منها إلا بما تحفظ بقلبك وسمع أذنك، قال: فألقيتها.

 

وعن أبي نعيم: أنه كان يرى فيما سقط عنه من الحرف الواحد والاسم مما سمعه من سفيان والأعمش، واستفهمه من أصحابه: أن يرويه عن أصحابه، لا يرى غير ذلك واسعا له.

 

قلت: الأول تساهل بعيد. وقد روينا عن أبي عبد الله بن منده الحافظ الأصبهاني أنه قال لواحد من أصحابه: يا فلان يكفيك من السماع شمه. وهذا إما متأول أو متروك على قائله. ثم وجدت عن عبد الغني بن سعيد الحافظ عن حمزة بن محمد الحافظ بإسناده، عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: يكفيك من الحديث شمه. قال عبد الغني: قال لنا حمزة: يعني إذا سئل عن أول شيء عرفه، وليس يعني التسهيل في السماع، والله أعلم.

 

السابع: يصح السماع ممن هو وراء حجاب إذا سمع صوته فيما إذا حدث بلفظه، وإذا عرف حضوره بمسمع منه فيما إذا قرئ عليه. وينبغي أن يجوز الاعتماد في معرفة صوته وحضوره على خبر من يوثق به. وقد كانوا يسمعون من عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج النبي ﷺ من وراء حجاب، ويروونه عنهن اعتمادا على الصوت. واحتج عبد الغني بن سعيد الحافظ في ذلك بقوله ﷺ: «أن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم». وروى بإسناده عن شعبة أنه قال: إذا حدثك المحدث فلم تر وجهه فلا ترو عنه، فلعله شيطان قد تصور في صورته يقول حدثنا وأخبرنا، والله أعلم.

 

الثامن: من سمع من شيخ حديثا ثم قال له: لا تروه عني، أو: لا آذن لك في روايته عني، أو قال: لست أخبرك به، أو: رجعت عن إخباري إياك به، فلا تروه عني، غير مسند ذلك إلى أنه أخطأ فيه أو شك فيه ونحو ذلك، بل منعه من روايته عنه مع جزمه بأنه حديثه وروايته، فذلك غير مبطل لسماعه، ولا مانع له من روايته عنه.

 

وسأل الحافظ أبو سعيد بن عليك النيسابوري الأستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني رحمها الله، عن محدث خص بالسماع قوما فجاء غيرهم وسمع منه من غير علم المحدث به، هل يجوز له رواية ذلك عنه ؟ فأجاب: بأنه يجوز. ولو قال المحدث: إني أخبركم ولا أخبر فلانا، لم يضره، والله أعلم.

القسم الثالث من أقسام طرق نقل الحديث وتحمله: الإجازة

 

وهي متنوعة أنواعا:

 

أولها: أن يجيز لمعين في معين، مثل أن يقول أجزت لك الكتاب الفلاني، أو: ما اشتملت عليه فهرستي هذه فهذا على أنواع الإجازة المجردة عن المناولة. وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها، ولا خالف فيها أهل الظاهر. وإنما خلافهم في غير هذا النوع. وزاد القاضي أبو الوليد الباجي المالكي فأطلق نفي الخلاف، وقال: لا خلاف في جواز الرواية بالإجازة من سلف هذه الأمة وخلفها، وادعى الإجماع من غير تفصيل، وحكى الخلاف في العمل بها.

 

قلت: هذا باطل، فقد خالف في جواز الرواية بالإجازة جماعات من أهل الحديث والفقهاء والأصوليين، وذلك إحدى الروايتين عن الشافعيرضي الله عنه. روي عن صاحبه الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي لا يرى الإجازة في الحديث. قال الربيع: أنا أخالف الشافعي في هذا.

 

وقد قال بإبطالها جماعة من الشافعيين، منهم: القاضيان حسين بن محمد المرورُّوذي وأبو الحسن الماوردي، وبه قطع الماوردي في كتابه الحاوي وعزاه إلى مذهب الشافعي، وقالا جميعا: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة. وروي أيضا هذا الكلام عن شعبة وغيره.

 

وممن أبطلها من أهل الحديث الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي، وأبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني الملقب بأبي الشيخ، والحافظ أبو نصر الوايلي السجزي. وحكى أبو نصر فسادها عن بعض من لقيه. قال أبو نصر: وسمعت جماعة من أهل العلم يقولون: قول المحدث قد أجزت لك أن تروي عني تقديره أجزت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع.

 

قلت: ويشبه هذا ما حكاه أبو بكر محمد بن ثابت الخجندي، أحد من أبطل الإجازة من الشافعية، عن أبي طاهر الدباس أحد أئمة الحنفية قال: من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي.

 

ثم إن الذي استقر عليه العمل، وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم: القول بتجويز الإجازة، وإباحة الرواية بها، وفي الاحتجاج لذلك غموض. ويتجه أن يقول: إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته، و قد أخبره بها جملة، فهو كما لو أخبره تفصيلا، وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراءة على الشيخ كما سبق، وإنما الغرض حصول الإفهام والفهم، وذلك يحصل بالإجازة المفهمة، والله أعلم.

 

ثم إنه كما تجوز الرواية بالإجازة يجب العمل بالمروي بها، خلافا لمن قال من أهل الظاهر ومن تابعهم: إنه لا يجب العمل به، وإنه جار مجرى المرسل. وهذا باطل، لأنه ليس في الإجازة ما يقدح في اتصال المنقول بها وفي الثقة به، والله أعلم.

 

النوع الثاني: من أنواع الإجازة: أن يجيز لمعين في غير معين، مثل أن يقول: أجزت لك - أو: لكم - جميع مسموعاتي، أو: جميع مروياتي وما أشبه ذلك. فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر. والجمهور من العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم على تجويز الرواية بها أيضا، وعلى إيجاب العمل بما روي بها بشرطه، والله أعلم.

 

النوع الثالث من أنواع الإجازة: أن يجيز لغير معين بوصف العموم، مثل أن يقول أجزت للمسلمين، أو: أجزت لكل أحد، أو: أجزت لمن أدرك زماني وما أشبه ذلك، فهذا نوع تكلم فيه المتأخرون ممن جوز أصل الإجازة، واختلفوا في جوازه:

 

فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاصر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب.

 

وممن جوز ذلك كله الخطيب أبو بكر الحافظ. وروينا عن أبي عبد الله بن منده الحافظ أنه قال: أجزت لمن قال لا إله إلا الله. وجوز القاضي أبو الطيب الطبري أحد الفقهاء المحققين - فيما حكاه عنه الخطيب - الإجازة لجميع المسلمين، من كان منهم موجودا عند الإجازة. وأجاز أبو محمد بن سعيد، أحد الجِلّة من شيوخ الأندلس: لكل من دخل قرطبة من طلبة العلم. ووافقه على جواز ذلك منهم أبو عبد الله بن عتاب رضي الله عنهم. وأنبأني من سأل الحازمي أبا بكر عن الإجازة العامة هذه، فكان من جوابه: أن من أدركه من الحفاظ - نحو أبي العلاء الحافظ وغيره - كانوا يميلون إلى الجواز، والله أعلم.

 

قلت: ولم نر ولم نسمع عن أحد ممن يقتدى به: أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها، ولا عن الشرذمة المستأخرة الذين سوغوها. والإجازة في أصلها ضعف، وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله، والله أعلم.

 

النوع الرابع من أنواع الإجازة: الإجازة للمجهول أو بالمجهول. ويتشبث بذيلها الإجازة المعلقة بالشرط. وذلك مثل أن يقول أجزت لمحمد بن خالد الدمشقي. وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا الاسم والنسب، ثم لا يعين المجاز له منهم. أو يقول أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن وهو يروي جماعة من كتب السنن المعروفة بذلك، ثم لا يعين.

 

فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها.

 

وليس من هذا القبيل ما إذا أجاز لجماعة مسمّينَ، معينين بأنسابهم، والمجيز جاهل بأعيانهم غير عارف بهم، فهذا غير قادح، كما لا يقدح عدم معرفته به إذا حضر شخصه في السماع منه، والله أعلم.

 

وإن أجاز للمسلمين المنتسبين في الاستجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم، ولم يعرف عددهم، ولم يتصفح أسماءهم واحدا فواحدا، فينبغي أن يصح ذلك أيضا كما يصح سماع من حضر مجلسه للسماع منه وإن لم يعرفهم أصلا ولم يعرف عددهم، ولا تصفح أشخاصهم واحدا واحدا.

 

وإذا قال أجزت لمن يشاء فلان أو نحو ذلك، فهذا فيه جهالة وتعليق بشرط، فالظاهر أنه لا يصح، وبذلك أفتى القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي، إذ سأله الخطيب الحافظ عن ذلك، وعلل بأنه إجازة لمجهول، فهو كقوله أجزت لبعض الناس من غير تعيين. وقد يعلل ذلك أيضا بما فيها من التعليق بالشرط، فإن ما يفسد بالجهالة يفسد بالتعليق، على ما عرف عند قوم.

 

وحكى الخطيب عن أبي يعلي بن الفراء الحنبلي وأبي الفضل بن عمروس المالكي أنهما أجازا ذلك، وهؤلاء الثلاثة كانوا مشايخ مذاهبهم ببغداد إذ ذاك.

 

وهذه الجهالة ترتفع في ثاني الحال عند وجود المشيئة، بخلاف الجهالة الواقعة فيما إذا أجاز لبعض الناس. وإذا قال: أجزت لمن شاء فهو كما لو قال أجزت لمن شاء فلان بل هذه أكثر جهالة وانتشارا، من حيث إنها معلقة بمشيئة من لا يحصر عددهم بخلاف تلك. ثم هذا فيما إذا أجاز لمن شاء الإجازة منه له.

 

فإن أجاز لمن شاء الرواية عنه فهذا أولى بالجواز، من حيث إن مقتضى كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له، فكان هذا - مع كونه بصيغة التعليق - تصريحا بما يقتضيه الإطلاق وحكاية للحال، لا تعليقا في الحقيقة. ولهذا أجاز بعض أئمة الشافعيين في البيع أن يقول: بعتك هذا بكذا إن شئت، فيقول: قبلت.

 

ووجد بخط أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي الحافظ أجزت رواية ذلك لجميع من أحب أن يروي ذلك عني.

 

أما إذا قال أجزت لفلان كذا و كذا إن شاء روايته عني، أو: لك إن شئت، أو أحببت، أو أردت فالأظهر الأقوى أن ذلك جائز، إذ قد انتفت فيه الجهالة وحقيقة التعليق، ولم يبق سوى صيغته، والعلم عند الله تعالى.

 

النوع الخامس من أنواع الإجازة: الإجازة للمعدوم. ولنذكر معه الإجازة للطفل الصغير. هذا نوع خاض فيه قوم من المتأخرين، واختلفوا في جوازه، ومثاله: أن يقول: أجزت لمن يولد لفلان.

 

فإن عطف المعدوم في ذلك على الموجود بأن قال: أجزت لفلان ولمن يولد له، أو: أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا، كان ذلك أقرب إلى الجواز من الأول. ولمثل ذلك أجاز أصحاب الشافعي رضي الله عنه في الوقف القسم الثاني دون الأول.

 

وقد أجاز أصحاب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما - أو من قال ذلك منهم في الوقف - القسمين كليهما.

 

وفعل هذا الثاني في الإجازة من المحدثين المتقدمين أبو بكر بن أبي داود السجستاني، فإنا روينا عنه أنه سئل الإجازة، فقال: قد أجزت لك ولأولادك ولحبَل الحَبَلَة. يعني الذين لم يولدوا بعد.

 

وأما الإجازة للمعدوم ابتداءً، من غير عطف على موجود: فقد أجازها الخطيب أبو بكر الحافظ، وذكر أنه سمع أبا يعلى بن الفراء الحنبلي و أبا الفضل بن عمروس المالكي يجيزان ذلك. وحكى جواز ذلك أيضا أبو نصر بن الصباغ الفقيه، فقال: ذهب قوم إلى أنه يجوز أن يجيز لمن يخلق. قال: وهذا إنما ذهب إليه من يعتقد أن الإجازة إذن في الرواية لا محادثة. ثم بين بطلان هذه الإجازة، وهو الذي استقر عليه رأي شيخه القاضي أبي الطيب الطبري الإمام، وذلك هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره، لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز، على ما قدمناه في بيان صحة أصل الإجازة، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة للمعدوم. ولو قدرنا أن الإجازة إذن فلا يصح أيضا ذلك للمعدوم، كما لا يصح الإذن في باب الوكالة للمعدوم، لوقوعه في حالة لا يصح فيها المأذون فيه من المأذون له.

 

وهذا أيضا يوجب بطلان الإجازة للطفل الصغير الذي لا يصح سماعه.

 

قال الخطيب: سألت القاضي أبا الطيب الطبري عن الإجازة للطفل الصغير، هل يعتبر في صحتها سنه أو تمييزه، كما يعتبر ذلك في صحة سماعه ؟ فقال: لا يعتبر ذلك. قال: فقلت له: أن بعض أصحابنا قال: لا تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه. فقال: قد يصح أن يجيز ذلك للغائب عنه ولا يصح السماع له. واحتج الخطيب لصحتها للطفل: بأن الإجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه، والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل.

 

قال: وعلى هذا رأينا كافة شيوخنا يجيزون للأطفال الغيب عنهم، من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنانهم وحال تمييزهم. ولم نرهم أجازوا لمن يكن مولودا في الحال.

 

قلت: كأنهم رأوا الطفل أهلا لتحمل هذا النوع من أنواع تحمل الحديث، ليؤدي به بعد حصول أهليته، حرصا على توسيع السبيل إلى بقاء الإسناد الذي اختصت به هذه الأمة، وتقريبه من رسول الله ﷺ.

 

النوع السادس من أنواع الإجازة: إجازة ما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله أصلا بعد، ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك.

 

أخبرني من أخبر عن القاضي عياض بن موسى من فضلاء وقته بالمغرب، قال: هذا لم أر من تكلم عليه من المشايخ، ورأيت بعض المتأخرين والعصريين يصنعونه، ثم حكى عن أبي الوليد يونس بن مغيث قاضي قرطبة: أنه سئل الإجازة بجميع ما رواه إلى تاريخها وما يرويه بعد، فامتنع من ذلك، فغضب السائل. فقال له بعض أصحابه: يا هذا يعطيك ما لم يأخذه ؟ هذا محال ! قال عياض: وهذا هو الصحيح.

 

قلت: ينبغي أن يبنى هذا على أن الإجازة في حكم الإخبار بالمجاز جملة، أو: هي إذن ؟ فإن جعلت في حكم الإخبار لم تصح هذه الإجازة، إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه. وإن جعلت إذنا انبنى هذا على الخلاف في تصحيح الإذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الآذن الموكل بعد، مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه. وقد أجاز ذلك بعض أصحاب الشافعي والصحيح بطلان هذه الإجازة. وعلى هذا يتعين على من يريد أن يروي بالإجازة عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته مثلا: أن يبحث حتى يعلم أن ذاك الذي يريد روايته عنه مما سمعه قبل تاريخ هذه الإجازة. وأما إذا قال: أجزت لك ما صح ويصح عندك من مسموعاتي، فهذا ليس من هذا القبيل. وقد فعله الدارقطني وغيره. وجائز أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة. ويجوز ذلك وإن اقتصر على قوله: ما صح عندك ولم يقل وما يصح لأن المراد: أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك. فالمعتبر إذا فيه صحة ذلك عنده حالة الرواية. والله أعلم.

 

النوع السابع من أنواع الإجازة: إجازة المجاز. مثل أن يقول الشيخ أجزت لك مجازاتي. أو: أجزت لك رواية ما أجيز لي روايته فمنع من ذلك بعض من لا يعتد به من المتأخرين.

 

والصحيح - والذي عليه العمل - أن ذلك جائز، ولا يشبه ذلك ما امتنع من توكيل الوكيل بغير إذن الموكل. ووجدت عن أبي عمرو السفاقسي الحافظ المغربي قال: سمعت أبا نعيم الحافظ الأصبهاني يقول: الإجازة على الإجازة قوية جائزة.

 

وحكى الخطيب الحافظ تجويز ذلك عن الحافظ الإمام أبي الحسن الدارقطني، والحافظ أبي العباس المعروف بابن عقدة الكوفي، وغيرهما. وقد كان الفقيه الزاهد نصر بن إبراهيم المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة، حتى ربما والى في روايته بين إجازات ثلاث.

 

وينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه ومقتضاها، حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها. فإذا كان مثلا صورة إجازة شيخ شيخه أجزت له ما صح عنده من سماعاتي فرأى شيئا من مسموعات شيخ شيخه فليس له أن يروي ذلك عن شيخه عنه، حتى يستبين أنه مما كان قد صح عند شيخه كونه من سماعات شيخه الذي تلك إجازته، ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده الآن، عملا بلفظه وتقييده. ومن لا يتفطن لهذا وأمثاله يكثر عثاره، والله أعلم.

 

هذه أنواع الإجازة التي تمس الحاجة إلى بيانها، ويتركب منها أنواع أخر سيتعرف المتأمل حكمها مما أمليناه إن شاء الله تعالى.

 

ثم إنا ننبه على أمور:

 

أحدها: روينا عن أبي الحسين أحمد فارس الأديب المصنف رحمه الله قال: معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، يقال منه: استجزت فلانا فأجاز لي، إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك. كذلك طالب العلم: يسأل العالم أن يجيزه علمه، فيجيزه إياه.

 

قلت: فللمجيز على هذا أن يقول أجزت فلانا مسموعاتي، أو: مروياتي فيعديه بغير حرف جر، من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية أو نحو ذلك. ويحتاج إلى ذلك من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ، والإذن، والإباحة، وذلك هو المعروف، فيقول أجزت لفلان رواية مسموعاتي مثلا، ومن يقول منهم أجزت له مسموعاتي فعلى سبيل الحذف الذي لا يخفى نظيره، والله أعلم.

 

الثاني: إنما يستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالما بما يجيز، والمجاز له من أهل العلم، لأنها توسع وترخيص، يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها. وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطا فيها. وحكاه أبو العباس الوليد بن بكر المالكي عن مالك رضي الله عنه. وقال الحافظ أبو عمر: الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة، وفي شيء معين لا يشكل إسناده، والله أعلم.

 

الثالث: ينبغي للمجيز إذا كتب أجازته أن يتلفظ بها، فإن اقتصر على الكتابة كان ذلك إجازة جائزة، إذا اقترن بقصد الإجازة. غير أنها أنقص مرتبة من الإجازة الملفوظ بها. وغير مستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرواية، التي جعلت فيه القراءة على الشيخ، مع أنه لم يلفظ بما قرئ عليه إخبارا منه بما قرئ عليه، على ما تقدم بيانه، والله أعلم.

القسم الرابع من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه: المناولة

 

وهي على نوعين:

 

أحدهما: المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق. ولها صور.

 

منها: أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا به، ويقول هذا سماعي، أو: روايتي عن فلان، فاروه عني، أو: أجزت لك روايته عني، ثم يملكه إياه. أو يقول خذه وانسخه، وقابل به، ثم رده إلي أو نحو.

 

ومنها: أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه، فيعرضه عليه، فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ، ثم يعيده إليه ويقول له وقفت على ما فيه، وهو حديثي عن فلان، أو: روايتي عن شيوخي فيه، فاروه عني، أو: أجزت لك روايته عني. وهذا قد سماه غير واحد من أئمة الحديث عرضا. وقد سبقت حكايتنا في القراءة على الشيخ أنها تسمى عرضا فلنسم ذلك عرض القراءة وهذا عرض المناولة، والله أعلم.

 

وهذه المناولة المقترنة بالإجازة: حالة محل السماع عند مالك وجماعة من أئمة أصحاب الحديث. وحكى الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري - في عرض المناولة المذكور - عن كثير من المتقدمين: أنه سماع. وهذا مطرد في سائر ما يماثله من صور المناولة المقرونة بالإجازة. فممن حكى الحاكم ذلك عنهم ابن شهاب الزهري، وربيعة الرأي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس - الإمام - في آخرين من المدنيين، ومجاهد، وأبو الزبير، وابن عيينة، في جماعة من المكيين وعلقمة وإبراهيم النخعيان، والشعبي في جماعة من الكوفيين، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل الناجي في طائفة من البصريين، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب في طائفة من المصريين، وآخرون من الشاميين والخراسانيين، ورأى الحاكم طائفة من مشايخه على ذلك وفي كلامه بعض التخليط من حيث كونه خلط بعض ما ورد في عرض القراءة بما ورد في عرض المناولة وساق الجميع مساقا واحدا.

 

والصحيح: أن ذلك غير حال محل السماع وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا والإخبار قراءة.

 

وقد قال الحاكم في هذا العرض: أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا، وبه قال الشافعي، وألاوزاعي، والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه. قال: وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه ذهبوا، وإليه نذهب، والله أعلم.

 

ومنها: أن يناول الشيخ الطالب كتابه ويجيز له روايته عنه، ثم يمسكه الشيخ عنده ولا يمكنه منه، فهذا يتقاعد عما سبق، لعدم احتواء الطالب على ما تحمله وغيبته عنه. وجائز له رواية ذلك عنه، إذا ظفر بالكتاب أو: بما هو مقابل به على وجه يثق معه بموافقته لما تناولته الإجازة، على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة.

 

ثم إن المناولة في مثل هذا لا يكاد يظهر حصول مزية بها على الإجازة الواقعة في معين كذلك من غير مناولة. وقد صار غير واحد من الفقهاء والأصوليين إلى أنه لا تأثير لها ولا فائدة. غير أن شيوخ أهل الحديث في القديم والحديث - أو من حكي ذلك عنه منهم - يرون لذلك مزية معتبرة، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

 

ومنها: أن يأتي الطالب الشيخ بكتاب أو جزء فيقول هذا روايتك فناولنيه وأجز لي روايته فيجيبه إلى ذلك، من غير أن ينظر فيه ويتحقق روايته لجميعه، فهذا لا يجوز ولا يصح.

 

فإن كان الطالب موثوقا بخبره ومعرفته جاز الاعتماد عليه في ذلك، وكان ذلك إجازة جائزة، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتماد على الطالب، حتى يكون هو القارىء من الأصل، إذا كان موثوقا به معرفة ودينا.

 

قال الخطيب أبو بكر رحمه الله: ولو قال حدث بما في هذا الكتاب عني إن كان من حديثي، مع براءتي من الغلط والوهم كان ذلك جائزا حسنا، والله أعلم.

 

الثاني: المناولة المجردة عن الإجازة، بأن يناوله الكتاب كما تقدم ذكره أولا، ويقتصر على قوله هذا من حديثي، أو: من سماعاتي ولا يقول اروه عني، أو: أجزت لك روايته عني ونحو ذلك.

 

فهذه مناولة مختلة، لا تجوز الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها.

 

وحكى الخطيب عن طائفة من أهل العلم: أنهم صححوها وأجازوا الرواية بها، وسنذكر - إن شاء الله سبحانه وتعالى - قول من أجاز الرواية بمجرد إعلام الشيخ الطالب: أن هذا الكتاب سماعه من فلان. وهذا يزيد على ذلك ويترجح بما فيه من المناولة، فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الرواية، والله أعلم.

القول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة:

 

حكي عن قوم من المتقدمين ومن بعدهم: أنهم جوزوا إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمناولة، حكي ذلك عن الزهري ومالك، وغيرهما، وهو لائق بمذهب جميع من سبقت الحكاية عنهم: أنهم جعلوا عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعا. وحكي أيضا عن قوم مثل ذلك في الرواية بالإجازة.

 

وكان الحافظ أبو نعيم الأصبهاني - صاحب التصانيف الكثيرة في علم الحديث - يطلق أخبرنا فيما يرويه بالإجازة. روينا عنه أنه قال: أنا إذا قلت حدثنا فهو سماعي، وإذا قلت أخبرنا على الإطلاق فهو إجازة من غير أن أذكر فيه إجازة، أو كتابة، أو كتب إلي. أو أذن لي في الرواية عنه.

 

وكان أبو عبيد الله المرزباني الأخباري - صاحب التصانيف في علم الخبر - يروي أكثر ما في كتبه إجازة من غير سماع، ويقول في الإجازة أخبرنا ولا يبينها، وكان ذلك - فيما حكاه الخطيب - مما عيب به.

 

والصحيح - والمختار الذي عليه عمل الجمهور، وإياه اختار أهل التحري والورع - المنع في ذلك من إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحوهما من العبارات، وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به، بأن يقيد هذه العبارات فيقول: أخبرنا، أو: حدثنا فلان مناولة وإجازة، أو: أخبرنا إجازة، أو: أخبرنا مناولة، أو: أخبرنا إذنا، أو: في إذنه، أو: فيما أذن لي فيه، أو: فيما أطلق لي روايته عنه. أو يقول: أجاز لي فلان، أو: أجازني فلان كذا وكذا، أو: ناولني فلان وما أشبه ذلك من العبارات.

 

وخصص قوم الإجازة بعبارات لم يسلموا فيها من التدليس، أو طرف منه، كعبارة من يقول في الإجازة أخبرنا مشافهة إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظا، كعبارة من يقول أخبرنا فلان كتابة، أو: فيما كتب إلي، أو: في كتابه إذا كان قد أجازه بخطه. فهذا - وإن تعارفه في ذلك طائفة من المحدثين المتأخرين - فلا يخلو عن طرف من التدليس، لما فيه من الاشتراك والاشتباه بما إذا كتب إليه ذلك الحديث بعينه.

 

وورد عن الأوزاعي أنه خصص الإجازة بقوله خبرّنا بالتشديد، والقراءة عليه بقوله أخبرنا.

 

واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة، وهو الوليد ابن بكر صاحب الوجازة في الإجازة. وقد كان أنبأنا عند القوم - فيما تقدم - بمنزلة أخبرنا، وإلى هذا نحا الحافظ المتقن أبو بكر البيهقي إذ كان يقول أنبأني فلان إجازة، وفيه أيضا رعاية لاصطلاح المتأخرين، والله أعلم.

 

وروينا عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ رحمه الله أنه قال: الذي أختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري: أن يقول فيما عرض على المحدث فأجاز له روايته شفاها أنبأني فلان وفيما كتب إليه المحدث من مدينة، ولم يشافهه بالإجازة كتب إلي فلان.

 

وروينا عن أبي عمرو بن أبي جعفر بن حمدان النيسابوري قال: سمعت أبي يقول: كل ما قال البخاري قال لي فلان فهو عرض ومناولة.

 

قلت: وورد عن قوم من الرواة التعبير عن الإجازة بقول أخبرنا فلان أن فلانا حدثه، أو: أخبره. وبلغنا ذلك عن الإمام أبي سليمان الخطابي أنه اختاره أو حكاه، وهذا اصطلاح بعيد عن الإشعار بالإجازة، وهو فيما إذا سمع منه الإسناد فحسب وأجاز له ما رواه قريب، فإن كلمة أن في قوله أخبرني فلان أن فلانا أخبره فيها إشعار بوجود أصل الإخبار وإن أجمل المخبر به ولم يذكره تفصيلا.

 

قلت: وكثيرا ما يعبر الرواة المتأخرون عن الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ المسمع بكلمة عن فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه قرأت على فلان عن فلان وذلك قريب فيما إذا كان قد سمع منه بإجازته عن شيخه، إن لم يكن سماعا فإنه شاك، وحرف عن مشترك بين السماع والإجازة صادق عليهما، والله أعلم.

 

ثم اعلم: أن المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا في الإجازة لا يزول بإباحة المجيز لذلك، كما اعتاده قوم من المشايخ من قولهم في إجازتهم لمن يجيزون له، إن شاء قال حدثنا وإن شاء قال أخبرنا فليعلم ذلك والعلم عند الله تبارك وتعالى.

القسم الخامس من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه: المكاتبة:

 

وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئا من حديثه بخطه، أو يكتب له ذلك وهو حاضر. ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب له ذلك عنه إليه.

 

وهذا القسم ينقسم أيضا إلى نوعين:

 

أحدهما: أن تتجرد المكاتبة عن الإجازة.

 

والثاني: أن تقترن بالإجازة، بأن يكتب إليه ويقول أجزت لك ما كتبته لك، أو: ما كتبت به إليك أو نحو ذلك من عبارات الإجازة.

 

أما الأول: وهو ما إذا اقتصر على المكاتبة: فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين، منهم أيوب السختياني، ومنصور، والليث بن سعد، وقاله غير واحد من الشافعيين، وجعلها أبو المظفر السمعاني منهم أقوى من الإجازة، وإليه صار غير واحد من الأصوليين.

 

وأبى ذلك قوم آخرون. وإليه صار من الشافعيين القاضي الماوردي وقطع به في كتابه الحاوي.

 

والمذهب الأول هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث. وكثيرا ما يوجد في مسانيدهم ومصنفاتهم قولهم كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان والمراد به هذا. وذلك معمول به عندهم، معدود في المسند الموصول. وفيها إشعار قوي بمعنى الإجازة، فهي وإن لم تقترن بالإجازة لفظا فقد تضمنت الإجازة معنىً.

 

ثم يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب، وإن لم تقم البينة عليه.

 

ومن الناس من قال: الخط يشبه الخط فلا يجوز الاعتماد على ذلك. وهذا غير مرضي، لأن ذلك نادر، والظاهر: أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه التباس.

 

ثم ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم، منهم الليث بن سعد ومنصور: إلى جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة.

 

والمختار: قول من يقول فيها كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان بكذا وكذا وهذا هو الصحيح اللائق بمذاهب أهل التحري والنزاهة. وهكذا لو قال أخبرني به مكاتبةً أو كتابةً ونحو ذلك من العبارات.

 

أما المكاتبة المقرونة بلفظ الإجازة: فهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة، والله أعلم.

القسم السادس من أقسام الأخذ ووجوه النقل: إعلام الراوي لطالب:

 

بأن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه من فلان، أو روايته. مقتصرا على ذلك، من غير أن يقول اروه عني، أو: أذنت لك في روايته ونحو ذلك.

 

فهذا عند كثيرين طريق مجوز لرواية ذلك عنه ونقله. حكي ذلك عن ابن جريج، وطوائف من المحدثين والفقهاء والأصليين والظاهريين، وبه قطع أبو نصر بن الصباغ من الشافعيين، واختاره ونصره أبوالعباس الوليد بن بكر الغمري المالكي في كتاب الوجازة في تجويز الإجازة.

 

وحكى القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي صاحب كتاب الفاصل بين الراوي والواعي عن بعض أهل الظاهر: أنه ذهب إلى ذلك واحتج له. وزاد فقال: لو قال له هذه روايتي، لكن لا تروها عني كان له أن يرويها عنه، كما لو سمع منه حديثا ثم قال له لا تروه عني ولا أجيزه لك لم يضره ذلك.

 

ووجه مذهب هؤلاء اعتبار ذلك بالقراءة على الشيخ، فإنه إذا قرأ عليه شيئا من حديثه، وأقر بأنه روايته عن فلان بن فلان، جاز له أن يرويه عنه، وإن لم يسمعه من لفظه، ولم يقل له اروه عني، أو: أذنت لك في روايته عني، والله أعلم.

 

والمختار: ما ذكر عن غير واحد من المحدثين وغيرهم من: أنه لا تجوز الرواية بذلك. وبه قطع الشيخ أبو حامد الطوسي من الشافعيين، ولم يذكر غير ذلك. وهذا لأنه قد يكون ذلك مسموعه وروايته، ثم لا يأذن له في روايته عنه، لكونه لا يجوز روايته لخلل يعرفه فيه، ولم يوجد منه التلفظ به، ولا ما يتنزل منزلة تلفظه به، وهو تلفظ القارئ عليه وهو يسمع ويقر به حتى يكون قول الراوي عنه السامع ذلك حدثنا وأخبرنا صدقا، وإن لم يأذن له فيه.

 

وإنما هذا كالشاهد، إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن سمعه أن يشهد على شهادته، إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته.

 

وذلك مما تساوت فيه الشهادة والرواية، لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك، وإن افترقا في غيره.

 

ثم إنه يجب عليه العمل بما ذكره له إذا صح إسناده، وإن لم تجز له روايته عنه، لأن ذلك يكفي فيه صحته في نفسه، والله أعلم.

القسم السابع من أقسام الأخذ والتحمل: الوصية بالكتب:

 

أن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص. فروي عن بعض السلف رضي الله تعالى عنهم: أنه جوز بذلك رواية الموصى له لذلك عن الموصي الراوي. وهذا بعيد جدا، وهو إما زلة عالم، أو متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.

 

وقد احتج بعضهم لذلك فشبهه بقسم الإعلام وقسم المناولة، ولا يصح ذلك، فإن لقول من جوز الرواية بمجرد الإعلام والمناولة مستندا ذكرناه، لا يتقرر مثله، ولا قريب منه ههنا، والله أعلم.

القسم الثامن: الوجادة:

 

وهي مصدر ل وجد يجد، مولد غير مسموع من العرب. روينا عن المعافى بن زكريا النهرواني العلامة في العلوم: أن المولدين فرعوا قولهم وجادة فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة، من تفريق العرب بين مصادر وجد للتمييز بين المعاني المختلفة، يعني قولهم وجد ضالته وُجدنا، ومطلوبه وجودا وفي الغضب موجدة وفي الغنى وُجدا وفي الحب وَجدا.

 

مثال الوجادة: أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه، أو: لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه، ولا له منه إجازة ولا نحوها. فله أن يقول وجدت بخط فلان، أو: قرأت بخط فلان، أو: في كتاب فلان بخطه: أخبرنا فلان بن فلان ويذكر شيخه، ويسوق سائر الإسناد والمتن. أو: يقول وجدت، أو: قرأت بخط فلان عن فلان ويذكر الذي حدثه ومن فوقه.

 

هذا الذي استمر عليه العمل قديما وحديثا، وهو من باب المنقطع والمرسل، غير أنه أخذ شوبا من الاتصال بقوله وجدت بخط فلان.

 

وربما دلّس بعضهم فذكر الذي وجد خطه وقال فيه عن فلان، أو: قال فلان وذلك تدليس قبيح، إذا كان بحيث يوهم سماعه منه، على ما سبق في نوع التدليس.

 

وجازف بعضهم فأطلق فيه حدثنا وأخبرنا وانتقد ذلك على فاعله.

 

وإذا وجد حديثا في تأليف شخص وليس بخطه فله أن يقول ذكر فلان، أو: قال فلان: أخبرنا فلان، أو: ذكر فلان عن فلان. وهذا منقطع لم يأخذ شوبا من الاتصال.

 

وهذا كله إذا وثق بأنه خط المذكور أو كتابه، فإن لم يكن كذلك فليقل بلغني عن فلان، أو: وجدت عن فلان أو: نحو ذلك من العبارات. أو ليفصح بالمستند فيه، بأن يقول ما قاله بعض من تقدم قرأت في كتاب فلان بخطه، وأخبرني فلان أنه بخطه أو يقول وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان، أو: في كتاب ذكر كاتبه أنه فلان بن فلان، أو في كتاب قيل إنه بخط فلان.

 

وإذا أراد أن ينقل من كتاب منسوب إلى مصنف فلا يقل قال فلان كذا وكذا إلا إذا وثق بصحة النسخة، بأن قابلها هو أو ثقة غيره بأصول متعددة، كما نبهنا عليه في آخر النوع الأول. وإذا لم يوجد ذلك ونحوه فليقل بلغني عن فلان أنه ذكر كذا وكذا، أو: وجدت في نسخة من الكتاب الفلاني وما أشبه هذا من العبارات.

 

وقد يتسامح أكثر الناس في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحر وتثبت، فيطالع أحدهم كتابا منسوبا إلى مصنف معين، وينقل منه عنه من غير أن يثق بصحة النسخة، قائلا قال فلان كذا وكذا، أو: ذكر فلان كذا وكذا.

 

والصواب ما قدمناه: فإن كان المطالع عالما فطنا، بحيث لا يخفى عليه في الغالب مواضع الإسقاط والسقط، وما أحيل عن جهته إلى غيرها، رجونا أن يجوز له إطلاق اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك. وإلى هذا - فيما احسب - استروح كثير من المصنفين فيما نقلوه من كتب الناس، والعلم عند الله تعالى. هذا كله كلام في كيفية النقل بطريق الوجادة.

 

وأما جواز العمل اعتمادا على ما يوثق به منها: فقد روينا عن بعض المالكية: أن معظم المحدثين والفقهاء من المالكيين وغيرهم لا يرون العمل بذلك.

 

وحكي عن الشافعي وطائفة من نظّار أصحابه جواز العمل به.

 

قلت: قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة به. وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه. وما قطع به هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسدَّ باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها، على ما تقدم في النوع الأول، والله أعلم.

النوع الرابع والعشرون: معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله

ابن الصلاح   النوع الخامس والعشرون: في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده ==قلت المدون يستأنف بمشيئة الله في التالي من الصفحات 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...