روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 13. و14. محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

 

13. : مجلد 13.محاسن التأويل  محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 6 - 7 ] .
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } أي : بالزنى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى : { وَالْخَامِسَةُ } أي : والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة : { أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى . فيسقط عنه حد القذف ، ويجب عليها الحد وهو الرجم . إلا إن لاعنت أيضاً . كما قال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [ 8 - 10 ] .
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } أي : الدنيوي وهو الرجم : { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى : { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ } أي : الزوج : { مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } أي : لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم ، ولكن لرحمته ولطفه ، شرع لكم من الفرج والمخرج ، ما أنزله وأحكمه .
تنبيهات :
الأول : قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها كما أمر الله عزَّ وجلَّ . وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به . فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين . أي : فيما رماها به من الزنى . والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . فإذا قال ذلك بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء . وحرمت عليه أبداً . ويعطيها مهرها . ويتوجه عليها حد الزنى . ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . أي : فيما رماها به . والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .
الثاني : روي في الصحيح أن ذلك وقع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلاً رأى مع امرأته رجلاً ، أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قضى الله فيك وفي امرأتك . وتلا عليه ما نزل من هذه الآية . فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وصح أيضاً أنها قد وقعت لرجلين سمِّيا . وقد اختلف شراح الصحيح في معنى ما روي من أنها نزلت فيهما معاً .
وإذا راجعت ما كتبناه في المقدمة في معنى سبب النزول ، زال الإشكال فارجع إليه .
الثالث : قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في اللعان ، ففيها أن شرطه سبق قذف . وأنه إنما يكون بين الزوجين لا بين الرجل وأجنبية ولا السيد وأمته . واستدل بعمومها من قال بلعان الكفار والعبيد والخصيّ والمجبوب والمحدود في القذف والأعمى والأخرس ، ومن الصغيرة التي لا تحمل والآيسة . واستدل بقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ } من قال : لا لعان إذا أقام البينة على زناها وبقوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } من قال : إن اللعان شهادة لا يمين . وقوله : { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } الخ فيه أن صيغته أن يقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين ، أربعاً والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فاستدل به من لم يجز إبدال أشهد بأحلف أو أقسم ونحوه أو اللهِ بالرحمن ونحوه أو زاد بعلم الله ونحوه ومن لم يوجب زيادة : الذي لا إله إلا هو , ومن لم يجز إسقاط : إني لمن الصادقين , ولا إبدالها بما كذبت عليها ونحوه ولا الاكتفاء بدون أربع ، خلافاً لأبي حنيفة ، في اكتفائه بثلاث شهادات . ولا تقديم اللعنة على الشهادة ، أو توسطها ، أو إبدالها بالغضب . وقوله تعالى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } الآية ، فيه أن لعانه يوجب على المرأة حد الزنى وأن لها دفعه بأن تقول أربع مرات . أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها الخ . وفيه أيضاً أنه لا يجوز لها أن تبدل أشهد بأحلف أو الغضب باللعنة إلى آخر ما تقدم . واستدل به على أنه لا يجوز تقديم لعانها على لعانه . انتهى .
الرابع : اعلم أن الحد الواجب بالزنى نوعان : جلد ورجم . فالجلد حد البكرين الحرّين إذا زنيا . فيجلد كل واحد منهما مائة جلدة . وفي تغريبهما سَنة ، وتغريب الزاني وحده كذلك ، خلاف . نعم ، إذا رآه الإمام مصلحة فلا خلاف في إمضائه . والرجم حد الزانيين المحصنين . والإحصان عبارة عن البلوغ والعقل والحرية والدخول في النكاح الصحيح . فلا يقتل بالسيف ، بل ينكل بالرجم ، لا بصخرة تدفف ، ولا بحصيات تعذب ، بل بحجارة معتدلة ، كما في " الوجيز " وقد اعترض جماعة الخوارج على تشريع الرجم في الإسلام وقالوا : إن الله لم يأمر به في كتابه العزيز . فالذي ورد في عقاب الزنى في القرآن حكمان . أحدهما قوله تعالى : { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } [ النساء : 15 - 16 ] ، وهذا الحكم قد نسخ - أي : بيّن - بالحكم الثاني وهو قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 2 ] ، هذه حجة الخوارج . أما حجة الإجماع فهي ورود الآثار الصحيحة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم المحصن ، وفعلَه . وروي لذلك جملة أحاديث وأحكام عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، كذا في كتاب " المقابلات " وسبقه الرازيّ في " تفسيره " فطوَّل النفس في سوق شبهة الخوارج ، وأجاب عنها بما ملخصه : أن الآية المذكورة مخصوصة بالبكر ، خصصها بالخبر المتواتر بالرجم ، وتخصيص القرآن الكريم بخبر الواحد جائز . فأولى بالمتواتر . وثانياً - قال - إنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح . فلعل المصلحة التي تقتضي وجوب الرجم ، حدثت بعد نزول تلك الآيات . انتهى .
قال صاحب " المقابلات " : إن الشريعة الإسلامية متفقة مع الشرع العبري في أغلب أحكام الزنى ، ولم يرد في الديانة المسيحية نص صريح ينسخ حكم اليهودية في الزنى . ولكن يروى عن عيسى عليه السلام ، ما يؤخذ منه ضمناً ، عدم إمكان إقامة حد الرجم . لأنه اشترط براءة الراجمين من كل عيب ، وأمر الزانية ، التي اعترفت بين يديه ، بالتوبة والاستغفار . أما حكم الزنى في القوانين الحديثة فيخالف مخالفة كلية لحكم الشريعة الغراء ، وحكم التوراة والإنجيل . انتهى كلامه .
وفقنا الله لحفظ حدوده ، وجنبنا محارمه بمنه وكرمه .
التنبيه الرابع : من مباحث اللفظ في الآية أن يقال : قد وردت الفاصلة في غير هذا الموضع بتواب رحيم فعلام فصلت هنا بتواب حكيم مع أن التوبة مع الرحمة ، فيما يظهر ؟
والجواب : أن الله عزَّ وجلَّ حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها . وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده . وذلك حكمة منه . ففصلت هذه الآية بتواب حكيم إثر بيان الحكم . جمعاً بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية ، وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة . فافهم ذلك . أشار له ابن الأثير في " المثل السائر " .
ثم أشار تعالى إلى نبأ الإفك ، وتبرئة عائشة رضي الله عنها ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 11 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } أي : بأبلغ ما يكون من الكذب ، وقيل هو البهتان لا تشهر به حتى يفجأك . والمراد به ما أفك به الصديقة ، أم المؤمنين رضي الله عنها ؟ فاللام للعهد ويجوز حمله على الجنس . قيل : فيفيد القصر ، كأنه لا إفك إلا هو . وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل : { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي : جماعة منكم ، خبر إن ومنكم نعت لها . وبه أفاد الخبر . وقوله تعالى : { لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ } مستأنف ، والهاء ضمير الإفك أو القذف . والخطاب لرسول الله صلوات الله عليه ، ولآل الصديق رضي الله عنهم ، ولمن ساءه ذلك من المؤمنين . تسلية لهم من أول الأمر . وقوله تعالى : { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } زيادة في التسلية والتكريم . أي : لا تظنوه يلحق تهمة بكم أو يوقع نقيصة فيكم ، بل قد جرّ لكم خيراً عظيماً .
قال الزمخشريّ : ومعنى كونه خيراً لهم ، أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم . لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنة ظاهرة . وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ، بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ، وتنزيهٌ لأم المؤمنين رضوان الله عليها ، وتطهير لأهل البيت, وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه . وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة . وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } أي : جزاؤه ، وذلك الذم في الدنيا إلى يوم القيامة ، والجلد ثمانين . ولعذاب الآخرة أشد : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : قام بعظمه وإشاعته ، بعد ابتدائه بالخوض فيه ، وهو رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ ، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتهازه الفرص ، وطلبه سبيلاً إلى الغميزة .
روى الطبري عن ابن زيد قال : أما الذي تولى كبره فعبد الله بن أُبيّ بن سلول الخبيث . هو الذي ابتدأ هذه الكلام وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقود بها . والعذاب العظيم يعم عذابي الدارين ، كما قلنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } [ 12 ] .
{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } أي : بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات ، كقوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] ، قال الشهاب : وهذا من بديع الكلام . وقد وقع في القرآن كثيراً . وهو بحسب الظاهر يقتضي أن كل واحد يظن بنفسه خيراً ، وليس بمراد . بل أن يظن بغيره ذلك . وتوجيهه أنه مجاز لجعله اتحاد الجنس كاتحاد الذات ولذا فسر قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ، بلا تقتلوا من كان من جنسكم أو يجعلهم كنفس واحدة ، فمن عاب مؤمناً فكأنما عاب نفسه ، ويجوز أن يقدر فيه مضاف . أي : ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر . وقال الكرماني في حديث : < أموالكم علكم حرام > إنه كقولهم : بنو فلان قتلوا أنفسهم أي : قتل بعضهم بعضاً ، مجازاً أو إضماراً للقرينة الصارفة عن ظاهره . ولولا تحضيضية بمعنى : هلا : { وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي : هذا الذي سمعناه ، من رمي أم المؤمنين ، إفك مبين جليّ لمن عقل وفكر فيه . قال العلامة الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ؟ ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة ؟ وعن الضمير إلى الظاهر ؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات . وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتضٍ ألا يصدق مؤمن على أخيه ، ولا مؤمنة على أختها ، قولَ عائب ولا طاعن . وفيه تنبيه على أن حق المؤمن ، إذا سمع قالة ً في أخيه ، أن يبني الأمر فيها على الظن ، لا على الشك . وأن يقول بملء فيه - بناءً على ظنه بالمؤمن الخير - : { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } . هكذا باللفظ المصرح ببراءة ساحته . كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال . وهذا يدل من الأدب الحسن الذي قلّ القائم به والحافظ له . وليتك تجد من يسمع فيسكت ، ولا يشيع ما سمعه بأخواتٍ ! انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ 13 ] .
{ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ } أي : في حكمه وشريعته المؤسسة على الدلائل الظاهرة المستيقنة : { هُمُ الْكَاذِبُونَ } أي الكاملون في الكذب ، المشهود عليهم بذلك . قال الزمخشري : وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدّوا في دفعه وإنكاره . واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع ، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل به ، إذا قذف امرأة محصنة من عُرْضِ نساء المؤمنين . فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبيبة حبيب الله ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 14 ] .
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : لعوجلتم بالعقاب ، بسبب ما خضتم فيه من الإفك . ولكنه واسع الفضل والرحمة . يمهل المذنب للتوبة ، ويحلم عنه للأوبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ 15 ] .
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } أي : وقت تلقّي بعضكم من بعض : { بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً } أي : لا تبعة له ولا عقوبة على مشيعه : { وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } أي : والحال أنه عظيم في الوزر واستجرار العذاب . قال المهايمي : لأن الجراءة على رسول الله وعلى أوليائه ، تشبه الجراءة على الله تعالى . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : { بِأَفْوَاهِكُمْ } والقول لا يكون إلا بالفم ؟ قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه اللسان . وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم ، ويدور في أفواهكم ، من غير ترجمة عن علمٍ به في القلب . كقوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عِمْرَان : 167 ] . انتهى . فالقيد ليس تأكيداً صرفاً ، كنظر بعينه بل ليفيد نفيَه عما عداه . وقيل إنه توبيخ ، كما تقول : قاله بملء فيه , فإن القائل ربما رمز ، وربما صرّح وتشدّق . وقد قيل هذا في قوله : { بدت البغضاء } [ آل عِمْرَان : 118 ] وقيل : فائدته ألا يظن أنه كلام نفسي . فهو تأكيد لدفع المجاز . والسياق يقتضي الأول . كذا في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ 16 ] .
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ } أي : تكذيباً لمشيعيه : { مَا يَكُونُ لَنَا } أي : ما يصح لنا بوجه ما : { أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أي : تنزيهاً لك ، وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء . فإنه بهتان عظيم يستحيل صدقه . قال الزمخشري : كلمة سبحانك للتعجب من عظم الأمر . فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح ؟ قلت : الأصل في ذلك ، أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه . ثم كثر حتى استعمل في كل متعجَّب منه . أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيّه عليه السلام فاجرة . انتهى .
فعلى الأول ، هو من المجاز المتفرع على الكناية ، وهو كثير . وقد ذكره النووي في " الأذكار " وكذا لا إله إلا الله تستعمل للتعجب أيضاً . وأما الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في مقام التعجب فلم ترد ولم تسمع في لسان الشرع . وقد صرح الفقهاء بالمنع . وإنما وقع من العوامّ وبعض المحدثين كقوله :
~فمن رأى حُسْنَهُ المفدّى في الحالِِ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدْ
وعلى الثاني ، هو حقيقة . كذا في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 17 - 18 ] .
{ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن الاتّصاف يصدّ عن كل مقبح : { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ } أي : الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب ، دلالة واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها . أي : ينزلها كذلك مبينة ، ظاهرة الدلالة على معاينها : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
ثم أشار تعالى إلى تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيءّ ، فعلق بذهنه منه شيء ، ألا يتكلم به ولا يذيعه ، بقوله سبحانه متوعداً :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ 19 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } أي : تنتشر الخصلة المفرطة في القبح ، وهي الفرية والرمي بالزنى ونحوه ، كاللواط وما عظم فحشه : { فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا } أي : من الحدّ وغيره ، مما يتفق من البلايا الدنيوية : { وَالْآخِرَةِ } أي : من عذاب النار : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي : ما في القلوب من الأسرار والضمائر : { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } يعني أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة ، وهو معاقِبُهُ عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ 20 ] .
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } تكرير للمنّة ، بترك المعاجلة بالعقاب ، للدلالة على عظم الجريمة . وحذف الجواب وهو مستغني عنه بذكره مرة . وهو لمسّكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 21 - 22 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : بإشاعة الفاحشة : { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى } أي : ما طهر من دنسها : { مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } من عباده بإلهامه التوبة والإنابة : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال الزمخشري : يأتل من ائتلى إذا حلف ، افتعال من الأليّة وهو القَسَم وقيل من قولهم : ما ألوت جهداً إذا لم تدخر منه شيئاً . ويشهد للأول قراءة الحسن : وَلا يتأل والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان . أو لا يقصّروا في أن يحسنوا إليهم ، وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها ، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح . وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم ، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم وسيأتي سبب نزولها فيمن عُني بها .
ثم بيّن تعالى وعيد القاذفين للبريئات ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 23 - 24 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ } أي : العفائف عن الفاحشة ، النقيات القلوب عنها : { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا } بالذم والحد وردّ الشهادة إلا إذا تابوا : { وَالْآخِرَةِ } أي : حيث يلعنهم ثمة الملائكة ومن شاء الله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها أو بظهور آثار ما عملوه عليها . بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه . وذلك بكيفية يعلمها الله . فهو استعارة . ورجع الأول لقوله : { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] ، فظاهره الحقيقة ، وحمله على الثاني بعيد . قيل : سيأتي في " يس " : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ يّس : 65 ] ، والختم على الأفواه ينافي شهادة الألسنة . والجواب أن الختم على الأفواه معناه المنع عن التكلم بما يريده وينفعه ، بحسب زعمه ، اختياراً . كالإنكار والاعتذار ، أو أن هذا في حال ، وذلك في حال ، أو كل منهما في حق قوم غير الآخرين ، أو هذا في حق القَذَفَة ، وذاك في حق الكفرة - وليس بشيء - إذ لا منافاة فالسر في التصريح بالألسنة هنا ، وعدم ذكرها هناك ، أن الآية لما كانت في حق القاذف بلسانه ، وهو مطالب معه بأربعة شهداء ، ذكر هنا خمسة أيضاًَ ، وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه ، جزاءًَ له من جنس فعله . كذا في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [ 25 ] .
{ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم إذ تشهد عليهم بما ذكر : { يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ } أي : جزاءهم : { الْحَقَّ } أي : الواجب الثابت : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } أي : المظهر للأمور كما هي في أنفسها . ثم أشار تعالى إلى ما يؤكد التبرئة من شاهد العرف والعادة ، في أنه لا يضم الشكل إلا إلى شكله ، ولا يساق الأهل إلا إلى أهله ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 26 ] .
{ الْخَبِيثَاتُ } أي : من النساء : { لِلْخَبِيثِينَ } أي : من الرجال : { وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } أي : بحيث لا يكاد يتجاوز كلُّ واحد إلى غيره . والطيب : ضد الخبيث وهو الأفضل من كل شيء والأحسن والأجود . قال أبو السعود : وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين كون الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة . واتضح [ في المطبوع : إتضح ] بطلان ما قيل في حقها من الخرافات ، حسبما نطق به قوله تعالى : { أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو الجنة . وبهذه الآية تم نبأ أهل الإفك .
واعلم أن ما اشتملت عليه الآيات من الأحكام والفوائد والمطالب والآداب ، لا تفي بها مجلدات . إلا أنا نشير إلى شيء من ذلك ، نقتبسه من أهم المراجع ، تتميماً لما أجملناه في تأويلها .
فالأول : أن نبأ الإفك كان في غزوة المريسيع تصغير مرسوع ، بئر أو ماء لخزاعة وكانت في شعبان سنة خمس . وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار ، سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يردي حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من أصحابه . وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها ، فأغار عليهم ، فسبى ذراريّهم وأموالهم . وكانت عائشة رضي الله عنها قد خرجت معه ، عليه الصلاة والسلام ، في هذه الغزوة , بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه . فلما رجعوا من الغزوة ، نزلوا في بعض المنازل . فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه . فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها . فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها ، فظنوها فيه ، فحملوا الهودج ، ولا ينكرون خفته ، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها . وأيضاً ، فإن النفر لم تساعدوا على حمل الهودج ، لم ينكروا خفته . ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال . فرجعت عائشة إلى منزلهم وقد أصابت العقد ، فإذا ليس لها داع ولا مجيب . فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره ، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل بفتح الطاء المشدودة سلمى ذكواني صحابي فاضل متقدم الإسلام : إنا لله وإنا إليه راجعون . زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم وفي السنن . فلما رآها عرفها . وكان يراها قبل نزول الحجاب . فاسترجع وأناخ راحلته ، فقربها إليها ، فركبتها . وما كلمها كلمة واحدة . ولم تسمع منه إلا استرجاعه . ثم سار بها يقودها حتى قدم بها ، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به . ووجد الخبيث عدو الله ابن أبيّ متنفساً . فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه . فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه . وكان أصحابه يتقربون إليه . فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم . ثم أستشار أصحابه في فراقها ، فأشار عليه عليّ رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها ، تلويحاً لا تصريحاً . وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها ، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء . فعلي ، لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه ، أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء . وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها ، وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ، ما هي فوق ذلك وأعظم منه ، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه ؛ أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته ، من النساء وبنت صديقه بالمنزل الذي أنزلها به أرباب الإفك . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغياً . وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله . ومن قويت معرفة الله ومعرفة رسوله وقدره عند الله في قلبه - قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة ، لما سمعوا ذلك : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في ذلك المقام ، من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه ، امرأة خبيثة بغياً . فمن ظن به سبحانه هذا الظن ، فقد ظن به السوء . وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله ، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها . كما قال تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } فقطعوا قطعاً لا يشكون فيه ، أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة .
فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده فيما يليق به . وهلا قال : سبحانك هذا بهتان عظيم ، كما قاله فضلاء الصحابة ؟ فالجواب : أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سبباً لها ، وامتحاناً وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة . ليرفع بهذه القصة أقواماً ويضع بها آخرين . ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيماناً ، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً . واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهراً في شأنها . لا يوحي إليه في ذلك بشيء ليتم حكمته التي قدَّرها وقضاها ، ويظهر على أكمل الوجوه ، ويزداد المؤمنون الصادقون إيماناً وثباتاً على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده . ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً . ويظهر للرسول وللمؤمنين سرائرهم ، ولتم العبودية المرادة من الصدّيقة وأبيها . وتتم نعمة الله عليهم ، ولتشدد الفاقة والرغبة منها ومن أبيها ، والافتقار إلى الله ، والذل له ، وحسن الظن به ، والرجاء له . ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق . ولهذا وقّت لهذا المقام حقه ، لما قال لها أبوها : قومي إليه ، وقد انزل الله عليه براءتها ، قالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي .
وأيضا ، فكان من حكمة حبس الوحي شهراً ، أن القضية نضجت وتمخضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف ، إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها .
وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع . فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصديق ، وأهله وأصحابه ، والمؤمنون . فورد عليهم ورود الغيث على الأرض ، أحوج ما كانت إليه . فوقع منهم أعظم موقع وألطفه . وسروا به أتم السرور ، وحصل لهم به غاية الهناء . فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة ، وأنزل الوحي على الفور بذلك ، لفاتت هذه الحكم وأضعافها ، بل أضعاف أضعافها .
وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عندهم ، وكرامته عليه . وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه ، والرد على أعدائه ، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه ، بل يكون هو وحده المتولي لذلك ، الثائر لرسوله وأهل بيته .
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى . والتي رميت زوجته فلم يكن يليق أن يشهد ببراءتها . مع علمه ، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ، ولم يظن بها سوءاً قط ، وحاشاه وحاشاها . ولذلك لما استعذر من أهل الإفك ، قال : < من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ والله ! ما علمت على أهلي إلا خيراً . ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً . وما كان يدخل على أهلي إلا معي > فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين . لكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه ، وثقته به ، وفَّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه . حتى جاء الوحي بما أقر عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه .
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك ، فحدوا ثمانين ثمانين . ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبيّ ، مع أنه رأس الإفك . فقيل : لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة . والخبيث ليس أهلاً لذلك . ولقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ، فيكفيه ذلك عن الحد . وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو بينة . وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكر من أصحابه ولم يشهدوا عليه . ولم يكن يذكره بين المؤمنين . وقيل : حد القذف حق الآدميّ ، لا يستوفي إلا بمطالبته : وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبيّ . وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته . كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مراراً . وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام . فإنه كان مطاعاً فيهم رئيساً عليهم . فلم يؤمن إثارة فتنة في حده ، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها . فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بيت جحش . وهؤلاء من المؤمنين الصادقين ، تطهيراً لهم وتكفيراً . وترك عدو الله ابن أبيّ إذاً فليس هو من أهل ذاك - هذا ما أفاده الإمام ابن القيم رحمه الله في " زاد المعاد " وهو خلاصة الروايات في هذا الباب .
ثم قال رحمه الله : ومن تأمل قول الصديقة ، وقد نزلت براءتها ، فقال لها أبوها : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله - علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها . وإفراده بالحمد في ذلك المقام ، وتجديدها التوحيد ، وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها ، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له . ولثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، قالت ما قالت . إدلالاً للحبيب على حبيبه ، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال ، فوضعته موضعه . ولله ! ما كان أحبها إليه حين قالت : لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي . ولله ! ذلك الثبات والرزانة منها ، وهو أحب شيء إليها ، ولا صبر لها عنه ، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهراً . ثم صادفت الرضاء منه والإقبال ، فلم تبادر إلى القيام إليه ، والسرور برضاه وقربه ، مع شدة محبتها له . وهذا غاية الثبات والقوة . انتهى .
وطرق حديث الإفك متعددة عن أم المؤمنين عائشة وعن ابن الزبير وأم رومان وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر . ورواه من التابعين عشرة كما في " فتح الباري " وذلك في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها . ما بين مطول وموجز . ومن الثاني ما أخرجه الإمام أحمد عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل . فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث قالت : وأي حديث ؟ قالت كذا وكذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم . فخرت عائشة رضي الله عنها مغشياً عليها . فما أفاقت وإلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها . قالت : فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : فما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تحدث به ؟ قالت : فاستوت عائشة قاعدة ، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني . فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] .
قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عذرها . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر . فدخل فقال : يا عائشة ! إن الله تعالى قد أنزل عذرك . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم .
قالت : وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل يعوله أبو بكر . فحلف ألاّ يصله . فأنزل الله تعالى : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } [ 22 ] , إلى آخر الآية . فقال أبو بكر : بلى ، فوصله . تفرد به البخاري .
المطلب الثاني : قال في " الإكليل " في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } [ 11 ] ، نزلت في براءة عائشة مما قذفت به ، فاستدل بها الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن قال العلماء : قذف عائشة كفر . لأن الله سبح نفسه عند ذكره . فقال : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ 16 ] ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد . وفي قوله تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } [ 12 ] ، تحريم ظن السوء ، وأنه لا يحكم بالظن . وأن من عرف بالصلاح لا يعدل به عنه لخبر مخبر . وأن القاذف مكذب شرعاً ، ما لم يأت بالشهداء . وفي قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } [ 19 ] الآية ، الحث على ستر المؤمن وعدم هتكه . أخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان ، قال : من حدث بما أبصرت عيناه وسمعت أذناه فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وأخرج عن عطاء قال : من أشاع الفاحشة فعليه النكال وإن كان صادقاً .
وأخرج عن عبد الله بن أبي زكريا ، أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو الرجل يُتكلم عنده في الرجل ، فيشتهي ذلك ولا ينكر عليه .
وفي قوله تعالى : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } [ 22 ] الآية . النهي عن الحلف ألا يفعل خيراً ، وأن [ على ] من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، يستحب له الحنث . وفيه الأمر بالعفو والصفح .
واستدل من ذهب إلى أن قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } [ 23 ] الآية ، نزلت في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، يقتل قاذفهن ، إذا لم يذكر له توبة ، كما ذكرت في قاذف غيرهن في أول السورة انتهى .
وقال ابن كثير : ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها ، والصحيح أن الآية عامة لكل المؤمنات ، ويدخل فيهن أمهات المؤمنين دخولاً أوليّاً ، لا سيما من كانت سبب نزولها ، وهي عائشة .
قال ابن كثير : وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة ، على أن من سبها بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما : أنهن كهي . والله أعلم .
الثالث : قال الإمام ابن تيمية في قوله تعالى : { الخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثِينَ } الآية أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين . فلا تكون خبيثة لطيّب . فإنه خلاف الحصر . وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيب لخبيثة ، فإنه خلاف الحصر . إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين . فلا يبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة . وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين . فلا يبقى طيّبة لخبيث . فجاء الحصر من الجانبين ، موافقاً لقوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ 3 ] الآية . ولهذا قال من قال من السلف : ما بغت امرأة نبيّ قط , فإن السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك .
ولهذا لما صارت شبهة ، استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلاقها . إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة ، وقد روي أنه : < لا يدخل الجنة ديوث > وهو الذي يقر السوء في أهله ، ولهذا كانت الغيرة على الزنى مما يحبها الله وأمر بها . حتى قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني > ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجاً ، أن يلاعن ، لأجل ما أمر به من الغيرة ، ولأنها أفسدت فراشه ، وإن حبلت من الزني ، فعليه اللعان ، لئلا يلحق به من ليس منه . ومضت السنّة بالتفريق بينهما ، سواء حصلت الفرقة بالتلاعن أو بحاكم أو عند انقضاء لعان الزوج . لأن أحدهما ملعون أو خبيث . فاقترانهما يقتضي مقارنة الخبيث للطّيب . وفي صحيح مسلم من حديث عِمْرَان في الناقة التي لعنتها المرأة ، أنه أمر فأخذ ما عليها وأُرسِلَتْ . وقال : < لا تصحبنا ناقة ملعونة > . ولما اجتاز بديار ثمود قال : < لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . لئلا يصيبكم ما أصابهم > . فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب . وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي . لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ويخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عزَّ وجلَّ ، وأقل ذلك أن يكون منكراً لظلمهم ، ماقتاً لهم شانئاً ما هم فيه بحسب الإمكان . كما في قوله : < من رأى منكم منكراً لظلمهم ، فليغيره بيده الخ > . وقال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } [ التحريم : 11 ] الآية ، وكذلك ما ذكره عن يوسف وعمله لصاحب مصر لقوم كفار . وذلك أن مقارنة الكفار إنما يفعلها المؤمن في موضعين : أحدهما : أن يكون مكرهاً عليها . الثاني : أن يكون في ذلك مصلحة دينية ، راجحة على مفسدة المقارنة ، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه فيدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما ، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة . وفي الحقيقة : المكره هو من يدفع الفساد باحتمال أدناهما . وهو الأمر الذي أكره عليه قال تعالى : { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } [ النحل : 106 ] ، وقال تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } [ 33 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] ، إلى قوله : { غَفُوراً } وقال : { وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } [ النساء : 75 ] ، فقد دلت الآية على النهي عن مناكحة الزاني ، والمناكحة نوع خاص من المصاحبة . والمناكحة في أصل اللغة المجامعة . فقلوبهما تجتمع إذا عقد النكاح بينهما ، ويصير بينهما من التعاطف ما لم يكن قبل ذلك . حتى يثبت ذلك حرمة المصاهرة في غير الربيبة ، بمجرد ذلك في التوارث وعدة الوفاة وغير ذلك . وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين في مكان واحد ، وهو المعاشرة المقررة للصداق ، كما أفتى به الخلفاء . وآخر ذلك اجتماع المباضعة . وهذا ، وإن اجتمع بدون عقد نكاح ، فهو اجتماع ضعيف ، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح ودل قوله تعالى : { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } على ذلك من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ودل أيضاً على النهي عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم ، كما دل على هذا غير ذلك من النصوص . مثل قوله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] . أي : نظراءهم وأشباههم . والزواج أعمّ من النكاح المعروف . قال تعالى : { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } [ الشورى : 50 ] ، وقال : { مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ 5 ] ، وقال : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] ، وقال : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] ، وقال : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } [ النبأ : 8 ] . وقال : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ } [ التغابن : 14 ] ، وإن كان في الآية نصّ في الزوجة التي هي الصاحبة وفي الولد منها . فمعنى ذلك : في كل مشابه ومقارن في كل نوع وتابع : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } [ الإسراء : 111 ] { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] ، الآيتين . فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع طاعة الله على مراد الله . ويدل عليه الحديث الذي في السنن < لا تصاحب إلا مؤمناً . ولا يأكل طعامك إلا تقيٌّ > وفيها < المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل > وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة < إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد > إلى قوله < ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير > والضفير الحبل وهذا أمر ببيعها ولو بأدنى ما يقابله . قال أحمد : إن لم يبعها كان تاركاً لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم . والإماء اللاتي يفعلن هذا ، يكون عامتهن للخدمة . فكيف بأمة التمتع ؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه ، فكيف بالزوجة الزانية ؟ والعبد نظير الأمة ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : < لعن الله من آوى محدثاً > فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثاً . سواء كان إحداثه بالزنى أو السرقة ، أو غير ذلك ، وسواء كان الإيواء بملك اليمين ، أو نكاح ، أو غير ذلك ، لأن أقل ما فيه ترك إنكار المنكر . والمؤمن يحتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه ، بالنكاح وغيره . قال تعالى : { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] ، وكذلك المرأة التي زنى بها رجل ، فإنه لا يتزوجها إلا بعد التوبة في الأصح . كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار . لكن إذا أراد أن يمتحنها . هل هي صحيحة التوبة ؟ فقال ابن عمر : يراودها . فإن أجابته لم تصح توبتها . وإن لم تجبه فقد تابت . ونص عليه أحمد . وقيل : هذا فيه طلب الفاحشة . وقد تنقض التوبة . وقد تأمره نفسه بتحقيق ذلك . ويزين له الشيطان ، لا سيما إن كان يحبها وتحبه ، وقد ذاقته وذاقها . ومن قال بالأول قال : الأمر الذي يقصد به امتحانها ، لا يكون أمراً بما نهى الله عنه . ويمكنه أن لا يطلب الفاحشة بل يعرّض . والتعريض للحاجة جائز بل واجب في مواضع كثيرة . وأما نقضها ، فإذا جاز أن تنقض للتوبة معه ، جاز أن تنقضها مع غيره والمقصود أن تكون ممتنعة ممن يراودها . وأما تزيين الشيطان له الفعل . فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد فيه محنة . فإذا أراد المؤمن أن يصاحب أحداً ، وقد ذكر عنه الفجور ، وقيل إنه تاب ، أو كان ذلك مقولاً صدقاً أو كذباً ، فإنه يمتحنه بما يظهر به بره وفجوره ، وكذلك إذا أراد أن يولّيَ أحداً ولاية ، امتحنه ، كما أمر عُمَر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن ابن أبي موسى ، لما أعجبه سمته . فقال له : قد علمتَ مكاني عند أمير المؤمنين . فكم تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك ؟ فبذل له مالاً عظيماً . فعلم أنه ليس ممن يصلح للولاية . وكذلك في المعاملات . وكذلك الصبيان والمماليك الذين عرفوا ، أو قيل عنهم الفجور ، وأراد الرجل أن يشتريه فإنه يمتحنه . ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس ، وتارة بالجرح والتعديل ، وتارة بالاختبار والامتحان .
ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظَّم الله الفاحشة ، عظَّم ذكرها بالباطل - وهو القذف . فقال بعد ذلك : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ 4 ] الآية . ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن . ثم ذكر قصة أهل الإفك وبيّن ما في ذلك من الخير للمقذوف ، وما فيه من الإثم للقاذف ، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير ، ويقولون : هذا إفك مبين . لأن دليله كذب ظاهر . ثم أخبر أن قول بلا حجة فقال : { لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ 13 ] ، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به . وقوله : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [ 15 ] . فهذا بيان لسبب العذاب . وهو تلقي الباطل بالألسنة ، والقول بالأفواه . وهما نوعان محرمان : القول بالباطل والقول بلا علم . ثم قال سبحانه : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ 16 ] . فالأول تحضيض على الظن الحسن ، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف . ففي الأول قوله : { اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : < إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث > وقوله : { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } [ 12 ] ، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به . وفي الصحيح قوله لعائشة : < ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً > ؟ فهذا يقتضي جواز بعض الظن ، كما احتج البخاري بذلك ، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة ، يجب أن يظن به الخير دون الشر . وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان ، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم ، لقوله تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ، والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ، ما لم يجعله في شيء من المعاصي . لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط . وجعل العقوبة على القاذف بها ثمانين [ في المطبوع : ثماني ] جلدة ، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد . ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين ، كما قال عليّ : لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وكما قال عبد الرحمن بن عوف : إذا شرب هذى وإذا هذى افترى . وحد الشرب ثمانون ، وحد المفتري ثمانون . وقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } [ 19 ] . وهذا ذم لمن يحب ذلك . وذلك يكون باللقب فقط ، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح . وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها . محبة لوقوعها في المؤمنين ، إما حسداً أو بغضاً ، أو محبة للفاحشة . فكل من أحب فعلها ، ذكرها . وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها . وكذلك ذكرها غيبة محرم ، سواء كان بنظم أو نثر . وكذلك التشبيه بمن يفعلها ، منهي عنها مثل الأمر بها . فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة . فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية ، مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين . أولئك يعتبرون من الغيرة بهم ، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون . فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من فصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة . ومن ذلك قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } [ لقمان : 6 ] الآية . قيل : أراد الغناء . وقيل : أراد قصص ملوك الكفار . وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية ، فهو من الطاعة . وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة ، فهو من المعصية ، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة ، مثل النهي عنها وعنهم ، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقاً حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم - فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى . كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين . وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين ، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة . فقال تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } [ النمل : 54 ] ، الخ . في مواضع ، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه ، وليس من باب القذف واللمز . ثم توعدوه بإخراجه من القرية . وهذا حال أهل الفجور ، إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه . وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى . حيث أمر بنفي الزاني والمخنث . فمضت السنة ، بنفي هذا وهذا . وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب . وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } [ يوسف : 23 ] ، إلى قوله : { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ يوسف : 34 ] ، وما ذكره بعده من قول يوسف : { مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [ يوسف : 50 ] ، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى . وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] الآية ، ومع هذا ، فمن الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به ، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة ، حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء ، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك . حتى قال بعض السلف : كل ما حصلته من سورة يوسف أنفقته في سورة النور . وقد قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ، وقال : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً } [ التوبة : 124 ] الآيات . فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة ، ويبغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة ، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصدّ عن سبيل الله ، ومنه سماع كلام أهل البدع ، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات . والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] ، وقوله : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } [ الشعراء : 224 ] . وقوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } [ الشعراء : 221 ] ، وما بعدها ، وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } [ لقمان : 6 ] ، وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } [ 67 ] . وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [ الأعراف : 146 ] ، وقوله : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ } [ الأنعام : 116 ] ومثل هذا في القرآن كثير , فأهل المعاصي كثير في العالم , بل هم أكثر , كما قال تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] [ في المطبوع : التوبة : 67 ] الآية ، وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملاً ما يعلمه إلا الله ، وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم ، ويزينونها لمن يطيعهم . فهم أعداء الرسل وأندادهم . فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة . ويجاهدونهم عليها . وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة . ويجاهدون من يفعلها . قال تعالى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } [ التوبة : 67 ] الآية ، ثم قال : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ التوبة : 71 ] الآية ، وقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } [ النساء : 76 ] ، ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر [ بالمعروف ] والنهي عن المنكر . والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف . والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه . وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر . فإن حب الشيء وفعله ، وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما ، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر . فإن ذلك مسبوق بعلمه ، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ، ولا فعل ولا ترك . لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علماً مفصلاً يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلاً . ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها . فكما أنّا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة ، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها . بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها . وكل منهما معصية . فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية . وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملاً . فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره . وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك . وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها ، و إلى دفع أهوائهم . وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك . ولا يكون ذلك إلا بالصبر ، كما قال تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] ، وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها . وبيان ما فيها من الفساد . فإن الإنكار بالقلب واللسان ، قبل الإنكار باليد ، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة ، كما أن فيما يذكره أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه ، نحو قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ 88 - 89 ] الآيات . وهذا كثير جداً . فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم . إما كافر إما فاجر . وليس منهم من هو بعكسه . ولكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك . وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته ، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله . وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه ، وهو أدنى الإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : < من رأى منكم منكراً > إلى قوله : < وذلك أضعف الإيمان > وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه . ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد . والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < وذلك أضعف الإيمان > فيمن رأى المنكر . فأما إذا رآه ولم يعلم أنه منكر . ولم يكرهه ، لم يكن هذا الإيمان موجوداً في القلب في حال وجوده ورؤيته ، بحيث يجب بغضه وكراهته ، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا . وإذا لم يكن المنكر موجوداً لم يجب ذلك ويثاب من أنكره عند وجوده ، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتى ينكره وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال والمنكرات ، قد يعرض عنها كثير من الناس ، إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين . وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات ، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فتدبر هذا فإنه كثيراً ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران : بغض الكفر وأهله ، وبغض الفجور وأهله ، وبغض نهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ، ولا يحب أن يأمر به ، ولا يجاهد عليه بالنفس والمال . وقد قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] . وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [ التوبة : 24 ] الآية . قال : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ] . وكثير من الناس ، بل أكثرهم ، كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات ، ولا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات . فربما مالوا إليها تارة وعنها أخرى . فتكون نفس أحدهم لوامة بعد أن كانت أمارة . ثم إذا ارتقى إلى الحال الأعلى في هجر السيئات ، وصارت نفسه مطمئنة ، تاركاً للمنكرات والمكروهات ، لا تحب الجهاد ومصابرة العدوّ على ذلك ، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال فإن هذا شيء آخر داخل في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } [ النساء : 77 ] , إلى قوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً } [ النساء : 85 ] ، والشفاعة : الإعانة . إذ المعين قد صار شفيعاً للمعان . فكل من أعان على برّ أو تقوى كان له نصيب منه . ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كفل منه . وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم ، من الإعانة على البر والتقوى والإعانة على الإثم والعدوان ، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين . كما قال تعالى قبل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } [ النساء : 71 ] ، إلى قوله : { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] ، ومن هاهنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره . والفرق بين المؤمن وبين الكافر الفاجر . فإن المؤمنين يسمعون إقبال أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم ، كرؤية الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسمعهم لما بلغهم عن الله . والكافر والمنافق يسمع ويرى على وجه البغض والجهل كما قال تعالى : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } [ القلم : 51 ] الآية . وقال : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] ، وقال : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [ هود : 20 ] ، وقال : { فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] ، وقال تعالى في حق المؤمنين : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان : 73 ] ، وقال في حق الكفار : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدّاً . وكذلك النظر إلى زينة الدنيا فتنة . قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ 131 ] ، وفي آخر الحجر . وقوله : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } [ التوبة : 55 ] ، وقال : قل للمؤمنين : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ 30 ] الآية ، وقال : { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الكهف : 28 ] الآية ، وقال : { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } [ الغاشية : 17 ] الآيات ، وقال : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ يونس : 101 ] الآية ، وقال : { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [ سبأ : 9 ] الآية . وكذلك قال الشيطان : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } [ الأنفال : 48 ] ، وقال : { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } [ الشعراء : 61 ] الآيات . وقال : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } [ الأنفال : 43 ] الآيات . فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها ، منهي عنه . والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه الاعتبار مأمور به . وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك ، فمأمور به . وكذلك رؤية الاعتبار شرعاً في الجملة . فالعين الواحدة ينظر إليها تارة نظراً مأموراً به . إما للاعتبار وإما لبغض ذلك . والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه . وكذلك المولاة والمعاداة . وقد يحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه ، وهو يظن أنه نظرة عبرة . وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة ، كالذين قال الله فيهم : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] فإنها نزلت في الجدّ بن قيس لما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال : إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم . فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول . وأما ما يكون من الفعل بالجوارح ، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، داخل في هذا . بل يكون عذابه أشد . فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد المحبة . وهذه قد لا يقترن بها قول ولا فعل . فكيف إذا اقترن ؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله تعالى من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا . ومن رضي عمل قوم حشر معهم . كما حشرت امرأة لوط معهم . ولم تكن تفعل فاحشة اللواط . فإنه لا يقع من المرأة . ولكن لما رضيت فعلهم ، عَمَّها معهم العذاب . فمن هذا الباب قيل : من أعان على الفاحشة وإشاعتها ، مثل القواد . لما يحصل له من رياسة أو سؤدد أو سحت يأكله . وكذلك أهل الصناعات التي تنفق ، مثل المغنين وشربة [ في المطبوع : شرَبَهة ] الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها ، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . فإنها إذا شاعت تمكنوا من أغراضهم من الرياسة والمال وفعل الفاحشة وتمكنوا من دفع من ينكرها ، بخلاف ما إذا كانت قليلة . ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعوا إلى معصية الله وينهى عن طاعته ، منهيّ عنه محرّم . كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] ، أي : ما فيها من ذكر الله وطاعته وامتثال أمره أكبر من ذلك . وقال في الخمر والميسر : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ } [ المائدة : 91 ] ، أي : يوقعكم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء ، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهى عنه الصلاة ، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر ، كما هو الواقع . فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالاً كان أو حراماً . فإن الله سبحانه لم يذكر الجماع ، لأن الخمر لا يدعو إلى الحرام بعينه من الجماع . والسكر يزيل العقل الذي يميز به بين الحلال والحرام . والعقل الصحيح ينهى عن مواقعة الحرام . ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش . ما لا يكثر من غيرها ، حتى ريما يقع على ابنته وابنه ومحارمه . وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه . ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالسرقة والمحاربة وغير ذلك . لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغير ذلك من فواحش وغناء . وشرب الخمر يظهر أسرار الرجال ، حتى يتكلم شاربه بما في باطنه وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار ، سقوهم الخمر ، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به . وأيضاً فالخمر تصدّ الإنسان عن علمه وتدبيره . فجميع الأمور التي تصد عنها وتوقعها من المفاسد داخل في قوله تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ } [ المائدة : 91 ] وكذلك إيقاع العداوة والبغضاء هو منتهى قصد الشيطان ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر > قالوا بلى يا رسول الله ؛ قال : < إصلاح ذات البين . فإن فساد ذات البين هي الحالقة . لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين > وقد ذكرنا في غير هذا أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب يوقع العداوة والبغضاء وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من المعصية والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها ولا يرضى إلا بغاية ما قدر على ذلك . وأيضاً فالعداوة والبغضاء شر محض ، لا يحبهما عاقل . بخلاف المعاصي فإن فيها لذة . والنفوس تريدها ، والشيطان يدعو إليها ، ليوقعها في شرّ لا تهواه . والله سبحانه قد بيّن ما يريد الشيطان بالخمر والميسر ، ولم يذكر ما يريده الإنسان . ثم قال في سورة النور : { لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ 21 ] ، وكذلك في البقرة نهى عن اتباع خطواته ، وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع . وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا [ في المطبوع : لا ] علم . وقال فيها : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ } [ البقرة : 268 ] ، فذكر أن الشيطان يأمر بذلك وبعد هذا : { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً } [ البقرة : 268 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] ، وقال عن نبيّه : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ الأعراف : 157 ] الآية ، وقال عن أمته : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ آل عِمْرَان : 104 ] ، ذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي ، وتارة يقرنه بالفحشاء ، وتارة يقرن معهما البغي . وكذلك المعروف ، تارة يخصه بالأمر ، وتارة يقرن به غيره . كقوله تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } [ النساء : 114 ] الآية ، وذلك أن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب . كلفظ الفقير والمسكين . إذا عرف هذا فاسم المنكر يعمّ كل ما كرهه الله ونهى عنه . واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه . وإذا قرن المنكر بالفحشاء ، فالفحشاء مبناها على المحبة . والمنكر هو الذي تنكره القلوب . فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول فيه . فإن الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس . وكذلك البغي ، قرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس . ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء . ومنشؤه من قوة الغضب . ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها . فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر . وأما الإشراك والقول على الله بلا علم ، فإنه منكر محض . ليس في النفوس ميل إليهما . بل إنما يكونان عن عناد وظلم . فهما منكر محض بالفطرة : { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ 21 ] ، سواء كان الضمير عائداً إلى الشيطان أو إلى المتّبع . فإن من أتى ذلك ، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له . وإن كان الآتي هو الآمر . فالأمر بالفعل أبلغ من فعله . فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه .
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان . والمغني هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى . وكذلك من اتباع خطوات الشيطان ، القول على الله بلا علم . كحال أهل البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك ، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين . ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف ، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة . وأمره بالعفو . فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر ، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة ، وإيتاء المساكين واجب ، ومعونة المهاجرين واجبة ، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان إلى للإنسان بمجرد ظلمه : كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء ، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب .
وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .
فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك ، أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة ، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة . وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر . وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم . والنهي يقتضي التحريم . فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل ، كان الفعل واجباً ، لأن الحلف على ترك الجائز جائز . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
الرابع : قال الزمخشري : لو فليت القرآن كله وفتشت عما أعد به العصاة ، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة ، رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه - ما أنزل فيه ، على طرق مختلفة وأساليب مفتنّة . كل واحد منها كان في بابه ولم ينزل إلا هذه الثلاث يعني قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ } [ 23 ] ، إلى قوله تعالى : { هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [ 25 ] لكفى بها . حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً . وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة . وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا . وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك ، أن الله هو الحق المبين . فأوجز في ذلك وأشبع وفصّل وأجمل وأكد وكرر ، بما لم يقع في وعيد المشركين ، عَبْدة الأوثان ، إلا ما هو دونه في الفظاعة . وما ذلك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة . وكان يسأل عن تفسير القرآن . حتى سأل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنباً ثم تاب قبلت توبته ، إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } [ يوسف : 26 ] ، وبرأ موسى من قول اليهود فيه ، بالحجر الذي ذهب بثوبه . وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى في حجرها : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } [ 30 ] ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات . فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد أدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين .
ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فَلْيَتَلَقَّ ذلك من آيات الإفك . وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته , وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه .
فإن قلت : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل : المحصنات ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يخصصن بأن من قذفهن ، فهذا الوعيد لا حق به . وإذا أردن عائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أولاً .
والثاني : أنها أم المؤمنين ، فَجُمِعَتْ . إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان انتهى .
قال الناصر : والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم ، وعيد من وقع في عائشة ، على أبلغ الوجوه ، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات ، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم ؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأفظع من تخصيصه . هذا ومعنى قول زليخا : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ يوسف : 25 ] ، فعممت أرادت يوسف ، تهويلاً عليه وإرجافاً . والمعصوم من عصمه الله تعالى . انتهى .
الخامس : قال الإمام ابن تيمية في " منهاج السنة " ذهب كثير من أهل السنة إلى أن عائشة رضي الله عنها أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام > . والثريد هو أفضل الأطعمة ، لأنه خبز ولحم . كما قال الشاعر :
~إذا ما الخبز تأدِمُهُ بلحمٍ فذاكَ أمانة الله الثَّريدُ
وذلك أن البُر أفضل الأقوات . واللحم أفضل الإدام ، كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره . عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم > فإذا كان اللحم سيد الإدام ، والبر سيد الأقوات ، ومجموعهما الثريد ، كان الثريد أفضل الطعام .
وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال : < فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام > وفي الصحيح عن عَمْرو بن العاص قال : قلت : يا رسول الله ! أي : النساء أحب إليك ؟ قال : < عائشة > قلت : ومن الرجال ؟ قال : < أبوها > قلت : ثم من ؟ قال : < عمر , وسمى رجالاً > . وهؤلاء يقولون : قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة : < ما أبدلني الله خيراً منها > : إن صح معناه ما أبدلني خيراً لي منها : فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها . فكانت خيراَ له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة, وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين . فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة . فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئاً ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ، ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله ، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد ، كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة . فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه . لكن أنواع البر لم تحصر في ذلك . ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيماناً ، وأكثر جهاداً بنفسه وماله . كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم ، هم أفضل من كان يخدم النبي ّ صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم . كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما . وفي الجملة ، الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه . لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها ، وإن نساؤه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن ، كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين . وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، لما يعلمون من محبته إياها . حتى أن نساؤه غرن من ذلك . وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له : نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة : فقال لفاطمة : < أي : بنية أما تحبين ما أحب > ؟ قالت : بلى . قال : < فأحبي هذه > ، الحديث في الصحيحين وفي الصحيحين أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < يا عائشة ! هذا جبريل يقرأ عليك السلام > قالت : وعليه السلام ورحمة الله . ترى ما لا نرى . ووهبت سودة بنت زَمْعَة يومها لعائشة رضي الله عنهما ، بإذنه صلى الله عليه وسلم . وكان في مرضه الذي مات فيه يقول : < أين أنا اليوم > ؟ استبطاء ليوم عائشة . ثم استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فمرض فيه . وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها . وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته . حتى قال أسيد بن حضير ، لما أنزل الله آية التيمم بسببها : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة . وقد كانت نزلت آية براءتها قبل ذلك ، لما رماها أهل الإفك . فبرأها الله من فوق سبع سموات ، وجعلها من الصيّنات . وبالله التوفيق . انتهى .
وأغرب الإمام ابن حزم ، فذهب إلى أن أفضل الناس بعد الأنبياء ، نساؤه صلى الله عليه وسلم . معلوم أن عائشة فضلاهن ، وقد أسهب في ذلك في كتابه " الملل " فارجع إليه .
السادس : قال القاشاني رحمه الله تعالى : إنما عظم تعالى أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه ، بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنى وقتل النفس المحرمة ، لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية ، إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها . وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسية ، وتوريطه في المهالك الهيولانية ، والمهاوي الظلمانية ، على حسب تفاوت مبادئها ، فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف . كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ . وبالعكس لأن الرذيلة ما قابل الفضيلة . فلما كانت الفضيلة أشرف ، كان ما يقابلها من الرذيلة أخسّ ، والإفك رذيلة القوة الغضبية . فبحسب شرف الأولى على الباقيتين ، تزداد رداءة رذيلتها .
وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنساناً ، وترقيه إلى العالم العلويّ ، وتوجهه إلى الجانب الإلهي وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادت - إنما يكون بها . فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها ، واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى ، وحقت العقوبة بالنار . وهو الرين والحجاب الكلي .
ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الآلهية ، من السبعية والبهيمية ؟ وأبعد بما لا يقدر قدره ، فالإنسان برسوخ رذيلته النطفية يصير شيطاناً ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين ، يصير حيواناً كالبهيمة أو السبع ، وكل حيوان أرجى صلاحاً ، وأقرب فلاحاً من الشيطان . ولهذا قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221 - 222 ] ، ونهى هاهنا عن اتباع خطوات الشيطان . فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته ، وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه ، فيكون أخس منه وأذل ، محروماً من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوباً من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعوناً في الدنيا والآخرة ، ممقوتاً من الله والملائكة . تشهد عليه جوارحه بتبدّل صورها وتشوّه منظرها . خبيث الذات والنفس . متورطاً في الرجس . فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين . كما قال تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } وأما الطيبون المنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل . انتهى .
السابع : في سر قَرْن الزنى بالشرك في قوله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ 3 ] ، وتحقيق القول في الآية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله في " إغاثة اللهفان " : نجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات . من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدّاً . ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة ، أكثرهم شركاً . فكلما كان الشرك في العبد أغلب . كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر ، وكلما كان أعظم إخلاصاً ، كان منها أبعد ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبّد لها . بل هو من أعلى أنواع التعبّد . ولا سيما إذ استولى على القلب وتمكن منه ، صار تتيّماً . والتتيّم التعبد . فيصير العاشق عابداً لمعشوقه . وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابّه ، على حب الله وذكره والسعي في مرضاته ، بل كثيراً ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقاً بمعشوقه من الصور . كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عزَّ وجلَّ . يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه . ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله . وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله . ويتجنب سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى . فيصير آثر عنده من ربه حبّاً وخضوعاً وذلّاً وسمعاً وطاعةً ، ولهذا كان العشق والشرك متلازمين ، وإِنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط ، وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة ، فكلما قوي شرك العبد بُلي بعشق الصور وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه . والزنى واللواطة كمال لذته ، إما يكون من العشق . ولا يخلو صاحبهما منه . وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصوراً على محل واحد . بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده . فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين . ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فإنهما من أعظم الخبائث فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب . وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بعداً . ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد في " كتاب الزهد " لا يكون البطالون من الحكماء . ولا يلج الزناة ملكوت السماء . ولما كانت هذه حال الزنى كان قريباً للشرك في كتاب الله تعالى . قال الله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ 3 ] . والصواب القول بأن هذه الآية محكمة . يعمل بها لم ينسخها شيء . وهي مشتملة على خبر وتحريم . ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة . والذي أشكل منها على كثير من الناس ، واضحٌ بحمد الله تعالى . فإنهم أشكل عليهم قوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ 3 ] ، هل هو خبر أو نهي أو إباحة ؟ فإن كان خبراً فقد رأينا كثيراً من الزناة ينكح عفيفة . وإن كان نهياً فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة , فيكون نهياً له عن نكاح المؤمنات العفائف . وإباحة له نكاح المشركات والزواني ، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعاً . فلما أشكل عليهم ذلك وطلبوا للآية وجهاً يصح حملها عليه . فقال بعضهم : المراد من النكاح الوطء والزنى . فكأنه قال : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة . وهذا فاسد . فإنه لا فائدة فيه . ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك . فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية . فأي فائدة في الإخبار بذلك . ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه ، ثم قالت طائفة : هذا عام اللفظ خاص المعنى . والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة . وهي عناق وصاحبها ، فإنه أسلم واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية .
وهذا أيضاً فاسد . فإن هذه الصورة المعينة ، وإن كانت سبب النزول ، فالقرآن لا يقتصر به على محالّ أسبابه . ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها . وقالت طائفة : بل الآية منسوخة بقوله : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } [ 32 ] ، وهذا أفسد من الكل . فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين . ولا تناقض إحدى الأخرى . بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى ، وحرم نكاح الزانية ، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم . فأين الناسخ والمنسوخ في هذا ؟ فإن قيل : فما وجه الآية ؟ قيل : وجهها ، والله أعلم . أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة ، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط . كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة . والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه . والإباحة قد علقت على شرط الإحصان ، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به . فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله ، أو لا يلتزمه . فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله ، وإن التزمه وخالفه ، ونكح ما حرم عليه ، لم يصح إنكاح . فيكون زانياً ، فظهر معنى قوله : { لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } وتبين غاية البيان . وكذلك حكم المرأة . وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه ، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل . فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرناناً ديوثاً زوج بغي . فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه . ولهذا إذا بالغوا في سبّ الرجل قالوا : زوج قحبة , فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك . فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية . والله الموفق .
ومما يوضح التحريم ، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة ، أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج ، وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم . وعدّوه من جملة نعمه عليهم ، فالزني يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب . فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ . وأيضاً ، فإن الزانية خبيثة ، كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سبباً للمودة والرحمة ، والمودة خالص الحب ، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب ، زوجاً له ؟ والزوج سمي زوجاً من الازدواج فالزوجان ، الاثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعاً وقدراً . فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتوادّ . فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب ، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة . فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة ، وقد وطئها الزاني البارحة ؟ وقال : ماء الزاني لا حرمة له . فهب أن الأمر كذلك ، فماء الزوج له حرمة فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد ، والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات . وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة ، وإن كان حلالاً . وسمي فاعله جنباً لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد . فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء . فكذلك إذا كان حراماً يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة . بل يحول بينه وبين الإيمان ، حتى يحدث طهراً . كاملاً بالتوبة . وطهراً لبدنه بالماء . وقولُ اللوطية : { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ] ، من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] ، وقوله سبحانه : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ } [ المائدة : 59 ] ، وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك ، وهكذا المبتدع إنما ينقم على السنّي تجريده متابعة الرسول وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها ، فصبر الموحد المتبع للرسول ، على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة ، خير له وأنفع ، وأسهل عليه ، من صبره على ما ينقمه الله ورسوله ، عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة .
~إذا لَمْ يَكُنْ بدٌّ من الصبرِ ، فاصْطَبِرْ على الحقِّ . ذاكَ الصبرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ
لطيفة :
كتب ابن القاضي شرف الدين ابن المقري ، صاحب " الروض " إلى أبيه ، وقد قطع نفقته :
~لا تقطعنْ عادةَ بَرٍّ ، ولا تجعلْ عتابَ المرءِ في رزقِهِ
~فإن أمرَ الإفكِ مِنْ مِسْطح يحط قدر النَّجْم من أُفْقِه
~وقد جَرى منه الذي قد جَرى وعُوتِبَ الصدّيق في حقِّهِ
فأجابه أبوه شرف الدين بقوله :
~قَدْ يُمْنَعُ المُضْطَرُّ مِنْ مَيْتَةٍ إِذا عَصَى بالسَّيْرِ في طُرْقِهِ
~لأنه يَقْوَى عَلَى تَوْبةٍ تُوْجِبُ إِيصالاً إِلى رزقِهِ
~لَوْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنبه مِسْطَحٌ ما عُوتِبُ الصِّديقُ في حقِّهِ
ولما فضّل تعالى الزواجر عن الزنى ، وعن رمي العفائف عنه . بيّن من الزواجر ما عسى يؤدي إلى أحدهما . وذلك في مخالطة الرجال بالنساء ، ودخولهم عليهن ، وفي أوقات الخلوات ، وفي تعليم الآداب الجميلة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ 27 - 28 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } أي : تستعلموا وتستكشفوا الحال . هل يراد دخولكم أم لا ؟ من الاستئناس وهو الاستعلام . من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً . أو المعنى : حتى يؤذن لكم فتستأنسوا . من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش . لما أن المستأذن مستوحش من خفاء الحال عليه ، فيكون عبر بالشيء عما هو لازم له ، مجازاً أو استعارة . وجوّز أن يكون من الإنس والمعنى : حتى تعلموا هل فيها إنسان ؟ { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } أي : ليؤمنهم عما يوحشهم : { ذَلِكُمْ } أي : الاستئذان والتسليم : { خَيْرٌ لَكُمْ } أي : من الدخول بغتة : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : فتتعظوا وتعملوا بموجبه .
{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً } أي : من الآذنين : { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي : واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم . ويحتمل : فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ، ولكم فيها حاجة ، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها .
قال الزمخشري : وذلك لأن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الداخل على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنه تصرف في ملك غيرك . فلا بد من أن يكون برضاه ، وإلا أشبه الغصب والتغلب . انتهى .
{ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } أي : إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع ، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا , كالنساء والولدان ، فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان ، لأن هذا مما يجلب الكراهة في قلوب الناس ، ولذا قال تعالى : { هُوَ } أي : الرجوع : { أَزْكَى لَكُمْ } أي : أطهر مما لا يخلوا عنه الإلحاح والوقوف على الأبواب ، من دنس الدناءة . وأنمى لمحبتكم .
قال الزمخشري : وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة ، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار ، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس .
لطيفة :
قال ابن كثير : قال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها : أن أستأذن على بعض إخواني ، فيقول لي : ارجع . فأرجع وأنا مغتبط . انتهى { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : فيجزيكم على نيتكم الحسنة ، في الزيارة ، أو المكر والخيانة بأهل المزور أو ماله .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية وجوب الاستئذان عند دخول بيت الغير ، ووجوب الرجوع إذا لم يؤذن له ، وتحريم الدخول إذا لم يكن فيها أحد . ويستفاد من هذا تحريم دخول ملك الغير ، والكَوْن فيه ، وشغله بغير إذن صاحبه فيدخل تحته من المسائل والفروع ما لا يحصى . واستدل بالآية الأكثر على الجمع بين الاستئذان والسلام . والأقلُّ على تقديم الاستئذان على السلام بتقديمه في الآية . وأجاب الأكثرون ، بأن الواو لا تفيد ترتيباً ، واستدل بها من قال : له الزيادة في الاستئذان على ثلاث ، حتى يؤذن له أو يصرح بالمنع ، وفهم من الآية أن الرجل لا يستأذن عند دخول بيته على امرأته . انتهى .
وقال ابن كثير : ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن ، فحذقته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح > وأخرج الجماعة عن جابر قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي . فدققت الباب ، فقال : < من ذا > فقلت : أنا قال : < أنا ، أنا > كأنه كرهه . وإنما كرهه ، لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها ، حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها . وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا فلا يحصل به المقصود الاستئذان ، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية . وعن ابن مسعود قال : عليكم الإذن على أمهاتكم . وعن طاوس قال : ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم . وكان يشدد النكير في ذلك . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا . قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ، ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها . وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه . ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً .
ثم بيّن تعالى ما رخص فيه عدم الاستئذان ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ 29 ] .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا } أي : بغير استئذان : { بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي : غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة ، بل ليتمتع بها كائناً من كان ، كالخانات والحمامات وبيوت الضيافات : { فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } أي : منفعة وحاجة : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل ، لفسادٍ أو اطلاع على عورات . أفاده أبو السعود .
ثم أرشد سبحانه إلى آداب عظيمة تتناول المستأذنين عند دخولهم وغيرهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ 30 ] .
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه : { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } أي : عن الإفضاء بها إلى محرم ، أو عن الإبداء والكشف : { ذَلِكَ } أي : الغض والحفظ : { أَزْكَى لَهُمْ } أي : أطهر للنفس وأتقى للدين : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي : بأفعالهم وأحوالهم . وكيف يجيلون أبصارهم ، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم . فعليهم ، إذ عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على تقوى وحذر ، في كل حركة وسكون . أفاده الزمخشري .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرجال وتحريم كشفها . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنى ، إلا هذه الآية والتي بعدها ، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة . انتهى .
وليس بمتعيّن . وعليه فيكون النهي عن الزنى يعلم منه بطريق الأولى . أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء .
الثاني : إن قيل : لِمَ أتى بمن التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج ؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ 5 - 6 ] ، لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري ، وهو قليل بالنسبة لما عداه . فجعل كالعدم ولم يقيد به . مع أنه معلوم من الآية الأخرى . بخلاف ما يطلق فيه البصر ، فإنه يباح في أكثر الأشياء ، إلا نظر ما حرم عن قصد . فقيّد الغض به ومدخول من التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي . وقيل : إن الغض والحفظ عن الأجانب . وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم ، وبعضه جائز : بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول من فيه . كذا في " العناية " .
الثالث : سر تقديم عض الأبصار على حفظ الفروج ، هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور ، كما قال الحماسي :
~وكنتَ إذا أرسلت طَرْفَكَ رَائِداً لقلبك يوماًَ ، أتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ
ولأن البلوى فيه أشد وأكثر . ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه . فبودر إلى منعه . ولأنه يتقدم الفجور في الواقع ، فجعل النظم على وفقه .
الرابع : غض البصر من أجل الأدوية لعلاج أمراض القلوب . وفيه حسم لمادتها قبل حصولها . فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . ومن أطلق لحظاته ، دامت حسراته .
~كلّ الحوادث مبداها من النظرِ ومعظمُ النَّارِ من مستصغَرِ الشّرَرِ
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في " الجواب الشافي " : في غض البصر عدة منافع :
أحدها : امتثال أمر الله هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده . وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى . وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة . إلا بامتثال أوامر ربه . وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثاني : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه ، إلى قلبه .
الثالث : أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعيّة على الله ، فإن إطلاق البصر يفرّق القلب ويشتته ويبعده من الله ، وليس على العبد شيء أضر من إلى إطلاق البصر . فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
الرابع : أنه يقوي القلب ويفرحه . كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .
الخامس : أنه يكسب القلب نوراً . كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر . فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } [ 30 ] ، ثم قال إثر ذلك : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ 35 ] . أي : مثل نوره في قلب عبده المؤمن ، الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه . وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان . فما شئت من بدعة وضلالة ، واتباع هوى واجتناب هدى ، وإعراضٍ عن أسباب السعادة ، واشتغال بأسباب الشقاوة . فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب . فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حناديس الظلام .
السادس : أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب . وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول : من عمر ظاهره باتّباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد أكل الحلال - لم تخطئ له فراسة .
وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله . ومن ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله ، عوضه بأن يطلق بصيرته عوضاً عن حبسه بصره لله . ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة ، والفراسة الصادقة المصيبة التي ، إنما تنال ببصيرة القلب . وضد هذا مما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة . فقال تعالى : : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه هو فساد البصيرة ، فالتعلق بالصور يوجب إفساد العقل ، وعمه البصيرة يسكر القلب ، كما قال القائل :
~سُكرانِ : سكر هوىً وسُكرُ مُدامةٍ ومتى إفَاقَةُ مَنْ بِه سُكْرَانِ ؟
وقال الآخر :
~قالوا : جُننتَ بمن تهوى فقلتُ لهم : العشق أعظمُ مما بالمجانينِ
~العشق لا يستفيقُ الدهرَ صاحبُه وإنما يُصْرعَ المجنونُ في الحينِ
السابع : أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة . ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة ، وسلطان القدرة والقوة ، كما في الأثر : الذي يخالف هواه يَفْرق الشيطان من ظله . وضد هذا تجده في المتبع هواه ، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها . وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه . كما قال الحسن : إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته . والذل قرين معصيته ، فقال تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ، وقال تعالى : { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عِمْرَان : 139 ] ، والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن . وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، أي : من كان يريد العزة فليطبها بطاعة الله وذكره ، من الكلم الطيب ، والعلم الصالح . وفي دعاء القنوت : إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت . ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه . وله من العز بحسب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه . وله من الذل بحسب معصيته .
الثامن : أنه يسدّ على الشيطان مدخله من القلب . فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور إليه ، يزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب ، ثم يعده ويمنيه . ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقي عليه حطب المعاصي ، التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة . فيصير القلب في اللهب ، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، وتلك الزفرات والحرقات . فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب . فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة ، أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه ، إلى حشر أجسادهم ، كما أراها الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته .
التاسع : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها . وإطلاقُ البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها . فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن أمر ربه ، قال تعالى : { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] ، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه .
العاشر : أن بين العين والقلب منفذاً وطريقاً يوجب انفعال أحدهما عن الآخر . وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده . فإذا فسد القلب فسد النظر . وإذا فسد النظر فسد القلب . وكذلك في جانب الصلاح . فإذا خربت العين وفسدت ، خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ . فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه . وإنما يسكن فيه أضداد ذلك . فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، تطلعك على ما وراءها . انتهى .
ثم أمر الله تعالى النساء بما أمر به الرجال . وزاد في أمرهن ، ما فرضه من رفض حالة الجاهلية المألوفة قبلُ لهن ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 31 ] .
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أي : بالتستر والتصون عن الزنى كما تقدم . قال الزمخشري : النساء مأمورات أيضاً بغض الأبصار . ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته . وإن اشتهت غضت بصرها رأساً . ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك . وغض بصرها من الأجانب أصلاً ، أولى بها وأحسن . ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة . فأقبل ابن أم مكتوم . وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب . فدخل علينا . فقال : < احتجبا > . فقلنا : يا رسول الله ! أليس أعمى لا يبصرنا ! قال : < أفعميَاوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟ > وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب . فما كان ظاهراً منها ، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب . وما خفي منها كالسوار والخلخال ، والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين . وذكر الزينة دون مواقعها ، للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر . لأن هذه الزِّيَنْ واقعة على مواضع من الجسد ، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء . وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن . فنهى عن إبداء الزِّيَن نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل لها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر لها غير ملابسة لها ، لا مقال في حله - كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظْر ثابت القدم في الحرمة ، شاهداً على أن النساء حقهنّ أن يحتطن في سترها ويتَّقين الله في الكشف عنها .
فإن قلت : لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة ؟ قلت : لأن سترها فيه حرج . فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح . وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها . وخاصة الفقيرات منهن . وهذا معنى قوله تعالى : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } يعني : إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : فسر ابن عباس قوله تعالى : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } بالوجه والكفين ، كما أخرجه ابن أبي حاتم . فاستدل به من أباح النظر إلى وجه المرأة وكفيها ، حيث لا فتنة . ومن قال : إن عورتها ما عداهما . وفسره ابن مسعود بالثياب ، وفسر الزينة بالخاتم والسوار والقرط والقلادة والخلخال . أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً . فهو دليل لمن لم يجز النظر إلى شيء من بدنها ، وجعلها كلها عورة : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } أي : وليسترن بمقانعهن ، شعورَهن وأعناقهن وقرطهن وصدورهن ، بإلقائها على جيوبهن أي : مواضعها ، وهي النحر والصدر .
قال الزمخشري : كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها . وكنّ يسدلن الخمر من ورائهن ، فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها . ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور ، تسمية بما يليها ويلابسها ، ومنه قولهم : ناصح الجيب .
لطيفة :
قال أبو حيان : عدّي يضربن بعلى لتضمنه معنى الوضع . وجعله الراغب مما يتعدى بها دون تضمين . والخمر : جمع خمار يقال لغة لما يستر به . وخصصه العرف بما تغطي به المرأة رأسها . ومنه اختمرت المرأة وتخمرت . والجيب ما جيب ، أي : قطع من أعلى القميص . وهو ما يسميه العامة طوقاً . وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها ، فليس من كلام العرب . كما ذكره ابن تيمية . كذا في " العناية " ثم كرر النهي عن إبداء الزينة لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه ، باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور ، بقوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } أي : فإنهم المقصودون بالزينة . ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج . لكن بكراهة على المشهور .
وقال الإمام أبو الحسن بن القطان في كتاب " إحكام النظر " : عن أصبغ ، لا بأس به ، وليس بمكروه . وروي عن مالك لا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع . ثم ذكرنا أن ما روي من أن ذلك يورث العمى ، فحديث لا يصح . لأن فيه بقية وقد قالوا بقية أحاديثه نقية ولم يؤثر عن العرب كراهة ذلك . وللنابغة والأعشى وأبي عبيدة وابن ميادة وعبد بني الحساس والفرزدق ، في ذلك ما هو معروف .
وقوله تعالى : { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } أي : لأن هؤلاء محارمهن الذين تؤمن الفتنة من قبلهم . فإن آباءهن أولياؤهن الذي يحفظونهن عما يسوءهن . وآباء بعولتهن يحفظون على أبناءهن ما يسوءهم . وأبناؤهن شأنهم خدمة الأمهات ، وهم منهن . وأبناء بعولتهن شأنهم خدمة الآباء وخدمة أحبابهم . وإخوانهن هم الأولياء بعد الآباء . وبنوهم أولياء بعدهم . وكذا بنو أخواتهن ، هم كبني إخوانهن في القرابة فيتعيرون بنسبة السوء إلى الخالة . تعيرهم بنسبته إلى العمة . هذا ما أشار له المهايمي .
وأجمل ذلك الزمخشري بقوله : وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون ، لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالفتهم . ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن ممارسة القرائب . وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقوله تعالى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قيل : هن المؤمنات . أخذاً من الإضافة . فليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية . وقيل : النساء كلهن . فإنهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض .
قال في " الإكليل " : فيه إباحة نظر المرأة إلى المرأة كمحرم . وروى ابن أبي حاتم عن عطاء ؛ أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس ، كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات .
وقال الرازيّ : القول الثاني هو المذهب وقول السلف الأول محمول على الاستحباب والأوْلى .
وقوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي : لاحتياجهن إليهم . فلو منع دخولهم عليهن اضطررن . قاله المهايميّ . وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء . وإليه ذهب قوم . قالوا : لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن . واحتجوا أيضاً بما رواه أبو داود عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها . قال : وعلى فاطمة ثوب ، إذا قنعت به رأسها ، لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها ، لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : < إنه ليس عليك بأس . إنما هو أبوك وغلامك > .
وجاء في " تاريخ ابن عساكر " أن عبد الله بن مسعدة كان أسود شديد الأدمة . وقد كان وهبه النبيّ صلوات الله عليه لابنته فاطمة . فربّته ثم أعتقته ، ثم كان ، بعدُ مع معاوية على عليّ . نقله ابن كثير ، فاحتمل أن يكون هو هو . والله أعلم .
وذهب قوم إلى أنه بذلك الإماء المشركات ، وأنه يجوز لها أن تظهر زينتها إليهن وإن كن مشركات . قالوا : وسرّ إفراد الإماء مع شموله قوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } لهن الإعلام بأن المراد مَنْ في صحبتهن من الحرائر والإمام لظهور الإضافة في نسائهن بالحرائر . كقوله : { شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، فعطفن عليهن ليشاركنهن في إباحة النظر عليهن ، والقول الأول أقوى . لأن الأصل هو العمل بالعامّ حتى يقوم دليل على تخصيصه . لا سيما والحكمة ظاهرة فيه وهي رفع الحرج . وهذا الذي قطع به الشافعيّ وجمهور أصحابه .
قال في " الإكليل " : وعلى الأول استدل بإضافة اليمين على أنه ليس لعبد الزوج النظر . واستدل من أباحه بقراءة : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
وقوله : { أَوِ التَّابِعِينَ } أي : الخدام لأنهن في معنى العبيد : { غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ } أي : الحاجة إلى نساء : { مِنَ الرِّجَالِ } كالشيخ الهرم والبله واستدل بهذا من أباح نظر الخصيّ . وقوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } أي : لم يفهموا أحوالهن ، لصغرهم . فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ . كما في " الإكليل " .
قال الزمخشري : يظهروا إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه ، أي : لا يعرفون ما العورة ، ولا يميزون بينها وبين غيرها . وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرآن أخذه وأطاقه أي : لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء . والطفل مفرد وضع موضع الجمع بقرينة وصفه بالجمع . ومثله الحاج بمعنى : الحجاج . وقال الراغب : إنه يقع على الجمع .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بعضهم بقولهم تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا } الخ على أنه لا يباح النظر للعم والخال ، لعدم ذكرهما في الآية . أخرج ابن المنذر عن الشعبيّ وعكرمة ، قالا : لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال .
وقال الرازيّ : القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر . وهو قول الحسن البصريّ . قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب . وقال في سورة الأحزاب : { لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ } [ الأحزاب : 55 ] الآية ، ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم . وقد ذكروا هاهنا . وقد يذكر البعض لينبه على الجملة .
ثم قال : في قول الشعبيّ من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر .
ثم أشار تعالى إلى أن الزينة ، كما يجب إخفائها عن البصر ، يجب عن السمع ، إن كانت مما تؤثر فيه ميلاً ، بقوله سبحانه :
{ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } أي : الأرض : { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ } أي : عن الأبصار : { مِنْ زِينَتِهِنَّ } كالخلخال . وهذا نهي عن ما كان يفعله بعضهن . وذلك من ضرب أرجلهن الأرض ليتحرك خلخالهن فيعلم أنهن متحلين به . فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن ، ويوهم أن لهن ميلاً إليهم .
قال الزمخشري : وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحليّ أبلغ وأبلغ . قيل : وإذا نهي عن استماع صوت حليهن . فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى . وهذا سد لباب المحرمات ، وتعليم للأحواض الأحسن ، لا سيما في مظانّ الريب وما يكون ذريعة إليها .
تنبيه :
قال ابن كثير : يدخل في هذا النهي كل شيء من زينتها كان مستوراً ، فتحركت بحركة ، لتظهر ما خفي منها . ومن ذلك ما ورد من نهيها عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشم الرجال طيبها . فروى الترمذي عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < كل عين زانية . والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا > . يعني زانية .
قال : ومن الباب عن أبي هريرة . وهذا حديث حسن صحيح . ورواه أبو داود والنسائي . وروى الترمذي أيضاً عن ميمونة بنت سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة ، لا نور لها > . ومن ذلك أيضاً ، نهيهن من المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج . فروى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : < استأخرن ، فإنه ليس لَكُنَ أن تَحْقُقْنَ الطريق . عليكن بحافات الطريق > . فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . وقوله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ } أي : ارجعوا إليه بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه ، فإن مقتضى إيمانكم ذلك : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : لكي تفوزوا بسعادة الدارين . ولما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة ، أمر بالنكاح . فإنه ، مع كونه مقصوداً بالذات من حيث كونه مناطاً لبقاء النوع ، خير مزجرة عن ذلك . فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 32 ] .
{ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أي : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر ، ومن كان فيه صلاح غلمانكم وجواريكم ، والخطاب للأولياء والسادات , والأيامى : جمع أيّم . من لا زوجة له أو لا زوج لها . يكون للرجل والمرأة يقال : آم وآمَتْ وتَأَيَّمَا ، إذا لم يتزوجا ، بكرين كانا أو ثيبين .
قال أبو السعود : واعتبار الصلاح في الأرقاء ، لأن من لا صلاح له منهم ، بمعزل من أن يكون خليقاً بأن يعتني مولاه بشأنه ، ويشفق عليه ، ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعاً وعادةً ، من بذل المال والمنافع . بل حقه ألا يستبقيه عنده . وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر ، فلأن الغالب فيهم الصلاح . على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم . فإذا عزموا النكاح ، فلا بد من مساعدة الأولياء لهم ؛ إذ ليس عليهم في ذلك غرامة ، حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم . عاجلة أو آجلة : وقيل : المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه . وقوله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } إزاحة لما عسى يكون وازعاً من النكاح من فقر أحد الجانبين . أي : لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة . فإن في فضل الله عز وجل غنية عن المال . فإنه غاد ورائحٌ . يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب . أو وعد من سبحانه بالإغناء . لكنه مشروط بالمشيئة . كما في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ } [ التوبة : 28 ] ، { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : غني ذو سعة ، لا يرزؤه إغناء الخلائق ، إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته { عَلِيمٌ } يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة . انتهى كلام أبي مسعود .
تنبيهات :
الأول : الأمر في الآية للندب . لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه . وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك .
وفي " الإكليل " : استدل الشافعيّ بالأمر على اعتبار الوليّ . لأن الخطاب له ، وعدم استقلال المرأة بالنكاح . واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط , ونكاح العبدة الحرة . واستدل بها من قال بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته .
الثاني : قدمنا أن قوله تعالى : { يُغْنِهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } مشروط بالمشيئة . فلا يقال إنه تعالى لا يخلف الميعاد ، وكم من متزوج فقير . والتقيد بالمشيئة بدليل سمعي ، وهو الآية المتقدمة . أو إشارة قوله تعالى : { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } لأن مآله إلى المشيئة . أو عقلي وهو أن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة .
قال الناصر في " الانتصاف " : ولقائل أن يقول : إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج ، فهي أيضاً المعتبرة في غنى الأعزب ، فما وجه ربط وعد الغني بالنكاح ، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة . فمن مستغن به ، ومن فقير ، كما أن حال غير الناكح منقسم ؟ .
فالجواب ، وبالله التوفيق : إن فائدة ربط الغنى بالنكاح ، أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها ، والغفلة عن المسبّب ، جلَّ وعلا . حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتماً ، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزماً . وأن كل واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به . فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع ، بالإيذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه ، مع كثرة العيال التي هي سبب من الأوهام ، لنفاد المال . وقد يقدر الإملاق مع عدمه ، الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام . والواقع يشهد لذلك بلا مراء . فدل ذلك قطعاً على أن الأسباب التي يتوهمها البشر ، مرتبطات بمسبباتها ، ارتباطاً لا ينفك - ليست على ما يزعمونه . وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب . غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة . وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح . لأنه قد استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار . وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ، ولا يؤثر أيضاً الخلوّ عن النكاح لأجل التوفير ، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه ، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتّر عليه . وأن العبد إن تعاطى سبباً فلا يكن ناظراً إليه ، ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس . فمعنى قوله حينئذ : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ } الآية ، أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله . فعبر عن نفي كونه مانعاً ، من الغنى, بوجوده معه . ولا يبطل المانعية إلا وجود ما يتوهم ممنوعاً مع ما يتوهم مانعاً ولو في صورة من الصور على أثر ذلك . فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } [ الجمعة : 10 ] ، فإن ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة ، وليس ذلك بمراد حقيقة . ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة ، وبيان أن الصلاة متى قضيت ، فلا مانع . فعبّر عن نفي المانع بالانتشار ، بما يفهم تقاضي الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع . والله أعلم .
فتأمل هذا الفصل واتخذه عضداً حيث الحاجة إليه . انتهى .
الثالثة : " في الإكليل " : استدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة ، لأنه قال : يغنهم الله ولم يفرق بينهم .
ثم أرشد تعالى العاجزين عن أسباب النكاح ، إلى ما هو أولى لهم ، بعد بيان جواز مناكحة الفقراء ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 33 ] .
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي : وليجتهد في العفة الذين لا يجدون نكاحاً ، أي : أسبابه ، أو استطاعة نكاح أي : تزوج . فهو على المجاز ، أو تقدير المضاف . أو المراد بالنكاح : ما ينكح به .
قال الشهاب : فإن فعالاً يكون صفة بمعنى مفعول . ككتاب بمعنى مكتوب . واسم آلة كركاب لما يركب به . وهو كثير . كما نص عليه أهل اللغة . وقوله تعالى : { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضيل عليهم بالغنى ، ليكون انتظار ذلك وتأميله ، لطفاً لهم في استعفافهم ، وربطاً على قلوبهم . وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفاء . وأدنى من الصلحاء . وما أحسن ما رتب هذه الأوامر . حيث أمر أولاً بما يعصم من الفتنة ، ويبعد من مواقعة المعصية ، وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ، وقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام . ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح ، إلى أن يرزق القدرة عليه . أفاده الزمخشري .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية استحباب الصبر عن النكاح لمن لا يقدر على مؤنته . واستدل بعضهم بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة .
ولما أمر تعالى للسادة بتزويج الصالحين من عبيدهم وإمائهم ، مع الرق ، رغّبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ، ليصيروا أحراراً ؛ فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار , فقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } أي : الكتابة : { مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } حرصاً على تحريرهم الذي هو الأصل فيهم ، وحباً بتحقيق المساواة في الأخوة الجنسية . والمكاتبة أن يقول السيد : كاتبتك . أي : جعلت عتقك مكتوباً على نفسي ، بمال كذا تؤديه في نجوم كذا . ويقبل العبد ذلك ، فيصير مالكاً لمكاسبه ولما يوهب له ، وإنما وجب معه الإمهال ، لأن الكسب لا يتصور بدونه . واشترط النجوم لئلا تخلو تلك المدة عن الخدمة وعوضها جميعاً . وقوله تعالى : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } أي : كالأمانة ، لئلا يؤدوا النجوم من المال المسروق . والقدرة على الكسب والصلاح ، فلا يؤذى أحداً بعد العتق . وقوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } أمر للموالي ببذل شيء من أموالهم . وفي حكمه ، حط شيء من مال الكتابة . ولغيرهم بإعطائهم من الزكاة إعانة لهم على تحريرهم .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية مشروعية الكتابة . وأنها مستحبة . وقال أهل الظاهر : واجبة لظاهر الآية . وأن لندبها أو وجوبها ، شرطين : طلب العبد لها وعلم الخير فيه وفسره مجاهد وغيره بالمال والحرفة والوفاء والصدق والأمانة .
ثم نهى تعالى عن إكراه الجواري على الزنى كما اعتادوه في الجاهلية ، بقوله سبحانه : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ } أي : إماءكم ، فإنه يكنى بالفتى والفتاة ، عن العبد والأمة ، وفي الحديث : < ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل . عبدي وأمتي > وقوله تعالى : { عَلَى الْبِغَاءِ } أي : الزنى . يقال : بغت بغياً وبغاءً ، إذا عهرت . وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها . وقوله تعالى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى ، وإخراج ما عداها من حكمه ، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة ، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه ، مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور ، وقصورهن في معرفة الأمور ، الداعية إلى المحاسن ، الزاجرة عن تعاطي القبائح ، انتهى كلام أبي السعود . أي : وحينئذ فلا مفهوم للشرط ، وهذا كجواب بعضهم : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن . والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب . كما أن الخُلع يجوز في غير حالة الشقاق . ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق ، لا جرم لم يكن لقوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] ، مفهوم . ومن هذا القبيل قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ النساء : 101 ] ، والقصر لا يختص بحال الخوف . ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب . فكذا هاهنا انتهى .
قال أبو سعود : وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ، ما لا يخفى . فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه ، وفضلاً عن أمرهن به ، أو إكراههن عليه . لا سيما عند إرادتهن التعفف . وإيثار كلمة إِنْ على إذا مع تحقق الإرادة في مورد النص حتماً ، للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه ، عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك . فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع ؟ وقوله تعالى : { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قيد للإكراه ، لكن لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه ، بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم ، كما قبله جيء به تشنيعاً لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير ، لأجل النزر الحقير . أي : لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال . يعني من كسبهن وأولادهن .
وقوله تعالى : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ } جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكرهات عن عقوبة المكره عليه عبارةً ، ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارةً ، أي : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ } على ما ذكر من البغاء { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لهن . كما وقع في مصحف ابن مسعود . وعليه قراءة ابن عباس رضي الله عنهم . وكما ينبئ عنه قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ } أي كونهن مكرهات . على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها ، للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة . وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى ، إذا قرأ هذه الآية يقول : لهن ، والله ! لهن ، والله ! وفي تخصيصهما بهن وتعيين مدارهما ، مع سبق ذكر المكرهين أيضاً في الشرطية ، دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية , كأنه قيل : لا للمكره . ولظهور هذا التقدير ، اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط . فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالاً ، أو معهن ، إخلالٌ بجزالة النظم الجليل ، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل . وحاجتهن إلى المفغرة المنبئة عن سابقة الإثم ، إما باعتبار أنهن وإن كن مكرهات ، لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة ما يحكم الجبلة البشرية . وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصراً عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة . وإما لغاية تهويل أمر الزنى ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه ، والتشديد في تحذير المكرهين ، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة ، لولا أن تداركهن المغفرة والرحمة ، مع قيام العذر في حقهن . فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب ؟ انتهى كلام أبي السعود وقد أجاد في تحقيق المرام رحمه الله تعالى .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية النهي عن إكراه الإماء على الزنى . وأن المكرَه غير مكلف ولا آثم . وأن الإكراه على الزنى يتصور . وإن مهر البغيّ حرام . وفيه رد على من أوجب الحد على المكره له .
ثم حذّر سبحانه من مخالفة ما نهى عنه ، مما بينه أشد البيان ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [ 34 ] .
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } أي : واضحات أو مفسرات لكل ما تهم حاجتكم إليه من عبادات ومعاملات وآداب . ومنه ما ذكر قبلُ ، من النهي عن الإكراه . فلا يخفى المراد منها : { وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : خبراً عظيماً عن الأمم الماضية وما حل بهم ، بظلمهم وتعدّيهم حدود الله : { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } أي : فيتعظون به وينزجرون عما لا ينبغي لهم . كما قال تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ } [ الزخرف : 56 ] ، أي : عبرة يعتبرون بها . وإيثار المتقين لحث المخاطبين على الانتظام في سلكهم ، فإنهم الفائزون . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 35 ] .
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : منوّرهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار . فهو مجاز من إطلاق الأثر على مؤثره . كما يطلق السبب على مسببه . أو مدبرهما ، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور فيكون مجازاً . أو استعارة استعير النور بمعنى : المنور ، للمدبر ، لعلاقة المشابهة في حصول الاهتداء . أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره - كما قاله الغزالي - فيكون أطلق عليه تعالى مجازاً مرسلاً باعتبار لازم معناه .
قال أبو السعود : وعبر عن المنوّر بالنور ، تنبيهاً على قوة التنوير وشدة التأثير . وإيذاناً بأنه تعالى ظاهر بذاته ، وكل ما سواه ظاهر بإظهاره . كما أن النور نيّر بذاته وما عداه مستنير به . وأضيف النور إلى : { السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } للدلالة على سعة إشراقه . أو المراد بهما العالم كله : { مَثَلُ نُورِهِ } أي : صفة نوره العجيبة الشأن . قال أبو السعود : أي : نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين . كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين . وقد صرح بكونه نوراً أيضاً في قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً } [ النساء : 174 ] ، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، وزيد بن أسلم رحمهم الله تعالى : { كَمِشْكَاةٍ } أي : كصفة كوّة - طاقة - غير نافذة في الجدار ، في الإنارة والتنوير : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي : سراج ضخم ثاقب - شديد الإضاءة - وقيل : المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل ، والمصباح الفتيلة المشتعلة : { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي : قنديل من الزجاج الصافي الأزهر : { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : متلألئ وقَّاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته : { يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : كثيرة المنافع ، بأن رويت فتيلته بزيتها : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } . أي لا شرقية تقع عليها الشمس وقت الشروق فقط ، ولا غربية تقع عليها عند الغروب . ولا تصيبها في الغداة بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها . كصحراء أو رأس جبل . فزيتها أضوأ : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أي : يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه ولمعانه : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي : ذلك النور الذي عبر به عن القرآن ، ومثلت صفته العجيبة بما فضل عن صفة المشكاة . نور عظيم كائن على نور كذلك . فنور خبر مبتدأ محذوف ، والجار متعلق بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، والجملة فذلكة للتمثيل ، وتصريح لما حصل منه ، وتمهيد لما يعقبه . وليس معنى : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نور واحد فوق آخر مثله ، ولا مجموع نورين اثنين فقط ، بل هو عبارة عن نور متضاعف كتضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر . فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة ، كان أضوأ له وأجمع لنوره . بخلاف المكان الواسع ، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر . والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة . وكذلك الزيت وصفاؤه . وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقاً ، مرتبة أخرى عادة { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : لهذا النور الثاقب العظيم الشأن ، بأن يوفقهم للإيمان به وفهم دلائل حقيّته .
قال أبو السعود : وإظهاره في مقام الإضمار . لزيادة تقريره ، وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عزَّ وجلَّ : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } أي : ليدنو لهم المعقول من المحسوس ، توضيحاً وبياناً . ولذلك مثل نوره المعبر عنه بالقرآن ، بنور المشكاة : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء وفيه وعد ووعيد . لأن علمه تعالى ، عبارة عن مجازاته في أمثال هذه الآي .
تنبيه :
هذه الآية الكريمة - آية النور - من الآيات التي صنفت فيها مصنفات خاصة . منها " مشكاة الأنوار " للإمام الغزالي ، وقد نقل عنه الرازيّ في " تفسيره " هنا جملة سابغة الذيل . ورأيت للإمام ابن القيم في كتابه " الجيوش الإسلامية " ما يجمل إيراده ، تعزيزاًً للمقام واستظهاراً بزيادة العلم .
قال رحمه الله : سمى الله سبحانه و تعالى نفسه نوراً وجعل كتابه نوراً ورسوله صلى الله عليه وسلم نوراً ودينه نوراً . واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نوراً يتلأَلأ ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وقد فسر بكونه منوّر السموات والأرض ، وهادي أهل السموات والأرض . فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى . والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين . إضافة صفة إلى موصوفها , وإضافة مفعول إلى فاعله . فالأول كقوله عزَّ وجلَّ : { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [ الزمر : 69 ] ، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى ، إذا جاء لفصل القضاء . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المشهور : < أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت > . وفي الأثر الآخر : < أعوذ بوجهك - أو بنور وجهك - الذي أشرقت له الظلمات > . فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم . أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله . كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره .
وفي " معجم الطبرانيّ " و " السنة " له و " كتاب عثمان الدارمي " وغيرها ، عن ابن مسعود رضي الله عنه . قال : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض من نور وجهه . وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية ، من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض . وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض ، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود . والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها . وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : < إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه > . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : < نور ، أنَّى أراه > فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول : معناه كان ثمة نور ، وحال دون رؤيته نور ، فأنى أراه ؟ قال : ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة : هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نوراً . وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نورانيٌّ أراه . على أنها ياء النسب ، والكلمة كلمة واحدة . وهذا خطأ لفظاً ومعنى . وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله : < أنَّى أراه > كالإنكار للرؤية ، حاروا في الحديث ، ورده بعضهم باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب " الرؤية " له إجماع الصحابة على أنه لم يرَ رَبّه ليلة المعراج . وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك . وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة . فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه ، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال : إنه صلى الله عليه وسلم رآه عزَّ وجلَّ . ولم يقل بعيني رأسه . ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما . ويدل على صحته ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : < حجابه النور > فهذا النور ، والله أعلم . النور المذكور في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه < رأيت نوراً > .
ثم قال ابن القيم : وقوله تعالى : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن . كما قال أبيّ بن كعب وغيره : وقد اختلف في الضمير في نوره فقيل : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم . أي : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : مفسره المؤمن . أي : مثل نور المؤمن .
والصحيح أن يعود على الله تعالى . والمعنى : مثل نور الله سبحانه في قلب عبده . وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا ، مع ما تضمنه عود الضمير المذكور - وهو وجه الكلام - يتضمن التقادير الثلاثة ، وهو أتم لفظاً ومعنى . وهذا النور يضاف إلى الله تعالى . إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه . ويضاف إلى العبد . إذ هو محله وقابله . فيضاف إلى الفاعل والقابل . ولهذا النور فاعل وقابل ، ومحل وحامل ، ومادة . وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل . فالفاعل وهو الله تعالى مفيض الأنوار . الهادي لنوره من يشاء . والقابل : العبد المؤمن . والمحل : قلبه . والحامل : همته وعزيمته وإرادته . والمادة : قوله وعمله . وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية ، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن ، بما أناله من نوره ، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم . وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان : إحداهما : طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذاً وأسلم من التكلف . وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن ، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ، ومقابلته بجزء من المشبه به . وعلى هذا عامة أمثال القرآن . فتأمل صفة المشكاة ، وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء ، وقد وضع فيها مصباح ، ذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدريّ في صفائها وحسنها . ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقوداً ، من زيت شجرة في وسط القراح ، لا شرقية ولا غربية ، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار ، بل هي في وسط القراح ، محميّة بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة ، والآفات إلى الأطراف دونها . فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها ، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار . فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به . والطريقة الثانية ، طريقة التشبيه المفصل . فقيل : المشكاة صدر المؤمن ، والزجاجة قلبه . شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها . وكذلك قلب المؤمن . فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة . فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه . تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه . ويتباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء . وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ، ويتصلب في ذات الله تعالى ، ويغلظ على أعداء الله تعالى . ويقوم بالحق لله تعالى . وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية ، كما قال بعض السلف : القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها . والمصباح هو نور الإيمان في قلبه . والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق . وهي مادة المصباح التي يتّقد منها . والنور على النور ، نور الفطرة الصحيحة ، والإدراك الصحيح ، ونور الوحي والكتاب . فينضاف أحد النورين إلى الآخر ، فيزداد العبد نوراً على نور . ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة ، قبل أن يسمع ما فيه بالأثر . ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به . فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي . فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة . بل يتصادقان ويتوافقان . فهذا علامة النور على النور . انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 36 - 38 ]
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي : أمر أن تعظم عن اللغو ، أو ترفع بالبناء قدراً . ويتلى فيه اسمه ، ولا يعبد فيها غيره ، لأنه شيدت على اسمه جل شأنه . والظرف صفة لمشكاة أو لمصباح أو لزجاجة أو متعلق بتوقد أو بمحذوف . أي : سبحوه في بيوت . أو بيسبّح . ولفظ فيها تكرار للتوكيد .
قال أبو السعود : لما ذكر شأن القرآن الكريم في بيانه للشرائع والأحكام ، ومبادئها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب ، وأشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح ، حيث مثل بنور المشكاة - عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم في الاعتداء وعدمه ، والمراد بالبيوت ، المساجد كلها : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ } يعني قبل طلوع الشمس : { وَالْآصَالِ } جمع أصيل وهو العشي قبل غروب الشمس : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أي : بالتسبيح والتحميد : { وَإِقَامِ الصَّلاةِ } أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير : { وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } أي : المال الذي يتزكى مؤتيه من دنس الشح ورذيلة البخل ، وتطهر نفسه ويصفو سره : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع . كما في قوله تعالى : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } [ الأحزاب : 10 ] , : { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } اللام متعلقة بيسبّح أو لا تلهيهم أو بمحذوف يدل عليه السوق . أي : يفعلون ما يفعلون مما ذكر ، ليجزيهم . وفي آخر الآية تقرير وتنبيه على كمال القدرة ، ونفاذ المشيئة ، وسعة الإحسان ، لأن بغير حساب كناية عن السعة . والمراد أنه لا يدخل تحت حساب الخلق وعدّهم .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية الأمر بتعظيم المساجد وتنزيهها عن اللغو والقاذورات . وفيها استحباب ذكر الله والصلاة في المساجد . وفي قوله : { رِجَالٌ } إشارة إلى أن الأفضل للنساء الصلاة في قعر بيوتهن . كما صرح به الحديث ، إلا في نحو العيدين لحديث : < ليشهدن الخير ودعوة المسلمين > ، وقوله : { لاَ تُلْهِيهِمْ } الآية ، فيه أن التجارة لا تنافي الصلاة . لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها ، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيكم نزلت : { رِجَاْلٌ لاَ تُلْهِيهِمْ } الآية . وأخرج عن الضحاك والحسن وسالم وعطاء ومطرف مثل ذلك . انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 39 ] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا } عطف على ما ينساق إليه ما قبله . كأنه قيل : الذين آمنوا أعمالهم حالاً ومآلاً كما وصف ، والذين كفروا : { أَعْمَالُهُمْ } أي : التي يحسبونها تنفعهم وتأخذ بيدهم من العذاب : { كَسَرَابٍ } وهو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس ، وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري : { بِقِيعَةٍ } بمعنى القاع ، وهو المنبسط من الأرض . أو جمع قاع كجيرة في جار : { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } أي : لا محققاً ولا متوهماً . كما كان يراه من قبل ، فضلاً عن وجدانه ماء ، وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل . وقوله تعالى : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : وجد عقاب الله وجزائه عند السراب ، أو العمل . وفي التعبير بذلك زيادة تهويل . وقيل : المعنى وجده محاسباً إياه . فالعندية بمعنى الحساب ، على طريق الكناية لذكر التوفية بعده . قيل : هذه الجملة معطوفة على : { لَمْ يَجِدْهُ } ولا حاجة إلى عطفه على ما يفيده من نحو : لم يجد ما عمله نافعاً .
قال الشهاب : ويحتمل أن يكون بيان لحال المشبه به ، الكافر فيعطف بحسب المعنى على التمثيل بتمامه . ولو قيل على الأول إنه من تتمة وصف السراب . والمعنى : وجد مقدوره تعالى من الهلاك بالظمأ عند السراب ، فوفاه ما كتب له ، من لا يؤخر الحساب - كان الكلام متناسباً . واختار الثاني أبو السعود حيث قال : هو بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة ، لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط ، كما هو شأن الظمآن . ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة أصلاً . فليست الجملة معطوفة على : { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل ، من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عيناً ولا أثراً . كما في قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] فإن قيل : لِمَ خص الظمآن بالذكر ، مع أنه يتراءى لكل أحد كذلك ؟ فكان الظاهر الرائي بدله . وأجيب بأنه إنما قيده به ولم يطلقه لقوله : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ } الخ ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به . وهو أبلغ . لأن خيبة الكافر أدخل وأعرق . ونحوه : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ آل عِمْرَان : 117 ] ، الخ ، فإن الكافرين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية . يعني أنه شبه أعمال الكفار التي يظنونها نافعة ، ومآلها الخيبة ، برؤية الكافر الشديد العطش في المحشر ، سراباً يحسبه شراباً ، فينتظم عطف وجد الله أحسن انتظام كما نوَّروه . كذا في " الكشف " .
الثالثة : قال الشهاب : وهذا تشبيه بليغ وقع مثله في قوله مالك بن نويرة :
~لَعَمْرِيَ إِني وابن جارود كالَّذِي أَرَاقَ شُعَيْبَ الماءِ والآلُ يَبْرُقُ
~فَلما أتاه ، خَيَّبَ اللهُ سعيَهُ فأمسى يَغُضّ الطرفَ عيمانَ يَشْهَقُ
ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ 40 ] .
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } أي : عميق كثير الماء : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي : متراكم بعضه على بعض : { مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي : متكاثفة متراكمة . وهذا بيان لكمال شدة الظلمات : { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } أي : وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينه لينظر إليها : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } أي : ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ، فما له هدايةٌ ما . وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } والجملة تقرير للتمثيل قبلُ ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم ، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] .
لطيفة :
قال ابن كثير : هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار . كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريّاً ومائياً . وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم ، في سورة الرعد ، مثلين مائيّاً وناريّاً .
ثم قال : أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء . فمثلهم كالسراب . والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم ، الذين لا يعقلون . فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب . بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري انتهى .
وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم ، وليس بمتعين . ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم ، عليهما الرحمة والرضوان ، في الجيوش الإسلامية ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد . قال : انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام ، واشتملت عليه أكمل اشتمال . فإن الناس قسمان : أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها ، فيظنها شيئاً له حاصل فينتفع به . وهي كسراب بقيعة الخ ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق ، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح ، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ، ولم يعارضوها بالشبهات . وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات . فلا هم في عملهم ، من أهل الخوض الخراصين : { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } [ الذاريات : 11 ] ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم ، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون . أضاء لهم نور الوحي المبين ، فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون . وفي ضلالهم يتهوكون . وفي ريبهم يترددون . مغترين بظاهر السراب ، ممحلين مجدبين ما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب : { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } [ غافر : 56 ] ، أوجبه لهم اتباع الهوى ، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان .
القسم الثاني : أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم . الذين قال الله تعالى فيهم : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] ، وهؤلاء قسمان : أحدهما ، الذين يحسبون أنهم على علم وهدى ، وهم أهل الجهل والضلال . فهؤلاء أهل الجهل المركب ، الذين يجهلون الحق ويعادونه ، ويعادون أهله ، وينصرون الباطل ويوالون أهله . وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه ، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً . وهكذا هؤلاء . أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه . ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان ، كما هو حال مَنْ أَمَّ السراب فلم يجده ماء . بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين . سبحانه وتعالى . فحسب له ما عنده من العلم والعمل ، فوفاه إياه بمثاقيل الذر . وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباءً منثوراً . إذ لم يكن خالصاً لوجهه ، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوماً نافعة ، كذلك هباءً منثوراً . فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه . والسراب ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري والقيعة والقاع هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد . فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله ، بسراب يراه المسافر في شدة الحر ، فيؤمّه ، فيخيب ظنه ويجده ناراً تلظى . فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش ، بدت لهم كالسراب . فيحسبونه ماء . فإذا أتوه وجدوا الله عنده ، فأخذتهم زبانية العذاب ، فَعَتَلُوهم إلى نار الجحيم فَسُقُوا ماء حميماً ، فقطع أمعاءهم . وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع ، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميماً سقاهم إياه . كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103 - 104 ] ، وهم الذين عنى بقوله : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وهم الذين عنى بقوله تعالى : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 167 ] .
القسم الثاني من هذا الصنف ، أصحاب الظلمات . وهم المنغمسون في الجهل . بحيث قد أحاط بهم من كل وجه ، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلاً . فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة ، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى : { كَظُلُمَاتٍ } جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة الظلم واتباع الهوى وظلمة الشك والريب وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم . والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور . فإن المعرض عما بعث الله به تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، يتقلب في خمس ظلمات : قوله : ظلمة . وعمله ظلمة . ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى ظلمة . وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم . وحاله مظلم . وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من النور ، جدّ في الهرب منه ، وكاد نوره يخطف بصره ، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل :
~خفافيش أعشاها النهارُ بضَوْئِه ووافقها قِطْعٌ من الليل مُظْلِمُ
وقوله تعالى : { فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } اللجيّ العميق . منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه . وقوله تعالى : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } تصوير لحال المعرض عن وحيه . فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره ، بتلاطم أمواج ذلك البحر ، وأنهم أمواج بعضها فوق بعض . والضمير الأول قوله : { يَغْشَاهُ } راجع إلى البحر ، والضمير الثاني في قوله : { مِنْ فَوْقِهِ } عائد إلى الموج . ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب . فها هنا ظلمات : ظلمة البحر الّلجي ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله : { إِذَا أَخْرَجَ } من في هذا البحر : { يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } واختلف في معنى ذلك . فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها . وهو أبلغ من نفيه الرؤية . وإنه قد ينفي وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته . فكأنه قال : لم يقارب رؤيتها بوجه .
قال هؤلاء : كاد من أفعال المقاربة . لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات . فإذا قيل : كاد يفعل ، فهو إثبات مقاربة الفعل . وإذا قيل : لم يكد يفعل ، فهو نفي لمقاربة الفعل .
وقالت طائفة أخرى : بل هذا دالّ على أنه إنما يراها بعد جهد شديد . وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات : قالوا : لأن كاد لها شأن ليس لغيرها من الأفعال . فإنها إذا أثبتت نفت . وإذا نفت أثبتت . فإذا قلت : ما كدت أصل إليك فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة . فهذا إثبات للوصول . وإذا قلت : كاد زيد يقوم فهي نفي لقيامه . كما قال تعالى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] .
ومنه قوله تعالى : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } [ القلم : 51 ] ، وأنشد بعضهم في ذلك لغزاً :
~أنحويَّ هذا العصر ! ما هي لفظةٌ جرت في لسانيْ جرهم وثَمُودِ ؟
~إذا استعملت في صورة النفي أثبَتَتْ وإن أثْبَتَتْ قامت مقام جُحُودِ
وقالت فرقة ثالثة ، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره : إن استعمالها مثبتة ، يقتضي نفي خبرها . كقولك كاد زيد يقوم واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى ، فهي عنده تنفي الخبر . سواء كانت منفية أو مثبتة . فلم يكد زيد يقوم أبلغ عند في النفي من لم يقم واحتج بأنها إذا نفيت - وهي من أفعال المقاربة - فقد نفيت مقاربة الفعل . وهو أبلغ من نفيه . وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها . وذلك يدل على عدم وقوعه . واعتذر عن مثل قوله تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] ، وعن مثل قوله : وصلت إليك وما كدت أصل وسلمت وما كدت أسلم بأن هذا وارد على كلامين متباينين . أي : فعلت كذا بعد أن لم أكن مقارباً له ، فالأول يقتضي وجود العمل ، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقارباً له ، بل كان آيساً منه . فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان .
وذهبت فرقة رابعة إلى الفرقة بين ماضيها ومستقبلها . فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل . سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل . وإن كانت في طرف النفي ، فإن كانت بصيغة المستقبل ، كانت لنفي الفعل ومقاربته . نحو قوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] ، فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة .
والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة . ولها حكم سائر الأفعال . ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها . فإنها لم توضع لنفيه . وإنما استفيد من لوازم معناها . فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل ، لم يكن واقعاً ، فيكون منفياً باللزوم . وأما إذا استعملت منفية ، فإن كانت في كلام واحد ، فهي لنفي المقاربة . كما إذا قلت : لا يكاد البطال يفلح ولا يكاد البخيل يسود ولا يكاد الجبان يفرح ونحو ذلك . وإن كانت في كلامين ، اقتضت وقوع الفعل ، بعد أن لم يكن مقارباً . كما قال ابن مالك : فهذا التحقيق في أمرها .
والمقصود إن قوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر . فإذا كان لا يقارب رؤيتها ، فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة :
~إذا غَيَّرَ النأيُ المحبينَ لم يَكَدْ رسيسُ الْهَوَى فِي حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
أي لم يقارب البراح . وهو الزوال ، فكيف يزول ؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولاً ، في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم ، بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد . فإذا جاءه وجده عنده عكس ما أمله ورجاه . شبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها ، لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان ، بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج : الذي قد غشيه السحاب من فوقه . فيا له تشبيهاً ما أبدعه ! وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال ! وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه ! وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم . وكل واحد من السراب والظلمات ، مثل لمجموع علومهم وأعمالهم . فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها . وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه ، التي تلقاها من مشكاة النبوة . فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد . ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة . ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع ، لأوليائه وأعدائه . انتهى . كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ثم أشار تعالى إلى تعديل الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته ، وظهور أمره وجلالته ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [ 41 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : ينزهه ويقدسه وحده ، أهلوهما : { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي : يصففن أجنحتهن في الهواء : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي : كل واحد مما ذكر ، قد هدى وأرشد إلى طريقته ومسلكه ، في عبادة الله عزَّ وجلَّ . فالضمير في علم لكل . أو للفظ الجلالة ، كالضمير في صلاته وتسبيحه .
قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه ، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها .
وتقدم في سورة الإسراء كلام في تسبيح الجمادات ، فارجع إليه : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [ 42 ] .
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : هو الإله الحاكم المتصرف فيهما ، الذي لا تنبغي العبادة فيهما إلَّا له ، وإليه يوم القيامة ، مصير الخلائق ، فيحكم بينهم ، ويجزي الذين أساءوا بما عملوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ } [ 43 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } أي : يسوقها برفق . ومنه البضاعة المزجاة ، يزجيها كل أحد . أي : يدفعها لرغبته عنها ، أو لقدرته على سوقها وإيصالها : { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } بضم بعضه إلى بعض . فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : متراكماً بعضه فوق بعض : { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي : المطر : { يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } وهي فرجه ومخارج القطر منه : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } قال ابن كثير : يحتمل المعنى : فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء . ويحتمل المعنى : فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع . ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم . انتهى .
وخلاصته أن الضمير إما للأقرب ، على الثاني ، أوله ولما قبله ، على الأول .
لطيفة :
قد ذكرت من الجارّة في الآية ثلاث مرات . فالأولى ابتدائية اتفاقاً . والثانية زائدة أو تبعيضية أو ابتدائية ، على جعل مدخولها بدلاً مما قبله بإعادة الجار . والثالثة فيها هذه الأقوال . وتزيد برابع ، وهو أنها لبيان الجنس . والتقدير : ينزل من السماء بعض جبال ، التي هي البرد .
{ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } أي : لمعانه : { يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ } أي : يخطفها لشدته وقوته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ 44 ] .
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يأتي بكل منهما بدل الآخر خلفاً له . أو يأخذ من طول أحدهما فيجعله في الآخر رحمة بالعباد ، لانتظام معايشهم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ 45 - 46 ] .
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ } كل حيوان يدب على الأرض من ماء ، وهو جزء مادته . أو ماء مخصوص هو النطفة ، فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكلّ لأن من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة . وقيل : { مِنْ مَاءٍ } متعلق بدابة وليست صلة لخلق : { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحيات [ في المطبوع : الحياة ] . وتسمية حركتها مشياً ، مع كونها زحفاً ، بطريق الاستعارة أو المشاكلة : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي : مما ذكر وغيره ، على من يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والحركات : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو صراط تلك الآيات ، صراط الحق والهدى والنور . وهم المؤمنون الصادقون الذين استجابوا لله والرسول ، وإذا دعوا إلى حكمها استكانوا .
ثم أشار إلى ما كانت يقع من المنافقين من أثر النفاق ، تحذيراً من صنيعهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 47 - 50 ] .
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : دعوى الإيمان : { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } أي : في قلوبهم . ثم برهن عليه بقوله : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ } أي : كتابه : { وَرَسُولِهِ } أي : سنته وحكمه : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } أي : عن المجيء إليه : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ } أي : الحكومة لهم ، لا عليهم : { يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } أي : مسرعين طائعين . وقوله تعالى : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } أي في الحكم فيظلموا فيه . قال أبو السعود : إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور . وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم ، والمتوقعة منهم . وتردي المنشئية بينها . فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة وأَمْ من الأمور الثلاثة ، بل هو منشئيتها له . كأنه قيل : أذلك ، أي : إعراضهم المذكور ، لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ، أم لأنهم ارتابوا في أمر نبوته عليه السلام ، مع ظهور حقيتها ؟ أم لأنهم يخافون الحيف ممن يستحيل عليه ذلك ؟ إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة ، التي كل واحد منها كفر ونفاق .
ثم بيّن اتصافهم مع ذلك بالوصف الأسوأ وهو الظلم ، بقوله تعالى : { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : الذين رسِخ فيهم خلق الظلم لأنفسهم ولغيرهم . فالإضراب انتقالي .
والمعنى : دع هذا كله ، فإنهم هم الكاملون في الظلم ، الجامعون لتلك الأوصاف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ 51 - 52 ] .
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيها وجوب الحضور على من دعي لحكم الشرع ، وتحريم الامتناع ، واستحباب أن يقول : سمعنا وأطعنا . انتهى .
ثم أشير إلى حكاية شيء من أحوال أولئك المنافقين الممتنعين عن قبول حكمه ، وذلك إقسامهم الكاذب ، ليستدل به على إيمانهم الباطن ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 53 ] .
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ } أي : بالخروج من ديارهم وأموالهم وأهليهم : { لَيَخْرُجُنَّ } أي : مجاهدين . وجهد منصوب على الحالية . أو هو مصدر لأقسموا من معناه . وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها . أي : أكدوا الأيمان وشدّدوها : { قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أي : لا تقسموا على ذلك وتشددوا لترضونا . فإن الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة ، لا تنكرها النفس . إذ لا حرج فيها . فأطيعوا بالمعروف من غير حلف ، كما يطيع المؤمنون . وقيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة . أي : أنها قول بلا عمل . إذ عرف كذبكم في أيمانكم . كما قال تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } [ التوبة : 96 ] الآية ، وقال تعالى : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } [ المجادلة : 16 ] الآية ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } [ الحشر : 11 - 12 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي منها الأيمان الكاذبة ، وما تضمرونه من النفاق ومخادعة المؤمنين ، التي لا تخفى على من يعلم السر وأخفى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ 54 ] .
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تولوا عن الإطاعة : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي : كلفه من أداء الرسالة . فإذا أدى فقد خرج من عهدة تكليفه .
{ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } أي : ما أمرتم به من الطاعة والتلقي بالقبول والإذعان والقيام بمقتضاه : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } أي : لأنه يدعوكم إلى الصراط المستقيم . فإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى . وإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : التبليغ البيّن بنفسه ، أو الموضح لما أمرتم به .
ولما تضمن قوله تعالى : { تَهْتَدُوا } إشارة إلى وعد كريم ومستقبل فخيم ، استأنف التصريح به تقريراً له ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 55 ] .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : يورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم . أو خلفاء من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة : { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المؤمنة برسلها . التي أهلك الله عدوَّها ، وأورثها أرضها وديارها . كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم فلسطين ، بعد إهلاك الجبابرة : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } أي : فليجعلن دينهم ثابتاً مقرراً ، مرفوع اللواء ، ظاهراً على غيره ، قاهراً لمن ناوأه .
قال أبو السعود : وفي إضافة الدين إليهم . وهو دين الإسلام ، ثم وصفه بارتضائه لهم ، تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه ، وفضل تثبيت عليه : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد هذا الوعد الكريم الموجب لتحصيل ما تضمنه من السعادتين : { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الكاملون في فسقهم . حيث كفروا تلك النعمة العظيمة . وجسروا على غمطها .
تنبيه :
في هذه الآية من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه - ما لا يخفى . فقد أنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعدُ بلادَ المشرق والمغرب . ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا ، وصاروا إلى حال يخافهم كل من عداهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 56 - 57 ] .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } معطوف على أطيعوا الله وما اعترض بينهما كان تأكيداً ، أو على مقدر يستدعيه السوق . أي : فآمنوا واعملوا صالحاً وأقيموا . أو فلا تكفروا وأقيموا . الخ . ثم كرر طاعة الرسول ، تأكيداً لوجوبها ، بقوله : { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } أي : معجزين لله تعالى ، بل مدرَكُون : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
ثم أشير إلى تتمة الأحكام السابقة ، إثر تمهيد ما يجب امتثاله من الأحكام ، ومن الترغيب والترهيب ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 58 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من العبيد والجواري : { وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } أي : هي ثلاث عورات لكم . إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختلّ فيها التستّر عادة ، ويكون النوم فيها مع الأهل غالباً . فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال ، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ } أي : ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن . ولا عليهم جناح من الدخول بدونه ، بعد هذه الأوقات ، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته . وذلك لأنهم طوافون عليكم ، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة : { بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : بعضكم طائف على بعض طوافاً كثيراً . أو بعضكم يطوف على بعض .
قال الزمخشري : يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام . فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدّى إلى الحرج { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن .
تنبيه :
في الآية إقرارُ ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت الظهيرة . وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز . كذا في " الإكليل " . وقال الرازي : الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما بقوله تعالى : { ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة ، وبين ما عداها ، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 59 ] .
{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ } أي : الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة : { مِنْكُمُ } أي : من الأحرار ، دون المماليك ، فإنهم باقون على الرخصة : { الْحُلُمَ } أي : حدّ البلوغ بالاحتلام ، و بالسنّ الذي هو مظنة الاحتلام : { فَلْيَسْتَأْذِنُوا } أي : في سائر الأوقات أيضاً : { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } [ 27 ] .
والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاثة . فإذا اعتاد الأطفال ذلك ، ثم خرجوا عن حدّ الطفولة ، بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن .
وهذا مما الناس منه في غفلة . وهو عندهم كالشريعة المنسوخة . وعن ابن عباس : آيةٌ لا يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن . وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ .
وسأله عطاء : أستأذنُ على أختي ؟ قال : نعم ، وإن كانت في حجرك تمونها . وتلا هذه الآية .
وعنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله . وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، فقال ناس : أعظمكم بيتاً . وقوله : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } [ النساء : 8 ] . كذا في " الكشاف " .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ . وأن البلوغ يكون بالاحتلام . وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان ، كالأجانب . انتهى .
وقال التقي السبكي في " إبراز الحكم في شرح حديث رفع القلم " : أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل . ويدل لذلك قوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا } وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : < وعن الصبيّ حتى يحتلم > . وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس . قال : والآية أصرح . فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم . وورد أيضاً عن علي رضي الله عنه ، رفعه : < لا يُتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل > رواه أبو داود . والمراد بالاحتلام خروج المني . سواء كان في اليقظة أم في المنام ، بحلم أو غير حلم . ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم ، أطلق عليه الحلم والاحتلام ، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني ، فلا حلم له .
ثم قال : وقوله في الحديث : < حتى يحتلم > دليل البلوغ بذلك . وهو إجماع . وهو حقيقة في خروج المني بالاحتلام ، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو مناماً . أو منقول فيما هو أعم من ذلك ، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني ، إن أطلقناه عليه منقولاً عنه . ولكونه فرداً من أفراد الاحتلام . انتهى .
وفي " القاموس " : الْحلُم بالضم والاحتلام : الجماع في النوم . والاسم الحلم كعنق . انتهى .
وقال الراغب : سمي البلوغ حلماً ، لكون صاحبه جديراً بالحِلم : أي : الأناة والعقل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 60 ] .
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ } أي : اللاتي قعدن عن الحيض والولد ، لكبرهن : { اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً } أي : لا يطمعن فيه ، لرغبة الأنفس عنهن : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } أي : الظاهرة مما لا يكشف العورة ، لدى الأجانب . أي : يتركن التحفظ في التستر بِهَا . فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن : { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أي : مظهرات لزينة خفية . يعني الحليّ في مواضعه المذكورة في قوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } [ 31 ] أو المعنى غير قاصدات بالوضع ، التبرج . ولكن التخفف إذا احتجبن إليه : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ } أي : من وضع تلك الثياب : { خَيْرٌ لَهُنَّ } لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة . ولذا يلزمهن ، عند المظنة ، ألا يضعن ذلك . كما يلزم مثله في الشابة : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فيسمع مقالهن مع الأجانب ، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب . وفيه من الترهيب ما لا يخفى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 61 ] .
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي : في القعود عن الغزو ، لضعفهم وعجزهم . وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وزَعْمُ أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده ، مردود بأن المراد أن كلّاً من الطائفتين منفيّ عنه الحرج . ومثال هذا - كما قال الزمخشريّ - أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان . وحاجّ مفردِ عن تقديم الحلق على النحر . قلت له : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك ، يا حاج أن تقدم الحلق عن النحر . يعني أنه إذا كان في العطف غرابة ، لبعد الجامع في بادئ النظر ، وكان الغرض بيان حكم حوادث تقاربت في الوقوع ، والسؤال عنها والاحتياج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء ، والإفتاء كان ذلك جامعاً بينها ، محسناً للعطف ، وإن تباينت .
قال الشهاب : وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده .
لأن ملائمته لما بعده قد عرف وجهها . وأما ملائمته لما قبله فغير لازمة ، إذا لم يعطف عليه . انتهى .
وقيل : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها . فخالج قلوب المطعِمين والمطعَمين ريبة في ذلك . وخافوا أن يلحقهم فيه حرج . وكرهوا أن يكون أكلاً بغير حق ، لقوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] ، فقيل لهم : ليس على الضعفاء ، ولا على أنفسكم ، يعني عليكم ، وعلى مَن في مثل حالكم من المؤمنين ، حرج في ذلك .
وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم ، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم . ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر . والأعرج يتفسح في مجليه ويأخذ أكثر من موضعه ، فيضيق على جليسه . والمريض لا يخلو عن حالة تؤنف .
وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم . فكانوا يتحرجون . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت .
هذا ما ذكروه . ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ، ونفي الحرج عنه كله .
ولا يستلزم نفي الحرج عن مواكلة المريض على هذه الأوجه الأخر ، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب ، وغدت الأنفس تعافه . بل يراد به حضوره مع الصحيح على مائدة واختصاصه بقصعة على حدة . وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع ، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع . وقوله تعالى : { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } أي : بيوت أزواجكم وعيالكم . أضافه إليهم ، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفرّاء .
وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم . فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء ، لأن الولد كسب ولده ، ماله كماله . قال صلى الله عليه وسلم : < إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وأن ولده من كسبه > .
قال : والدليل على هذا ، أنه تعالى عدّد الأقارب ولم يذكر الأولاد . لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى . انتهى .
وعليه ، لا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج ، فما فائدة ذكره بأن المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد ، كما في قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] .
وفي " الكشف " : فائدة إقحام النفس ، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين ، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء - حرج .
وقيل إنه على ظاهره . والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه .
قال الشهاب : وهو حسن . ولا يراد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد ، لأنه داخل في قوله : { مِنْ بُيُوتِكُمْ } . انتهى .
{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } يعني أموال المرء ، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له ، أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته . وملك المفتاح كونها في يده وحفظه : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي : أو بيوت أصدقائكم . والصديق يكون واحداً وجمعاً . وكذلك الخليط والقطين والعدو . كذا في " الكشاف " .
قال الناصر : وقد قال الزمخشري : إن سرّ إفراده في قوله تعالى : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] ، دون الشافعين ، والتنبيه على قلة الأصدقاء ، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمي له ، ويشفع في حقه من لا يعرفه ، فضلاً عن أن يكون صديقاً .
ويحتمل في الآيتين ، أن يكون المراد به الجمع . فلا كلام . ويحتمل أن يراد الإفراد ، فيكون سرّه ذلك . والله أعلم .
قال الزمخشري : يحكى عن الحسن أنه دخل داره . وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سروراً ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم . يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم .
وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء . فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سروراً بذلك .
وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عظم حرمة الصديق ، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصديق أكبر من الوالدين . إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات . فقالوا : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] . وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح . وربما سمج الاستئذان وثقل . كمن قدم إليه طعام ، فاستأذن صاحبه في الأكل منه . انتهى .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } أي : مجتمعين أو متفرقين . روي أن قوماً من الأنصار إذا نزل بهم ضيف ، لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وإن قوماً كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض . فأبيح لهم ذلك .
وقال قتادة : كان هذا الحيّ من بني كنانة ، يرى أحدهم ؛ أن مخزاة عليه ، أن يأكل وحده في الجاهلية . حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه . واشتهر هذا عن حاتم لقوله :
~إذا ما صَنعْتِ الزَّادَ فَالتَمِسِي لَهُ أكيلاً فإِني لستُ آكِلَهُ وَحْدِي
قال الشهاب : وفي الحديث : < شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده > والنهي في الحديث لاعتياده بخلاً بالقرى ، ونفي الحرج عن وقوعه أحياناً ، بيان لأنه لا إثم فيه ، ولا يذم به شرعاً ، كما ذمّت به الجاهلية .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : إذا دخلتم بيتاً من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ، قرابة وديناً . قاله الزمخشري .
أشار رحمه الله ، إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها ، لشدة الاتصال كقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ويحتمل أن المسلم ، إذا ردت تحيته عليه ، فكأنه سلم على نفسه . كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله ، كأنه قاتل نفسه . وأما إبقاؤه على ظاهره ؛ إذا لم يكن في البيت أحد ، يسره أن يقول : السلام علينا وعلى عَبَّاد الله الصالحين . كما روي عن ابن عباس - فبعيد غير مناسب لعموم الآية . كذا في " الشهاب " .
وقال الناصر : في التعبير عنهم ، بالأنفس ، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة ، وأن ذلك إنما كان ، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه ، لاتحاد القرابة . . فليطب نفساً بانبساط فيها : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : ثابتة بأمر ، مشروعة من لدنه : { مُبَارَكَةً } أي : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها : { طَيِّبَةً } أي : تطيب بها نفس المستمع : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين .
ولما أمر تعالى بالاستئذان عند الدخول ، أرشد إلى الاستئذان عند الانصراف من مجلسه صلوات الله عليه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 62 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال الزمخشري : أراد عزَّ وجلَّ أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه . فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله . وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول ، أحاطت صلته بذكر الإيمانيْن . ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً ، حيث أعاده على أسلوب آخر ، وهو قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وضمنه شيئاً آخر . وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانَيْنِ ، وعرّض بحال المؤمنين وتسلّلهم لواذاً . ومعنى قوله : { لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصوبأن يأذن له .
والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس . فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز . وذلك نحو مقاتلة عدوّ ، أو تشاور في خطب مهم ، أو تضامّ لإرهاب مخالف ، أو تسامح في حلف وغير ذلك . أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ : أمر جميع . وفي قوله : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } أنه خطب جلل ، لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم ، في كفايته . فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ، مما يشق على قلبه ، ويشعّث عليه رأيه فمن ثم غلّظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } وذكرُ الاستغفار للمستأذنين ، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدّثوا أنفسهم بالذهاب ، ولا يستأذنوا فيه .
وقيل : نزلت في حفر الخندق . وكان قوم يتسللون بغير إذن . وقالوا : كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام . إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن . على حسب ما اقتضاه رأيه .
تنبيه :
استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوّضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم . وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض . وهي مبسوطة في الأصول ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 63 ] .
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } أي : إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر ، فدعاكم ، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه . ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً . ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، قاله [ في المطبوع : قال ] الزمخشري .
وكذا قال ابن الأثير في " المثل السائر " أي : إذا حضرتم في مجلسه ، فلا يكن حضوركم كحضوركم في مجالسكم . أي : لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه ، والزموا معه الأدب .
وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر . منهم ابن أبي الحديد حيث قال في " الفلك الدائر " : إن المعنى المتقدم ، وإن دلت عليه قرينة متقدمة ، كما قال ابن الأثير - ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا . ولعله الأصح . وهي أن يراد بالدعاء الأمر . يقال : دعا فلان قومه إلى كذا ، أي : أمرهم به وندبهم إليه وقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ، أي : ندبكم . وقال سبحانه : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } [ نوح : 7 ] ، أي : أمرتهم وندبتهم ، والقرينة المتأخرة قوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } انتهى . وكذا قال المهايمي : أي : لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى . لأنه واجب الطاعة . لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعوّ .
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً } أي : ينسلون قليلاً قليلاً . واللواذ : الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا . يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة ، واستتار بعضهم ببعض . ولواذاً حال . أي : ملاوذين .
هذا ، وقيل معنى الآية : لا تجعلوا نداءه وتسميته ، كنداء بعضكم باسمه ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة . ولكن بلقبه المعظم . مثل : يا نبيّ الله ! ويا رسول الله ! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت .
وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق . وتكلف بعضهم لربطه بما قبله ، بأن الاستئذان يكون بقولهم : يا رسول الله ! إنا نستأذنك . ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه . والأول أظهر وأولى كما في " العناية " .
نعم ، في التنزيل عدة آيات ، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير ، جعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه . كآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] الآية ، و : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] ، إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] ، { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي : يعرضون عنه ولا يأتون به . فضمن المخالفة معنى الإعراض والصدّ . أو عن صلته . وقيل : إذا تعدى خالف بعن ضمن الخروج . وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله ، كما قاله الراغب : { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي : محنة في الدنيا : { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة أو فيهما .
تنبيه :
استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته ، وأصول دينه . فما وافق قبل ، وما خالف رد على قائله وفاعله ، كائناً من كان . كما ثبت في الصحيحين عنه صلوات الله عليه وسلامه : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد > واستدل بالآية أيضاً أن الأمر للوجوب . فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين . قيل : هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله : { عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } وقد جوّزا فيه مع إرادتهما معاً . وتفصيل البحث في " الرازي " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 64 ] .
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أيها المكلفون من المخالفة والموافقة ، والنفاق والإخلاص . وإنما أكد علمه بقد لتأكيد الوعيد { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فلا يخفى عليه خافية . لأن الكل خلقه وملكه . فيحيط علمه به ضرورة { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] .

(/)


سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ 1 ] .
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها ، لما أنزله من الفرقان ، كما قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 1 - 2 ] .
قال الزمخشري : البركة : كثرة الخير وزيادته . ومنها : { تَبَارَكَ اللَّهُ } . وفيه معنيان : تَزَايَدَ خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه ، في صفاته وأفعاله . و : { الْفُرْقَانَ } مصدر فرق بين الشيئين ، إذا فصل بينهما . وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل . أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقاً مفصلاً بعضه عن بعض في الإنزال .
ألا ترى إلى قوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] ، انتهى .
قال الناصر : والأظهر هاهنا هو المعنى الثاني . لأنه في أثناء السورة بعد آيات : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ 32 ] ، قال الله تعالى : { كَذَلِكَ } أي : أنزلناه مفرقاً كذلك : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة - والله أعلم - . كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد . انتهى .
قال أبو السعود : وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان ، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبداً للمرسل ؛ ردّاً على النصارى ، والكناية في ليكون للعبد أو للفرقان . والنذير صفة بمعنى منذر ، أو مصدر بمعنى الإنذار ، كالنكر مبالغة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ 2 ] .
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أي : أحدثه إحداثاً مراعي فيه التقدير والتسوية لما أريد منه . كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة . وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة . بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما ، ومصلحته مطابقاً لما قدر له ، غير متجاف عنه .
ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة ، تأثره بالبرهنة عليهما ، وتضليل المخالفين فيهما ، بقوله سبحانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً } [ 3 ] .
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً } أي : لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أوّلاً وبعثه ثانياً . ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية ، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها . وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء . أفاده القاضي .
قال الشهاب : قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار ، إما بياناً لحاصل المعنى ، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة ، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال . كما في قوله : { أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ 4 - 5 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً } أي : بجعل الصدق إفكاً ، والبريء عن الإعانة معيناً : { وَزُوراً } أي : باطلاً لا مصداق له ، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا } أي : ما سطروه , كتبها لنفسه وأخذها : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } أي : تلقى عليه ليحفظها : { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : دائماً .
قال ابن كثير : وهذا الكلام ، لسخافته وكذبه وبهته منهم ، يعلم كل أحد بطلانه . فإنه قد علم بالضرورة : أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعاني شيئاً من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره . وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده ، إلى أن بعثه الله نحواً من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته . وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره ، وإلى أن بعث بالأمين لما يعلمون من صدقه وبره . فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، ورموه بهذه الأقوال ، التي يعلم كل عاقل براءته منها . وحاروا بما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر . وتارة يقولون : شاعر . وتارة يقولون : مجنون . وتارة يقولون كذاب ، قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ] و [ 9 ] ، وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [ 6 ] .
{ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : الخفيّ فيهما . إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى . ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله ، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره . وفي طيّه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، مع ما يتقولونه ويفترونه ، لا يعزب عن علمه . فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم ، وسموق حقه وظهور أمره : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم ، مع استيجابهم إياها . أي : فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته . أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم . لأنه لا يوصف بالمغفرة إلا القادر . هذا ما يستفاد من " الكشاف " ومن تابعه ، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله .
وقال ابن كثير : قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه . فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم سبحانه إلى التوبة ، والإقلاع عما هم فيه ، إلى الإسلام والهدى . كما قال تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 73 - 74 ] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [ البروج : 10 ] ، قال الحسن البصريّ : انظروا إلى هذا الكرم والجود . قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة .
ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ 7 ] .
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } أي : كما نأكل : { وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } أي : يتردد فيها لشؤونه كما نمشي . قال الزمخشري : يعنون أنه كان يجب أن يكون ملَكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش . أي : فيخالف حالُه حالنا . قال أبو السعود : وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم ، وقصور أنظارهم على المحسوسات . فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية ، وإنما هو بأمور نفسانية . كما أشير إليه بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون مَلَكاً ، إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملَك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا : { لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } ثم نزلوا أيضاً إلى اقتراح أن يرفد بكنز ، إن لم يرفد بملك ، فقالوا :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً } [ 8 ] .
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } أي : من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى طلب المعاش , ويكون دليلاً على صدقه . ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه ، فقالوا : { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي : بستان يرتزق منه : { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً } أي : مغلوباً على عقله . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ 9 ] .
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ } استعظام للأباطيل التي اجترأوا على التفوه بها . والتعجب منها . أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول : { فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } أي : القدح في نبوّتك ، بأن يجدوا قولاً يستقرّون عليه ، أو فَضَلُّوا عن الحق فلا يجدون طريقاً إليه .
قال ابن كثير : كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال ، حيثما توجه ، لأن الحق واحد ، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً .
ثم نبه تعالى على أَنَّهُ إن شاء آتاه خيراً مما يقترحون ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً } [ 10 ] .
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً } أي : إن شاء جعل لك خيراً مما قالوا . وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور . ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال . وليصدع بأن الأمر مبنيّ على النظر والاستدلال ، لا ما يلهي المشاعر والخيال . مما يتطرق إلى الشغب فيه الجدال ، فسبحان الحكيم المتعال . وقوله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً } [ 11 ] .
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } إضراب انتقاليّ عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة ، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى ، للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها ، من فنون العذاب ، بقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً } أي : ناراً شديدة الاستعار ، أي : التوقد والالتهاب .
وقيل : هذا الإضراب عطف على ما حكى عنهم وهو : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ } على معنى : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة . والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيراً . فإن جراءتهم على التكذيب بها ، وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها ، أعجب من القول السابق .
ويجوز أن يتصل بما يليه ، كأنه قيل : بل كذبوا بالساعة ، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ؟ وكيف يصدقون بتعجيل ما وعدك الله في الآخرة وهم لا يؤمنون بها ؟ . ثم وصف تعالى السعير بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ 12 ] .
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } أي : إذا كانت بمرأى منهم : أي : قريبة منهم ) ونسبة الرؤية إليها لا إليهم ، للإيذان بأن التغيظ والزفير منها ، لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم ، حقيقة أو تمثيلاً . ومن في قوله : { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة ، حين رأتهم ، خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة . فيه مزيد تهويل لأمرها . أفاده أبو السعود . والتغيّظ : إظهار الغيظ وهو أشد الغضب ، وقد يكون مع صوت كما هنا . شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره ، وهو صوت يسمع من جوفه ، تصريحاً أو مكنياً أو تمثيلاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً } [ 13 - 14 ] .
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ } أي : قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل : { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً } أي : هلاكاً . أي : نادوه نداء المتمني الهلاك . ليسلموا مما هو أشد منه . كما قيل : أشد من الموت ما يُتمنى معه الموت . فيقال لهم : { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً } لكثرة أنواعه المتوالية . فإن عذاب جهنم ألوان وأفانين . أو كثرته باعتبار تجدد أفراده وإن كان متحداً . أو كثرته كناية عن دوامه . لأن الكثير شأنه ذلك كما قيل في ضده : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 32 - 33 ] ، وقيل : وصف الثبور بالكثرة ، لكثرة الدعاء أو المدعوّ به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً } [ 15 - 16 ] .
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً } أي : حقيقاً أن يسأل ويطلب ويتنافس فيه . وما في على من معنى الوجوب ، لامتناع الخلف في وعده تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً } [ 17 - 18 ] .
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ } أي : الله تعالى للمعبودين ، تقريعاً لعبدتهم : { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } أي : عن السبيل بأنفسهم ، لإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن المرشد : { قَالُوا سُبْحَانَكَ } تعجباً مما قيل لهم . لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء . أو تنزيهاً له عن الأنداد : { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليّاً غيرك ، أو من أولياء أي : أتباعاً للعبادة : { وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ } استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون ، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم . وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسباباً للضلالة . أي : ما أضللناهم . ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ، ليعرفوا حقها ويشكروها . فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر ، أي : ذكرك . أو التذكر في آلائك ، والتدبر في آياتك ، فجعلوا أسباب الهداية ، بسوء اختيارهم ، ذريعة إلى الغواية - أفاده أبو السعود : { وَكَانُوا قَوْماً بُوراً } أي : هالكين . ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ 19 ] .
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } أي : المعبودون ، أيها الكفرة : { بِمَا تَقُولُونَ } أي : في قولكم إنهم آلهة . أو في قولكم هؤلاء أضلونا : { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } أي : ما تملكون : { صَرْفاً } أي : دفعاً للعذاب عنكم بوجه ما : { وَلا نَصْراً } أي : لأنفسكم من البوار : { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء : { نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } . ثم أجاب عن شبههم السابقة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ 20 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } أي : لَيحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة . وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم . فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة القاهرة ، ما يستدل به كل ذي لب به كل سُلَيم وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } [ 8 ] .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافاً لمن كرهها لهم .
وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } قال الزمخشريّ : هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق . بعدما احتج عليهم بسائر الرسل . يقول : وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم ، أيها الناس ، ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم . وبمناصبتهم لهم العداوة . وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف ، وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل . ونحوه : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عِمْرَان : 186 ] ، وفي قوله تعالى : { وكانَ رَبُّكَ بَصِيراً } زيادة تسلية وعدة جليلة . أي : هو عالم فيما يبتلي به وغيره ، فلا يضق صدرك . فإن في صبرك سعادة وفوزاً في الدارين .
ثم أشار إلى نوع آخر من أقاويلهم الباطلة ، وإبطالها ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ 21 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي : الرجوع إليه بالبعث والحشر : { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } أي : للرسالة ، أو لتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم : { أَوْ نَرَى رَبَّنَا } أي : فيخبرنا بذلك : { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ } أي : في شأنها حتى تفوّهوا بمثل هذه العظيمة : { وَعَتَوْا } أي : تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان : { عُتُوّاً كَبِيراً } أي : بالغاً أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الربانيّ من غير توسط الرسول والملك . ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً } [ 22 ] .
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } أي : عند الموت أو في القيامة : { لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً } أي : كما كانوا يقولون عند لقاء العدوّ وشدة النازلة : { حِجْراً } أي : أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً و : { مَحْجُوراً } تأكيد لـ : { حِجْراً } وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أي : جعل الله ذلك حراماً عليكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ 23 ] .
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } أي : مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة ، ويرونه من مكارمهم : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } أي : مثل الغبار المنثور في الجوّ ، في حقارته وعدم نفعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } [ 24 - 25 ] .
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } أي : ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم . فيخرب العالم بأسره . والباء بمعنى : مع أي : مع السحب الجوية أو بمعنى : عن أي : تنفطر عن الغمام الذي يسوّد الجو ويظلمه ، ويغم القلوبَ مرآه : { وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } فيحيطون بالخلائق في المحشر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً } [ 26 - 29 ] .
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } أي : فلا يدعيه ثَمَّ غيره . ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة : { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } أي : تشتد حسراته وتتصاعد زفراته : { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً } يعني من أضلّه عن الذكر ، وصده عن سبيل الله : { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ } أي : القرآن ، أو موعظة الرسول : { إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً } أي : مبالغاً في إضلاله ، يعده ويمنيه في الدنيا ، ما يحسّره عليه في العقبى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [ 30 ] .
{ وَقَالَ الرَّسُولُ } أي : إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم : { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } أي : متروكاً ، معرضاً عنه . وجملة : { وَقَالَ الرَّسُولُ } عطف على : { وقال الذين لا يرجون } وما بينهما اعتراض ، سيقت لانتظام ما قالوه ، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهيّ مما أضاقوا به الصدور ، وجلبوه من الكدور ، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين .
تنبيه :
الآية ، وإن كانت في المشركين ، وإعراضُهم هو عدم إيمانهم ، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به ، والأخذ بآدابه . الذي هو حقيقة الهجر . لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك . إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها . ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها .
ومن فوائد الإمام ابن القيم رحمه الله . قوله في هذه الآية : هجر القرآن أنواع :
أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .
والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .
والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم .
والرابع : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها . فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .
قال : وكل هذا داخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى .
وفي " الإكليل " : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهد بالقراءة فيه . وكذا قال أبو السعود : فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم . ثم قال : وفيه من التحذير ما لا يخفى . فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل لهم العذاب ولم يُنظروا . ثم ذكر تعالى ما يكون أسوة لنبيه ، وتسلية له ، ووعداً بالنصرة ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [ 31 ] .
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً } أي : إلى ما يبلغك ما تتمناه : { وَنَصِيراً } أي : لك على كل من يناوئك . ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ 32 - 33 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } أي : نقوّيه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } أي : فصلناه تفصيلاً بديعاً ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .
قال القاشانيّ : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدّة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالاً : { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : { إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ } أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } [ 18 ] ، { وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } أي : بياناً وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلاناً لأعداء الحق وخصوم الرشاد .
تنبيه :
يذكر المفسرون هاهنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سرّ مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهيّ الثبوت . لمقدار مكث النبيّ . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحاً لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرّض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } [ 34 - 36 ] .
{ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا } وهم فرعون وقومه . والآيات الخوارق التسع . أي : فذهبا إليهم . فأرياهموها فكذبوها : { فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } أي : بالإغراق في البحر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } [ 37 - 39 ] .
{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ } يعني نوحاً . وجُمع تعظيماً لرسالته . أو هو ومن تقدمه عليهم السلام : { أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً } يعني قوم هود : { وَثَمُودَا } بالصرف وعدمه . قراءتان . على معنى الحي أو القبيلة : { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } اسم بئر . ونبيهم قيل : شعيب ، وقيل غيره . ويروي هنا بعضهم آثاراً منكرة لا تصح . كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله . فلا يحل الجراءة على روايتها ، ولا تنزيل الآية عليها . لأنه من قَفْو ما ليس للمرء به علم . ومثله يحظر الخوض فيه { وَقُرُوناً } أي : أقوماً : { بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ } أي : الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد : { وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } أي : إهلاكاً عظيماً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً } [ 40 ] .
{ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ } أي : أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط : { أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا } أي : في مرورهم ، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ؟ وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر ، عند مشاهدة ما يوجبه : { بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً } أي : كفرة ، لا يتوقعون عاقبة وجزاءً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ 41 - 42 ] .
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً } أي : يستهزئون قائلين ذلك . والإشارة للاستحقار . لأن كلمة هذا تستعمل له . وعائد الموصول محذوف . أي : بعثه . ورسولاً حال منه : { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } أي : أنه كاد لَيصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً ، لولا أن ثبتنا عليها .
قال الزمخشريّ : فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم ، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم ، حتى شارفوا بزعمهم ، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } جواب منه تعالى لأخر كلامهم . وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال . ولا بد للوعيد أن يلحقهم ، فلا يغرنهم التأخير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } [ 43 ] .
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } تعجيب للنبيّ صلوات الله عليه من شناعة حالهم ، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال .
قال الزمخشريّ : من كان في طاعة الهوى في دينه ، يتبعه في كل ما يأتي ويذر ، ولا يتبصر دليلاً ، ولا يصغي إلى برهان ، فهو عابد هواه وجاعله إلهه . فيقول تعالى لرسوله : هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه ، فكيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى ؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام ؟ وتقول : لا بد أن تسلم ، شئت أو أبيت . ولا إكراه في الدين . وهكذا كقوله : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ قّ : 45 ] ، { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ 44 ] .
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } أي : منهم . لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها ، والنفرة مما يضرها . وهؤلاء عطّلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق ، ويميز بها بين الخير والشر . ثم أشار تعالى إلى بعض دلائل التوحيد ، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر ، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } [ 45 ] .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } أي : عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس : { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي : ثابتاً على حاله ، من الطول والامتداد . من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } أي : علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتاً في مكان ، زائلاً ومتسعاً ومتقلصاً . فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه ، على حسب ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } [ 46 - 47 ] .
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا } أي : أنزلناه بعد ما أنشأناه ممتداً ، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه : { قَبْضاً يَسِيراً } أي : على مهل ، قليلاً قليلاًَ حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقتها . وفي هذا القبض اليسير ، شيئاً بعد شيء ، من المنافع ما لا يعد ولا يحصر . ولو قبض دفعة واحدة ، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً } أي : ساتراً كاللباس : { وَالنَّوْمَ سُبَاتاً } أي : راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها : { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } أي : زمان انتشار لطلب المعاش .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } [ 48 - 49 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً } أي : ناشرات للسحاب وفي قراءة بشراً بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين ، أي : مبشرات : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : قدام المطر . وهي استعارة بديعة . استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت . كقوله : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ } [ التوبة : 21 ] ، وجعلها بين يديه تتمة لها . لأن البشير يتقدم المبشر به . ويجوز أن تكون تمثيلية . وبشراً من تتمة الاستعارة ، داخل في جملتها . ومن قرأ نشراً كان تجريداً لها . لأن النشر يناسب السحاب : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } أي : مطهراً ، لقوله : { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } [ الأنفال : 11 ] . وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء .
قال القاضي : وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه ، وتتميم للمنة فيما بعده . فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته . وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها ، فبواطنهم بذلك أولى : { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً } أي : بإنبات النبات : { وَنُسْقِيَهُ } أي : ذلك الماء : { مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } قال الكرخي : خص الأنعام بالذكر ، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر . ولذلك قدم سقيها على سقيهم ، كما قدم عليها إحياء الأرض . فإنها سبب لحياتها وتعيشها ، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [ 50 - 52 ] .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ } أي : كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر : { بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } أي : ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً } أي : كفران النعمة وجحودها : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً } أي : نبياً ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة . لكن لم نشأ ذلك ، فلم نفعله . بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ 1 ] ، إجلالاً لك وتعظيماً ، وتفضيلاً لك على سائر الرسل .
وقال المهايمي : أي : لكن لم نشأ . لأنه يقتضي تفرق الأمم ، وتكثر الاختلافات . فجعلنا الواحد نذيراً للكل ليطيعوه أو يقاتلهم . والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه : { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ } أي : فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر . ولا تطعهم فيما يريدونك عليه . وأراد بهذا النهي ، تهييجه وتهييج المؤمنين ، وتحريكهم . أي : إثارة غيرته وغيرتهم . وإلا فإطاعته لهم غير متصورة .
وقال أبو السعود : كأنه نهي له ، عليه الصلاة والسلام ، عن المداراة معهم ، والتلطف معهم . أي : لأن في ذلك إضعافاً للحق وتغشية عليه . وطول أمد في سريانه . ولذا قال : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } أي : بالقرآن وما نزل إليك من الحق : { جِهَاداً كَبِيراً } أي : لا يخالطه فتور ، بأن تلزمهم بالحجج والآيات ، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات ، لتتزلزل عقائدهم ، وتسمج في أعينهم عوائدهم . وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين ، ودعوتهم إلى الحق بقوة ، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة . فإن الحق يتضح بالأدلة . كما أن الشهور تشتهر بالأهلّة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً } [ 53 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } أرسلهما متجاورين متلاصقين ، بحيث لا يتمازجان : { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي : شديد العذوبة قامع للظمأ : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : بليغ الملوحة : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي : حاجزاً لا يختلط أحدهما بالآخر : { وَحِجْراً مَحْجُوراً } أي : منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر ، وامتزاجه به ، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة .
لطيفة :
تلطف هنا المهايميّ في تأويل الآية ، بمعنى يصلها بالآية قبلها ، في أسلوب غريب . قال رحمه الله في قوله تعالى : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } : يؤثر في بواطنهم فيكون : { كَبِيراً } يفوق ما يؤثر في الظواهر وإن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها ؟ قيل : غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين . وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان ، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ : { َهُوَ الَّذِي مَرَجَ } أي : جاور : { الْبَحْرَيْنِ } اللذين بينهما غاية الخلاف إذ : { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي : قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق ، القاطعة عطش الطلب : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : مبالغ في الملوحة . وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدّاً لأهل الذوق وأما لأهل النظر فقد : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي : مانعاً من الخلط . وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل وأما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها ، كما أنه جعل بينهما : { حِجْراً } أي : منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر : { مَحْجُوراً } أي : ممنوعاً أن يمنع . وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج ، قيل : ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل ، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب . وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالاً ، في قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [ 54 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً } أي : كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم : { فَجَعَلَهُ } أي : البشر : { نَسَباً } أي : أصلاً أو فرعاً أو حاشية لقوم : { وَصِهْراً } أي : لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره ، فيعتقد باطلهم حقّاً . كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم : { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } أي : وهو وإن صعب إزالته ، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير , قدير على إزالته . كما قدر في النسب والصهر . فلا يبالي المؤمنون لهما . انتهى كلام المهايميّ رحمه الله .
وهو منزع في باب الإشارة غريب ، أثرناه عنه للطافته . وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه ، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب ، أي : ذكوراً ينسب إليهم ، فيقال : فلان بين فلان وفلانة بنت فلان . وذوات صهر أي : إناثاً يصاهر بهن ، فظاهر . ونظيره قوله تعالى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } [ القيامة : 39 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً } [ 55 ] .
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً } أي : معيناً للشيطان على عصيان ربه . والمراد بالكافر الجنس ، فهو إظهار في مقام الإضمار ، لنفي كفرهم عليهم ، ولرعاية الفواصل الكريمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ 56 - 57 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على تبليغ الرسالة المفهوم من : { أَرْسَلْنَاكَ } : { مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي : يتقرب إليه بالإيمان والطاعة . أي : إلى رحمته أو جنابه . فاتخاذ السبيل ، مراد به لازم معناه . لأن من سلك طريق شيء ، قرب إليه ، بل وصل .
قال الزمخشريّ : مثال : { إِلَّا مَنْ شَاءَ } والمراد : إلّا فعل من شاء . واستثنائه عن . الأجر قولُ ذي شفقة عليك ، قد سعى لك في تحصيل مالٍ : ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت ، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه . فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب . ولكن صورّه هو بصورة الثواب وسماه باسمه ، فأفاد فائدتين : إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله . كأنه يقول لك : إن كان حفظك لمالك ثواباً ، فإني أطلب الثواب .
والثانية : إظهار الشفقة البالغة ، وأنك إن حفظت مالك اعتدَّ بحفظك ثواباً ورضي به ، كما يرضى المثاب بالثواب .
ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه . انتهى .
والاستثناء على هذا متصل ادعاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [ 58 ] .
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } أي : في دفع شرهم ومكرهم : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } أي : عليماً لا يعزب عنه منها شيء ، فيجزيهم عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ 59 ] .
{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي : من أيامه تعالى ، أو أيام الخلق ، قولان للسلف : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي : علا فوقه علوّاً يليق بجلاله المقدس . وتقدم تفسيره : { الرَّحْمَنُ } مرفوع على المدح . أي : هو الرحمن ، وهو في الحقيقة وصف آخر للحيّ ، كما قرئ بالجرّ . وقيل : الموصول مبتدأ والرحمن خبره . وقيل : الرحمن بدل من المستكن في : { اسْتَوَى } وقوله تعالى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } فيه أوجه : منها الباء في به صلة اسأل ومنها أنها صلة خبيراً وخبيراً مفعول اسأل أي : فسل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته . أو فسل رجلاً خبيراً به وبرحمته . وعليه ففائدة سؤاله هو تصدقه وتأييده .
قال الشهاب : ويصح تنازعهما - أي : اسأل وخبيراً - في الباء . وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب . وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية . وقد ذكره السعد في أواخر " شرح المفتاح " وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات . انتهى . ومنها أن الباء للتجريد . كقولك رأيت به أسداً . أي : برؤيته . أي : اسأل بسؤاله خبيراً والمعنى : إن سألته وجدته خبيراً .
قال في " الكشف " : وهو أوجه ، ليكون كالتتميم لقوله : { الَّذِي خَلَقَ } ، الخ فإنه لإثبات القدرة ، مدمجاً فيه العلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } [ 60 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } أي : من المسمى به ؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه . أو الاستفهام للتعجب والاستغراب ، تفنناً في الإباء . أي : وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها ، وتقرع آذاننا بالإذعان لها { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ } أي : الأمر بالسجود ، المراد به الإذعان بالإيمان : { نُفُوراً } أي : استكباراً عن الإيمان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً } [ 61 ] .
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً } أي : نجوماً أو هي البروج الاثنا عشر ، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة ، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } وهي الشمس : { وَقَمَراً مُنِيراً } أي : مضيئاً بالليل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ 62 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي : ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ } أي : يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته : { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي : يشكر على النعمة فيهما ، من السكون بالليل والتصرف بالنهار . ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ 63 - 64 ] .
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } أي : هينين . أو مشياً هيناً . أي : بسكينة وتواضع . لا يضربون بأقدامهم ، ولا يخفقون تبعاً لهم أشراً وبطراً { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } أي : إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله ، بل قالوا كلاماً فيه سلام من الإيذاء والإثم . سواء كان بصيغة السلام كقولهم : سلام عليكم ، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح . وكظم للغيظ . دفعاً بالتي هي أحسن : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } أي : يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة ، كما قال تعالى : { كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18 ] ، وقوله : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } [ السجدة : 16 ] الآية ، وقوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ، والبيتوتة لغة : الدخول في الليل . يقال : بات يفعل كذا يبيت ويبات ، إذا فعله ليلاً . وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقاً . إلا أن الحقيقة أولى ، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا . ولذلك قال السلف : في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله . وفي قوله : { لِرَبََّهمْ } إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم . لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله : { وقياماً } جمع قائم أو مصدر أجري مجراه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ 65 - 66 ] .
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي : هلاكاً دائماً . والمراد من قولهم ذلك ، فزعهم منها ، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى ، واعتصامهم بالسبب الأقوى . لا مجرد قلقلة اللسان ، بلا تأثر من الجنان . فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى ، ويتعوذوا به من سعيرها ، إلا لعلمهم بسوء حالها . ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه . ولذا قال تعالى : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي : موضع استقرار وإقامة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ 67 ] .
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي : لم يجاوزوا الحدّ في الإنفاق ، ولم يضيّقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلاً ولُؤْماً . بل كانوا في ذلك متوسطين ، وخير الأمور أوسطها .
قال الزمخشريّ : وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير . وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] ، وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < من فقه الرجل رفقه في معيشته > وأخرج أيضاً عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما عال من اقتصد > وروى البزار عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أحسن القصد في الغنى ، وما أحسن القصد في الفقر ، وما أحسن القصد في العبادة > .
وعن الحسن : ليس في النفقة في سبيل الله سرف . وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف . فقال : لا إسراف في الخير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } [ 68 - 70 ] .
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } أي : لا يشركون بعبادة ربهم أحداً ، فالدعاء بمعنى العبادة : { وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } أي : حرمها بمعنى حرّم قتلها . ومنه الوأد وغيره : { إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : المزيل لحرمتها وعصمتها : { وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي : ما ذكر من هذه القبائح العظام : { يَلْقَ أَثَاماً } أي : يجد في الآخرة جزاء إثمه : { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } أي : ذليلاً محتقراً جامعاً لعذابي الجسم والروح : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .
قال الحافظ ابن كثير : وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل . ولا تعارض بين هذه وآية النساء : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] الآية ، فإن هذه ، وإن كانت مدنية ، إلا أنها مطلقة . فتحمل على من لم يتب . لأن هذه مقيدة بالتوبة . ثم قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 و 116 ] الآية ، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل . كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته ، وغير ذلك من الأحاديث . ثم قال : وفي معنى قوله تعالى : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قولان :
أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : هم المؤمنون . كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن السيئات . فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات . وكذا قال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين . وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات . وكذا قال الحسن : أبدلهم بالعمل السيء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصاً ، وبالفجور إحصاناً ، وبالكفر [ في المطبوع : بالفكر ] إسلاماً .
القول الثاني : إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح ، حسنات . وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ، ندم واسترجع واستغفر . فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . انتهى .
ولابن القيم رحمه الله تعالى في " طريق الهجرتين " في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن ، لا بأس بإيراده ، لعظم فائدته .
قال رحمه الله بعد شرحه لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله : وها هنا مسألة ، هذا الموضع أخص المواقع ببيانها . وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً ، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب ، لا له ولا عليه ، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة ؟ هذا مما اختلف الناس فيه ، من المفسرين وغيرهم ، قديماً وحديثاً . فقال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة . قال ابن عطية : يجعل أعمالهم ، بدل معاصيهم الأولى طاعة . فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم ، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن . ورد على من قال هو في يوم القيامة . قال : وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة ، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين ، بدل سيئاته حسنات . وذكره الترمذيّ والطبريّ . وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية .
قال ابن عطية : وهو معنى كرم العفو . انتهى .
وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه .
وقال الثعلبيّ : قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام . فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين ، قتل المشركين . وبالزنى ، عفة وإحصاناً .
وقال آخرون : يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم ، حسنات يوم القيامة وأصل القولين ، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة ؟ فمن قال إنه في الدنيا ، قال : هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها . وهي حسنات ، وهذا تبديل حقيقة . والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة ، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها ، فأما أن تنقلب حسنة فلا . فإنها لم تكن طاعة ، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب ، فكيف تنقلب محبوبة مرضية ؟
قالوا : وأيضاً فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب ، كقوله : { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } [ آل عِمْرَان : 193 ] ، وقوله : { وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } [ الشورى : 25 ] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] ، والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن مُحْرِز قال : قال رجل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : < يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب ! أعرف قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . فيعطى صحيفة حسناته > .
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل .
فهذا الحديث المتفق عليه ، والذي تضمن العناية بهذا العبد ، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة . ولم يقل له : وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة . فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها .
وقد قال الله في حق الصادقين : { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الزمر : 35 ] ، فهؤلاء خيار الخلق . وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون . وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات ، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها . وأما السيئات ، أن تلغى ويبطل أثرها . قالوا : وأيضاً ، فلوا انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب ، لكان أحسن حالاً من الذي لم يرتكب منها شيئاً . وأكثر حسنات منه ، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه . وكيف يكون صاحب السيئات أرجح من لا سيئة له ؟ قالوا : وأيضاً فكما أن العبد ، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها ، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها ، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه ، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها . فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها ، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم : وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته ، لم ننازعكم في هذا . وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثواباً وجودياً . واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت : هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة ، بأن قالت : حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة . وهذا إنما يكون في السيئة المحققة . وهي التي قد فعلت ووقعت . فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة . قالوا : ولهذا قال تعالى : { سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } فأضاف السيئات إليهم ، لكونهم باشروها واكتسبوها . ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم ، لأنها من غير صنعهم وكسبهم ، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا : وأيضاً ، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات ، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم . فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها ، كما قال تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 59 ] ، وأما ما كان من غير الفاعل ، فإنه يجعله من تبديله هو ، كما قال تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] ، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات ، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم ، لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم . وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح .
قالوا : ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إني لأعلم آخر أهل جنة دخولاً الجنة . وآخر أهل النار خروجاً منها . رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه . فيقال : عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا . وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول : نعم . لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له : فإن لك مكان كل سيئة حسنة > قالوا : وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة . فإنهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة ، بالأعمال الحسنة ، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات .
قالوا : وأيضاً فالجزاء من جنس العمل . فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة ، بدلها الله من صحف الحفظة ، حسنات جزاء وفاقاً .
قالت الطائفة الأولى : كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر ، على صحة قولكم ، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات ، قد عذب عليها في النار ، حتى كان آخر أهلها خروجاً منها فهذا قد عوقب على سيئاته . فزال أثرها بالعقوبة . فبدل مكان كل سيئة منها حسنة . وهذا حكم غير ما نحن فيه . فإن الكلام في التائب من السيئات ، لا فيمن مات مصرّاً عليها غير تائب . فأين أحدهما من الآخر ؟
قالوا : وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة ، فحق . وكذلك نقول : إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة ، التي لولا الحسنة لحلت محلها .
قالوا : وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم ، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله ، فهو حق بلا ريب . ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها ، مقارناً لكسبهم إياها بفضله ؟ .
قالوا : وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم ، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف ، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها ، فهذا لا دليل لكم . فإن الله خالق أفعال العباد . فهو المبدل للسيئات حسنات خلقاً وتكويناً ، وهم المبدلون لها فعلاً وكسباً .
قالوا : وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل ، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال . فهذا حق ، وبه نقول ، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف ، بحسنات جعلت موضعها . فهذا منتهى إقدام الطائفتين ، ومحط نظر الفريقين . وإليك أيها المنصف الحكم بينهما . فقد أدلى كل منهما بحجته ، وأقام بينته . والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما . فأرشد الله من أعان على هدى ، فنال به درجة الداعين إلى الله ، القائمين ببيان حججه ودينه . أو عذر طالباً منفرداً في طريق مطلبه ، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق . فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره ، وألا يقطع عليه طريقه . فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه ، فقد رضي بالدون . وحصل على صفقة المغبون . ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض ، ولا يتصدى له ممانع ، فقد منى نفسه المحال ، وإن صبر على لأوائها وشدتها ، فهو والله الفوز المبين ، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
فالصواب ، إن شاء الله في هذه المسألة ، أن يقال : لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة . والحسنة إنما هي أمر وجوديّ يقتضي ثواباً ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهيّ . وذلك الكف والحبس أمر وجوديّ وهو متعلق الثواب . وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلاً ، ولم يحدث به نفسه ، فهذا كيف يثاب على تركه ؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب ، لكان مثاباً على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه ، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط ، فهل يثاب على ذلك كله ؟ وهذا مما لا يتوهم . وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمراً وجودياً ، فالتائب من الذنوب التي عملها ، قد قارن كل ذنب منها ، ندماً عليه ، وكف نفسه عنه ، وعزم على ترك معاودته . وهذه حسنات بلا ريب . وقد محت التوبة أثر الذنب ، وخلفه هذا الندم والعزم ، وهو حسنة ، قد بدلت تلك السيئة حسنة . وهذا معنى قول بعض المفسرين : يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة . فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها ، فتوبته منها حسنة حلت مكانها . فهذا معنى التبديل . لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة .
وقال بعض المفسرين في هذه الآية : يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة . وعلى هذا ، فقد زال بحمد الله الإشكال . واتضح الصواب . وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة .
وأما حديث أبي ذر ، وإن كان التبديل فيه حق المصرّ الذي عذب على سيئاته ، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته . فإن الذنوب التي عذب عليها المصرّ ، لما أزال أثرها بالعقوبة ، بقيت كأن لم تكن ، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة ، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها ، مع العقوبة ، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات . فزوال أثرها بالتوبة النصوح ، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة . فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة ، حسنات ، فلأنْ تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات ، أولى وأحرى . وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة . لأن التوبة فعل اختياريّ أتى به العبد طوعاً ومحبة لله وفرقاً منه ، وأما العقوبة ، فالتكفير بها من جنس التفكير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره ، بل يفعل الله . ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب ، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره .
انتهى كلامه رحمه الله . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } [ 71 ] .
{ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } أي : ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى الله متاباً مرضياً عنده ، مكفراً للخطايا ، محصلاً للثواب . قرره الزمخشري .
والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولاً وفعلاً ، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح . فليتفطن لمعنى هذا الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان ، أو تخشع بأركان ، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ 72 - 73 ] .
{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي : لا يحضرون الباطل . يقال : شهد كذا أي : حضره . فالزور : مفعول به بتقدير مضاف أي : محالّه . ويشهدون من الشهادة . فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي : شهادة الزور أو بالزور . وقد أشار الزمخشريّ للوجهين بقوله : يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطّائين ، فلا يحضرونها ولا يقربونها ، تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه . لأن مشاهدة الباطل شركة فيه . ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعلية في الإثم لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب وجوده ، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ، ورغبتهم في النظر إليه . ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور . انتهى وهي الكذب متعمداً على غيره .
قال المبرد في " الكامل " : ويروى عن ابن عباس في هذه الآية : { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قال : أعياد المشركين . وقال ابن مسعود : الزور الغناء . فقيل لابن عباس : أو ما هذا في الشهادة بالزور ؟ فقال : لا ، إنما آية شهادة الزور : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ، { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } أي : اتفق مرورهم بأهل اللغو ، وهو كل ما ينبغي ويطرح ، مرّوا معرضين عنهم ، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] ، ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش ، والصفح عن الذنوب ، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن كراماً : جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ } أي وعظوا بها وخوِّفوا : { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي : بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجتلين لها بعيون راعية . وإنما عبر بنفي الضد ، تعريضاً لما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة ، المستعار لها الخرور على تلك الحالة استعارة بديعة . لما فيهم من إسقاطهم من الإنسانية إلى البهيمية ، بل إلى أدنى منها ، لأنها تسمع وتبصر ، وقد نفينا عنهم .
وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى ، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم ، آيات عديدة . ولذا قال قتادة فيهم : هم قوم عقلوا عن الله ، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصريّ ، فقد قال : كم من رجل يقرؤها ، ويخر عليها أصم أعمى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ 74 ] .
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي : أولاداً وحفدة ، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس ، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل . وقرة العين إما من القر وهو البرد . لأن دمعة السرور باردة ، لذا قيل في ضده : أسخن الله عينه أو من القرار لعدم النظر لغيره ، وجوز في من أن تكون ببيانه وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات . وقوله تعالى : { واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي : أئمة . اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ، مع رعاية الفواصل . أي : يقتدى بنا في الخير . أو هداة دعاة إلى الخير . فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا . قال في " الإكليل " : في الآية طلب الإمام في الخير . وفي " العجائب " للكرمانيّ : قال القفال وغيره من المفسرين : في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب . انتهى .
وكذا قال الزمخشريّ ، عن بعضهم : إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين ، يجب أن تطلب ويرغب فيها . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } [ 75 - 77 ] .
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المتصفين بما ذكر . خبر لعباد الرحمن أو مبتدأ خبره : { يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا } أي : على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات ، والدأب على الخيرات ، واجتناب المحظورات . والغرفة الدرجة العليا من المنازل في الجنة : { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً } أي : تحييهم الملائكة وتسلم عليهم . أو يحيّي بعضهم بعضا ويسلم عليه . والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } لسلامة أهلها عن الآفات ، وخلودهم أبد الآباد .
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } أي : لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده . فالدعاء بمعنى العبادة ، كما مّر .
ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم ، أو يتصور ، وقد وجد منهم ما ينافيه ، بقوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أي : بما جاءكم من الحق . أي : وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصرّ : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } اللزام : مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة . أي : فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم ، أو الأمر الجليل ، أمر الرسالة ، لازماً وثابتاً . يفتح من الحق رتاجاً . وتدخل الناس في دين الله أفواجاً . ولقد صدق الله وعده . ونصر عبده وأعز جنده . هز الأحزاب وحده . نسأله تعالى خير ما عنده .

(/)


سورة الشعراء
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طسم } [ 1 ] .
{ طسم } سبق في سورة البقرة الأقوال في هذه الفواتح ، وأن الأكثر على أنها اسم للسورة ، فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف ، وهو أظهر من رفعه على الابتداء, أو النصب بتقدير : اقرأ ونحوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } [ 2 ] .
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } الإشارة إلى السورة ، وما فيها من معنى البعد للتفخيم ، ومحله الرفع على الابتداء ، خبره ما بعده أو بدل مما قبله . والمراد بالكتاب القرآن . و بالمبين الظاهر إعجازه وآيته وبرهانه . ومن أَبَان بمعنى : بان - أو المبين للحق من الباطل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ 3 ] .
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ } أي : قاتل : { نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } أي : لعدم إيمانهم . ولعل للإشفاق . أي : أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على عدم إيمانهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ 4 ] .
{ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً } أي : ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاسرة عليه : { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي : منقادين ، والجملة مستأنفة لتعليل ما يفهم من الكلام من النهي عن التحسر المذكور ، ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى حتماً ، فلا وجه للطمع فيه ، والتألم من فواته . قاله أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } [ 5 ] .
{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أي : مكذبين ، استهزاء وإصرار على ما كانوا عليه من الكفر . وتقدم نظير الآية في أول سورة الأنبياء ، وتحقيق معنى قوله تعالى : محدث فتذكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ 6 ] .
{ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : أحواله الباهرة وشؤونه القاهرة ، وظهور أعلامه ، وبقاء أيامه ، وفيه وعيد لهم بحلول الذل بهم ، ونزول الصغار وقتئذ بدارهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ 7 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي : صنف مرضيّ كثير المنافع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [ 8 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } لصرفهم اختيارهم إلى جانب الكفر ، في هذه الآيات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 9 ] .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي : فهو القادر على الانتقام منهم بلا ممانع ، والرحيم بإمهاله وحلمه عنهم ، فلينتبهوا قبل أن يحل بهم ما حلّ بفرعون وقومه ، ولذا استأنف نبأ موسى عليه السلام معه ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } [ 10 - 13 ] .
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي } أي : في أداء الرسالة ، في بسطة من المقال : { فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } أي : ليوازرني ويشدّ به عضدي . والمفعول محذوف ، أي : ملكاً أو جبريل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } [ 14 - 15 ] .
{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } وهو قتل القبطيّ ، المبسوط في غير هذه السورة : { فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا } أي : لا تخف إنك من الآمنين : { فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } مزيد تسلية لهما ، بكمال الحفظ والنصرة .
قال أبو السعود : مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم ، ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم ، مبالغة في الوعيد بالإعانة . انتهى .
ولو قيل هو كناية عن ذلك ، كان أولى . لجواز بقاء المعنى الحقيقيّ معها ، وهو هنا كذلك فهو تعالى مستمع لهما وحافظ وناصر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } [ 16 - 17 ] .
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } ليتحرروا من عبوديتك وعذابك المهين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ 18 - 19 ] .
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ } يعني قتل القبطي { وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي : بنعمتي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } [ 20 ] .
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } أي : الجاهلين بكون الوكزة مفضية إلى القتل . أو الذاهبين عن صواب الحلم والعفو والدفع بالأحسن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 21 ] .
{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } أي : تقتلوني على القتل الخطأ ، فنجاني الله منكم ، وزادني إنعاماً : { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً } أي : حكمة أو نبوة : { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : لإبطال دعواك الربوبية ، واستئصال شُبَه ما عليه قومك من الوثنية . وطلب إرسال قومي إلى مواطنهم الأصلية ، وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ } [ 22 ] .
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ } إبطال لمنته عليه في التربية ، ببيان أنها في الحقيقة نقمة . لأنه كان اتخذ بني إسرائيل ؛ عبيداً مسخرين في شؤونه ، مذللين لأموره ، مقهورين لعسفه . وموسى عليه السلام ، وإن لم ينله من ذلك ما نالهم ، إلا أنه لما كان منهم ، فكأنه وصل إليه ، وحلَّ به ، كما قيل : وظلم الجار إذلال المجير أي : لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم ، وما أنا إلا عضو منهم . وفي فحواها تقريعه بالكبرياء المتناهية ، والقسوة البالغة ، والسلطة الغالية التي من ورائها الفرج القريب ، والمخرج العجيب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ } [ 23 - 25 ] .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ } أي : لهذا النبأ العجيب ، وهو توحيد المعبود .
وإنما عدّه جديراً بأن يتعجبوا منه ، لنهم ، على ما حققه المؤرخون ، غلوا في عبادة الأصنام وتعديد الآلهة غلُوّاً أربوا على كل من سواهم في الضلال . فكانوا يسجدون للشمس والقمر ، والنجوم ، والأشخاص البشرية ، والحيوانات ، حتى الهوامّ ، وأدنى حشرات الأرض .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [ 26 - 28 ] .
{ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } أي : لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء .
{ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } أي : شيئاً ما ، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قتله . وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر ، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة ، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل ، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون .
تنبيه :
ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة ، لا يقر بخالق ، ولا يعترف بمعبود لظاهر قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ، وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه .
قال ابن كثير : ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط . فإنه لم يكن مقرّاً بالصانع ، حتى يسأل عن الماهية ، بل كان جاحداً له بالكلية فيما يظهر . انتهى .
وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ والوثيق ، أنه كان من الوثنيين الغالين . وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين .
وعليه فمعنى قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } أي : مطاع عظيم ، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر . فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية ، من طلب الاكتناه ، وتعجبه من جوابه ، ثم رميه بالجنون ، ثانياً ، لعدوله عن الكنه إلى الأثر . ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى ، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها ، والصدع بما يؤلم عظمته ، ويغمز جبروته ؛ وهذا هو الذي أذهب إليه ، فإن القوم بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد ، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة ، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه . وقد عول عليه كثير من أهل النظر ، ولا بأس بأن نأثر شيئاً من لطائفهم فيه .
قال الرازيّ : السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء . وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة ، أو بشيء من أجزائها ، أو بأمر خارج عنها ، أو بما يتركب من الداخل والخارج . أما تعريفها بنفسها فمحال ؛ لأن المعرف معلوم قبل المعرف . فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً ، وهو محال . وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها ، فهاهنا في حق واجب الوجود محال ، لأن التعريف بالأمور الداخلة ، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركباً ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركباً ؛ لأن كل مركب ، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه . وكل واحد من أجزائه فهو غيره ؛ فكل مركب محتاج إلى غيره . وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته . وكل مركب فهو ممكن ، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركباً . فواجب الوجود ليس بمركب ، وإذا لم يكن مركباً استحال تعريفه بأجزائه . ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود ، إلا بلوازمه وآثاره .
ثم إن اللوازم قد تكون خفية ، وقد تكون جلية . ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية ، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية . وأظهر آثار ذات واجب الوجود وهو هذا العالم المحسوس ، وهو السماوات والأرض وما بينهما .
فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } إلا ما قاله موسى عليه السلام ، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما . فأما قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } . فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود ، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته . لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق ، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره . وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء ، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما . فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال ، إلا هذا الجواب .
ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق ، قال فرعون لمن حوله : { أَلا تَسْتَمِعُونَ } وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني أنا أطلب منه الماهية ، وخصوصية الحقيقة ، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية .
وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها ، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية ، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ ، فهذا المذكور ، إما أن يكون معرّفاً لمجرد كونه أمراً ما يلزمه ذلك اللازم . أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال . لأن كونه أمراً يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفاً . فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفاً لنفسه ، وهو محال . والثاني محال ، لأن العلم بأنه أمر ما ، يلزمه اللازم الفلانيّ ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزمة ، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية . فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ ، لا يفيد معرفة نفْس الحقيقة فلم يكن كونه ربّاً للسموات والأرض وما بينهما جواباً عن قوله : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } فأجاب موسى عليه السلام بأن قال : { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض ، إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا . وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين ، واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق والمؤثر . ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده ، كونهم واجبين لذواتهم . لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجودوا بعد العدم ، ثم عدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته . وما لم يكن واجباً لذاته ، استحال وجوده إلا لمؤثر . فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول ، إليه . فقال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية ، وخصوصية الحقيقة . والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون ، لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه .
فقال موسى عليه السلام : { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار ، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب ، لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وأما قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } فكأنه عليه السلام قال : إن كنت من العقلاء ، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك ، إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته . وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته . فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته . وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته ، فقد ثبت أن كل من كان عاقلاً ، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته .
ثم قال الرازيّ : وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] ، أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي ، هي غير معقولة للبشر ، انتهى .
وقال الإمام ابن حزم في " المِلَل والنِّحَل " في الكلام في المائية : ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له . وذهب أهل السنة وضرار بن عَمْرو ، إلى أن لله تعالى مائية . قال ضرار : لا يعلمها غيره . قال ابن حزم : والذي نقول به ، وبالله تعالى التوفيق ، أن له مائية هي إنيّته نفسها ، وإنه لا جواب لمن سأل : ما هو البارئ ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام ؛ إذ سأله فرعون : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؟ ونقول أنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام . لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه . ولو لم يكن جواباً صحيحاً تامّاً لا نقص فيه ، لما حمده الله تعالى .
ثم قال : ههنا نقف ولا نعلم أكثر . ولا ههنا أيضاً شيء غير هذا ، إلا ما علمنا ربنا تعالى ، من سائر أسمائه ، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمين وسائر أسمائه .
قال تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ 110 ] ، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفيّ عن الله عزّ وجلّ ، وواجب في غيره ، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى ، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له . فصح يقيناً أننا نعلم الله عزّ وجلّ حقّاً ، ولا نحيط به علماً . انتهى ملخصاً .
ولما سمع فرعون تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة ، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته ، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ } [ 29 - 39 ] .
{ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } قرئ بهمز وبدونه ، وهما لغتان . يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته . والمعنى أخرهما ومناظرتهما لوقت اجتماع السحرة : { وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } أي : شُرَطاً يحشرون السحرة ، أي : يجمعونهم عندك : { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ } أي : لرؤية ما يعارض معجزة موسى . وكان خَامَرَ فؤادهم عجب منها واندهاش . والاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ 40 - 46 ] .
{ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } أي : تبتلع ما موّهوا به إفكاً وزوراً : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } أي : على وجوههم منقادين له بالإيمان ، لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر . وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئاً لا حقيقة له ، التبحر في كل فن نافع وإن لم يكن من العلوم الشرعية ، فإن هؤلاء السحرة . لتبحرهم في علم السحر ، علموا حقيقة ما أتى به موسى عليه السلام ، وأنه معجزة . فانتقلوا بزيادة علمهم الذي أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان ، لفرقهم بين المعجزة والسحر . قاله القاضي شهاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } [ 47 - 50 ]
{ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 51 ]
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي : فعلمكم شيئاً دون شيء ، ولذلك غلبكم . أو فواعدكم ذلك وتواطأتم عليه . أراد به التلبيس على قومه ؛ كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حقّ .
{ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي : جانبيْن متخالفيْن : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } أي : لا ضرر علينا في ذلك ، بل لنا فيه أعظم النفع ، لأنا بفعلك هذا وصبرنا عليه ، شهادة على حقيّته ، إلى ثوابه ورحمته راجعون ، فننقلب خير منقلب ، شهداء سعداء : { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ } أي : لأن : { كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : من أظهر الإيمان كفاحاً , مجاهرة بالحق بلا تقية . ثم أشار تعالى إلى خروج موسى بقومه من مصر بإيحائه إليه . وكان إذن فرعون له بذلك بعد ما أراه الآيات البينات ثم ندم عليه ، فأتاه الإذن الإلهيّ به ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } [ 52 ] .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } أي : سرْ بهم ليلاً ، فإنه إذا وصل خبر سيركم إلى فرعون ، لا بد أن يتبعكم بجنوده لإرجاعكم ، إلا أنكم تتقدمونه ولا يدرككم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [ 53 ] .
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ } أي : حين أخبر بسراهم : { فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } أي : جامعين لعسكره ، قائلين ما يقلل به الأعداء في أَعْيَن الجنود :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ 54 - 58 ] .
{ إِنَّ هَؤُلاءِ } أي : بني إسرائيل الخارجين : { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } أي : يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذن منا : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } أي : من مكرهم وسعيهم بالفساد في الأرض : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعني : المنازل الحسنة والمجالس البهية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ } [ 59 ] .
{ كَذَلِكَ } إشارة إلى مصدر ، أي : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم ، فهو في محل نصب صفة لمصدر مقدر ، أو هو خبر محذوف ، أي : كذلك .
قال الشهاب : وإذا قدر الأمر كذلك فالمراد تقريره وتحقيقه ، والجملة معترضة حينئذ كالتي بعدها { وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ } . قال الشهاب : هو استعارة ؛ أي : ملكناها لهم تمليك الإرث بعد زمان . وكأن العاقبة ، لما كانت لهم ، صاروا كأنهم ملكوها حين خروج أربابها منها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } [ 60 ] .
{ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } أي : لحقوهم وقت شروق الشمس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ 61 - 63 ] .
{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } أي : تقاربا رأى واحد منهما الآخر : { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } أي : لملحقون : { قَالَ كَلَّا } أي : لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } أي : لطريق النجاة منهم { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ } أي : فضربه فانفلق : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } أي : كل جزء متفرق منه كالجبل الكبير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 64 - 68 ] .
{ وَأَزْلَفْنَا } أي : قرّبنا : { ثَمَّ } أي : حيث انفلق البحر : { الْآخَرِينَ } يعني فرعون ، أي : قدمناهم إلى البحر حتى دخلوا على أثر بني إسرائيل : { وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ } أي : بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي : بإطباقه عليهم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } أي : لعبرة : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : مع مشاهدة هذه الآية العظمى التي توجب تصديقه بعدها في كل ما جاء به . منهم من بقي على كفره كبقية القبط . ومنهم من عصاه واقترح عليه ما اقترح كبعض بني إسرائيل . وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه . ووعد له ووعيد لمن عصاه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ 69 - 74 ] .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } أي : على مشركي العرب : { نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } أي : ما الذي تدعونه وتلجئون إليه . وكان عليه السلام يعلم أنهم عَبْدة أصنام ، ولكنه سألهم ليريهم , أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء : { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } أي : مقيمين على عبادتها لا نتخطاها إلى غيرها { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } أي : مثل عبادتنا ، فقلدناهم .
قال أبو السعود : اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرّة بالمرة . واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ 75 - 81 ] .
{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } أي : أفأبصرتم ، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه وسلفكم . فإنهم بغضائي : { إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : لكن رب العالمين ليس كذلك ، فإنه وليِّ في الدنيا والآخرة ، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } أي : إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا ، فإنه تعالى وحده يهدي كلاً لم خلق له . والموصول صفة لرب وجعلُه مبتدأ وما بعده خبراً - غير حقيق بجزالة التنزيل . قاله أبو السعود .
{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي : يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية ، فساق المزن ، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقاً للعباد ، وأنزل الماء عذباً زلالاً يسقيه مما خلق أنعاماً وأناسيّ كثيراً .
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أي : إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه . وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى ، مع أنهما منه ، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى . بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال الخضر : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } [ الكهف : 79 ] ، وقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } [ الكهف : 82 ] ، وكقول الجن في آيةٍ : { أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن : 10 ] ، ولأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك . ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخم .
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، لا يقدر على ذلك أحد سواه . فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان ، وقد أضافه تعالى إلى نفسه ، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب ؟ أجيب كما في " الانتصاف " : بأن الموت قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر ، وحكم عامٌّ لا يخص ، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت ؛ فالتأسي بعموم الموت لعله يُسقط أثر كونه بلاء ، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى . وأما المرض ، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض ، كان بلاء محققاً . فاقتضى العلوّ في الأدب مع الله تعالى ، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه ، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه . ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض ، أخبر عن وقوعه بتاً وجزماً ، لأنه أمر لا بد منه . وأما المرض ، فلما يتفق وقد لا ، أورده مقروناً بشرط إذا فقال : { وَإِذَا مَرِضْتُ } وكان ممكناً أن يقول والذي يمرضني فيشفيني ، كما في غيره فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة ، إلا لذلك . انتهى .
قال أبو السعود : وأما الإماتة ، فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء ، بدءاً وإعادة ، وقد نيطت أمور الآخرة جميعاً بها وبما بعدها من البعث نظمها في سمط واحد في قوله تعالى : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } على أن الموت ، لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية ، بمعزل من أن يكون غير مطموع عنده عليه الصلاة والسلام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [ 82 ] .
{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } أي : الجزاء . وخطيئته ما كان يراها هو صلوات الله عليه ويعدّها بالنسبة لمقامه الكريم .
قال أبو السعود : ذكره عليه الصلاة والسلام هضماً لنفسه وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب مغفرة لما يفرط منهم وتلافياً لما عسى يندر منه عليه السلام من الصغائر ، وتنبيهاً لأبيه وقومه على أن يتأملوا في أمرهم فيقفوا على أنهم من سوء الحال في درجة لا يقادر قدرها ، فإن حاله عليه السلام ، مع كونه في طاعة الله تعالى وعبادته ، في الغاية القاصية ، حيث كانت بتلك المثابة . فما ظنك بحال أولئك المغمورين في الكفر ، وفنون المعاصي والخطايا ؟ .
وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، مع أنها إنما تغفر في الدنيا ، لأن أثرها يومئذ يتبيّن ، ولأن في ذلك تهويلاً له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه ، إن لم تغفر ، وبعد أن ذكر عنايته تعالى به من مبدأ خلقه إلى بعثه ، حمله ذلك على مناجاته ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [ 83 - 84 ] .
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } أي : حكمة ، أو حكماً بين الناس بالحق ، أو نبوة ، لأن النبيّ ذو حكم وحكمة { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي : وفقني لأنتظم في سلكهم ، لأكون من الذين جعلتهم سبباً لصلاح العالم وكمال الخلق { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } أي ذكراً جميلاً بعدي ، أذكر به ويُقْتدى بي في الخير كما قال تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 108 - 110 ] .
قال القتيبيّ : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، لأن القول يكون به ، وقد تكني العرب به عن الكلمة . وعليها حمل قول الأعشى :
~إِنِّي أَتَتْنِي لسانٌ لا أُسَرُّ بها من عُلْوَ ، لا عَجَبٌ منها ولا سَخَرُ
وجوّز أن يكون المعنى : واجعل لي صادقاً من ذريتي ، يجدّد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد . وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم . ولذا قال صلى الله عليه وسلم : < أنا دعوة أبي إبراهيم > ، فالكلام بتقدير مضاف . أي : صاحب لسان صدق . أو مجاز بإطلاق الجزء على الكل ، لأن الدعوة باللسان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } [ 85 - 86 ] .
{ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي } أي : بهدايته وتوفيقه للإيمان . كما يلوح به تعليله بقوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } أي : طريق الحق .
قال الحافظ ابن كثير . قوله : { وَاغْفِرْ لِأَبِي } الخ . . كقوله : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ إبراهيم : 41 ] ، وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] ، إلى قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه ، فقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [ الممتحنة : 4 ] [ في المطبوع : 5 ] ، إلى قوله : { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ 87 - 89 ] .
{ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي : لا تلحق بي ذلّاً وهواناً يومئذ : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . ولا بنوه ، وإن كانوا غاية في القوة . فإن الأمر ثمة ليس كما يعهدون في الدنيا ، بل لا ينفع إلا الموافاة بقلب سُلَيم من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشؤومة .
قال الزمخشريّ : وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم . ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع . وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين ، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة ، فضلاً أن يكون حجة . ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عزَّ وعلا ، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه ، إلى حين وفاته ، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته . ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين ، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين . ثم وصله بذكر يوم القيامة ، وثواب الله وعقابه ، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال ، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا .
ثم بين سبحانه أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ، ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها . والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم ، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } [ 90 - 94 ] .
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } أي : الضالّين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى . وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره { وَقِيلَ لَهُمْ } توبيخاً على شركهم : { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } أي : يدفعون العذاب عنكم ، أو يدفعونه عن أنفسهم ، لأنهم وآلهتهم وقود النار . وهو قوله تعالى : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ } أي : الآلهة : { وَالْغَاوُونَ } أي : وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم .
قال الزمخشري : والكبكبة تكرير الكب - وهو الإلقاء على الوجه - جعل التكرير في اللفظ على التكرير في المعنى ، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 95 - 98 ] .
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ } أي : متبعوه من العصاة : { أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : في العبادة ، مع أنكم أعجز مخلوقاته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ } [ 99 ] .
{ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ } أي : رؤساؤهم ، كما في آية : { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا } [ الأحزاب : 67 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ 100 - 101 ] .
{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أي : من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء . لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله . وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس . فما أغنوا عنهم شيئاً . كما قال تعالى : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] قال الزمخشري : والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام ، وهو الذي يهمه ما يهمك . أو من الحامة : بمعنى الخاصة . وهو الصديق الخاص . وفيه معنى الحدة والسخونة . كأنه يحتدّ ويحمى ، لحماية خليله ورعايته ، والقيام بمهماته . وهذا هو الذي قيل : إنه أعز من بيض الأنوق وإنه اسم بلا مسمى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 102 - 104 ] .
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أي : رجعة إلى رجعة إلى الدنيا : { فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم : { لَآيَةً } أي : لحجة وعظة أراد أن يستبصر بها ويعتبر . وتقدم ما قاله الزمخشري في بديع سياقها : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ } أي : أكثر قوم إبراهيم : { مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي : بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، لدعوة خلقه إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ 105 - 111 ] .
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } لأن تكذيب واحد كتكذيب الكل ، لاتفاقهم في أصول الشرائع . وهو نفي الشريك وإثبات البارئ وتوحيده . أو لأن المراد بالجمع الواحد : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } يعنون من كان وضيع النسب قليل النصيب من الدنيا . فإن الشرف لديهم بالمال والنشب ، والحسب والنسب ، لا بالأخلاق الفاضلة . والملكات الكاملة . التي تحمل على تعرف الحق والتوجه إليه . ثم اعتناقه والمحافظة عليه . وأكثر ما تكون الأخلاق في مثل المستضعفين . إذا قام عليهم ناصح أمين . إذ لا مال يطغيهم . ولا جاه يلهيهم . وذلك من العناية الربانية فيهم .
قال الزمخشري : وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما زالت أتباع الأنبياء كذلك ، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم . ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال : ضعفاء الناس , قال : ما زالت أتباع الأنبياء كذلك . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 112 ] .
{ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } جواب عما أشير إليه من قولهم إنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة . أي : وما عليّ إلا الظاهر والله يتولى السرائر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 113 - 118 ] .
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي } أي : ما حسابهم على أعمالهم ، إلا على ربي المطلع على ضمائرهم : { لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } أي : المشتومين أو المرميين بالحجارة : { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي : احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا .
قال الزمخشري : الفتاحة : الحكومة . والفتاح : الحاكم . لأنه يفتح المستغلق . كما سمي فيصلاً لأنه يفصل بين الخصومات . وفي " التهذيب " : الفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك . قال الأشعر الجُعْفِيّ :
~ألا مَنْ مُبْلغٌ عمراً رسولاً فَإِنِّي عن فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
{ وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } [ 119 - 128 ] .
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } أي : فيما فعلنا بهم لعبرة وعظة لمن بعدهم : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عَادٌ } وهم قوم هود عليه السلام : { الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ } أي : مكان مرتفع ، بكسر الراء وفتحها : { آيَةً } أي : علامة : { تَعْبَثُونَ } أي : ببنائها لا للحاجة إليها . بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة . ولهذا أنكر عليهم ذلك . لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة . واشتغال بما هم في غنى عنه . وبما في الشغف به انصراف عن الجد في العمل ، وصرف للأموال في غير ما خلقت له ، من النظر للنفس والأهل والدين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ 129 ] .
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } أي : منازل وقصوراً : { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي : راجين الخلود في الدنيا إشارة إلى أن عملهم ذلك ، لقصر نظرهم على الدنيا والإعجاب بالآثار ، والتباهي بالمشيدات والغفلة عن أعمال المجدّين البصيرين بالعواقب ، الصالحين المصلحين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ 130 ] .
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } أي : تأخذون بالعنف والشدة ، كبراً وعتوّاً . يقال : بطش به أي : أخذه بالعنف والسطوة ، وتناوله بشدة عند الصولة ، يصفهم عليه السلام بالقسوة وعدم الرحمة والشفقة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ 131 - 134 ] .
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما آمركم به من التوبة والإيمان : { وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي : فاشكروا نعماءه وارعوا بتقواه آلاءه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 135 ] .
{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : إن لم تقوموا بواجب شكرها : { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : في الدنيا والآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } [ 136 ] .
{ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } أي : فإِنا لن نرعوي عما نحن عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ } [ 137 ] .
{ إِنْ هَذَا } أي : ما هذا الذي نحن عليه : { إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ } أي : عادتهم . كانوا يدينون به ويعتقدونه . فنحن بهم مقتدون . أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين . كانوا يلقفون مثله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ } [ 138 - 146 ] .
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي : على ما نحن عليه من الأعمال : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ } أي : بريح صرصر : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ } أي : من الموت والزوال والعذاب .
قال الزمخشري : يجوز أن يكون إنكاراً لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يُزالون عنه . وأن يكون تذكيراً بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك ، مع الأمن والدعة . وقوله تعالى : { فِي مَا هَاهُنَا } أي : في الذي استقر في هذا المكان من النعيم . ثم فسره بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [ 147 - 153 ] .
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } أي : لطيف لين : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } أي : بطرين . وقرئ فرهين وهو أبلغ . وقيل : فاره من فَرُه بالضم ، بمعنى حذق . وفَرِه صفة من فره كفرح ، بمعنى أشر وبطر : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } أي : الذين سُحِروا حتى غلب على عقولهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ 154 - 166 ] .
{ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ } أي : نصيب من الماء : { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أي : فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها : { وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : لعظم ما تسيئون .
قال الزمخشري : عظم اليوم لحلول العذاب فيه ، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب . لأن الوقت إذا عظم بسببه ، كان موقعه من العظم أشد : { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ } أي : الموعود ، وهو أن أرضهم زلزلت زلزلاً شديداً ، وجاءتهم صيحة عظيمة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } أي : مجاوزون حدّ الحكمة في ترك محل الحرث ، الحافظ للنسل ، الذي به حفظ النوع البشريّ ، وإيثار ما لم يخلق لذلك ، شَرَهاً في الشهوة الحيوانية ، ومكافحة لتغيير الأوضاع الربانية .
ونقل السيوطيّ في " الإكليل " عن محمد بن كعب القرظيّ ، أن معنى الآية : تذرون مثله من المباح . فاستدل بذلك على إباحة وطء الزوجة من دبرها . انتهى .
وخالفه غيره . فاستدل بها على حظره . وبيانه كما في " الكشاف " و " حواشيه " أنّ مِنْ إِمَّا تبيين لما خلق ، أو للتبعيض . ويراد به العضو المباح منهن ، تعريضاً بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم . ومن الوجه الثاني يستدل على حظر إتيان المرأة في غير المأتى . وتقريره في " الانتصاف " أن مِنْ لو كانت بياناً لكان المعنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج . ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران . وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران ، لا أن ترك الأزواج وحده منكر . ولا كان الأمر كذلك ، لكان النصب في الثاني متوجهاً على الجمع . وكان إما الأفصح أو المتعين . وقد اجتمعت العامة - عامة القراء - على القراءة به مرفوعاً ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة ، أو في الجواز أصلاً . فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد . فتعين حمل مِنْ على البعضية . فيكون المنكر عليهم أمرين . كل واحد منهما مستقل بالإنكار : أحدهما إتيان الذكران . والثاني مجانبة إتيان النساء في المأتى ، رغبة في إتيانهن في غيره . وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول ، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير . انتهى .
ومثله من دَقيق الاستنباط الذي يوسع المدارك ويفتح للتفهم أبواباً ، وإن أمكن أن يقال إن سياق الآية في الملام لهم ، أعمّ مما ذكره ومن غيره . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } [ 167 ] .
{ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ } أي : عن تقبيح أمرنا : { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } أي : من قريتنا عنفاً ، إذ لا تجانسنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } [ 168 - 169 ] .
{ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } أي : المبغضين غاية البغض . أي : فأنا أرغب في الخروج عن دياركم ، والراحة من مجاورتكم ، لبغضي لعملكم ، الآيل بكم إلى الدمار وخراب الديار . ولذا أتبعه بقوله : { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } أي : من شؤمه وغائلته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } [ 170 - 171 ] .
{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً } وهي امرأته . كما بينت في آيات : { فِي الْغَابِرِينَ } أي : مقدّراً كونها من الباقين في العذاب . لأنها كانت راضية بعمل قومها .
لطيفة :
قال الناصر في " الانتصاف " : كثيراً ما ورد في القرآن ، خصوصاً في هذه السورة ، العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة . ثم جعل الموصوف بها واحداً من جمعٍ . كقول فرعون : { لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ 29 ] ، وقولهم : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } [ 136 ] ، وقولهم : { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } [ 116 ] ، وقوله : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } [ 168 ] ، وقوله تعالى في غيرها : { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } [ التوبة : 87 ] ، وكذلك : { ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ } [ التوبة : 86 ] وأمثاله كثيرة والسر في ذلك ، والله أعلم ، أن التعبير بالفعل ، إنما يفهم وقوعه خاصة . وأما التعبير بالصفة ، ثم جعل الموصوف بها واحداً من جمع ، فإنه يُفهم أمراً زائداً على وقوعه . وهو أن الصفة المذكورة ، كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به . كأنها لقب . وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة . واعتبر ذلك لو قلت : رضوا بأن يتخلفوا , لما كان في ذلك مزيد على الإخبار بوقوع التخلف منهم لا غير . وانظر إلى المساق وهو قوله : { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } كيف ألحقهم لقباً رديئاً ، وصيرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف ، حتى صارت لقباً لاحقاً به . وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك . فتأمله واقدره قدره : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } أي : أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } [ 172 - 176 ] .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً } أي : عظيماً غير معهود ، هلكوا به : { فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } وهم أهل مدين . ووهمَ من زعم أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب عليه السلام : فإنهم أمة واحدة كانوا يقطنون مدين أضيفوا إليها تارة وأخرى إلى ما حوتها من الأيكة ، وهي الأشجار الكثيرة الملتفة المجتمعة في مكان واحد .
قال الحافظ ابن كثير : والصحيح أنهم أمة واحدة . وصفوا في كل مقام بشيء . ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان ، كما في قصة مدين سواء بسواء . فدل ذلك على أنهما أمة واحدة .
تنبيه :
قال أبو عَمْرو : وكتب في جميع المصاحف ليكة في الشعراء و " ص " ، بلام من غير ألف قبلها . وفي الحجر وق : الأيكة ولذا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بلام مفتوحة ، من غير همز قبلها ولا بعدها . ونصب التاء غير منصرف . والباقون الأيكة بإسكان اللام وهمز وصل قبله ، وهمزة قطع مفتوحة بعده ، وجر التاء . وحمزة وصلاً ووقفاً على أصله . وقراءة الأولين استشكلها أبو علي الفارسيّ وغيره ، بأنه لا وجه للفتح . لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الإعراب من الكسر إلى الفتح . أي : فإن العرب تقول في الأحمر الحمر ولحمر وإثبات الألف واللام في الأيكة في سائر القرآن يدل - كما قال الزجاج - على أن حذف الهمزة منها التي هي ألف الوصل ، بمنزلة قولهم : لحمَر وقرئ ليكة بالجر على الإضافة في غير السبع . لكن قال الزمخشري : هو الوجه . ومن قرأ بالنصب ، وزعم أن ليكة ، بوزن ليلة ، اسم بلد ، فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف . وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه . وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ . كما يكتب أصحاب النحو - لأن ولولي - على هذه الصورة ، لبيان لفظ المخفف . وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل . والقصة واحدة . على أن ليكة اسم لا يعرف . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } [ 177 - 181 ] .
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ } أي : أتموه : { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } أي : حقوق الناس بإعطائهم ناقصاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 182 - 183 ]
{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } أي : بالميزان السويّ : { وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } أي : لا تنقصوهم حقوقهم . قال الزمخشري : وهو عام في كل حق ثبت لأحد ، أن لا يهضم . وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ، ولا يتحيف منه ، ولا يتصرف فيه ، إلا بإذنه تصرفاً شرعياً { وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي : بالقتل والغارة وقطع الطريق والجور والظلم وأكل أموال الناس بالباطل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 184 - 186 ] .
{ وَاتَّقُوا } الله : { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ } أي : وذوي الجبلة الأولين ، وهم من تقدمهم من الخلائق : { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : فيما تدعيه من النبوة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 187 - 188 ] .
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ } قطعاً منها . قرىء كسْفاً بسكون السين وتحريكها . وكلاهما جمع كسفة : { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : من الكفر والمعاصي ، وبما تستوجبون عليها من العذاب ، بإسقاط كسف أو غيرها مما يشاؤه إذا جاء أجلكم ، فإليه الحكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 189 ] .
{ فَكَذَّبُوهُ } أي : فاستمروا على تكذيبه ولم يتوبوا : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : لحلول العقاب فيهم ، من جنس ما سألوه ، من إسقاط السماء قطعاً عليهم . فقد أظلتهم سحابة أطبقت عليهم ، وأظلمت الجوّ فوقهم ، وغشيهم العذاب وأحاط بهم . والظلة بالضم لغةً ، الغاشية ، وما أطبق وستر من فوق .
قال الحافظ ابن كثير : ذكر تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن . كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق . ففي الأعراف ذكر أنهم : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ الأعراف : 91 ] ، وذلك لأنهم قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] ، فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } وفي سورة هود قال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } [ هود : 94 ] ، ذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] ، قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء . فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } وههنا قالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ } [ 187 ] الآية ، على وجه التعنت والعناد . فناسب أن يحقق عليهم ما استعبدوا وقوعهُ : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ } . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 190 - 191 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } أي : على أخذ العصاة بمقتضى أعمالهم : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي : الغالب على تعذيب من شاء بما شاء ، الرحيم ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يكون للناس على الله حجة .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف كرر في هذه السورة ، في أول كل قصة وأخرها ، ما كرر ؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه . وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها . فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها ، وأن تختتم بما اختتمت به . ولأن في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس ، وتثبيتاً لها في الصدور . ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفيظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها ؟
وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب ، وأرسخ في الفهم ، وأثبت للذكر ، وأبعد من النسيان . ولأن هذه القصص طرقت بها أذان وُقْرٌ عن الإنصات للحق ، وقلوب غلفٌ عن تدبره ، فكوثرت بالوعظ والتذكير ، وروجعت بالترديد والتكرير . لعل ذلك يفتح أذناً ، أو يفتق ذهناً ، أو يصقل عقلاً طال عهده بالصقل أو يجلو فهماً قد غطى عليه تراكم الصدأ . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [ 192 - 195 ] .
{ وَإِنَّهُ } أي : ما ذكر من الآيات الناطقة بالقصص المحكية ، أو القرآن المتضمن لها : { لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : منزل منه حقاً : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } أي : جبريل عليه السلام : { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } أي : منتظماً في سلك أولئك المشهورين بتلك المزية الجليلة ، والمنقبة الفاضلة . وهي الرسالة الإلهية بالإنذار ، إزالة للأعذار : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } أي : واضح المعنى جليّ المفهوم ، ليكون قاطعاً للعذر ، مقيماً للحجة ، دليلاً إلى المحجة . والجار متعلق بنزل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ } [ 196 - 197 ] .
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } أي : في كتبهم . مع أنه صلوات الله عليه لم يصحب أهلها ولم يدرسها . فكفى بذلك شهيداً على صدقه : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً } أي : علامة على تنزيله الحق : { أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ } أي : فيجدون مصداقه في زبرهم التي يدرسونها ، كما قال تعالى : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [ القصص : 53 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 198 - 209 ] .
{ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } أي : ولو نزلناه بنظمه البديع على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، فقرأه عليهم قراءة فصيحة ، انقتق لسانه بها ، خرقاً للعادة ، لكفروا به كما كفروا . ولتمحّلوا لجحودهم عذراً . ولسموه سحراً ، لفرط عنادهم : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي : مكّنا هذا العناد والإباء عن الإيمان به ، في قلوبهم وأنفسهم . وقررناه فيها : { لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } أي : وهو ما هو ، عياذاً به منه : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } أي : من طوال الأعمار وطيب المعايش : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى } أي : رسل ينذرونهم لأجل الموعظة والتذكرة : { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : فنبغتهم بالعذاب قبل الإنذار ، فإن ذلك محال في حكمة الحكم العدل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [ 210 - 213 ] .
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ردّ لما زعمه المشركون من أن التنزيل الكريم من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة ، بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين . وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ } أي : الاستماع عن الملائكة : { لَمَعْزُولُونَ } لانتفاء الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق علهم ، لخباثة نفوسهم بالذات ، فهم مرجومون مبعدون عن الأنوار القدسية والبراهين السبوحية : { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } في الدارين ، عذاب تعديد الوجهة ، واضطراب الفكر ، وضعف الشبهة ، وتوهين العقل في الدنيا . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [ 214 - 219 ] .
{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } أي : الأدنين . وإنه لا يخلص أحداً منه إلا إيمانه بربه عزّ وجلّ . وقد قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه : < يا فاطمة ابنة محمد ! يا صفية ابنة عبد المطلب ! لا أملك لكم من الله شيئاً . أنقذوا أنفسكم من النار > . وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك ، ابن كثير . فراجعه . وقوله تعالى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : ليّن جانبك لهم . مستعار من حال الطائر . فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } أي : من النوم إلى التهجد : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } أي : المصلين . أي : تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود ، إذا أممتهم . يعني : يراك وحدك ويراك في الجمع . والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلاً وجمعاً وفرادى . أو معنى الآية : لا يخفى عليه حالك ، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين ، في كفاية أمور الدين . أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه ، والعناية به . كقوله تعالى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَاُ } [ الطور : 48 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ 220 - 222 ] .
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : لما تقوله وبما تنويه : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } أي : تتنزل وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن : { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي : كذاب في قوله ، في الكلام من وجه إلى آخر ، ولا يبالي بذلك . لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله . وحيث كان المقام النبويّ منزهاً عن ذلك ، اتضح استحالة تنزلهم عليه .
قال القاشانيّ : لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها ، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والقدر والخيانة وسائر الرذائل . فمن تجرد عن صفات النفس ، وترقى إلى جناب القدس ، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية ، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى ، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه ، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع . فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى ، مرجومون بشهب الأنوار القدسية . وقوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } تقرير لقوله تعالى : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية ، المستمدة من الشياطين بالمناسبة ، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } [ 223 - 226 ] .
{ يُلْقُونَ } أي : الأفّاكون : { السَّمْعَ } أي : إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } أي : فيما يتكهنون به ، وفيما يحكونه عن الشياطين . وقوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم ، من أنه من قبيل الشعر ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء ، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام . بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل ، بما مرّ من بيان أحوالهم المضادّة لأحواله عليه الصلاة والسلام .
والمعنى أن الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة ، سواء كانت موزونة أم لا ، فإنه يتبعهم : أي : يجاريهم ويسلك مسلكهم ، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن ، لا غيرهم من أهل الرشد ، المهتدين إلى طريق الحق ، الداعين إليه . قاله أبو السعود .
وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون ، وتقرير له . أي : ألم تر أنهم في كل وادٍ من أودية الخيال يهيمون على وجوههم ، لا يقفون عند حدّ معيّن ، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب . ديدنهم الهجاء ، وتمزيق الأعراض ، والقدح في الأنساب ، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار . ومدح من لا يستحق المدح ، والغلوّ في الثناء والهجاء .
لطيفة :
في ذكر الوادي والهيام ، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه . قال ابن الأثير : استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها . وإنما خص الأودية بالاستعارة ، ولم يستعر الطرق والمسالك ، أو ما جرى مجراها - لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية ، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض . فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق .
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } أي : مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم . أي : فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم ، من تنزّهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة ، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة ، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة ، وحاز جميع الكمالات القدسية ، وفاز بجملة الملكات الأَنْسية ، مستقرّاً على المنهاج القويم ، مستمرّاً على الصراط المستقيم ، ناطقاً بكل أمر رشيد ، داعياً إلى صراط العزيز الحميد ، مؤيداً بمعجزات قاهرة ، وآيات ظاهرة ، مشحونة بفنون الحكم الباهرة ، وصنوف المعارف الزاهرة ، مستقلة بنظم رائق ، أعجز كل منطيق ماهر , وبكّت كل مفلق ساحر ! قاله أبو السعود .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدّاً . هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون - على قولين : وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في " الطبقات " والزبير بن بكار في كتاب " الفكاهة " أن أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عَدِيّ بن نَضْلة على مَيْسَان ، من أرض البصرة . وكان يقول الشعر ، فقال :
~أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَليلَهَا بِمَيِسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
~إِذَا شِئْتُ غَنّتْني دَهَاقينُ قَرْيَةٍ وَرَقَّاصَةٌ تَحْثُو عَلَى كُلٍّ مَبْسمِ
~فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالأَكْبَرِ اسْقِنِي وَلا تَسْقِنِي بالأَصْغَرِ المُتَثلَّم
~لعلَ أَميرَ المؤمنين يَسُوؤهُ تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ
فلما بلغ ذلك أميرَ المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : إِي والله ! إنه ليسوؤني بذلك . ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته ، وكتب إليه عمر : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . أما بعد فقد بلغني قولك :
~لعلَ أَميرَ المؤمنين يَسُوؤهُ تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ
وأيم الله ! إنه ليسوؤني ذلك . وقد عزلتك .
فلما قدم على عمر . بكّته بهذا الشعر . وقال : والله ! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني . فقال عمر : أظن ذلك . ولكن ، والله ! لا تعمل لي عملاً أبداً ، وقد قلتَ ما قلتَ .
فلم يذكر أنه حدّه على الشراب ، وقد ضمنه شعره . لأنهم يقولون ما لا يفعلون . ولكن ذمّه عمر ولامه على ذلك وعزله به .
وحكى الزمخشريّ عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :
~فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ وَبِتُّ أفُضُّ أَغْلاقَ الْخِتَامِ
فقال : وقد وجب عليك الحدّ . فقال : يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحدّ بقوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .
ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي : مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [ 227 ] .
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً } أي : في شعرهم ، بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة : { وَانْتَصَرُوا } أي : بشعرهم على عدوّهم بأن هجوه : { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } أي : فكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم ، جزاءً وفاقاً . قال الله : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] ، وقال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] .
قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : < اهجهم ، أو قال هاجهم ، وجبريل معك > ويروي الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن الله عزّ وجلّ قد أنزل في الشعر ما قد علمت ، وكيف ترى فيه ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه . والذي نفسي بيده ! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل > .
تنبيهات :
الأول : قال في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } الآية ، ذم الشعر ، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه ، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم ، انتصاراً . انتهى .
وحكى الزمخشريّ عن عَمْرو بن عبيد ، أن رجلاً من العلوية قال له : إن صدري ليجيش بالشعر . فقال : فما يمنعك منه فيما لا بأس به ؟ والقول فيه : أن الشعر باب من الكلام ، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام .
الثاني : ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون . قالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء . فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال : أنتم .
قال ابن كثير : لكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار ؟ وفي ذلك نظر . ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها . والله أعلم . ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ، حتى يدخل فيه من كان متلبساً من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع ، وعمل صالحاً ، وذكر الله كثيراً ، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيِّء . فإن الحسنات يذهبن السيئات . وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه . كما قال : عبد الله بن الزِّبَعْرَى ، لما أسلم :
~يا رسولَ المليكِ إنّ لساني رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ ، إِذْ أَنَا بُورُ
~إِذْ أُجاري الشيطانَ في سَنَنِ الغَيّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فهو ابن عمّه وأكثرهم له هجواً . فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى . وقوله تعالى : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي : مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } تهديد شديد ووعيد أكيد ، لما في سيعلم من تهويل متعلقه . وفي الذين ظلموا من إطلاقه وتعميمه . وفي أي : منقلب ينقلبون من إبهامه وتهويله . كأنه لا يمكن معرفته ، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

(/)


سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ 1 - 3 ] .
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } الإشارة إلى نفس السورة . والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل . أي : تلك السورة آيات القرآن الذي عرف بعلوّ الشأن . وآيات كتاب عظيم المقدار ، مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار { هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي : هو هدى من الضلالة ، وبشرى برحمة الله ورضوانه ، لمن آمن وعمل صالحاً من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأيقن بالآخرة ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها .
لطيفة :
تكرير الضمير لإفادة الحصر والاختصاص على ما في " الكشاف " .
ولصاحب " الانتصاف " وجه آخر قال : لما كان أصل الكلام , وهم يوقنون بالآخرة , ثم قدم المجرور على عامله ، عناية به ، فوقع فاصلاً بين المبتدأ والخبر ، فأريد أن يلي المبتدأ خبره ، وقد حال المجرور بينهما ، فطرّى ذكره ليليه الخبر ، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور حيث بقي على حاله مقدماً : ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها ، بعد ما يوجب التطرية . فأقرب منها أن الشاعر قال :
~سَلْ ذُو وَعَجِّلْ ذَا وَأَلْحِقْنَا بِذَا الشَّحْمِ ، إِنَّا قَدْ مَلَلْنَاهُ بِخَلّ
والأصل وألحقنا بذا الشحم فوقع منتصف الرجز أو منتهاه على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل عند اللام . وبنى الشاعر على أنه لا بد ، عند المنتصف أو المنتهى ، من وقيفة ما . فقدر بتلك الوقفة بُعْداً بين المعرّف وآلة التعريف . فطرّاها ثانية . فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرّر ولا كلمة واحدة ، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير .
ثم قال : فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل . والله أعلم .
ثم تأثر أحوال المؤمنين بأحوال الكفرة ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 4 - 8 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي : مددنا لهم في غيّهم ، فهم يتيهون في ضلالهم . وكان هذا جزاءً على ما كذّبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] ، { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ } أي : أشد الناس خسراناً للنجاة وثواب الله { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي : لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه ، عليم بالأمور جليّها وخفيها . فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] ، والجملة مستأنفة ، سيقت [ في المطبوع : سقيت ] بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم ، تمهيداً لما يعقبه من الأنباء الجليلة . وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذلّ معانديه ، وجعلهم مثل السوء . فقال سبحانه : { إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ } أي : حين قفل من مدين إلى مصر ، وأضَلَّ الطريق : { إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } أي : رأيتها : { سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أي : عن الطريق : { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } أي : بشعلة مقتبسة : { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي : تتدفئون به : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : بورك من في مكان النار ومَن حول مكانها . ومكانها البقعة التي حصلت فيها . وتدل عليه قراءة أُبيّ : تباركت الأرض ومن حولها , وعنه : بوركت النار . والذي بوركت له البقعة ، وبورك من فيها وحواليها ، حدوث أمر دينيّ فيها ، وهو تكليم الله موسى ، واستنباؤه له ، وإظهار المعجزات عليه . ورب خير يتجدد في بعض البقاع ، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث أثار يمنه في أباعدها . فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى فـ تلك البقعة المباركة ؟ كذا في " الكشاف " .
وقال السمين : بارك يتعدى بنفسه . فلذلك بني للمفعول : باركك الله ، وبارك عليك ، وبارك فيك وبارك لك . والمراد بمن إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف ، أي : من قدرته وسلطانه في النار . وقيل المراد به موسى والملائكة . وكذلك قوله : { وَمَنْ حَوْلَهَا } وقيل المراد بمن غير العقلاء . وهو النور والأمكنة التي حولها . انتهى .
ولذا قال الزمخشري : والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام . قال : ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [ 71 ] ، وحقت أن تكون كذلك . فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ، ومهبط الوحي إليهم ، وكفاتهم أحياء وأمواتاً .
ثم قال : ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه ، هي بشارة له بأنه قد مضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة . انتهى .
وقال القرطبيّ : هذا تحية من الله تعالى لموسى ، وتكرمة له . كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : { رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } [ هود : 73 ] .
وعن ابن عباس : لم تكن تلك النار ناراً ، وإنما كانت نوراً يتوهج . وعنه : هي نور رب العالمين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام . يخفض القسط ويرفعه . يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل . حجابه النور أو النار . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره > ثم قرأ أبو عبيدة : { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } .
قال ابن كثير : وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عَمْرو بن مرّة : { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي يفعل ما يشاء ، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العليّ العظيم المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات . قاله ابن كثير .
وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه ، دفعاً لإيهام ما لا يليق من التشبيه . ثم إن موسى عليه السلام ، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه ، لا ملك ولا خلق آخر ، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } [ 9 - 12 ] .
{ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سرّ بديع . وهو الإشارة الجُمْلية إلى روح إرساله عليه السلام . أي : أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون ، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد ، الحكيم في البعثة والإرسال ، والتفضل والإفضال . ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلاً واضحاً على أنه القادر على كل شيء ، بقوله : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } هو ضرب من الحيات ، أسرعه حركة وأكثره اضطراباً : { وَلَّى } أي : من الخوف : { مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : لم يرجع على عقبه من شدة خوفه : { يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } أي : لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم . وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة . وتشجيع له بنزع الخوف . إذ لا يتمكن من أداء الرسالة ، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه . وقوله تعالى : { إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } استثناء منقطع . استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم . مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما ، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك ، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله ، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة . وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى عليه الصلاة والسلام ، من وكزه القبطيّ والاستغفار . قاله أبو السعود . وسبقه الزمخشري حيث قال : يوشك أن يقصد بهذا ، التعريض بما وجد من موسى . وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها ، وسماه ظلماً كما قال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } ثم أشار تعالى إلى آية خارقة غير العصا ، آتاه إياها ، بقوله : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : آفة كبرص : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } أي : غيرها تؤتاها ، إذا جحد فرعون رسالتك . وهي ضرب ماء النهر بالعصا فينقلب دماً . وإصعاد الضفادع على أرض مصر . وضرب التراب فتمتلئ الأرض قملاً . وإرسال الجراد عليهم . والوباء الشديد . وإصابة أجسادهم بالقروح والدمامل والبثور . وإهلاك حصادهم بالبرد الشديد . وتغشيتهم بظلام كثيف ، على ما روي ، وفي : { تِسْعِ } أوجه : أحدها أنها حال ثالثة . أي : تخرج آية في تسع آيات . والثاني أنها متعلقة بمحذوف ، أي : اذهب في تسع . والثالث أن يتعلق بقوله : { وأَلْقَ عَصَاكَ } : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ } أي : في جملة تسع آيات . وفي بمعنى : مع : { إِلَى فِرْعَوْنَ } أي : مرسلاً بها إلى فرعون : { وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } أي : خارجين عن الحدود ، في الكفر والعدوان . وهذا تعليل للإرسال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } [ 13 - 16 ] .
{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أي : ظاهرة بينة : { قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا } أي : كذبوا بها بألسنتهم : { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } أي : عرفت أنفسهم أنها آيات يقيناً ، لا سيما عند إلقاء السحرة ساجدين : { ظُلْماً } أي : للآيات ، بتسميتها سحراً كقوله : { بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ } [ الأعراف : 9 ] ، ولقد ظلموا بها : { وَعُلُوّاً } أي : تكبراً عن الانقياد لموسى : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : من إهلاكهم بالإغراق ، لغرقهم في بحر الفساد والإفساد : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } أي : بالقضاء بين الناس ، وحكمة باهرة : { وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي : العلم والحكمة والنبوة أو الملك : { وَقَالَ } أي : تحدثاً بنعمة الله وتنويهاً بمنته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } أي : فهم صوته : { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي : البين الظاهر . وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أنا سيد ولد آدم ولا فخر > أي : أقول هذا القول شكراً ، ولا أقوله فخراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ 17 - 25 ] .
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ } أي : جمع له عساكره : { مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يحبسهم أولهم على أخرهم ليتلاحقوا : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ } أي : رأتهم متوجهين إلى واديها : { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : بمكانهم : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا } أي : تعجباً من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها . وسروراً بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة ، فيما بين أصناف المخلوقات ، التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه الأمور ، وابتهاجاً بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها . قاله أبو السعود : { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي ألهمني شكرها : { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : بحجة تبين عذره : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : فلبث في الغيبة أمداً غير طويل : { فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ } وهي مدينة : { بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أي : سرير تجلس عليه ، هائل مزخرف بأنواع الجواهر : { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا } أي : هلاّ يسجدوا . كما قرأ بذلك . وجوّز بعضهم أن يكون معمولاً لما قبله . أي : فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا ، فحذف الجار مع أن أو تكون لا مزيدة ، والمعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا : { لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : يظهر ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وغيرهما : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } قرئ بالتاء والياء على صيغة الغيبة . والجملة التحضيضية إما مستأنفة من كلامه تعالى ، أو محكية عن قول الهدهد . واستظهر الزمخشري الثاني . قال : لأن في إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد ، لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض . وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض ، جلت قدرته ولطف علمه . ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة النّظّار بنور الله ، مخايل كل مختص بصناعة أو فن أو من العلم ، في روائه ومنطقه وشمائله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [ 26 ] .
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : المحيط بالشمس وسائر الكواكب وكل شيء . فما أصغر عرشها في جنب عظمته ! وما أضعف معبودها - الشمس - في جانب قدرته ! .
تنبيه :
هذه السجدة من عزائم السجدات . قال الزمخشري : لأن مواضع السجدة إما أمر بها ، أو مدح لمن أتى بها ، أو ذم لمن تركها . وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذم للتارك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ } [ 27 - 32 ] .
{ قَالَ } أي : سليمان : { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } أي : حسن مضمونه وما فيه : { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي : لا تتكبروا عليّ ، وأتوني منقادين لأمري : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ } أي : لا أبتّ أمراً إلا بمحضركم ومشورتكم . ولا أستبدّ بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } [ 33 - 35 ] .
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ } أي : في العَدد والعُدد : { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : نجدة وبلاء في الحرب : { وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي : وأمر القتال أو الصلح مفوض إلى رأيك . فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك : { قَالَتْ } أي : مشيرة إلى اختيار خطة المسالمة وإيثارها ، بالنظر لحالتها ومركزها وضعفها أمام عدوّها ، بأن القتال إنما يؤثَر إذا لم يغلب على الظن دخول العدوّ في قرية العدوّ . وألا تعيّن الانقياد . وذلك معنى قولها : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً } أي : عنوة وقهراً : { أَفْسَدُوهَا } أي : أخربوها : { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أي : بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال : { وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } تأكيد لما وصفت من حالهم ، وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة . وقيل تصديق لها منه تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } أي : وإني سأرسل إلى سليمان وملئه رسلاً بهدية توجب المحبة وتشبه الانقياد . من غير اختلال لشرفنا . ثم انتظر بأي أمر يرجع المرسلون منه ، حتى أعمل على حسب ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ 36 - 40 ] .
{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } أي : المرسلون منها : { قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ } أي : من الملك والحكمة والنبوة : { خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ } أي : فلا أبالي بجميع ما عندكم فضلاً عن الهدية : { بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } أي : إذا أهدي إليكم مثلها ، أو أهديتم مثلها ، تفرحون استكثاراً أو افتخاراً : { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : مهانون : { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } أي : ليختبرني أأشكر بالطاعة والعمل بالشريعة ، أم أكفر بالمعصية والمخالفة . وقوله تعالى : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] و [ الجاثية : 15 ] ، وكقوله : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } [ 41 - 42 ] .
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } أي : اجعلوه [ في المطبوع : اجعلوا ] متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس : { نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ } أي : لمعرفته : { فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } قال المهايميّ : لم تقل : هو هو خوفاً من التكذيب ، مع نوع من التغيير . ولا لا خوفاً من التجهيل .
وقال الزمخشري : لم تقل : هو هو ولا ليس به وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتم . أي : فَأتت بكأن الدالة على غلبة الظن .
قال الشهاب : وهذا إشارة إلى أن كأن ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك وهو مشهور فيها .
وقد أبدى صاحب " الانتصاف " فرقاً بين كأن وهكذا في التشبيه . وعبارته : وفي قولها : كأنه هو وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول : هكذا هو نكتة حسنة . ولعل قائلاً يقول : كلتا العبارتين تشبيه . إذ كان التشبيه فيهما جميعاً ، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة ، وفي الأخرى داخلة على المضمر ، وكلاهما أعني : اسم الإشارة والمضمر واقع على الذات المشبهة . وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى . ويفضل قولها : هكذا هو بمطابقته للسؤال . فلا بد في اختيار : { كَأَنَّهُ هُوَ } من حكمة . فنقول : حكمته ، والله أعلم ، أن : { كَأَنَّهُ هُوَ } عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين . فكاد يقول : هو هو وتلك حال بلقيس . وأما هكذا هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين ، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير . فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة ، لمطابقتها لحالها ، والله أعلم . انتهى .
وقوله تعالى : { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام ، شكراً لله على فضلهم عليها ، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام . أي : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته ، وبصحة ما جاء من عنده ، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها : { كأنه هو } والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضى ، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام . والتقدير : أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام ، وعلمت قدرة الله . وأوتينا العلم الخ . وقيل إنه من كلام بلقيس ، موصولاً بقولها : { كأنه هو } ، لا من كلام سليمان ، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ، فقالت : أوتينا العلم الخ . أي : لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل . وهذا يدل على كمال عقلها .
أو المعنى : علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية ، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار .
قال ابن كثير : ويؤيد الأول ، أي : أنه من كلام سليمان ، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح ، كما سيأتي ، والله أعلم . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 43 - 44 ] .
{ وَصَدَّهَا } أي : وكان صدها عن الهداية : { مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } أي : القصر ، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصراً بديعاً من زجاج ، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه ، ومقدار ما آثره الله به : { فَلَمَّا رَأَتْهُ } أي : صحنه : { حَسِبَتْهُ لُجَّةً } أي : ماء عظيماً : { وَكَشَفَتْ } أي : للخوض فيه : { عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ } أي : مملّس : { مِنْ قَوَارِيرَ } أي : من الزجاج : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له .
تنبيهات :
الأول : روى كثير من المفسرين ههنا أقاصيص لم تصحّ سنداً ولا مخبراً . وما هذا سبيله ، فلا يسوغ نقله وروايته .
قال الحافظ ابن كثير ، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسناً له ، ما مثاله : قلت : بل هو منكر غريب جداً . ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم .
ثم قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد في صحفهم . كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى ، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد والغرائب والعجائب . مما كان ومما لم يكن . ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة .
الثاني : أشير في " التوراة " في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه . ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطاً على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر . وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي : أنها تؤدّي له الجزية ، وإن كان محصوراً في فلسطين . وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهماً ذكياً جداً ، وسعة صدر . ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر . وقال ثلاثة آلاف مثل . وتكلم . في الشجر ، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط . وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك . وأما صرحه وبيته عليه السلام ، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم . وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة . وأنه بنى جازَرَ وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية . وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضاً قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه ، ودهشتها مما رأته وتحققته ، وإيمانها بربه تعالى . ثم إعطاؤه إياها بغيتها . ثم انصرافها إلى أرضها .
وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه ، ومهيمن عليه ، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة . ومثار التبصر والفطنة .
الثالث : مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة ، أن في قوله تعالى : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا } أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره . وفي قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ } استحباب تفقد الملك أحوال رعيته . وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان ، فأنشد :
~تفقد الإخوان مُسْتَحْسَنُ فمَن بَدَاهُ نِعْمَ مَا قَدْ بَدَا
~سَنَّ سليمانُ لنا سُنَّةً وكَانَ فِيما سنّه مُقْتَدَى
~تفقَّدَ الطير على مُلْكِهِ فقال : مَالِي لاَ أَرَ الْهُدْهُدَا
وأن في قوله تعالى : { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } الآية ، دليلاً على أن العذاب على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد . وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك . وأن في قوله تعالى : { قَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع : عندي من العلم ما ليس عندك ، إذا تحقق ذلك . وأن في قوله تعالى : { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } قبول الوالي عذر رعيته ، ودرءه العقوبة عنهم ، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به . وأن في قوله تعالى : { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } إرسال الطير بالكتب . وأن في قوله تعالى : { كِتَابٌ كَرِيمٌ } استحباب ختم الكتب ، لقول السّدّي : كريم بمعنى مختوم . وأن في قوله تعالى : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة . وأن في قوله تعالى : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } الآية ، استحباب رد هدايا المشركين . كذا في " الإكليل " بزيادة .
ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيّها صالح عليه السلام ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ 45 - 47 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } أي : فريق مؤمن وفريق كافر . يختصمون خصومة لا يرجع فيها المبطل إلى الحق بعد ما تبين له . كقوله تعالى : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ الأعراف : 75 - 76 ] ، { قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي : بالعقوبة السيئة قبل التوبة الحسنة . أي : لم تدعون بحضور العقوبة ولا تطلبون من الله رحمته بالإيمان : { لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا } أي : تطيرنا أي : تشاءمنا : { بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } أي : من المؤمنين . وقد كانوا ، لشقائهم ، إذا أصيبوا بسوء قالوا : هذا من قبل صالح وصحبه : { قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أي : سبيلكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عن الله . وهو قدره وقسمته ، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم . قاله الزمخشريّ .
قال الشهاب : لما كان المسافر من العرب إذا خرج مرّ به طائر سانحاً ، وهو ما وليه بميسرته ، أو بارحاً وهو ما وليه بميمنته - تيمنوا بالأول وتشاءموا بالثاني . ونسبوا الخير والشر إلى الطائر . ثم استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته . أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنقمة . ومنه طائر الله ، لا طائرك : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } أي : مفتونون بضلالكم وكفركم . لا ترون حسناً إلا ما يوافق هواكم ، ولا شؤماً إلا يخالفه . ثم أخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤسائهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر ، وتكذيب صالح عليه السلام ، وما آل بهم الأمر ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 48 - 52 ] .
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } أي : شأنهم وعادتهم الإفساد ، كما يفيده المضارع وتأكيده بقوله : { فِي الْأَرْضِ } الدال على عموم فسادهم . وهو صفة رهط أو تسعة : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ } أي : ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين ، بالله الذي هو أعظم المعبودين : { لَنُبَيِّتَنَّهُ } أي : لنقتلنّه ليلاً . قرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض : { وَأَهْلَهُ } أي : من آمن معه { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } أي : الطالب ثأره علينا : { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي : ما حضرنا مكان هلاك الأهل ، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة ، فضلاً عن مكانه ، فضلاً عن مباشرته : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي : ونحلف إنا لصادقون . أو : والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا : { وَمَكَرُوا مَكْراً } أي : بهذه الحيلة : { وَمَكَرْنَا مَكْراً } أي : بأن جعلناهم سبباً لإهلاكهم : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } أي : خالية ساقطة . لم تعمر بعدهم لأنهم استؤصلوا : { بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : بأنهم ما أخذوا إلا لظلمهم . وإن عاقبة الظلم الدمار والبوار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 53 - 59 ] .
{ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا } يعني صالحاً عليه السلام ومن معه : { وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } أي : قبحها ومضادّتها لحكمه تعالى وحكمته : { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } أي : متجاوزين النساء اللاتي هن محالّ الشهوة : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : تفعلون فعل الجاهلين سفهاً وعمى عن العاقبة : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : يتنزهون عن أفعالنا ويرونها رجساً . قالوه استهزاء : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين في العذاب : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً } أي : هائلاً غير معهود : { فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } قال الزمخشريّ : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته . وأن يستفتح بتحميده ، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده . وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمن بالذكرين ، والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما ، على قبول ما يلقى إلى السامعين ، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المُسْمِع . ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب . فحمدوا الله عزّ وجلّ ، وصلّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمام كل علم مفاد ، وقبل كل عظة وتذكرة ، وفي مفتتح كل خطبة . وتبعهم المترسلون . فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن . وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم . والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين .
ثم قال : معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه . وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم . وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله . ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء ، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره ، من زيادة خير ومنفعة . فقيل لهم ، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه ، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ، ولكن هوى وعبثاً ، لينّبهوا على الخطأ المفرط ، والجهل المورّط . وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول . وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد . ونحوه ما حكاه عن فرعون : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } [ الزخرف : 52 ] ، مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته .
ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عددها في موضع آخر . ثم قال : { هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } .
لطيفة :
قال ابن القيم في " طريق الهجرتين " في هذه الآية : كلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية ، وهي : الحمد لله , ويكون الأمر بالقول متناولاً للجملتين معاً . وعلى هذا ، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ، ويكون محلها النصب محكيّة بالقول .
ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب . وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب .
وهذا التقدير أرجح ، وعليه يكون السلام من الله عليهم . وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلّى الله عليهم وسلم .
وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم .
ولكن يقال على هذا : كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما . فلا يحسن أن يقول : قم وذهب زيد ، ولا اخرجْ وقعد عَمْرو .
ويجاب على هذا بأن جملة الطلب ، قد حكيت بجملة خبرية ، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه . وهذا نظير قوله تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] .
فقوله : { وَمَا تُغْنِي الْآياتُ } ليس معطوفاً بالقول وهو انظروا بل معطوف على الجملة الكبرى .
على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ 112 ] ، وقوله : { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [ 118 ] .
والمقصود أنه على هذا القول ، يكون الله سبحانه قد سلّم على المصطفين من عباده ، والرسلُ أفضلهم . انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 60 - 63 ] .
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } إضراب وانتقال ، من التبكيت تعريضاً ، إلى التصريح به خطاباً على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد . أي : بل من خلق السماوات والأرض ، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى : { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي : بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار : { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : أَإِله آخر كائن مع الله ، الذي ذكر بعض أفعاله ، التي لا يكاد يقدر عليها غيره ، حتى يتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة ؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى ، في ضمن النفي الكليّ على الطريقة البرهانية ، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد . قال أبو السعود : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } أي : عن طريق الحق . أو به تعالى غيره { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً } أي : قارة لا تنكفئ بمن عليها . أو مستقراً لمن عليها ، يتمتعون بمنافعها : { وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً } أي : برزخاً مانعاً من الممازجة : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : في الوجود ، أو في إبداع هذه البدائع : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : شيئاً من الأشياء . ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك ، مع كمال ظهوره : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر ، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى ، اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي : الالتجاء والاستناد .
قال ابن كثير : ينبّه تعالى أنه المدعوّ عند الشدائد ، الموجود عن النوازل ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ،
وقال تعالى : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } ، أي : من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه ؟ .
وقال ابن القيم في " الجواب الكافي " : إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب ، وصادف انكساراً بين يدي الرب وذلاًّ له وتضرعاً ورقة ، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده ، فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبداً . ولا سيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة ، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم . ثم ساقها ابن القيم مسندة .
ثم قال : وكثيراً ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله . أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته . أو صادف الدعاء وقت إجابة ، ونحو ذلك ، فأجيبت دعوته . فيظن الظانّ أن السر في لفظ ذلك الدعاء ، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي . وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً ، في الوقت الذي ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي . فانتفع به . فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده ، كاف في حصول المطلوب ، كان غالطاً . وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس . ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب . فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله . فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله ، كان أفضل وأحب إلى الله . انتهى .
وقوله تعالى : { وَيَكْشِفُ السُّوءَ } أي : كل ما هو يسوء مما يضطر فيه وغيره : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } أي : خلفاء فيها . وذلك توارثهم سكانها ، والتصرف فيها قرناً بعد قرن أو أراد بالخلافة الملك والتسلط . قاله الزمخشري { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : بالنجوم في السماء ، والعلامات في الأرض ، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر : { وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } وهي المطر : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ 64 - 65 ] .
{ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد الموت بالبعث . فإن قيل : هم منكرون للإعادة ، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف ؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها ، جعلوا كأنهم معترفون بها ، لتمكنهم من معرفتها - فلم يبق لهم عذر في الإنكار . فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها ، فالكلام بالنسبة إليه : { وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } أي : مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت . أي : هاتوا برهاناً عقلياً أو نقلياً ، يدل على أن معه تعالى إَلَهَاً . لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى ، فإنهم لا يدعونه صريحاً . وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم ، تهكم بهم . لما فيها من إيهام أن لهم برهاناً . وأَنَّى لهم ذلك ؟ قاله أبو السعود : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } أي : فإنه المتفرد بذلك وحده ، كما قال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } [ الأنعام : 59 ] ، في آيات لا تحصى . والاستثناء منقطع ، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض ، أو متصل ، على أن المراد ممن في السماوات والأرض ، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازاً مرسلاً أو استعارة . فإنه يعمّ الله تعالى وأولي العلم من خلقه : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : متى ينشرون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } [ 66 ] .
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ } قال السمين : فيه وجهان : أحدهما : أن في على بابها ، وادّارك وإن كان ماضياً لفظاً ، فهو مستقبل معنى ، لأنه كائن قطعاً . كقوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] .
وعلى هذا ففي متعلق بادّارك .
والثاني : أن في بمعنى الباء . أي : بالآخرة .
وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم . كقولك : علمي بزيد كذا , انتهى .
والوجه الثاني على الاستفهام . أي : بل هل ادّارك علمهم فيها ، أي : بلغ وانتهى ؟ كلا . وقد قرئ : بل أءدرك بهمزتين ، بل آءدرك بألف بينهما ، أم أدرك وأم تدارك .
قال الرازيّ : وهي أم التي بمعنى بل والهمزة . فالمعنى على الاستفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها ، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها ، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها .
وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام ، السيوطيّ والمهايميّ . وذهب غيرهما إلى إبقاء بل على أصلها من الإضراب الانتقاليّ . وقرروه بما فيه خفاء ودقة ويبعده ما ذكرنا من القراءات الصريحة في الاستفهام . وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام . كما تقرر في قواعد التفسير : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي : مرية ، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته : { بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } أي : في عماية وجهل كبير .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : هذه الاضطرابات الثلاثة ما معناها ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم : وَصَفَهُمْ أَولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث . ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة . ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ، فلا يزيلونه . والإزالة مستطاعة . ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض ، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم ، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل ؟ ثم بما هو أسوأ حالاً ، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه ، وفرجه ، لا يُخْطِر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة . وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه . فلذلك عداه بمن دون عن لأن الكفر بالعاقبة والجزاء ، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [ 67 - 70 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } أي : من القبور : { لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموّهة : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ } أي : لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم : { فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } بإنكاره . وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : على قولهم وتكذيبهم . فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] ، { وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } أي : في حرج من مكرهم وكيدهم لك . ولا تبال بذلك ، فإن الله يعصمك من الناس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 71 - 76 ] .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } أي : بالعذاب : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ } أي : لحقكم أو دنا لكم : { بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } أي : من العذاب ، فحصل لهم القتل ببدر . ولعاب الآخرة أمرّ . قال الزمخشريّ : وعسى ولعلّ وسوف في وعد الملوك ووعيدهم ، يدل على صدق الأمر وجدّه ، وما لا مجال للشك بعده . وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم ، وأنهم لا يعجلون بالانتقام ، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ، ووثوقهم أن عدوّهم لا يفوتهم ، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم . فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده . انتهى . أي : لأن حقيقة الترجّي محال في حقه تعالى . فهو على هذا استعارة تمثيلية . قاله الشهاب : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ } أي : لذو إفضال وإنعام عليهم ، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها . ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه ، بل بجهلهم يستعجلونها : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : من عداوة رسوله ونصب المكايد له . وهو معاقبهم على ذلك : { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي : وما من خافية فيهما ، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البيّن ، المثبت فيه مقدوراته تعالى . أو المراد بالكتاب القضاء العدل ، على طريق الاستعارة ، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع ، كالسجل : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : فهو مصدق لما بين يديه ، ومهيمن عليه . يقص القصص الحق ، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق . فالمعوّل من أنبائهم عليه ، ومردّ ما اختلفوا فيه إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } [ 77 - 81 ] .
{ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق ، المذعنون له : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ } أي : بين مَنْ آمن بالقرآن ومن كفر به ، بعدله وحكمته : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : فلا يردّ قضاؤه الغالب في انتقامه من المبطلين : { الْعَلِيمُ } أي : بالفصل بينهم وبين المحقّين . ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه ، وبالمضيّ في دعوته وانتظار الوعد الحق ، بقوله : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } أي : الأبلج الذي لا ريب فيه .
قال الزمخشريّ : وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته ، وأن مثله لا يخذل . ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين ، الذين هم أولياؤه وحزبه ، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية ، كآية : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، تسلية عما كان يهمه من إيمانهم ، بقوله سبحانه : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } قال الزمخشريّ : شبِّهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول ، لا تعيه آذانهم . وكان سماعهم كلا سماع . كانت حالهم ، لانتفاء جدوى السماع ، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع ، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون . وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم , وأن يجعلهم هداة بصراء ، إلا الله عزّ وجلّ . فإن قلت : ما معنى قوله : { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } ؟ قلت : هو تأكيد لحال الأصمّ . لأنه إذا تباعد عن الداعي ، بأن يولّي عنه مدبراً ، كان أبعد عن إدراك صوته . انتهى .
وإيراد قوله : { وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ } إثر ما تقدم ، للمبالغة في نفي الهداية . وقوله تعالى : { إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا } أي : ما تسمع سماعاً يجدي السامع نفعاً ، إلّا من شأنه الإيمان بها { فَهُمْ مُسْلِمُونَ } تعليل لإيمانهم بها . كأنه قيل : فإنهم منقادون للحق . وقيل : معناه مخلصون ، من قوله : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] ، يعني جعله سالماً لله خالصاً له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ } [ 82 ] .
{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ } اعلم أن في هذا الوعيد وجوهاً من التأويل :
الأول : أنه دنيويّ ، عنى به نصر الرسول صلوات الله عليه ، عليهم . والمعنى أنّ أولئك الصم عن سماع الآيات ، المعمي عن النظر فيها ، الجاحدين لها ، سيأتيهم أنباء حقيقة ما كانوا يدعون إليه من نصر الداعي وهو الرسول وأتباعه ، وتكثير سوادهم حتى يظفروا بمناوئيهم . ويظهروا على عدوّهم . وذلك بأن تدبّ إليهم من المؤمنين دابة عظمى تملأ السهل والربا , تزلزل أركانهم وتهدم بنيانهم وتقوض خيامهم وتدكّ أعلامهم . فتكلمهم حينئذ بلسان الحال أو المقال ، بأنهم إنما أخذوا بالعقاب ، وحل بهم شديد العذاب لضلالهم وإضلالهم العباد . وسعيهم في الأرض الفساد . فإن الإيمان دعامة الصلاح والإصلاح . وقائد الفلاح والنجاح ، وقد سبقت كلمته لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون ، وإن جنده لهم الغالبون . وقد صدق الله وعده . وأعز جنده .
والوجه الثاني : أن الدابة حيوان بخلاف ما نعرفه . يختص خروجها بحين القيامة ، قال بعضهم : والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعاً مخصوصاً من دواب هذه الأرض ، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى . وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره ، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضاً . قال : فليس المراد من قوله : { دَابَّةً } الفرد ، بل النوع . كما في قولك : أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم , أي : ديدناً كثيرة ، من نوع واحد مخصوص .
وقد روي فيها أحاديث وأثار كثيرة ، لم يصحح البخاريّ منها شيئاً ، لاضطراب متونها وضعف رجالها . وأمثل مأثورها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عَمْرو مرفوعاً : < إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى . وأيهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على إثرها قريباً > .
ومعلوم أن أمور الآخرة من عالم الغيب . ولا يؤخذ فيها إلا بما كان قطعيّ الثبوت .
الوجه الثالث : نقله الراغب في مفرداته قال : وقيل عنى بالدابة الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب . فتكون الدابة جمعاً ، اسماً لكلّ ما يدبّ . نحو : خائنة جمع خائن . انتهى .
ولعل الآية كقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 96 - 97 ] ، فإن يأجوج ومأجوج كالدابة ، لما يغطي بدبيبه وجه الأرض - فهو مثل في الكثرة . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 83 - 84 ] .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يحبس أولهم على آخرهم ، حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار . وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه . كما وصفت جنود سليمان بذلك . وكذلك قوله : { فَوْجاً } ، فإن الفوج الجماعة الكثيرة . أفاده الزمخشري : { حَتَّى إِذَا جَاءُوا } أي : إلى المحشر : { قَالَ } أي : ليفضحهم في هذا اليوم المشهود : { أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي } أي : الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله : { وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً } جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه . ومؤكدة للإنكار والتوبيخ . أي : أكذبتم بها بادئ الرأي ، غير ناظرين فيها نظراً يؤدي إلى العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً ؟ وهذا نص في أن المراد بالآيات ، فيما سلف في الموضعين ، هي الآيات القرآنية ، لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة ، وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علماً ، مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها . لا نفس الساعة وما فيها . أفاده أبو السعود : { أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بها . أو ماذا كان عملكم ؟ هل هو إلا الفساد والإفساد ؟ وصد السبيل عن العباد ؟ ولذا حقت كلمة العذاب عليهم . كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [ 85 - 89 ] .
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ } أي : مدلوله وهو العقاب الموعودون به : { عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي : ليبصروا ، بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور المعاش : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ } أي : حضروا الموقف بين يديه : { دَاخِرِينَ } أي : صاغرين : { وَتَرَى الْجِبَالَ } عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير : { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي : ثابتة في أماكنها : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أي : في تخلل أجزائها وانتفاشها . كما في قوله تعالى : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [ القارعة : 5 ] ، { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي : فيجازيهم عليه .
تنبيه :
ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير . قالوا : المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة ، حينما يبيد الله تعالى العوالم ، كما قال : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } [ النبأ : 20 ] ، وكما قال : { وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ } [ المرسلات : 10 ] ، وقال : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [ القارعة : 5 ] .
وقال بعض علماء الفلك : لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه ، لعدة وجوه :
الأول : أن قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها بما يحصل يوم القيامة . وكذلك قوله : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ، لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة ، على أن محل هذه الآية على المستقبل ، مع أنها صريحة في إرادة الحال ، شيء لا موجب له . وهو خلاف الظاهر منها .
الثاني : أن سير الجبال للفناء يوم القيامة ، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } [ الزمر : 68 ] ، أي : من الملائكة . فما معنى قوله إذن : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } ؟ .
الثالث : أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القامة ، إذا رآه أحد شعر به . لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان ، فيحسّ بحركتها . وهذا ينافي قوله تعالى : { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي : ثابتة . أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها ، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها . وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة . فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفاً . وهذا شيء يراه كل واقف عندها .
الرابع : ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة ، لورود آية : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } المذكورة قبلها في نفس هذا السياق ، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى ، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار ، ليكون ذلك دليلاً على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة ، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان ، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه . ولذلك ختم هذه الآية بقوله : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } فذكر هذه الأشياء في هذا السياق ، هو كذكر الدليل مع المدلول ، أو الحجة مع الدعوى . وهي سنة القرآن الكريم . فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائماً ، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها . وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره . كلامه .
وقال العلامة المرجانيّ في مقدمة كتابه " وفيّة الأسلاف ، وتحيّة الأخلاف " في بحث علم الهيئة ، ما مثاله :
ويدل على حركة الأرض قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } الآية . فإنه خطاب لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية . وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها ، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض ، ودوام مرورها مرّ السحاب في سرعة السير والحركة . قال : وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ } من المصادر المؤكدة لنفسها . وهو مضمون الجملة السابقة . يعني أن هذا المرور هو صنع الله . كقوله تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ } [ النساء : 122 ] ، { صِبْغَةَ اللَّهِ } [ البقرة : 138 ] ، ثم الصنع هو عمل الإنسان ، بعد تدرّب فيه وتروًّ وتحري إجادة . ولا يسمى كل عمل صناعة ، ولا كل عامل صانعاً حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه . وقوله : { الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كالبرهان على إتقانه ، والدليل على إحكام خلقته ، وتسويته مروره على ما ينبغي . لأن إتقان كل شيء ، يتناول إتقانه . فهو تثنية للمراد وتكرير له ، كقوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، قال : وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد ، وأنحاء من المبالغة . فمن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة . وإضافته إليه تعالى تعظيماً له وتحقيقاً لإتقانه وحسن أعماله . ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء ، ومن جملته هذه المرور . ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور . ثم التقييد بالحال ، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائماً . فإن قوله تعالى : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } حال من المفعول به ، وهو الجبال . ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال .
فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة . وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة ، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام . وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الأجرام [ في المطبوع : الإجرام ] إذا كانت في سمت واحد . فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير . على أن ذلك نقض وإهدام ، وليس من صنع وإحكام . قال : والعجب من حذاق العلماء المفسرين ، عدم تعرضهم لهذا المعنى ، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء . مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية ، على ما شحنوا بها كتبهم . وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ، ولا بعيد عن حكمته ، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة ، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار ، كائناً ما كان ، وهو العليّ الكبير ، وعلى ما يشاء قدير .
واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ } الآية . اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة ، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان . ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن .
وفائدته هنا ، التنبيه على سرعة تقضّي الآجال ومضيّ الآماد . والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد . فإن انقضاء الأزمان ، وتقضي الأوان ، إنما هو بالحركة اليومية المارّة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان . وهذا المرور . وإن لم يكن مبصراً محسوساً ، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال ، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره ، بمنزلة المحسوس المبصَر : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ، فيكون هذا معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، مخصوصة به ، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء .
فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة . إذ ليس هو من الصنع في شيء . بل هو إفساد أحوال الكائنات ، وإخلال نظام العالم ، وإهلاك بني آدم . كلام المرجانيّ .
{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } أي : لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل . وقرئ : { فَزَعِ يَوْمِئذٍ } بالإضافة وكسر الميم وفتحها . وفزع منوناً وفتح الميم ، على أنه ظرف لآمنون أو المحذوف هو صفة للفزع . والتنوين في يومئذ عوض عن جملة محذوفة ، أي : يوم إذا جاءوا بالحسنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 90 - 93 ] .
{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والمعاصي : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ } أي : مكة : { الَّذِي حَرَّمَهَا } أي : جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها . وفيه تعريض بجحدهم نعمته تعالى في ذلك ، حيث آمنهم من خوف ، وأجلّهم في أَعْيَن القبائل ، ووقاهم من الفتن المنتشرة عند غيرهم ، إجلالاً لهذا البيت . وهم لم يرعوا هذه النعمة بالقيام بواجب شكرها ، من عبادته تعالى وحده ، وسعيهم بالإصلاح : { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } أي : خلقاً وملكاً . فهو خالق كل شيء ومليكه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : ممن أسلم وجهه لله ، لا لغيره .
{ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ } أي : عليكم ، تلاوة الدعوة إلى الإيمان به ، لما اشتمل عليه من سعادة الدارين : { فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } أي : فمن اتبع ما فيه من توحيد الله ، ونفي الأنداد عنه ، والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل عليّ من الوحي ، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه ، لا إليّ : { وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ } أي : ومن ضل عن الإيمان وأخطأ بزَيْغِهِ طريق الهدى ، ولم يتبعني ، فَلَا عَلَيَّ . وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على ما هدانا لهذا الدين ، ومنّ علينا بصراطه المستقيم : { سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } كقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] ، وقوله : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ صّ : 88 ] ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والتكذيب ونصب المكايد . بل هو شهيد رقيب ، جل جلاله وعظم نواله ، ولا إله غيره .

(/)


سورة القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ 1 - 4 ] .
{ طسم } تقدم الكلام على هذه الحروف غير ما مرة : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : نقرأ عليك ، بواسطة الروح الأمين ، تلاوة ملتبسة بالحق . كما قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] ، ثم استأنف ما يجري مجرى التفسير للمجمل الموعود ، بقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ } أي : تكبر وتجاوز الحد في الطغيان ، في أرض مصر : { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي : فرقاً وأصناماً في استخدامه وطاعته : { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } وهم بنو إسرائيل : { يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } وذلك إماتة لرجالهم ، وتقليلاً لعددهم ، كيلا يكثروا فينازعوه الملك : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } أي : المتمكنين في الإفساد وقهر العباد .
ثم أشار تعالى إلى فرجه الذي جعله لتلك الطائفة ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } [ 5 - 8 ] .
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ } أي : نتفضل : { عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } أي : يقتدى بهم في الدين بعد أن كانوا أتباعاً مسخرين : { وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } أي : لملك عدوّهم . كما قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ } إلى قوله : { يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] ، { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : بالتصرف فيها تصرف الملوك : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ } أي : من ألئك المستضعفين : { مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } أي : من هلاكهم وذهاب ملكهم ، جزاء إفسادهم وعدم إصلاحهم وطغيانهم : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى } أي : إثر ولادته في تلك الشدّة : { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } أي : من أولئك الدباحين الذين بأيديهم الشفار المرهفة العاملة في تلك الأنفس الزكية : { فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } أي : في البحر ، وهو النيل : { وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أي : في هلاكهم على يديه .
قال أبو السعود : واللام لام العاقبة . أبرز مدخولها في معرض العلة ، لالتقاطهم . تشبيهاً له في الترتب عليه ، بالغرض الحامل عليه : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } أي : مجرمين فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم ، ومَنْ هو سبب هلاكهم ، على أيديهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ 9 - 11 ] .
{ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ } أي : لفرعون ، حين أخرجته من التابوت : { قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : بما سيكون : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً } أي : خالياً من العقل . لما دهمها من فرط الجزع ، وأطار عقلها من الدهش ، لما بلغها وقوعه في يد فرعون : { إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي : بأمره وقصته ، وأنه ولدها : { لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : لولا أن ألهمناها الصبر . شبه بربط الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن . ومعنى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : المصدقين بوعد الله . وهو قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } [ 7 ] .
قال الزمخشري : ويجوز ، وأصبح فؤادها فارغاً من الهم ، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبنّاه . إن كادت لتبدي بأنه ولدها ، لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت . لولا أنّا طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج ، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله ، لا بتبني فرعون وتعطفه : { وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : اتبعي أثره لتنالي خبره : { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } بضم النون وسكونها . أي : عن بعد : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : أنها تتعرف حاله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ } [ 12 - 17 ] .
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل قصّها أثره . والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد . وهي المرأة التي ترضع . وترك التاء لاختصاصه بالنساء . أو جمع مرضع بفتح الميم مصدر ميميّ ، جمع لتعدد موادّه . أو اسم موضع الرضاع ، وهو الثدي : { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } أي : في رضاعه وتربيته : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي : برؤيته : { وَلا تَحْزَنَ } أي : بفراقه : { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : كمال قوته { وَاسْتَوَى } أي : اعتدل مزاجه : { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : في أعمالهم . ثم بين تعالى من نبئه عليه السلام ، ما تدرج به إلى ما قدّر له من الرسالة ، بقوله سبحانه : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ } أي : مصر آتياً من قصر فرعون : { عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا } قيل وقت القيلولة . وقيل بين العشائين : { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ } أي : يتنازعان : { هَذَا } أي : الواحد : { مِنْ شِيعَتِهِ } أي : ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل : { وَهَذَا } أي : الآخر : { مِنْ عَدُوِّهِ } أي : من خالفه في دينه وهم القبط : { فَاسْتَغَاثَهُ } أي : سأله الإغاثة : { الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ } لكونه مظلوماً : { عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } لكونه ظالماً . وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين : { فَوَكَزَهُ مُوسَى } أي : ضربه بجُمع كفَّه : { فَقَضَى عَلَيْهِ } أي : فقتله : { قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه ، من قتله . وسماه ظلماً واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه : { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بقتله : { فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ } يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف . أي : أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة ، لأتوبنّ ولا أظاهر المجرمين . وأن يكن استعطافاً كأنه قال : رب ! اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة . فلن أكون ، إن عصمتني ، ظهيراً للمجرمين . وأراد بمظاهرتهم ، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده ، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له . قاله الزمخشريّ .
قال الناصر : لقد تبرأ عليه السلام من عظيم . لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده . ويروى أنه ثقال يوم القيامة : أين الظلمة وأعوان الظلمة ؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة ، أو برى لهم قلماً ، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ 18 - 23 ] .
{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّب ُ } أي : الاستقادة أو الأجناد : { فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ } أي استعانة فقتل من أجله منازعه القبطيّ : { يَسْتَصْرِخُهُ } أي : يستغيثه من قبطيّ آخر : { قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } أي : بمخاصمتك الناس مع عجزك ، وجرّك إليهم ما لا تحمد عقباه : { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا } أي : لموسى وللإسرائيليّ ، وهو القبطيّ : { قَالَ } أي : ذلك العدوّ وهو القبطيّ ، لا الإسرائيليّ كما وهم : { يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } أي : بين الناس بالقول والفعل .
قال الزمخشري : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم ، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى } أي : يسرع لفرط حبه لموسى : { قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } أي : يتشاورون بسببك : { لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } أي : من حدّ مملكتهم : { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } أي : لحوق الطالبين : { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ } أي : جعل وجهه : { تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : فلا يلحقني فيه الطالبون : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } أي : جماعة كثيفة : { مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } أي : مواشيهم : { وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ } أي : تمنعان مواشيهما عن الماء ، لوجود من هو أقوى منهما عنده ، فلا تتمكنان من السقي : { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما شأنكما في الذود : { قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } أي : عاداتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء ، عجزاً عن مساجلتهم ، وحذراً من مخالطة الرجال : { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي : فيعجز عن الخروج والسقي . أي : ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو ، وقد أضعفه الكبر ، فاضطرنا الحال إلى ما ترى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 24 - 25 ] .
{ فَسَقَى لَهُمَا } أي : فسقى غنمهما ، لأجلهما من غير أجر : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } أي : الذي كان هناك ، من شدة الحر : { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي : محتاج . والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام . وعلى الأخير حمله الأكثرون بمعونة المقام : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } أي : أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله : { قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : بالخروج عند حدّ ولايتهم ، إذ لا سلطان لهم بأرضنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ 26 - 28 ] .
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } أي : اجعله أجيرك ليرعى غنمك ، فإنه حقيق بذلك : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } أي : خير من أردت جعله أجيراً ، القويّ على العمل المؤتمن فيه .
قال الزمخشريّ : وقولها : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } كلام حكيم جامع لا يزاد عليه . لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان ، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك ، فقد فرغ بالك وتم مرادك . وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة ، أن تقول : استأجره لقوَّته وأمانته . انتهى .
قال الناصر : وهو أيضاً أجمل في مدح النساء للرجال ، من المدح الخاص . وأبقى للحشمة . وخصوصاً إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه . وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال : أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القويّ . ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين ، فكان قوياً وأميناً : يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه . انتهى { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ } أي : لقوتك وأمانتك ، ما يقوّي المودة ويجذب القلوب : { أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي : على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي ، هي مهرها عليك ، ثماني سنين : { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ } أي : فهو من عندك بطريق التفضل : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } أي : بإلزام أتم الأجلين وإيجابه : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أي : ذاك الذي عاهدتني عليه ، لا نخرج عنه جميعاً : { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ } أي : أتممت : { فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي : بطلب الزيادة على ثمان ، أو الخروج بالأهل قبل عشر : { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شاهد وحفيظ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } [ 29 - 31 ] .
{ فَلَمَّا قَضَى } أي : أتم : { مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أي : من الطريق ، من ضوئها ، أو ممن عندها : { أَوْ جَذْوَةٍ } مثلثة الجيم ، وقد قرئ بها كلها ، أي : عود فيه شيء : { مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي : تستدفئون : { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي : قرب منها : { نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ } أي : جانب : { الْوَادِ الْأَيْمَنِ } أي : المبارك . يقال : يمن فهو ميمون وأيمن . وتفسيره بخلاف الأيسر بعيد ، لأن ألفاظ التنزيل وآية يفسر بعضها بعضاً . وقد جاء في غير آية توصيف الوادي بالمقدس ، وبقعته بالمباركة ، والمعنى واحد . وإن أدهش التفنن في التعبير عنه ببديع تلك المباني : { فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ } أي : التي بورك مكانها بالتجلي الإلهيّ : { مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } أي : تتحرك : { كَأَنَّهَا جَانٌّ } أي : حية صغيرة ، في سرعة الحركة : { وَلَّى مُدْبِراً } أي : أعرض بوجهه عنها . جاعلاً ظهره إليها : { وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : لم يرجع : { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } أي : من المخاوف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } [ 32 - 35 ] .
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } أي : ادخلها فيه : { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : عيب : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } أي : يدك : { مِنَ الرَّهْبِ } أي : الخوف . قرئ بفتحتين ، وضمتين ، وفتح وسكون ، وضم وسكون . قال ابن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية قال ابن كثير : والظاهر أن المراد أعم من هذا . وهو أنه أمر عليه السلام ، إذا خاف من شيء ، أن يضم إليه يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف . وربما استعمل أحد ذلك ، على سبيل الاقتداء ، فوضع يده على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجد أو يخفّ إن شاء الله تعالى . وبه الثقة { فَذَانِكَ } إشارة إلى العصا واليد : { بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } أي : فيكون أحسن بياناً . ولا يتحمل ذلك ما لم يكلف بمثل ما كلفت به : { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } أي : معيناً : { يُصَدِّقُنِي } أي : لنشاط قلبي : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } أي : يتفقوا على تكذيبي المؤدي إلى أنواع الأذيات .
قال الزمخشري : فإن قلت : تصديق أخيه ، ما الفائدة فيه ؟ قلت : ليس الغرض بتصديقه أن يقول له : صدقت ، أو يقول للناس : صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار ، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة . فذلك جار مجرى التصديق المفيد ، كما يصدق القول بالبرهان . ألا ترى إلى قوله : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ } وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك . لا لقوله صدقت . فإن سحبان وباقلاً يستويان فيه . أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه . فأسند التصديق إلى هارون لأنه السبب فيه ، إسناداً مجازياً . انتهى { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي : سنقويك به ونعينك .
قال الشهاب : والشد التقوية ، والعضد من اليد معروف . فهو إما كناية تلويحية عن تقويته ، لأن اليد تشد بشدة العضد ، والجملة تشتد بشدة اليد ، ولا مانع من الحقيقة كما توهم . أو استعارة تمثيلية . شبّه حال موسى في تقويته بأخيه عليهما السلام ، بحال اليد في تقويتها بيد شديدة { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } أي : غلبة ومهابة في قلوبهم أو حجة : { فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } أي : بإيذاء ، فضلاً عن القتل : { بِآياتِنَا } متعلق بمحذوف أي : اذهبا بآياتنا . أو بنجعل أي : نسلطكما بها أو بمعنى : لا يصلون أي : تمتنعون منهم بها . أو قسم ، جوابه لا يصلون مقدر . أو صلة للغالبون في قوله : { أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } وتقدمه ، إما للفاصلة أو للحصر . أي : الغالبون عليهم ، وإن غلبوكم وغلبوا العالمين قبلكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 36 - 38 ] .
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً } أي : مبتدع لم يسبق له نظير . أو تفتريه على الله بنسبته له ، وأنت تعلمته من غيرك ، فالافتراء بمعنى الاختلاق أو الكذب : { وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أي : السحر أو ادعاء النبوة ، أو بأن للعالم إلهاً يرسل الرسل بالآيات : { فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } أي : كائناً في أيامهم . قال الشهاب : وهذا إما تعمد للكذب وعناد بإنكار النبوات ، وإن كان عهد يوسف قريباً منهم . أو لأنهم لم يؤمنوا به أيضاً : { وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } قال المهايميّ : معناه : كفى دليلاً على كونها آيات ، أنها خوارق ولم يسبق لها نظير . مع أن ما جئت به هدى . والساحر لا يدعو في العموم إلى هدى . فإن لم تعترفوا بكونه هدى ، فربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ، ويعلم ذلك بالعاقبة,
فإن الله يحسن عاقبة أهل الهدى لا محالة . لأنه يعلم من تكون له عاقبة الدار . وهي العاقبة المحمودة . والمراد بالدار : الدنيا . وعاقبتها وعقباها : أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان . وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت . وهذه لا تكون للساحر إذا ادعى النبوة ، لأنه ظالم ، فلا يفلح بالعاقبة الحميدة كما قال : { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : بالدار وإن وجدوا بعض مقاصدهم أولاً استدراجاً ، فلا يفوزون بالعقبى الحميدة . وإنما غاية أمرهم انقطاع أثرهم وسوء ذكرهم . وقد حقق الله هذا الوعد فجعل عاقبة قوم موسى رفيعة . ونهاية أعدائه وضيعة : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } هذا حكاية لتمرده وعتوّه وطغيانه في تفوهه بتلك العظيمة . كما واجه موسى عليه السلام بها في قوله : { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ 29 ] ، وكما قال تعالى عنه : { فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [ النازعات : 23 - 26 ] ، يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم معلناً بذلك . فانتقم منه بما جعله عبرة لمن اعتبر : { فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ } أي : ناراً ، فأتخذ منه آجرّاً .
قال الزمخشري : ولم يقل : اطبخ لي الآجرّ واتخذه , لأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته ، وأشبه بكلام الجبابرة . وهامان وزيره ومدبّر رعيته : { فَاجْعَلْ لِي } أي : من الآجرّ : { صَرْحاً } أي : قصراً رفيعاً إلى السماء : { لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } يعني العليّ الأعلى ، تبارك و تعالى : { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في دعواه الألوهية ، والعلوّ لباري الأرض والسموات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 39 - 43 ] .
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ } أي : بدعوى الألوهية لنفسه ، ونفيها عن الله تعالى ، وقصد الاطلاع إلى الله سبحانه ، وادعاء العمل الكليّ لنفسه مع جهله بربه : { وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : بل بالفساد وردّ الحق ، والصدّ عن سبيل الله : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ } بضم الياء وفتحها قراءتان : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } أي : يلعنهم كل مؤمن يسمعهم : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } أي : من المطرودين ، المبعدين : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي : أنواراً للقلوب : { وَهُدىً } أي : إلى الاعتقادات الصحيحة ودلائلها : { وَرَحْمَةً } أي : بالإرشاد إلى العمل الصالح : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : فيتعظون به ويهتدون بسببه .
ثم أشار تعالى إلى كون التنزيل وحياً من علاّم الغيوب ، ببيان أنه ما فصّل من هذه الأنباء [ في المطبوع : الأنبياء ] لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ، وكلاهما معلوم الانتفاء ، فتحقق صدق الإيحاء . وذلك قوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 44 - 46 ] .
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ } أي : الوادي الغربي الذي كوشف فيه موسى عن المناجاة : { إِذْ قَضَيْنَا } أي : قدرنا وأنهينا : { إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ } أي : أمر الإرسال والإنباء : { وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً } أي : بين زمانك وزمان موسى : { فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } أي : أمد انقطاع الوحي ، واندرست معالم الهدى ، وعم الضلال والبغي والردى ، فاقتضت رحمتنا إرسالك لنخرجهم من الظلمات إلى النور : { وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً } أي : مقيماً : { فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي : لك ، وموحين إليك تلك الآيات . أي : ما كان الإنباء بها إلا وحياً مصدره الرسالة : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } أي : وقت ندائنا موسى : { وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي : ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وبغيره ، لرحمةٍ عظيمة كائنة منّا لك وللناس : { لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : يتعظون بإنذارك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [ 47 - 48 ] .
{ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ } أي : عقوبة : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : من الكفر والفساد : { فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بها . وجواب : { لَوْلاَ } الأولى محذوف ، ثقة بدلالة الحال عليه . أي : ما أرسلناك . لكن قولهم هذا عند عقوبتهم محقق . ولذا أرسلناك قطعاً لمعاذيرهم .
قال الزمخشري : ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي ، جعل كل عمل معبراُ عنه باجتراح الأيدي ، وتقديم الأيدي ، وإن كان من أعمال القلوب . وهذا من الاتساع في الكلام ، وتصيير الأقل تابعاً للأكثر ، وتغليب الأكثر على الأقل : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } أي : من قلب العصا حية ، وفلق البحر ، وغيرهما من الآيات . تعنتاً وعناداً ، كما قالوا : { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ } [ هود : 12 ] ، وما أشبه ذلك . وقوله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } رد عليهم ، وإظهار لكون ما قالوه تعنتاً محضاً ، لا طلباً لما يرشدهم إلى الحق . أي : أو لم يكفر أبناء جنسهم ، ومَنْ مذهبهم مذهبهم ، وعنادهم عنادهم وهم القبط ، بما أوتي موسى من الكتاب : { قَالُوا } أي : في موسى وهارون عليهما السلام ساحران : { تَظَاهَرَا } أي : تعاونا . وقرئ : { سِحْرَانِ } أي : ذوا سحرين ؛ أو جعلوهما سحرين مبالغة : { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } ثم أشار تعالى إلى أن الآية العظمى للنبيّ صلوات الله عليه ، هي الآيات النفسية العلمية ، لا الكونية الآفاقية التي كانت لغيره ، جرياً على سنة الارتقاء . فإن النوع الإنساني كان ، لما جاء الإسلام قد استعد إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان ، والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة . وكان لا بد له في هذا الطور من معلّم ومرشد ، كما في الأطوار الأخرى ، أرسل الله إليه رسولاً يهديه إلى طرق النظر والاستدلال ، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى . وأن لا يأخذ شيئاً إلا بدليل وبرهان ، يوصل إلى العلم . فكانت عمدته صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على نبوّته ورسالته نفسه الكريمة ، ما جاء به من النور والهدى ، كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب ، بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها . وقد بسط هذا في مواضعه . وهذا معنى قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ 49 - 55 ] .
{ قُلْ } أي : لهؤلاء الجاحدين : قد مضى دور الخوارق التي تقترحونها ، ونسخ تعالى من تلك الآيات بما أتى بخير منها ، وهو آية الهداية التي تصلح بها قلوب العالمين . والذكرى التي تزع النفوس عن الشر ، وتحملها على الخير . بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين ، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين . فإن يك هذا سحراً ، ولديكم ما هو أهدى : { فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا } أي : من التوراة والقرآن : { أَتَّبِعْهُ } أي : ولا أعاندكم مثل ما تعاندونني : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أنهما سحران مختلقان . أو في أنه يمكن الإتيان بما هو أهدى منهما .
قال أبو السعود : ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته . لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين ، أمر بيّن الاستحالة . فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام . انتهى . أي : لا للشك والتردد .
قال الشهاب : وهذا جواب عما يقال أن عدم إتيانهم به معلوم . وهذا كما يقول المدّل : إن كنت صديقك القديم ، فعاملني بالجهل . وكذا في إيراد كلمة إن مع امتناع صدقهم ، نوع تهكم بهم : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ } أي : فلم يأتوا بذلك الكتاب ، ولم يتابعوا الكتابين : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } أي : الزائغة من غير برهان : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } الاستفهام إنكاري للنفي . أي : لا أحد أضل منه . كيف لا ؟ وهو أظلم الظلمة . بتقديم هواه على هدى الله . كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى ، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين .
قال الرازيّ : وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد ، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال . انتهى { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : أنزلنا عليهم القرآن متواصلاً ، بعضه إثر بعض ، وعداً ووعيداً ، وقصصاً وعبراً ، ومواعظ ، حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إرادة أن يتذكروا فيفلحوا . وقرئ وصّلنا بالتشديد والتخفيف : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ } أي : القرآن : { هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } وهم مؤمنو أهل الكتاب وأولياؤهم : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } أي : القرآن : { قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ } أي : من قبل نزوله : { مُسْلِمِينَ } أي : منقادين له ، لما عندنا من المبشِّرات به . أو على دين الإسلام ، وهو إخلاص الوجه له تعالى بدون شرك : { أُولَئِكَ } أي : الموصوفون بما ذكر من النعوت : { يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ } يعني مرة على إيمانهم بكتابهم ، ومرة على إيمانهم بالقرآن : { بِمَا صَبَرُوا } أي : بصبرهم وثباتهم على الإيمانيْن . أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده . أو على أذى من نابذهم : { وَيَدْرَأُونَ } أي : يدفعون : { بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : بالحكمة الطيبة ، ما يسوؤهم : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي : للبؤساء والفقراء ، وفي سبيل البرّ والخير ، فراراً عن وصمة الشحّ ، وتنبهاً لآفاته .
{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ } أي : من الجهال . وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك ، من العبث وغيره : { أَعْرَضُوا عَنْهُ } أي : تكريماً للنفس عن ملابسة الأدنياء ، وتشريفاً للسمع عن سقط باطلهم : { وَقَالُوا } أي : لهم : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي : بطريق التوديع والمتاركة ؛ وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة حلم المؤمنين : { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أي : لا نريد مخالطتهم وصحبتهم ، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم . فال الرازيّ : قال قوم : نسخ ذلك بالأمر بالقتال . وهو بعيد . لأن ترك المسافهة مندوب . وإن كان القتال واجباً .
تنبيه :
قال ابن كثير عن سعيد بن جبير : إنها نزلت في سبعين من القسيسين . بعثهم النجاشي . فلما قدموا النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم : { يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [ يّس : 1 2 ] ، حتى ختمها . فجعلوا يبكون وأسلموا .
وقال محمد بن إسحاق في " السيرة " : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى ، حين بلغهم خبره من الحبشة . فوجدوه في المسجد . فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه . ورجال من قريش في أنديتهم . حول الكعبة . فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا ، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوا القرآن . فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع . ثم استجابوا لله وآمنوا به ، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش . فقالوا لهم : خَيّبكم الله من ركب . بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم ، لتأتوهم بخير الرجل . فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال . ما نعلم ركباً أحمق منكم . أو كما قالوا لهم . فقالوا لهم : سلام عليكم . لا نجاهلكم . لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً .
قال : ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران . فالله أعلم أي : ذلك كان .
قال : ويقال ، والله أعلم ، إن فيهم نزلت هذه الآيات : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .
قال : وسألت الزهري عن الآيات فيمن نزلت ؟ قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم . والآيات اللاتي في سورة المائدة : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } [ المائدة : 82 ] ، إلى قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [ 56 - 58 ] .
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي : لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : أن يهديه فيدخله في الإسلام بعنايته : { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : القابلين للهداية . لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم .
تنبيه :
روى البخاري في " صحيحه " في تفسير هذه الآية عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال : أي : عم ! قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاجّ لك بها عند الله . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعيدانه بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول لا إله إلا الله .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والله ! لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك > . فأنزل الله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] ، وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ 56 ] .
قال ابن كثير : وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن كَيْسان عن أبي حازم ، عن أبي هريرة . والإمام أحمد من حديثه أيضاً ، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبيّ وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الإسلام . انتهى .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " : لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب . انتهى . وقدمنا مراراً معنى قولهم نزلت الآية في كذا . فانظر المقدمة ، وغير موضع بعدها .
ثم ذكر تعالى من تعنتهم ، شبهة استروح بها الحارث بن عامر بن نوفل ، فيما رواه النسائي ، قوله سبحانه : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ } أي : ونخالف العرب : { نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } أي : مكة . فرد عليهم تعالى بقوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً } أي : ألم نعصمهم من عدوّهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمَنٍ ، لحرمة البيت الحرام ، الذي تتناجز العرب حوله وهم آمنون : { يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : جهلة لا يتفكرون . ولو علموا أن ذلك رزق من عند الله ، لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا به وخلعوا أنداده { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي : كفرت بها فلم تحفظ حق الله فيها فدمرت : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } أي : منهم . إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم . وموصوف قليلاً المستثنى ، إما زمان أي : إلا زماناً قليلاً ، إذ لا يسكنها إلا المارّة يوماً أو بعض يوم . وإما مكان أي : إلا مكاناً قليلاً يصح لسكنى البعض ، واندثر الباقي . أو مصدر أي : سكناً قليلاً من شؤم معاصيهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ 59 - 62 ] .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : الناطقة بالحق . ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب . وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } أي : بالكفر بالآيات وتكذيب الرسل سعياً بالفساد ، وإباء عن سبيل الصلاح والرشاد : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } أي : فهو مما يتمتع ويتزين به أياماً قلائل . وهي مدة الحياة المقتضية : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ } أي : متاعاً وزينة في نفسه ، لخلوّه عن شوائب الألم : { وَأَبْقَى } لأنه أبدي لا يزول : { أَفَلا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً } أي : بإيمانه وعمله الصالح : { فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } أي : من الذين أحضروا للحساب أو للنار أو العذاب .
قال الشهاب : وقد غلب لفظ المحضر في القرآن في المعذَّب . وإليه أشار الزمخشريّ ، وصرح به في البحر : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 63 - 68 ] .
{ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : وجب وثبت مقتضاه . وهو لحوق الوعيد بهم . والمراد بهم ، رؤساء الضلال ، وقادة الكفر والفساد : { رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا } أي : أضللناهم . قال أبو السعود : ومرادهم بالإشارة ، بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم . وأنهم غير قادرين على إنكاره وردّه : { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي : أضللناهم بالوسوسة والتسويل ، كما ضللنا باختيارنا ، وإيثار ما يفنى على ما يبقى : { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } أي : من الكفر والشرك والمعاصي . أو منهم ومما اختاروه : { مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } أي : بل كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم : { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ } ليشفعوا لكم : { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } أي : تمنوا ذلك لينقذوا من العذاب العظيم : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } أي : الداعين إلى الهداية وإصلاح الأعمال والأخلاق : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ } أي : فصارت الأنباء كالعُمي عليهم لا تهتدي إليهم . وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة . قال الشهاب : ففيه استعارة تصريحية تبعية . استعير العمى لعدم الاهتداء فهم لا يهتدون للأنباء . ثم قلب للمبالغة . فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم . وضمن معنى الخفاء . فعدّى بعلى . ففيه أنواع من البلاغة . الاستعارة والقلب والتضمين . والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل . أو ما يعمّها وغيرها منكل ما يمكن الجواب به : { فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ } أي : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب ، لفرط الدهشة . أو لعلمه بأنه مثله في العجز عن الجواب . أو لعجزهم عن النطق وكونهم مختوماً على أفواههم . ثم إن هذا العيد لاحقٌ للمصرّ : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ } أي : من الشرك : { وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } أي : أن يفلح عند الله . وعسى من الكرام تحقيق . ويجوز أن يراد ترجي التائب وطمعه . كأنه قال : فليطمع أن يفلح . قاله الزمخشري : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } أي : بمقتضى مشيئته وعنايته ، ما يريد : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } أي : في ذلك . بل الخيرة له في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه .
قال الزمخشري : الخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، تستعمل بمعنى المصدر وهو التخير ، وبمعنى المتخير . كقولهم : محمد خيرة الله من خلقه . والقصد تقرير انفراده بالألوهية وحده . ولذا قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } من الأصنام والأنداد التي لا تخلق شيئاً ولا تختار .
تنبيه :
للإمام ابن القيّم في مقدمة " زاد المعاد " مقالة في هذه الآية الكريمة ، جديرة بأن تؤثر عنه . قال رحمه الله : وبعد . فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات . قال تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } وليس المراد هاهنا بالاختيار ، الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار ، وهو سبحانه كذلك . وليس المراد بالاختيار هنا هذا المعنى . وهذا الاختيار داخل في قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } فإنه لا يخلق إلا باختياره . وداخل في قوله تعالى : { مَا يَشَاءُ } فإن المشيئة هي الاختيار . وإنما المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء . فهو اختيار بعد الخلق . والاختيار العام اختيار قبل الخلق . فهو أعم وأسبق . وهذا أخص وهو متأخر . فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق . وأصح القولين أن الوقف التام على قوله : { وَيَخْتَارُ } ويكون : { ما كان لهم الخيرة } نفياً . أي : ليس هذا الاختيار إليهم ، بل هو إلى الخالق وحده . فكما أنه هو المتفرد بالخلق ، فهو المتفرد بالاختيار منه . فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه . فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحالّ رضاه ، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له . وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه . وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل ، إلى أن ما في قوله تعالى : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } موصولة وهي مفعول يختار أي : ويختار الذي لهم الخيرة . وهذا باطل من وجوه :
أحدها : أن الصلة حينئذ تخلو من العائد . لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم كان ولهم خبره . فيصير المعنى : ويختار الذي كان الخيرة لهم . وهذا التركيب محال من القول . فإن قيل : يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفاً ، ويكون التقدير : ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه . أي : ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره . قيل : هذا يفسد من وجه آخر . وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد . فإنه إنما يحذف مجروراً إذا جر بحرف جر الموصول بمثله ، مع اتحاد المعنى نحوه قوله تعالى : { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } ونظائره . ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت ، ورأيت الذي رغبت ، ونحوه .
الثاني : أنه لو أريد هذا المعنى لنصب الخيرة وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول . فكأنه يقول : ويختار ما كان لهم الخيرة . أي : الذي كان هو عين الخيرة لهم . وهذا لم يقرأ به أحد البتة . مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير .
الثالث : أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن يكون الخيرة لهم . ثم ينفي هذا سبحانه عنهم ، ويبيِّن تفرده بالاختيار ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف : 31 - 32 ] ، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه . وأخبر أن ذلك ليس إليهم . بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم . وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل ، على حسب علمه بمواقع الاختيار ، ومن يصلح له ممن لا يصلح . وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات . وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل . فهو القاسم ذلك وحده لا غيره . وهكذا هذه الآية . بيّن فيها انفراده بالخلق والاختيار . فالله سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، أي : الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة ، دون غيره .
الرابع : أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ولم يكن شركهم مقتضياً لإثبات خالق سواه ، حتى نزه نفسه عنه . فتأمله فإنه في غاية اللطف .
الخامس : إن هذا نظير قوله في الحج : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 73 - 74 ] ، ثم قال : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } [ 75 - 76 ] ، وهذا نظير قوله في القصص : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ 69 ] ، ونظير قوله في الأنعام : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محالّ اختياره ، بما خصصها به بعلمه ، بأنه يصلح له دون غيره فتقدير السياق في هذه الآيات تجده متضمناً لهذا المعنى دائراً عليه . والله أعلم .
السادس : إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } فكما خلقهم وحده سبحانه ، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحاً ، فكانوا صفوته من عباده ، وخيرته من خلقه ، وكان هذا الاختيار راجعاً إلى حكمته وعلمه سبحانه ، لمن هو أهل له . لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم . فسبحان الله وتعالى عما يشركون .
ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " فصل " فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه ، دالاً على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته . وأنه الله الذي لا إله إلا هو ، فلا شريك له يخلق كخلقه ، ويختار كاختياره ، ويدبر كتدبيره . فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص ، المشهور أثره في هذا العالم ، من أعظم آيات ربوبيته ، وأكبر شواهد وحدانيته ، وصفات كماله وصدق رسوله . فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبهاً على ما وراءه ، دالّاً على ما سواه . فخلق الله السموات سبعاً . فاختار العليا منها فجعلها مستقرَّ المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه . وأسكنها من شاء من خلقه . فلها مزية وفضل على سائر السموات . ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك و تعالى . وهذا التفضيل والتخصيص ، مع تساوي مادة السموات ، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته ، وأنه يخلق ما يشاء ويختار . ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان ، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها . وفي بعض الآثار : إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه . ومن هذا اختياره من الملائكة ، المصطفين منهم على سائرهم . كجبريل وميكائيل وإسرافيل . وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم . واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم . واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم . ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم . ثم اختار منهم نبي كنانة بن خزيمة . ثم اختار من ولد كنانة قريشاً . ثم اختار من قريش بني هاشم . ثم اختار من بني هاشم ، سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم . وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين . واختار منهم السابقين الأولين . واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان . واختار لهم من الدين أكمله ، ومن الشرائع أفضلها ، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها . واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم . ومن هذا اختياره سبحانه و تعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها . وهي البلد الحرام . فإنه سبحانه اختاره لنبيّه ، وجعله مناسك لعباده . وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق . فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين ، كاشفي رؤوسهم ، متجردين عن لباس أهل الدنيا . وجعله حرماً آمناً لا يسفك فيه دم ، ولا تعضد به شجرة ، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه ، ولا يلتقط لُقَطته للتملك . بل للتعريف ليس إلا . ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض . فخير الأيام عند الله يوم النحر . وهو يوم الحج الأكبر كما في " السنن " . وأفضل الشهور شهر رمضان . وعشره الأخير أفضل الليالي . وليلة القدر أفضل من ألف شهر . ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع . ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام . انتهى ملخصاً .
وقد أوسع المقال وجوّد الاستدلال . فرحمه الله ورضي عنه وأرضاه . وقوله تعالى : { سُبْحَانَ اللهِ } أي : تنزيهاً لله الذي لا يزاحم اختياره اختيارٌ : { وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ } [ 69 - 71 ] .
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } أي : تخفي : { صُدُورُهُمْ } أي : من الكيد المكر : { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : من الأقوال والأفعال : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ } أي : لأنه المولى للنعم كلها في الدارين : { وَلَهُ الْحُكْمُ } أي : القضاء النافذ في كل شيء . يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته . ويحكم عليه بموجب إرادته : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بالبعث للجزاء : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ } أي : هذا الكلام الحق ، سماع تدبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } [ 72 - 76 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ } أي : هذه المنفعة فتقوموا بشكرها : { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي : في الليل : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : في النهار : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمه الظاهرة والباطنة ، والجسمانية والروحانية ، باستعمالها فيما وجب من طاعته . وذلك فيما خلقت له .
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا } أي : وأخرجنا : { مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } أي : نبيّاً يشهد عليهم بما كانوا عليه . كقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] ، { فَقُلْنَا } أي : لكل أمة من تلك الأمم : { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي : على ما أنتم عليه . أحق هو أم لا ؟ فعجزوا عن آخرهم . وظهر برهان النبيّ ، كما قال تعالى : { فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ } أي : في الألوهية ، لا يشاركه فيها أحد : { وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي : غاب عنهم غيبة الضائع : { ما كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : من الباطل والمذاهب المختلفة ، والطرق المتشعبة المتفرقة .
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } أي : من شاكلتهم في الكفر والطغيان . وقوم موسى ، جماعته الذين أرسل إليهم ، وهم القبط وطاغيتهم فرعون : { فَبَغَى عَلَيْهِمْ } أي : بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا ، لغرور وتعززه برؤية زينة نفسه : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ } أي : من الأموال المدخرة : { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } أي : مفاتيح صناديقه . على حذف مضاف . أو الإضافة لأدنى ملابسة . وقيل خزائنه : { لَتَنُوءُ } أي : تثقيل : { بِالْعُصْبَةِ } أي : الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال : { أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ } أي : بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } أي : هذا الفرح ، لما فيه من إيثارها عن الآخرة ، والرضا بها عنها ، والإخلاد إليها . وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [ 77 - 78 ] .
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ } أي : اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك ، بعد الفاقة : { الدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب . وتجعله زادك إلى الآخرة : { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك : { وَأَحْسِنْ } أي : إلى الناس . أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة : { كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } أي : بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي : بطرق التجارة أو المكاسب : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ } أي : مما سمع بالتواتر : { أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ } أي : الكثيرة ، بحيث صارت سنة له : { مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } أي : بالأموال والأتباع : { وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } أي : لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال ، ليعتذروا عنها . بل متى حق عليها القول بفسقهم ، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر . ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك ، ولا بنصيحة قومه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ 79 - 82 ] .
{ فَخَرَجَ } أي : قارون باغياً : { عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } أي : مُغْتَرّاً بالنظر فيها : { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : جرياً على سنن الجبلة البشرية ، من الرغبة في السعة واليسار : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ } أي : مما تتمنونه : { لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا } أي : هذه الكلمة التي فاه بها الذين أوتوا العلم . أو الجنة . أو السيرة والطريقة ، وهي الإيمان والعمل الصالح : { إِلَّا الصَّابِرُونَ } أي : على الطاعات عن الشهوات ، وعلى زمام النفس أن تجري في أعقاب المزخرفات . وويلك في الأصل دعاء بالهلاك . والمراد به هنا الزجر عن هذا التمني ، مجازاً . وهو منصوب على المصدرية : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ } أي : المشتملة على أمواله : { الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : بدفع العذاب عنه : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : بقوة نفسه وما له : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : من شقيّ وسعيد : { وَيَقْدِرُ } أي : يقبض . فلا دلالة في البسط على السعادة . ولا في القبض على الشقاوة . بل يفعل سبحانه كل واحد من البسط والقَدْر بمحض مشيئته ، لا لكرامة توجب البسط ، ولا لهوان يقتضي القبض : { لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي : بعدم إيتائه متمنانا : { لَخَسَفَ بِنَا } أي : كما خسف به : { وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي : لنعمة الله في صرفها في غير سبيلها . أو المكذبون برسله اغتراراً بزخارفهم .
فائدة :
في ويكأن مذاهب :
الأول : أن وي كلمة برأسها . وهي اسم فعل ، معناها أعجب . أي : أنا . والكاف للتعليل . وأن وما في حيزها مجرورة بها . أي : أعجب لأن الله يبسط الرزق الخ . وقياس هذا القول أن يوقف على وي وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائيّ .
الثاني : أنه مركب من وي للتعجب وكأن للتشبيه . والمعنى : ما أشبه الأمر أن الله يبسط . أي : ما أشبه أمر الدنيا والناس مطلقاً إلى آخرٍ ، أمرَ قارون وما شوهد من قصته . والأمر مأخوذ من الضمير . فإنه للشأن . والمراد من تشبيه الحال بهذه الحال ، أنه لتحققه وشهرته ، يصلح أن يشبه به كل شيء . كما أشار إليه في الكشف .
الثالث : قال بعضهم : كأن هنا للتشبيه . إلا أنه ذهب منها معناه . وصارت للخبر واليقين . وهذا أيضاً يناسبه الوقف على وي .
الرابع : زعم الهمداني في " الفرائد " أن مذهب سيبويه والخليل أن وي للتندم . وكأنّ للتعجب . والمعنى : ندموا متعجبين في أن الله يبسط الخ .
قال الشهاب : وكون كأن للتعجب ، لم يعهد .
الخامس : ذهب الكوفيون إلى أنه مركب من ويك بمعنى ويلك فخفف بحذف اللام . والعامل في أن اعلم ، المقدر . والكاف على هذا ضمير في محل جرّ . وهذا يناسب الوقف على الكاف . وقد فعله أبو عَمْرو .
السادس : أن ويك كلمة برأسها . والكاف حرف خطاب . ويقرب هذا مما قبله . قال أبو البقاء : وهو ضعيف لوجهين : أحدهما أن معنى الخطاب هنا بعيد . والثاني : أن تقدير وي اعلم ، لا نظير له ، وهو غير سائغ في كل موضع . انتهى .
السابع : أن ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة . ومعناها ألم تر . وربما نقل ذلك عن ابن عباس . ونقل الفرّاء والكسائيّ أنها بمعنى : أما ترى إلى صنع الله , وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رحمة لك في لغة حمير . ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين . فعامة القراء اتبعوا الرسم . والكسائيّ وقف على وي وأبو عَمْرو على ويك .
وهذا ما يستفاد من حواشي القاضي والسمين . وعندي أنها مركبة من وي للتعجب وكأن التي للتحقيق وهي أحد معانيها المعروفة . والوقف على وي . ولا يشكل على ذلك كتابتها في المصاحف متصلة ، لأن الكتابة - كما قال ابن كثير - أمر وضعيّ اصطلاحيّ ، والمرجع إلى اللفظ العربي .
وقد اتفق اللغويون على أن وي كلمة تعجب . يقال ويك ووي لزيد , وتدخل على كأن المخففة والمشددة ، ومن شواهد الأولى قول الشاعر :
~سَالَتَانِي الطلاقَ . أَنْ رَأَتَانِي قَلَّ مَالي . قد جئتماني بنُكْرِ
~ويْ كأنْ من يكُنْ لَه نَشَبٌ يُحْ بَبْ ومن يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
وهذا البيت مما يدل على ما استظهرته ، بلهَ الاستعمال إلى هذه الأجيال .
قال ابن كثير : وقد ذكر ههنا إسرائيليات ، أضربنا عنها صفحاً . ونحن تأسينا به ، بل فقناه في الإضراب عن كثير من مرويّه ، الموقوف والضعيف الذي سوّدت به الصحف .
ثم أشار تعالى إلى مقابل حال قارون ، من حال خلص عباده ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 83 - 84 ] .
{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ } أي : غلبة وتسلطاً بسوء وتكبّر : { وَلا فَسَاداً } أي : بظلم وعدوان وصدّ عن سبيل الله تعالى : { وَالْعَاقِبَةُ } أي : النهاية الحميدة : { لِلْمُتَّقِينَ } أي : الذين يتقون ما لا يرضاه تعالى من الأقوال والأفعال .
قال الزمخشري ، قدس الله روحه : لم يعلق الموعد بترك العلوّ والفساد . ولكن بترك إرادتهما ، وميل القلوب إليهما . كما قال : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } [ هود : 113 ] ، فعلق الوعيد بالركون . وعن عليّ رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه . فيدخل تحتها .
وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني هاهنا . وعن عُمَر بن عبد العزيز ، أنه كان يرددها حتى قبض . ومن الطُّمَّاع من يجعل العلوّ لفرعون ، والفساد لقارون ، متعلقاً بقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ } [ 4 ] ، { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } [ 77 ] ، ويقول : من لم يكن مثل فرعون وقارون ، فله تلك الدار الآخرة . ولا يتدبر قوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } كما تدبره عليّ والفضيل وعمر رضي الله عنهم { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } معناه : فلا يجزون إلا . . إلخ . فوضع فيه الموصول والظاهر ، موضع الضمير ، لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم ، والزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين [ في المطبوع : قولب السامين ] . ومعنى قوله : { إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : مثله . وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع ، أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها . ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وسبعمائة . وهو معنى قوله : { فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } كذا في الكشاف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ } [ 85 - 86 ] .
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } أي : أوجب عليك تلاوته على الناس ، وتبليغه إليهم ، وصدعهم به : { لَرَادُّكَ } أي : بعد الموت : { إِلَى مَعَادٍ } أي : مرجع عظيم . وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه . فتنوينه للتعظيم ، ووجهه - كما في " العناية " - أن المعاد صار كالحقيقة في المحشر . لأنه ابتداء العود إلى الحياة ، ورده على ما كان عليه فجعل معاده عظيماً لعظمة مقامه فيه .
وقال ابن كثير : المعاد هو يوم القيامة . يسأله عما استرعاه من أعباء النبوّة . كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] , وقال : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] وعن ابن عباس روايات : إلى يوم القيامة . إلى الموت . إلى الجنة أخرجت عنه من طرق . كما أسنده ابن كثير .
والذي رواه البخاري والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال : لرادك إلى مكة كما أخرجك منها . وعن الضحاك قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة ، اشتاق إلى مكة . فنزلت الآية .
قال ابن كثير : وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وإن كان مجموع السورة مكيّاً ، والله أعلم .
ثم قال : ووجه الجمع بين هذه الأقوال ، أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة ، وهو الفتح ، الذي هو عند ابن عباس على اقتراب أجل النبيّ صلى الله عليه وسلم . كما فسر ابن عباس سورة : إذا جاء نصر الله والفتح , أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه ، وكان ذلك بحضرة عُمَر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك ، وقال : لا أعلم منها غير الذي تعلم . ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله تعالى : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } بالموت . وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت . وتارة بالجنة التي هي جزاؤه على أدائه رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الجن والإنس . ولأنه أكمل خلق الله على الإطلاق . انتهى .
{ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى } يعني نفسه الكريمة . أي : بما يستحقه من المثوبة : { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } يعني المشركين . أي : بما يستحقونه من العذاب . والجملة تقرير للوعيد السابق : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ } أي : ما كنت تظن ، قبل إنزال الوحي إليك ، أن الوحي ينزل عليك : { إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي : ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك : { فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ } أي : معيناً لهم . ولكن نابذهم وخالفهم . وحكى الكرماني في " الغرائب " أن معناه : فلا تكن بين ظهرانيهم ، وأنه أمر بالهجرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 87 - 88 ] .
{ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ } أي : عن تبليغها بعد إنزالها ، والأمر بالصدع بها لضيق صدرك من مكرهم . فإن الله معك ، ومُعْلٍ كلمتك ومؤيد دينك . ولذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } أي : إلى عبادته وحده لا شريك له : { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } .
قال القاضي : هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين من مساعدته لهم . أي : لأنه لا يتصور منه ذلك حتى ينهى عنه . فكأنه لما نهاه عن مظاهرتهم ومداراتهم ، قال إن ذلك مبغوض لي كالشرك . فلا تكن ممن يفعله . أو المراد نهي أمته ، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم . كذا في " العناية " .
{ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } أي : إياه والوجه يعبر به عن الذات كما قال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام } [ الرحمن : 26 - 27 ] ، وفي قوله تعالى : { هَالِكٌ } وجوه : حمله على المستقبل ، أو هو عرضة للهلاك والعدم ، أو هالك في حد ذاته ، لأن وجوده ليس ذاتياً بل لاستناده إلى واجب الوجود ، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالاً . والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي . لأن وجود غيره كلا وجود . إذ هو في كل آن قابل للعدم . وعن مجاهد والثوريّ : إلا وجهه أي : ما أريد به وجهه . حكاه البخاري في " صحيحه " .
قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :
~أستغفرُ الله ذنباً ، لست مُحْصِيَهُ رَبُّ العبادِ ، إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
قال ابن كثير : وهذا القول لا ينافي القول الأول . فإن هذا إخبار عن كل الأعمال ، بأنها باطلة ، إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة . انتهى .
وفيه بُعد وتكلف يذهب رونق النظم ، وماء الفصاحة . لا سيما وآي التنزيل يفسر بعضها بعضاً . والآية الثانية التي ذكرناها بمعنى هذه . وتلك لا تحتمل ذاك المعنى ، فكذا هذه : { لَهُ الْحُكْمُ } أي : القضاء النافذ في الخلق : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم ، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر .

(/)


سورة العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ 1 - 3 ] .
{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ } أي : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم ، وأظهروا القول بالإيمان ، أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين ، بل يمحنهم الله بضروب المحن ، حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم . لتمييز المخلص من غير المخلص . كما قال : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عِمْرَان : 186 ] ، وكقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 142 ] ، وقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، وكل هذه الآيات وأمثالها مما نزل بمكة في تثبيت قلوب المؤمنين ، وتصبيرهم على ما كان ينالهم من أذى المشركين : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من أتباع الأنبياء عليهم السلام ، بضروب من الفتن من أعدائهم ، كما دوّن التاريخ اضطهادهم . أي : فصبروا وما وهنوا لما أصابهم حتى علت كلمة الله : { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي : في قولهم : { آمَنَّا } : { وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } أي : فيه : وذلك بالامتحان .
فإن قيل : يتوهم من صيغة الفعل أن علمه حدث ، مع أنه قديم . إذ علمه بالشيء قبل وجوده وبعده ، لا يتغير . يجاب بأن الحادث هو تعلق علمه بالمعلوم بعد حدوثه .
وقال الناصر : فائدة . ذكر العلم هاهنا ، وإن كان سابقاً على وجود المعلوم هو التنبيه بالسبب على المسبب . وهو الجزاء كأنه قال تعالى : ليعلمنهم فليجازينهم بحسب علمه فيهم .
وقال المهايميّ : { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ } أي : يظهر علمه عند خلقه بصدق إيمان : { الَّذِينَ صَدَقُوا } فيه ، بدلالة ثباتهم عليه عند المصائب : { وَلَيَعْلَمَنَّ } أي : وليظهر علمه بكذب دعوى : { الْكَاذِبِينَ } لئلا يشهدوا عنده بإيمان الكاذبين ، فينسب في تعذيبهم إلى الظلم . وليثق المؤمنون بمحبة الصادقين ، ويستظهروا بها ، ويحذروا عن مكر الكاذبين . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 4 - 7 ] .
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } أي : يفوتونا ، فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : بئس الذي يحكمونه حكمهم : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ } أي : في الجنة من رؤيته ، والفوز بكرامته : { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ } وهو الموت : { لَآتٍ } أي : فليبادر ما يصدق رجاءه ويحقق أمله من الثواب والتواصي بالحق والصبر والرغبة فيما عنده تعالى . أو المعنى : من كان يرجو لقاء الله ، من كل من صدق في إيمانه ، وأخلص في يقينه ، فاعلم أن أجل الله لآت . وهو الوقت الذي جعله الله أجلاً وغاية لظهور النصر والفتح وعلوّ الحق وزهوق الباطل . أي : فلا يستبطئنّه . فإنه آت بوعد الله الحق وقول الصدق . ولم أر من ذكره ولعله أنسب بقرينه السياق والسباق . والله أعلم : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوالهم العليم بضمائرهم وأحوالهم : { وَمَنْ جَاهَدَ } أي : في الصبر على البلاء والثبات على الحق مع ضروب الإيذاء : { فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي : لأنه يمهد لنفسه ، ما يجني به ثمر غرسه : { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : أحسن جزاء أعمالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } [ 8 - 9 ] .
{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } أي : أمرناه أمراً مؤكداً بإيلاء والديه فعلاً ذا حسن عظيم : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } أي : في الشرك ، إذا حملاك عليه . ومعنى : { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا علم لك بإلهيته . قال القاضي : عبر عن نفيها بنفي العلم بها ، للإيذان بأن ما لم يعلم صحته ، لا يجوز اتباعه ، وإن لم يعلم بطلانه . فكيف بما علم بطلانه ؟ : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : إليّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك . فأجازيكم حق جزائكم . فيه التحذير من متابعتهما على الشرك والحث على الثبات والاستقامة في الدين ، بذكر المرجع والوعيد . وقد روي أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم ، قالت أمه : يا سعد ! بلغني أنك قد صبأت . فوالله ! لا يظلني سقف بيت من الضحّ والريح . وإن الطعام والشراب عليّ حرام ، حتى تكفر بمحمد وكان أحب ولدها إليها . فأبى سعد . وبقيت ثلاثة أيام كذلك . فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه . فنزلت هذه الآية ، والتي في لقمان ، والتي في الأحقاف . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان . وروى الترمذي عن سعد قال : قال : نزلت فيّ أربع آيات . فذكر قصته وقال : قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر ؟ والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت ، أو تكفر . فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها . فنزلت هذه الآية . قال ابن كثير : وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضاً .
وقال الترمذي : حسن صحيح : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } أي : في زمرة الراسخين في الصلاح والكمال .
قال الزمخشري : والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين ، وهو متمنى أنبياء الله .
قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } [ 19 ] ، وقال في إبراهيم عليه السلام : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } أو المعنى : في مدخل الصالحين وهي الجنة . وهذا نحو قوله تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 69 ] ، الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [ 10 ]
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } أي : جعل ما يصيبه في الصرف عن الإيمان من ضروب الإيذاء ، بسببه ، مثل عذاب الله في الشدة والهول ، فيرتد عن الدين . مع أن مقتضى إيمانه أن يصبر ويتشجع ويتلقى ما يناله في الله بالرضا ، يرى العذاب فيه عذوبة والمحنة منحة . فإن العاقبة للتقوى وسعادة الدارين لأهلها : { وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } أي : من التلبيس والإخلاص . وهذه الآية كقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } [ 11 ] ، إلى قوله : { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ 12 ] ، وكقوله سبحانه : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 141 ] ، وقال تعالى : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [ المائدة : 52 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ 11 - 13 ] .
{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : بإخلاصهم : { وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } ثم بين تعالى حمل كفار قريش لمن آمن على الكفر بالاستمالة ، بعد بيان حملهم لهم عليهم بالأذية ، بقوله : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } أي : إن كان ذلك خطيئة يؤاخذ عليها بالبعث ، فتبعتها علينا وفي رقابنا .
قال ابن كثير : كما يقول القائل : افعل كذا وخطيئتك في رقبتي . قال الله تعالى تكذيباً لهم : { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } وهي أوزار أنفسهم : { وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ } أي : وأوزاراً أخر مع أوزار أنفسهم . يعني أوزار الإضلال والحمل على الكفر والصدّ عن سبيل الله . كما قال تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] ، و في الصحيح : < من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً > : { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : من الأكاذيب والأباطيل . ثم بين تعالى افتتان الأنبياء بأذية أممهم ، إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار ، تأكيد [ في المطبوع : تأكيداً ] الإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء ، وحثاً لهم على الصبر تأسياً بالأنبياء ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ 14 - 19 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً } أي : هذه الحادثة الهائلة موعظة : { لِلْعَالَمِينَ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي : كذباً ، في تسميتها آلهة وشركاء لله ، وشفعاء إليه : { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : التبليغ الذي يزيل كل لبس وما عليه أن يصدقه قومه : { أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } إرشاد إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه مع وضوح دليله ، وذلك بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً ، ثم وجدوا وصاروا أناساً سامعين مبصرين . فالذي بدأ هذا ، قادر على إعادته . فإنه سهل عليه ، يسير لديه . فقوله تعالى : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } عطف على أو لم يروا لا على يبدئ لعدم وقوع الرؤية عليه . فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق قياساً على الابتداء . وقد جوز العطف على يبدئ بتأويل الإبداء بإبداء ما يشاهده ، كالنبات وأوراق الأشجار وغيرهما . والإعادة بإنشائه تعالى كل سنة ، مثل ما أنشأه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما . فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث وقوعه من غير ريب . فيصحّ حينئذ العطف .
قال الشهاب : لكنه غير ملاق لما وقع في غير هذه الآية .
قال : وبهذا التقرير سقط ما قيل : إن أريد بالرؤية العلم فكلاهما معلوم . وإن أريد الإبصار فهما غير مرئيين . مع أنه يجوز أن يجعل ما أخبر به الله تعالى لتحققه ، كأنه مشاهد : { إِنَّ ذَلِكَ } أي : ما ذكره ، وهو الإعادة : { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 20 - 24 ] .
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } أي : كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتّى . فإن ترتيب النظر على السير في الأرض ، مؤذي يتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها : { ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ } أي : الخلق الآخر : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } أي : بعد النشأة الثانية ، وهم المنكرون لها : { وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ } وهم المؤمنون بها : { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } أي : بالتواري في الأرض ، ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها ، لو استطعتم الرقيّ فيها . أو القلاع الذاهبة فيها . فيكون المراد بالسماء ما ارتفع . وقيل : المعنى : ولا من في السماء , فحذف اسم الموصول وهو مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : ولا من في السماء بمعجزه , والجملة معطوفة على جملة أنتم بمعجزين وفيه تكلف وضعف صناعي : { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } أي : يدافع عنكم ما يراد بكم : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم أشار تعالى إلى ما أجاب به قوم إبراهيم ، بعد دعوته إياهم وعظاته البالغة ، بقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 25 - 29 ] .
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا ، لاجتماعكم على عبادتها : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي تتجاحدون ما كان بينكم ، ويلعن الأتباعُ المتبوعين ، والمتبوعون الأتباعَ . كما قال تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] ، { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } .
تنبيه :
قال السمين : في ما من قوله تعالى : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُم } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف ، وهو المفعول الأول و : { أَوْثَاناً } مفعول ثان . والخبر مودة في قراءة من رفع . والتقدير : إن الذي اتخذتموه أوثاناً مودة ، أي : ذو مودة ، أو جعل نفس المودة مبالغة . ومحذوف على قراءة من نصب مودة أي : الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا ينفعكم ، أو يكون عليكم ، لدلالة قوله : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } .
والثاني : أن تجعل ما كافة ، وأوثاناً مفعول به . والاتخاذ هاهنا متعد لواحد . أو لاثنين ، والثاني هو " من دون الله " فمن رفع مودة كانت خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي مودة أي : ذات مودة . أو جعلت نفس المودة مبالغة . والجملة حينئذ صفة لأوثاناً أو مستأنفة . ومن نصب كان مفعولاً له ، أو بإضمار أعني .
الثالث : أن تجعل ما مصدرية ، وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول . أي : أن سبب اتخاذكم أوثاناً مودة , فيمن رفع مودة ويجوز أن لا يقدر ، بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة . ومن القراء من رفع مودة غير منونة وجرّ بينكم ومنهم من نصب مودة منوّنة ونصب بينكم ومنهم من نصب مودة منونة وجرّ بينكم . فالرفع تقدم . و النصب تقدم أيضاً فيه وجهان . وجوّز ثالث ، وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً عن المبالغة والإضافة ، للاتساع في الظرف .
ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم وخرجت على إضافة مودة للظرف . وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن .
وأشار العلامة القاشاني إلى جواز أن يكون قوله تعالى : { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } خبراً لما إن كانت اسمية . وهو وجه لم يتعرض له المعْرِبُون هنا ، ولا مانع منه . وعبارته :
إنما اتخذتم من دون الله ، شيئاً عبدتموه مودوداً فيما بينكم في الحياة الدنيا أو : إن كل ما اتخذتم من دون الله ، شيئاً مودوداً فيما بينكم في الحياة الدنيا ، أو : إن كل ما اتخذتم أوثاناً مودود في هذه الحياة الدنيا . أو لمودة بينكم في هذه ، على القراءتين .
ثم قال : والمعنى أن المودة قسمان : مودة دنيوية ، ومودة أخروية . والدنيوية منشؤها النفس ، والأخروية منشؤها الروح . فكل ما يحب ويودّ من دون الله ، لا لله ولا بمحبة الله ، فهو محبوب بالمودة النفسية . وهو هوى زائل ، كلما انقطعت الوصلة البدينة زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات ، فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج . فإذا انحلّ التركيب وانحرف المزاج ، تلاشت وبقي التضادّ والتعاند ، بمقتضى الطبائع ، لقوله تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } الآية . ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن .
وأما الأخروية فمنشؤها المحبة الإلهية . وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء ، لتناسب الصفات ، وتجانس الذوات ، لا تتصفى غاية الصفاء إلا عند زوال التركيب . فيصير يوم القيامة محبة صرفة الهيئة ، بخلاف تلك . انتهى .
{ فَآمَنَ لَهُ } أي : صدق إبراهيم فيما دعاه إليه : { لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ } أي : من أرض قومي : { إِلَى رَبِّي } أي : لا إلى غيره بل إلى عبادته وإقامة شعائر دينه والقيام بدعوة الخلق إلى الحق من شرعه وتوحيده : { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ } أي : لإبراهيم : { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : ولداً ونافلة ، بمباركة الذرية : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } أي : بإيتاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملك إليه والثناء إلى آخر الدهر والصلاة عليه : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } أي : الفعلة المتناهية في القبح : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } أي : لتحاشي الطباع عنها . ثم فصّلها بعد الإجمال ، لزيادة تنفير النفوس منها : { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } أي : سبيل النسل بإتيان ما ليس بحرث . أو بعمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } أي : ما لا يليق من الأقوال والأفعال : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [ 30 - 33 ] .
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } أي : الذين يفسدون كل برهان عقلي ونقلي ، وكل حكمة إلهية : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } أي : بالبشارة بالولد والنافلة ، وهم الملائكة . بعثوا لنصر لوط وتبشيره بهلاك قومه : { قَالُوا } أي : لإبراهيم عليه السلام : { إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } أي : قرية سدوم : { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ } أي : بتنزيلهم الرجال منزلة النساء ، وقطع السبل ، وفعل المنكر وترك المعروف : { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين في العذاب أو القرية : { وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا } أي : المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه السلام : { لُوطاً سِيءَ بِهِمْ } أي : اعترته المساءة بسببهم مخافة أن يقصدوهم : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } أي : ضاق بشأن ذرعه ، أي : طاقته : { وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } أي : مما يصيبهم من العذاب : { إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } [ 34 - 38 ] .
{ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ } أي : عذابا عظيما من جهتها : { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يعني قصتها العجيبة ، أو آثارها الخربة : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ } أي : توقعوه ، وما سيقع فيه من فنون الأهوال : { وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي : بالبغي على أهلها ، كنقص المكيال والميزان ، وقطع الطريق على الناس ، فإن عاقبة ذلك الدمار : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } أي : الصيحة التي هي منشأ الزلزلة الشديدة : { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ } أي : بلدهم أو منازلهم : { جَاثِمِينَ } أي : هلكى ميتين : { وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } أي : عقلاء متمكنين من النظر والافتكار بواسطة الرسل عليهم السلام ، فإنهم أوضحوا السبل ، فلم يكن لهم في ذلك عذر ، ولكنهم لم يفعلوا ، عناداً وكبراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 39 - 40 ] .
{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } أي : فائتين الله سبحانه . بل لحقهم عذابه فدمرهم تدميراً . ولذا قال : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } أي : ريحاً عاصفاً ، فيها حصاء ، وهم قوم لوط : { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } كمدين وثمود : { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ } كقارون : { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } كقوم نوح وفرعون وقومه : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : يفعل ما يوجب ذلك ، من البغي والفساد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } [ 41 - 44 ] .
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } أي : تعتمد على قوته وتظنه محيطاً بها ، دافعاً عنها الحرّ والبرد : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ } أي : أضعفها : { لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } أي : لأنه لا يحتمل مسّ أدنى الحيوانات وأضعف الرياح . ولا يدفع شيئاً من الحرّ والبرد . وهذا مثلهم : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : شيئاً ما . أو إن أولياءهم أوهى [ في المطبوع : أوهي ] من ذلك ثم الغرض من التشبيه هو تقرير وهن دينهم ، وإنه بلغ الغاية فيه ، وهو إما تشبيه مركب من الهيئة المنتزعة ، فمدار قطب التمثيل على أن أولياءهم بمنزلة نسج العنكبوت في ضعف الحال وعدم الصلاحية للاعتماد . وعلى هذا فقوله : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ } تذييل يعرّف الغرض من التشبيه . وقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } إيغال في تجهيلهم . لأنهم لا يعلمونه مع وضوحه لدى من له أدنى مسكة . وإما أن يكون من تشبيه المفرد ، لأن المقصود بيان حال العابد والمعبود . وفي الآية لطائف بيانية ذكرت في المطولات . وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } بالياء والتاء في تدعون قراءتان . وما إما استفهامية منصوبة بيدعون ومن الثانية للتبيين . أو نافية ومن مزيدة . وشيء مفعول تدعون أو مصدرية بمعنى الدعوة وشيء مصدر بمعناه أيضاً . أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول يدعون عائده المحذوف . والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل . وعلى الآخرين وعيد لهم . أفاده القاضي : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ } يعني هذا المثل ونظائره في التنزيل : { نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } أي : ليقرب ما بعد من أفهامهم . فإن الأمثال والتشبيهات طرق تبرز فيها المعاني المحتجبة للأفهام : { وَمَا يَعْقِلُهَا } أي : يدرك حسنها وفوائدها : { إِلَّا الْعَالِمُونَ } أي : الراسخون في العلم الكاملون فيه . وعن عَمْرو بن مرة قال : ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها ، إلا أحزنني . لأني سمعت الله تعالى يقول : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } : { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : محقّاً مراعياً للحكم والمصالح ، مقدساً عن أن يقصد به باطلاً . فالباء للملابسة ، والجار والمجرور حال . وهذا كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 45 - 46 ] .
{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : تقرباً إلى الله تعالى بقراءته ، وتحفظاً لألفاظه ، واستكثاراً لما في تضاعيفه من المعاني . فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه . وتذكيراً للناس ، وحملاً لهم على العمل بما فيه ، من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } أي : تكون سبباً للانتهاء عن ذلك . ففيه تجوز في الإسناد . فإن قلت : كم من مصلّ يرتكب ولا تنهاه صلاته ! قلت : الصلاة التي هي الصلاة عند الله ، المستحق بها الثواب ، أن يدخل فيها مقدماً للتوبة النصوح متقياً ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح . ثم يحوطها بعد أن يصليها ، فلا يحبطها ، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من لم تأمره صلاته بالمعروف ، وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً .
عن الحسن رحمه الله : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فليست صلاته بصلاة ، وهي وبال عليه . أفاده الزمخشري . وقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } قال الزمخشري : أي : وَلَلصلاةُ أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، كما قال : { فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الجمعة : 9 ] ، وإنما قال : ولذكر الله ليستقل بالتعليل . كأنه قال : وللصَلَاةٌ أكبر ، لأنها ذكر الله . أو : ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر ، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما ، أكبر . فكان أولى بأن يَنْهَى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولذكر الله إياكم برحمته ، أكبر من ذكركم إياه بطاعته . انتهى . فذكر على الأولين مصدر مضاف للمفعول . وعلى ما بعدهما مضاف للفاعل ، والمفعول محذوف . والمفضل عليه في الأولين غيره من الطاعات . وفي الأخير قوله : من ذكركم .
وقال الرازيّ : لما ذكر تعالى أمرين ، وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة ، بيّن ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم ، فقال : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } وأنتم إذا ذكرتم آبائكم بما فيهم من الصفات الحسنة ، تنبشّون لذلك وتذكرونهم بملء أفواهكم وقلوبكم . لكن ذكر الله أكبر ، فينبغي أن يكون على أبلغ وجه التعظيم . أما الصلاة فكذلك . لأن الله يعلم ما تصنعون . وهذا أحسن صنعكم . فينبغي أن يكون على وجه التعظيم . وفي قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } مع حذف بيان ما هو أكبر منه ، لطيفة . وهي أن الله لم يقل : أكبر من ذكر فلان ، لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة . إذ لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال : هذا الجبل أكبر من هذا الجبل . فأسقط المنسوب كأنه قال : ولذكر الله له الكبر لا لغيره , وهذا كما يقال في الصلاة : الله أكبر أي : له الكبر لا لغيره . انتهى .
ولما بيّن تعالى طريقة إرشاد المشركين ، ونفع من انتفع ، وحصول اليأس ممن امتنع ، بيّن طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : بالخصلة التي هي أحسن . وهي اللين والأناة : { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : بالاعتداء ، بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال ، فلا حرج في مقابلتهم بالعنف ، لتنكبهم عن جادة اللطف . وهذا كما قال تعالى : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] ، وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل : { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : مطيعون له خاصة . وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله .
قال ابن كثير : يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه , فهذا لا يقدم على تكذيبه ، لأنه قد يكون حقاً . ولا على تصديقه ، فلعله أن يكون باطلاً . ولكن يؤمن به إيماناً مجملاً معلقاً على شرط . وهو أن يكون منزلاً ، لا مبدلاً مؤوّلاً . وروى البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم . وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون > . وهذا الحديث تفرد به البخاري .
وروى الإمام أحمد عن أبي نملة الأنصاري مرفوعاً : < إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم . وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله . فإن كان حقّاً لم تكذبوهم , وإن كان باطلاً لم تصدقوهم > . ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان . لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل . وما أقل الصدق فيه . ثم ما أقل فائدة كثير منه ، لو كان صحيحاً .
روى البخاري عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث . تقرؤونه محضاً لم يُشَبْ . وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيّروا ، وكتبوا بأيدهم الكتاب ، وقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً . ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا ، والله ! ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم .
وقال البخاري : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب عن الزهري . أخبرني حميد ابن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة . وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب . وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب . معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد . لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن ، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة . لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة . ومع ذلك . وقرب العهد , وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة ، لا يعلمها إلا الله عز وجل . ومن منحه الله علماً علم بذلك كل بحسبه . ولله الحمد والمنة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [ 47 - 48 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } أي : مثل ذلك الإنزال ، أنزلنا إليك الكتاب . أي : أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية : { فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ } أي : العرب : { مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي : فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لما يكفل سعادة الدارين في شرائعه وقضاياه ، على أميّ لم يعرف بالقراءة والتعلم ، خارق للعادة . وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ، ونفي للتجوز في الإسناد : { إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ ، لقالوا : لعله تعلمه أو كتبه بيده ، من كتبٍ مأثورة عن الأنبياء .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب . وفيها ردّ على من زعم أنه كتب . انتهى .
وقال ابن كثير : وهذه صفته في الكتب المتقدمة . كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده . بل كان له كتَّابٌ يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم . ومن زعم ، من متأخري الفقهاء ، كالقاضي ابن الوليد الباجي ومن تابعه ، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله . فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : ثم أخذ فكتب وهذه محمولة على الرواية الأخرى : ثم أمر فكتب ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي ، وتبرأوا منه وأنشدوا في ذلك أقوالاً وخطبوا به في محافلهم . وإنما أراد الرجل أعني الباجي فيما يظهر عنه . أنه كتب ذلك على وجه المعجزة . لا أنه كان يحسن الكتابة . وما أورده بعضهم من الحديث ؛ أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له . انتهى .
وقال الشهاب : وممن ذهب إلى أنه كان يحسن الكتابة ، أبو ذرّ الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة . وصنف فيه كتاباً ، سبقه إليه ابن منبه . ولما قال أبو الوليد ذلك ، طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب به إلى علماء الأطراف . فأجابوا بما يوافقه . وأن معرفة الكتابة بعد أميّتِهِ لا تنافي المعجزة . بل هي معجزة أخرى . لكونها من غير تعليم . ورد الإمام محمد بن مفوز كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح : < إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب > وقال : كل ما ورد في الحديث من قوله : كتب فمعناه أمر بالكتابة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ 49 - 50 ] .
{ بَلْ هُوَ } أي : القرآن : { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } أي : العلماء به وحفاظه . وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظاً في الصدور ، يتلوه أكثر الأمة ظاهراً . بخلاف سائر الكتب . فإنها لم تكن معجزات ، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف . ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة < صدورهم أناجيلهم > . كذا في الكشاف { وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما كانوا يقترحونه في تعنتهم : { قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : هو يملك إنزالها ، ولو شاء لفعل : { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته ، لا الإتيان بما تقترحونه . ثم أشار إلى أن في آية تنزيل الكتاب ، غنية عن كل آية مقترحة . لما أن الدور انقلب من الآيات الآفاقية ، إلى الآيات العلمية ، وفاقاً لسنة الترقي ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } [ 51 - 56 ] .
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } أي : آية مغنية عما اقترحوه : { أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } أي : وفيه نفسه من الآيات والمعجزات ما لا يرتاب معه إلا من سفه نفسه ، وكابر حسه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة بالغة ظاهرة : { لَرَحْمَةً } أي : لنعمة عظيمة في هدايته إلى الحق و إلى صراط مستقيم : { وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : تذكرة لقوم ، همهم الإيمان دون التعنت : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي : إني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم ، وإنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب . يعني . كفى علمه بذلك . وجوز أن يكون المعنى شهيداً بصدقي بالتأييد والحفظ ، أي : هو شاهد على ما جئت به ، مصدق له تصديق الشاهد لدعوى المدعي .
قال ابن كثير : أي : فلو كنت غير محقّ ، لانتقم مني ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] ، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به . ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات . انتهى { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : فلا يخفى عليه حالي وحالكم : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } أي : استهزاء : { وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً } أي : لكل عذاب أو قوم ، وهو وقته المعين له فيهما : { لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ } أي : عاجلاً : { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة في الدنيا . كوقعة بدر . فقد كانوا لغرورهم لا يتوقعون غلبة المسلمين . أو في الآخرة عند نزول الموت بهم : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : ستحيط بهم . أي : يستعجلونك بالعذاب وهو واقع بهم لا محالة . أو هي كالمحيطة بهم . لأن كل آت قريب .
{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : جزاءه : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } وهذا خطاب لمن لم تمكنه عبادته تعالى وحده في أرضه ، لإِيذائه في الله واضطهاده في جانبه ، أن يهاجر عنها إلى بلد ما ، يقدّر أنه فيه أسلم قلباً ، وأصح ديناً ، وآمن نفساً . وأن يتجنب المقام في بلده على تلك الحالة ، كيلا يفتنه الكافرون . أو يعرض نفسه للتهلكة ، وقد جعل له منها مخرج . وكون أرض الله واسعة ، مذكور للدلالة على المقدر . وهو كالتوطئة لما بعده . لأنها مع سعتها ، وإمكان التفسح فيها ، لا ينبغي بأرض لا يتيسر بها للمرء ما يريده . كما قيل :
~وكل مكان ينبت العز طيب
وقال آخر :
~إذا كان أصلي من ترابٍ فكلُّها بلادي ، وكلُّ العالمين أقاربِي
وقد روى الإمام أحمد عن الزبير : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < البلاد بلاد الله والعباد عَبَّاد الله . فحيثما أصبت خيراً فأقم > . ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير نزل بها ، عند ملكها النجاشيّ رحمه الله . ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة المنورة ، عملاً بالآية الكريمة . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 57 - 61 ] .
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } تحريض على العبادة وإخلاص الدين بتذكير الموت والرجعى . أو تسلية للمهاجر إلى الله ، وتشجيع له ، بأن لا يثبطه عن هجرته خوف الموت بسببها . فلا المقام بأرضه يدفعه ، ولا هجرته عنه تمنعه . وفيه استعارة بديعة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم ، مُرِّه : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين . وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب : { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ثم أشار تعالى إلى كفالته لمن هاجر إليه ، من الفقر والضيعة ، بقوله سبحانه : { وَكَأَيِّنْ } أي : وكم : { مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي : لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله : { اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي : يقيّض لها رزقها على ضعفها ، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم . فهو الميسّر والمسهّل لكل مخلوق من رزقه ما يصلحه . فلا يختص رزقه ببقعة دون أخرى ، بل خيره عامّ وفضله شامل لخلقه ، حيث كانوا وأنَّى وجدوا . وقد ظهر مصداق كفالته تعالى لأولئك المهاجرين ، بما وسع عليهم وبسط لهم من طيب الرزق ورغد العيش وسيادة البلاد في سائر الأمصار . وهذا معنى ما ورد مرفوعاً : < سافروا تصحوا وتغنموا > رواه البيهقيّ : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } يعني هؤلاء المشركين الذين يعبدون معه غيره : { مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } أي : اعترافاً بأنه المنفرد بخلقها : { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : فكيف مع هذا الاعتراف يصرفون عن عبادته وحدَه ، ويشركون به [ في المطبوع : بها ] ما لا يضر ولا ينفع . وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية . وقد كان المشركون يعرفون بذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ 62 - 64 ] .
{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فيفعل بعلمه ، ما تقتضيه حكمته { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على أن جعل الحق بحيث لا يجترئ المبطلون على جحوده . وأنه أظهر حجتك عليهم . والمعنى : احمد الله عن جوابهم المذكور على إلزامهم وظهور نِعَمٍ لا تحصى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون } أي : فلذلك يتناقضون حيث ينسبون النعمة إليهم ، ويعبدون غيره . وقوله : { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } إشارة إلى ازدراء الدنيا وتحقير شأنها ، وكونها في سرعة زوالها ، وتقضّي أمرها ، كما يلهّى ويلعب به الصبيان ، ثم يتفرقون عنه . ولا ثمرة إلا التعب . ففي الحصر تشبيه بليغ : { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أي : دار الحياة الخالدة . ففيه مضاف مقدر . والحيوان مصدر سميّ به ذو الحياة ، في غير هذا المحل . وإيثاره على الحياة لما فيه من البالغة . لأن فعلان بالفتح في المصادر الدالة على الحركة : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : لم يؤثروا عليها الدنيا التي حياتها عارضة . وهذا جواب الشرط المقدر . لعلمه من السياق . وكونُها للتمني بعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } [ 65 - 67 ] .
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : الدعاء . لعلمهم أنه لا ينجيهم من الغرق سواه : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } أي : من نعمة النجاة وربح التجارة : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة ذلك حين يعاقبون : { أَوَلَمْ يَرَوْا } أي أهل مكة : { أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } أي : لا يُغْزى أهله ، ولا يغار عليهم ، مع قلتهم وكثرة العرب : { وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } أي : يختلسون قتلاً ونهباً وسبياً : { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي : أفبعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها من النعم ، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، يكفرون خيره ، ويشركون معه غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ 68 - 69 ] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } بأن زعم أن له شريكاً : { أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ } يعني الرسول أو الكتاب : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ } أي : موضع إقامة ، جزاء افترائهم وكفرهم . بلى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } أي : جاهدوا النفس والشيطان والهوى وأعداء الدين ، من أجلنا ولوجهنا : { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي : سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا . وذلك بالطاعات والمجاهدات : { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } أي : أعمالهم بالنصر والمعونة .

(/)


سورة الروم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . [ 1 - 6 ]
{ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين }
اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام ، وفتح دمشق ، وبيت المقدس ، الأولى سنة 613 ، والثانية سنة 614 ؛ أي : قبل الهجرة النبوية بسبع سنين - فحدث أن بلغ الخبر مكة ، ففرح المشركون ، وشمتوا بالمسلمين ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ، ونحن وفارس وثنيون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ عليكم ، فنزلت الآية ، فتليت على المشركين ، فأحال وقوع ذلك بعضهم ، وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص ، إن وقع مصداقها ، فلم يمضِ من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة 621 ؛ أي : قبل الهجرة بسنة ، فدوّخها ، واضطر ملكها للهرب ، وعاد هرقل بالغنائم الوافرة .
ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن ؛ أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه ، واستبان للجاحدين من نوره إشراقه ، وفي ضمنه أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله ، وزهوق الباطل ، وعلوّ الحق ، وجعل المستضعفين أئمة ، وإيراثهم أرض عدوّهم ، إلى غير ذلك .
وما ألطف ما قال الزبير الكلائيّ : رأيت غلبة فارس الرومَ ، ثم رأيت غلبة الروم فارسَ ، ثم رأيت غلبة المسلمين فارسَ والرومَ ، كل ذلك في خمس عشرة سنة - من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين - والأرض ، كما قال الزمخشري : أرض العرب ؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم . والمعنى : غلبوا في أدنى أرض العرب أي : أقربها منهم ، وهي أطراف الشام : { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْل } أي : من قبل غلبة فارس على الروم : { وَمِن بَعْدُ } أي : من بعد غلبة الروم على فارس . ويقال : لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق ، ومن بعد إفناء الخلق ، والمعنى : أن كلاً من كونهم مغلوبين أولاً ، وغالبين آخراً ، ليس إلا بأمره وقضائه ، وعلمه ومشيئته ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 140 ] .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أي : يوم إذ يغلب الروم على فارس ، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } أي : تغليبه من له كتاب على من لا كتاب له ، وغيظ من شمت بهم من كفار مكة . ويقال : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين : { يَنصُرُ مَن يَشَاء } أي : من عباده على عدوه : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : القاهر الغالب على أمره ، لا يعجزه من شاء نصره : { الرَّحِيمُ } أي : من نصره وتغليبه من يشاء : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : بحكمته تعالى ، في كونه وأفعاله المحكمة ، الجارية على وفق العدل ، لجهلهم وعدم تفكرهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } . [ 7 - 8 ]
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم : { وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ } أي : التي هي المطلب الأعلى : { هُمْ غَافِلُونَ } أي : لا يُخطرونها ببالهم ، فهم جاهلون بها تاركون لعملها .
لطائف :
قال الزمخشري : قوله تعالى : { يَعْلَمُوْنَ } بدل من قوله : { لَاْ يَعْلَمُوْنَ } وفي هذا الإبدال من النكتة ، أنه أبدل منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسدّ مسدّه ، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : { ظَاهِراً } يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجازٌ إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة ، والأعمال الصالحة . انتهى .
وناقش الكرخي في إبدال : { يَعْلَمُوْنَ } قال : إن الصناعة لا تساعد عليه ؛ لأن بدل فعل مثبت من فعل منفيٍّ لايصح . واستظهر قول الحرفيّ ؛ أن : { يَعْلَمُوْنَ } استئناف في المعنى . وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير : { ظَاهِراً } تقليلا لمعلومهم . وتقليلُه يقربه من النفي ، فيطابق المبدل منه .
أقول : التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشري : وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً ، من جملة الظواهر .
أما قول أبي السعود : وتنكير : { ظَاهِراً } للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم . فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه . فافهم .
ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا ، مع الغفلة عن الآخرة بقوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ } أي : يحدثوا التفكر في أنفسهم ، الفارغة من الفكر والتفكر . فالمجرور ظرف للتفكر ، ذكره لزيادة التصوير ؛ إذ الفكر لا يكون إلا في النفس ، والتفكر لا متعلق له ؛ لتنزيله منزلة اللازم . وجوز كون المجرور مفعول : { يَتَفَكَّرُوْا } لأنه يتعدى بـ " في " أي : أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم . فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع ، وقوله تعالى : { مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } متعلق بقولٍ أو علمٍ ، يدل عليه السياق ؛ أي : ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا .
وقال السمين : { مَاْ } نافية ، وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما - أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها . والثاني - أنها معلقة للتفكر . فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض . انتهى . والباء في قوله : { بِالْحَقِّ } للملابسة ؛ أي : ما خلقها باطلاً ولا عبثاً بغير حكمةٍ بالغةٍ ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحق : { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : وبتقدير أجلٍ مسمى ، لا بدّ لها من أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب ، والثواب ، والعقاب . ولذا عطف عليه قوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُو ن *اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } . [ 9 - 12 ]
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ } أي قلبوها للزراعة ، واستخراج المعادن ، وغيرهما ، مما كانوا أرقى فيه من أهل مكة : { وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } أي : بالأبنية المشيدة ، والصناعات الفريدة ، ووفرة العَدد والعُدد ، وتنظيم الجيوش , والتزيّن بزخارف أُعجبوا بها ، واستطالوا بأبهتها ، ففسدت ملكاتهم ، وطغت شهواتهم ، حتى اقتضت حكمته تعالى إنذارهم بأنبيائهم ، كما قال : { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الآيات الواضحات على حقيقة ما يدعونهم إليه : { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : فكذبوهم فأهلكهم ، فما كان الله ليهلكهم من غير جرم منهم : { وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا } أي : عملوا السيئات : { السُّوأَى } أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم ، و : { السُّوأَى } تأنيث الأسوأ ، وهو الأقبح ، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ثم علل سوء عاقبتهم بقوله تعالى : { أَنْ } أي : لأن : { كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُو ن *اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْق } أي : ينشئهم : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد الموت بالبعث : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : إلى موقف الحساب والجزاء : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } أي : يسكتون متحيرين يائسين . يقال أبلس ، إذا سكت وانقطعت حجته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ 13 - 18 ]
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء } أي : يجيرونهم من عذاب الله ، كما كانوا يزعمون : { وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ } أي : بإلهيتهم وشركتهم لله تعالى ، حيث وقفوا على كنه أمرهم : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } أي : يتميز المؤمنون والكافرون في المحال والأحوال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } أي : يسرّون : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي : لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } لما ذكر الوعد والوعيد ، تأثره بما هو وسيلة للفوز والنجاة ، من تنزيهه تعالى عما لا يليق به ، والثناء عليه بصفاته الجميلة ، وأداء حق العبودية ، والفاء للتفريع فكأنه قيل : إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين ، فقولوا : نسبح سبحان الخ . والمعنى فسبحوه تسبيحاً دائماً . وسبحان : خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى وحمده ؛ أي : الثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته ، وتتجدد فيها نعمته .
وقوله تعالى : { وَعَشِيّاً } معطوف على : { حِينَ } وتقديمه على : { حِينَ تُظْهِرُونَ } لمراعاة الفواصل ، وقوله : { وَلَهُ الْحَمْدُ } معترض بينهما . والمراد بثبوت حمده فيهما ، استحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهلها . قال أبو السعود : والإخبار بثبوت الحمد له ، ووجوبه على المميزين من أهل السموات والأرض ، في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده ، وتوسيطه بين أوقات التسبيح ، للاعتناء بشأنه ، والإشعار بأن حقهما أن يجمع بينهما ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] ، وقوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } [ الحجر : 98 ] ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس :
{ تُمْسُوْنَ } : صلاة المغرب والعشاء . و : { تُصْبِحُوْنَ } : صلاة الفجر . و : { عَشِيّاً } صلاة العصر . و : { تُظْهِرُوْنَ } : صلاة الظهر . فإن قيل : لم غيّر الأسلوب في : { عَشِيّاً } ؟ أجيب ، كما قال أبو السعود : بأن تغير الأسلوب لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي ، كالمساء والصباح والظهيرة ، ولعل السرّ في ذلك أنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس ، وتتغير تغيراً ظاهراً مصححاً ؛ لوصفهم بالخروج عما قبلها ، والدخول فيها ، كالأوقات المذكورة . فإن كلاً منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيراً ظاهراً , أما في المساء والصباح فظاهر ، وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة ، كما مر في سورة النور . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . [ 19 - 21 ]
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } أي : كالْإِنْسَاْن من النطفة ، والطائر من البيضة : { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } كالنطفة والبيضة من الحيوان : { وَيُحْيِي الْأَرْض } أي : بالنبات : { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : يبسها : { وَكَذَلِك } أي : ومثل ذلك الإخراج : { تُخْرَجُونَ } أي : من قبوركم .
وقال المهايمي : أي : بالصلاة عن موت القلب إلى حياته ، ومن حياة النفس إلى موتها . ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة ، بعد موتها بالهيئات الرديئة . وبالعكس بتركها . وآثر هذا المعنى ، على بعده ، مراعاة لسياق الآية ، ومن طريق الإشارة : { وَمِنْ آيَاتِهِ } أي : الباهرة الدالة على قدرته على البعث : { أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } أي : يعني أصلكم آدم عليه السلام , أو النطفة والمادة , أو على تقدير مضاف ؛ أي : ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم , وصفاتكم : { ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } أي : في الأرض انتشاراً ملأ البسيطة وشمل الكرة ، فأخذتم في بناء المدائن والحصون ، والسفر في أقطار الأقاليم ، وركوب متن البحار ، والدوران حول كرة الأرض ، وكسب الأموال وجمعها ، مع فكرة ودهاء ، ومكر وعلم ، واتساع في أمور الدنيا والآخرة ، كلٌّ بحسبه .
فسبحان من خلقهم وسيرهم ، وصرفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف ، والحسن والقبح ، والغنى والفقر ، والسعادة والشقاوة .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي : جنسكم : { أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } أي : تأنسوا بها . فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } أي : تواداً وتراحماً بعصمة الزواج ، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } . [ 22 - 25 ]
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ } أي : أُولي العلم كما قال : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] , : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : لاستراحة القوى , ورد ما فقدته : { وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ } أي : بالسعي في الأسباب ، والأخذ في فضل الاكتساب : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : سماع تفهم واستبصار : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً } أي : من الصاعقة : { وَطَمَعاً } أي : في الغيث والرحمة ، أو لتخافوا من قهر سلطانه وتطمعوا في عظيم إحسانه : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ } أي : بالنبات : { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : يبسها : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } أي : إرادته لقيامهما . قال أبو السعود : والتعبير عنها بالأمر ، للدلالة على كمال القدرة ، والغنى عن المبادئ والأسباب ، وليس المراد بإقامتهما إنشائهما ؛ لأنه قد بين حاله بقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الروم : 22 ] ، ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس ، كما قيل ؛ فإن ذلك من تتمات إنشائهما ، وإن لم يصرح به ، تعويلاً على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ لقمان : 10 ] الآية , بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه ، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل : { مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً } [ الروم : 8 ] ، وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة ، متصلة بالبعث في الوجود ، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضاً ، فقيل : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده ، بعد انقضاء أجل قيامهما ، مترتب على تعداد آياته الدالة عليه ، غير منتظم في سلكها كما قيل . كأنه قيل : ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى ، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما ، ثم إذا دعاكم ؛ أي : بعد انقضاء الأجل من الأرض ، وأنتم في قبوركم ، دعوة واحدة ، بأن قال : أيها الموتى ! اخرجوا ، فاجأتم الخروج منها [ ؟ ؟ ] ، وذلك قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } [ طه : 108 ] ، انتهى .
لطائف :
الأولى - الدعاء : إما على حقيقته ، أو الكلام تمثيل ، شبه سرعة ترقب حصول ذلك ، على تعلق إرادته بلا توقف ، واحتياج إلى تجشم عمل ، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه ، أو هو مكنية وتخييلية ، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك ، وإثبات الدعوة لهم قرينتها .
الثانية - قوله تعالى : { مِنَ الأَرْضِ } متعلق بـ : { دَعَا } كقوله : دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي ، لا بـ : { تَخْرُجُوْنَ } ؛ لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله .
الثالثة - قال الكرخي : قال هنا : { إٍذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } وقال في خلق الْإِنْسَاْن : { ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [ الروم : 20 ] ، لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج ، حتى يصير التراب قابلاً للحياة ، فنفخ فيه الروح ، فإذا هو بشر ، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج ، فلم يقل هنا : ثم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 26 - 27 ].
{ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : خلقاً وملكاً وتصرفاً : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } أي : منقادون لتصرفه ، لا يتأبون عليه : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد موتهم . قال أبو السعود : وتكريره لزيادة التقرير ، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي : من البدء ؛ أي : بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين ؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء ، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة .
لطائف :
الأولى - تذكير الضمير ، مع رجوعه إلى الإعادة ، لما أنها مؤولة بـ " أن يعيد " .
الثانية - قال الزمخشري : فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدمت في قوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 و 21 ] ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص ، وهو محزّه . فقيل : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 و 21 ] ، وإن كان مستصعباً عندكم أن يولد بين هم وعاقر ، وأما ههنا ، فلا معنى للاختصاص كيف ؟ والأمر مبني على ما يعقلون ، من أن الإعادة أسهل من الابتداء . فلو قدمت الصلة ، لتغيّر المعنى .
قال الناصر : كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر ، لا بالحبر ، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر .
الثالثة - قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الروم : 25 ] ، حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره ، ثم هونت بعد ذلك ؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة ، لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء . انتهى .
قال الناصر : إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها بـ " ثم " إيذاناً بتغاير مرتبتها وعلوّ شأنها . وقوله - في الجواب - : إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء ، لا يخلص فن الإعادة ذكرت ههنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره ، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة ، فيلزم تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء ، ويعود الإشكال ، والمخلص ، والله أعلم ، جعْل : { ثُمَّ } على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب ، وإن سلم أنها لتراخي المراتب ، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا ، ومرتبة المعطوف هي الدنيا ، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب ، فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع ، أرفع درجة من المعطوف عليه ، والله أعلم . انتهى .
وفي حواشي القاضي : إن : ثم ، إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها ، أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى ، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزماني ، والمراد عظمه في نفسه ، وبالنسبة إلى المعطوف عليه ، فلا ينافي قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وكونه أعظم من قيام السماء والأرض ؛ لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء ، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات ، وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات . فاندفع اعتراض الناصر بأنه ، على تسليمه ، مرتبةُ المعطوف عليه هنا هي العليا ، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة ، أكثريٌّ لا كلي ، كما صرح به الطيبي هنا . فلا امتناع فيما منعه ، وهي فائدة نفيسة ، ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في " شرح الكشاف " .
وقوله تعالى : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما ، كالقدرة العامة والحكمة التامة ، وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل ، عقبه بهذا ، فكأنه قيل هذا ، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة ، فكل شيء بدءاً وإعادةً وإيجاداً وإعداماً ، عنده على حد سواء ، ولا مثل له ولا ند .
وقال الزجاج : المراد بالمثل قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } فاللام فيه للعهد ، فحمل المثل على ظاهره ، وعلى ما ذكر أولاً ، وهو مجاز عن الوصف العجيب ، فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الغالب على أمره ، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته : { الْحَكِيمُ } الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } . [ 28 - 29 ]
{ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً } أي : يتبين به بطلان الشرك : { مِنْ أَنفُسِكُمْ } أي : منتزعاً من أحوالها ، وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا : { هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي : من العبيد والإماء : { مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : من الأموال وغيرها : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } أي : متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية : { تَخَافُونَهُمْ } أي : تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم ، وهو خبر آخر لـ : { أَنْتُمْ } : { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : كما يخاف بعضكم بعضاً من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر , والمعنى نفي مضمون ما فصّل من الجملة الاستفهامية ؛ أي : لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم ، مماليككم ، وهم أمثالكم في البشرية ، غير مخلوقين لكم ، بل لله تعالى ، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية ، التي هي من خصائصه الذاتية ، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه ، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه ؟ أفاده أبو السعود : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي : مثل ذلك التفصيل الواضح ، توضح الآيات : { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : يقين وبرهان : { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } أي : سبب صرف اختياره إلى كسبه ؛ أي : لا يقدر على هدايته أحد : { وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } أي : ينصرونهم من الله ، إذا أراد بهم عذاباً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . [ 30 - 32 ]
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } أي : فقوّمه له ، واجعله مستقيماً متوجهاً له . وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية ، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين ، ورعاية حقوقه ، وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره ، بمن أمر بالنظر إلى أمر ، وعقد طرفه به ، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له ، لمراعاته والاهتمام بحفظه : { حَنِيفاً } أي : مائلاً عن كل ما سواه إليه . قال المهايمي : ولا يعسر الرجوع إليه لكونه : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } أي : لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث ، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبداً . فالقول بتعدده تغيير للفطرة , لكن : { لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال : { ذَلِكَ } أي : الدين المأمور بإقامة الوجه له ، أو الفطرة : { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : المستقيم الذي لا عوج فيه . قال المهايمي : وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد ، فهذا هو مقتضى الفطرة : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : أنه مقتضى الفطرة ، وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب ؛ لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار .
وقوله تعالى : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } أي : راجعين إليه بالتوبة والإنابة : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } [ آل عِمْرَان : 135 ] ، وهو حال من فاعل الزموا ، المقدر ناصباً لـ : { فِطْرَةَ } أو من فاعل : { أَقِمْ } على المعنى ؛ إذ لم يرد به واحد بعينه , أو لأن الخطاب له صلّى الله عليه وسلم ، ولأمته ، أو على أنه على حذف المعطوف عليه ؛ أي : أقم أنت وأمتك ، والحال من الجميع : { وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } أي : جعلوه أدياناً مختلفة ، لاختلاف أهوائهم : { وَكَانُوا شِيَعاً } أي : فرقاً : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي : كل حزب منهم فرح بمذهبه ، مسرور ، يحسب باطله حقاً .
قال القاشاني : يعني المفارقين الدينَ الحقيقي ، المتفرقين شيعاً مختلفة ، كل حزب عند تكدّر الفطرة ، وتكاثف الحجاب ، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب ، لكونه مقتضى طبيعة حجابه ، فيناسب حاله من الاستعداد العارضي ، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد ، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض .
ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد ، ممايحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما ، بقوله سبحانه :==

14. مجلد 14.محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } . [ 33 - 36 ]
{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ } أي : شدة : { دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } أي : راجعين إليه وحده دون شركائهم : { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً } أي : خلاصاً من تلك الشدة : { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } أي : بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله ، وهو الإنابة ، واللام للعاقبة . وقيل : للأمر التهديدي ، كقوله تعالى : { فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : عاقبة تمتعكم ووباله .
{ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } أي : حجة واضحة قاهرة : { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } أي : تكلم دلالة ، كما في قوله تعالى : { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } [ الجاثية : 29 ] ، { بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } أي : بإشراكهم ، وهذا استفهام إنكار ، أي : لم يكن شيء من ذلك : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً } أي : نعمة من صحة وسعة : { فَرِحُوا بِهَا } أي : بطراً وفخراً ، لا حمداً وشكراً : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : شدة : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : من المعاصي والآثام : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } أي : ييأسون من روح الله قال : هذا إنكار على الْإِنْسَاْن من حيث هو ، إلا من عصمه الله تعالى ووفقه ، فإن الْإِنْسَاْن إذا أصابته نعمة بطر ، وقال : { ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 10 ] ، أي : يفرح في نفسه ، يفخر على غيره ، وإذا أصابته شدة قنط ، وأيس أن يحصّل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ هود : 11 ] ، أي : صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء ، كما ثبت في " الصحيح " : < عجبا للمؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيراً له > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . [ 37 ]
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } قال الزمخشري : أنكر عليهم بأنهم قد عملوا أنه هو الباسط القابض ، فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها ، حتى يعيد إليهم رحمته ؟
ولما بين تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم ، أتبعه ذكرَ ما يجب أن يفعل ، وما يجب أن يترك ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } . [ 38 - 39 ]
{ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } أي : من البر والصلة ، واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب ؛ لأن آتِ : أمر للوجوب . والظاهر من : الحق ، بقرينة ما قبله أنه ماليّ ، وهو استدلال متين : { وَالْمِسْكِينَ } وهو الذي لا شيء له ينفق عليه ، أو له شيء لا يقوم بكفايته : { وَابْنَ السَّبِيلِ } أي : السائل فيه ، والذي انقطع به ، وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } أي : النظر إليه يوم القيامة ، وهو الغاية المقصوى ، أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة ، ولا مكافأة يد ، كما قال تعالى : { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } [ الليل : 18 - 20 ] ، { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة
{ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً } أي : مال ترابون فيه : { لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } أي : ليزيد في أموالهم ؛ إذ تأخذون فيه أكثر منه : { فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ } أي : لا يزكو ولا ينمو ولا يبارك فيه ، بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال ، وذكر في تفسيرها معنى آخر ، وهو أن يهب الرجل للرجل ، أو يهدي له ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى . فليست تلك الزيادة بحرام ، وتسميتها ربا مجاز ؛ لأنها سبب الزيادة .
قال ابن كثير : وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه ، إلا أنه نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة ، قاله [ في المطبوع : قال ] الضحاك ، واستدل بقوله تعالى : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] ، أي : لا تعط العطاء ، تريد أكثر منه . وقال ابن عباس : الربا رباءان ، فربا لا يصح ، يعني ربا البيع ، وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل ، يريد فضلها وإضعافها . انتهى .
وأقول : في ذلك كله نظر من وجوه :
الأول - أن هذه الآية شبيهة بآية : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [ البقرة : 276 ] ، وهي في ربا البيع الذي كان فاشياً في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم ، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء ، مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال البشري . فنعى عليهم حالهم ، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه ، ثم أكد ذلك في مثل هذه الآية ؛ مبالغةً في الزجر .
الثاني - أن الربا ، على ما ذكر ، مجاز ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع ، أو العقل ، ولا واحد منهما هنا ؛ إذ لا موجب له .
الثالث - دعوى أن الهبة المذكورة مباحة ، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية بعيدة غاية البعد ؛ لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصاف المحرمات ، ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية ، كما تقرر في موضعه .
الرابع - زعمُ أن المنهي عنه هو الحضرة النبوية خاصة ، لا دليل عليه إلا ظاهر الخطاب ، وليس قاطعاً ؛ لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق ، لا يقال الأصل وجوب حمل اللفظ على حقيقته ، وحملُه على المجاز لا يكون إلا بدليل ، وكذا ما يقال إن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل - لأنا نقول : الأصل في التشريعات العموم ، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص ، وليس منه شيء هنا . وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعاً ، كآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وأمثالها .
الخامس - أن في هذا المنهي عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفّاء ، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم ، ما يبيّن أنه شامل لسائرهم ، لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم . بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه ، والمراد غيره ، كما قالوه في كثير من الآي - لم يبعد ؛ لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق ، في سيرته الزكية ، وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول ، وعليه المعول . والله أعلم : { وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ } أي : مال تتزكون به من رجس الشح , ودنس البخل : { تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي : ذوو الأضعاف من الثواب ، جمع مُضْعِف ، اسم فاعل من أضعف ، إذا صار ذا ضعف - بكسرٍ فسكون - بأن يضاف له ثواب ما أعطاه ، كأقوى وأيسر ، إذا صار ذا قوة ويسار . فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله ، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا ، على أنه من أضعف والهمزة للتعدية ، ومفعوله محذوف ، وهو ما ذكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } . [ 40 ]
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } قال القاضي : أثبت له تعالى لوازم الألوهية ، ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها ، مؤكداً بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ، ووقع عليه الوفاق ، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } . [ 41 - 43 ]
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : كثرة المضار والمعاصي على وجه الأرض , وعلى ظهر السفن في لجج البحر : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } أي : من الآثام والموبقات ، ففشا الفساد ، وانتشرت عدواه وتوارثه جيل عن جيل أينما حلوا وحيثما ساروا : { لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } اللام للعاقبة ، أي : ظهور الشرور بسببهم ، مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم ، إرادة الرجوع . وقيل اللام للعلة ، على معنى أن ظهور الجدب والقحط والغرق بسبب شؤم معاصيهم ، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا ، وقبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، لعلهم يرجعون عما هم عليه ، كقوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] .
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ } أي : فأذاقهم سبحانه سوء العاقبة ، لشركهم المستتبع لكل إثم وعصيان : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ } أي : لا يقدر أحد على رده ، وقوله : { مِنَ اللَّهِ } متعلق بـ : { يَأْتِيْ } أو بـ : { مَرَدَّ } ؛ لأنه مصدر على معنى لا يرده تعالى ، لتعلق إرادته بمجيئه ، وفيه انتقاء رد غيره بطريق برهاني . وقيل عليه ، لو كان كذلك لزم تنوينه لمشابهته للمضاف . وأجيب بأن الشبيه بالمضاف قد يحمل في ترك تنوينه ، كما في الحديث < لا مانع لما أعطيت > : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي : يتفرقون كالفراش المبثوث ، أو فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } . [ 44 - 45 ]
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي : وبال كفره . قال الزمخشري : كلمة جامعة ، لما لا غاية وراءه من المضار ؛ لأن من كان ضارّه كفره ، فقد أحاطت به كل مضرة : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي : يسوّون منزلاً في الجنة ، أي : يوطئونه توطئة الفراش لمن يريد الراحة عليه : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } . [ 46 - 47 ]
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } أي : بالمطر : { وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ } أي : في البحر عند هبوبها : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : بتجارة البحر : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين } هذه تسلية له صلّى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له , والوعيد لمن عصاه .
قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين } تعظيم للمؤمنين ، ورفع من شأنهم ، وتأهيل لكرامة سنية ، وإظهار لفضل سابقة ومزية ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . [ 48 - 50 ] : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء } إما سائراً وواقفاً ، مطبقاً وغير مطبق ، من جانب دون جانب ، إلى غير ذلك : { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } أي : قطعاً تارة أخرى : { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي : المطر : { يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم } أي : المطر : { مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } أي : لآيسين . قال الزمخشري : من قبله ، من باب التكرير والتوكيد ، كقوله تعالى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا } [ الحشر : 17 ] ، ومعنى التوكيد فيه ، الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك . انتهى .
وعكسه ابن عطية رحمه الله فقال : إنه يدل على سرعة تقلب القلوب البشرية ، من الإبلاس إلى الاستبشار .
قال الشهاب : وما ذكره ابن عطية أقرب ؛ لأن المتبادر من القبلية الاتصال ، وتأكيده دال على شدة اتصاله : { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ } أي : أثر الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار : { كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ } أي : العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه : { لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } . [ 51 - 53 ]
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً } على الزرع : { فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } أي : من تاثيرها فيه : { لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } أي : من بعد اصفراره يجحدون ماتقدم إليهم من النعم ، أو يقنطون ولا يصبرون على بلائه ، وفيه من ذمهم ، وعدم تدبرهم ، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم ، وسوء رأيهم - ما لا يخفى .
ثم أشار تعالى إلى أن من أنكر قدرته على إحياء الزرع بعد اصفراره ، وقد رأى قدرته على إحياء الأرض بعد موتها ، فهو ميت لا يمكن إسماعه خبر إحياء الموتى ، بقوله سبحانه : { فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } أي : لما أن هؤلاء مثلهم ، لانسداد مشاعرهم عن الحق : { وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } قال أبو السعود : تقييد الحكم بما ذكر ، لبيان كمال سوء حال الكفرة ، والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء ، نبوّ أسماعهم عن الحق ، وإعراضهم عن الإصغاء إليه ، ولو كان فيهم إحداهما ، لكفاهم ذلك ، فكيف وقد جمعوهما ؟ : { وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ } أي : ما تسمع : { إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } أي : منقادون لما تأمرهم به من الحق .
تنبيه :
قال ابن كثير : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية : { فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، على توهيم عبد الله بن عُمَر في رواية مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر ، بعد ثلاثة أيام ، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال له عمر : يا رسول الله ! ما تخاطب من قوم قد جيّفوا ؟ فقال : < والذي نفسي بيده ! ما أنتم بأسمع لما أقول ، منهم ، ولكن لا يجيبون > . وتأولته عائشة على أنه قال : إنهم الآن يعلمون أن ما كنتُ أقول لهم حق .
وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته ، تقريعاً وتوبيخاً ونقمةً .
ثم قال ابن كثير : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عُمَر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاً : < ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام > . انتهى .
وقال ابن الهمام : أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالاً بهذه الآية ونحوها ، ولذا لم يقولوا : بتلقين القبر ، وقالوا : لو حلف لا يكلم فلاناً ، فكلمه ميتاً لا يحنث . وأورد عليهم قوله صلّى الله عليه وسلم في أهل القليب < ما أنتم بأسمع منهم > وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرته , وأخرى بأنه من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم معجزة له ، أو أنه تمثيل ، كما روي عن علي كرم الله وجهه , وأورد عليه ما في مسلم من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا . إلا أن يخص بأول الوضع في القبر ، مقدمة للسؤال ، جمعاً بينه وبين ما في القرآن . نقله الشهاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } . [ 54 - 55 ] : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ } قرئ بفتح الضاد وضمها ؛ أي : من أصل ضعيف هو النطفة : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ } يعني حال الطفولة والنشء : { قُوَّةً } يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشد : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } أي : بالشيخوخة والهرم : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي : من الأشياء ، ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الْإِنْسَاْن : { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } أي : الواسع العلم والقدرة ، كيف ؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة ، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته ، المستتبع انفراده بالألوهية : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } أي : في الدنيا أو القبور ، وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له ، أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون : { كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } أي : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا ، وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق . كذا في " الكشاف " .
وقال ابن كثير : يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان ، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً ، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا ، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم . انتهى .
وقال الشهاب : المراد من قوله : { كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } ، تشابه حاليهم في الكذب ، وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم ؛ لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل ، والغرض من سوق الآية ، وصف المجرمين بالتمادي في الباطل ، والكذب الذي أَلِفُوه . انتهى .
وقيل : كان قسمهم استقلالاً لأجل الدنيا ، لما عاينوا الآخرة ، تأسفاً على ما أضاعوا في الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } . [ 56 - 57 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ } ردا لما حلفوا عليه ، وإطلاعاً لهم على الحقيقة : { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته : { إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } أي أنه حق ، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه : { فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : بالشرك ، أو إنكار الربوبية ، أو الرسالة ، أو شيء لا يجب الإيمان به : { مَعْذِرَتُهُمْ } أي : بأنهم كفروا عن جهل ؛ لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته ، أو عن عناد : { وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : ولا يطلب منهم الإعتاب ؛ أي : إزالة العتب بالتوبة والطاعة ؛ لأنهما - وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي - فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا ، لا غير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } . [ 58 - 60 ]
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي : من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس ، أو من كل دليل على الأمور الأخروية , والحق يجري مجرى المثل في الظهور : { وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ } أي : مما اقترحوه أو غيرها : { لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ } أي : لا يؤمنون بها ، ويعتقدون أنها سحر وباطل : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي : لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق , بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها ؛ فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ، ويوجب تكذيب المحق . قاله أبو السعود .
{ فَاصْبِرْ } أي : على ما تشاهد منهم ، من الأقوال الباطلة , والأفعال السيئة : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : في قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، { وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ } أي : لا يحملنك على الخفة والقلق : { الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } أي : بما تتلو عليهم من الآيات البينة ، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها ؛ فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم , وجعله العاقبة لك ، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين .

(/)


سورة لقمان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِين َ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } . [ 1 - 6 ]
{ الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } أي : ذي الحكمة الناطق بها : { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } بيان لإحسانهم ، يعني ما عملوه من الحسنات , أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه ، لإظهار فضلها وإناقتها على غيرها . والمراد بالزكاة ، على أنها مكية هي مطلق إخراج المال تقرباً بالتصديق منه ، وتزكية للنفس بإيتائه ، من وصمة البخل والشح المردي لها , لا أنصباؤها المعروفة ؛ فإنها إنما بيّنت بالمدينة
{ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } تعريض بالمشركين , وأنهم يستبدلون بهذا الكتاب المفيد الهدى والرحمة والحكمة ، ما يلهي من الحديث عن ذلك الكتاب العظيم , ليضلوا أتباعهم عن الدين الحق .
قال الزمخشري : واللهو : كل باطل ألهى عن الخير ، وعما يعني . ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير ، والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام , وما لا ينبغي ، مما كانوا يؤفكون به عن استماع حكم التنزيل وأحكامه , ويؤثرونه على حديث الحق . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : بما هي الكمالات ومنافعها ، والنقائص ومضارها : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } الضمير للسبيل ، وهو مما يذكر ويؤنث : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } . [ 7 - 10 ]
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى } أي : أعرض عنها : { مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } أي : ثقلاً مانعاً من السماع : { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } الضمير للسماوات ، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } كما تقول لصاحبك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني . والجملة لا محل لها ؛ لأنها مستأنفة ، أو في محل الجر ، صفة للعمد , أو بغير عمد مرئية ؛ يعني أنه عمدها بعمد لا ترى , وهي إمساكها بقدرته . كذا في " الكشاف " : { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي : تميل فتهلككم لما في جوفها من قوة الجيشان : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ } أي : من كل نوع من أنواعها : { وَأَنزَلْنَا } أي : لحفظكم وحفظ دوابكم ، وللرفق بكم وبدوابكم : { مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف من الأغذية والأدوية : { كَرِيمٍ } أي : كثير المنافع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } . [ 11 - 12 ]
{ هَذَا } أي : ما ذكر من السماوات والأرض ، وما تعلق بهما من الأمور المعدودة : { خَلْقُ اللَّهِ } أي : مخلوقه : { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } أي : مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة : { بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } إضراب عن تبكيتهم بما ذكر ، إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة ؛ لاستحالة أن يفهموا منها شيئاً ، فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه ، أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه . ووضعُ الظاهر موضعَ ضميرهم ؛ للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه , ومتعدون عن الحدود ، وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد . أفاده أبو السعود .
ثم أشار تعالى إلى أن بطلان الشرك مقول على لسان ذوي الحكمة . كيف لا ؟ والتوحيد أساس الحكمة ، بقوله سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } يعني استكمال النفس بالعلوم النظرية ، وملكة الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية ، آمرين له على لسان نبي أو بطريق الإلهام ؛ على قول الجمهور أنه حكيم . أو الوحي ؛ على قول عِكْرِمَة أنه نبي { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ } أي : على ما أعطاك من نعمه ، من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً . كذا قاله المهايمي , والأظهر أنّ : { أَنْ } مفسرة ؛ فإن إيتان الحكمة في معنى القول . والشكر : كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لعود ثمرات شكره عليه : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن كل شيءٍ ، فلا يحتاج إلى الشكر , وحقيق بالحمد . بل نطق بحمده كل موجود .
تنبيه :
قال ابن كثير : اختلف السلف في لقمان ؛ هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة ، على قولين ؟ : الأكثرون على الثاني , ويقال إنه كان قاضياً على بني إسرائيل ، في زمن داود عليه السلام , وما روي من كونه عبداً مسّه الرق ، ينافي [ في المطبوع : وينافي ] كونه نبياً ؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها , ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبياً ، وإنما يُنقل كونه نبياً عن عِكْرِمَة ، إن صح السند إليه ؛ فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عِكْرِمَة . قال : كان لقمان نبياً . وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي , وهو ضعيف . والله أعلم . انتهى .
وزعم بعضهم أن لقمان هو بلعام المذكور في التوراة ، وكان حكيم شعب وثنيّ ، وكان منبأ عن الله تعالى , وأغرب في تقريبه ، بأن الفعل العربي وهو : لقم , معناه بالعبري بلع . والله أعلم .
وقد نظم السيوطي من اختلف في نبوته ، فقال :
~وَاخْتُلِفَتْ فِيْ خَضِرٍ أَهْلُ النُّقُوْلْ قِيْلَ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ أَوْ رَسُوْلْ
~لُقْمَاْنَ ، ذِيْ القَرْنَيْنِ ، حَوَّا ، مَرْيَمِ وَالْوَقْفُ فِيْ الجَمِيْعِ رَأْيُ الْمُعْظَمِ ثم قرن لقمان ، بوصيته إياه بعبادة الله وحده ، البرَّ بالوالدين ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، وكثيراًَ ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن الكريم . وقال ههنا :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } . [ 13 - 14 ]
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ } أي : بالإحسان إليهما ، لاسيما الوالدة ؛ لأنه : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } أي : ضعفا فوق ضعف إلى الولادة . و : { وَهْناً } . حال من : { أُمُّهُ } أي : ذات وهن ، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال ؛ أي : تهن وهناً . وقوله تعالى : { عَلَى وَهْنٍ } صفة للمصدر ؛ أي : كائناً على وهن ، أي : تضعف ضعفاً فوق ضعف ؛ فإنها لا تزال يتزايد ضعفها ؛ لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلاً وضعفاً : { وَفِصَالُهُ } أي : فطامه : { فِي عَامَيْنِ } ثم فسر الوصية بقوله سبحانه : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } أي : بأن تعرف نعمة الإحسان ، وتقدره قدره .
قال في " البصائر " : الشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور ، وحبه له ، واعترافه بنعمته ، والثناء عليه بها ، وأن لا يستعملها فيما يكره . هذه الخمسة هي أساس الشكر ، وبناؤه عليها ، فإن عدم منها واحدة ، اختلّت قاعدة من قواعد الشكر ، وكل من تكلم في الشكر ، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور . انتهى .
وقوله تعالى : { إِلَيَّ الْمَصِيرُ } تعليل لوجوب الامتثال ؛ أي : إليّ الرجوع ، لا إلى غيري ، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر .
تنبيهات
الأول - قال الزمخشري : فإن قلت : قوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كيف اعتراض به بين المفسر والمفسر ؟ قلت : لما وصى بالوالدين ، ذكر ما تكابده الأم ، وتعانيه من المشاق ، والمتاعب في حمله ، وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً ، وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً . ومن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمن قال له من أبرّ ؟ : < أمك ثم أمك ثم أمك > . ثم قال بعد ذلك : < ثم أباك > . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره ، وهو يقول في حدائه بنفسه .
~أَحْمِلُ أُمِّيَ وَهِيَ الْحَمَّاْلَهْ تُرْضِعُنِي الدِّرَّةَ وَالْعَلَاْلَهْ
وَلَاْ يُجَازَى وَاْلِدٌ فِعَاْلَهْ
الثاني - قال الحافظ ابن كثير : وقوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كقوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لأنه قال في الآية الأخرى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة ، وتعبها ، ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً ، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه , كما قال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] .
الثالث - قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين ؟ قلت : المعنى في توقيته بهذه المدة ، أنها الغاية التي لا تتجاوز , والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم ، إن علمت أنه يقوى على الفطام ، فلها أن تفطمه , ويدل عليه قوله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 15 ] .
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } أي : في إشراك ما لا تعلمه مستحقاً للعبادة ، تقليداً لهما . وقال الزمخشري : أراد بنفي العلم به نفيه ، أي : لا تشرك بي ما ليس بشيء ، يريد الأصنام . كقوله : { مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } [ العنكبوت : 42 ] .
قال في " الكشف " [ كذا ] : ليس هذا من قبيل نفي العلم لنفي وجوده ، كما مر في القصص . وإلا لقال ما ليس بموجود . بل أراد أنه بُولِغ في نفيه حتى جعل كلا شيء [ في المطبوع : كلاً شيء ] ، ثم بُولغ في سلك المجهول المطلق .
قال الشهاب : وهذا تقرير حسن ، فيه مبالغة عظيمة : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } أي : صحاباً معروفاً يرتضيه الشرع ، ويقتضيه الكرم .
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية أن الوالد لا يطاع في الكفر ، ومع ذلك يصحب معروفاً : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } أي : بالتوحيد والإخلاص في الطاعات ، وعمل الصالحات : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } كناية عن الجزاء ، كما تقدم نظائره .
قال القاضي : والآيتان ، يعني : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن } إلى قوله - : { تَعْمَلُونَ } معترضتان في تضاعيف وصية لقمان ، تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك . كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك ؛ فإنهما - مع أنهما تلو البارئ تعالى في استحقاق التعظيم والطاعة - لا يجوز أن يطاعا في الإشراك . فما ظنك بغيرهما ؟ انتهى .
ثم يبين تعالى بقية وصايا لقمان ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . [ 16 - 17 ]
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } أي : إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان ، إن تك مثلاً في الصغر كحبة الخردل : { فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ } أي : فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر ، في أخفى مكان وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت في العلم العلوي أو السفلي : { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } أي : يحضرها ويحاسب عليها : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } أي : ينفذ علمه وقدرته في كل شيء : { خَبِيرٌ } أي : يعلم كنه الأشياء ، فلا يعسر عليه . والآية هذه كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] الآية ، وقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 و 8 ] .
لطيفة :
قوله تعالى : { فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ } الآية ، من البديع الذي يسمى التتميم ؛ فإنه تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة , وهو من وادي قولها :
~كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَاْرُ
{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ } أي : بحدودها وفروضها وأوقاتها ، لتكميل نفسك بعبادة ربك : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ } لتكميل غيرك : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } أي : من المحن والبلايا , أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر ؛ لأن الداعي إلى الحق معرّض لإيصال الأذى إليه ، وهو أظهر . ويطابقه آية : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 3 ] ، { إِنَّ ذَلِكَ } إشارة إلى الصبر ، أو إلى كل ما أمر به : { مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أي : مما عزمه الله من الأمور ، أي : قطعه قطع إيجاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير } . [ 18 - 19 ]
{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي : لا تعرض بوجهك عنهم ، إذا كلمتهم أو كلموك ، احتقاراً منك لهم ، واستكباراً عليهم , ولكن ألن جانبك ، وابسط وجهك إليهم ، كما جاء في الحديث < ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط > : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً } أي : خيلاء متكبراً : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } أي : معجب في نفسه : { فَخُورٍ } أي : على غيره : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : توسط بين الدبيب والإسراع : { وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أي : انقص من رفعه ، وأقصر ، فإنه يقبح بالرفع حتى ينكره الناس ، إنكارهم على صوت الحمير ، كما قال : { إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } معللاً للأمر على أبلغ وجه وآكده وأنكر بمعنى أوحش . من قولك : شيء نكر ؛ إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت ، كما يقال في العرف للقبيح . وحش ، وأصله ضد الأنس والألفة . فهو إما مجاز أو كناية .
قال الزمخشري : الحمار مثلٌ في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه . ومن استفحاشهم لذكره مجرداً ، وتفاديهم من اسمه ، أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به ؛ فيقولون : الطويل الأذنين . كما يكنى عن الأشياء المستقذرة ، وقد عُد في مساوي الآداب ، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة ، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً ، وإن بلغت منه الرحلة . فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه ، وإخراجه مخرج الاستعارة ، وأن جعلوا حميراً ، وصوتهم نهاقاً - مبالغة شديدة في الذم والتهجين ، وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ، وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان . انتهى .
تنبيه :
جاء ذكر لقمان في أحاديث مرفوعة : منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول اله صلّى الله عليه وسلم قال : < إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئاً حفظه > . وروى ابن أبي حاتم عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه : يا بني إياك والتقنع ، فإنه مخوفة بالليل ، مذمة بالنهار > .
ومن الآثار فيه ما رواه ابن أبي حاتم عن السري بن يحيى قال : قال لقمان لابنه : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك .
وعن عَوْن بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني ! إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم ، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا ، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم ، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم . نقله ابن كثير رحمه الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } . [ 20 - 21 ]
{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } أي : من النجوم والشمس والقمر ، التي ينتفعون من ضيائها , وما تؤثره في الحيوان ، والنبات ، والجماد بقدرته تعالى , وكذا من الأمطار والسحب والكوائن العلوية التي خلقها تعالى لنفع من سُخرت له , وكذا ما أوجد في الأرض من قرار وأشجار وأنهار وزروع وثمار ، ليستعملها من سُخرت له فيما فيه حياته ، وراحته ، وسعادته : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } أي : محسوسة ومعقولة , كإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة الشبه والعلل : { وَمِنَ النَّاسِ } يعني الجاحدين نعمته تعالى : { مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ } أي : في توحيده وإرساله الرسل : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : برهان قاطع مستفاد من عقل : { وَلَا هُدًى } أي : دليل مأثور عن نبي : { وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي : منزل من لدنه تعالى ، بل لمجرد التقليد . والمنير : بمعنى المنقذ من ظلمة الجهل والضلال
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } أي : لمن يجادل , والجمع باعتبار المعنى : { اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } أي : يدعو آباءهم إلى اعتقادات وأعمال ، هي أسباب العذاب ، كأنه يدعوهم إلى عين العذاب . فهم متوجهون إليه حسب دعوته ، ومن كان كذلك فأنى يتبع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* م َّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 22 - 29 ] . : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : في أعماله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب ، وهو تمثيلٌ لحال المؤمن المخلص المحسن ، بحال من أراد رقيّ شاهق ، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه : { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا } أي : من الأعمال الظاهرة والباطنة : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضاً : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أي : شيئا ما ؛ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : فلا يستحق العبادة فيهما غيره : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ } أي : عن العالمين ، وهم فقراء إليه جميعا : { الْحَمِيدُ } أي : المحمود فيما خلق وشرع ، بلسان الحال والمقال : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نفاده : { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } أي : التي أوجد بها الكائنات ، وسيوجد بها ما لا غاية لحصره ومنتهاه ، والسبعة إنما ذكرت على سبيل المبالغة لا الحصر : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : إلا كخلقها وبعثها في سهولته : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : أمد قدره الله تعالى لجريهما ، وهو يوم القيامة : { وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : لأن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق ، والتدبير الفائق ، لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطاً بما يأتي ويذر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } . [ 30 - 32 ] . : { ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم ، وشمول القدرة ، وعجائب الصنع ، واختصاص البارئ بها : { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي : بسبب أنه الحق ، وجوده وإلهيته : { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ } أي : بإحسانه في تهيئة أسبابه : { لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } أي : عظيم الصبر على البأساء والضراء : { شَكُورٍ } أي : كثير الشكر للنعم ، بالقيام بحقها : { وَإِذَا غَشِيَهُم } أي : علاهم وأحاط بهم : { مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ } أي : كالسحب والحجب : { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : التجأوا إليه تعالى وحده ، لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد ، بما دهاهم من الضر : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } قال ابن كثير : قال مجاهد : أي : كافر ، كأنه فسر المقتصد ههنا بالجاحد كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] ، وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل ، وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } [ فاطر : 32 ] الآية ، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل . ويحتمل أن يكون مراداً هنا أيضاً ، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام ، والآيات الباهرات في البحر ، ثم من بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص ، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام ، والدؤوب في العبادة ، والمبادرة إلى الخيرات ، فمن اقتصد بعد ذلك ، كان مقصراً والحالة هذه ، والله أعلم . انتهى
{ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ } أي : غدار ، ناقض للعهد الفطريّ ، ولعقد العزيمة وقت الهول البحري : { كَفُورٍ } أي : مبالغ في كفران نعمه تعالى ، لا يقضي حقوقها ، ولا يستعملها في محابّه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } . [ 33 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } أي : ليس بمغنٍ أحدهما عن الآخر شيئاً ، لانقطاع الوصل في ذلك اليوم الرهيب . قال أبو السعود : وتغيير النظم - في الثانية - للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى ، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي بالثواب والعقاب ، لا يمكن إخلافه : { فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } . [ 34 ]
{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : علم وقت قيامها : { وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } أي : في وقته الذي قدره ، وإلى محله الذي عينه في علمه : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } أي : من ذكرٍ أو أنثى ، سعيد أو شقي : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } أي : من خير أو شر : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } أي : في بلدها أو غيره ؛ لاستئثار الله تعالى بعلم ذلك ، وقد جاء الخبر بتسمية [ في المطبوع : تسمية ] هذه الخمس : مفاتح الغيب : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي : بما كان ويكون ، وبظواهر الأشياء وبواطنها ، لا إله إلا هو .

(/)


سورة السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } . [ 1 - 3 ]
{ الم } تقدم أن هذه الفواتح أسماء للسور : { تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ } أي : في كونه منزلاً : { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : اختلقه من تلقاء نفسه : { بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي : يتبعون الحق .
وذلك أن قريشا لم يبعث إليهم رسول قبله صلى الله عليه وسلم ، فلطف تعالى بهم وبعث فيهم رسولاً منهم صلّى الله عليه وسلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } . [ 4 - 5 ]
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم الكلام في ذلك : { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } أي : ما لكم عنده ناصر ولا شفيع من الخلق : { أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون بالقرآن فتؤمنوا : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ } أي : يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية ، من الملائكة وغيرها ، نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي : يصعد إليه ، أي : مع الملك للعرض عليه : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } أي : مقدار صعوده على غير الملك ، ألف سنة من سنين الدنيا .
قال ابن كثير : أي : يتنزل من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرضين ، كما الله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] الآية . وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيم ُ *الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَاْن مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } . [ 6 - 9 ]
{ ذَلِكَ } أي : المدبر : { عَالِمُ الْغَيْبِ } أي : ما غاب عن العباد , وما يكون : { وَالشَّهَادَةِ } أي : ما علمه العباد , وما كان : { الْعَزِيزُ } أي : الغالب على أمره : { الرَّحِيمُ } أي : بالعباد في تدبره : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أي : أحكم خلق كل شيء ؛ لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة : { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَاْن } يعني آدم : { مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } أي : ذريته : { مِن سُلَالَةٍ } أي : من نطفة : { مِّن مَّاء مَّهِينٍ } أي : ضعيف ممتهن , والسلالة الخلاصة ، وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية : { ثُمَّ سَوَّاهُ } أي : قوّمه في بطن أمه : { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } أي : جعل الروح فيه ، وأضافه إلى نفسه تشريفاً له : { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } أي : خلق لكم هذه المشاعر ، لتدركوا بها الحق والهدى : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي : بأن تصرفوها إلى ما خلقت له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } . [ 10 - 12 ]
{ وَقَالُوا } أي : كفار مكة : { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ } أي : صرنا تراباً مخلوطاً بتراب الأرض لا نتميز منه ، أو غبنا فيها : { أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : نجدد بعد الموت : { بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ } أي : بالبعث بعد الموت للجزاء والحساب : { كَافِرُونَ } أي : جاحدون .
قال أبو السعود : إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث ، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه ، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة ، وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعاً : { قُلْ } أي : بياناً للحق ، وردّاً على زعمهم الباطل : { يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } أي : يقبض أرواحكم : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي : بالبعث للحساب والجزاء .
فائدة :
قال ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " في هذه الآية : مذهب جمهور أصحابنا أن الروح جسم لطيف بخاريّ يتكوّن من ألطف أجزاء الأغذية ، ينفذ في العروق ، حالّةً فيها ، وكذلك للقلب ، وكذلك للكبد .
وعندهم أن لملك الموت أعواناً تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه ، لولا ذلك لتعذر عليه ، وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب ؛ لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين ، في وقت واحد .
قال أصحابنا : ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل .
قالوا : وكيفية القبض ، ولوج الملَك من الفم إلى القلب ؛ لأنه جسم لطيف هوائي ، لا يتعذر عليه النفوذ في المُخَارِق الضيقة ، فيخالط الروح ، التي هي كالشبيهة بها ؛ لأنها بخاريّ ، ثم يخرج من حيث دخل ، وهي معه .
وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه ، وهو حضور الأجل .
فألزموا على ذلك أن يغوص الملَك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء ، فالتزموا ذلك ، وقالوا : ليس بمستحيل أن يتخلل الملَك الماء في مسامّ الماء ، فإن فيه مسامّ ومنافذ ، وفي كل جسم ، على قاعدتهم في إثبات المسامّ في الأجسام .
قالوا : ولو فرضنا أنه لا مسامّ فيه ، لم يبعد أن يلجه الملَك فيوسع لنفسه مكاناً ، كما يلجه الحجر والسمك ، وغيرهما . وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره ، وقوة الملك أشد من قوة الريح . انتهى .
والأولى الوقوف ، فيما لم تعلم كيفيته ، عند متلوّه وعدم مجاوزته ، أدباً عن التهجم على الغيب وتورعاً عن محاولة مالا يُبلغ كنهه ، وأسوة بما مضى عليه من لم يخض فيه ، وهم الخيرة والأسوة ، والله أعلم .
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ } وهم القائلون تلك المقالة الشنعاء : { نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي : مطأطئوها من الحياء والخزي ، لما قدمت أيديهم : { رَبَّنَا } أي : يقولون ربنا : { أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي : علمنا ما لم نعلم ، وأيقنا بما لم نكن به موقنين : { فَارْجِعْنَا } أي : إلى الدنيا : { نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } أي : مقرّون بك ، وبكتابك ، ورسولك ، والجزاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . [ 13 - 14 ]
{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } أي : تقواها : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } أي : في القضاء السابق : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي : سبق القول حيث قلت لإبليس ، عند قوله : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39 - 40 ] ، { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 84 - 85 ] ، أي : فمبوجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم ، بل منعناه من أتباع إبليس ، الذين هؤلاء من جملتهم حيث صرفوا اختيارهم إلى الغي والفساد ، ومشيئته تعالى لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها ، فلما لم يختاروا الهدى ، واختاروا الضلالة ، لم يشأ إعطاءه لهم ، وإنما آتاه الذين اختاروه من النفوس البرّة ، وهم المعنيون بما سيأتي من قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا } [ السجدة : 15 ] الآية . فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم ، لا تحقق القول . أفاده أبو السعود .
{ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : تركتم الإقرار به ، والإيمان بصدق موعوده ، وعاملتموه معاملة المنسي المهجور : { إِنَّا نَسِينَاكُمْ } أي : جازيناكم جزاء نسيانكم ، أو تركناكم في العذاب ترك المنسي : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : من الموبقات ، والتكرير للتأكيد والتشديد ، وتعيين الفعل المطويّ للذوق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } . [ 15 - 16 ]
{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا } أي : وعظوا : { خَرُّوا سُجَّداً } لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم ، وذلك تواضعاً لله وخشوعاً ، وشكراً على ما رزقهم من الإسلام : { وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : عن الانقياد لها ، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِع } أي : ترتفع وتتنحى عن الفرش ومواضع النوم . والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم ، وهم المتهجدون بالليل : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي : داعين له : { خَوْفاً } من عذابه : { وَطَمَعاً } في رحمته : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي : من المال : { يُنفِقُونَ } أي : في وجوه البرّ والحسنات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } . [ 17 - 20 ]
{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم } أي : ما ذخر ، وأُعدّ أي : لهؤلاء الذين عددت مناقبهم : { مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } أي : مما تقر به عينهم من طيبة النفس والثواب والكرامة في الجنة : { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا من الأعمال الصالحة
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } أي : كافراً جاحداً : { لَّا يَسْتَوُونَ } أي : في الآخرة بالثواب والكرامة ، كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة ، ثم فصّل مراتب الفريقين بقوله : { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً } أي : ثواباً : { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } وكقوله تعالى : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } [ الحج : 22 ] ، كناية عن دوام عذابهم واستمراره : { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك ، تشديداً عليهم ، وزيادة في غيظهم ، وتقريعاً وتوبيخاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } . [ 21 - 22 ]
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ } أي : أهل مكة : { مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى } أي : عذاب الدنيا ، من الجدبِ [ في المطبوع : والجدب ] ، والقتلِ ، والأسرِ : { دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } يعني عذاب الآخرة : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي يتوبون عن الكفر أي : يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى ، قبل الرين بكثافة الحجاب : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } أي : جحدها وكفر بها : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } أي : بالعذاب ، وإظهار المتقين عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . [ 23 - 24 ]
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } أي : التوراة : { فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ } أي : لقاء الكتاب الذي هو القرآن ، وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم ، والمراد غيره على طريق الاستخدام ، أو إرادة العهد ، أو تقدير مضاف ، أي : تلقي مثله ، أي : فلا تكن في مرية من كونه وحياً متلقى من لدنه تعالى . والمعنى : إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيّناه من الوحي مثل ما لقيناك ، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله .
ونهيُه صلى الله عليه وسلم عن الشك ، المقصود به نهي أمته ، والتعريض بمن صدر منه مثله : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : من الضلالة : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا : { لَمَّا صَبَرُوا } أي : على العمل به ، والاعتصام بأوامره : { وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي : يصدقون أشد التصديق وأبلغه . والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه ، هدىً لأمتك ، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية .
ويؤخذ من فحوى الآية ، أن بني إسرائيل لَمّا نبذوا الاعتصام بالكتاب ، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وفقدوا الاستيقان بحقيّة الإيمان ، فغيّروا وبدّلوا ، سُلِبُوا ذلك المقام ، وأَديل عليهم انتقاماً منهم ؛ وتلك سنته تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] ، ففي طي هذا الترغيب ، ترهيبٌ وأي ترهيبٍ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } [ 25 - 27 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ } أي : يقضي : { بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : فيميز الحق من الباطل ، بتمييز المحق من المبطل : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي : يتبين لكفار مكة : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ } أي : الماضية بعذاب الاستئصال : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي : منازلهم ، كمنازل قوم شعيب ، وهود ، وصالح ، ولوط عليهم السلام ، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يعمرها ويسكنها ، ذهبوا كأن لم يغنوا فيها ؛ كما قال : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [ النمل : 52 ] ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فبما فعلنا بهم : { لَآيَاتٍ } أي : عبراً ، ومواعظ ، ودلائل متناظرة : { أَفَلَا يَسْمَعُونَ } أي : أخبار من تقدم ، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل ، وبغيهم الفساد في الأرض ، فيحملهم ذلك على الإيمان .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ } وهي التي جزر نباتها ، أي : قطع : { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ } يعني العشب والثمار والبقول : { أَفَلَا يُبْصِرُونَ } أي : فيستدلون به على كمال قدرته ، ووجوب انفراده بالإلهية . وهذا كآية : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَاْن إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً } [ عبس : 24 - 25 ] الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ } . [ 28 - 29 ]
{ وَيَقُولُونَ } أي : كفار مكة : { مَتَى هَذَا الْفَتْحُ } أي : الانتصار علينا ، استعجال لوقوع البأس الرباني عليهم ، الذي وعدوا به ، واستبعاد له { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ } لحلول ما يغشي الأبصار ، ويعمي البصائر ، وظهور منار الإيمان ، وزهوق الفريق الكافر .
قال ابن كثير : أي : إذا حل بكم بأس الله ، وسخطه ، وغضبه في الدنيا والآخرة [ في المطبوع : الأخرى ] ، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ، ولا هم ينظرون ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } [ غافر : 83 ] الآيتين . ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتحَ مكة ، فقد أبعد النجعة ، وأخطأ فأفحش ، فإن يوم الفتح ، قد قبِل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إسلامَ الطلقاء ، وقد كانوا قريباً من ألفين ، ولو كان المراد فتح مكة ، لما قبِل إسلامهم لقوله تعالى : { قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ } وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل ، كقوله : { فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } [ الشعراء : 118 ] ، وكقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } [ سبأ : 26 ] الآية . ، وقال تعالى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ إبراهيم : 15 ] ، وقال تعالى : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ } [ 30 ] .
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : عن المشركين ، ولا تبال بهم ، وبلغ ما أنزل إليك من ربك : { وَانتَظِرْ } أي : النصرة عليهم ، فإن الله سينجز لك ما وعدك ، إنه لا يخلف الميعاد : { إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ } أي : ما في نفوسهم ، كقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [ الطور : 30 ] ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } [ التوبة : 98 ] ، أي : وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى ، وأليم عذابه بهم .

(/)


سورة الأحزاب
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } نودي صلوات الله عليه بوصفه دون اسمه ، تعظيماً له . وباب المخاطبة يعدل فيها عن النداء بالاسم تكريماً للمخاطب ، ولا كذلك باب الأخبار فقد يصرح فيها بالاسم ، والتعظيم باقٍ كآية : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } [ الفتح : 29 ] ، لتعليم الناس بأنه رسول الله , وتلقينهم أن يسموه بذلك , ويدعوه به , وأمره عليه السلام بالتقوى تفخيماً وتعظيماً للتقوى نفسها ، حيث أمر بها مثله ؛ فإن مراتبها لا تنتهي , مع أن المقصود الدوام والثبات عليها , ولم يجعل الأمر لأمته كما في نظائره ؛ لأن سياق ما بعده لأمر يخصه ، كقصة زيد رضي الله عنه : { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : لا توافقهم على أمر ، ولا تقبل لهم رأياً ولا مشورة ، وجانبهم واحترس منهم ؛ فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي : فهو أحق بأن تُتبَع أوامره ويطاع ؛ لأنه العليم بعواقب الأمور ، وبالمصالح من المفاسد ، والحكيم الذي لا يفعل شيئا ، ولا يأمر به ، إلا بداعي الحكمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً* م َّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [ 2 - 4 ] .
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي : في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } أي : أسند أمرك إليه ، وكله إلى تدبيره ، فكفى به حافظاً موكولاً إليه كل أمر : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } قال الزمخشري : أي : ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في امرأة ، ولا بنوّة ودعوة في رجل . والمعنى : إن الله سبحانه ، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ؛ لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها - وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً ، عالماً ظاناً ، موقناً شاكاً ، في حالة واحدة - لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أُمّاً لرجل زوجاً له ؛ لأن الأم مخدومة ، مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره ، كالمملوكة . وهما حالتان متنافيتان .
وأن يكون الرجل الواحد دعيّاً لرجل ، وابناً له ؛ لأن البنوة أصالة النسب ، وعراقة فيه ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل ، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة ، وهو رجل من كَلْبٍ سبي صغيراً ، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهبته له ، وطلبه أبوه وعمه فخُيّر ، فاختار رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد . فأنزل الله هذه الآية ، وقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] .
والتنكير في : رجل , وإدخال من ، الاستغراقية على قلبين ، تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال : ما جعل الله لأمة الرجال ، ولا لواحد منهم ، قلبين البتة في جوفه .
وفائدة ذكر الجوف ، كالفائدة في قوله : { الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلي للمدلول عليه ؛ لأنه إذا سمع به ، صوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار . ومعنى : ظاهر من امرأته ، قال لها : أنت عليّ كظهر أمي . وكان الظهار طلاقاً عند أهل الجاهلية ، فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها ، كما يتجنبون المطلقة ، وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة .
قال الأزهري : وخصوا الظَّهر ؛ لأنه محل الركوب . والمرأة تركب إذا غشيت ، فهو كناية تلويحية ، انتقل من الظَّهر إلى المركوب ، ومنه إلى المغشيّ . والمعنى : أنت محرمة عليّ لا تركبين كما لا تركب الأم . كذا في " الكشف " .
وقوله تعالى : { ذَلِكُمْ } إشارة إلى كل ما ذكر ؛ أي : من كونه ليس لأحد قلبان ، وليست الأزواج أمهات ، ولا الأدعياء أبناء ، أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة : { قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } أي : لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك ، أن يكون ابناً حقيقياً ؛ فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان : { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } أي : الثابت المحقق في نفس الأمر : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي : سبيل الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 5 ] .
{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } أي : انسبوهم إليهم ، وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } أي : أعدل وأحكم . قال ابن كثير : هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام ، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء ، فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ، وأن هذا هو العدل والقسط والبر . روى البخاري عن ابن عمر قال : إن زيد بن حارثة رضي الله عنه ، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } . وأخرجه مسلم وغيره .
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه ، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك ، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل ، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها : يا رسول الله ! إنا ندعوا سالماً ابناً ، وإن الله قد أنزل ما أنزل ، وإنه كان يدخل عليّ ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً . فقال صلى الله عليه وسلم : < أرضعيه تحرمي عليه . . > الحديث . ولهذا لما نسخ هذا الحكم ، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعيّ ، وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه . وقال عز وجل : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [ النساء : 23 ] ، احترازاً عن زوجة الدعيّ ، فإنه ليس من الصلب . فأما الابن من الرضاعة ، فمُنزّل منزلة ابن الصلب شرعاً ، بقوله صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " : < حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب > .
فأما دعوة الغير ابناً ، على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهى عنه في هذه الآية ، بدليل ما رواه الامام أحمد وأهل السنن ، إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال : قدّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أغليمةَ بني عبد المطلب على جمرات لنا من جَمْع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : < أُبَيْنِيّ ! لاترموا الجمرة حتى تطلع الشمس > . قال أبو عبيدة وغيره : أُبَيْنيّ ، تصغير ابني . وهذا ظاهرالدلالة ؛ فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر .
وفي مسلم عن أنس قال : قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < يابنيّ > . رواه أبو داود والترمذي . انتهى كلام ابن كثير .
وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخٌ نظرٌ ؛ لأن الناسخ لابد أن يرفع خطاباً متقدماً ، وأما ما لاخطاب فيه سابقاً ، بل ورد حكماً مبتدأ رفع البراءة الأصلية ، فلا يسمّى نسخاً اصطلاحاً . فاحفظه ؛ فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع .
ولما أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم ، إن عرفوا ، أشار إلى دعوتهم بالإخوة والمولوية إن لم يعرفوا ، بقوله سبحانه : { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ } أي : فتنسبوهم إليهم : { فَإِخْوَانُكُمْ } أي : فهم إخوانكم : { فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي : أولياؤكم فيه ؛ أي : فقولوا : هذا أخي ، وهذا مولاي ، ويا أخي ويا مولاي : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي إثم : { فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } أي : فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة ، مخطئين بالسهو أو النسيان ، أو سبق اللسان ؛ لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ، ورفع إثمه : { وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي : ففيه الجناح ؛ لأن من تعمد الباطل كان آثماً : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : لعفوه عن المخطىء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } [ 6 ] .
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } أي : في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وأن يبذلوها دونه ، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خَطْبٌ ، ووقاءه إذا لقحت حربٌ ، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ، ولا ما تصرفهم عنه ، ويتبعوا كلَّ ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه ؛ لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة , والظفر بسعادة الدارين ، وما صرفهم عنه ، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار . أفاده الزمخشري .
وهذا كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، وفي " الصحيح " : < والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وماله ، وولده ، والناس أجمعين > : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي : في وجوب تعظيمهن واحترامهن ، وتحريم نكاحهن ، وفيما عدا ذلك كالأجنبيات ؛ ولذا قال ابن كثير : ولكن لا تجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن ، أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في " المختصر " وهو من باب إطلاق العبارة ، لا إثبات الحكم ، وهل يقال لمعاوية وأمثاله ، خال المؤمنين ؟ فيه قولان : وعن الشافعي أنه يقال ذلك . وهل يقال له صلى الله عليه وسلم : أبو المؤمنين ؟ فيه قولان : فصح عن عائشة المنع ، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] ، وروي عن أُبيّ بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما ، أنهما قرآ : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم , وأزواجه أمهاتهم ، وهو أبٌ لهم . وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ، أعلمكم . فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة , ولا يستدبرها , ولا يستطيب بيمينه > . أفاده ابن كثير .
{ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ } أي : ذوو القرابات : { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : فيما فرضه ، أو فيما أوحاه إلى نبيّه عليه السلام : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لـ : { أَوْلَى } : { إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم } أي : إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم : { مَّعْرُوفاً } أي : من صدقة ومواساة وهدية ووصية ؛ فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه ، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ } الآية ، مَن ورّث ذوي الأرحام . انتهى .
وهو استدلال متين ، وليس مع المخالف ما يقاومه ، بل فهم كثيرون أن المعنيّ بها ، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار ، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة ، التي كانت بينهم ، ذهاباً إلى ما روي عن الزبير وابن عباس : أن المهاجري كان يرث الأنصاري ، دون قراباته وذوي رحمه ، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، حتى أنزل الله الآية . فرجعنا إلى مواريثنا .
إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية ، لا أنها خاصة بالمدعي فيها ، كما أسلفنا بيانه مراراً : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } أي : في القرآن ، أو في قضائه وحكمه ، وما كتبه وفرضه ، مقرراً لا يعتريه تبديل ولا تغيير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ 7 ] .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة , والدعاء إلى الحق ، والتعاون والتناصر والاتفاق ، وإقامة الدين ، وعدم التفرق فيه ، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عِمْرَان : 81 ] ، قال أبو السعود : وتخصيصهم بالذكر ، يعني قوله : { وَمِنكَ } الخ مع اندراجهم في النبيين ، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم ، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع ، وأساطين أولي العزم ، وتقديم نبينا عليهم ، عليهم الصلاة والسلام ، لإبانة خطره الجليل . انتهى .
وقال في " الانتصاف " : وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك ، ألا ترى إلى قوله :
~بَهَاْلِيْلٌ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ أُمِّهِ عَلَيَّ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيَّرُ
فأخّر ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم ليختم به تشريفاً له . وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم ، فيظهر ، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام ، على نوح ومن بعده في الذكر ، أنه هو المخاطَب من بينهم ، والمنزل عليه هذا المتلوّ ، فكان تقديمه لذلك .
ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام ، جرى ذكر الأنبياء ، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم . والله أعلم . انتهى .
وقد صرح بأولي العزم هنا ، وفي آية : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] . قال ابن كثير : فهذه هي الوصية التي أُخذ عليهم الميثاق بها { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } أي : عهدا عظيم الشأن ، وكيف لا ؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادّين والمشاقّين ، ما تزول منه الجبال ، لولا الاعتصام بالصبر عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } [ 8 - 9 ] .
{ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } أي : فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء . ووضع الصادقين موضع ضميرهم ، لإيذان من أول الأمر ، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه , وإنما السؤال لحكمة تقتضيه ، أي : ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم ، أو عن تصديقهم إياها تبكيتاً لهم . كما في قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] ، أو المصدقين لهم عن تصديقهم . أفاده أبو السعود { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } أي : لمن كفر من أممهم عذاباً موجعاً . ونحن - كما قال ابن كثير - نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ، ونصحوا الأمم ، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجليّ ، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء ، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة ، والمعاندين ، والمارقين ، والقاسطين ، فما جاءت به الرسل هو الحق ، ومن خالفهم فهو على الضلال . انتهى .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب ، وهو يوم الخندق : { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } وهم الأحزاب : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة ، أو ما أتى من الريح من طيور الجو وجراثيمه ، المشوشة للقارّ المقلقلة للهادئ : { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً } . [ 10 - 13 ]
{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي : من أعلى الوادي وأسفله ، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبي صلّى الله عليه وسلم ، وصحبه : { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ } أي : مالت عن سننها ومستوى نظرها ، حيرة وشخوصاً : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } أي : منتهى الحلقوم ؛ لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع ، وبارتفاعها ترتفع القلوب ، وذلك من شدة الغم . أو هو مثل في اضطراب القلوب { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } أي : أنواع الظنون المختلفة : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } أي : اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل ، والمؤمن من المنافق : { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } أي : أزعجوا أشد الإزعاج من شدة الخوف والفزع ، أو من كثرة الأعداء .
فائدة :
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : { الظُّنُوْنَاْ } بإثبات ألف بعد النون ، وبعد لام الرسول ، في قوله : { وَأَطَعْنَا الرَّسُوْلَا } [ الأحزاب : 66 ] ، ولام السبيل ، في قوله : { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [ الأحزاب : 67 ] ، وصلاً ووقفاً ، موافقة للرسم ؛ لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف ، كذلك ، وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة . وهاء السكت تثبت وقفاً للحاجة إليها ، وقد ثبتت وصلاً إجراء للوصل مجرى الوقف . فكذلك هذه الألف .
وقرأ أبو عَمْرو وحمزة بحذفها في الحالتين ؛ لأنها لا أصل لها ، وقولهم : أجريت الفواصل مجرى القوافي . غير معتدٍّ به ؛ لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالباً ، والفواصل لا يلزم ذلك فيها ، فلا تشبه بها ، والباقون بإثباتها وقفاً ، وحذفها وصلاً ، إجراء للفواصل مجرى القوافي ، في ثبوت ألف الإطلاق ، ولأنها كهاء السكت ، وهي تثبت وقفاً ، وتحذف وصلاً . أفاده السمين . ثم أشار تعالى إلى ظهر من المنافقين في تلك الشدة ، بقوله سبحانه : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي : شبهة ، تنفساً بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم ، وفرصة لانطلاق ألسنتهم ، بما تكنّ صدورهم ؛ لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال ، وحصر العدّو لهم : { مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : من النصر : { إِلَّا غُرُوراً } أي : باطلا : { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ } أي : المنافقين : { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } وهي أرض المدينة : { لَا مُقَامَ لَكُمْ } بضم الميم وفتحها ، قراءتان ؛ أي : لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة ، أو نواحيها لغلبة الأعداء : { فَارْجِعُوا } أي : إلى منازلكم من المدينة هاربين ، أو فارجعوا عن الإسلام كفاراً ليمكنكم المقام .
فائدة :
" يثرب " من أسماء المدينة . كما في " الصحيح " : < أريت في المنام دارَ هجرتكم ، أرض بين حرتين ، فذهب وهلى أنها هجر ، فإذا هي يثرب > وفي لفظ : < المدينة > .
قال ابن كثير : فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن البراء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى ، إنما هي طابة هي طابة > . تفرد به الإمام أحمد ، وفي إسناده ضعف . انتهى { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } أي : في الرجوع : { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي : غير حصينة يخشى عليها : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ 14 - 16 ] .
{ وَلَوْ دُخِلَتْ } أي : يثرب : { عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي : بأن دخل عليهم العدوّ من سائر جوانبها ، وأخذ في النهب والسلب : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ } أي : الرجعة إلى الكفر : { لَآتَوْهَا } أي : لفعلوها : { وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً } أي : وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب ؛ أي : فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به ، مع أدنى خوف وفزع . وهذا منتهى الذم لهم ، ثم ذكّرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ } أي : من قبل هذا الخوف : { لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّه ِمَسْؤُولاً } أي : عن الوفاء به : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } أي : لأنه لا يؤخر آجالهم , ولا يطوّل أعمارهم . بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة انتقاماً منهم ، ولهذا قال : { وَإِذاً } أي : فررتم : { لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } أي : في الدنيا بعد فراركم ، أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخروي ، فمهما متعوا في الدنيا ، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [ 17 - 19 ] . : { قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم } أي : يجيركم : { مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً } أي : هلاكا أو هزيمة : { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً } أي : مجيراً ولا مغيثاً يدفع عنهم الضر : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } أي : المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم المنافقون . قال الشهاب : و " قد " : للتحقيق ، أو لتقليله باعتبار متعلقه ، وبالنسبة لغير معلوماته . انتهى { وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ } أي : من ساكني المدينة : { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي : أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ } أي : القتال : { إِلَّا قَلِيلاً } أي : إلا إتياناً قليلاً ؛ لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي : بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم ، أو أضنّاء بكم ظاهراً ، إن لم يحضر خوفٌ : { فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ } أي : في أحداقهم : { كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : كنظره أو كدورانه : { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي : بالغوا فيكم بالكلام طعناً وذماً ، فأحرقوكم وآذوكم ، وأصل السلق : بسط العضو ومدة للقهر ، كان يداً أو لساناً ، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الإستعارة المكنية ، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلاً : { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } أي : على فعله : { أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [ 20 - 21 ] .
{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } أي : لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود ، وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم : { وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ } أي : مرة آخرى : { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ } أي : فلا يذهبون إلى قتالهم ، ولا يستقرّون في المدينة ، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب ، وإن لحقهم عار جبنهم : { يَسْأَلُونَ } أي : القادمين : { عَنْ أَنبَائِكُمْ } أي : عما جرى لكم ، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة ، لو أتى الأحزاب ، بقوله : { وَلَوْ كَانُوا فِيكُم } أي : في حدوث واقعة ثانية : { مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً } أي : رياءً وخوفاً من التعيير .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : في أخلاقه وأفعاله قدوة حسن ؛ إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب ، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ، ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة ، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة ، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ، ويهدّ الصياصي ، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي ، ويثبت ثبات المستولي , ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى ، وهو الرفيع الشأن ، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } أي : رضوان الله , ورحمته , وثواب اليوم الآخر , ونجاته ؛ فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا ، فلا يجبن ؛ إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لغاية قبحه : { وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } أي : وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة ؛ أي : ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فأدرك مواطن السعادة ومهاوي الشقاوة ، وعلم أن في الثبات على قتل العدو ، تطهير الأرض من الفساد ، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد ، مما جزاؤه سعادة الدارين ، والفوز بالحسنيين .
ثم بين تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة ، بعد بيان ما كان من غيرهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ 22 - 23 ] .
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه ، في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 214 ] ، وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان : { وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : ظهر صدقهما فيما وعدانا به : { وَمَا زَادَهُمْ } أي : هذا الخطب والبلاء ، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم : { إِلَّا إِيمَاناً } أي : بالله ورسوله ، ومواعيدهما : { وَتَسْلِيماً } أي : لأمر الله ومقاديره .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } في الصبر والثبات ، والقيام بما كتب عليهم من القتال ، لإعلاء كلمة الحق ، ومن العمل بالصالحات ، ومجانبة السيئات : { فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } أي : أدّى ما التزمه ووفى به ، فقاتل مع الرسول صلّى الله عليه وسلم ، صادقاً حتى قتل شهيداً .
قال الشهاب : أصل معنى النحب النذر ، وقضاؤه الوفاء به . وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلّى الله عليه وسلم حرباً ، قاتلوا حتى يستشهدوا . وقد استعير : قضاء النحب ، للموت ؛ لأنه لكونه لا بد منه ، مشبّه بالنذر الذي يجب الوفاء به ، فيجوز أن يكون هنا حقيقة ، أو استعارة من المشاكلة فيه . انتهى . : { وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ } أي : ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه : { وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } أي : ما غيروا شيئا من العهد ، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ } [ الأحزاب : 15 ] . ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به ، والتصريح بالمصدر لإفادة العموم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } [ 24 - 25 ] .
{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ } أي : في عهودهم : { بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ } أي : كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود ، بفضله ورحمته : { لَمْ يَنَالُوا خَيْراً } أي : نصراً لا غنيمة : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أي : فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة . بل تولى كفاية ذلك وحده ؛ ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : < لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده > : { وكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً } أي : فلا يعارض قوته قوة شيء : { عَزِيزاً } أي : غالباً على أمره .
ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة ، في شوّال على أصح القولين ؛ إذ لا خلاف أن أُحداً كانت في شوال سنة ثلاث ، وواعد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العام المقبل وهي سنة أربع , ثم أخلفوه لأجل جدب السنة ، فرجعوا ، فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه . هذا قول أهل السير والمغازي ، وخالفهم موسى بن عقبة وقال : بل كانت سنة أربع . قال أبو محمد ابن حازم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه . واحتج عليه بحديث ابن عمر في " الصحيحين " : أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أُحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه . قال : وصح أنّه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة . وأجيب عن هذا بجوابين : أحدهما - أن ابن عمر أخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال ، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقاً ، وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها .
والثاني - أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة , ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة .
ثم قال ابن القيم رحمه الله : وكان سبب غزوة الخندق ، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أُحد ، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين ، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل ، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة ، يحرضونهم على غزو رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، و يوالونهم عليه ، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم ، فأجابتهم قريش ، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم ، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك ، فاستجاب لهم من استجاب .
فخرجت قريش , وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف ، ووافاهم بنو سُلَيم بمرّ الظهران ، وخرجت بنو أسد ، وفزارة ، وأشجع ، وبنو مرّة ، وجاءت غطفان ، وقائدهم عيينة بن الحصن ، وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف .
فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه ، استشار الصحابة ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة ، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون ، وعمل بنفسه فيه وبادروا ، وهجم الكفار عليهم ، وكان في حفره آيات نبوّته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به ، وكان حفر الخندق أمام سَلْع . وسلع جبل خلف ظهور المسلمين ، والخندق بينهم وبين الكفار ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة آلف من المسلمين ، فتحصن بالجبل من خلفه ، وبالخندق أمامهم .
وقال ابن إسحاق : خرج في سبعمائة . وهذا غلط من خروجه يوم أُحد .
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة ، واستخلف عليها ابن أم مكتوم ، وانطلق حُيي بن أخطب إلى بني قريظة ، فدنا من حصنهم . فأبى كعب بن أسد أن يفتح له ، فلم يزل يكلمه حتى فتح له ، فلما دخل عليه قال : لقد جئتكم بعزّ الدهر ؛ جئتك بقريش ، وغطفان ، وأسد على قادتها لحرب محمد . قال : قال كعب : جئتني ، والله ! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه ، فهو رعد وبرق . فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل مع المشركين في محاربته ، فسرّ بذلك المشركون . وشرط كعب على حُيي أنه إن لم يظفروا بمحمدٍ ، أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه ، فيصيبه ما أصابه . فأجابه إلى ذلك ، ووفى له به . وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر بني قريظة , ونقضهم للعهد ، فبعث إليهم السعدين ، وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة ليعرفوه : هل هم على عهدهم , أو قد نقضوه . فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون ، وجاهروهم بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم , فانصرفوا عنهم ، ولحنوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لحناً يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا . فعظم ذلك على المسلمين . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك : < الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين > . واشتد البلاء وتجهر النفاق , واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا : بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً . وهمّ بنو سلمة بالفشل ، ثم ثبّت الله الطائفتين .
وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهراً ، ولم يكن بينهم قتال ؛ لأجل ما حال الله به من الخندق ، بينهم وبين المسلمين ، إلا أن فوارس من قريش منهم عَمْرو بن عبد ودّ وجماعة معه ، أقبلوا نحو الخندق ، فلما وقفوا عليه قالوا : إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها , ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه , وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع , ودعوا إلى البراز , فانتدب لعمرو عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فبارزه فقتله الله على يديه , وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ، وانهزم الباقون إلى أصحابهم . وكان شعار المسلمين يومئذ : " حم لا ينصرون " .
ولما طالت هذه الحال على المسلمين ، أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصالح عُيينة بن حصن والحارث بن عوف ، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة ، وينصرفا بقومهما ، وجرت المراوضة على ذلك ، فاستشار السعدين في ذلك فقالا : يا رسول الله ! إن كان الله أمرك بهذا ، فسمعاً وطاعةً , وإن كان شيء تصنعه لنا ، فلا حاجة لنا فيه . لقد كنا نحن [ و ] هؤلاء القوم على الشرك بالله ، وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ؟ والله ! لا نعطيهم إلا السيف . فصوّب رأيهما وقال : < إنما هو شيء أصنعه لكم ، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة > .
ثم إن الله عز وجل ، وله الحمد ، صنع أمراً من عنده ، خذل به بين العدو ، وهزم جموعهم ، وفلّ حدّهم ؛ فكان مما هيأ من ذلك ، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر ، رضي الله عنه ، جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني قد أسلمت ، فمرني بما شئت . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إنما أنت رجل واحد ، فخذّل عنّا ما استطعت ؛ فإن الحرب خدعة > . فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة ، وكان عشيراً لهم في الجاهلية ، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال : يا بني قريظة ! إنكم قد حاربتم محمداً ، وإن قريشاً إن أصابوا فرصةً انتهزوها ، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين ، وتركوكم ومحمداً ، فانتقم منكم . قالوا : فما العمل يا نعيم ؟ ! قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي . ثم مضى على وجهه إلى قريش . قال لهم : تعلمون ودي لكم ونصحي لكم . قالوا : نعم . قال : إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه ، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثم يوالونه عليكم ، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم . ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك ، فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود : إنا لسنا بأرض مقام ، وقد هلك الكراع والخفُّ ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً . فأرسل إليهم اليهود : إن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه ، ومع هذا ، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن . فلما جاءتهم رسلهم بذلك ، قالت قريش صدقكم ، والله ! نعيم . فبعثوا إلى يهود : إنا ، والله ! لا نرسل إليكم أحداً ، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً . فقالت قريظة : صدقكم ، والله ! نعيم . فتخاذل الفريقان : وأرسل الله عز وجل على المشركين جنداً من الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد ، فجعلت تقوّض خيامهم ، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها ، ولا طُنُبا إلا قلعته ، ولا يقر لهم قرار ، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف . وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم ، فوجدهم على هذه الحال ، وقد تهيأوا للرحيل . فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرهم برحيل القوم ، فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وقد ردّ الله عدوه بغيظه ، لم ينالوا خيراً ، وكفى الله قتالهم ، فصدق وعده ، وأعز جنده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .
ثم لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً ، والمسلمون معه ، ووضعوا السلاح ، وكانت الظهر ، أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال : إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة - وهم قبيلة من يهود خيبر - فإني عامدٌ إليهم فمزلزلٌ بهم . فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس : < من كان سامعاً مطيعاً ، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة > . واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم ، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، رضوان الله عنه ، برايته إلى بني قريظة ، وابتدرها الناس ، فسار علي ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطريق . فقال : يا رسول الله ! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث . قال : < لِمَ ؟ أظنك سمعت منهم لي أذىً > . قال : نعم ، يا رسول الله . قال : < لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً > . وتلاحق به الناس ، وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله ! صلى الله عليك وسلم ، إنهم كانوا موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت .
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، قبل بني قريظة ، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد الله بن أُبي ابن سلول فوهبهم له .
فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < ألا ترضون ، يا معشر الأوس ! أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ > قالوا : بلى . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < فذاك إلى سعد بن معاذ > .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها رُفيدة في مسجده ، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين , وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : < اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب > . فلما حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه على حمار .
وكان رجلاً جسيماً جميلاً ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال صلّى الله عليه وسلم : < قوموا إلى سيدكم > فقاموا إليه فأنزلوه .
قال ابن كثير : إعظاماً وإكراماً ، واحتراماً له ، في محل وليته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم . فلما جلس ، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك , فاحكم فيهم بما شئت > . وصارت تعرّض له الأوس أن يحسن إليهم ، وتقول : يا أبا عَمْرو ! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم .
فقال رضي الله عنه : عليكم عهد الله وميثاقه ، أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ . قالوا : نعم . قال : وعلى من ها هنا - في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالاً له - فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < نعم > . قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال ، وتُقسم الأموال ، وتُسبى الذراري والنساء . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد : < لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة > . وفي رواية : < لقد حكمت بحكم الملك > - أي : لأن هذا جزاء الخائن الغادر - وكان سعد أصيب يوم الخندق ؛ رماه رجل من قريش يقال له ابن العَرِقة ، رماه في الأكحل . فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أكحله . وقال سعد : اللهم ! إن كنتَ أبقيت من حرب قريش شيئاً ، فأبقني لها : فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهد ، من قوم آذوا رسولك ، وكذبوه ، وأخرجوه . اللهم ! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . فاستجاب الله تعالى دعاءه ، وقدرّ عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم ، طلباً من تلقاء أنفسهم .
ثم لما استنزلوا من حصونهم ، حبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في دار ، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالاً ، وفيهم عدو الله حُيي بن أخطب ، وكعب بن أسد رأسُ القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، وسُبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم ، وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة ، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ 26 - 28 ] .
{ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي : عاونوا الأحزاب ، وساعدوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني بني قريظة ، وهم طائفة من اليهود ، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فروا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد : { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي : حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } أي : الخوف ، جزاءً وفاقاً .
قال ابن كثير : لأنهم كانوا مالَئوا المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلم - وليس من يعلم كمن لا يعلم - وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا ، فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال ، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون ، فكما راموا العز ذلوا ، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } يعني قتل الرجال المقاتلة ، وسبي الذراري والنساء .
روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال : عُرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكّوا فيّ . فأمر بي النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينظروا : هل أنبتُّ بعد ؟ فنظروني فلم يجدوني أنبتُّ ، فخلى عني ، وألحقني بالسبي . وكذا رواه أهل السنن كلهم : وقال الترمذي : حسن صحيح .
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ } حصونهم : { وَأَمْوَالَهُمْ } أي : نقودهم وأثاثهم ومواشيهم : { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا } أي : أرضاً لم تقبضوها بعد ، يعني خيبر ، وقيل مكة . رواه مالك عن زيد بن أسلم . وقيل : فارس والروم ، وقال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مراداً . قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم . وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة ، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها ، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب . قال بعضهم : يالله ! ما أسوأ عاقبة الطيش ! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر ، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح ، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم .
وهذا ما حصل لليهود في الحجاز ؛ فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر ، ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسداً منهم وبغياً . فتم عليهم ما تم ، سنة الله في المفسدين ، فإن الله لا يصلح أعمالهم : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي : وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : السعة والتنعم فيها : { وَزِينَتَهَا } أي : زخارفها : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } أي : أعطكن المتعة وأطلقكن . والمتعة : ما يعطى للمرأة المطلقة على حسب السعة والإقتار ، من ثياب أو دراهم أو أثاث ، تطوعاً لا وجوباً . وقوله تعالى : { سَرَاحاً جَمِيلاً } أي : طلاقاً من غير ضرار ولا بدعة . وقد روي أنهن سألن النبي صلّى الله عليه وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده . فنزلت الآية . ولما نزلت ، بدأ صلّى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها ، وكانت أحبهن إليه ، فخيّرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسول والدار الآخرة ، ثم اختار جميعهن اختيارها ، قيل : وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة رضي الله عنهن ، ثم صفية بنت حيي النضرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن .
لطيفة :
قال الرازي : وجه التعلق ، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله . وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله : < الصلاة وما ملكت أيمانكم > . ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله ، بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] ، ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة ، وبدأ بالزوجات ، فإنهن أولى الناس بالشفقة ، ولذا قدمهن في النفقة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [ 29 - 30 ] .
{ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : تردن رسوله . قال أبو السعود : وذكر الله عز وجل ، للإيذان بجلالة محله عليه السلام ، عنده تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } أي : لا يقدر قدره . ولما خيرهن النبي صلّى الله عليه وسلم ، واخترن الله ورسوله ، أدبهن الله وهددهن ، للتوقي عما يسوء النبي صلّى الله عليه وسلم ، ويقبح بهن من الفاحشة ، وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله تعالى : { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي : بين الشرع والعقل قبحها ، إن قرئ بالفتح . أو مبيّنة قبحها بنفسها من غير تأمل ، إن قرئ بالكسر : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } أي : ضعفي عذاب غيرهن . قال القاضي : لأن الذنب منهن أقبح ، فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ، ولذلك جعل حدّ الحر ضعفي حد العبد ، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم : { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } لعموم قدرته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ 31 - 33 ] .
{ وَمَن يَقْنُتْ } أي : يدم مطيعاً : { مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : في إتيان الواجبات ، وترك المحرمات والمكروهات : { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي : مرة على الطاعة والتقوى ، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، بحسن الخلق ، وطيب المعاشرة ، والقناعة : { وَأَعْتَدْنَا لَهَا } أي : زيادة على أجرها المضاعف في الجنة ، أو فيها ، وفي الدنيا : { رِزْقاً كَرِيماً } أي : حسناً مرضياً : { يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أي : عند مخاطبة الناس ؛ أي : فلا تُجبن بقولكن ليناً خنثاً ، مثل كلام المريبات والمومسات : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : ريبة وفجور : { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي : بعيداً من طمع المريب بجدّ وخشونة ، من غير تخنيث ، أو قولاً حسناً مع كونه خشناً .
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : اسكن ولا تخرجن منها . من وقر يقر وقاراً ، إذا سكن . أو من قرّ يقرّ من باب ضرب ، حذفت الأولى من رائي اقررن ، ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغنى عن همزة الوصل , ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح , من قررت أقر ، من باب علم . وهي لغة قليلة : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي : تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى ؛ إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم , والتبرج ، فسر بالتبختر والتكسر في المشي , وبإظهار الزينة وما يُستدعى به شهوة الرجل ، وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها , وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط ، وكل ذلك مما يشمله النهي ؛ لما فيه من المفسدة والتعرض لكبيرة .
فائدة :
قيل : { الْأُولَى } بمعنى القديمة مطلقاً من غير تقييد بزمن . فيستدل بذلك لمن قال : إن الأول لا يستلزم ثانياً . قال في " الإكليل " : وهو الأصح عند العلماء . فلو قال : أول ولد تلدينه فأنت طالق ، لم يحتج إلى أن تلد ثانياً . انتهى .
وقال الزمخشري : الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء , من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم ، أو ما قبله ، إلى زمن عيسى . والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما . ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام ، ويعضده ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي ذر ، لما عير رجلاً بأمه وكانت أعجمية : < إنك امرؤ فيك جاهلية > .
والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام ، تشبه جاهلية الكفر قبله : { وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : بموافقة أمرهما ونهيهما . ثم أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } أي : ما أمركن ونهاكن ، ووعظكن ، إلا خيفة مقارفة المآثم ، والحرص على التصوّن عنها بالتقوى . فالجملة تعليلية لأمرهن ونهيهن على سبيل الاستئناف .
قال الزمخشري : استعار للذنوب الرجس ، وللتقوى الطهر ؛ لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس ، وأما المحسنات فالعرض معها نقيّ مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و : { أَهْلَ الْبَيْتِ } نصب على النداء ، أو على المدح . والمراد بهم من حواهم بيت النبي صلّى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً ، إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح . وأما قول عِكْرِمَة ، إنها نزلت في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة ، ومن شاء باهلته في ذلك ، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن ، فصحيح . وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ، ففي هذا نظر ؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، وأنه صلّى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين ، ثم جللهم بكساء كان عليه ، ثم قال : < هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس > .
وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه ، إلا أن الشيخين لم يصححاه ، ولذا لم يخرجاه ، وأما ما رواه مسلم عن حصين بن سَبْرة ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < أما بعد ، أيها الناس ! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله عز وجل ، ورغب فيه . ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي - قالها ثلاثاً - > . فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته . ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : آل عليّ ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس - رضي الله عنهم - فإنما مراد زيد ، آله الذين حرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله . قال ابن كثير : وهذا احتمال أرجح ، جمعاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة ، إن صحت ، فإن في بعض أسانيدها نظراً . انتهى .
وقال أبو السعود : وهذه كما ترى آية بينة ، وحجة نيرة ، على كون نساء النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته ، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضوان الله عليهم ، وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء ، وتلاوته صلّى الله عليه وسلم الآية بعده ، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت ، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك ، ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها ، لكونها في مقابلة النص . انتهى .
بقي أن الشيعة ، تمسكوا بالآية أيضاً على عصمة علي رضي الله عنه ، وإمامته دون غيره . قال ابن المطهر الحلي منهم : وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ : { إِنَّمَاْ } وإدخال اللام في الخبر ، والاختصاص في الخطاب بقوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } وغيرهم ليس بمعصوم الخ . وأجاب ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة " بقوله : ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم . وتحقيق ذلك في مقامين :
أحدهما - أن قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } كقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] ، وكقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وكقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } [ النساء : 26 - 27 ] ، فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به ، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ، ولا أنه قضاه وقدره ، ولا أنه يكون لا محالة ، والدليل على ذلك ، أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال : < اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً > فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير ، فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم ، ولم يحتج إلى الطلب والدعاء .
وهذا على قول القدرية أظهر ؛ فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد ، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد ، فليس في كونه تعالى مريداً لذلك ، ما يدل على وقوعه .
وهذا الرافضي وأمثاله قدرية ، فكيف يحتجون بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } على وقوع المراد ؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض . فلم يقع مراده . وأما على قول أهل الإثبات ، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه . وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره . الأولى مثل هؤلاء الآيات . والثانية مثل قوله تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [ الأنعام : 125 ] ، وقول نوح : { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] .
وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعاً واحداً ، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئاً واحداً ، ثم القدرية ينفون إرادته لما بين أنه مراد في الآيات التشريع ؛ فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد ، فلا يلزم أن يكون كائناً ، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم ، وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب ، وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر ، وإذا كانت الآية دالة على وقوع أراده من التطهير وإذهاب الرجس ، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه .
ومما يبيّن ذلك [ أن ] أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مذكورات في الآية , والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه . قال تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [ الأحزاب : 30 ] ، إلى قوله : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ، فالخطاب كله لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومعهن الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد . لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعممّ غيرهن من أهل البيت ، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصاً بأزواجه . بل هو متناول لأهل البيت كلهم ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين أخص من غيرهم بذلك ، ولذلك خصهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالدعاء لهم ، وهذا كما أن قوله : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [ التوبة : 108 ] ، نزلت بسبب مسجد قباء ، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك ، وهو مسجد المدينة وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : < هو مسجدي هذا > . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشياً وراكباً ، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ، ويأتي قباء يوم السبت ، وكلاهما مؤسس على التقوى . وهكذا أزواجه ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه ؛ ولهذا خصهم بالدعاء . وقد تنازع الناس في آل محمد من هم ؟ فقيل : أمته . وهذا قول طائفة من أصحاب محمد ، ومالك ، وغيرهم . وقيل : المتقون من أمته . ورووا حديثا < آل محمد كل مؤمن تقي > رواه الخلال ، وتمام في " الفوائد " له . وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ، وهو حديث موضوع ، وبنى على ذلك طائفة من الصوفية ، أن آل محمد هم خواص الأولياء ؛ كما ذكر الحكيم الترمذي .
والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته , وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد , وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم . لكن هل أزواجه من أهل بيته ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد . أحدهما - أنهن لسن من أهل البيت . ويروى هذا عن زيد بن أرقم . والثاني - وهو الصحيح أن أزواجه من آله . فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه : < اللهم صل على محمد وأزوجه وذريته > . ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته ، وامرأة لوط من آله وأهل بيته ؛ بدلالة القرآن . فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته ؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته ، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى ، وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه ؛ كما ثبت في " الصحيح " أنه قال : < إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ، وإنما ولي الله وصالح المؤمنين > . فبين أن أولياءه صالح المؤمنين ، وكذلك في حديث آخر : < إن أوليائي المتقون ، حيث كانوا وأين كانوا > . وقد قال تعالى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] ، وفي " الصحاح " عنه أنه قال : < وددت أني رأيت إخواني > . قالوا : أولسنا إخوانك ؟ قال : < بل أنتم أصحابي ، وإخوتي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني > . وإذا كان كذلك ، فأولياؤه المتقون ، بينه وبينهم قرابة الدين ، والإيمان ، والتقوى ، وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية . والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان . ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون . وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر . فإن كان فاضل منهم ، كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين ، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى ، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب .
فأولياؤه أعظم درجة من آله ، وإن صلى على آله تبعاً ، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم ؛ فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه . وهم أفضل من أهل بيته , وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعاً ، فالمفضول قد يختص بأمر ، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل . ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين . وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل منهن كلهن .
فإن قيل : فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس ، لكن دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك يدل على وقوعه ، فإن دعاءه مستجاب . قيل : المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس ، فضلاً عن أن يدل على العصمة والإمامة . وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر .
ثم نقول في المقام الثاني : هب أن القرآن دل على طهارتهم , وعلى ذهاب رجسهم ، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعوِّ لهم ، وإذهاب الرجس عنهم . لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ ، والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ ؛ فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن ، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث ، كالفواحش ويطهرهم تطهيراً من الفواحش وغيرها من الذنوب .
والتطهير من الذنب على وجهين ، كما في قوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ المدثر : 4 ] ، وقوله : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ] و [ النمل : 56 ] ، فإنه قال فيها : { مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] والتطهر من الذنوب إما بأن لايفعله العبد ، وإما بأن يتوب منه كما في قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] ، ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة ، فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة ، لا يتضمن الإذن فيها بحال . لكن هو سبحانه ينهى عنها ، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها . وفي " الصحيح " عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول : < اللهم ! باعد بيني وبين خطاياي ، كما باعدت بين المشرق والمغرب . واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد . اللهم ! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس > . وبالجملة ، لفظ الرجس ، أصله القذر . ويراد به الشرك . كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، ويراد به الخبائث المحرمة ، كالمطعومات والمشروبات كقوله : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً } [ الأنعام : 145 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } [ المائدة : 90 ] ، وإذهاب ذلك إذهاب لكله ، ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث . ولفظ الرجس عام يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس . فإن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا بذلك . وأما قوله : { وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيْراً } فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة .
وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة . ويقول مثل ذلك في قوله : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ، ونحو ذلك . والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق ، كما إذا قيل : أكرم هذا ، أي : افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراماً ، وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتباراً ، والْإِنْسَاْن لا يسمى معتبراً إذا اعتبر في قصة ، وترك ذلك في نظيرها . وكذلك لا يقال : هو طاهر ، أو متطهر ، أو مطهر ، إذا كان متطهراً من شيء ، متنجساً بنظيره . ولفظ الطاهر كلفظ الطيب ؛ قال تعالى : { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] ، كما قال : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] ، وقد روي أنه قال لعمار : < ائذنوا له . مرحبا بالطيب المطيب > . وهذا أيضاً كلفظ المتقي والمزكي ؛ قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] ، وقال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، وقال : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [ النور : 21 ] ، وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب ، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب ، فإن هذا - لو كان كذلك - لم يكن في الأمة متّق ، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين . كما قال : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] ، فدعاء النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يطهرهم تطهيراً ، كدعائه بأن يزكيهم ويطييهم ويجعلهم متقين ، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقرّ أمره على ذلك ، فهو داخل في هذا ، لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه ، وقد قال : < اللهم ! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد > . فمن وقع ذنبه مغفوراً أو مكفراً ، فقط طهره الله منه تطهيراً ، ولكن من مات متوسخاً بذنوبه ، فإنه لم يطهر منها في حياته . وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس . والنبي صلّى الله عليه وسلم ، إذا دعا بدعاء ، أجابه الله بحسب استعداد المحل . فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات ، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب ، فإن هذا ، لو كان واقعاً ، لما عُذب مؤمن ، لا في الدنيا ولا في الآخرة . بل يغفر الله لهذا بالتوبة ، ولهذا بالحسنات الماحية ، ويغفر الله لهذا ذنوباً كثيرة ، وإن واحدة بأخرى ، وبالجملة ، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي صلّى الله عليه وسلم ، ليس هو العصمة بالاتفاق ، فإن أهل السنة عندهم ، لا معصوم إلا النبي صلّى الله عليه وسلم . والشيعة يقولون : لا معصوم غير النبي صلّى الله عليه وسلم والإمام .
فقد وقع الاتفاق على انتقاء العصمة المختصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة ، متضمناً للعصمة التي يختص بها النبي صلّى الله عليه وسلم ، والإمام عندهم . فلا يكون دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم له بهذا العصمة ، لا لعلي ولا لغيره . فإنه دعا لأربعة مشتركين ، لم يختص بعضهم بدعوة ، وأيضاً فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية . بل وبالتطهير أيضاً ؛ فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب ، ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعاً ولا عاصياً ، ولا متطهراً من الذنوب ولا غير متطهر . فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلاً للواجبات تاركاً للمحرمات ، وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر . كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر ، والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية ، ثم العبد يفعل باختياره ، إما الخير أو الشر بتلك القدرة . وهذا الأصل يبطل حجتهم ، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل ، حيث دعا النبي صلّى الله عليه وسلم بالتطهير .
فإن قالوا : المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم ، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة . فتبيّن أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة . والعصمة مطلقاً التي هي فعل المأمور وترك المحظور ، ليست مقدورة عندهم لله ، ولا يمكنه أن يجعل أحداً فاعلاً لطاعة ، ولا تاركاً لمعصية ، لا لنبي ولا لغيره ، ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه ، لا بإعانة الله وهدايته ، وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة . كما تقدم . ولو قدر ثبوت العصمة ، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة ، والإجماع على انتقاء العصمة في غيرهم . وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } [ 34 ] .
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } أمر لهن بأن يذكرن ولا يغفِلن ما يقرأ في بيوتهن من آيات كتابه تعالى ، وسنة نبيه اللتين فيهما حياة الأنفس وسعادتها وقوام الآداب والأخلاق . وذكر ذلك مستوجب لتصوّر عظمته ومكانته وثمرة منفعته . وذلك يجر إلى العمل به . فمن تأول : { اذْكُرْنَ } باعملن به ، أراد ذلك تعبيراً عن المسبب باسم السبب . وجوز أن يكون المعنى : اذكرن هذه النعمة حيث جعلتن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي ، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة ، حثاً على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه .
قال أبو السعود : والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها ، مع كونه مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات , ووقوعها في كل البيوت , وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير , بخلاف النزول وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل ، وتلاوة النبي صلّى الله عليه وسلم ، وتلاوتهن ، وتلاوة غيرهن ، تعليماً وتعلماً : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي : يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك أمر ونهي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ 35 ] .
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } أي : المنقادين في الظاهر لحكم الله من الذكور والإناث : { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : المصدقين بما يجب أن يصدق به في القلب : { وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ } أي : بإدامة شغف الجوارح في الطاعات : { وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } في القول بمجانبة الكذب , والعمل بتجريد الإخلاص لوجهه تعالى فلا يكون في طاعتهم رياء : { وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } أي : على البأساء والضراء والنوائب ، وعلى القيام بالعبادة والثبات عليها : { وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } أي : المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم . والخشوع : السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع ، والحامل عليه الخوف منه تعالى ومراقبته : { وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } أي : بالإحسان إلى الفقراء والبؤساء الذين لا كسب لهم ولا كاسب ، فيعطون من فضول أموالهم طاعة لله وإحساناً إلى خلقه وإتماماً للخشوع : { وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } أي : الآتين بما طلب منهم من الصيام المورث للتقوى والرحمة على من يتضور جوعاً ويتصبر فقراً : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } أي : عن إبدائها وإراءتها ، حياءً وكفاً عن مثار الشهوة المحرمة ، أو عن الحرام والفجور : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } أي : بقلوبهم وألسنتهم : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً } أي : بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة غفراناً لما اقترفوا من الصغائر ؛ لأنها مكفرة بذلك : { وَأَجْراً عَظِيماً } أي : ثواباً وافراً في الجنة ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } [ 36 ] .
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ } أي : ما صح لهما : { إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } أي : قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء ، أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما ويعصوهما ، لما في ذلك من المأثم ، كما قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيما أمرا أو نهيا : { فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } أي : جار عن قصد السبيل ، وسلك غير الهدى والرشاد ، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، حين خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ، فأبت لكونه مولى لا يماثلها في الشرف . فنزلت الآية فرضيت وتزوجها .
قال المهايمي : الظاهر أن الخطبة كانت بطريق الوجوب . ويحتمل أن تكون لا بطريق الوجوب ، لكن اعتبار العار في مقابلة خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم معصية ، لما فيه من ترجيح قول أهل العرف على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع كونه قول الله بالحقيقة .
وقال بعضهم : إنما عد التنزيل إباءها عصياناً ، وكأنه أرغمها على زواجه ، لما أوقع الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك . وهو هدم تحريم زوجة المتبنَّى ، الفاشي في الجاهلية . كما سيأتي سياقه . وذكر أيضاً أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . وكانت أول من هاجر من النساء - بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم ، فزوجها زيداً - أي : بعد فراقه زينب - فسخطت ، فنزلت الآية ، فرضيت .
وروى الإمام أحمد عن أنس قال : خطب النبي صلّى الله عليه وسلم على جليبيب رضي الله عنه ، امرأة من الأنصار إلى أبيها . فقال : حتى أستأمر أمها . فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : < نعم إذاً > . قال : فانطلق الرجل إلى امرأته ، فذكر ذلك لها ، فأبت أشد الإباء . فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره ؟ إن كان قد رضيه لكم ، فأنكحوه . قال : فكأنها جلت عن أبويها وقالا : صدقت . فذهب أبوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : إن كنت رضيته فقد رضيناه . قال صلّى الله عليه وسلم : < فإني قد رضيته > . قال : فزوجها . ثم ذهب مع النبي صلّى الله عليه وسلم في غزاة ، فقتل . ورُئي حوله ناس من المشركين قد قتلهم . قال أنس : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة . وفي رواية : فما كان في الأنصار أَيِّمٌ أنفق منها .
وذكر الحافظ ابن عبد البر في " الاستيعاب " أن الجارية لما قالت في خدرها : أتردون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره ، نزلت هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ } .
ولا يخفى شمول الآية لما ذكر ولغيره ، إلا أن تأثر هذه الآية بقصة زيد وزوجته ، الآتية ، يؤيد أنها نزلت في زوجه زينب ، لتناسق نظام الآيات حينئذ , وظهور هذه الآية كالطليعة لهذه القصة الجليلة .
وقد قدمنا مراراً أن معنى قولهم : نزلت الآية في كذا . أنها مما تشمله لعموم مساقها ؛ ولذا سأل طاوس ابن عباس عن ركعتين بعد صلاة العصر فنهاه . وقرأ له هذه الآية .
قال ابن كثير : هذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ، ولا اختيار لأحد ها هنا ، ولا رأي ولا قول ، كما قال تبارك وتعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، وفي الحديث : < والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به > . ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } ، كقوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] .
لطائف :
الأولى - قالوا على الروايات السالفة : إن ذكر الله في الآية ، مع أن الآمر لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم ، للدلالة على أنه بمنزلة من الله ، بحيث تعد أوامره أوامر الله تعالى ، أو أنه لما كان ما يفعله بأمره ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، ذكرت الجلالة وقدمت للدلالة على ذلك . انتهى .
وهذا وقوف مع ما روي ، وإلا فظاهر الآية يعم ما إذا قضى الله من كتابه ، ورسوله في سنته .
الثانية - : { الْخِيَرَةُ } هنا مصدر ، وذكروا أنه لم يجئ من المصادر على وزنه غير : طيرة .
الثالثة - جمع الضمير الأول - وهو لهم - لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي . قال الشهاب : واعتبر عمومه ، وإن كان سبب نزوله خاصاً ، دفعاً لتوهم اختصاصه بسبب النزول ، أو ليؤذن أنه كما لا يصح ما اختاروه مع الانفراد ، لا يصح مع الجمع أيضاً كيلا يتوهم أن للجمعية قوة تصححه . انتهى .
وجمع الثاني - وهو ضمير من أمرهم - مع أنه الرسول صلّى الله عليه وسلم ، أو له ولله تعالى ، للتعظيم . هذا ما أشار له القاضي وغيره . مع أنه لا يظهر امتناع عوده على ما عاد عليه الأول ، مع ترجيحه بعدم التفكيك فيه ، على أن يكون المعنى : ناشئةً من أمرهم . والمعنى دواعيهم السابقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم ، أو المعنى الاختيار في شيء من أمرهم ، أي : دواعيهم . وردّ هذا ، بأنه قليل الجدوى ، ضرورةَ أن الخيرة ناشئة من دواعيهم . . أو واقعة في أمورهم . وهو بيّن مستغن عن البيان . بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه صلّى الله عليه وسلم ، أو متجاوزين عن آمره لتأكيده وتقريره للنفي . فهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول .
قال الشهاب : وهو كلام حسن ، ثم أشار تعالى إلى ما منّ به على المسلمين من هدم تحريم زوجة الدعيّ ، والمتبنى الذي كان فاشياً في الجاهلية ، بما جرى بين زيد متبنَّى النبي صلّى الله عليه وسلم وزوجه من الفراق ، ثم تزويجه تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم إياها ، رفعاً للحرج فيه . فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً* م َّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُورا ً *الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } [ 37 - 39 ] .
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } أي : بالإسلام ومتابعة النبي صلّى الله عليه وسلم ، وهو زيد بن حارثة : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } أي : بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة ، وتزويجه بنت عمتك زينب بنت جحش .
قال ابن كثير : كان سيداً كبير الشأن جليل القدر ، حبيباً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يقال له : الحب . ويقال لابنه أسامة : الحب ابن الحب . قالت عائشة رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه . رواه الإمام أحمد { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } أي : لا تطلقها : { وَاتَّقِ اللَّهَ } أي : اخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد يؤذي قلبها ، وارعَ حق الله في نفسك أيضاً ، فربما لا تجد بعدها خيراً منها ، وكانت تتعظم عليه بشرفها ، وتؤذيه بلسانها , فرام تطليقها متعللاً بتكبرها وأذاها ، فوعظه صلّى الله عليه وسلم وأرشده إلى الصبر والتقوى : { وَتُخْفِي } أي : تضمر : { فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } أي : من الحكم الذي شرعه ؛ أي : تقول ذلك ، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه ، وأن لا منتدح عن امتثال أمر الله بنفسك ، لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك , وإنما غلبك في ذلك الحياء ، وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلقة متبناه ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَتَخْشَى النَّاسَ } أي : قالتهم وتعييرهم الجاهلي : { وَاللَّهُ } أي : الذي ألهمك ذلك وأمرك به : { أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } أي : فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلاً بتنفيذ كلمته وتقدير شرعه ، ثم زاده بياناً بقوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } أي : حاجة بالزواج : { زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي : ضيق من العار في النكاح زوجات أدعيائهم : { إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً } أي بموت أو طلاق أو فسخ نكاح { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } أي : قضاؤه واقعاً ، ومنه تزويجك زينب .
{ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ } أي : مأثم وضيق : { فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } أي : كتبه له من التزويج وأباحه له , وسن شريعة مثلى في وقوعه : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } أي : الرسل عليهم السلام . وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ، ووسع عليهم في باب النكاح وغيره ؛ فإنه كان لهم الحرائر ، والسراري ، وتناول المباحات ، والطيبات ، وبهداهم القدوة : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } أي : قضاءً مقضياً ؛ أي : لا حرج على أحد فيما أحل له ، ثم وصف شأنهم بقوله : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ } أي : أحكامه ، وأوامره ، ونواهيه ، ويصدعون بها : { وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ } أي : لا يخافون قالة الناس ، ولائمتهم ، ولا يبالون بها في تشريعه ، ولا ريب أن سيد الناس في هذا المقام ، بل وفي كل مقام ، حضرة نبينا صلّى الله عليه وسلم ، كما علم من قيامه بالتبليغ بالقوة ، والفعل أبلغ قيام : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } أي : حافظاً لأعمال خلقه . وكافياً للمخاوف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 40 ] .
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } هذا دفعٌ لتعيير من جهل ، فقال : تزوج محمد زوج ابنه زيد . فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلّى الله عليه وسلم أباً لزيد على الحقيقة ، لكنه ليس أباً لأحد من أصحابه ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ، وزيد واحد منهم ، الذين ليسوا بأولاده حقيقة ، فكان حكمه حكمهم ، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لاغير : { وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ } أي : ولكن كان رسول الله مبلغاً رسالاته : { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } بفتح التاء وكسرها ، قراءتان ؛ أي : فهذا نعته وهذه صفته ، فليس هو في حكم الأب الحقيقي ، وإنما ختمت النبوة به ؛ لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان ، وكل مكان ؛ لأن القرآن الكريم لم يدع أُمّاً من أمهات المصالح إلا جلّاها ، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها ، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين ، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من أدعى النبوة بعده ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين : { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي : فلا يقضي إلا بما سبق به علمه ، ونفذت فيه مشيئته ، واقتضته حكمته .
تنبيهان في لطائف هذه القصة ، وفوائدها الباهرات :
الأول - لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة , وزوجه زينب بنت جحش . ورواه البخاري عن أنس في التفسير . ورواه عنه في التوحيد قال : جاء زيد بن حارثة يشكو ، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يقول : < اتق الله وأمسك عليك زوجك > . وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة . فجاءه زيد يشكوها إليه . فقال له : < أمسك زوجك واتق الله > . فنزلت .
وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي . فساقها سياقاً حسناً واضحاً ، ولفظه : بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم , وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك ، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فزوجها إياه ، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلم بعدُ ، أنها من أزواجه ، فكان يستحي أن يأمره بطلاقها ، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس ، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه ، وأن يتقي الله , وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه ؛ وكان قد تبنى زيداً .
وعنده ، ومن طريق علي [ بن ] زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن علي ، قال : أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد يشكوها إليه ، وقال له : < اتق الله وأمسك عليك زوجك > . قال الله تعالى : " قَدْ أَخْبَرْتُكَ أنِّي مُزَوّجْكهَا " : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } [ الأحزاب : 37 ] .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " بعد نقل ما تقدم : ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ، ونقلها كثير من المفسرين ، لا ينبغي التشاغل بها ، والذي أوردته منها هو المعتمد . انتهى .
وقال الحافظ ابن كثير : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا أثاراً ، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً ؛ لعدم صحتها ، فلا نوردها . انتهى .
الثاني - قال القاضي عياض رحمه الله في " الشفا " في بحث أقواله صلى الله عليه وسلم الدنيوية : ولا يجوز عليه صلّى الله عليه وسلم أن يأمر أحداً بشيء أو ينهى أحداً عن شيء ، وهو يبطن خلافه ، وقد قال عليه السلام : < ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خائنة قلب ؟ > . فإن قلت : فما معنى قوله في قصة زيد : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } الآية . فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبي عليه السلام عن هذا الظاهر ، وأن يأمر زيداً بإمساكها ، وهو يحب تطليقه إياها ، ذكر عن جماعة من المفسرين ، وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد ، قال له النبي صلّى الله عليه وسلم : < أمسك عليك زوجك واتق الله > وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها .
وروى نحوه عَمْرو بن فائد [ في المطبوع : عُمَر بن قائد ] عن الزهري قال : نزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش . فذلك الذي أخفى في نفسه ، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّه مَفْعُولاً } أي : لا بد لك أن تتزوجها ، ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام ، مما كان أعلمه به تعالى ، وقوله تعالى في القصة : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر ، ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه ، ومحبة طلاق زيد لها ، لكان فيه أعظم الحرج . وكيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمته ، ولم يزل يراها منذ ولدت ، ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام ، وهو زوجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها ، وتزويج النبي صلّى الله عليه وسلم إياها ، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه . كما قال : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمًْ } ، وقال : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } قال ابن فورك : وليس معنى الخشية هنا الخوف ، وإنما معناه الاستحياء ؛ أي : يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه ، وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود ، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان . فعتبه الله تعالى على هذا ، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } [ التحريم : 1 ] ، الآية . كذلك قوله ههنا . انتهى ملخصاً .
الثالث - قال الإمام ابن حزم في " الفصل " يرد على من استدل بمثل هذه الآية على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء ، ما مثاله : وأما قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } الآية . فقد أنفنا من ذلك ؛ إذ لم يكن فيه معصية أصلاً ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به , وأن ما كان أراده زواج ، مباح له فعله , ومباح له تركه ، ومباح له طيه ، ومباح له إظهاره ، وإنما خشي النبي صلّى الله عليه وسلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا ويظنوا ظناً ، فيهلكوا ؛ كما قال عليه السلام للأنصاريين : < إنها صفية > . فاستعظما ذلك ، فأخبرهما النبي صلّى الله عليه وسلم < أنه إنما يخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئاً > . وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم ، بظن يظنونه به عليه السلام ، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب . وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه ، لما كان سلف في علمه من السعادة لأُمّنا زينب رضي الله عنها ، انتهى .
الرابع - للإمام مفتي مصر رحمه الله مقالة على هذه الآية . رأيت نقلها هنا تعزيزاً لما سلف ، وإيقافاً من أسرار الآية على نخب ما وصف . قال رحمه الله : نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش ، وهي بنت عمته - صلّى الله عليه وسلم - أميمة بنت عبد المطلب ، وقد خطبها الرسول على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت آية : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } [ الأحزاب : 36 ] ، الخ ، فلما نزلت الآية قالا : رضينا يا رسول الله . فأنكحها إياه . وساق عنه إليها مهرها ستين درهماً ، وخماراً ، وملحفة ، ودرعاً ، وإزاراً ، وخمسين مدّاً من طعام ، وثلاثين صاعاً من تمر . كذا يروى .
فنحن من جهة ، نرى أن زينب كانت بنت عمة النبي صلّى الله عليه وسلم ، ربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت مع والدها لأول الأمر ، حتى أنه اختارها لمولاه زوجة ، مع إبائها وإباء أخيها ، وعدّ إباءها هذا عصياناً ، ولا زالت كذلك حتى نزل في شأنها قرآن ، فكأنه أرغمها على زواجه ، لما ألهمه الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك ، ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلّى الله عليه وسلم ، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه ، ونضرة جدته ، وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب ، ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة ، ولكنه لم يرغبها لنفسه ، ورغبها لمولاه, فكيف يمتد نظره إليها ، ويصيب قلبه سهم حبها ، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده أنعم عليه بالعتق والحرية ؟ لم يعرف فيما يغلب على مألوف البشر ، أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب ، إلى أن تبلغ حد العشق ، خصوصاً إذا كان عشيره منذ صغره . بل المألوف زهادة الأقرباء بعضهم في بعض ، متى تعوّد بعضهم النظر إلى بعض ، من بداية السن إلى أن يبلغ حدّاً منه يجول فيه نظر الشهوة . فكيف يظن أو يتوهم أن النبي الذي يقول الله له : { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ طه : 131 ] ، يخالف مألوف العادة ، ثم يخالف أمر الله في ذلك ؟ أم كيف بالبال أن من عصم الله قلبه عن كل دنيئة ، يغلب عليه سلطانه شهوة في بنت عمته ، بعد أن زوجها بنفسه لعبد من عبيده ؟ .
ومن جهة أخرى ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلم ، وهو الرؤوف الرحيم ، لم يبال بإباء زينب ورغبتها عن زيد ، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة ، وتفسد به شؤون المعيشة . فما كان له - وهو سيد المصلحين - أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاه ، مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين .
لا ريب أننا نجد من ذلك هادياً إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها . ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها ، كان أمراً تدين به العرب ، وتعده أصلاً يرجع إليه في الشرف والحسب ، وكانوا يعطون الدعي جميع حقوق الابن ، ويُجْرُون له وعليه جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن ، حتى في الميراث وحرمة النسب ، وهي عقيدة جاهلية رديئة ، أراد الله محوها بالإسلام ، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح ولا يجرى من أحكامه إلا ماله أساس صحيح ؛ لهذا أنزل الله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [ الأحزاب : 4 ] ، ثم قال : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] ، الخ فهذا العدل الإلهي ، أن لا ينال حق الابن إلا من يكون ابناً .
أما المتبنى واللصيق فلا يكون له حق إلا حق المولى والأخ في الدين ، فحرم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعي لمن تبناه ، وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئاً من حقوق الابن لا قليلاً ولا كثيراً ، وشدد الأمر حتى قال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] ، فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر : هذا ابني . أو ينادى شخص آخر بمثل ذلك ، لا عن قصد التبني . ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك ، الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة ، كما كان معروفاً من قبل ، مضت سنة الله في خلقه ، أن ما رسخ في النفس بحكم العادة, لا يسهل عليها التفصي منه ، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات ، وأعتقه من رق الشهوات ، وجعل همته فوق المألوفات . فلا يُطْبيه - أي : يستميله - إلا الحق ، ولا يحكم عليه إلف ، ولا يغلبه عرف . ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومن يختصه الله بالتأسي به ؛ لهذا كان الأمر إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه ، أو أحل شيئاً كانت الجاهلية تحرمه ، بادر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهي عنه ، والإتيان بضده , وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به ، حتى يكون قدوة حسنة ، ومثالاً صالحاً تحاكيه النفوس ، وتحتذيه الهمم ، وحتى يخفّ وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة ، نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع بحرمة الربا ، وأول رباً وضعه ربا عمه العباس ، حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه ، فيسهل عليهم ترك مالهم ، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم .
على هذا السنن الإلهي كان عمل النبي صلّى الله عليه وسلم في أمر زينب ، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم ؛ كما دل عليه قوله تعالى : { وَتَخْشَى النَّاسَ } الخ ، فعمد النبي صلّى الله عليه وسلم ، على سنته ، إلى خرق العادة بنفسه ، وما كان ينبغي له ، ولا من مقتضى الحكمة ، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه ، أن يتزوج ، ثم يأمره بالطلاق ، ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته ، ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة ، وتمكن الاشمئزاز من النفوس ، ما لا يخفى على أحد . فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه ؛ لتسقط العادة بالفعل ، كما ألغى حكمها بالقول الفصل ؛ لهذا أرغم النبي صلّى الله عليه وسلم زينب أن تتزوج بزيد ، وهو مولاه وصفيه ، والنبي يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع ، وتنفيذ حكم إلهي .
وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يَلِنْ إباؤها الأول ، ولم يسلس قيادها ، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها ، وبأنها أكرم منه عرقاً وأصرح منه حرية ؛ لأنه لم يجر عليها رقّ كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم المرة بعد المرة ، وهو عليه السلام مع علوّ مقامه يغلبه الحياء فيتّئد ويتمكث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل ، فكان يقول لزيد : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 37 ] ، إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة ، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضّه العيش معها ، ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليمزق حجاب تلك العادة ، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقاً دون مخالفتها كما قال : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] ، وأكد ذلك بالتصريح في نفي الشبهة بقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } الآية . هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة .
ثم قال : وأما ما رووه من أن النبي مر ببيت زيد وهو غائب ، فرأى زينب ، فوقع منها في قلبه شيء ، فقال : سبحان مقلب القلوب ! فسمعت التسبيحة فنقلتها إلى زيد ، فوقع في قلبه أن يطلقها الخ ، ما حكوه - فقد قال الإمام أبو بكر بن العربي إنه لا يصح . وإن الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية ، لم يقدروا مقام النبوة حق قدره ، ولم تصب عقولهم من معنى العصمة كنهها . وأطال في ذلك ، وأذكر من كلامه ما يؤيد ذكرنا في شأن هذه الروايات .
قال ، بعد الكلام في عصمة النبي صلّى الله عليه وسلم وطهارته من العيب في زمن الجاهلية ، وبعد أن جاء الإسلام : وقد مهدنا لك روايات كلها ساقطة الأسانيد ، وإنما الصحيح منها ما روي عن عائشة أنها قالت : لو كان النبي صلّى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } يعني بالإسلام : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } فأعتقته : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } إلى قوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ } [ الأحزاب : 37 ] ، وأن رسول الله لما تزوجها قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } ، الآية .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلاً ، يقال له : زيد ابن محمد . فأنزل الله : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] ، يعني أنه أعدل عند الله . قال القاضي : وما وراء هذه الآية غير معتبر . فأما قولهم إن النبي صلّى الله عليه وسلم رآها ، فوقعت في قلبه ، فباطل . فإنه كان معها في كل وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب ، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه ، إلا إذا كان لها زوج ؟ وقد وهبته نفسها وكرهت غيره ، فلم تخطر [ في المطبوع : يخطر ] بباله . فكيف يتجدد هوى لم يكن ! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة ، وقد قال سبحانه وتعالى : { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ طه : 131 ] ، والنساء أفتن الزهرات ، وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في المطلقات ، فكيف في المنكوحات المحبوسات ؟ .
ثم ساق الكلام في نفس الآية على حسب ما صح في الواقعة ، ولولا خوف التطويل لنقلت كلامه بحروفه . سبحان الله ! كيف ساغ لقوم مسلمين أن يعتقدوا بمثل هذه الروايات ، وقد علموا أنّ [ في المطبوع : أنه ] الله لم يدع لنبيه أن يعرض عن ابن أم مكتوم ، ويتصدى لصناديد قريش طمعاً في إسلامهم ، حتى عاتبه على ذلك في قوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّى } [ عبس : 1 ] ، إلى آخر الآيات ، مع أنّه [ في المطبوع : أن ] لم ينصرف عن الأعمى إلا لاشتغاله بما كان يعدّه في نفسه خيراً للدين ، ولم يكن رغبة في جاه ، ولا شرهاً إلى مال ، ولا طموحاً إلى لذة .
فلو صحت الرواية التي زعموها في شأن زينب ، لكان العتاب على تلك التسبيحة ، بمسمع من زينب ، ثم على الزواج بعد الطلاق ، كما أشار إليه في قصة داود عليه السلام وما كان محمد صلّى الله عليه وسلم في علو مقامه ورفعة منزلته من النبوة ، لتظمح نفسه إلى التلذذ ببنت عمته وزوجة مولاه ، ولا أن يسمعها ما يدل على شغفه بها ، ولا أن تضعف عزيمته عن قمع شهوته وكبح جماحها ، وما كان رب محمد يعلل شهوته ، ويرفّه من هواه فيما يخالف أمره ، وهو الذي نهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس من زهرة الحياة الدنيا ، ومن زهرتها النساء . تسامى قدر محمد عن ذلك ، وتعالى شأن ربه عن هذا علواً كبيراً .
أما والله ! لولا ما أدخل الضعفاء أو المدلسون من مثل هذه الرواية ، ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه ؛ فإن نص الآية ظاهر جلي لا يحتمل معناه التأويل ، ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر ، والتريث به ، وأن الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه ، بأن يهدم تلك العادة المتأصلة في نفوس العرب ، وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه ؛ كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة ، وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم ، وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه ، وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابناً له ، كما تقدم بيانه ، ولم يكن يمنعه عن إبداء ما أبدى الله ، إلا حياءُ الكريم ، وتؤدة الحكيم ، مع العلم بأنه سيفعل لا محالة ، لكن مع معاونة الزمان .
ثم قال الإمام رحمه الله : أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدى أحد الأساتذة الأميركانيين ، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] ، فقال الأميركي : حتى زينب زوجة زيد بن حارثة ، يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة ، ويعرض بعشقه صلّى الله عليه وسلم لزينب على ما زعموا ، فقال له صاحبي : سبحان الله ! إنكم تشتغلون بعلوم السماوات والأرض ، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم ، مع أنكم ، في المشهور عنكم ، من أشد الناس ولعاً بالبحث في الأديان ، إن الله أمر نبيه أن يتزوج زوجة من دعاه ابناً له ، ليبيّن للناس بالفعل أنه ليس كل من لقب بالابن يكون على الحقيقة ابناً ، فإن كان المسيح قد دُعي في لسان الإنجيل بـ " الابن " فليس هذا على الحقيقة ، وإنما الابن الحقيقي من ولد من أبيه ولادة صحيحة ، إن في ذلك لذكرى للعالمين . والله أعلم . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
الخامس - روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : < اذهب فاذكرها عليّ > . فانطلق حتى أتاها وهي تخمّر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها . فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت : يا زينب ! أبشري . أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن ، ولقد رأيتنا حين دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم ، أطمعنا عليها الخبز واللحم .
قال الحافظ ابن حجر : وهذا أيضاً من أبلغ ما وقع في ذلك : وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب ، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهراً بغير رضاه ، وفيه أيضاً اختبار ما كان عنده منها ؛ هل بقي منه شيء أم لا ؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة ، وأن من وكَل أمره إلى الله عز وجل ، يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى . انتهى . أي : فقد حفظ الله شرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى . فاختار لها ما شرّفها به وأسمى مكانتها ، عنايةً منه ورحمة للأمة أيضاً .
السادس - روى ابن جرير عن الشعبي قال : كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلّى الله عليه وسلم إني لأُدلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .
وروى البخاري بعضه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن زينب كانت تفخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات . قال ابن القيم في " زاد المعاد " : ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته ، وتوفيت في أول خلافة عُمَر بن الخطاب .
وكانت [ في المطبوع : كان ] أولاً عند زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبناه ، فلما طلقها زوجه الله إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوه . انتهى .
السابع - قالوا : لا ينقض عموم قوله تعالى : { مِّن رِّجَالكُمْ } بكونه صلّى الله عليه وسلم أباً للطاهر والقاسم وإبراهيم ؛ لأنهم لم يبلغوا الحلم ، ولو بلغوا لكانوا رجالاً له ، صلّى الله عليه وسلم ، لا لهم . انتهى .
وهذا من التعمق في البحث ، وإلا فدلالة السياق أوضح من تخصيص الإضافة .
قال ابن كثير : لم يعيش له عليه الصلاة والسلام ولد ذكر ، حتى بلغ الحلم ؛ فإنه صلّى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها ، فماتوا صغاراً ، وولد له صلّى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية ، فمات أيضاً رضيعاً ، وكان له صلّى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، رضي الله عنهن أجمعين ، فمات في حياته صلّى الله عليه وسلم ثلاث ، وتوفيت فاطمة بعده بستة أشهر . انتهى .
ثم أمر تعالى بكثرة ذكره ، والعناية بشكره لما مَنّ به من هدايته ، إلى نور شريعته حتى ينسى عار الكفر وجاهليته ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ 41 - 42 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ } أي : بما هو أهله من صنوف التحميد والتمجيد : { ذِكْراً كَثِيراً } أي : يعم الأوقات والأحوال . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله تعالى لم بفرض على عباده فريضة ، إلا جعل لها حدّاً معلوماً ، ثم عذر أهلها في حال العذر ، غير الذكر ، فإن الله تعالى لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه ، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله ، وأمرهم به في الأحوال كلها . فقال تعالى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] ، وقال : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } ، أي : يالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : في أول النهار وآخره ، ليسري أثر التسبيح فيهما بقية النهار والليل ؛ لأن ذكره وتسبيحع ، يفيدان تنوير القلوب وقت خلوّها عن الأشغال .
قال الزمخشري : والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة ، ليبين فضله على سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته ، عما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ومثال فضله على غيره من الأذكار ، فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي ، والطهر من أرجاس المآثم ، على سائر أوصافه ، من كثرة الصلاة والصيام ، والتوفر على الطاعات كلها . ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره ، تكثير الطاعات والإقبال على العبادات ؛ فإن كل طاعة وكل خير ، من جملة الذكر . ثم خص من ذلك التسبيح بكرةً وأصيلاً ؛ وهي الصلاة في جميع أوقاتها ؛ لفضل الصلاة على غيرها ، أو صلاة الفجر والعشاءين ؛ لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [ 43 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين ؛ فإن صلاته تعالى عليهم ، مع عدم استحقاقهم لها وغناه عن العالمين ، مما يوجب عليهم المداولة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسبيحه . أفاده أبو السعود .
وقال ابن كثير : هذا تهييج إلى الذكر ؛ أي : أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم ؛ كقوله عز وجل : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 151 - 152 ] . انتهى .
والصلاة : الرحمة والعطف . والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ويترأف ، حيث يدعوكم إلى الخير ، ويأمركم بإكثار الذكر ، والتوفر على الصلاة والطاعة : { لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ } أي : ظلمة الكفر والمعاصي والشبهات ومساوئ العادات : { إِلَى النُّورِ } أي : نور الإيمان والسنة والطاعة ، ومحاسن الأخلاق : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي : حيث لم يتركهم يتخبطون في عمياء الضلالة والجهالة ، بل أنار لهم السبل وأوضح لهم المعالم . وذكر الملائكة تنويهاً بشأنهم وشأن المؤمنين ، وأن للملأ الأعلى عناية وعطفاً وترحماً ، بالاستغفار والدعاء والثناء على الجميل ؛ كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } [ غافر : 7 - 9 ] الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [ 44 - 46 ] .
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } أي : يحيون يوم لقائه ، بالموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة بسلام ؛ تبشيراً بالسلامة من كل مكروه وآفة ، والإضافة إما من إضافة المصدر إلى المفعول ، والمحيي لهم ، إما الله جل جلاله ، لقوله : { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [ يس : 58 ] ، تعظيماً لهم وتفضلاً منه عليهم ، كما تفضل عليهم بصنوف الإكرام ، وإما الملائكة لآية : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 23 - 24 ] ، أو من إضافة المصدر لفاعله ؛ أي : تحية بعضهم بعضاً بالسلام ، وقد يستدل له بآية : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [ يونس : 10 ] ، { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } يعني الجنة وما حوته ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي : على من بعثتَ إليهم بالبلاغ : { وَمُبَشِّراً } أي : بالثواب لمن آمن : { وَنَذِيراً } أي : من النار لمن كفر : { وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ } إلى دينه وطاعته والإقرار بوحدانيته : { بِإِذْنِهِ } أي : بأمره ووحيه : { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي : يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية ، ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ 47 - 49 ] .
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } أي : ثوابا عظيماً وأجراً جزيلاً : { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : فيما يرجفون به ، ويعيبون من جاهليتهم وعوائدهم ، بإلانة الجانب في التبليغ ، والمسامحة في الإنذار والتمهل في الصدع بالحق : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي : إيصال الضرر إليهم ، مجازاةً لفعلهم . بل اعف واصفح . أو معناه : دع ما يؤذونك به بسبب صدعك إياهم . فالمصدر مضاف إلى الفاعل على الأول ، وإلى المفعول على الثاني : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } أي : موكولاً إليه ، وكفيلاً فيما وعدك من النصر ، ودحر ذوي الكفر .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : تزوجتموهن : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أي : تجامعوهن : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي : تستوفون عددها من إحصاء أقراء ، ولا أشهر تحصونها عليهن : { فَمَتِّعُوهُنَّ } أي : أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين مال : { وَسَرِّحُوهُنَّ } أي : خلوا سبيلهن بإخراجهن من منازلكم ؛ إذ ليس لكم عليهن عدة : { سَرَاحاً جَمِيلاً } أي : من غير ضرار ولا منع حق .
تنبيه :
قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة :
منها إطلاق النكاح على العقد وحده . وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منه ، وقد اختلفوا في النكاح ؛ هل هو حقيقة في العقد وحده ، أو في الوطء ، أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال ، واستعمال القرآن ، إنما هو في العقد والوطء بعده ، إلا في هذه الآية ؛ فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } .
وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها ، وقوله تعالى : { الْمُؤْمِنَاتِ } خرج مخرج الغالب ؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك ، بالاتفاق .
وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن المسيب والحسن البصري وزين العابدين ، وجماعة من السلف بهذه الآية ، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ، لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } بعقب النكاح بالطلاق ، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله . وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، وطائفة كثيرة من السلف والخلف ، وأيده ما روي مرفوعاً < لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك > رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنهما ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم : < لا طلاق قبل النكاح > . وقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } هذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها ، لا عدة عليها . فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت ، ولا يتسثنى من هذا إلا المتوفى زوجها ؛ فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً ، وإن لم يكن دخل بها ، بالإجماع أيضاً .
وقوله تعالى : { فَمَتِّعُوهُنَّ } المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى ، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها . قال تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، وقال عز وجل : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] .
وعن ابن عباس : إن كان سمى لها صداقاً ، فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقاً ، فأمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل . انتهى .
وعليه ، فالآية في المفوضية التي لم يُسم لها . وقيل : الآية عامة . وعليه ، فقيل الأمر للوجوب ، وأنه يجب مع نصف المهر المتعة أيضاً . ومنهم من قال للاستحباب ، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء .
لطيفة :
قال الرازي : وجه تعلق الآية بما قبلها ، هو أن الله تعالى في هذه السورة ، ذكر مكارم الأخلاق ، وأدّب نبيه على ما ذكرناه . لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل ، فكلما ذكر للنبي مكرمةً ، وعلمه أدباً ، ذكر للمؤمنين ما يناسبه . فكما بدأ الله في تأديب النبي صلّى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله ، بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وثنى بما يتعلق بجانب العامة بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] ، كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] ، ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ثم ، كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ، ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم ، فقال بعد هذا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } [ الأحزاب : 53 ] ، وبقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 50 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي : مهورهن فإنها أجور الأبضاع . وإيتاؤها ، إما إعطاؤها معجلة ، أو تسميتها في العقد . وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم ، وما لا يعرف بينهم غيره .
قال ابن كثير : كان النبي صلّى الله عليه وسلم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشّاً ، وهو نصف أوقية فالجميع خمسمائة درهم ، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهَرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار ، وإلا صفية بنت حُيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها ، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها ، رضي الله عنهن . انتهى .
وتقييد الإحلال له عليه الصلاة والسلام بإعطاء المهور ، ليس لتوقف الحل عليه ، ضرورةَ أنه يصح العقد بلا تسمية . ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه . بل لإيثار الأفضل والأولى له عليه الصلاة السلام ، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية ، في قوله تعالى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ } فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها .
قال ابن كثير : أي : وأباح لك التسرّي مما أخذت من المغانم ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما ، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليه السلام ، وكانتا من السراري ، رضي الله عنهما : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي : من مكة ، إلى المدينة ، والتقييد لبيان الأفضل كما تقدم ، ولهم في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ، عدة أوجه . فيها اللطيف والضعيف ، وعندي أن الإفراد والجمع تابع لمقتضى السبك ، والنظم ورقة التعبير ، ورشاقة التأدية ؛ كما يدريه من يذوق طعم بلاغة القول ، ويشرب من عين فصاحته ، فالإفراد فيهما هنا أرق وأعذب من الجمع ، كما أن في آية : { بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ } [ النور : 61 ] ، أمتن وأبلغ من الإفراد ، ولكل مقام مقال ، ولكل مجال حال : { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي : يتزوجها ويرغب في قبول هبة نفسها بدون مهر ، وقد سمى من الواهبات ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم رضي الله عنهن .
وفي البخاري عن عائشة قالت : كنت أغار في اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم وأقول : أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } [ الأحزاب : 51 ] الآية - قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .
وعن ابن عباس ، أنه لم يكن عنده صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له ؛ أي : أنه لم يقبل ذلك وإن كان مباحاً له ؛ لأنه مردود إلى إرادته . والله أعلم .
قال ابن القيم : وأما من خطبها صلّى الله عليه وسلم ولم يتزوجها ، ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها ، فنحو أربع أو خمس . وقال بعضهم : هن ثلاثون امرأة . وأهل العلم بالسيرة وأحواله صلّى الله عليه وسلم ، لا يعرفون هذا بل ينكرونه .
قال أبو السعود : وإيراده عليه الصلاة والسلام في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات ، للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه السلام حسب اختصاصها به كما ينطبق به قوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ } أي : خلص لك إحلالها خالصة أي : خلوصاً ، فهي مصدر مؤكد ، أو صفته أي : هبة خالصة : { مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : فإنهم لا تحل لهم الموهوبة إلا بوليّ ومهر ، خوف أن يستسري النساء وينتشر الفحش بدعوى ذلك . قال قتادة : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل ، بغير وليّ ولا مهر إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } أي : على المؤمنين : { فِي أَزْوَاجِهِمْ } أي : في حلّها من الوليّ والشهود والمسمى : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي : في حلّها من توسيع الأمر فيها .
وقال السيوطي في " الإكليل " : فسر بالاستبراء ، وليس له في القرآن ذكر إلا ها هنا . : { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي : ضيق . واللام متعلقة بـ : { خالصة } أو بفعل يفهم مما قبله ؛ أي : قد علمنا ما فرضنا عليهم ، وأسقطناه عنك لرفع الحرج عنك والضيق ، فيما اقتضته الحكمة والعناية بك : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : يغفر ما يعسر التحرز عنه ، ويرحم فيما يوسع في مواقع الحرج .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً } [ 51 ] .
{ تُرْجِي } بهمز وغير همز ؛ أي : تترك وتؤخر : { مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } أي : من هؤلاء النساء اللاتي أحللناهن لك ، فلا تتزوج بهن : { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء } أي : تضم من تشاء منهن بالتزويج : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } أي : اخترت تزوجها بعد إرجائها : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } أي : في أن تضمها إليك . ومن رأي [ في المطبوع : رأى ] بعضهم أن الضمير في : { مِنْهُنَّ } يعود إلى الواهبات . قال الشعبي : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم : فدخل ببعض وأرجأ بعضهن ، لم ينكحن بعده ، منهن أم شريك ، واستؤنس بحديث عائشة عند [ في المطبوع : عن ] أحمد أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتقول : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فلما أنزل الله : { تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } الآية قالت : إني أرى ربك يسارع لك في هواك . ورواه البخاري أيضاً كما تقدم . وذهب آخرون إلى أن معنى الآية : تطلّق وتخلّي سبيل من شئت من نسائك ، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق . وعن قتادة : أنها في القَسم ، وأن له أن يقسم لمن شاء ، ويدعه لمن شاء ، مع هذا فلم يكن صلّى الله عليه وسلم يدع القَسم . وقد احتج بالآية من ذهب إلى أن القسم لم يكن واجباً عليه صلّى الله عليه وسلم . والتحقيق أن الآية عامة في ذلك كله ، وأن ما روي مما ذكر ، فمن باب الاكتفاء من العام على بعض أفراده ، أو من رأي ذهب إليه قائله . وقوله تعالى : { ذَلِكَ } أي : ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك ، ورفع الحرج عنك فيه : { أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي : تطيب أنفسهن ، إن علمن أن ذلك من الله تعالى : { وَلَا يَحْزَنَّ } لمخالفة الإرجاء : { وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : لأنه حكم ، كلهن فيه سواء ، فإن سويت بينهن وجدن ذلك تفضيلاً ، وإلا علمن أنه بحكم الله تعالى ، فتطمئن به نفوسهن : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : من الميل إلى البعض منهن دون البعض بالمحبة : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً } أي : بذات الصدور : { حَلِيماً } أي : ذا حلم عن عباده فيعفو ويغفر . وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل . ثم يقول : < اللهم ! هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك > . يعني القلب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } [ 52 ] .
{ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ } أي : من بعد النساء اللاتي نص إحلالهن لك في الآية قبلُ . وانظر إلى تكريمه تعالى لنبيه صلوات الله عليه حيث لم يقل له : وحرم عليك ما وراء ذلك . كما خاطب المؤمنين بنظيره ، لتعلم كيف تتفاوت الناس بالخطاب تفاوتهم في رفيع الدرجات .
ولم أر أحداً نبه على ذلك ، فاحرص عليه فيه , وفي أمثاله .
قال مجاهد في الآية : أي : لا يحل لك يهودية ولا نصرانية ولا كافرة : { وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي : فلك التسري بهن وإن كن كتابيات أو مشركات ؛ لأنه ليس لهن ما للحرائر : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } أي : حيث أحل ما أحل , وحظر ما حظر للنبي وللأمة ، في بيانٍ لا خفاء معه , وحكمة لا حيف معها . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية هو حظر نكاح ما بعد التسع اللاتي عنده صلّى الله عليه وسلم, وأن التسع نصابه كالأربع لغيره ، وأن ذلك جزاء لاختيارهن إياه لما خيّرهن ؛ كما تقدم في الآية ، ثم قالوا إنه تعالى رفع الحرج عنه في ذلك ، ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج ، لكنه لم يفعله إتماماً للمنّة عليهن . ومنهم من قال إنها محكمة . وكل ذلك لا برهان معه ، وتفكيك للمعنى ، وغفلة عن سر تكريمه صلوات الله عليه بمقصود الخطاب , وقد وهم في هذا المعنى زياد - رجل من الأنصار - فرده أُبي رضي الله عنه ، إلى صواب المعنى ؛ وذلك فيما رواه عبد الله ابن أحمد وابن جرير أن زياداً قال لأُبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم توفين ، أما كان له أن يتزوج ؟ فقال : وما يمنعه من ذلك ؟ قال : قوله تعالى : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ } فقال له : إنما أحل الله له ضرباً من النساء . فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } ، - إلى قوله - : { إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ثم قيل له : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ } .
وروى الترمذي عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، بقوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ } الآية . فحرم كل ذات دين غير الإسلام .
والمطلع على ما كتبوه هنا ، يأخذه العجب من البعد عن مقصدها . فالحمد لله على إلهام الحق وتعليمه .
تنبيه :
قال في " لباب التأويل " : في قوله تعالى : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } دليل على جواز النظر من الرجل [ إلى ] التي يريد نكاحها من النساء ، ويدل عليه ما روي عن جابر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إذا خطب أحدكم المرأة ، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها ، فليفعل > . أخرجه أبو داود .
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار . فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم : < انظر إليها فإن في أَعْيَن الأنصار شيئاً > . قال الحميدي : يعني هو الصغر .
وعن المغيرة بن شعبة قال : خطبتُ امرأةً . فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلم : < هل نظرت إليها ؟ > قلت : لا . قال : < فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما > . أخرجه الترمذي وحسنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } [ 53 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } هذا خطاب لبعض الصحب ، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلّى الله عليه وسلم بغير إذن , كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام . و : { إِلَى } متعلق بـ : { يُؤْذَنَ } بتضمين معنى الدعاء ، للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة ، وإن تحقق إذن ؛ كما يشعر به قوله تعالى : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي : غير منتظرين وقته ، وإدراكه .
قال ابن كثير : أي : لا ترقبوا الطعام إذا طبخ ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه . وهذا دليل على تحريم التطفل ؛ وهو الذي تسميه العرب الضيفن ، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين ، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها . انتهى .
وأقول : قد يكون معنى قوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } نهياً لهم أن يدخلوا - مع كونهم مأذوناً لهم ومدعوين - قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه ، عجلة وانتظاراً لنضج الطعام . فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة ، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة ، إلا ضيق صدر الداعي وأهله ، وشغل وقته وتوليد حديث ، وتكلفاً لكلام لا ضرورة له ، وإطاقة زمن الحجاب على نسائه ، وما ذلك إلا من شؤم التعجيل قبل الوقت ، ولذلك قال تعالى : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } أي : إذا دعيتم إلى الدخول ، في وقته ، فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده . فـ : { لَكِنْ } استدراك من النهي عن الدخول ، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوة بتعليم أدب آخر ، وإفادة شرط مهم ، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حيناً ووقتاً يجب أن يراعى زمنه ، وهذا المنهي عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين ، ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم والسنة المطهرة ؛ وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات ، مما يغم نفس الداعي وأهله ، ويذهب لهم جانباً من عزيز وقتهم عبثاً إلا في سماع حديثهم البارد ، وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا ، فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة ، وحكم مهم ، وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدّر ، وحينئذ فكلمة : غير , حال ثانية من الفاعل مقيدة للدخول المأذون فيه ، وهو أن يكون وقت الدعوة ، لا قبله . والتقدير : إلا مأذونين في حال كونكم غير ناظرين إناه . ولذا قيل : إنها آية الثقلاء . إذا علمت هذا ، فالأجدر استنباط حظر التطفل من صدر الآية ، وهو : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } ومن قوله : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } لا من قوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } لأنه في معنى خاص ، وهو ما ذكرناه , والله أعلم .
فائدة :
" الإني " : مصدر . يقال أنى الشيء يأنى أنياً بالفتح . و " أنى " : مفتوحاً مقصوراً .
و " إنى " : بالكسر مقصوراً ، أي : حان وأدرك . قال عَمْرو بن حسان :
~تَمَخَّضَتِ الْمَنُوْنَ لَهُ بِيَوْمٍ أَنَىْ وَلِكُلِّ حَاْمِلَةٍ تَمَاْمُ
ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } أي : تفرقوا ولا تمكثوا : { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : لحديث بعضكم بعضاً ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ناظرين ، أو مقدر بفعل ؛ أي : لا تمكثوا مستأنسين : { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي : المنهي عنه في الآية : { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي : لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه : { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } أي : من الإشارة إليكم بالانتشار : { وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } يعني أن انتشاركم حق . فينبغي أن لا يترك حياء ، كما لا يتركه الله ترك الحييّ ، فأمركم به . ووضع الحق موضع الانتشار ، لتعظيم جانبه . وقرئ : { لَا يَسْتَحِي } بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } الضمير لنساء النبي ، المدلول عليهن بذكر بيوته عليه السلام : { مَتَاعاً } أي : شيئاً يتمتع به : { فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ } أي : ستر : { ذَلِكُمْ } أي : ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن ، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول ، وسؤال المتاع من وراء حجاب : { أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي : من الخواطر الشيطانية ، في الميل إليهن وإليكم ؛ يعني ويجب التطهر عنه ، لما فيه من إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ؛ ولذا قال : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } أي : أن تفعلوا فعلاً يتأذى به في حياته : { وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد وفاته لا إلى انقضاء العدة بل : { أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } أي : أمراً عظيماً وخطباً هائلاً ، لا يقادر قدره ؛ لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلّى الله عليه وسلم .
قال أبو السعود : وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم ، وإيجاب حرمته حياً وميتاً ، ما لا يخفى ؛ ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 54 ] .
{ إِن تُبْدُوا شَيْئاً } أي : مما لا خير فيه ، كنكاحهن على ألسنتكم ، على ما روي عن بعض الجفاة : { أَوْ تُخْفُوهُ } أي : في نفوسكم : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي : فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة , وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود ، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد .
قال ابن كثير : أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أزواجه ، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده ؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة ، وأمهات المؤمنين ، واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته ؛ هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين . مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله : { مِنْ بَعْدِهِ } أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في حلها لغيره ، والحالة هذه نزاعاً , والله أعلم . انتهى .
تنبيه :
في " الإكليل " : هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين ، بعد أن كان النساء لا يحتجبن , وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن , وفيها تحريم أذى النبي صلّى الله عليه وسلم بسائر وجوه الأذى . انتهى .
و قال ابن كثير : هذه آية الحجاب ؛ وفيها أحكام ، وآداب شرعية , وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه ، كما روى البخاري عنه أنه قال : < يا رسول الله ! يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ! > فأنزل الله آية الحجاب .
وكان يقول لو أطاع فيكن ، ما رأتكن عين . وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، في قول قتادة والواقدي وغيرهما . وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط , أن ذلك كان في سنة ثلاث . فالله أعلم .
وروى البخاري عن أنس قال : لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام ، قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقوا ، فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية .
ورواه مسلم أيضاً والنسائي .
وعن أنس أيضاً قال : بني على النبي صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو . فقلت : يا رسول الله ! ما أجد أحداً أدعوه . قال : < ارفعوا طعامكم > . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : < السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته > . قالت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . كيف وجدت أهلك ؟ يا رسول الله ! بارك الله لك .
فتقرى حجر نسائه كلهن . يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون - وكان النبي صلّى الله عليه وسلم شديد الحياء - فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة . فما أدري آخبرته أو أُخبر ، أن القوم خرجوا . فرجع ، حتى إذا وضع رجله في أسكفّة الباب داخلة ، والأخرى خارجة ، أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب . انفرد به البخاري ، وأخرج نحوه مسلم والترمذي ؛ كما بسطه ابن كثير . قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : قال عياض : فرض الحجاب مما اختصصن به ، فهو فرض عليهن بلا خلاف ، في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات ، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز . ثم استدل بما في " الموطأ " أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها ، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يُستر شخصها . انتهى .
وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن ، وقد كن بعد النبي صلّى الله عليه وسلم يحججن ويطفن ، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث ، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص ، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء ، لما ذكر له طواف عائشة : أقبل الحجاب أو بعده ؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب . انتهى .
ومما يؤيده ما رواه البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها . قالت : خرجت
سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة ، لا تخفى على من يعرفها . فرآها عُمَر بن الخطاب . فقال : يا سودة ! أما والله ! ما تخفين علينا . فانظري كيف تخرجين . قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى وفي يده عرقٌ ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ! إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا . قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه ، فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجنّ لحاجتكن .
قال الكرماني : فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء - أي : من البخاري - أنه كان قبل الحجاب . فالجواب لعله وقع مرتين .
قال ابن حجر : قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني .
والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي ، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام : احجب نساءك ، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب , ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً ، ولو كن مستترات ، فبالغ في ذلك فمنع منه ، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن ، دفعاً للمشقة ، ورفعاً للحرج ، انتهى بحروفه . وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين ، مع أن الأمس به شرح الصحيح ، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية ، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف ، فآثرنا توسيع الكلام لتقيق المقام . زادنا الله من فضله علماً ، إنه هو العليم العلام .
ثم يبين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } [ 55 ] .
{ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ } أي : لا حرج ولا إثم عليهن ، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمين . قال الطبري : وعُني بـ : إخوانهن وأبناء إخوانهن ؛ إخوتهن ، وأبناء إخوتهن ، وخرج معهم جمع ذلك ، مخرج جمع فتى إذا جمع : فتيان ، فكذلك جمع أخ إذا جمع : إخوان ، وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع فتية .
تنبيهات :
الأول - قيل : إنما لم يذكر العم والخال ، لأنهما بمنزلة الوالدين ، ولذلك سمي العم أيضاً أباً في قوله تعالى : { وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] ، أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات ، فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين ، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة ؛ لما أنهن عمات لأبناء الإخوة ، وخالات لأبناء الأخوات . وقيل : لأنه كره ترك الاحتجاب منهما ؛ مخافة أن يَصِفَاهُن لأبنائهما .
وهو رأي عِكْرِمَة والشعبي ، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عِكْرِمَة والشعبي أنه قال لهما : ما شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قالا : لأنهما ينعتانها لأبنائهما . وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها .
قال الشهاب : لكنه قيل عليه ، إن هذه العلة ، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما وهما يجوز لهما التزوج بها ، جار في النساء كلهن ، ممن لم يكن أمهات محارم . فينبغي التعويل على الأول . انتهى .
والتحقيق في رده ما رواه البخاري في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس ، بعد ما أنزل الحجاب ، فقلت : لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي صلّى الله عليه وسلم . فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس . فدخل علي النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقلت له : يا رسول الله ! إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن . فأبيت أن آذن حتى أستأذنك ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : < وما منعك أن تأذني ؟ عمك > . قلت : يا رسول الله ! إن الرجل ليس هو أرضعني ، لكن أضعتني امرأة أبي القعيس ، فقال : < ائذني له فإنه عمك ، تربت يمينك > .
قال عروة : فلذلك كانت عائشة تقول : حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب . انتهى . فبقوله صلّى الله عليه وسلم : < ائذني له فإنه عمك > مع قوله في الحديث الآخر < العم صنو الأب > يرد على عِكْرِمَة والشعبي .
الثاني - قيل : أريد بقوله تعالى : { وَلاَ نِسَائِهِنَّ } المسلمات ، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم . وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات . وإنما قال : { وَلاَ نِسَائِهِنَّ } لأنهن من أجناسهن .
الثالث - استدل بعموم قوله تعالى : { وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها . وذهب قوم إلى أنه كالأجانب . والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد ، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور .
الرابع - قال السيوطي في " الإكليل " : استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها ، على تحريم نظرهما إليهن ، فكانا لا يدخلان عليهن : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } أي : أن تتعدين ما حدّ لكُنّ ، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن ، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء . وقال الرازي : أي : واتقينه عند المماليك . قال : ففيه دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور . وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } أي : فهو شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككن الحجاب لمن أبيح لكن تركه ، وغير ذلك من أموركن ، فاحذرن أن تلقينه ، وهو شاهد عليكن بمعصيته ، وخلاف أمره ، ونهيه ، فتهلكن . قال الرازي : هذا التذليل في غاية الحسن في هذا الموضع ، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم ، فقال : إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض ، فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ 56 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } قال الرازي : لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان ، وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراماً ، كمّل بيان حرمته ، وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين : حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ } [ الأحزاب : 53 ] ، وحالة يكون في ملأ . والملأ إما الملأ الأعلى ، وإما الملأ الأدنى ، أما في الملأ الأعلى فهو محترم ؛ فإن الله وملائكته يصلون عليه . وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } . انتهى .
وقد روى البخاري عن أبي العالية قال : صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة . وصلاة الملائكة الدعاء . وقال ابن عباس : يصلون يبرّكون ؛ أي : يدعون له بالبركة . فيوافق قول أبي العالية ، لكنه أخص منه . وبالجملة ، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة ، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر ، وقد أطنب الإمام ابن القيم في " جلاء الأفهام " في مبحث معنى الصلاة ، وأطال فأطاب . فلينظر .
وفي البخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، أنه قيل : يا رسول الله ! أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : < قولوا : اللهم ! صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم ! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد > [ في المطبوع : اللهم ! صلي ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه ، عن أبي مسعود البدري , أنهم قالوا : يا رسول الله ! أما السلام فقد عرفناه . فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ فقال : < قولوا : اللهم صل على محمد , وعلى آل محمد > . وذكره . ورواه الشافعي في مسنده عن أبي هريرة بمثله .
ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه الله ، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير . فإن تركه لم تصح صلاته ، ووافقه الإمام أحمد في رواية . وقال به إسحاق بن راهويه ، والإمام ابن المواز المالكي وغيرهم ، كما بسطه ابن القيم في " جلاء الأفهام " وابن كثير في " التفسير " وقد تقصّيا ، عليهما الرحمة ، أيضاً الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها ، فأوسعا . فليرجع إليهما .
تنبيهات :
الأول - تدل الآية على وجوب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم مطلقاً ؛ لأن الأصل في الأمر للوجوب . فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة ، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس . وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة ، ثم هي مستحبة في كل حال . وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر . وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب . قال ابن كثير : وهذا قول غريب ؛ فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة ؛ فمنها واجب ، ومنها مستحب على ما نبينه :
فمنه بعد النداء للصلاة ، لحديث < إذا سمعتم مؤذناً فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا عليّ > الحديث .
ومنه عند دخول المسجد ؛ لحديث كان صلّى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ، ثم قال : < اللهم ! اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك > . وإذا خرج صلى على محمد وسلم . ثم قال : < اللهم ! اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك > .
ومنه الصلاة ، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها ، وتجب في الثاني .
ومنه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية ، لقول أبي أمامة : من السنة ذلك . وهذا من الصحابي في حكم المرفوع ، على الصحيح .
ومنه ختم الدعاء ، فيستحب الصلاة فيه على النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومن آكد ذلك دعاء القنوت .
ومنه يوم الجمعة ، وليلتها ، فيستحب الإكثار منها فيهما ، ومنه في خطبة يوم الجمعة ، يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها . وهو مذهب الشافعي وأحمد .
ومنه عند زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم لحديث < ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام > تفرد به أبو داود ، وصححه النووي في " الأذكار " . وعن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال : إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : < لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي حيثما كنتم . فإن صلاتكم تبلغني > .
قال ابن كثير : فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة ، فنهاهم . وقد روي أنه رأى رجلاً ينتاب القبر . فقال : يا هذا ! ما أنت ورجل بالأندلس ، ومنه إلا سواء ؛ أي : الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ، وقد استحب أهل الكتاب أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم كلما كتبه . وقد روي في حديث < من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ، ما دام اسمي في ذلك الكتاب > .
قال الحافظ ابن كثير : وليس هذا الحديث بصحيح . بل عده الحافظ الذهبي موضوعاً . وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه رأى بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، كثيراً اسم النبي صلّى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة . قال : وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظاً .
الثاني - الصلاة على غير الأنبياء ، إن كانت على سبيل التبعية ، كنحو : اللهم صل على محمد وآله وأزواجه ، فهذا جائز إجماعاً ، وأما استقلالاً فجوزه قوم الآية : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] ، وآية : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 157 ] ، وآية : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 103 ] ، ولحديث كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : < اللهم ! صل عليهم > . فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال : < اللهم ! صل على آل أبي أوفى > .
وكرهه قوم ، لكون صيغة الصلاة صارت شعاراً للأنبياء إذا ذكروا ، فلا يلحق بهم غيرهم . فلا يقال : قال عمر صلى الله عليه ، كما لا يقال : قال محمد عز وجل ، وإن
كان عزيزاً جليلاً ؛ لكون هذا من شعار ذكر الله عز وجل ، وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم .
وقال ابن حجر : إن ذلك وقع من الشارع ، ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه ، ولم يثبت عنه إذن في ذلك . انتهى .
وقد يقال : كفى في المروي المأثور المتقدم إذناً . والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب . على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر ، ولا حظر هنا . فتدبر .
وأما السلام ، فقال الجويني : هو في معنى الصلاة ، فلا يستعمل في الغائب ، ولا يفرد به غير الأنبياء ، فلا يقال : علي عليه السلام . وساء في هذا الأحياء والأموات . وأما الحاضر فيخاطب به ، فيقال : سلام عليك ، وسلام عليكم ، أو السلام عليك أو عليكم ، وقد غلب - كما قال ابن كثير - على كثير من النساخ للكتب ، أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال : عليه السلام . من دون سائر الصحابة . قال : والتسوية بينهم في ذلك أولى . انتهى .
والخطب سهل . ومن رأى المروي في هذا الباب ، علم أن الأمر أوسع من أن يحرج فيه ، على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف ، وفيه بحث في الأصول .
الثالث - قال النووي : إذا صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم ، فليجمع بين الصلاة والتسليم . فلا يقتصر على أحدهما ، فلا يقول : صلى الله عليه . فقط . ولا : عليه السلام . فقط .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } فالأولى أن يقال صلّى الله عليه وسلم تسليماً .
انتهى .
الرابع - قال الرازي : إذا صلى الله وملائكته عليه ، فأي حاجة إلى صلاتنا ؟ نقول : الصلاة عليه ليس لحاجته إليها ، وإلا فلا حاجة إلى الصلاة الملائكة مع صلاة الله عليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه ، كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ، ولا حاجة له إليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه منا ، رحمة بنا ، ليثيبنا عليه ؛ ولهذا جاء في الحديث < من صلى علي مرة ، صلى الله عليه بها عشراً > . انتهى . وكان سبق لي ، من أيام معدودات أن كتبت في مقدمة مجموعة الخطب في سر الصلاة عليه ، ما مثله : ويسن يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم ؛ ليذكر الرحمة ببعثته ، والفضل بهدايته ، والمنة باقتفاء هديه ، وسنته ، والصلاح الأعظم برسالته ، والجهاد للحق بسيرته ، ومكارم الأخلاق بحكمته ، وسعادة الدارين بدعوته ، صلّى الله عليه وسلم ، وعلى آله ، ما ذاق عارفٌ سرَّ شريعته ، وأشرق ضياء الحق على بصيرته ، فسعد في دنياه وآخرته .
الخامس - قال الرازي : ذكر : { تَسْلِيْماً } للتأكيد ليكمل السلام عليه ، ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد ؛ لأنها كانت مؤكدة بقوله : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } انتهى .
وقيل : إنه من الاحتباك . فحذف : عليه ، من أحدهما . والمصدر ، من الآخر .
قال القاضي : قيل معنى : { وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } أي : انقادوا لأوامره . فالسلام من التسليم والانقياد .
السادس - قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام ، وأمر المؤمنين بها وبالسلام ، فقلت : يحتمل أن يكون السلام له معنيان : التحية والانقياد . فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم . والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد ، فلم يضف إليهم ، دفعاً للإيهام . والعلم عند الله . انتهى .
وقال الشهاب : قد لاح لي في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته ، نكتة سرية ؛ وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه . فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، والأذية إنما هي من البشر ، وقد صدرت منهم ، فناسب التخصيص بهم والتأكيد . انتهى . ولما أمر تعالى بالصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم التي هي الثناء عليه وتمجيده وتعظيمه ، بين وعيد من لا يرعاها ، بأن يجرؤ على ضدها بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [ 57 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } أي : ينالون فيه الهوان والخزي . والمقصود من الآية الرسول صلّى الله عليه وسلم ، وذكر الله تعالى إنما هو لتعظيمه ، ببيان قربه ، وكونه حبيبه ، حتى كأنّ ما يؤذيه يؤذيه ؛ كما أن من يطيعه يطيع الله . وقد روى الطبري عن ابن عباس أنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلم ، حين اتخذ صفية بنت حُيي . وهذا في الحقيقة من أفراد ما تشمله الآية . بل لو قيل أنها عني بها من خاض في مسألة زينب ، لكان أقرب ، لتقارب الآيات في الباب الواحد ، وتناسقها كسلسلة واحدة ، في تلك المسألة التي كانت المقصود الأعظم من السورة بتمامها ، كما لا يخفى على من تدبرها .
وبالجملة ، فاللفظ عام في كل ما يصاب به صلّى الله عليه وسلم من أنواع المكروه ، فيدخل المقصود من التنزيل دخولاً أوليّاً . وعلى هذا ، فالأذية على حقيقتها . وقيل المراد بأذية الله ورسوله ، ارتكاب ما لا يرضيانه ، مجازاً مرسلاً ؛ لأنه سبب ، أو لازم له ، وإن كان بالنسبة إلى غيره ، فإنه كان في العلاقة ، وذكر الله ورسوله على ظاهره . ومن جوز إطلاق اللفظ الواحد على معنيين ، كاستعمال اللفظ المشترك في معنييه ، أو في حقيقته ومجازه ، فسر الأذية بالمعنيين باعتبار المعمولين ، فتكون بالنسبة إليه تعالى ، ارتكاب ما يكره مجازاً ، وإلى الرسول على ظاهره . فإن تعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل ، فيجيء فيه الجمع بين المعنيين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ 58 ] .
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : بقول أو فعل : { بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي : بغير جناية يستحقون بها الأذية : { فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أي : ظاهراً بيناً .
قال الزمخشري : أطلق إيذاء الله ورسوله ، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبداً ، وأما أذى المؤمنين والمؤمنات ، فمنه ومنه .
تنبيه :
في " الإكليل " : في هذه الآية تحريم أذى المسلم ، إلا بوجه شرعي ، كالمعاقبة على ذنب ، ويدخل في الآية كل ما حرم للإيذاء ، كالبيع على بيع غيره ، والسوم على سومه ، والخطبة على خطبته ، وقد نص الشافعي على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره ، إذا اشتمل على إيذاء . وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعاً < أربى الربا عند الله ، استحلال عرض امرئ مسلم > ثم قرأ هذه الآية . وأخرج عن قتادة في هذه الآية : إياكم وأذى المؤمن ، فإن الله يحوطه ويغضب له . وقد زعموا أن عُمَر بن الخطاب قرأها ذات يوم ، فأفزعه ذلك ، حتى ذهب إلى أُبي بن كعب ، فدخل عليه فقال : يا أبا المنذر ! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ } الآية . والله ! إني لأعاقبهم وأضربهم . فقال له : إنك لست منهم . إنما أنت مؤدب ، إنما أنت معلم . انتهى .
قال الزمخشري : وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق ، فكيف ؟ وكان ابن عون لا يكرى [ في المطبوع : يكرى ] الحوانيت إلا من أهل الذمة ، لما فيه من الروعة عند كر الحول . فرحمه الله ورضي عنه .
ولما بين تعالى سوء حال المؤذين ، زجراً لهم عن الإيذاء ، أمر النبي عليه الصلاة السلام بأن يأمر بعض المتأذين منهم ، بما يدفع إيذائهم في الجملة من الستر والتميز ، عن مواقع الإيذاء ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 59 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } جمع جلباب ، كسرداب ، وهو الرداء فوق الخمار ، تتغطى به المرأة ، وهو معنى قول بعضهم : جلبابها ملاءتها تشتمل بها . وقيل هو الخمار . قالت جنوب أخت عَمْرو ذي الكلب ترثيه :
~تَمْشِي النُّسُوْرُ إِلَيْهِ وَهْيَ لَاْهِيَةٌ مَشْيَ الْعَذَارَىْ ، عَلَيْهِنَّ الْجَلَاْلِيْبُ
وقال آخر يصف الشيب :
~حَتَّى اكْتَسَى الرَّاْسُ قِنَاْعاً أَشْهَبَا أَكْرَهَ جِلْبَاْبٍ لِمَنْ تَجَلْبَبَا
وقال الزمخشري : الجلباب ثوب واسع ، أوسع من الخمار ، ودون الرداء ، تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل ، ثم قال : ومعنى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن ، يقال إذا زل عن وجه المرأة : أدني ثوبك على وجهك . وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات ، تبرز المرأة في درع وخمار ، لا فصل بين الحرة والأمة . وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل ، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيظان ، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع ، وذلك قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } أي : أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى من ، في : { مِنْ جَلَابِيْبِهِنَّ } قلت : هو للتبعيض ، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين :
أحدهما - أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب . والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة ، ولها جلبابان فصاعداً في بيتها .
والثاني - أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها ، لتتقنع حتى تتميز من الأمة . انتهى .
ومن الآثار في الآية ، ما رواه الطبري عن ابن عباس قال : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة ، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين [ في المطبوع : بيدين ] عيناً واحدةً . وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان ، من السكينة . وعليهن أكيسة سود يلبسنها . وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري : هل على الوليدة خمار ، متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب ؛ لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : روي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة ، وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة ، لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : { وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } . انتهى .
الثاني - قال السبكي في " طبقاته " : استنبط أحمد بن عيسى ، من فقهاء الشافعية ، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات ، من تغيير لباسهم وعمائمهم ، أمر حسن . وإن لم يفعله السلف ؛ لأن فيه تمييزاً لهم حتى يُعرفوا ، فيعمل بأقوالهم . انتهى . الثالث - قال الشهاب : قوله تعالى : { يُدْنِينَ } يحتمل أن يكون مقول القول . وهو خبر بمعنى الأمر ، أو جواب الأمر ، على حد : { قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ } [ إبراهيم : 31 ] ، انتهى : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } أي : لما سلف منهن من التفريط : { رَّحِيماً } أي : بعباده ، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } [ 60 - 61 ] .
{ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } أي : عن نفاقهم : { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي : ضعف إيمان ، عن مراودة النساء بالفجور : { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } أي : بأخبار السوء اللاتي يفترونها وينشرونها ، كمجيء عدو وانهزام سرية ، وهكذا مما يكسرون به قلوب المؤمنين ، وأصله التحريك ، من الرجفة ، وهي الزلزلة ، يسمى به الخبر المفترى ، لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت ، أو لاضطراب قلوب المؤمنين به : { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي : لنسلطنك عليهم بما يضطرهم إلى الجلاء : { ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا } أي : في المدينة من قوة بأسك عليهم : { إِلَّا قَلِيلاً } أي : زمناً قليلاً ريثما يستعدون للرحلة : { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا } أي : مبغضين لله وللخلق ، لا يستريحون بالخروج ، للصوق اللعنة بهم أينما وجدوا { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } أي : أسروا وبولغ في قتلهم لذلتهم وقلتهم ، ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ 62 ] .
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } أي : في المفترين والمؤذين الذين مضوا ، إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا ، أن يسلّط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } أي : لأنه لا يبدلها ، أو لا يقدر أحد أن يبدلها .
تنبيهات :
الأول - قال الشهاب : إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين ، قوم مخصوصون ، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات ، على حدّ : إلى الملك القرم وابن الهمام . أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات .
فعلى الأول ، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين ، وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض ، كما مرّ في البقرة . والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم ، لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل ؛ فإنه لم يقع للمنافقين .
وعلى الثاني ، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين ، كأهل الفجور ، والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة ، وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم ، وهم اليهود . انتهى .
الثاني - ذكروا أن معنى قوله تعالى : { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } أنهم إذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ، ولا يجدون ملجأ . بل أينما يكونون ، يطلبون ويؤخذون ويقتلون ، وعليه فالجملة خبرية . وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائية كقوله : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [ التوبة : 98 ] و [ الفتح : 6 ] ، وقوله : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] ، كأنه قيل : أخذهم الله . أي : أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشده . ولم أر أحداً تعرض له ، وقد أفاد ابن عطية ، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى ، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء ؛ لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ، أي : لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير .
الثالث - في " الإكليل " : في الآية تحريم الأذى بالإرجاف ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم قوم كانوا يجلسون على الطريق ، يكابرون المرأة مكابرة . فنزلت فيهم الآية إلى قوله : { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } قال : هذا حكم في القرآن ، ليس يعمل به ، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها ، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم ، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم . انتهى .
وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية ، كما قدمنا ، على أن للحاكم أن يفعل ذلك ، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة ، على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب ، كما بسط ذلك النجم الطوفي في " رسالته " وأيدناه بما علقناه عليها .
الرابع - كتب الناصر في " الانتصاف " على قول " الكشاف " في قوله : { إلاَّ قَلِيلاً } أي : زمناً قليلاً ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم ، ما مثاله : فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي ، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر ، على حسب الاجتهاد . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [ 63 ] .
{ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } أي : يسألونك عن وقت قيامها . وكان المشركون في مكة يسألونه صلّى الله عليه وسلم ، عنها استعجالاً على سبيل الهزء ، وكذلك اليهود في المدينة أو غيرهم ؛ لأن هذه السورة مدنية ، وقد أرشده تعالى أن يرد علمها إليه لاستئثاره تعالى به ، فلم يطلع نبياً ولا ملكاً ، وأن يبين لهم أنها قريبة الوقوع ، تهديداً للمستعجلين وإسكاتاً للممتحنين .
لطيفة :
تذكير قريباً باعتبار موصوفه الخبر ؛ أي : شيئاً قريباً ، أو لأن الساعة في معنى اليوم أو الوقت ، أو أن قريباً ظرف منصوب على الظرفية ، فإن قريباً وبعيداً : يكونان ظرفين ، فليس صفة مشتقة ، حتى تجري عليه أحكام التذكير والتأنيث .
قال أبو السعود : والإظهار في حيز الإضمار ، للتهويل وزيادة التقرير ، وتأكيد استقلال الجملة ؛ يعني أن قوله : { وَمَا يُدْرِيكَ } خطاب مستقل له عليه السلام ، غير داخل تحت الأمر ، مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق ، مرجوة المجيء عن قريب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } [ 64 - 66 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ } أي : أبعدهم من رحمته : { وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } أي : ناراً شديدة الاتقاد في الآخرة : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً } أي : حافظا يتولاهم : { وَلَا نَصِيراً } أي : يخلصهم : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } أي : تصرف من جهة إلى جهة ، تشبيه بقطعة لحم في قدرٍ تغلي ، ترامى بها الغليان من جهة إلى جهة . أو المعنى : من حال إلى حال ، فالمراد تغيير هيئاتها من سواد وتقديد وغيره .
قال الزمخشري : وخصت الوجوه بالذكر ، لأن الوجه أكرم موضع على الْإِنْسَاْن من جسده ، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة ، وناصب الظرف : يقولون ، أو اذكر ، أو يجدون ، أو خالدين ، أو نصيراً : { يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } أي : فكنا ننجو من هذا العذاب .

(/)


{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً } [ 67 - 69 ]
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا } وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه : { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } أي : بما زينوه لنا . قال الزمخشري : وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف : { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } أي : مثلي العذاب الذي آتيتناه ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا : { وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } أي : لعناً هو أشد اللعن وأعظمه .
وقرئ : كَثِيْراً ، تكثيراً لأعداد اللعائن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلّى الله عليه وسلم ، من استحقاقه اللعنة في الدارين ، تعريضاً بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب ، التي سيقت السورة لأجلها ، ختمها أيضاً بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام ، بتنقيصه تارة ، وقلة الأدب معه طوراً ، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة ، كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم ، مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها ، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته ، فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم ، ورماهم بأفانين العقوبات ، ولحقتهم المخازي ، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم ، ونزه مقامه عن تنقيصهم ، بأن حقق فضله ، وأسمى منزلته ، وآتاه الوجاهة - وهي العظمة والقرب - عنده .
وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، ولحقهم الدمار ، وشرح لنبيه صدره ، ورفع له ذكره ، وأعلى منزلته ، وفخم وجاهته ، ما تعاقبت الأدوار ، ويقرب من هذه الآية ، في المعنى والإشارة ، قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ الصف : 5 ] ، وفيهما كلتيهما تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما ، وكثيراً ما كان يقول صلّى الله عليه وسلم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره : < رحمة الله على موسى ؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر > .
وقد روى المفسرون ههنا آثاراً ، أحسنها ما أخرجه البراز عن أنس مرفوعاً : < كان موسى رجلاً حيياً ، وأنه أتى الماء ليغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، وكان لا يكاد تبدو عورته ، فقال بنو إسرائيل إن موسى آدَرُ أو به آفة ؛ يعنون أنه لا يضع ثيابه ، فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال - أو كما قال - > . فذلك قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } ورواه البخاري في " صحيحه " عن أبي هريرة أيضاً .
قال الرازي وحديث إيذاء موسى مختلف فيه ؛ - أي : لكثرة الروايات فيه - مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ] ، وقولهم : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] ، وقولهم : { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] ، إلى غير ذلك . فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم . انتهى .
و قال ابن كثير : يحتمل أن يكون كل ما روي مراداً ، وأن يكون معه غيره . انتهى ؛ أي : لعموم المعمول المحذوف ، وما بينّاه أولاً ، هو الأقرب . والله أعلم .
تنبيهات :
الأول - الوجيه : لغة بمعنى السيد ، كالوجه ، يقال : هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه ؛ أي : أشرافه ، وبمعنى ذي الجاه - والجاه القدر والمنزلة ، مقلوب عن وجه ، فلما أخرت الواو إلى موضع العين ، وصارت جَوَها ، قلبت الواو ألفاً . فصارت جاهاً ، وكذا في القاموس وشرحه .
الثاني - قال الزمخشري : وجيها ؛ أي : ذا جاه ومنزلة عنده ، فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة ، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة . وقال ابن جرير : أي : كان موسى عند الله مشفّعاً فيما يسأل ، ذا وجه ومنزلة عنده ، بطاعته إياه ، أي : مقبولاً ومجاباً فيما يطلب لقومه من الله تعالى ، عناية منه تعالى وتفضيلاً .
الثالث - اتخذ العامة ، وكثير من المتعالمين ، وصف الوجاهة للأنبياء ذريعة للطلب والرغبة منهم ، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل ، ولا يصدق على المعنى اللغوي بوجه ما ، وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فُتْيا ، أَبَان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة ، وذلك أنه سئل ، رحمه الله ، عمن يتوسل بالأنبياء ، والأولياء ، معتقداً أن النبي أو الولي يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه ، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحاكم ، وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام .
فقال امرؤ : إن هذه مخل بالعقيدة ، وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال ، وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى ، وإنه لا يدعى معه أحد سواه ، كما قال تعالى : { فَلا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] ، وإن النبي صلّى الله عليه وسلم ، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر ، وأعظم الناس جاهاً ومحبة ، وأقربهم إليه ، ليس له من الأمر شيء ، ولا يملك للناس ضراً ولا نفعاً ولا رشداً ولا غيره ، كما في نص القرآن .
وإنما هو مبلغ عن الله تعالى ، ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلّى الله عليه وسلم ، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته ، وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضارّ إلا ما هدى الله الناس إليه ، ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا باتباعه والاقتداء به ، يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [ آل عِمْرَان : 31 ] ، { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } [ الأنعام : 153 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة ، لأدافع بذلك من أساء بي الظن .
فأجاب رحمه الله ، بعد البسملة والحوقلة : اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح ، ولا يشوبه شوب من الخطأ ، وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم أن يعتقده ؛ فإن الأساس الذي ينبت عليه رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد ، كما قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] و : { الصَّمَدُ } هو الذي يقصد في الحاجات ، ويتوجه إليه المربون في معونتهم على ما يطلبون ، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم ، والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر ، كما هو معروف عند أهل اللغة ، فلا صمد إلا هو .
وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، وقد قال الشيخ محي الدين بن العربي ، شيخ الصوفية ، في صفحة 226 من الجزء الرابع من " فتوحاته " عند الكلام على هذه الآية : إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه . بل لله الحجة البالغة ، فلا يتوسل إليه بغيره ؛ فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه ، وقد أخبرنا الله أنه قريب ، وخبره صدق . انتهى ملخصاً .
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن ، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات ، ويسلكون طرقاً من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس . ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين . فأي حالة تدعوهم إلى ذلك ؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى ، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ، ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه ، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك ، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه بدعة في الدين وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به ، كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها ، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيماً لقدر النبي صلّى الله عليه وسلم ، أو الأنبياء أو الأولياء ، مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عندما جاءوا به ، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم . وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم . وظن هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم , وتنظيم المدائح وعزوها إليهم ، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم ، واختراع شؤون لهم مع الله ، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح .
هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن ؛ لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا ، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت ، وليس يخطر بالبال أن جباراً لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه ، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله . فكيف بالأنبياء والصديقين ؟
إن لفظ الجاه الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل ، مفهومه العرفي هو السلطة . وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه ، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه ، ويقال فلان خلص فلاناً من عقوبة الذنب بجاهه ، لدى الأمير أو الوزير مثلاً ، فزعم زاعم أن لفلان جاهاً عند الله بهذا المعنى ، إشراك جلي لا خفي ، وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغوي ، وهو المنزلة والقدر ، على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها ؛ لأنها ليست شيئاً ينفع . وإنما يكون لذلك معنى ، لو أوّلت بصفة من صفات الله ، كالاجتباء والاصطفاء ، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه ، وإن كان الآلوسي بنى تجويز التوسل بجاه النبي خاصة على ذلك التأويل . وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهال ، وهو مما لا قيمة له عند العارفين . فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة ، وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله ، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ، فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة ؟
يقول بعض الناس : إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها . وهي ما رواه الترمذي بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال : إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال : ادع الله أن يعافني . فقال : < إن شئت دعوت , وإن شئت صبرت فهو خير لك > . قال : فادعه . قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ، ويدعو بهذا الدعاء : < اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة . يا محمد ! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي . اللهم فشفعه في > . قال الترمذي وهو حديث حسن صحيح غريب .
ونقول أولاً : قد وصف الحديث بالغريب ، وهو ما رواه واحد ، ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به ، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله ، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك ، ولا وجه لابتعادهم عن العمل به ، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي ؛ كما قال عمر رضي الله عنه ، في حديث الاستسقاء : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا ، قال ذلك ، رضي الله عنه ، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى ، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون ، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلم ، ولا يقول كنا نستسقي بنبيك ، وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه ، بل ويكون من الأعلى للأدنى ، كما ورد في الحديث ، وليس فيه ما يخشى منه ، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى ، والشريك في الدعاء شريك في العبودية ، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] .
ثم المسألة داخلة في باب العقائد ، لا في باب الأعمال ، ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال : هل يجوز أن نعتقد بأن واحداً سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز ؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين ، وقد نعاها عليهم في قوله : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، سورة يونس ، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فلا استعانة إلا به ، وقد صرح الكتاب بأن أحداً لا يملك للناس من الله نفعاً ولا ضراً ، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بيّنا .
ثم البرهان العقلي يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام ، وأمثالهم في التحول عن إرادتهم ، بما يتخذه أهل الجاه عندهم ، لتنزّهه جل شأنه عن ذلك ، ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة ، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين ، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة ، ولا يمكنه أن يتخذ حديثاً من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده ، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن { وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ النجم : 28 ] ، انتهى كلامه رحمه الله .
ثم راجعت " اقتضاء الصراط المستقيم " للإمام العلم تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه . فرأيته ذكر نحواً من ذلك ، وعبارته : فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها ، تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته ، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها ، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته ، ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبي صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله ، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعوَ لهم في الاستسقاء وغيره ، وقول عمر رضي الله عنه : إنا كنا ، إذا أجدبنا ، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا . معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله ، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته ، ليس المراد به ، إنا نقسم عليك به ، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه ، كما يقوله بعض الناس : أسألك بجاه فلان عندك ، ويقولون : إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه ، ويروون حديثاً موضوعاً : < إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي ، فإن جاهي عند الله عريض > فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه ، كما ذكر عمر رضي الله عنه ، لفعلوا ذلك بعد موته ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس ، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به ، أعظم من العباس ، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه ، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات ، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم ؛ فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء ، لا دعاء ولا غيره ، وكذلك حديث الأعمى ؛ فإنه طلب من النبي صلّى الله عليه وسلم أن يدعوا له ليردّ الله عليه بصره . فعلّمه النبي صلّى الله عليه وسلم دعاءً أمره فيه ، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه ، فهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم شفع فيه ، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته ، وأن قوله < أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة > أي : بدعائه وشفاعته ؛ كما قال عمر : كنا نتوسل إليك بنبينا . فلفظ : التوجه ، والتوسل في الحديثين بمعنى واحد . ثم قال : يا محمد ! يا رسول الله ! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها . اللهم ! فشفعه في . فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه . وقوله : يا محمد ! يا نبي الله ! . هذا وأمثاله نداء . يطلب به استحضار المنادى في القلب ، فيخاطب المشهود بالقلب ؛ كما يقول المصلّي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . والْإِنْسَاْن يفعل مثل هذا كثيراً ، يخاطب من يتصوره في نفسه ، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب ، فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به ، فيه إجمال واشتراك ، غلظ تسببه من لم يفهم مقصد الصحابة ، يراد به التشبث به [ في الأصل : التسبب به ] لكونه داعياً وشافعاً مثلاً ، أو لكونه الداعي محبّباً له ، مطيعاً لأمره ، مقتدياً به . فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له ، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته ، فلا يكون التوسل ، لا شيء منه ولا شيء من السائل ، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله . فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } [ 70 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي : في كل ما تأتون وما تذرون ، لاسيما في ارتكاب ما يكرهه ، فضلاً عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلم : { وَقُولُوا } أي : في كل شأن من الشؤون : { قَوْلاً سَدِيداً } أي : قويماً حقاً صواباً . قال القاشاني : السداد : في القول ، الذي هو الصدق والصواب ، هو مادة كل سعادة ، وأصل كل كمال ؛ لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات ، وهو وإن كان داخلاً في التقوى المأمور بها ، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب ، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى ، لكنه أفرد بالذكر للفضيلة ، كأنه جنس برأسه ، كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ 71 ] .
{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي : بإمداد الصلاح والكمالات والفضائل عليكم ؛ لأنه لا يصح عمل ما بدون الصدق أصلاً . وبه يصلح كل عمل : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي : ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات : { وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التشريعات : { فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } أي : في الدارين . وقال القاشاني : أي : فاز بالتحلية والاتّصاف بالصفات الإلهية ، وهو الفوز العظيم .
تنبيه :
قال الزمخشري : المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول ، والبعثُ على أن يسد قولهم في كل باب ؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله ، وهذه الآية مقررة للتي قبلها ؛ بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . انتهى .
ولك أن تضم إلى المراد من الآية الذي ذكره ، مراداً آخر ، وهو نهيهم أيضاً عما خاض فيه المنافقون من التعويق والتثبيط وبث الأراجيف في غزوة الأحزاب ، المتقدمة أوائل السورة وبالجملة ، فالسياق يشمل ذينك وغيرهما إلا أن الذي يراعى أولاً ، هو ما كان التنزيل لأجله ، وذلك ما ذكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ 72 ] .
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } قال أبو السعود : لما بين عظم شأن طاعة الله ورسوله ، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية ، وصعوبة أمرها بطريقة التمثيل - مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها ، صدر عنهم بعد القبول والالتزام . وعبر عناه بـ : الأمانة ؛ تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين ، وائتمنهم عليها ، وأوجب عليهم تلقيا بحسن الطاعة والانقياد . وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها ، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها ، بالعرض عليهن ، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهنّ لها - وعن عدم استعدادهنّ لقبولها ، بالإباء والإشفاق منها ، لتهويل أمرها وتربية فخامتها - وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها ، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية ، التي أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة .
والمعنى : أن تلك الأمانة في عظم الشأن ، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام ، التي هي مثل في القوة والشدة ، مراعاتها ، وكانت ذات شعور وإدراك ، لأبين قبولها وأشفقن منها ، ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق ، روماً لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه .
وقوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن } أي : عند عرضها عليه ، إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده ، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق - أي : تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة - وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري ، أو عن اعترافه بقوله : بلى . وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } اعتراض وسط بين الحمل وغايته ، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله - أي : أنه كان مفرطاً في الظلم ، مبالغاً في الجهل ؛ أي : بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلاً ، وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 73 ] .
{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } أي : حملها الْإِنْسَاْن ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة ، على أن اللام للعاقبة ؛ فإن التعذيب - وإن لم يكن غرضاً له من الحمل - لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها ، أبرز في معرض الغرض - أي : كان عاقبة حمل الْإِنْسَاْن لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة ، وخروجهم عن الطاعة بالكلية ، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى : { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده ؛ أي : يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة ، وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات ، قلما يخلو عنها الْإِنْسَاْن بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة ، والالتفات إلى الاسم الجليل ، أولاً ؛ لتهويل الخطب وتربية المهابة ، والإظهار في موضع الإضمار ، ثانياً ؛ لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : مبالغاً في المغفرة والرحمة ، حيث تاب عليهم ، وغفر لهم فرطاتهم ، وأثاب بالفوز على طاعاتهم . انتهى ملخصاً ، مما حرره أبو السعود . وقد آثرت نقله بحروفه ؛ لتجويده الكلام ، وإجادته في المقام ، وهكذا عادتنا في كل مجوّد ، أن ننقله ولا نتصرف فيه .
بقي في الآية لطائف نشير إليها :
الأولى - فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة ، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين ، وبعضهم بمعرفته تعالى . قال ابن كثير : وكل هذه الأقوال لا تنافيَ بينها ، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب . انتهى .
وقيل : المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعة والاختيارية ؛ لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء ، وبعرضها : استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار ، وإرادة صدوره من غيره - وبحملها ، والخيانة فيها والامتناع عن أدائها ، فيكون الإباء امتناعاً عن الخيانة وإتياناً بالمراد ، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها ، أبَيْن الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها ، حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية ، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، وخانها الْإِنْسَاْن حيث لم يأت - وهو حيوان عاقل صالح للتكيف - بما أمرناه به ؛ إنه كان ظلوماً جهولاً ، وإرادة الخيانة من حملها ، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله ، كما يقال : ركبته الديون . وقرره الزمخشري بقوله : وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ؛ تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ، ويخرج عن عهدتها ؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤمنين عليها ، وهو حاملها ، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولي عليه حق . فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها ، ومنه قولهم : أبغض حق أخيك ؛ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى : { فَأَبْيِنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَاْ } : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن } فأبين إلا أن يؤدينها ، وأبى الْإِنْسَاْن إلا أن يكون محتملاً لها لا يؤديها ، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه ، وهو أداؤها . انتهى ملخصاً .
الثانية - نقل ابن كثير آثاراً عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقياً ، وأنه قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت . فقلن : يا رب ! إنا لا نستطيع هذا الأمر ، ليس بنا قوة ، ولكنا لك مطيعين . قال الشراح : ولا بُعد ، أن يخلق الله فيها فهماً لخطابه ، وأنه كان على سبيل التخيير لها ؛ ولذا عبر بالعرض ، لا تكليفاً حتى يلزم عصيانها . انتهى .
قال الإمام ابن حزم في " الفصل " في الرد على من جعل للجمادات تمييزاً ، ما مثاله : وأما عرضه تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وإباية كل واحد منها ، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك ، وهذا نص قوله : { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [ الكهف : 51 ] ، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق ، وأن له مبدأً لا يشبهه البتة ، فأراد معرفة كيف كان ، فقد دخل في قوله تعالى : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ النور : 15 ] .
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة ، إلا وقد جعل فيها تمييزاً لما عرض عليها ، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها ، فلما أبتها وأشفقت منها ، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة ، وأسقط عنها تكليف الأمانة .
قال : هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل ، ولا مزيد عندنا على ذلك . انتهى .
وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز ، كما بينه ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " وسبقه الزمخشري حيث قال : ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم ، ومن ذلك قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب ؟ ، لقال أسوي العوج . وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات ، وتصور مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه . فصور أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة ، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . انتهى .
الثالثة - قال الرازي : إن قال قائل : لم قدم التعذيب على التوبة - في آخر الآية ؟ نقول : لما سمي التكليف أمانة ، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن ، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة ، فكان التعذيب على الخيانة كاللازم ، والأجر على الحفظ إحسان ، والعدل قبل الإحسان .
الرابعة - ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث :
منها عن أبي هريرة مرفوعاً : < أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك > . رواه أبو داود والترمذي ، وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص مرفوعاً : < أربع ، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة > . رواه الإمام أحمد والطبراني ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، لمن سأل عن الساعة : < إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة > . قال : كيف إضاعتها ؟ يا رسول الله ! قال : < إذا وسد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة > .
الخامسة - قال ابن كثير : روى عبد الله بن المبارك في كتاب " الزهد " أن عُمَر بن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة : < من حلف بالأمانة فليس منا > ، تفرد به أبو داود . أي : لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته ، وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام ، كما تقرر في موضعه . والله أعلم .
السادسة - سبق لي أن كتبت في الآية شيئاً ، في منتصف ربيع الأول سنة 1324 ، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم . فسأل بعض الناس عن تفسير الآية ، ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى ، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه .
أردت إثباته هنا تعزيزاً للمقام ، ونصه : في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع " رد العجز على الصدر " ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب ، وهي غزوة الخندق ، أَبَان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين ، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها ، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا ، وذلك في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 ] ، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم ، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة ، بين الله تعالى في خاتمة السورة ، شأن الأمانة ، وعظم خطرها ، وأنها عند الله بمكان عظيم ؛ وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقاً ، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به ، وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشد أزرها ، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب ، يتخذ عهود الله هزؤاً ولعباً ، فيخذل من وثق به ، ويمالئ العدو عليه ويثبط من يرجى منه نوع معونة ، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم ، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به ، وما أفظع ما أرتكب وما أعظم جريمته ! .
وجلي أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها ، وما ذكر بعض من آثارها ، ففي أي : مرتبة تكون الخيانة ؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة . كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار ، فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها ، وهي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون ، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة ، وكان من آثارها السيء في المدينة وأهلها ما كان - وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره ، والْإِنْسَاْن هنا ، المعني به جنس المنافق الذي قص من نبئه ما قص ، والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل ، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد ، ظلماً لنفسه وجهلاً بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه ، وبالعذاب الذي سيلقاه ، وبكون هذا الأمر أمراً ربانياً وعزيمة إلهية ما هي بالهزل .
والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، هو ظهور خطرها بهذه المكونات ، وفظاعة الخيانة فيها ، وإشفاق كل من خطر تحملها ، وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن ، مع أنهن أقوى أجساماً ، وأعظم ثباتاً ، وأصبر على طوارئ الحدثان ، تخوفاً من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها ، وإن الْإِنْسَاْن ، مع ضعفه بالنسبة لهن ، حملها وما حفظها ولا رعاها ، واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه . فما أظلمه وما أجهله ! والقصد رميه بالظلم والجهل ، وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال ، فيا لله ما أطغاه ! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة ، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان . ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً } [ مريم : 88 - 91 ] ، وحقاً أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل ، وخارق من خوارقه في باب البلاغة ؛ فإن أسلوبه في إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب ، أسلوبٌ انفرد به عن كل كلام . وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن ، هل كان بإيداع عقل فيهن أوْ لا ؟ [ في المطبوع : أولا ] ، وفي تعيين زمانه ، وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن ، وفي معنى لوم الْإِنْسَاْن ، ورميه بالظلم والجهل ، بعد ما عرضت عليه ، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك - كله فلسفة لفظية ، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ ، الولعون في الغلو بمفرداتها ، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم . فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه - ولن يجدوا إليه سبيلاً ما دام هذا سبيلهم - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

(/)


سورة سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ 1 ] .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } خلقاً وملكاً ، وتصرفاً بما شاء : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } أي : في النشأة الآخرة . قال الشهاب : السماوات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره . وهو يشتمل على النعم الدنيوية . فعلم من التوصيف بقوله : { الَّذِي } الخ ، أنه محمود على نعم الدنيا ، ولمّا قيّد الثاني بكونه في الآخرة ، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى : أنه المحمود على نعم الدنيا فيها ، وعلى نعم الآخرة فيها . أو هو من باب الاحتباك ، وأصله : الحمد لله الخ في الدنيا ، وله ما في الآخرة والحمد فيها ، فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة . وقوله تعالى : { وّلّهُ الْحّمْدُ } معطوف على الصلة ، أو اعتراض ، إن كانت جملة : { يَعْلَمُ } حالية : { وَهُوَ الْحَكِيمْ } أي : الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته : { الْخَبِيرُ } أي : بخلقه وأعمالهم وسرائرهم ، ثم ذكر مما يحيط به علماً قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } [ 2 ] .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } أي : من الأمطار ، والمياه ، والكنوز ، والدفائن ، والأموات : { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي : من الشجر ، والنبات ، وماء العيون ، والغلة ، والدواب : { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء } أي : من الأمطار ، والثلوج ، والبرد ، والصواعق ، والأرزاق ، والملائكة ، والمقادير : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : من الملائكة ، وأعمال العباد : { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } أي : لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 3 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني مشركي مكة : { لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } أي : ساعة الجزاء ، إنكاراً لها : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } أي : الساعة . ردٌّ لكلامهم وتأكيدٌ لما نفوه ، باليمين بالله عز وجل : { عَالِمِ الْغَيْبِ } بالجر صفة ، والرفع خبر محذوف ، وقرئ : علَّامِ ، بالجر . وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد ؛ لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به ، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته ، لما أنه [ في المطبوع : أن ] في حكم الاستشهاد على الأمر ، لاسيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى ؛ فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية ، وأولها مسارعة إلى القلب ، إذا قيل عالم الغيب : { لَا يَعْزُبُ } أي : لا يغيب بضم الزاي وكسرها : { عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء , وإن تناهى في الصغر , فالعظام وأجزاء البدن ، وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرّقت ، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة ؛ لسعة علمه وعظم قدرته ، جل شأنه .
لطائف :
الأولى - عامة القراء على رفع : { أَصْغَرُ } و : { أَكَبَرُ } وفيه وجهان :
أحدهما : الابتداء والخبر : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } والثاني النسق على : { مْثَقالَ } . وعلى هذا فيكون قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } تأكيداً للنفي في : { لاَ يَعْزُبُ } كأنه قال : لكنه في كتاب مبين ، ويكون في محل الحال ، وقرأ بعض السلف بفتح الراءين ، وفيه وجهان : أحدهما - أن : { لَا } هي لا التبرئة ، بني اسمها معها . والخبر قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } . والثاني - النسق على : { ذَرَّةٍ } لامتناعه من الصرف .
الثانية - يشير قوله تعالى : { وَلاَ أصْغَرُ مِنَ ذَلِكَ } إلى أن : { مِثْقَالَ } لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضاً .
الثالثة - قال الكرخي : فإن قيل فأيّ حاجة إلى ذكر الأكبر ؛ فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر ؟ فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان , وأما الأكبر فلا يُنسى فلا حاجة إلى إثباته ، فأعلم [ في المطبوع : فاعلم ] أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك ؛ فإن الأكبر مكتوب فيه أيضاً . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 4 ] .
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } علة لقوله تعالى : { لَتَأْتيَنَّكُمْ } وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء : { أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي : عيش هنيء في الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [ 5 ] .
{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا } أي : بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك { مُعَاجِزِينَ } أي : مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } وهو أسوأ العذاب و : { مِّن } للبيان : { أَلِيمٌ } بالرفع صفة عذاب ، وبالجر صفة لـ : رجز ، قراءتان . وقد جوز في قوله : { وَالَّذِينَ سَعَوْا } أن يكون مبتدأ ، وجملة : { أُوْلَئِكَ } الخ خبره وأن يعطف على : { الَّذِينَ } قبله . أي : ويجزي الذين سعوا . وتكون [ في المطبوع : يكون ] جملة : { أُوْلَئِكَ } التي بعدها مستأنفة ، والتي قبله معترضة . وفي التعبير عن طعنهم وصدهم بالسعي ، تمثيل لحالهم . فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات ، فيحتاج إلى السعي العظيم ، والجدّ البليغ ، ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ } [ 6 - 8 ] .
{ وَيَرَى } أي : يعلم : { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } أي : دينه وشرعه : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من قريش : { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم : { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : فرقتم كل تفريق ، بحيث صرتم تراباً ورفاتاً : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : فيما قاله : { أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي : جنون تخيل به ذلك . فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله : { بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ } أي : المتناهي أمره ؛ فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد ، ونبذ الهوى والفساد ، فيرمي الداعي بالفرية والجنون ، لَمُغرق في الجهالة ، ومبعد أي : بعد في الضلالة ، ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها ، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ 9 ] .
{ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاء } أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم ، محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفاً لتكذيبهم الآيات ، وكفرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة . أفاده الزمخشري .
والكسْف : بسكون السين ، بمعنى القطع ، إما جمع كسفة ، أو فعل بمعنى مفعول ، أو مخفف من المصدر ، وقرأ حفص : { كِسَفاً } بالفتح : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله : { لَآيَةً } أي : دلالة واضحة : { لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي : راجع إلى ربه مطيع له ، فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى ، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم ، كما قال تعالى :
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى } [ يس : 81 ] ، وقال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] .
ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل ، والملك , وسعة السلطان , ووفرة الجند , وكثرة العَدَد , والعُدَد ، ببركة إنابتهما ، وقيامهما بشكر الرب تعالى ، عِدةً للنبي صلّى الله عليه وسلم ، وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك ، وتذكيراً بقدرته على كل شيء ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [10 - 11 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي : رجّعي معه التسبيح و : { يَا جِبَالُ } بدل من : { فَضْلاً } أو من : { آتَيْنَا } بتقدير قولنا ، أو قلنا يا جبال أوّبي معه : { وَالطَّيْرَ } بالرفع والنصب ، عطفاً على لفظ الجبال ومحلها ، وجوز انتصابه مفعولاً معه ، وأن يعطف على : { فَضْلاً } بمعنى وسخرنا له الطير . قال الزمخشري : فإن قلت أي : فرق بين هذا النظم ، وبين أن يقال : وآتينا داود منا فضلاً ، تأويب الجبال معه والطير ؟ قلت : كم بينهما ! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى ، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزلة منزّلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته . انتهى .
{ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي : دروعاً واسعاتٍ : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } أي : اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها : { وَاعْمَلُوا صَالِحاً } أي : وقلنا له ولأهله ذلك : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فأجازيكم به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } [ 12 ] .
{ وَلِسُلَيْمَانَ } أي : وسخرنا له : { الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي : جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجرها بالعشي كذلك ، والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض . ويطلق بمعنى النصرة والدلالة والغلبة والقوة ، كما في القاموس : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } أي : النحاس المذاب ؛ أي : أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه : { وَمِنَ الْجِنِّ } أي : الشياطين الأقوياء : { مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من رفيع المباني ، وإشادة القصور وغيرها : { بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : بأمره تعالى : { وَمَن يَزِغْ } أي : يعدل : { مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } أي : النار ، ثم فصل ما ذكر من علمهم بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ 13 ] .
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ } أي : مساكن ومجالس شريفة ، أو مساجد : { وَتَمَاثِيلَ } أي : صور ونقوش منوعة على الجدر ، والسقوف ، والأعمدة . جمع تمثال ، وهو كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان ، وغير حيوان ، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرماً .
قال السيوطي في " الإكليل " : قال ابن الفرس : احتجت به فرقة في جواز التصوير ، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } أي : وصحاف كالجوابي ، وهي الحياض الكبار ، والجفان : جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة ، ما يوضع فيه الطعام مطلقاً . وقيل الجفنة أعظم القصاع ، ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة ، ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة ، ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين ، ثم الصحيفة : { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } أي : ثابتات على الأثافي ، لا تنزل عنها لعظمها : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } أي : قيل لهم : اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه . وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف ، كما أن فيه وجوب الشكر ، وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان ؛ لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله ، وداود عليه السلام قد يدخل هنا في آله ؛ فإن آل الرجل قد يعمه : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } أي : المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه ، وأكثر أوقاته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [ 14 ] .
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ } أي : على سليمان : { الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ } وهي الأرضة : { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } أي : عصاه التي ينسأ بها ، أي : يطرد ويؤخر : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } أي : الشديد من الجري على رسمه لهم ، والدأب عليه ، لظنهم إياه حيّاً . ثم بين تعالى من أخبار بعض الكافرين بنعمه ، إثر بيان أحوال الشاكرين لها ، ما فيه عظة واعتبار ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [ 15 ] .
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } اسم لأبي قبيلة . وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها : { فِي مَسْكَنِهِمْ } أي : في مواضع سكناهم ، وهي باليمن يقال لها : مأرب ، كمنزل من بلاد الأزد ، في آخر جبال حضرموت ، وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة ، فإنها مدينة بلقيس ، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل . وقرئ : { مَسَاكِنِهِمْ } : { آيَةٌ } على قدرته تعالى ومجازاته المسيء : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي : جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها ، أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله . قيل لهم : { كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } أي : بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله .
ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به ، بقوله سبحانه : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أي : لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها : { وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي : لمن شكره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ 16 ] .
{ فَأَعْرَضُوا } أي : عن الشكر : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } أي : سيل الأمر العرم ، أي : الصَّعب والمطر الشديد - أو الوادي - أو السكر الذي يحبس الماء - أو هو البناء الرصين المبني بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها ، وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم ، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء ، فانهال عليهم تيار مائه ، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم ، واضطر من نجا منهم للنزوح عنها . كما قال تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ } أي : ثمر مرّ ، أو بشع لا يؤكل : { وَأَثْلٍ } شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له : { وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهو شجر النبق ؛ أي : قلة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فهذا تبديل النعم بالنقم ، لمن لم يشكر النعم ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } [ 17 ] .
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } أي : بشكر النعم ، أو باتباع الرسل ، وتكذيب الحق ، والعدول إلى أهل الباطل ، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة ، والغبطة ، والعيش الهني ، والبلاد الآمنة ، والقرى المتواصلة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [ 18 ] .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : بالزروع والثمار ، وحسن العمران ، وهي قرى بصنعاء ، كما قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومالك ، وغيرهم : { قُرًى ظَاهِرَةً } أي : متواصلة ، يرى بعضها من بعض لتقاربها ؛ فهي ظاهرة لأعين الناظرين ، أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي : جعلنا بين قراها مقادير متساوية ، فمن سار من قرية صباحاً وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة ، ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب ، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ، ولا يخاف من عدو ونحوه : { سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } أي : لا تخافون في الليل أو النهار ، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد ، فلا ترون إلا الأمن ، والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبي ونحوه ، أو بلسان الحال ، كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به ، فالأمر للإباح . وفي : في ، إشعار بشدة القرب ، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ 19 ] .
{ فَقَالُوا } أي : بلسان الحال ، والميل إلى المهالك الشيطانية : { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } أي : فاستعدوا لضلالهم وكفرهم ، لأن تُجعل أمكنتهم تعمل فيها المطي والرواحل ، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه ، وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة : { وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } أي : حتى حل بهم ما حل : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم ، وكيف مكر الله بهم ، وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : فرقناهم كل تفريق ، حتى اتخذه الناس مثلاً مضروباً . يقولون : تفرقوا أيادي سبا ، وذهبوا أيدي سبا . بألف مقصورة . قال الأزهري : العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع ؛ لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز ، وإن كان أصله مهموزاً ، والذهاب معلوم ، والأيادي جمع أيد ، والأيدي جمع يد ، وهي بمعنى الجارحة ، وبمعنى النعمة ، وبمعنى الطريق ، وهو المراد . قال في التهذيب : قولهم ذهبوا أيدي سبا ، أي : متفرقين . شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم [ في المطبوع : لمامزقهم ] الله في الأرض كل ممزق ، فأخذ كل طائفة منهم طريقاً على حدة . واليد الطريق . يقال : أخذ القوم يد بحر . . فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة : ذهبوا أيدي سبا ؛ أي : فرقتهم طرقهم التي سلكوها ، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى .
قال ابن مالك : إنه مركب تركيب خمسة عشر ، مبنيّاً على السكون . وفي " زهر الأكم ، في الأمثال والحكم " أن سبا كانت أخصب بلاد الله ، كما قال تعالى : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ ، يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء ، فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه ، وكانت في بدء الأمر تركبها السيول ، فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم ، فاتخذوا سدّاً في بدء جريان الماء ، ورصفوه بالحجارة والحديد ، وجعلوا فيه مخارق للماء . فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات ، فلما كفروا نعم الله تعالى ، ورأو أن ملكهم لا يبيده شيء ، وعبدوا الشمس ، سلط الله على سدهم فأرة فخرقته ، وأرسل عليهم السيل فمزقهم كل ممزق ، وأباد خضراءهم ، وتبددوا في البلاد . فلحق الأزد بعمان ، وخزاعة ببطن مر ، والأوس والخزرج بيثرب ، وآل جفنة بأرض الشام ، وآل جذيمة الأبرش بالعراق .
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس ، أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو ؟ أرجل أم امرأة ؟ أم أرض ؟ قال صلّى الله عليه وسلم : < بل هو رجل ولد له عشرة ، فسكن اليمن منهم ستة ، وبالشام منهم أربعة . فأما اليمانيون فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير . وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان > . قال ابن كثير : وإسناده حسن إلا ابن لهيعة .
روى الإمام أحمد أيضاً عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < نعم > . فقاتل بمقبل قومك مدبرهم . فلما وليت دعاني فقال : < لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام > . فقلت : يا رسول الله ! أرأيت سبأ ؟ أوادٍ هو ، أو جبل ، أو ما هو ؟ قال صلّى الله عليه وسلم : < لا ، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة ، فتيامن ستة ، وتشاءم أربعة ؛ تيامن الأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار - الذين يقال لهم بجيلة - وخثعم . وتشاءم لخم ، وحذام ، وعاملة ، وغسان > .
قال ابن كثير : حديث حسن ، وإن كان فيه أبو حباب الكلبي ، وقد تكلموا فيه .
ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب " القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم " عن تميم الداري ، أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سبأ ؟ فذكر مثله .
و قال ابن كثير : فقوي هذا الحديث وحسُن .
وذكر علماء النسب ، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له الرائش ؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه ، فسمي الرائش ، والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً ، وذكروا أنه بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم ، وقال في ذلك شعراً :
~سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مَلِكٌ عَظِيْمٌ نَبِيٌّ لَا يُرَخِّصُ فِي الْحَرَامِ
~وَيَمْلِكُ بَعْدَهُ مِنْهُمْ مُلُوْكٌ يُدِيْنُوْهُ الْقِيَاْدَ بِكُلِّ رَاْمِيْ
~وَيَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنَّا مُلُوْكٌ يَصِيْرُ الْمَلِكُ فِيْنَا بِانْقِسَامِ
~وَيَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطَاْنِ نَبِيٌّ تَقِيٌّ مُتَحَنَّثٌ خَيْرُ الْأَنَامِ
~يُسَمَّى أَحْمَداً يَاْ لَيْتَ أَنِّيْ أُعَمِّرُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِعَاْمِ
~فَأَعْضُدْهُ وَأَحْبُوْهُ بِنَصْرِيْ بِكُلِّ مُدَجَّجٍ وَبِكُلِّ رَامِ
~مَتَىْ يَظْهَرُ فَكُوْنُوْا نَاْصِرِيْهِ وَمَنْ يَلْقَهْ يُبَلِّغْهُ سَلَاْمِيْ
ذكر ذلك الهمداني في كتاب " الإكليل " . واختلفوا في قحطان . فقيل : إنه من سلالة إرم بن سام بن نوح . وقيل : من سلالة عابر وهو هود عليه السلام . وقيل : إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام . وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عُمَر بن عبد البر النمري في كتاب " الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواه " . قال ابن كثير : ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم في سبأ : < كان رجلاً من العرب > يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث ، كان من سلالة الخليل عليه السلام ، وليس هذا بالمشهور عندهم . والله اعلم .
ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون فقال : < ارموا ، بني إسماعيل ! فإن أباكم كان رامياً > . وأسلم قبيلة من الأنصار . والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن . من سبأ ، نزلت يثرب ، لما تفرقت ، كما مر . ثم قال : ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم : < ولد له عشرة > أي : كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه . بل منهم من بينه وبينه ، الأبوان والثلاثة ، والأقل والأكثر . كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فيما ذكر من قصتهم ، وما حل بهم من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام : { لَآيَاتٍ } أي : لعبراً عظيمة : { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام ، والشكر على النعم ، قال الأعشى من قصيدة :
~فَفِيْ ذَاْكَ لِلْمُؤْتَسِيْ أُسْوَةٌ وَمَأْرِبُ عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
~رُخَاْمٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ إِذَاْ جَاْءَ مُوَارهُ لَمْ يَرِمْ
~فَأَرْوَىْ الزُّرُوْعِ وَأَعْنَابَهَاْ عَلَىْ سَعَةٍ مَاْؤُهُمْ إِذْ قُسِمْ
~فَصَاْرُوْا أَيَادِيَ مَاْ يَقْدِرُوْ نَ مِنْهُ عَلَىْ شُرْبٍ طِفْلٍ فُطِمْ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [20 - 21 ] .
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } قال الزمخشري : قرئ : صدق ، بالتشديد والتخفيف ، ورفع لفظ إبليسُ ، ونصب الظن . فمن شدد ، فعلى : حقق عليهم ظنه ، ووجده ظنه صادقاً ؛ أي : صدّق بمعنى حقق مجازاً ؛ لأنه ظن شيئاً فوقع فحققه . وقوله : أو وجده ظناً صادقاً . فإن العرب تقول صدّقك ظنك . والمعنى أن إبليس كان يسول له ظنه شيئاً فيهم ، فلما وقع جعل كأنه صدقه . شهاب .
ومن خفف فعلى : صدق في ظنه ، أو صدق يظن ظناً . نحو فعلته جهدك ؛ أي : فـ : ظنه ، منصوب على الظرفية بنزع الخافض ، وأصله : في ظنه ؛ أي : وجد ظنه مصيباً في الواقع ، فـ : صدق ، حينئذ بمعنى أصاب ، مجازاً . أو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر . كفعلته جهدك ، أي : وأنت تجهد جهدك . فالمصدر وعامله في موقع الحال . شهاب .
وبنصب [ لفظ ] إبليس ورفع الظن ، فمن شدد فعلى : وجد ظنه صادقاً . ومن خفف ، فعلى : قال له ظنه الصدقَ حينَ خيله إغواؤهم . برفع : إغواؤهم ، على الفاعلية ، أو نصبه على الحذف والإيصال ، وفاعليه وضمير الظن ؛ أي : خيل له إغواءهم . شهاب . يقولون : صدقك ظنك .
وبالتخفيف ورفعهما ، أي : على إبدال الظن من إبليس ، بدل اشتمال . شهاب . على : صدق عليهم ظن إبليس . انتهى .
وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات ، أو ببني آدم حينما رأى ما ركب فيهم من الشهوة والغضب .
{ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أي : ما كان له عليهم من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء ، إلا لغرض صحيح وحكمة بينة ، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها ، وعلل التسليط بالعلم . والمراد ما تعلق به العلم . قاله الزمخشري . يعني أن العلم المستقبل المعلل به هنا ، ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس . بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب . فالمعنى ما سلطناه عليهم إلا ليبرز من كمون الغيب ما علمناه ، فتظهر الحكمة فيه بتحقق ما أردناه من الجزاء أو لازمه ، وهو ظهور المعلوم .
ويجوز أن يكون المعنى : لنجزي على الإيمان وضده . كذا في " العناية " : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : رقيب قائم على أحواله وأوامره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } [ 22 ] . : { قُلِ } أي : للمشركين ، إظهاراً لبطلان ما هم عليه , وتبكيتاً لهم : { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم } أي : زعمتموهم آلهة : { مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي : من خير ، وشر ، ونفع ، وضر : { فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } أي : شركة ، لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً : { وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } أي : معين يعينه على تدبير خلقه ، قال الزمخشري : يريد أنهم على هذه القصة من العجز ، والبعد عن أحوال الربوبية . فكيف يصح أن يُدعوا كما يدعى ، ويرجوا كما يرجى ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ 23 ] .
{ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي : من المستأهلين لمقام الشفاعة . كالنبيين والملائكة . وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بكلمة يتكلم بها رب العزة ، في إطلاق الإذن ، تباشروا بذلك : { قَالُوا } أي : سائلاً بعضهم بعضاً : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } أي : قال القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } أي : ذو العلو والكبرياء ، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم إلا بإذنه ، وأن يشفع إلا لمن ارتضى .
قال ابن كثير : هذا أيضاً مقام رفيع في العظمة ، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي . فسمع أهل السماوات كلامه ، أرعدوا من الهيبة ، حتى يلحقهم مثل الغشي . قاله ابن مسعود رضي الله عنه ، ومسروق ، وغيرهما .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ولأي شيء وقعت حتى غاية ؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام ، من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دل عليه قوله عز وجل : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 37 - 38 ] . أي : وإذا كانت الشفاعة لمن أذن له بهذا الحال ، عظمة وسموّاً من ذي الجلال ، فأنّى ينالها جماد لا يعقل ، لاسيما وهو عدو للكبير المتعال ، فتبين كذبهم فيهم أنهم شفعاء ، وحرمانهم من مقامها ، بأجلى بيان وأفصح مقال .
وفي الآية تأويل آخر ، وهو أن معنى قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي : عن قلوب المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا تنبهوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا . قال مجاهد : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي : كشف عنها الغطاء يوم القيامة . وقال الحسن : أي : كشف عما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا عند الموت ، أقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار . واختار ابن جرير القول الأول ، وهو أن الضمير عائد إلى الملائكة .
قال ابن كثير : وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه ؛ لصحة الأحاديث فيه ، والآثار ، أي : ولورود ما يؤيده في آية أخرى ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وذلك في قوله تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] ، نعم ، النظم الكريم لا يأبى ما ذكروه ، إلا أن مراعاة الأشباه والنظائر هو العمدة في باب فهم التأويل ، ما وجد إليها سبيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 24 ] .
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أمر بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما . وقوله : { قُلِ اللَّهُ } أي : الذي تعترفون بأنه هو الخالق ، كما قال تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } [ يونس : 31 ] . أي : فحينئذ قامت الحجة عليهم منهم .
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي : وإن أحد الفريقين من الموحدين الرازقَ من السماوات والأرض بالعبادة ، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة ، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال .
قال الزمخشري : وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من مُوالٍ أو منافٍ ، قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك ، وفي دَرْجِهِ بعدَ تقدمةِ ما قدم من التقرير البليغ ، دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ، ومن هو في الضلال المبين ، ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وقل شوكته بالهوينا ، ونحوه قول الرجل لصاحبه : علم الله الصادق مني ومنك ، وإن أحدنا لكاذب .
ومنه بيت حسان :
~اَتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاْءُ
انتهى .
قال الناصر : وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب ، رددته على سمعي فزاد رونقاً بالترديد ، واستعاده الخاطر ، كأني بطيء الفهم حين يفيد ، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم ، وذلك قولهم : أحد الأمرين لازم على الإبهام ، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد ، فتأمله ، والله الموفق . انتهى .
قال الشهاب : وهذا فن من فنون البلاغة يسمى الكلامَ المنصف . وقيل إن الآية على اللف والنشر المرتب . ونظر فيه بأنه لو قصد اللف بأن يكون على هدى راجعاً لقوله : { وَإِنَّا } و : { أوْ في ضَلالٍ } راجعاً لـ : { إِيَّاكُمْ } كان العطف بالواو لا بأو ، وكونها بمعنى الواو كما في قوله :
~سِيَّاْنَ كَسْرُ رَغِيْفِهِ أَوْ كَسْرُ عَظْمٍ مِنْ عِظَاْمِهْ
بعيد جداً . إلا أنه قيل : لو جعل فيه إيماء لذلك لم يبعد . وإيثار على ، في الهدى ، وفي في مقابله ، للدلالة على استعلاء صاحب الهدى وتمكنه واطلاعه على ما يريد ، كالواقف على مكان عال ، أو الراكب على جواد ، وانغماس الضال في ضلاله حتى كأنه في مهواة مظلمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 25 ] .
{ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي : قل لهؤلاء المشركين : لا تُسألون عما أجرمنا من جرم ، وركبنا من إثم ، ولا نُسأل نحن عما تعملون من عمل . قال ابن كثير : معناه التبري منهم . أي : لستم منا ولا نحن منكم ، بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده ، ولإفراد العبادة له ، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم ، وإن كذبتم فنحن براء منكم وأنتم براء منا . كما قال تعالى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] . وقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 1 - 3 ] . انتهى .
وما ذكره معنى دقيق ، قلَّ من يتفطن له ، أسميه التفسير بالأشباه والنظائر ، وهو حمل آية موجزة أو مجملة على آية تشبهها مطولة أو مبينة ، ولا يدرك هذا إلا الراسخ في فن التأويل ، الولع بتدبر التنزيل ، ومن لطائف الآية ما ذكره الزمخشري والمنتصف [ كذا ] ، من أن هذا القول أدخلُ في الإنصاف من الأول ، حيث أسند الإجرام إلى النفس ، وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن ، وأسند العمل إلى المخاطبين ، وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر . فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم ، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات ، التزاماً للإنصاف ، وزيادة على ذلك ، أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي ، الذي يعطي تحقيق المعنى ، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطي ذلك . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ 26 ] .
{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } أي : يوم القيامة في صعيد واحد { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي : يقضي بالعدل ؛ لأن أحد فريقينا على هدى والآخر على ضلال ، فيتبين يومئذ المهتدي منا من الضال ، ويجزى كلّا بعمله ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [ الروم : 14 - 16 ] . ولهذا قال سبحانه : { وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } أي : الحاكم العادل العليم بالقضاء بين خلقه ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يحتاج إلى شهود تعرّفه المحق من المبطل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 27 ] .
{ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء } أي : جعلتموهما لله أنداداً ، وصيرتموهما له عدلاً ، قال أبو السعود : أريد بأمرهم بإراءة الأصنام ، مع كونها بمرأى منه صلّى الله عليه وسلم . إظهار خطئهم العظيم وإطلاعهم على بطلان رأيهم ؛ أي : أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العباد ، وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم .
وقد جوّز المعربُ في رأى هنا أن تكون علمية متعدية بهمزة النقل ، إلى ثلاثة مفاعيل : ياء المتكلم والموصول وشركاءه . وعائد الموصول محذوف ؛ أي : ألحقتموهم . وأن تكون بصرية تعدت بالنقل لاثنين : ياء المتكلم والموصول ، وشركاء حال . ولا ضعف في هذا كما قاله ابن عطية . بل فيه توبيخ لهم ، إذ لم يرد حقيقته ؛ لأنه كان يراهم ويعلمهم ، فهو مجاز وتمثيل . والمعنى : ما زعمتموه شريكاً إذا برز للعيون ، وهو خشب وحجر ، تمت فضيحتكم . وقوله تعالى : { كَلاَّ } ردع لهم عن المشاركة ، بعد إبطال المقايسة : { بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة . فأين شركاؤهم التي هي أخس الأشياء وأذلها ، من هذه الرتبة العالية . والضمير إما لله عز وعلا ، أو لشأن . قاله أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 28 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : وما أرسلناك إلا إرسالةً عامة لجميع الخلائق من المكلفين ، تبشر من أطاعك بالجنة ، وتنذر من عصاك بالنار ، كقوله تبارك وتعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : فيحملهم جهلهم على ما هم فيه من الغي والضلال كقوله عز وجل : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] . قال ابن عباس - فيما رواه ابن أبي حاتم - إن الله تعالى فضّل محمداً صلّى الله عليه وسلم على أهل السماء ، وعلى الأنبياء . قالوا : يا ابن عباس ! فبمَ فضّله الله على الأنبياء ؟ قال رضي الله عنه : إن الله تعالى قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال للنبي صلّى الله عليه وسلم : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } . فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس . قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في " الصحيحين " رفعه عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسير شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة > ، وفي " الصحيح " أيضاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : < بعثت إلى الأحمر والأسود > ، قال مجاهد : يعني الجن والإنس . وقال غيره : يعني العرب والعجم . والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته ، هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا ، وأي زمان وجدوا ، مما لم يتفق في شرع قبله قط ، ولهذا ختمت النبوات بنبوته صلّى الله عليه وسلم ، كما تقرر في موضعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } [ 29 - 30 ] .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } يعنون بالوعد المنذر به استهزاء ، كقوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [ الشورى : 18 ] وقوله : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 104 ، 105 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ 31 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو ما نزل قبلَ القرآن من كتبه تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ } أي : يتجاذبون أطراف المحادثة ، ويتراجعونها بينهم ، ثم أبدل من : { يَرْجِعُ } قوله : { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } وهم الأتباع : { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم قادتهم وسادتهم : { لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } [ 32 ] .
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } أي : نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان ، وخالفتم الأدلة ، والبراهين ، والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 33 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : مكركم فيهما وإغراؤكم وتمنيتكم لنا : { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أي : نظراء وآلهة معه { وَأَسَرُّوا } أي : الجميع من السادة والأتباع : { النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : بأعمالهم كلٌّ بحسبه ، للقادة عذاب بحسبهم ، وللأتباع بحسبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ 34 - 35 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي : زعماً أنه أكرمهم عند الله بذلك في الدنيا ، فلا يعذبهم في الآخرة علة تقدير وقوعها ، وتوهماً بأنهم لو لم يكْرُموا على الله لما رزقهم ، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرَمهم . وقد أبطل الله تعالى حسبانهم ذلك بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 36 ] .
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أي : يضيق عليه حسب ما اقتضته حكمته ومشيئته في عباده ، ومن يحب ومن لا يحب ، وهو أعلم بمقتضياته وشؤونه ، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعذاب ، اللذين مناطهما الطاعة وعدمها ، ولذا قال : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون َ } ذلك . فيزعمون أن مدار البسط الكرامة ، والتضييق الهوان . ويجهلون أن مناط الفوز والقرب منه تعالى ، إنما هو الكمالات النفسية ، وذلك بصدق الإيمان وحسن الاتباع . كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [ 37 ] .
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } أي : بالمزية التي تقربكم قربة . فـ : { زُلْفَى } محلها النصب : { إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ } أي : الثواب المضاعف : { بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ومن نظائر الآية قوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 - 56 ] ، وقوله سبحانه : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] . وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : < إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [ 38 ] .
{ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا } أي : بالصد عنها والطعن فيها : { مُعَاجِزِينَ } أي : قاصدين المعاجزة والمغالبة والقهر : { أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي : في عذاب جهنم محضرون يوم القيامة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ 39 ] .
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي : يعوضه ، فإن ينابيع خزائنه لا تنضب ، وسحائب أرزاقه سحّاء الليل والنهار : { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : أعلاهم ؛ لأنه خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق ، روى أبو يعلى عن حذيفة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض ؛ يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق > . ثم تلا هذه الآية : { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } وقال مجاهد : لا يتأولنّ أحدكم هذه الآية : { مَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه ، فإن الرزق مقسوم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ 40 - 41 ] .
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } قال الزمخشري : هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار ، واردٌ على المثل السائر : إياك أعني واسمعي يا جارة . ونحوه قوله تعالى : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ المائدة : 116 ] ، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزّهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير . والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا ، فيكون تقريعهم أشد ، وتعييرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم ، وهوانهم ألزم , ويكون اقتصاص ذلك لطفاً لمن سمعه ، وزجراً لمن اقتص عليه . انتهى .
وتخصيص الملائكة ، لأنهم أشرف الأنداد عند مشركي العرب ، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله ، لزعمهم أن الأوثان على صور الهياكل العلوية المقربة ، فتكون شفعاء لهم . وقوله تعالى : { أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } أي : أبإذنكم كان ذلك . كما قال تعالى : { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } [ الفرقان : 17 ] . وكما يقول تعالى لعيسى عليه السلام : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] ، وهكذا تقول الملائكة : { سُبْحَانَكَ } أي : تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله : { أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم } أي : أنت الذي نواليه من دونهم ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم ، فنبرء إليك منهم . بينوا بإثبات موالاة الله , ومعاداة الكفار ، براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم . وقولهم : { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } أي : الشياطين ، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم . والضمير الأول في قولهم : { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } للإنس أو للمشركين ، والأكثر بمعنى الكل ، والثاني للجن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ 42 ] .
{ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً } أي : لأن الأمر كله فيه لله ؛ لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده . قال أبو السعود : وهذا من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزّه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة ، يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد ، إظهاراً لعجزهم ، وقصورهم عند عَبَدتهم ، وتنصيصاً على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } وهم المشركون : { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُون } ثم بين جملة أخرى من كفرانهم بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 43 ] . : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا } يعنون رسول الله صلّى الله عليه وسلم : { إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا } أي : القرآن الكريم : { إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } [ 44 ] .
{ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } أي : ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن ، وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد صلّى الله عليه وسلم ، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون : لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا ، فلما مَنّ الله عليهم بذلك كذّبوه ، وجحدوه ، وعاندوه . ثم هددهم سبحانه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ 45 ] .
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المتقدمة والقرون الخالية كما كذبوا : { وَمَا بَلَغُوا } أي : هؤلاء : { مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } يعني أولئك ، من المال ، وبسطة الملك ، والعمران ، والمدينة : { فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : عقابي ، ونكالي ، وانتقامي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ 46 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ } أي : بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق ، وقد فسرها بقوله : { أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } أي : قياما خالصاً لله بلا محاباة ، ولا مراءاة ، اثنين اثنين ، وواحداً واحداً : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي : في أمره صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى ، والإصلاح ، وتهذيب الأخلق ، ورفع النفس عن عبادة ما هو أحط منها من الأوثان ، إلى عبادة فاطر الأرض والسماوات ، واتباع الأحسن ، ونبذ التقاليد ، وإنزال الرؤساء إلى مصاف المرؤوسين رغبة في الإخاء والمساواة ، إلى غير ذلك من محاسن الإسلام ، وخصائصه المعروفة في الكتب المؤلفة في ذلك . وقوله تعالى : { مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } أي : جنون . مستأنف منبه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كافٍ في ترجح صدقه ، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير ، وخطب عظيم من غير تحقيق وثوق ببرهان . فيفتضح على رؤوس الأشهاد ، ويلقي نفسه إلى الهلاك ، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة ؟ وجوز كون الجملة معلقاً عنها ؛ لقول ابن مالك : إن تفكر يعلّق حملاً على أفعال القلوب ، والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلم بـ : صاحبهم ؛ للإيماء أن حاله معروف مشهور بينهم ، لأنه نشأ بين أظهرهم معروفاً بقوة العقل ، ورزانة الحلم وسداد القول والفعل { إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } وهو عذاب الآخرة والمآل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [ 47 - 49 ] .
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } أي : أي : شيء سألتكم من أجر على الرسالة فهو لكم . والمراد نفي السؤال رأساً ، وإمحاض النصح كناية ، لأن ما يسأله السائل ، يكون له ، فجعله للمسؤول عنه ؛ كناية عن أنه لا يسأل أصلاً . و " ما " على هذا شرطية . وجوز كونها موصولة مراد بها ما سألهم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] . وقوله : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الشورى : 23 ] . واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى ، وقرباه عليه السلام قرباهم . وجوز أيضاً كونها نافية . وقوله : { فَهُوَ لَكُمْ } جواب شرط مقدر ؛ أي : فإذا لم أسألكم فهو لكم : { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } أي : يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه ، أو يرمي به في أقطار الآفاق ، فيكون وعداً بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق : { عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاء الْحَقُّ } أي : ظهر ، وهو الإسلام ومحاسنه : { وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره ، مأخوذ من هلاك الحيّ ، فإنه ما دام موجوداً ، إما أن يبدئ فعلاً أو يعيده ، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة . ثم شاع في كل ما ذهب ، وإن لم يبق له أثر ، وإن يكن ذا روح . وجوز كون ما استفهامية منتصبة بما بعده ؛ أي : أي : شيء يقدر عليه .
تنبيه :
في " الإكليل " : في الآية استحباب هذا القول عند إزالة المنكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [ 50 ] .
{ قُلْ إِن ضَلَلْتُ } أي : عن الطريق الحق : { فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } أي : لأن وبال ذلك عائد عليها ، أو على ذاتي ، لا على غيري : { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي : من الرشاد والحق المبين : { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } فإن قيل : مقتضى المقابلة مع الجملة قبلها ، أن يقال : وإن اهتديت فإنما أهتدي لها . فلم عدل عنها إلى ما ذكر ؟ قيل : إن المقابلة تكون باللفظ وتكون بالمعنى . وما هنا من الثاني ، بيانه أن النفس كل ما عليها فهو بها ، أي : كل ما هو وبال عليها ، وضار لها ، فهو بسببها ، ومنها ؛ لأنها الأمارة بالسوء ، وكل ما هو لها مما ينفعها ، فبهداية ربها وتوفيقه إياها .
وهذا حكم عام لكل مكلف ، وإنما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بسند ذلك إلى نفسه ؛ لأن الرسول إذا دخل في عمومه ، مع علوّ محله وسداد طريقته ، كان غيره أولى به . أشار لهذا ، الفاضل ابن الأثير في " المثل السائر " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ 51 ] .
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا } أي : هؤلاء المكذبون عند الموت أو البعث أو ظهور الحق وسلطانه ، ودخولهم تحت أسره : { فَلَا فَوْتَ } أي : لهم ، بهرب أو التجاء ؛ إذ لا وزر لهم ولا ملجأ : { وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي : من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو ظفر بهم بسهولة بعد تعذره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ 52 ] .
{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } أي : بمحمد صلّى الله عليه وسلم ، أو القرآن : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : ومن أين لهم تناول الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم ، لأنهم صاروا إلى الدار الآخرة ، وهي دار الجزاء ، لا دار الابتلاء ، أو : لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يدخل الإيمان قلوبهم ، أي : على تفسير : { إِذْ فَزِعُواْ } بظهور الحق عليهم في حياتهم ، منه . قال الزمخشري : التناوش والتناول ، أخوان ، إلا أن التناوش ، تناول سهلٍ لشيءٍ قريب, يقال : ناشه ينوشه ، وتناوشه القوم . ويقال تناوشوا في الحرب . ناش بعضهم بعضاً . وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة ، كما يتناوله الآخر من قبس ذراع ، تناولاً سهلاً لا تعب فيه . انتهى . أي : ففيه استعارة تمثيلية ؛ شبه إيمانهم حيث لا يقبل ، بمن [ في المطبوع : يمن ] كان عنده شيء يمكن أخذه ، فلما بعد عنه فرسخاً ، مد يده لتناوله . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ 53 ] .
{ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ } حال ، أو معطوف ، أو مستأنف . والأول أقرب { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي : يرجمون بالظن فيتكلمون بما لم ينشأ عن تحقيق من أقوالهم الباطلة ؛ كقولهم : ساحر ، وشاعر ، ومجنون ، وما نحن بمبعوثين ، ونحو ذلك . فكله مقذوف من جهة بعيدة ، لا قرب لمصداقها بوجه ما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } [ 54 ] .
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } أي : من نفع الإيمان يومئذ ، والنجاة به من النار ، أو من أن يدال لهم الأمر ؛ لأنه جاء نصر الله والفتح : { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } أي : بأشباههم من كفرة الأمم : { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } من أرابه ، أوقعه في ريبة وتهمة . فالهمزة للتعدية . أو من : أراب الرجل ، أي : صار ذا ريبة ، وهو مجاز ، إما بتشبيه الشك بإنسان ، على أنه استعارة مكنية وتخييلية ، أو على أنه إسناد مجازي ، أسند فيه ما لصاحب الشك ، للشك ، للمبالغة . أفاده الشهاب .
تنبيه :
في " الإكليل " قال ابن الفرس : احتج بهذه الآية بعض المفسرين ، على أن الشاك كافر . وردّ بها على من زعم أنه ليس بكافر ، وأن الله لا يعذب على الشك . انتهى .
وعن قتادة : إياكم والشك والريبة ؛ فإن من مات على شك بعث عليه ، ومن مات على يقين بعث عليه .
أحيانا الله وبعثنا على اليقين ؛ إنه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين .

(/)


سورة فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 1 - 2 ] .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مبتدئها ومبدعها من غير سبق مثل ومادة : { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي : ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد ، حسب تفاوت ما لهم من المراتب ، ينزلون بها ، ويعرجون ، أو يسرعون بها . وفي الصحيح : < أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة أسري به ، وله ستمائة جناح > . ولهذا قال سبحانه : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } أي : يزيد في خلق الأجنحة وغيره ما يشاء ، مما تقتضيه حكمته : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } أي : نعمة سماوية كانت أو أرضية : { فَلَا مُمْسِكَ لَهَا } أي : لا أحد يقدر على إمساكها : { وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد إمساكه : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الغالب على كل ما يشاء : { الْحَكِيمُ } أي : في أمره وصنعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 3 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : لتستدلوا بها على وحدته في ألوهيته ؛ لأنه المنفرد بإرسالها وحده ، ولا يصح لمن انفرد بالإنعام أن يشرك معه غيره ؛ لأنه كفران له موجب لغضبه . وهذا ما أشار له بقوله تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ } أي : المطر والنبات : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون عن التوحيد الواجب - لأنه مقتضى شكر النعم - إلى الشرك والكفر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } [ 4 ] .
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } فيجازي المكذب وشيعته بالخزي وظهور الحق عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [ 5 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : ما وعد به من جزائه بالثواب إن صدقتم في الاتباع ، وبالعقاب ، إن عصيتم : { فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : بأن يذهلكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها ، عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله : { وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان ، وقرئ بالضم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ 6 ] .
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي : باتباع الهوى والركون إلى الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ 7 - 8 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } [ 9 ] .
{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } أي : مثل إحياء الموات ، إحياء الأموات ، وكثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها ، ليعتبر المرتاب في هذا ، فإنه من أظهر الآيات وأوضحها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } [ 10 ] .
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ } أي : الشرف والرفعة : { فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي : فليطلبها من عنده ، باتباع شريعته ، وموالاة أنبيائه ورسله ، والتأسي بهم في الصلاح والإصلاح ، والصبر والثبات ، واطّراح كل ملامة رغبة في الحق وعملاً بالصدق . وهذا كآية : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] . وكآية : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وهو الداعي إلى الحق والإصلاح ، والمنبه على سبل الضلال والفساد : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أي : يرفع الكلمُ العملَ الصالح ، على أن يكون المستكن للكلم ، إشارة إلى أن العمل لا يقبل إلا بالكلم المؤثر في إبلاغ دعوة الخير . والضمير المستتر للعمل ، والبارز للكلم ؛ أي : يكون العمل الصالح موجباً لرفعها وقبولها لأنه يحققها ويصدقها ، كما قال تعالى عن شعيب عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [ هود : 88 ] ، { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : الأعمال السيئة المفسدة لصلاح الأمة وقيام عمرانها : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي : يضمحل ؛ لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ 11 ] .
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي : ذكراناً وإناثاً ، لطفاً منه ورحمة : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي : من أحد ، وإنما سمي معمراً لما يؤول إليه ؛ أي : وما يمدّ في عمر أحد : { وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ } وهو علمه تعالى الذي سبق ، ببلوغ أصله إليه : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : الحفظ والزيادة أو النقص سهل ؛ لشمول علمه وعموم قدرته .
لطيفة :
الضمير في : عمره ، للمعمر قبله . باعتبار الأصل المحوّل عنه ؛ لأن الأصل : وما يعمر من أحد كما ذكرنا ، أو هو على التسامح المعروف فيه ، ثقة في تأويله بأفهام السامعين ، كقولهم : له علي درهم ونصفه ؛ أي : نصف درهم آخر . أو للمنقوص من عمره لا للمعمر ، كما في الوجه السابق ، وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور ، كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء . فيعود الضمير على ما علم من السياق . وقد أطال بعضهم الكلام في ذلك ، ومحصله ، كما ذكره الشهاب ، أنه اختلف في معنى : { مُّعَمَّرٍ } فقيل : المزاد عمره ؛ بدليل ما يقابله من قوله : { يُنقَصُ } الخ . وقيل : من يجعل له عمر . وهل هو واحد أو شخصان ؟ فعلى الثاني هو شخص واحد . قالوا مثلاً : يكتب عمره مائة ثم يكتب تحته مضى يوم ، مضى يومان ، وهكذا . فكتابة الأصل هي التعمير ، والكتابة بعد ذلك هو النقص . كما قيل :
~حَيَاْتُكَ أَنْفَاْسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا مَضَىْ نَفَسٌ مِنْهَا انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءاً
والضمير في : عمره ، حينئذ راجع إلى المذكور ، والمعمر هو الذي جعل الله له عمراً طال أو قصر ، وعلى القول الأول هو شخصان . والمعمر الذي يزيد في عمره . والضمير حينئذ راجع إلى معمر آخر ؛ إذ لا يكون المزيد من عمره منقوصاً من عمره . وهذا قول الفرّاء ، وبعض النحويين ، وهو استخدام ، أو شبيه به . انتهى .
ثم أشار تعالى لآيات أخرى من آيات قدرته ووحدانيته ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 12 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي : شديد العذوبة : { سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : قوي الملوحة : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } يعني السمك : { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } أي : زينة تتحلّون بها . كما قال تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } أي : تمخر الماء وتشقه بجريها : { لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } أي : بالتنقل فيها : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [ 13 ] .
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني مدة دوره ، أو منتهاه ، أو يوم القيامة : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } أي : فأنّى يستأهلون العبادة . والقطمير : لفافة النواة ، وهو مثلٌ في القلة والحقارة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ 14 ] .
{ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ } لأنهم جماد : { وَلَوْ سَمِعُوا } أي : على الفرض : { مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } أي : لعدم قدرتهم على النفع : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي : يقرون ببطلانه ، وأن لا أمرَ لهم فيه : { وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي : لا يخبرك بالأمر مخبر ، مثل خبير عظيم أخبرك به ، وهو الحق سبحانه ؛ فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين . والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ، ونفي ما يدعون لهم من الإلهية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ 15 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ } أي : رحمته ، وعنايته ، ولطفه ، وإمداده في كل لمحة ونفس ، وسر وصل الآية بما قبلها من التهكم بالأنداد ، لتذكيرهم الالتجاء إليه تعالى ، والتضرع والابتهال إذا مسهم الضر ، وأخذت البأساء بمخانقهم ، فإنهم يشعرون من أنفسهم دافعاً إلى سؤاله لا مردّ له . وحاثّاً إلى اللجأ إليه لا صاد عنه ، كما بين في غير آية ، مما يدل على أنه تعالى هو الحقيق بالعبادة ، لغناه المطلق ، كما قال : { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : المحمود لنعمه التي لا تحصى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [16 - 17] .
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي : بممتنع . قال الزمخشري : وهذا غضب عليهم ، لاتخاذهم له أنداداً ، وكفرهم بآيه ، ومعاصيهم ، كما قال : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [ 18 ] .
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تحمل نفس آثمة : { وِزْرَ أُخْرَى } أي : إثم نفس أخرى ، بل إنما تحمل وزرها الذي اقترفته ، لا تؤخذ نفس بذنب نفس ؛ كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ ، والجار بالجار ، ولا يرد آية : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ؛ لأنها في الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، وذلك كله أوزارهم ، ما فيها شيء من وزر غيرهم .
{ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نفس أثقلتها الأوزار : { إِلَى حِمْلِهَا } أي : إلى حمل بعض أوزارها ليخفف عنها : { لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } أي : لم تجب ولم تُغث بحمل شيء : { وَلَوْ كَانَ } أي : المدعو المفهوم من الدعوة : { ذَا قُرْبَى } أي : ذا قرابة من الداعي ، من أب أو ولد أو أخ ، وهذا قطع لأطماع انتفاعهم بقرابتهم ، وغنائهم عنهم ، وأنه لا تملك نفس لنفس شيئاً ، وأن كل امرئ بما كسب رهين ، ثم بين من يتعظ ويتذكر ؛ فقال سبحانه : { إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى } أي : تطهر من أوضار الأوزار : { فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } [ 19 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } مثل الكافر والمؤمن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } [ 20 ] .
{ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } مثل للحق والباطل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } [ 21 ] .
{ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } مثل للثواب والعقاب و : { الْحَرُورُ } الريح الحارة بالليل ، وقد تكون بالنهار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } [ 22 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ } تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أي : ما يستوي أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيله ، وأموات القلوب ؛ لغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال : { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء } أي : يوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته : { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } أي : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله ، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينتفع بمواعظ الله وبيان حججه ، من كان ميت القلب عن معرفة الله وفهم كتابه وواضح حججه . وهذا ترشيح لتمثيل المُصرّين على الكفر بالأموات ، وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام ، من إيمانهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ } [ 23 ] .
{ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ } أي : ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر ، فإن كان المنذَر ممن يسمع الإنذار نفع ، وإن كان من المُصرّين فلا عليك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [ 24 ] .
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } أي : وما من أمة من الأمم الدائنة بملة ، إلا مضى فيها نذير من قبلك ينذرهم على كفرهم بالله ، ويزيح عنهم العلل كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] وكقوله سبحانه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [ النحل : 36 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } [ 25 ] .
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي : وإن يكذبوك ولم يستجيبوا لك ، فلا تبال بهم وتأس بمن كُذّب من الرسل السالفة ، فقد جاءوهم بالآيات ، والخوارق المحسوسة على صحة نبوتهم ، وبالصحف المرشدة لهم إلى مسالك الفلاح والنجاح ، وبالكتاب المنير لمن تدبره وتأمله ، أنه الحق الناطق بالصواب والصدق ، وليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر ، حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب ، بل المراد أن بعض الرسل جاء بهذا ، وبعضهم جاء بهذا ، وجوز أن يراد بالجميع واحد ، والعطف لتغاير الأوصاف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ 26 ] .
{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : إنكاري بالعقوبة ، وفيه مزيد تشديد وتهويل لها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ 27 ] . : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قرأ الجمهور : { جُدَدٌ } بضم الجيم وفتح الدال ، جمع جُدة بالضم ، وهي الطريقة من جدَّه إذا قطعه ، أي : ومن الجبال ذوو جدَد ، أي : طرائق بيض وحمر ، وإنما قدر المضاف ؛ لأن الجبال ليست نفس الطرائق . وغرابيب : جمع غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد ، يقال : أسود غربيب ، كما يقال : أحمر قان ، وأصفر فاقع ، تأكيداً . وإما قدم هنا ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد للمبالغة ، ورأى بعضهم أنه مقدم من تأخير ، ذهاباً إلى جواز تقديم الصفة على موصوفها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ 28 ] .
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } أي : اختلافاً كذلك ، أي : كاختلاف الثمرات والجبال . وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } تكملة لقوله تعالى : { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [ فاطر : 18 ] ، بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس ، بعد بيان اختلاف طبقاتهم ، وتباين مراتبهم ، أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل , وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح ، توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان ؛ أي : إنما يخشاه تعالى بالغيب ، العالمون به عز وجل ، وبما يليق به من صفاته الجليلية , وأفعاله الجميلة ؛ لما أن مدار الخشية معرفة المخشي والعلم بشؤونه ، فمن كان أعلم به تعالى ، كان أخشى منه عز وجل . كما قال عليه الصلاة والسلام : < أنا أخشاكم لله وأتقاكم له > . ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة ، امتنع إنذارهم بالكلية . أفاده أبو السعود .
وقال القاشاني : أي : ما يخشى الله إلا العلماء العرفاء به ؛ لأن الخشية ليست هي خوف العقاب ، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة ، واستحضاره لها ، فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيته ، ومن تجلى الله له بعظمته ، خشيه حق خشيته ، وبين الحضور التصوّري الحاصل للعالم غير العارف, وبين التجلي الثابت للعالم العارف - بون بعيد - ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان . انتهى .
ويذكر بعض المفسرين هنا القراءة الشاذة . رفع الاسم الجليل ونصب العلماء ، ويتأولون الخشية بالتعظيم استعارة ، وربما استشهدوا بقوله :
~أَهَاْبُكَ إِجْلَاْلاً وَمَا بِكَ قُدْرَةٌ عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيْبُهَا
وقد طعن في " النشر " في هذه القراءة ، والحق له ؛ لمنافاتها للسياق والسباق ، وما أغنى المنقحين عن تسويد الصحف بمثل هذه الشواذ ! وبالله التوفيق .
{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } أي : غالب على كل شيء بعظمته [ في المطبوع : بعطمته ] ، غفور لمن تاب وأناب وعمل صالحاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ 29 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } أي : يداومون على تلاوته وتدبره ، للأخذ بما فيه : { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } أي : أجراً وفضلاً لا يفنى ، والتجارة استعارة لتحصيل الثواب بالطاعة ، والبوار بمعنى الكساد والهلاك ترشيح للاستعارة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ 30 ] .
{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي : لأعمالهم ، والشكر مجاز عن الإثابة والجزاء بالإحسان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [31 - 32] . : { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } أي : ثم ، يعد أخذ الذين كفروا ، أورثنا الكتاب الذي هو أعظم فضل ، وعناية ، ورحمة ، المصطفين من الموحدين . ثم بين انقسامهم في العمل به إلى ثلاثة ، بقوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي : بالإثم والعصيان : { وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } أي : في العمل ، ليس من المجرمين ، ولا من السابقين : { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [ 33 - 34 ] .
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ 35 ] .
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ } أي : الإقامة : { مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أي : تعب : { وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أي : كلال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [ 36 - 37 ] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } أي : أو ما عشتم في الدنيا أعماراً ينتفع فيها من يتذكر ويتبصر ؟ قال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة . فتعوذ بالله أن تغتر بطول العمر ، وقد نزلت هذه الآية ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً } [ 38 - 39 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ } أي : مستخلفين فيها ، أباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة : { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً } أي : بغضاً شديداً
{ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً } [ 40 ] .
{ قُلْ } أي : تبكيتاً لهم : { أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } أي : شركة في خلقها : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } أي : حجة وبرهان ، بأنه أذن لهم في الإشراك : { بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً } أي : في قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورا ً *اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ 41 - 43 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا } أي : ما أمسكهما : { مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ } يعني إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } وفي معنى الآية قوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } [ الأنعام : 156 - 157 ] . وقوله تعالى : { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الصافات : 167 - 170 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [ 44 - 45 ] .
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } أي : بما اقترفوا من معاصيهم : { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } أي : من نسمة تدب ، لشؤم معاصيهم ، والضمير للأرض لسبق ذكرها : { وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } أي : فإذا جاء أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيراً بمن يستحق أن يعاقب ، وبمن يستوجب الكرامة .

(/)


سورة يس
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يس } [ 1 ].
{ يس } تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مراراً . وحاصله - كما قاله أبو السعود - أنها إما مسرودة على نمط التعديد ، فلا حظّ لها من الإعراب ، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه ، وعليه الأكثر ، فمحله الرفع على أنه خبر محذوف ، أو النصب ، مفعولاً لمحذوف ، وعليهما مدار قراءة : { يس } بالرفع والنصب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [ 2 ] .
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } أي : ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة ، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف ، منزلة الرأس ، وكانت أخص ، أو صاف التنزيل ، أوثِرت في القَسم به دون بقية صفاته ، لذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 3 - 4 ] .
{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الوصل إلى المطلوب بدون لغوب . والتنكير للتفخيم والتعظيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [ 5 ] .
{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } بالنصب على إضمار فعله ، وبالرفع خبر لمحذوف ، أو خبر لـ : { يس } إن كان اسماً للسورة ، أو مؤولاً بها . والجملة القسمية معترضة ، والقسم لتأكيد المقسَم عليه والمقسَم به ، اهتماماً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ 6 ] .
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ } أي : برسول ولا كتاب : { فَهُمْ غَافِلُونَ } أي : عن أمر حق الخالق والمخلوق ، بالكفر ، والفساد ، ونكران البعث ، والمعاد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ 7 ] .
{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } أي : استأهلوا لأن ينزل بهم العذاب ، وينتقم منهم أشد الانتقام : { فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يريدون أن يؤمنوا ويهتدوا ، كفراً ، وكبراً ، وعناداً ، وبغياً في الأرض بغير الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [ 8 ] .
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ } أي : اللحى ؛ أي : واصلة إليها وملزوزة إليها : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي : ناصبو رؤوسهم ، غاضّو أبصارهم . يقال : أقمح الرجل ، في رأسه وغض بصره . وأقمح الغلّ الأسير ، إذا ترك رأسه مرفوعاً لضيقه ، فهو مقمح ، إذا لم يتركه عمود الغل الذي ينخس ذقنه ، أن يطأطئ رأسه . قال ابن الأثير : هي في قوله تعالى : { فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ } كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ؛ لأن الغلّ يجعل اليد تلي الذقن والعنق ، وهو مقارب للذقن . وقال الأزهري : أراد عز وجل أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم ، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صُعُداً ، كالإبل الرافعة رؤوسها ، وهذا معنى قول ابن كثير : اكتفى بذكر الغل في العنق ، عن ذكر اليدين ، وإن كانتا مرادتين ، لما دل السياق عليه ؛ فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ 9 ] .
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قال الزمخشري : مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين ، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدّين ، لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم ، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر ، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله . انتهى . أي : فالمجموع استعارة تمثيلية .
وفي " الانتصاف " للناصر : إذا فرقت هذا التشبيه ، كان تصميمهم على الكفر مشبهها بالأغلال ، وكان استكبارهم عن قبول الحق ، وعن الخضوع ، والتواضع لاستماعه ، مشبهاً بالإقماح ؛ لأن المقمح لا يطأطئ رأسه . وقوله : { فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ } تتمة للزوم الإقماح لهم ، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبهاً بسدٍّ من خلفهم ، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهاً بسدٍّ من قدامهم . انتهى . فيكون فيه تشبيه متعدد . قال الشهاب : والتمثيل أحسن منه . انتهى .
ثم قال الناصر : يحتمل أن تكون الفاء في : { فَهُمْ مُقْمَحُوْنَ } للتعقيب ، كالفاء الأولى ، أو للتسبب ، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الإقماح ؛ فإن اليد ، والعياذ بالله ، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن ، دافعة بها ومانعة من وطأتها . ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير ، فإن اليد متى كانت مرسلة مخلاة ، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها , ولعله يتحيّل بها على فكاك الغل ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة . فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة ، أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم ، مشبهاً بغلّ الأيدي ؛ فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص . انتهى .
وإنما اختير هذا ؛ لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا ، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة ، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه ، فورد عليه أن يكون أجنبياً في البين ، وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله : { حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } [ يس : 7 ] ، والأول أدق ، وبالقبول أحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 10 ] .
{ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } أي : خوفتهم بالقرآن : { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : لا يريدون أن يؤمنوا ، ولما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش ، الذين هلكوا في بدر ، وكانوا طواغيت الكفر ، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [ 11 ] .
{ إِنَّمَا تُنذِرُ } أي : الإنذار المترتب عليه النفع : { مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } أي : القرآن بالتأمل فيه والعمل به : { وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ } أي : عمل الصالحات لوجهه ، وإن كان لا يراه
{ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } أي : لذنوبه في الدنيا : { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي : ثواب حسن في الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [ 12 ] .
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي : للبعث : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } أي : نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر : { وَآثَارَهُمْ } أي : ما تركوه من سنة صالحة ، فعُمل بها بعد موتهم ، أو سنة سيئة فعُمل بها بعدهم : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } أي : في اللوح المحفوظ ، أو العلم الأزلي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } [ 13 ] .
{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاَ } أي : مثّل لأهل مكة مثلاً : { أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ } أي : أذكر لهم قصة عجيبة ، قصة أصاب القرية : { إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } أي : الدعاة إلى الحق ، ورفض عبادة الأوثان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } [ 14 ] .
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي : فقوّيناهما برسالة ثالث : { فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ 15 - 17 ] .
{ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } أي : التبليغ عن الله ظاهراً بيّناً لا سترة فيه ، وقد خرجنا من عهدته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 18 ] .
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي : تشاءمنا بكم ، فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء ، نسبوه إليهم . وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه ، وآثروه وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ؛ فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا بركة هذا وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ، وعن مشركي مكة : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } [ النساء : 78 ] ، أفاده الزمخشري { لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا } أي : عن دعوتكم إلى التوحيد : { لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ 19 ] .
{ قَالُوا } أي : الرسل : { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي : سبب شؤمكم معكم ، وهو الكفر والمعاصي : { أَئِن ذُكِّرْتُم } أي : وعظتم بما فيه سعادتكم . وجواب الشرط محذوف ، ثقة [ في المطبوع : ثقثة ] بدلالة ما قبله عليه ؛ أي : تطيرتم ، وتوعدتم بالرجم والتعذيب : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي : في الشؤم والعدوان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } [ 20 ] .
{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } أي : يسرع في المشي ، حيث سمع بالرسل : { قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } أي : بالإيمان بالله وحده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ } [ 21 ] .
{ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي : جُعلاً ، ولا مالاً على الإيمان : { وَهُم مُّهْتَدُونَ } أي : في أنفسكم بالكمالات ، والأخلاق الكريمة ، والآداب الشريفة ؛ أي : فيجدر أن يُتأسّى بهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 22 ] .
{ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } أي : خلقني ، وهذا تلطّف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه ، وإمحاض النصح ، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه . والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ؛ كما ينبئ عنه قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بعد الموت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ } [ 23 ] .
{ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } أي : فأضرع إليها وأعبدها ، وهي في المهانة والحقارة بحيث
{ إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ } أي : من ذلك الضر ، بالنصر والمظاهرة . وفيه تحميق لهم ؛ لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق ، كيف يعبد ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [ 24 ، 25 ] .
{ إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } أي : فاسمعوا إيماني واشهدوا به . قال السمين : الجمهور على كسر النون ، وهي نون الوقاية ، حذفت بعدها ياء الإضافة ، مجتزئ [ في المطبوع : مجتزى ] عنها بكسرة النون ، وهي اللغة العالية . وقرأ بعضهم بفتحها وهي غلظ . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } [ 26 ، 27 ] .
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ } أي : ثواباً على صدق إيمانك ، وفوزك بسببه بالشهادة : { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } أي : ليقبلوا على ما أقبلت عليه ، ويضحوا لأجله النفس والنفيس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } [ 28 ] .
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد موته بالشهادة : { مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء } أي : لإهلاكهم : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } قال الرازي : إشارة إلى هلاكهم بعده سريعاً ، على أسهل وجه ، فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [ 29 ] .
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي : ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها : { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } ميتون كالنار الخامدة ، رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب ، والميت كالرماد ، كما قال لَبِيد :
~وَمَاْ المَرْءُ إِلَّاْ كَالشِّهَاْبِ وَضَوْئِهِ يَحُوْرُ رَمَاْداً بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاْطِعُ
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وإن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى عليه السلام ، كما نص عليه قتادة وغيره ، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين ، غيره . وفي ذلك نظر من وجوه :
أحدهما - أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل ، لا من جهة المسيح عليه السلام ، كما قال تعالى : { إِذْ أرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ } ولو كان هؤلاء من الحواريين ، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام . والله أعلم . ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا .
الثاني - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ؛ ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة ، وهن : القدس ؛ لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية ؛ لأنها أول بلدة أمنت بالمسيح عن آخر أهلها ، والإسكندرية ؛ لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين ، ثم رومية ؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده ، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من رومية إليها - كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم - كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين - فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم .
الثالث - أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف ، أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة ، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم . بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ، ذكروه عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى } [ القصص : 43 ] ، فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن ، قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً ، أو تكون أنطاكية - إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة - مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة ؛ فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ، ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام ابن كثير .
وأقول : إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة ، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها ، والإشارة منها إلى روحها وسرها ، حرصاً على الثمرة من أول الأمر ، واقتصاراً على موضع الفائدة ، وبعداً عن مشرب القصّاص والمؤرخين ؛ لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى ، وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت ، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث ، والأخذ ، والتلقي ، فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته ، حتى جعل ذلك فنّاً برأسه ، وألف فيه مؤلفات ، ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت ، لاسيما وقد رفع عنّا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل ، إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما ، إن كان جزمه من غير طريق القواطع ؛ فإن القاطع هو ما تواتر أو صح سنده إلى المعصوم ، صحة لا مغمز فيها ، وهذا مفقود في الأكثر ، ومنه بحثنا المذكور ؛ فإن تعيين أن البلدة أنطاكية وتسمية الرسل ، إنما روي موقوفاً ومنقطعاً ، وفي بعض إسناده متهمون ، ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه ، فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل ، إجمالاً فيما أجمله ، وتفصيلاً فيما فصله ، ولا يأخذ من أيضاًح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع أو كان لا ينبذه العلم الصحيح ، وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك ، بل عن تشويهها .
والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه ، هو تلقيهم له عن مثل كعب ووهب ، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه . هذا أولاً .
وثانياً شهرة بلدة أنطاكية في ذلك العهد ، لاسيما وقد أسس فيها معبداً أحد رسل عيسى عليه السلام .
ثالثاً ما جرى في أنطاكية لما قدم ملك الرومان , وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل ، وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين ، فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد ، فأرسله من أنطاكية موثقاً وأمر بأن يطعم للوحوش ، فألقى في رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه ، ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله . وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه , فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد , ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع . فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم . فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية . ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته , والشواهد في هذا الباب لا تحصى ، معروفة لمن أعار نظره جانباً مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان ، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه ، فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى .
رابعاً شهرة المرسلين برسل عيسى عليه السلام ، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية , والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ . هذا وما ذكره ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع . وإلا ، فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها ، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها ، والصيحة أعم من أن تكون صيحة سماوية ، أو صيحة أرضية ، وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم ، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم ، وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول . وبالجملة فنحن يكفينا من النبأ الاعتبار به وفهمه مجملاً ، وأما تعيينه بوقت ما ، وفئة ما ، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ ، وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار ، وتخصيص ما لا قاطع عليه .
الثاني - ذكر الرازي في قوله تعالى : { إِذْ أرْسَلْنا } لطيفة ، إن صح أن الرسل المنوه بهم هم رسل عيسى عليه السلام ، وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى ؛ لأنه بإذنه وأمره ، وبذلك تتمة التسلية للنبي صلوات الله عليه ، لصيرورتهم في حكم الرسل .
ثم قال : وهذا يؤيد مسألة فقهية ؛ وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل ، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل ، حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول . انتهى .
الثالث - في قوله تعالى : { وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } [ 30 ] .
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } أي : يا ندامة عليهم تكون يوم القيامة بسبب استهزائهم وسخريتهم في الدنيا بالناصحين ، حتى أفضى بهم الحال إلى قتلهم كما فعل أصحاب القرية ، أو المراد شدة خسرانهم حتى استحقوا أن يتحسر عليهم أهل الثقلين ، أو التحسر منه تعالى مجازاً ، وتقريره أن التحسر ما يلحق المتحسر من الندم حتى يبقى حسيراً ، وهو لا يليق به تعالى ، فيجعل استعارة ، بأن شبه حال العباد بحال من يتحسر عليه الله فرضاً ، فيقول ، يا حسرة على عبادي ، قيل : وهو نظير قوله تعالى : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } [ الصافات : 12 ] . على القراءة بضم التاء ، فالنداء للحسرة تعجب منه . والمقصود تعظيم جنايتهم ، أي : عدّها أمراً عظيماً بتعجب منه . أفاده الشهاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ 31 ] .
{ أَلَمْ يَرَوْا } أي : يخبروا : { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ } أي : من الأمم الخالية : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ 32 ] .
{ وَإِن كُلٌّ } أي : من هؤلاء المتفرقين : { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : إلا جميعهم محضرون للحساب والجزاء ، وإنما أخبر عن كلٍّ ، بجميع ومعناها واحد ؛ لأن كلاً ، تفيد الإحاطة حتى لا ينفلت عنهم أحد . وجميع ، تفيد الاجتماع ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، وبينهما فرق , ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعاً لـ : كل ؛ لأنه أخص منه ، وأزيد معنى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } [ 33 - 35 ] .
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ } أي : عبرة لأهل مكة عظيمة : { الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } أي : بالنبات لتدل على إحياء الموتى : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أي : وليأكلوا مما عملته أيديهم ، وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما ، على ما استظهره القاضي . وقال الزمخشري : أي : عملته بالغرس ، والسقي ، والآبار ، قيل وهذا التفسير خلاف الظاهر ؛ أي : لاحتياجه إلى تجوز ، إلا أن فيه تذكيراً بلذة ثمرة العمل ، وسرور النفس بعده ، وفي الحديث < أفضل الكسب بيع مبرور ، وعمل الرجل بيده > رواه الإمام أحمد عن أبي بردة . وجوّز أن تكون : ما ، نافية ، والمعنى : أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم : { أَفَلَا يَشْكُرُونَ } أي : خالق هذه النعم الجسام بعبادته وحده ، وهو إنكار لعدم قيامهم بواجب الشكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } [ 36 ] .
{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ } أي : الأصناف كلها : { كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ } أي : مما ذكر وغيره : { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } يعني الذكر والأنثى : { وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } أي : من الأصناف والأنواع الموجودة في البر والبحر . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } [ 37 ] .
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } بيان لقدرته تعالى في الزمان ، إثر ما بيّنها في المكان ، أي : نزيله ونكشفه عن مكانه . استعير لإزالته الضوء ، السلخ الذي هو كشط الجلد وإزالته عن الحيوان المسلوخ . وفيه إشارة إلى أن النهار طارئ على الليل ، كما أن المسلوخ منه قبل المسلوخ ، الذي هو كالغطاء الطارئ على المغطى . قال الشهاب : لأن الليل سابق عرفاً وشرعاً ومعنى : { مُّظْلِمُونَ } داخلون في الظلام ، يقال أظلمنا ، كما يقال : أعتمنا وأدجينا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 38 ] .
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } أي : لحدٍّ لها مؤقت مقدر ينتهي إليه دورها اليومي أو السنوي ، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره . فالمستقر اسم مكان تقطعه في حركتها الدائمة ثم تعود . ووجه الشبه الانتهاء إلى محل معين ، واللام تعليلية ، أو بمعنى إلى . وقيل مستقرها : منقطع جريها عند خراب [ في المطبوع : حراب ] العالم . ومستقر عليه اسم زمان : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : ذلك الجري المتضمن للحكم ، والمصالح ، والمنافع ، والمدهش نظام سيره وإحكامه بلا اختلال ، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علماً بكل معلوم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [ 39 ] .
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } أي : صيرنا له منازل ينزل كل ليلة في واحد منها : { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } أي : حتى إذا كان في آخر منازله ، دق واستقوس وصار كالعذق المقوس اليابس ، إذا حال عليه الحول . فالعرجون هو الشمروخ ؛ وهو العنقود الذي عليه الرطب ، ويسمى العذق ، بكسر العين . والقديم : العتيق ، وإذا قدم دق وانحنى واصفرّ . فشبه به من ثلاثة أوجه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ 40 ] . : { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ } أي : تجتمع معه في وقت واحد ، وتداخله في سلطانه فتطمس نوره : { وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أي : يسبقه بأن يتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه . أو المراد بالليل والنهار آيتاهما ؛ أي : ولا القمر سابق الشمس فيكون عكساً للأول ؛ أي : ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس . والمعنى على هذا ، أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه ، فيطمس نوره ، بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى ، وعليه فسر إيثار : سابق على مدرك ، كما قبله ، هو أن السبق مناسب لسرعة سير القمر ؛ إذ السبق يشعر بالسرعة ، والإدراك بالبطء ؛ وكذلك الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة . والقمر يقطعه في شهر . فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك ، والقمر لسرعته جديراً بأن يوصف بالسبق .
لطيفة :
قال الناصر في " الانتصاف " : يؤخذ من هذه الآية أن النهار ، تابع لليل ، وهو المذهب المعروف للفقهاء ، وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل .
وإنما نفي الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع ، وذلك يستدعي تقدم القمر وتبعية الشمس ، فإنه لا يقال : أدرك السابق اللاحق ، ولكن : أدرك اللاحق السابق ، وبحسب الإمكان توقيع النفي ، فالليل إذاً متبوع والنهار تابع . فإن قيل : هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار ، وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقاً ؟
فالجواب أن هذا مشترك الإلزام . وبيانه : أن الأقسام المحتملة ثلاثة : إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء ، أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة ، أو اجتماعهما . فهذا القسم الثالث منفي بالاتفاق . فلم يبق إلا تبعية النهار لليل وعكسه . وهذا السؤال وارد عليهما جميعاً ؛ لأن من قال إن النهار سابق الليل لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال : ولا الليل يدرك النهار ؛ فإن المتأخر إذا نفي إدراكه كان أبلغ من سابقه . مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله : { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ } تنائيّاً لا يجمع شمل المعنى باللفظ ، فإن الله تعالى نفى أن تكون مدركة ، فضلاً عن أن تكون سابقة .
فإذا أثبت ذلك ، فالجواب المحقق عنه ، أن المنفي السبقية الموجبة لتراخي النهار عن الليل ، وتخلل زمن آخر بينهما ، وحينئذ يثبت التعاقب ، وهو مراد الآية . وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما ، فإنه غير معتبر . ألا ترى إلى جواب موسى بقوله : { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } [ طه : 84 ] ، فقد قربهم منه عذراً عن قوله تعالى : : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ } [ طه : 83 ] ، فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره . فكيف لو كان متقدماً وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة ؟ فذاك لو اتفق ، لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقاً . فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل ، مخالفاً صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل . فإن بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية ، وبين السبق بوناً بعيداً ، ومخالفاً أيضاً لبقية الآية ، فإنه لو كان الليل تابعاً ومتأخراً ، لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك ، ولا يبلغ به عدم السبق ، ويكون القول بتقديم الليل على النهار مطابقاً لصدر الآية صريحاً ، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن ، وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده ، والله الموفق للصواب من القول وتسديده . انتهى .
{ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي : كل مما ذكر يجرون في مدار عظيم كالسابح في الماء . وتقدم لنا في سورة الأنبياء ، ما قاله بعض علماء الفلك في مثل هذه الآية . فراجعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ 41 ] .
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : حملنا أولادهم الذين يرسلونهم في تجارتهم . قال الشهاب : ولا يخفى مناسبته لقوله قبله : { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وذكر المشحون ، أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه ، أو لأنه أبعد عن الخطر ، وقيل المراد فلك نوح عليه السلام . فهو مفرد ، وتعريفه للعهد ، والمعنى حمل آبائهم الأقدمين الذين بهم حفظ بقاء النوع لما عمّ الطوفان ، ونجوا مع نوح في السفينة ، وإنما كان آية ، لأن بقاء نسلهم ونجاتهم بسفينة واحدة ، صنع عجيب ومقدور كبير . وآثر البعض الوجه الأول ؛ لأن الثاني محتاج للتأويل . وأرى جدارة الثاني بالإيثار ؛ لقاعدة الحمل على الأشباه والنظائر ، ما وجد له سبيل ؛ لأنه أقرب وأسدّ ، وقد جاء نظيره آية : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 - 12 ] . وإن ورد في نظير الأول الآية : { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ } [ الرحمن : 24 ] ، وأشباهها ، إلا أن لفظ الحمل اتحد في الآيتين ، فقارب ما بينهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ 42 ] .
{ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ } أي : مثل الفلك : { مَا يَرْكَبُونَ } أي : من الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل ، حتى شاع إطلاق السفينة عليها ، كما قيل : سفائن برّ والسراب بحارها . أو ما يركبون ؛ أي : من السفن والزوارق على الوجه الثاني ، وهو أن يراد بالفلك سفينة نوح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ } [ 43 ] .
{ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ } أي : لا مغيث لهم ، أو لا مستغيث منهم ، أو لا استغاثة ، وذلك لأن الصريخ يكون المغيث والمستغيث وهو الصارخ . ومصدراً للثلاثي كالصراخ ، يتجوز به عن الإغاثة ؛ لأن المغيث ينادي من يستغيث به ويصرخ له ، ويقول : جاءك العون والنصر . أنشد المبرد في أول الكامل :
~كُنَّا إِذَاْ مَاْ أَتَاْنَاْ صَاْرِخٌ فَزِعٌ كَاْنَ الصُّرَاْخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَاْبِيْبِ
أي إذا أتانا مستغيث ، كانت إغاثته الجد في نصرته .
{ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ } أي : ينجون من الموت به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } [ 44 ] .
{ إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } أي : لكن رحمناهم ومتعناهم إلى زمن قدر لهم ، يموتون فيه بعد النجاة من موت الغرق ، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله :
~وِإِنْ أَسْلَمْ فَمَاْ أَبْقَىْ وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الْحَمَاْمِ إِلَىْ الْحِمَاْمِ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 45 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } أي : من الوقائع الخالية في الأمم المكذبة للرسل
{ وَمَا خَلْفَكُمْ } أي : من العذاب المعدّ في الآخرة ، أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، أو عكسه ، أو ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : باتقائكم وشكركم ، وجواب إذا ، محذوف دل عليه قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ 46 ] .
{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } أي : الدالة على صدق الرسل : { إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } بالتكذيب والصد عن الإيمان بها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 47 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ } أي : تصدقوا على الفقراء ، من مال الله الذي آتاكم : { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي : حيث أمرتمونا بما يخالف مشيئة الله . وقولهم هذا ، إما تهكم أو عن اعتقاد . وجوّز أن يكون : { إِنْ أَنتُمْ } جواباً من الله لهم ، أو حكاية لجواب المؤمنين . وفي هذه الآية أبلغ زجر عن اقتصاص ما يحكى عن البخلاء ، في اعتذارهم بمثل ما ضلل به المشركون ومجازاتهم فيه ؛ فإن ذلك من اللؤم ، وشح النفس ، وخبث الطبع ، وإن كان يورده بعضهم للفكاهة أو الإغراب ؛ كما فعل الجاحظ سامحه الله في كتاب " البخلاء " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 48 ] .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يعنون وعد البعث .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } [ 49 ] .
{ مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي : يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم ؛ أي : أنها تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها . ويخصمون ، بفتح الياء وكسر الخاء لالتقاء الساكنين . والصادر على الأصل ، وأصله : يختصمون سكّنت التاء وأدغمت ، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } [ 50 ] .
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي : أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية : { وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } أي : لا يقدرون على الرجوع إلى أهليهم ، ليروا حالهم ، بل يموتون حيث تفجؤهم الصيحة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [ 51 ] .
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } أي : للبعث : { فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ } أي : من القبور : { إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } أي : يعدون مسرعين ، كما في قوله تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً } [ المعارج : 43 ] ، ولا منافاة بين هذا وما في آية : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] ؛ لأنهما في زمان واحد متقارب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [ 52 ] .
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } أي : رقادنا أو مكانه . فيقال لهم : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } أي : المخبرون عن ذلك الوعد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ 53 ] .
{ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : بمجرد تلك الصيحة . وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر ، عليه تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } [ 54 ، 55 ] .
{ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي متنعمون متلذذون ، وفي تنكير : { شُغُلٍ } تعظيم ما هم فيه وتفخيمه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ } [ 56 ، 57 ] .
{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ } أي : في ظلال الأشجار ، أو في مأمن من الحرور : { عَلَى الْأَرَائِكِ } أي : السرر المزينة : { مُتَّكِؤُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ 58 ] .
{ سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } أي : ولهم سلام يقال لهم قولاً كائناً منه تعالى . فيكون : { سَلامٌ } مبتدأ محذوف الخبر ، أو هو يدل من : { مَّا } أو خبر محذوف ، أي : هو سلام ، أو مبتدأ خبره الناصب لـ : { قَوْلاً } أي : سلام يقال لهم قولاً ، أو مبتدأ وخبره : { مّنْ رَّبٍ } و : { قَوْلاً } مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر . والمعنى إنه تعالى يسلم عليهم تعظيماً لهم ، كقوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [ الأحزاب : 44 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ 59 ] .
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } أي : عن المؤمنين في موقفهم . كقوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [ يونس : 28 ] . وقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] ، أي : يصيرون صدعين فرقتين : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 22 - 23 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 60 ] .
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تقريع منه تعالى للكفرة ، يقال لهم إلزاماً للحجة . وعهده تعالى إليهم هو ميثاق الفطرة . كما قاله القاشاني . أو ما نصبه لهم من الحجج العقلية ، والسمعية ، الآمرة بعبادته وحده ونبذ عبادة غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ 61 ] .
{ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي : وإن أفردوني بالعبادة فإنه السبيل السوي . وفي تنكيره إشعار بأنه صراط بليغ في استقامته ، جامع لكل ما يجب أن يكون عليه ، وأصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف ، فالتنوين للتعظيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ 62 ] .
{ وَلَقَدْ أَضلَّ } أي : الشيطان وأغوى بالشرك : { مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً } أي : خلقاً كثيراً قبلكم . فحاق بهم سوء العذاب : { أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } أي : من أولي العقل . إنكار لأن يكونوا منهم ، وقد قامت البراهين والإنذارات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون َ *اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 63 ، 64 ] .
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 65 ] .
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : عندما يجحدون ما اجترموه في الدنيا ، ويحلفون ما فعلوه ، فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم ، قال الرازي : وفي الختم على الأفواه وجوه ، أقواها أن الله يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها ، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإنه في قدرة الله يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة . فكما جاز تحركه بها ، جاز تحرك غيره بمثلها ، والله قادر على الممكنات . والوجه الآخر ، أنهم لا يتكلمون بشيء ؛ لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم ، فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤوس ، لا يجد عذراً فيعتذر ، ولا مجال توبة فيستغفر ، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار ، حتى تنطق به الأيدي والأبصار . كما يقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار . إشارة إلى ظهور الحزن ، والأول صحيح . انتهى . أي : لإمكانه وعدم استحالته ، فلا تتعذر الحقيقة . ويؤيده آية : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] .
ومن لطائف بعض أدباء العصر ما نظمه في الفونغراف ، مستشهداً به في ذلك ، فقال :
~يَنْطِقُ الْفُوْنُغْرَاْفُ لَنَاْ دَلِيْلٌ عَلَىْ نُطْقِ الْجَوَاْرِحِ وَالْجَمَاْدِ
~وَفِيْهِ لِكُلِّ ذِيْ نَظَرٍ مِثَاْلٌ عَلَىْ بَدْءِ الْخَلِيْقَةِ وَالْمَعَاْدِ
~يُدِيْرُ شُؤُوْنَهُ فَرْدٌ بِصُوْرٍ بِهِ الْأَصْوَاْتُ تَجْرِيْ كَالْمِدَاْدِ
~فَيَثْبِتُ رَسْمَهَا قَلَمٌ بِلَوْحٍ عَلَىْ وِفْقِ الْمَشِيْئَةِ وَالْمُرَاْدِ
~وَبَعْدَ فَرَاْغِهَا تَمْضِيْ كَبَرْقٍ وَلَاْ أَثَرَ لَهَاْ فِيْ الكَوْنِ بَاْدِيْ
~تَظُنُّ بِأَنَّهَاْ ذَهَبَتْ جُفَاْءٌ كَمَاْ ذَهَبَتْ بِرِيْحٍ قَوْمُ عَاْدِ
~وَأَحْلَىْ رَنَّهَاْ فِيْهِ لِتَبْقَىْ كَأَرْوَاْحٍ تَجَرَّدَ عَنْ مُوَاْدِّ
~مَتَىْ شَاْءَ الْمُدِيْرُ لَهَاْ مَعَاْداً وَرَاْمَ ظُهُوْرُهَا فِيْ كُلِّ نَاْدِ
~يُدِيْرُ الصُّوَرُ بِالْآَلَاْتِ قَسْراً فَيَنْشُرُ مَيِّتَهَا بَعْدَ الرُّقُاَدِ
~وَهَذِيْ آَلَةٌ مِنْ صُنْعِ عَبْدٍ فَكَيْفَ بِصُنْعِ خَلَّاْقِ الْعِبَاْدِ ؟
~تَبَاْرَكَ مَنْ يُعِيْدُ الْخَلْقَ طَرّاً بِنَفْخَةٍ صُوْرُهُ يَوْمَ التَّنَاْدِ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } [ 66 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } أي : لو شاء تعالى ، لمسح أعينهم . فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المسلوك لهم لم يقدروا ، لعماهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ } [ 67 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ } أي : بتغيير صورهم وإبطال قواهم : { عَلَى مَكَانَتِهِمْ } أي : مكانهم : { فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً } أي : ذهاباً : { وَلَا يَرْجِعُونَ } أي : ولا رجوعاً ؛ أي : أنهم لا يقدرون على مفارقة مكانهم . فوضع الفعل موضعه للفواصل . وإذا كان بمعنى : لا يرجعون عن تكذيبهم ، فهو معطوف على جملة : ما استطاعوا . والمراد أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم ، أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك . لكنا لم نفعل لشمول الرحمة ، واقتضاء لحكمه إمهالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ } [ 68 ] .
{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ } أي : نطل عمره : { نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ } أي : بتناقض قواه وضعف بنيته حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوّه من العلم ، كما قال عز وجل : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } [ الحج : 5 ] ، { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [ التين : 5 ] { أَفَلَا يَعْقِلُونَ } أي : من قدر على ذلك ، قدر على الطمس والمسخ ، وأن يفعل ما يشاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [ 69 ] .
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ } أي : حتى يأتي بشعر . وهذا رد لقولهم أنه صلوات الله عليه شاعر أتى بشعر . قاسوه على من يشعر بقراءة الدواوين وكثرة حفظها ، وكيف يشابه ما نزل عليه الشعر ، وليس منه لا لفظاً ؛ لعدم وزنه وتقفيته ، ولا معنىً ؛ لأن الشعر تخيلات ، وهذا حكم ، وعقائد ، وشرائع ، وحقائق .
{ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أي : وما يصح لمقامه ؛ لأن منزل النبوة والرسالة يتسامى عن الشعر وقرضه ؛ لما يرمي به الشعراء كثيراً من الكذب ، والمين ، ومجافاة مقاعد الحقيقة ؛ ولذا قال تعالى : { إِنْ هُوَ } أي : القرآن الذي يتلوه : { إِلَّا ذِكْرٌ } أي : عظة وإرشاد منه تعالى : { وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أي : كتاب سماوي بين أمره وحقائقه ، فلا مناسبة بينه وبين الشعر بوجه ما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 70 ] .
{ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } أي : عاقلاً متأملاً ؛ لأن الغافل كالميت : { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ } أي : وتجب كلمة العذاب : { عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : المعرضين عن اتباعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [ 71 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } أي : مما تولينا نحن خلقه ، لم يقدر على إحداثه غيرنا { أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } أي : متصرفون فيها تصرف الملاك ، أو ضابطون قاهرون لها كما قال :
~أَصْبَحْتُ لَاْ أَحْمِلُ السِّلَاْحَ وَلَاْ أَمْلِكُ رَاسَ الْبَعِيْرِ إِنْ نَفَرَا

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ 72 ] .
{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } أي : صيّرناها منقادة غير وحشية : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } أي : مركوبهم
{ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } أي : ينتفعون بأكل لحمه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } [ 73 ] .
{ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : من الجلود ، والأصواف ، والأوبار : { وَمَشَارِبُ } أي : من ألبانها : { أَفَلَا يَشْكُرُونَ } أي : فيعبدوا المنعم بأصناف هذه النعم الجسيمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [ 74 ] .
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } أي : ينصرونهم فيما نابهم من الكوارث .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } [ 75 ] .
{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ } أي : لآلهتهم : { جُندٌ مُّحْضَرُونَ } أي : مُعدّون لخدمتهم والذب عنهم ، فمن أين لهم أن ينصرونهم , وهم على تلك الحال من العجز والضعف ؟ أي : بل الأمر بالعكس . وقيل : المعنى محضرون على أثرهم في النار ، وجعْلُهم - على هذا - جنداً ، تهكمٌ واستهزاءٌ . وكذا لام : { لَهُمْ } الدالة على النفع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ 76 ] .
{ فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } أي : في الله تعالى بالإلحاد والشرك . أو في حقك بالتكذيب والإيذاء : { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : فنجازيهم عليه . كنى عن مجازاتهم بعلمه تعالى ، للزومه له ؛ إذ علم الملك القادر بما جرى من عدوه الكافر ، مقتضٍ لمجازاته وانتقامه . وتقديم السر ، لبيان إحاطة علمه تعالى بحيث يستوي السر عنده والعلانية . أو للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن ؛ فإنه ملاك الأمر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَاْن أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [ 77 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَاْن أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي : جدل بالباطل ، بيّن الجدال ، وهذه تسلية ثانية ، بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر . تأثرت الأولى [ كذا ] وهي قوله : { فَلَا يَحْزُنكَ } الآية ، عنايةً بشأنه صلوات الله عليه .
قال الطيبي : هذا معطوف على : { أَوَلَمْ يَرَوْا } قبله . والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس ؛ فإنه خلق له ما خلق ليشكر ، فكفر وجحد النعم والمنعم ، وخلقه من نطفة قذرة ليكون منقاداً متذللاً ، فطغى وتكبر وخاصم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ 78 ] .
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } أي : في استبعاد البعث وإنكاره : { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } أي : خلقنا إياه : { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } أي : بالية أشد البلى ، بعيدة عن الحياة غاية البعد . وإنما لم يؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام ، جامد غير صفة ، كالرمة والرفات , أو مشتق فعيل بمعنى فاعل ، إلا أنه لما غلب جريانه على غير موصوف ، ألحق بالأسماء فلم يؤنث ، أو بمعنى مفعول من رمّه ، بمعنى أبلاه . وأصله الأكل ، من : رمت الإبل الحشيش . فكأن ما بلي أكلته الأرض . وقال الأزهري : إن عظاماً ، لكونه بوزن المفرد ، ككتاب وقراب ، عُومل رميم معاملته ، وذكر له شواهد . قال الشهاب : وهو غريب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ 79 ] .
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : فلا تقاس قدرة الخالق على قدرة المخلوقين . وإنما تقاس إعادته على إبدائه : { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } أي : فلا يمتنع عليه جمع الأجزاء بعد تفرقها ، لعلمه بأصولها وفصولها ومواقعها ، وطريق ضمها إلى بعضها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ } [ 80 ] .
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ } أي : الذي خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضراً نضراً فأثمر وينع ، ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً يوقد به النار ، كذلك هو فعال لما يشاء ، قادر على ما يريد ، لا يمنعه شيء . قال قتادة : الذي أخرج النار من هذا الشجر ، قادر على أن يبعثه . وقيل : المراد بذلك شجر المرخ ، والعقار : من شجر البادية ، في أرض الحجاز . فيأتي من أراد قدح نار ، وليس معه زناد ، فيأخذ منه عودين أخضرين ، ويقدح أحدها بالآخر ، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء . روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والعَفار الزند وهو الأعلى . والمرخ الزندة وهو الأسفل بمنزلة الذكر والأنثى . وعكس الجوهري فجعل المرخ ذكراً ، والعفار أنثى ، واللفظ مساعد له ، إلا أن الأول يؤيده قول الشاعر :
~إِذَا الْمُرْخُ لَمْ يُوْرِ تَحْتَ الْعَفَاْرِ وَضُنَّ بِقَدْرٍ فَلَمْ تُعْقَبِ
وقال أبو زياد : ليس في الشجر كله أورى ناراً من المرخ ، وربما كان المرخ مجتمعاً ملتفاً ، وهبت الريح ، وجاء بعضه بعضاً فأورى فأحرق الوادي ، ولم نر ذلك في سائر الشجر . وقال الأزهري : العرب تضرب بالمرخ والعفار ، المثل في الشرف العالي . فتقول : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار . أي : كثرت فيهما على ما في سائر الشجر . واستمجد : استكثر واستفضل . وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر ناراً ، وزنادهما أسرع الزناد ورياً . وفي المثل : اقدح بعفار أو مرخ ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ . ويقال : في كل شجر نار إلا العُنّاب .
قال الشهاب : ولذا يتخذ منه مدقّ القصارين . ثم أنشد لنفسه :
~أَيَاْ شَجَرِ الْعُنَّاْبِ نَاْرُكَ أَوْقَدَتْ بِقَلْبِيْ وَمَا الْعُنَّاْبُ مِنْ شَجَرِ النَّاْرِ
انتهى .
والمقصود أنه تعالى لا يمتنع عليه إعادة المزاج الذي به تعلق الروح بعد انعدامه بالكلية ؛ لأن الذي يبدل مزاج الشجر الرطب بمزاج النار ، وهي حارة يابسة بالفعل ، مع ما في الشجر من المائية المضادّة لها ، أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّاً ، تطرأ عليه اليبوسة والبلى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [ 81 ] .
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } أي : مع كبر جرمهما : { بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم } أي : في الصغر والضعف ثانياً ، بعد ما خلقهم أولاً : { بَلَى } أي : هو القادر : { وَهُوَ الْخَلَّاقُ } أي : الكثير الخلق مرة بعد أخرى : { الْعَلِيمُ } أي : الواسع المعلومات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ 82 ] .
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ } أي : شأنه الأعلى ، أو قوله النافذ : { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } أي : إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء : { أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فيوجد عن أمره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 83 ] .
{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } تنزيه له مما وصفهُ به المشركون, وتعجب من أن يقولوا فيه ما قالوا . وهو مالك كل شيء ، والمتصرف فيه بلا وازع ، ولا منازع { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بعد الموت ، فيجازيكم بأعمالكم .
فائدة :
قال ابن كثير : الملك والملكوت واحد في المعنى ، كرحمة ورحموت ، ورهبة ورهبوت ، وجبر وجبروت . ومن الناس من زعم أن المُلك هو عالم الأجسام ، والملكوت هو عالم الأرواح . والصحيح الأول ، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم . انتهى .
ولبعضهم : إن الملكوت صيغة مبالغة من الملك ، فهو بمعنى الملك التام ، والله هو العليم العلام .

(/)


سورة الصافات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } [ 1 - 4 ] .
{ وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته ، إظهاراً لعظم شأنها وكبر فوائدها ، وتنبيهاً إلى الاعتبار بصفتها وما تستدعيه من سمتها . والصافات : جمع صافة ، أي : طائفة صافة ، أو جماعة صافة .
فيكون في المعنى جمع الجمع ، أو على تأنيث مفرده ، باعتبار أنه ذات ونفس . والمراد بالصافات الملائكة ؛ لقيامها مصطفة في مقام العبودية لمالك الملك . من قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } [ الصافات : 165 ] ، أو لصفها أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله تعلى . و : { الزَّاجِرَاتِ } أي : الناس عن المعاصي ، بإلهام الخير ، من الزجر بمعنى المنع والنهي ، أو الزاجرات الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به . من الزجر بمعنى السوق والحث . والتاليات ، أي : آياته تعالى على أنبيائه عليهم السلام .
وقيل : الصافات الطير . من قوله تعالى : { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } [ النور : 41 ] والزاجرات : كل ما زجر عن معاصي الله . والتاليات : كل من تلا كتاب الله .
أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم ، الزاجرون عن الكفر ، والفسوق بالحجج ، والنصائح ، التالون آيات الله وشرائعه .
أو هم الغزاة الصافون في الجهاد , والزاجرون الخيل أو العدو ، التالون لذكر الله ، لا يشغلهم فيها عنه مبارزة العدو . وقد ذكر غير هذا ، مما يشمله اللفظ ولا يأباه . وبالجملة ، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات . وإيثار الفاء على الواو ؛ لقصد الترتيب والتفاضل طرداً أو عكساً ، أما الأول فاعتناء بالأهم فالأهم . وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى . وصفاً ، وزجراً ، مصدر مؤكد ، وكذا ذكراً ، ويجوز فيه كونه مفعولاً به . قال الناصر : وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه ، والخليل في مثل : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1 - 2 ] ، فإنهما يقولان : الواو الثانية وما بعدها عواطف . وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم . فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو . والمعنى واحد ، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها ، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق ، للعطف لا للقسم . انتهى .
وقوله تعالى : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } الجواب للقسم ، وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة ، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد ، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به ، وهو قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } [ 5 ] .
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع ، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته ، وأعدل شواهد وحدته ، أي : مالك السماوات والأرض ، وما بينهما من الموجودات ، ومربّيها ، ومبلغها إلى كمالاتها . والمراد بالمشارق مشارق الشمس . وإعادة ذكر الرب فيها ، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم . فإنها ثلاث مائة وستون مشرقاً ، تشرق كل يوم من مشرق منها ، وبحسبها تختلف المغارب ، وتغرب كل يوم في مغرب منها . وأما قوله تعالى : { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما . أفاده أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [ 6 ] .
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا } أي : الجهة العليا القربى من كرة الأرض : { بِزِينَةٍ } أي : عجيبة بديعة : { الْكَوَاكِبِ } بالجر ، بدل من زينة . وقرئ بالإضافة ، على أنها بيانية ، أو على معنى ما زينت هي به ، وهو ضوؤها ، والمراد التزيين في رأي العين ؛ فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [ 7 ] .
{ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } أي : خارج عن الطاعة ، يقذفه بشهبها ، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها و : { حِفْظاً } إما منصوب بإضمار فعله ؛ أي : حفظناهما حفظاً ، أو بعطفه على : { زِينَةٍ } من حيث المعنى ؛ أي : خلقنا الكواكب للسماء زينةً وحفظاً ، أو على المفعول لأجله بزيادة الواو ، والعامل فيه : { زيَّنَّا } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ } [ 8 ] .
{ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى } قرئ بالتخفيف والتشديد . وأصله يستمعون ؛ أي : يتطلبون السماع . والضمير لكل شيطان ؛ لأنه في معنى الشياطين . والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة الخ . أو هي علة للحفظ ؛ أي : لئلا يسمعوا . فحذفت اللام ثم أنْ ، وأهدر عملها . وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين ، وهو منكر . كما ذكروه في قوله تعالى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } [ النساء : 176 ] ، أي : لئلا تضلوا ، وقد يقال : إنما ينكر حذف شيئين فيما يخل بانسجام الكلام . أما في تقدير أمر له نظائر ، ومرجعه إلى تحليل معنى لا يأباه اللفظ - فلا وجه للتعصيب في رده ، لمجرد أن الكوفيين ، مثلاً ، ذهبوا إليه أو غيرهم . وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد ، وتحكيمها : { وَيُقْذَفُونَ } أي : يرمون : { مِن كُلِّ جَانِبٍ } أي : من جميع جوانب السماء ، إذا قصدوا الصعود إليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } [ 9 ] .
{ دُحُوراً } أي : للدحور وهو الطرد : { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } أي : شديد غير منقطع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ 10 ] .
{ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } أي : اختلس الكلمة : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } أي : لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء : { ثَاقِبٌ } أي : مضيء ، كأنه يثقب الجوّ بضوئه .
تنبيه :
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء ، فربما سمعوا كلام الملائكة ، وعرفوا به ما سيكون من الغيوب ، وكانوا يخبرونهم به ، ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب ، فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب ، فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم .
قال ابن كثير : يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع ، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ؛ ولهذا قال جل جلاله : { لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى } أي : لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى ، وهي السماوات , ومن فيها من الملائكة ، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره ؛ كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] ، انتهى .
قال بعض علماء الفلك : كما أن العرش تحفّة الأرواح الغيبية - حسبما تقدم بيانه في آية : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، في الأعراف - فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات ، والدواب بأرواح ، منها الصالح : الملك ، ومنها الطالح : الشيطان ، وكذلك أرضنا هذه ، فيها من الملائكة ، ومن الشياطين مالا نبصره : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 ] .
ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها ؛ كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة ، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم ، فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه ، على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض ، لا نبصرها ولا نشعر بها .
وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض ، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس ، تموت في الحال . وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه ، إذا أرادت الصعود إلى السماء ، والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى ، انقضّ عليها ، قبل أن تخرج من جوّ الأرض ، شهاب من هذه الكواكب ، أو من غيرها ، فأحرقها وأهلكها ، بإفساد تركيبها ومادتها ، حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك ، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى ، وهذه الشهب التي تنقضّ ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة ، كانت ملتهبة ، وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة ، التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جونا هذا . ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحدُ بها . كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضاً .
مثال ذلك عنصر الصوديوم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من الماء فيحلله . ولا نقول إن جميع الشهب تنقضّ لهذا السبب ، بل منها ما ينقضّ لأسباب أخرى . كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له ، ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين ، كما بينّا هنا . والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة : { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] ، والمراد بالسماء الدنيا في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا ؛ أي : هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها . أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا ، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا ، فهو فضاء محض لا شيء فيه . فلفظ السماء له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو ، وتُفسَّر في كل مقام بحسبه .
ثم قال : فكل مسألة جاء بها القرآن حق ، لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها ؛ لأنه وحي الله حقاً ، والحق لا يناقضه الحق : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] .
وقال أيضاً : يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب ، ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة ، أو الباقية الملتهبة ، أو من براكين بعض السيارات ، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن ، ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعاً مشتقة من الشموس ، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس ، أو النجوم . قال : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية . اهـ كلامه .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [ الملك : 5 ] ، وقوله عز وجل : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } [ الحجر : 16 - 18 ] ، وقوله سبحانه إخباراً عن الجن : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً } [ الجن : 8 - 9 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } [ 11 ] .
{ فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : فاستخبر مشركي مكة : { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أي : أقوى خلقة وأمتن بنية : { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } أي : من السماوات ، والأرض ، والجبال ، كقوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ } [ النازعات : 27 ] الآية ، وقوله : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] ، وفي اضطرارهم إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله عما ذكر ، اعتراف بأنه لا يتعالى عليه أمر بعد هذا ، كشأن البعث وغيره ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } أي : لزج ضعيف لا قوة فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } [ 12 ] .
{ بَلْ عَجِبْتَ } أي : من إنكارهم للبعث بعد اضطرارهم للاعتراف بما يحققه : { وَيَسْخَرُونَ } أي : من تقرير أمر البعث ، والاحتجاج عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ } [ 13 ] .
{ وَإِذَا ذُكِّرُوا } أي : بما يؤيده ، أو وعظوا ، وخوفوا من المخالفة : { لَا يَذْكُرُونَ } أي : ما يقتضيه ؟ لتعنتهم وعنادهم ، أو لا يخافون ، ولا يتعظون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } [ 14 ] .
{ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً } أي : برهاناً واحتجاجاً على مصداقه ، من آيات الكائنات في أنفسهم ، أو في الآفاق : { يَسْتَسْخِرُونَ } أي : يبالغون في السخرية ، بدل الاعتبار ، والتدبر ، والتفكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 15 ] .
{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا } أي : ادعاء ما ذكر ، والاستدلال عليه ، والصدع بشأنه ، والقراع فيه : { إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَو َآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } [ 16 - 18 ] .
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ } أي : تبكيتاً لهم . : { نَعَمْ } أي : تبعثون : { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } أي : ذليلون ، لا جدل منكم يدفعه ولا قدرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } [ 19 ] .
{ فَإِنَّمَا هِيَ } أي : البعثة : { زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } أي : صيحة واحدة : { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } أي : قيام من مراقدهم أحياء ، أولو قوة مدركة ، بها يبصرون ، أو ينتظرون ما يفعل بهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ } [ 20 ] .
{ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ } أي : يوم الجزاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون َ *احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } [ 21 - 22 ] .
{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : أنفسهم بالكفر ، والمعاصي ، والسعي بالفساد : { وَأَزْوَاجَهُمْ } أي : وأشباههم من الفجرة ، أو نساءهم الكافرات : { وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ 23 ] .
{ مِن دُونِ اللَّهِ } أي : من الأصنام وغيرها ، زيادة في تحسيرهم ، وتخجيلهم : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } أي : فعرفوهم طريقها ليسلكوها . والتعبير بـ : الهداية والصراط ؛ للتهكم بهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ 24 ] .
{ وَقِفُوهُمْ } أي : احبسوهم في الموقف : { إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } أي : عن عقائدهم ، وأعمالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [25] .
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} : أي لا ينصر بعضكم بعضا , و قد كان شأنكم التعاضد في الحياة الأولى. وهو توبيخ لهم و تقريع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [ 26 ] .
{ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } أي : منقادون مخذولون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } [ 27 ، 28 ] .
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } أي : عن القهر والغلبة ؛ أي : كنتم تضطرونا إلى ما تدعونا إليه ، كما في آية : { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً } [ سبأ : 33 ] ، وقيل عن الحلف والقسم . وقيل عن جهة الخير وناحية الحق ، من اليمن ضد الشؤم ؛ أي : توهمونا وتخدعونا ؛ أن ما أنتم عليه أمر ميمون فيه الخير والفوز ، فأين مصداقه وقد نزل ما نزل ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [ 29 - 35 ] .
{ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : عن الاستجابة للداعي إليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } [ 36 ] .
{ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } أي : لقول من يقول بالمقدمات الخيالية عن الجنون ، فرد عليهم بأنه لم يأت بكلام مخيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } [ 37 ] .
{ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } أي : الذين هم أعقل الأمم ، وأحكم الحكماء ، فمتى يتفقون على قول مصدره الجنون ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ 38 - 44 ] .
{ إِنَّكُمْ } أي : بافترائكم : { لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } أي : في الصف مترائين ، لا يحجب بعضهم عن بعض ، ولا يتفاضلون في المقاعد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ } [ 45 ] .
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ } أي : شراب معين ، جار كالنهر لا ينقطع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ 46 ، 47 ] .
{ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ } أي : ما يغتال العقل ، ولا فساد من فساد خمر الدنيا : { وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } أي : تذهب عقولهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ 48 ، 49 ] .
{ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : على أزواجهن أو مبيضاته تشبيهاً بالثواب المقصور ، وهو المحوَّر : { عِينٌ } أي : كبار الأعين : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } أي : بيض نعام في الصفاء ، مستور لم يركب عليه غبار . قال الشهاب : وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها ، وخصت ببيض النعام ؛ لصفائه وكونه أحسن منظراً من سائره ، ولأنها تبيض في الفلاة ، وتبعد ببيضها عن أن يمس . ولذا قالت العرب للنساء : بيضات الخدور . ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان ، كما في الدرّ ، وهو لون محمود جداً ؛ إذ البياض الصرف غير محمود ، وإنما يحمد إذا شابه قليل حمرة في الرجال ، وصفرة في النساء . انتهى .
وحكى ابن جرير عن ابن عباس أنه عنى بالبيض المكنون : اللؤلؤ .
ثم قال : والعرب تقول لكل مصون : مكنون ، لؤلؤاً كان أو غيره . كما قال أبو دهبل :
~وَهِيَ زَهْرَاْءَ مِثْلُ لُؤْلُؤْةِ الْغَوَّاْصِ مِيْزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُوْنِ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [ 50 ] .
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } معطوف على يطاف ، والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب ، كعادة أهل الشرب ، عما جرى لهم وعليهم .
وقال القاشاني : أي : يتحادثون أحاديث أهل الجنة والنار ، ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء ، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب ، كما ذكر في وصف أهل الأعراف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } [ 51 - 53 ] .
{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ } أي : في المحادثة : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } أي : جليس في الدنيا : { يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } أي : لمبعوثون فمجزيّون ؛ أي : يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب ، والمعنى : فهنا قد صدقنا ربنا وعده ، وأحل بالقرين وعيده ، كما أشار بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ } [ 54 ] .
{ قَالَ } أي : ذلك القائل : { هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ } أي : إلى أهل النار من كوى الجنة ، ومطالّها ، لأريكم ذلك القرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [ 55 - 57 ] .
{ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ } أي : في وسطه : { قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ } أي : لتهلكني بالإغواء : { وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي } أي : بالهداية ، واللطف بي : { لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } أي : معك في النار . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ 58 ، 59 ] .
{ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } من تتمة كلامه لقرينه ، تقريعاً له ، أو معاودة على محادثة جلسائه ، تحدثاً بنعمة الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ } [ 60 ، 61 ] .
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ } أي : لنيل مثله ، فليجدّ المجدون ، ولما وصف ملاذّ أهل الجنة ، تأثره بمطاعم أهل النار ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } [ 62 ] .
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } وهي شجرة كريهة المنظر والطعم ، كما ستذكر صفتها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } [ 63 - 65 ] .
{ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً } أي : محنة وعذاباً : { لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا } أي : حملها : { كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } أي : مثل ما يتخيل ويتوهم من قبح رؤوس الشياطين ، فهي قبيحة الأصل ، والثمر ، والمنظر ، والملمس . قال الزمخشري : وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية ، وقبح المنظر ؛ لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير ، فيقولون في القبيح الصورة : كأنه وجه شيطان ، كأنه رأس شيطان . وإذا صوره المصوّرون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدّر ، وأهوله . كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه . فشبهوا به الصورة الحسنة . قال الله تعالى : { مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] ، وهذا تشبيه تخييلي . انتهى . أي : لأمر مركوز في الخيال . وبه يندفع ما يقال إنه تشبيه بما لا يعرف ، وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفاً في الخارج . بل يكفي كونه مركوزاً في الذهن والخيال ، ألا ترى امرأ القيس - وهو ملك الشعراء - يقول :
~وَمَسْنُوْنَةٌ زِرْقٌ كَأَنْيَاْبِ أَغْوَاْلِ
وهو لم ير الغول ، والغول نوع من الشياطين ؛ لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة ، وإن كان قابلاً للتشكل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } [ 66 ] .
{ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا } أي : من طلعها : { فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } أي : لغلبة الجوع ، أو الإكراه على أكلها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ } [ 67 ] .
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ } أي : لشراباً كالصديد ، أو الغساق ، ممزوجاً من ماء متناه في الحرارة ، يقطع أمعاءهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } [ 68 ] .
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ } أي : مصيرهم : { لَإِلَى الْجَحِيمِ } أي : إلى دركاتها ، أو إلى نفسها لا مفر لهم ولا محيص كيفما تحولوا . قال ابن كثير : أي : ثم إن مردّهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وسعير تتوهج ، فتارة في هذا ، وتارة في هذا . كما قال تعالى : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] ، هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية . وهو تفسير حسن قوي . انتهى .
ومن لطائف الإشارات في هذه الآية ، ما قاله القاشاني ، وعبارته : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ثمراتها من الرذائل والخبائث ، كأنها من غاية القبح والتشوه والخبث بالتنفر : { رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } أي : تنشأ منها الدواعي المهلكة ، والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة ، والأعمال السيئة ، فتلك أصول الشيطنة ، ومبادئ الشر والمفسدة ، فكانت رؤوس الشياطين : { فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا } يستمدون منها ويتغذون ويتقوون ، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ، ولا يتلذذون إلا بها : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } بالهيئات الفاسقة ، والصفات المظلمة ، كالممتلئ غضباً ، وحقداً ، وحسداً ، وقت هيجانها : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } الأهواء الطبيعية ، والمُنى السيئة الرديئة ، ومحبات الأمور السفلية ، وقصور الشرور الموبقة ، التي تكسر بعض غلة الأشرار : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } لغلبة الحرص والشره ، بالشهوة ، والحقد ، والبغض وأمثالها ، واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها . انتهى .
وهذه الإشارات من المجازات التي تتسع لها اللغة ؛ لأنها لا تنحصر في الحقيقة ، ولا يقال إنها المرادة هنا ، لنبؤها عن نظائرها من آيات الوعيد ، والله أعلم .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [ 69 ، 70 ] .
{ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال . والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على آثارهم ، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير نظر وبحث ، بل مجرد تقليد وترك اتباع دليل . قال الرازي : ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد ، لكفى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ } [ 71 ، 72 ] .
{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ } أي : أنبياء حذروهم العواقب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } [ 73 ] .
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } أي : الذين أُنذروا وخُوّفوا ، فقد أُهلكوا جميعاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ 74 ] .
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : الذين أخلصوا دينهم لله ، أو الذين أخلصهم تعالى لدينه ، على القراءتين ؛ أي : فإنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم . ثم أشار تعالى إلى أنبائهم ، تثبيتاً لفؤاده صلوات الله عليه ، وتبشيراً لأتباعه ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } [ 75 - 77 ] .
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } أي : بقوله : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } أي : نحن بهلاك قومه ؛ لأنه لا يجيب المضطر غيره : { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } أي : من الغرق والطوفان . والمراد بأهله ، من آمن معه : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } أي : في الأرض بعد هلاك قومه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } [ 78 ، 79 ] .
: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي : أبقينا عليه في الأمم بعده ثناء حسناً ، فمفعول تركنا محذوف ، أو ما حكاه تعالى بقوله : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } أي : أن يسلموا عليه إلى يوم القيامة ؛ أي : أن يقولوا هذه الجملة . قال السمين : قوله : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ } مبتدأ وخبر ، وفيه أوجه :
أحدها أنه مفسر لـ : تركنا . والثاني أنه مفسر لمفعوله . أي : تركنا عليه شيئاً وهو هذا الكلام . أو ثَمّ قول مقدر ؛ أي : فقلنا سلام . أو ضمن تركنا معنى قلنا ، أو سلط تركنا على ما بعده . وقرئ سلاماً ، وهو مفعول به لـ : تركنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 80 ] .
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } تعليل لما أثيب به من التكرمة ، بأنه مجازاة له على إحسانه ، وهو مجاهدته في إعلاء كلمة الله ، والدعوة إلى الحق ليلاً ونهاراً ، سراً وجهاراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } [ 81 ] .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي : المصدقين ، وتعليل إحسانه بالإيمان ، إظهار لفضل الإيمان ومزيته ، حيث مدح من هو من كبار الرسل به ، فالمقصود بالصفة مدحها نفسها ، لا مدح موصوفها ، وذلك لأن الإيمان أساس لكل خير يوجد ، ومركز لدائرته ، ومسك خاتمته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } [ 82 ] .
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي : من كفار قومه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } [ 83 ] .
{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } أي : ممن شايعه ، وتابعه في الإيمان ، والدعوة القوية إلى التوحيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ 84 ] .
{ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي : أقبل إلى توحيده بقلب خالص من الشوائب ، باق على الفطرة ، سُلَيم عن النقائص والآفات ، محافظ على عهد التوحيد الفطريّ ، منكر على من غيّر وبدّل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } [ 85 ] .
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } أي : من دون الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } [ 86 ] .
{ أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } أي : أتريدون بطريق الكذب ، آلهة دون الله ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 87 ] .
{ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : بمن هو الحقيق بالعبادة ، لكونه ربّاً للعالمين ، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره ، والمعنى : لا يقدّر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته ؛ لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه ، فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة ، وهو الذي حملهم على عبادة غيره . أو المعنى : فما ظنكم به ؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم ، وقد عبدتم غيره ؟ وعلى كلٍّ ، فالاستفهام إنكاري . والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ } [ 88 ] .
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ } أي : ليريهم على أنه يستدل بها على شيء لأنهم كانوا منجّمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } [ 89 ] .
{ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } أي : مريض لا يمكنني الخروج معكم إلى معيّدكم [ كذا ] . ترخص عليه السلام بذلك ؛ ليتخلص من شهود زورهم ، ومنكراتهم ، وأفانين شركهم ، مما تجوزه المصلحة ، أو عنى أنه سقيم القلب ، تشبيهاً لغمه وحزنه بالمرض ، على طريق التشبيه ، أو أراد أنه مستعد للموت استعداد المريض ، فهو استعارة ، أو مجاز مرسل .
قال الزمخشري : والذي قاله إبراهيم عليه السلام ، معراض من الكلام ، ولقد نوى به أن [ في المطبوع : ان ] من في عنقه الموت ، سقيم . ومنه المثل : كفى بالسلامة داء . وقول لَبِيد :
~فَدَعَوْتُ رَبِّيْ بِالسَّلَاْمَةِ جَاْهِداً لِيُصِحَّنِيْ ، فَإِذَاْ السَّلَاْمَةُ دَاْءُ
ومات رجل فجأة ، فالتفّ عليه الناس ، وقالوا : مات وهو صحيح . فقال أعرابيٌّ :
أصحيحٌ مَن الموت في عنقه ؟ انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : في الآية استعمال المعاريض والمجاز للمصلحة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [ 90 ] .
{ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي : إلى معبدهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ } [ 91 ] .
{ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ } أي : ذهب إليها في خفية : { فَقَالَ } أي : للأصنام استهزاء : { أَلَا تَأْكُلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ 92 - 96 ] .
{ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ } أي : بإيجاب ولا سلب : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ } أي : هجم عليهم : { ضَرْباً بِالْيَمِينِ } أي : التي هي أقوى الباطشتين ، فكسرها : { فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ } أي : إلى إبراهيم بعد ما رجعوا : { يَزِفُّونَ } أي : يسرعون لمعاتبته على ما صدر منه ، فأخذ عليه السلام يبرهن لهم على فساد عبادتهم : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي : من الأصنام : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } أي : وما تعملونه من الأصنام المنوعة الأشكال ، المختلفة المقادير ، ولما قامت عليهم الحجة ، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } [ 97 ، 98 ] .
{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ } أي : لإحراقه : { بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } أي : الأذلين بإبطال كيدهم ، جعل النار عليه برداً وسلاماً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ 99 ] .
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } أي : مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي ، وأعصم فيه ديني . قال الرازي : فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء ، تجب مهاجرته ؛ وذلك لأن إبراهيم عليه السلام ، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة ، لما أحسّ من قومه العداوة الشديدة ، هاجر ، فلأن يجب على غيره ، بالأولى . وقوله : { سَيَهْدِينِ } أي : إلى ما فيه صلاح ديني ، أو إلى مقصدي . وإنما بتّ القول لسبق وعده تعالى ؛ إذ تكفل بهدايته ، أو لأن من كان مع الله كان الله معه < احفظ الله يحفظك > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } [ 100 ، 101 ] .
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } أي : متسع الصدر حسن الصبر ، والإغضاء في كل أمر ، والحلم رأس الصلاح ، وأصل الفضائل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ 102 ] .
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي : السن الذي يقدر فيه على السعي والعلم : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى } أي : إني أمرت في المنام بذبحك - ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة - فانظر هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا والعمل بظاهرها ؟ : { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي : يأمرك الله به ، فإن كان ذاك أمراً من لدنه فأمضه .
قال القاضي : ولعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأموراً به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق ، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ثم قال : ولعل الأمر في المنام دون اليقظة ، لتكون مبادرتها إلى الامتثال ، أدل على كمال الانقياد والإخلاص . انتهى .
قال الرازي : الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب ، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله ، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم ، حيث يراه قد بلغ في الحِلم إلى هذا الحد العظيم ، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ، ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة ، والثناء الحسن في الدنيا . وقوله : { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي : على الذبح ، أو على قضاء الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ 103 ] .
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي : استسلما وانقادا لأمره تعالى بدون إبطاء ، واستلّ إبراهيم السكين,
{ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي : صرعه على شقه ، فوقع جبينُه على الأرض ، وهو أحد جانبي الجبهة . وتله أصل معناه : رماه على التّل ، وهو التراب المجتمع . كـ : تربه . ثم عم لكل صرع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 104 ، 105 ] .
{ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } أي : لا تذبحه وقد قمت بمصداقها في بذل الوسع من الأخذ بإمضاء ما تشير إليه ، وكمال الطاعة في هذا الشاقّ ، وأوتيت
أجر الامتثال ، والصبر ، والثبات . وفي جواب لما ثلاثة أوجه ، أظهرها أنه محذوف ؛ أي : نادته الملائكة ، أو ظهر صبرهما ، أو أجزلنا لهما أجرهما ، الثاني في أنه : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } بزيادة الواو وهو رأي الكوفيين والأخفش ، الثالث أنه : { وَنَادَيْنَاهُ } والواو زائدة أيضاً { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : باللطف ، والعناية ، والنداء ، والوحي ، والفرج بعد الشدة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ } [ 106 ] .
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ } أي : الاختيار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره ، إشارة إلى أن هذا الأمر كان ابتلاءً وامتحاناً لإبراهيم في صدق الخلة لله ، وتضحية أعز عزيز لديه ، وأحب محبوب عنده ، لأمر ربه تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ 107 ] .
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي : رزقناه ما يذبح بدلاً عنه وفداء له ، منّة وتطولاً . وقد روي أنه عليه السلام لما نودي ، حانت منه التفاتة إلى ما حوله ، فأبصر كبشاً قد انتشب قرناه في شجرة ، فتم به المرئي في المنام المقصود به القربان لله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ 108 - 113 ] .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي : مثل ما تركنا على نوح . كما تقدم بيانه وإعرابه : { كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } أي : على إبراهيم : { وَعَلَى إِسْحَقَ } أي : بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم ، وجعلهم ملوكاً ، وإيتائهم ما لم يؤت أحد : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } أي : في عمله : { وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي : بالكفر والمعاصي : { مُبِينٌ } أي : ظاهر الظلم .
تنبيهات :
الأول - يروي المفسرون ههنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها ، بل ولم تحسن ، فهي معضلة تنتهي إلى السدي وكعب . والسدي حاله معلوم في ضعف مروياته ، وكذلك كعب .
قال ابن كثير رحمه الله : لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية ، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً ، فربما استمع له عمر ، فترخص الناس في استماع ما عنده عنه ، غثها وسمينها ، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده . انتهى .
ولقد صدق رحمه الله ، ولذا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروري له ، إلا إذا صح سنده ، أو اطمأن القلب به . وقد ولِع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين ، ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها ، وكون متنها منكراً أيضاً أو موضوعاً ، ولما صنفتُ مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مروي ضعيف في فضائل الشهور والأوقات ، واقتصرتُ على جياد الأخبار والآثار ، وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه [ في المطبوع : عيهى ] .
وأمثل ما روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً ، قال : لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك ، عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة السلام إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ، ثم تلّه للجبين ، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض ، فقال له : يا أبت ! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فعالجه ليخلصه ، فنودي من خلفه : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أَعْيَن . قال ابن عباس : لقد رأيتُنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش .
الثاني - قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي ، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن ، وتقديم المشيئة في كل قول ، واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده ، لزمه ذبح شاة . ثم قال السيوطي : فسر الذبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش ، فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل . انتهى .
الثالث - استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه - كما ذكره الرازي - وذلك في باب الابتلاء ؛ أي : ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه ، فيما يشق على النفس تحمله .
الرابع - يذكر كثيرٌ الخلافَ في الذبيح ، قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ؛ فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه - بكره ، وفي لفظ : وحيده - ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده .
والذي غرّ أصحابَ [ في المطبوع : وأصحاب ] هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق . قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ؛ لأنها [ في المطبوع : لأنهم ] تناقض قوله : بكرك ، وحيدك . ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختارونه دون العرب . ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى : { لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 70 - 71 ] ، فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها [ في المطبوع : له ] ولد ثم يأمر بذبحه . ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة ، فتَناوُلُ البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد [ في المطبوع : الواحد ] . وهذا ظاهر الكلام وسياقه .
فإن قيل ، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجروراً عطفاً على إسحاق ، فكانت القراءة : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاق يَعْقُوب } أي : ويعقوب من وراء إسحاق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به ؛ لأن البشارة قول مخصوص ، وهي أول خبر سارّ صادق . وقوله : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } جملة متضمنة بهذه القيود ، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . أو لما كانت البشارة قولاً ، كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول . كأن المعنى : وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب . والقائل إذا قال : بشرت فلاناً بقدوم أخيه ، وثقله في أثره ، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعاً . هذا مما لا يستريب ذو فهمٍ فيه البتة . ثم يضعف الجر أمر آخر ، وهو ضعف قولك : مررت بزيد ومن بعده عَمْرو ؛ لأن العاطف يقوم حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور ، كما لا يفصل بين حروف الجار والمجرور ، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة ، قال : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } [ الصافات : 103 - 111 ] ، ثم قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] ، فهذا بشارة من الله له ، شكراً على صبره على ما أمر به . وهذا ظاهر جداً في أن المبشر به غير الأول . بل هو كالنص فيه .
فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته ، أي : لما صبر الأب على ما أمر به ، وأسلم الولد لأمر الله ، جازاه الله على ذلك ، بأن أعطاه النبوة . قيل : البشارة وقعت على المجموع ، على ذاته ووجوده وأن يكون نبياً ؛ ولهذا ينصب : { نَبِيّاً } على الحال المقدر أي : مقدراً نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل ، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة . هذا محال من الكلام . بل إذا وقع البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوه أولى وأحرى ، وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر ، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ، تذكيراً لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله .
ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه ، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل ، وكان النحر بمكة ، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زماناً ومكاناً ، ولو كان الذبح بالشام ، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم ، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة ، وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً ؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه ، ولما ذكر إسحاق سماه عليماً ، فقال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } [ الذرايات : 24 - 25 ] إلى أن قال : { قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الذرايات : 28 ] ، وهذا إسحاق بلا ريب ، لأنه من امرأته وهي المبشرة به ، وأما إسماعيل فمن السرية .
وأيضاً فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد . وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك ، وأيضاً فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده . وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له ، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلاً . والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة ، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها . فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد ، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره الجليل بذبح المحبوب . فلما أقدم على ذبحه ، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد ، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة ؛ إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه ، فقد حصل المقصود ، فنسخ الأمر ، وفُدي الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب .
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار [ في المطبوع : الاختيار ] ، إنما حصل عند أول مولود ، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول ، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ، ما يقتضي الأمر بذبحه . وهذا في غاية الظهور . وأيضاً فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة ، فإنها كانت جارية ، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة . فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة ، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة . وهذا من رحمته ورأفته . فكيف يأمره سبحانه بعد هذا ، أن يذبح ابنها ، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها ، وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها ، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية ؟
بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها . وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتاً ، هذه وابنها منهم ، ويرى عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة ، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد ، والوحدة ، والغربة ، والتسليم ، إلى ذبح الولد ، آلت إلى ما آلت عليه ، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة . وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه ، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره . قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [ القصص : 5 ] ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الحديد : 21 ] ، انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : واستدل بقوله تعالى بعد : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] ، من قال إن الذبيح إسماعيل ، وهو الذي رجحه جماعة ، واحتجوا له بأدلة : منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده ، والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق ، وغير ذلك ، وهي أمور ظنية لا قطعية ، ثم قال : وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقترب منه - ولم أر من سبقني إلى استنباطه - وهو أن البشارة وقعت مرتين ، مرة في قوله تعالى : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [ الصافات : 99 - 102 ] ، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح . ومرة في قوله : { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] الآية . فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق ، ولم يكن بسؤال من إبراهيم . بل قالت امرأته إنها عجوز ، وإنه شيخ ، وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره . أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام ، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله . فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين ، بغلامين : أحدهما بغير سؤال ، وهو إسحاق صريحاً . والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره . فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } [ 114 ] .
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } أي : بالنبوة والرسالة ، والاصطفاء على عالمي زمانهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [ 115 ] .
{ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وهو قهر فرعون لهم ، بذبح الأولاد ، ونهاية الاستعباد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } [ 116 ] .
{ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } أي : مع ضعفهم ، وقوة فرعون وقومه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ } [ 117 ] .
{ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ } أي : البليغ في بيانه للأحكام والتشريعات ، والآداب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ 118 ] .
{ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : في باب الاعتقاد والمعاملات الموصل رعايته والسلوك عليه ، إلى السعادة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ } [ 119 - 123 ] .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ } وهو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان ، أرسله الله لما انتشرت الوثنية في الإسرائيليين ، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم ، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى ، ونبذوا أحكام التوراة ظهرياً . فقام إلياس عليه السلام يوبخهم على ضلالهم ويدعوهم إلى التوحيد ، ويسمى في التوراة : إيليا ، وله نبأ فيها كبير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ } [ 124 ] .
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ } أي : عذاب الله ، ونقمته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } [ 125 ] .
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أي : تعبدونه أو تطلبون الخير منه ؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين ، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة ، يعظمون من شأنهم ، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة ، ويقدمون لخم ضحايا بشرية : { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } أي : تتركون عبادته . قال القاضي : وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار ، المعني بالهمزة . ثم صرح يه بقوله :القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } [ 125 ] .
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أي : تعبدونه أو تطلبون الخير منه ؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين ، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة ، يعظمون من شأنهم ، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة ، ويقدمون لخم ضحايا بشرية : { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } أي : تتركون عبادته . قال القاضي : وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار ، المعني بالهمزة . ثم صرح يه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ 126 - 127 ] .
{ وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي : في العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } [ 128 - 130 ] .
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : الذين آمنوا به واتبعوه : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بـ : ياسين . وقرئ آل ياسين بإضافة آل - بمعنى أهل - إليه . وكله من التصرف في العلم الأصلي ، الذي هو إيليا على قاعدة العرب في الأعلام العجمية ، إذا أرادت أن تلفظها في الاستعمال ، وتخففها على الألسنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } [ 131 - 134 ] .
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : للدعاء إلى الله ، والنهي عن الفواحش : { إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي : من عذاب قومه المنذرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } [ 135 ] .
{ إِلَّا عَجُوزاً } وهي امرأته ، فإنها وإن خرجت عن مكان عذابهم ، كانت : { فِي الْغَابِرِينَ } أي : في حكم الباقين في العذاب ، لكونها على دين قومها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } [ 136 ] .
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا } أي : أهلكنا : { الْآخَرِينَ } بجعل قريتهم عاليها سافلها ، وإمطار حجارة من سجيل عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 137 - 139 ] .
{ وَإِنَّكُمْ } أي : يا أهل مكة : { لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ } أي : فترون دائماً علامات مؤاخذتهم : { أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : إلى أهل نينوى للتوحيد ، والزجر عن ارتكاب المآثم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ 140 ] .
{ إِذْ أَبَقَ } أي : بغير إذن عن قومه المرسل إليهم : { إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : السفينة المملوءة ، ليركب منها إلى بلد آخر . روي أنه نزل من يافا ، وركب الفلك إلى ترسيس ، فهبت رياح شديدة كادت تغرقهم ، فاقترعوا ليعلموا بسبب من أصابهم هذا البلاء ، فوقعت على يونس ، فألقوه في البحر . وهو معنى قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } [ 141 ] .
{ فَسَاهَمَ } أي : قارع : { فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } أي : المغلوبين بالقرعة . وأصله الزلق عن الظفر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ 142 ] .
{ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ } أي : ابتلعه : { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي : آت بما يلام عليه من السفر بغير أمر ربه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ } [ 143 ] .
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ } أي : الذاكرين الله بالتسبيح ، والإنابة ، والتوبة ، في بطن الحوت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ 144 ] .
{ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : لكان بطنه قبراً له إلى يوم القيامة ؛ أي : لكن رحمناه بتسبيحه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ } [ 145 ] .
{ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء } أي : حملنا الحوت على طرحه باليبس من الشط : { وَهُوَ سَقِيمٌ } أي : مما ناله من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } [ 146 ] .
{ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } أي : لتقيه من الذباب والشمس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ 147 ] .
{ وَأَرْسَلْنَاهُ } أي : بعد ذلك ، بأن أمرناه ثانية بالذهاب : { إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وهم قومه المرسل إليهم ، الذين أبق عن الذهاب إليهم أولاً ، و " أو " للإضراب , أو بمعنى الواو للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر ؛ أي : إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر . والغرض الوصف بالكثرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ 148 ] .
{ فَآمَنُوا } أي : فسار إليهم ودعاهم إلى الله ، وأنذرهم عذابه إن يرجعوا عن الكفر ، والغي ، والضلال ، والفساد ، والإفساد . فأشفقوا من إنذاره واستكانوا لدعوته وآمنوا معه : { فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي : حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني ، والمقام الأمين ، ببركة الإيمان والعمل الصالح ، وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ } الخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } [ 149 ] .
{ فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : قريشا المنذرين بأنباء الرسل وقومهم : { أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } أي سلهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها . جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور ، في قولهم : الملائكة بنات الله . مع كراهتهم الشديدة لهن ، وأودهم واستنكافهم من ذكرهن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } [ 150 ] .
{ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } أي : حاضرون ، حتى فاهوا بتلك العظيمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 151 ، 152 ] .
{ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ } أي : صدر منه الولد ، مع أن الولادة من خواص الأجسام القابلة للفساد : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في مقالتهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } [ 153 ] .
{ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } أي : اختار الإناث : { عَلَى الْبَنِينَ } أي : الذكور .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ 154 ] .
{ مَا لَكُمْ } أي : أي : شيء عرض لعقولكم : { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بنسبة الناقص إلى المقام الأعلى ، وتخيرّكم الكامل .
لطيفة :
قال الزمخشري : قال قلت : { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } بفتح الهمزة ، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد ، فكيف صحت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات ؟ قلت : جعله من كلام الكفرة ، بدلاً عن قولهم : { وَلَدَ اللَّهُ } وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما . وهذه القراءة ، وإن كان هذا محملها ، فهي ضعيفة . والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها . وذلك قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } و : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فمن جعلها للإثباث ، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [ 155 ] .
{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } أي : أنه منزه عن ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } [ 156 ] .
{ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } أي : حجة واضحة وبرهان قاطع ، ثم لا يجوز أن يكون ذلك عقلياً ، لاستحالته عند الفعل ، فغايته أن يكون مأثوراً عن أسفار مقدسة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 157 ] .
{ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ } أي : المسطور فيه ذلك عن وحي سماوي : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم . وهذا كقوله تعالى : { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] ، وفيه إشعار بأن المدار في الدعوى على البرهان البين ، وأنها بدونه لا يقام لها وزن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ 158 ] .
{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } أي : قرباً منه . قال مجاهد : قال المشركون : الملائكة بنات الله تعالى . فقال أبو بكر رضي الله عنه : فمن أمهاتهن ؟ قالوا : بنات سروات الجن . وكذا قال قتادة وابن زيد ، ثم أشار إلى أن لا نسبة تقتضي النسب بوجه ما ، عدا عن استحالة ذلك عقلاً ، بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } أي : المنسوب إليهم هذا النسب
{ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي : في النار يوم القيامة . لكون الجنة كالجن ، علماً في الأغلب للفرقة الفاسقة عن أمر ربها من عالم الشياطين , أي : فالمنسوب إليهم يتبرؤون من هذه النسبة ، لما يعلمون من أنفسهم أنهم من أهل السعير ، لا من عالم الأرواح الطاهرة ، فما بال هؤلاء المشركين يهرفون بما لا يعرفون ؟ وفسر بعضهم الجنة ، بالملائكة المحدّث عنها قبلُ . والضمير في إنهم ، للكفرة . ولعل ما ذكرناه أولى ، لخلوّه عن تشتيت الضمائر ، ولموافقته للأغلب من استعمال الجن والجنة . وذلك فيما عدا الملائكة . وقلنا الأغلب لما سمع من إطلاق الجن في الملائكة . قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام :
~وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَاْئِكِ تَسْعَةً قِيَاْماً لَدَيْهِ يَعْمَلُوْنَ مَحَاْرِبَا
وقال الراغب : الجن يقال على وجهين : أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها ، بإزاء الإنس . فعلى هذا تدخل فيه الملائكة . وقيل : بل الجن بعض الروحانيين ، وذلك أن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة . وأشرار وهم الشياطين . وأوساط فيهم أخيار وأشرار ، وهم الجن ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [ الجن : 1 ] إلى قوله تعالى : { وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } [ الجن : 14 ] . انتهى .
ورد إطلاق الجن على الملائكة العلامة الفاسي في " شرحه على القاموس " فقال : تفسير الجن بالملائكة مردود ؛ إذ خلق الملائكة من نور لا من نار كالجن . والملائكة معصومون ، ولا يتناسلون ولا يتّصفون بذكورة وأنوثة ، بخلاف الجن ؛ ولهذا قال الجماهير : الاستثناء في قوله تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ } [ البقرة : 34 ] ، منقطع أو متصل . لكونه كان مغموراً فيهم ، متخلقاً بأخلاقهم . انتهى .
وهو يؤيد ما ذهبنا إليه ، وبيت الأعشى لا يصلح حجة ، لفساد مصداقه ؛ لأن سليمان لم تسخر الملائكة لتشيد له المباني ، وليس ذلك من عملهم عليهم السلام ، وقد مر الكلام على ذلك في تفسير سورة سبأ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ 159 ] .
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : من الولد والنسب . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ 160 ] .
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } استثناء من المحضرين ، الذين هم الجنة ، متصل على القول الأول ، أي : المؤمنين منهم ، ومنقطع على الثاني ، أو استثناء منقطع من واو يصفون . هذا وبقي وجه في الآية لم يذكروه ، وهو أن يراد بالنسب المناسبة ، والمشاكلة في العبادة ، ويراد بالجنة الملائكة ، ويكون المراد من الآية الإخبار عمن عبد الملائكة من العرب وجعلوهم نداً ومِثلاً له تعالى ، وحكاية لضلال آخر لهم ، غير ضلال دعواهم ، أنهم بنات الله سبحانه ، من عبادتهم له ، مع أنهم عليهم السلام يعلمون أن هؤلاء الضالين محضرون في العذاب . والآية في هذا كآية : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] ، وكان السياق من هنا إلى آخر ، كالسياق في طليعة السورة ، كله في تقرير عبودية الملائكة له تعالى ، وكونها من مخلوقاته الصافّة لعبادته ، فأنى تستحق الربوبية ؟ والله أعلم . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } [ 161 ] .
{ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } عود إلى خطابهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [ 162 ] .
{ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } أي : مفسدين أحداً بالإغواء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [ 163 ] .
{ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } أي : ضال مثلكم ، مستوجب للنار ، قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : فإنكم أيها المشركون بالله : { وَمَا تَعْبُدُونَ } من الآلهة والأوثان : { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنينَ } أي : ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بمضلين أحداً { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ اَلْجَحِيم } أي : من سبق في علمي أنه صال الجحيم . وقد قيل : إن معنى عليه به . انتهى .
ثم بين تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية ، للرد على عبدتهم ، بقوله حاكياً عنهم :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ 164 ] .
{ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } أي : في العبودية وتسخيره فيما يريده تعالى منه . لا يتعدى فيه طوره ، ولا يجاوز منه قدره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } [ 165 ] .
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } أي : في أداء الطاعة ، ومنازل الخدمة التي نؤمر بها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } [ 166 ] .
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } أي : المنزهون الله عما يصفه به الملحدون ، أو المصلون له خشوعاً لعظمته ، وتواضعاً لجلاله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ } [ 167 ] .
{ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ } أي : مشركو قريش .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ } [ 168 ] .
{ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ } أي : كتاباً من الكتب التي نزلت عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ 169 ] .
{ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : لأخلصنا العبادة له ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو أهدى الكتب والمعجز من بينها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 170 ] .
{ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة كفرهم . وهذا كقوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] . وقوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } [ الأنعام : 156 - 157 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } [ 171 ] .
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } أي : وعدنا لهم الأزلي ، وهو :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ 172 ، 173 ] .
{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا } أي : الرسل ومن آمن معهم : { لَهُمُ الْغَالِبُونَ } أي : الظاهرون على أعدائهم ، والمالكون لنواصيهم كقوله تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } [ 174 ] .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : أعرض عنهم إعراض الصفوح الحليم عمن ينال منه . كقوله تعالى : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ] ، وقوله : { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } [ الحجر : 85 ] ، { حَتَّى حِينٍ } أي : إلى استقرار النصر لك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } [ 175 ] .
{ وَأَبْصِرْهُمْ } أي : بصرهم وعرفهم عاقبة البغي والكفر ، وما نزل بمن أُنذر قبلهم ، أو أوضح لهم الدلائل والحجج في مجاهدتك إياهم بالقرآن والوحي ، فإن لم يبصروا الآن { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي : ما قضينا لك من التأييد والنصرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [ 176 ] .
{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } أي : قبل حلول أجله ، وإنه لآت ، لأنه يوم الفتح الموعود به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ } [ 177 ] .
{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } أي : بقربهم وفنائهم : { فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ } أي : فبئس الصباح صباح من أنذرتهم بالرسل فلم يؤمنوا ؛ لأنه يوم هلاكهم ودمارهم . قال الزمخشري : مثل العذاب النازل بهم ، بعد ما أنذروا فأنكروه ، بجيش أنذر بهجومه بعضُ نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ، ولا أخذوا أهبتهم ، ولا دبروا أمرهم تدبيراً ينجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم . وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحاً . فسميت الغارة صباحاً ، وإن وقعت في وقت آخر . وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك ، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل . انتهى . أي : فهي استعارة تمثيلية ، أو في الضمير استعارة مكنية ، والنزول تخييلية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } [ 178 ، 179 ] .
{ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } قال الزمخشري : إنما ثنى ذلك ليكون تسلية علي تسلية ، وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد . وفيه فائدة زائدة ، وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول ، وإنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به من الذكر من صنوف المسرة ، وأنواع المساءة . وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا ، وبالآخر عذاب الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ 180 ] .
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ } أي : المنعة ، والقدرة ، والغلبة : { عَمَّا يَصِفُونَ } أي : من الشريك ، والولد ، ونحوهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [ 181 ] .
{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } أي : سلام ، وأمان ، وتحية على المرسلين المبلغين رسالات ربهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 182 ] .
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : على نعمه ، التي أجلّها إرسال الرسل لإظهار أسمائه الحسنى وشرائعه العليا ، وإصلاح الأولى والأخرى .
فوائد في خواتم هذه السورة :
الأولى - روى ابن جرير عن الوليد بن عبد الله قال : كانوا لا يصفّون في الصلاة حتى نزلت : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } فصفوا . وقال أبو نضرة : كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ، ثم قال : أقيموا صفوفكم ، استقيموا قياماً ، يريد الله بكم هدى الملائكة . ثم يقول : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } تأخّر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجداً ، وتربتها لنا طهوراً > .
الثانية - روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : صبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر . فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش ، رجعوا وهم يقولون : محمد والله ! محمد والخميس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < الله أكبر خربت خيبر : إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين > . دلّ تمثله صلّى الله عليه وسلم بالآية على شمولها لعذاب الدنيا ، أولاً وبالذات .
الثالثة - قال ابن كثير : لما كان التسبيح يتضمن التنزيه ، والتبرئة من النقص ، بدلالة المطابقة ، ويستلزم إثبات الكمال ، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال المطلق مطابقة ، ويستلزم التنزيه من النقص - قرن بينهما في هذا الموضع ، وفي مواضع كثيرة من القرآن ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ } الآيات .
الرابعة - روى ابن [ أبي ] حاتم عن الشعبي مرسلاً : < من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليقل آخر مجلسه ، حين يريد أن يقوم : { سُبْحَانَ رَبِّكَ } - الآيات - > .
وروي أيضاً عن علي موقوفاً .
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعاً : < من قال دبر كل صلاة : { سُبْحَانَ رَبِّكَ } الآيات ، ثلاث مرات ، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر > .
وقد بين الرازي أن خاتمة هذه السورة الشريفة جامعة لكل المطالب العالية . فارجع إليه .

(/)


سورة ص
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ 1 ] .
{ ص } بالسكون على الوقف . وقرئ بالكسر والفتح . اسم للسورة ، على القول المتجه عندنا ، فيه وفي نظائره ، لما قدمنا غير ما مرة . وقيل : قسم رمزي ، وإليه نحا المهايمي . قال : أقسم الله سبحانه وتعالى بصدق محمد صلّى الله عليه وسلم الذي اعترف به الكل في غير دعوى النبوة ، حتى صدقه أهل الكتابين في إخباره عن الغيوب ، الدال على الصدق في دعوة النبوة ، أو بصفائه عن رذائل الأخلاق ، وقبائح الأفعال الدال على صفائه عن نقيصة الكذب ، أو بصعوده في مدارج الكمالات ، الدال على صعوده في مدارج القرب من الله ، أو بصبره الكامل هو لوازم الرسالة على أنه رسول . انتهى .
{ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر } أي : الشرف الدال على حقيقته وصدقه ، أو التذكير ، كآية : { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] ، والجواب محذوف لدلالة السياق عليه ؛ أي : أنه لحق . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ 2 ] .
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ } أي : كبر : { وَشِقَاقٍ } أي : عداوة للحق ، والإذعان له . إضراب عما قبله ، كأنه قيل : لا ريب فيه قطعاً ، وليس عدم إيمان الكفرة به لشائبة ريبٍ مما فيه ، بل هم في حميّة جاهلية ، وشقاق بعيد لله ولرسوله ؛ ولذلك لا يذعنون له . وقيل : الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية ؛ أي : ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } ثم أوعدهم على شقاقهم بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ 3 ] .
: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } أي : لكبرهم عن الحق ، ومعاداتهم لأهله : { فَنَادَوْا } أي : فدعوا واستغاثوا : { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي : وليس الحين حين فرار ، ومهرب ، ومنجاة . والكلام على " لات " ، وأصلها ، وعملها ، والوقف عليها ، ووصل التاء بها ، أو فصلها عنها ، مبسوط في مطولات العربية ، وفي معظم التفاسير هنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ 4 ، 5 ] .
{ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ } أي : رسول : { مِّنْهُمْ } أي : من أنفسهم ، يعني النبي صلّى الله عليه وسلم : { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أي : بليغ في العجب ، وذلك لتمكن تقليد آبائهم في نفوسهم ، ورسوخه في أعماق قلوبهم ، ومضي قرون عديدة عليه ، وإلفهم به وأنسهم له ، حتى ران على قلوبهم ، وغشي على أبصارهم ، ونسي باب النظر والاستدلال . بل محي بالكلية من بينهم . وصار عندهم من أبطل الباطل ، وأمحل المحال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } [ 6 ] .
{ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ } أي : الأشراف من قريش يحضّون بعضهم على التمسك بالوثنية ، ويتواصون بالصبر على طغيانهم قائلين : { أَنِ امْشُوا } أي : في طريق آبائكم : { وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } أي : عبادتها مهما سمعتم من تسفيه أحلامنا ، وتفنيد مزاعمنا : { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } تعليل للأمر بالصبر ؛ أي : يراد منا إمضاؤه وتفنيده لا محالة ؛ أي : يريده محمد من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان . أو المعنى : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد منا ، أي : بنا ، فلا انفكاك لنا عنه ، وما لنا إلا الاعتصام عليه بالصبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } [ 7 ] .
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } أي : ما سمعنا بهذا التوحيد الذي ندعى إليه في ملة النصارى ؛ لأنهم مثلثة غير موجودة ، أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا : { إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } أي : ما هذا التوحيد إلا فرية محضة ، لا مستند له سوى هذا الذكر بزعمهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } [ 8 ] .
{ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } أي : مع أن فينا من هو أثرى وأعلى رياسة . قال الزمخشري : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم ، كما قالوا : { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد ، على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } إضراب عن مقدر ؛ أي : إنكارهم للذكر ليس عن علم ، بل هم في شك منه ، يقولون في أنفسهم : إما وإمّا : { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي : على الإنكار . فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك ، والحسد ، وصدّقوا وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ ؛ لأنهم صدقوا مضطرين .
قال الناصر في " الانتصاف " : ويؤخذ منه أن : { لَمَّا } لائقة بالجواب . وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده ، كما يقول سيبويه ، وفرق بينها وبين " لَمْ " ، بأن لم : نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته ، قد . ولما : نفي لما يتوقع وجوده أُدخل على مثبته ، قد .
وقال : إنما ذكرت ذلك لأني حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام : < الشفعة فيما لم يقسم > . فإني استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة . فقيل لي : إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة ، فإما لأنها لا تقبل قسمة ، وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة ، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة لم ، ومقتضاها ، قبول المحل الفعل المنفي وتوقع وجوده . ألا تراك تقول : الحجر لا يتكلم . ولو قلت : الحجر لم يتكلم . لكان ركيكاً من القول ؛ لإفهامه قبوله للكلام . انتهى . وهو لطيف جيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } [ 9 ] .
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } أي : حتى يتخيروا لنبوة ما تهوى أنفسهم . كلا : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [ القصص : 68 ] ، { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } [ 10 ] .
{ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } أي : فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء ، وليتحكموا بما شاءوا في الأمور الربانية ، والتدابير الإلهية .
روى ابن جرير بسنده عن الربيع بن أنس قال : الأسباب أدق من الشعر ، وأشد من الحديد ، وهو بكل مكان ، غير أنه لا يرى . انتهى .
وهذا البيان ينطبق على ما يعرّف به الأثير الموجود في أجزاء الخلاء المظنون أنها فارغة . فتأمل .
ثم قال ابن جرير : وأصل السبب عند العرب ، كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل ، أو وسيلة ، أو رحم ، أو قرابة ، أو طريق ، أو محجة ، وغير ذلك . انتهى .
وقال المهايمي : أي : فليصعدوا في الأسباب التي هي معارج الوصول إلى العرش ، ليستووا عليه ، فيدبروا العالم ، وينزلوا الوحي على من شاءوا . وأنى لهم ذلك ؟ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ } [ 11 ] .
{ جُندٌ مَّا } أي : هم جند حقير : { هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ } أي : الذين كانوا يتحزبون على الأنبياء قبلك ، وأولئك قد قهروا وأهلكوا . وكذا هؤلاء . فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث لما به يهذون . و : { هُنَالِكَ } إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول ، فهو مجاز . وجوز أن يكون حقيقة ، للإشارة إلى مكان قولهم وهو مكة . قال قتادة : وعده الله وهو بمكة يومئذ ، أنه سيهزم جنداً من المشركين . فجاء تأويلها يوم بدر . وقال ابن كثير : هذه الآية كقوله جلت عظمته : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 44 - 45 ] . وكان ذلك يوم بدر ، وفي الآية أوجه من الإعراب أشار له السمين بقوله : { جُندٌ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما - وهو الظاهر - أنه خبر مبتدأ ، أي : هم جند . و : { مَّا } فيها وجهان ، أحدهما - أنه مزيدة . والثاني أنها صفة لـ : جند ، على سبيل التعظيم ، للهزء بهم ، أو للتحقير . فإن ما ، إذا كانت صفة تستعمل لهذين المعنيين . و : { هُنَالِكَ } يجوز فيه ثلاثة أوجه : أحدها - أن يكون خبراً لـ : جند . وما : مزيدة و : { مَهْزُومٌ } نعت لـ : جند . والثاني - أن يكون صفة لـ : جند . الثالث - أن يكون منصوبا بـ : مهزوم . و : { مَهْزُومٌ } يجوز فيه أيضاً وجهان : أحدهما - أنه خبر ثان لذلك المبتدأ المقدر ، والثاني أنه صفة لـ : جند . و : { هُنَالِكَ } مشارٌ به إلى موضع التقاول ، والمحاورة بالكلمات السابقة ، وهو مكة ؛ أي : سيهزمون بمكة ، وهو إخبار بالغيب . وقيل : مشار به إلى نصرة الإسلام . وقيل : إلى حفر الخندق ، يعني إلى مكان ذلك .
الثاني - من الوجهين الأولين - أن يكون جند : مبتدأ ، وما : مزيدة و : { هُنَالِكَ } نعت و : { مَهْزُومٌ } خبره . وفيه بعد ، لتفلّته عن الكلام الذي قبله . انتهى .
فائدة :
روى ابن عباس في هذه الآية أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش ، فيهم أبو جهل ، فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا , ويفعل ويفعل , ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته ! فبعث إليه . فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت ، وبينهم ، وبين أبي طالب قدر مجلس رجل . قال فخشي أبو جهل - لعنه الله - إن جلس إلى جنب أبي طالب ، أن يكون أرق له عليه . فوثب فجلس في ذلك المجلس . ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه ، فجلس عند الباب ، فقال له أبو طالب : أي : ابن أخي ! ما بال قومك يشكونك ! يزعمون أنك تشتم آلهتهم , وتقول وتقول , قال ، وأكثروا عليه من القول . وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : < يا عم ! أريدهم على كلمة واحدة يقولونها , تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية > . ففزعوا لكلمته ولقوله . فقال القوم : كلمة واحدة ؟ نعم ، وأبيك عشراً . فقالوا : وما هي ؟ وقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال صلّى الله عليه وسلم : < لا إله إلا الله > . فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ونزلت الآية . رواه ابن جرير ، والإمام أحمد ، والنسائي ، والترمذي وحسنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ 12 ] .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أي : قبل قريش : { قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ } وهم قوم هود : { وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } أي : الملك الثابت . وأصله البيت المطنّب ، أي : المربوطة أطنابه - أي : حباله - بأوتاده ، استعير للملك استعارة تصريحية ، وصف به فرعون مبالغة بجعله عين ملكه ، أو شبه فرعون في ثبات ملكه بذي بيت ثابت ، أقيم عموده ، وثبتت أوتاده . على طريق الاستعارة المكنية ، وأثبت له ما هو من خواصه تخييلاً ، وهو قوله : { ذُو الْأَوْتَادِ } فإنه لازم له ، أو هو كناية ، حيث أطلق اللازم ، وأريد الملزوم ، وهو الملك الثابت ، وقد جاء هذا في قول الأسود من شعراء الجاهلية :
~وَلَقَدْ غَنُوْا فِيْهَاْ بِأَنْعَمِ عِيْشَةٍ فِيْ ظِلِّ مُلْكٍ ثَاْبِتِ الْأَوْتَاْدِ
أو المعنى : ذو الجموع الكثيرة ، سمّوا بذلك لأن بعضهم يشد بعضاً ، كالوتد يشد البناء . فالاستعارة تصريحية في الأوتاد ، أو هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند ، أو هو على حقيقته ، والمراد المباني العظيمة ، والهياكل الثابتة الفخيمة ، واللفظ صادق في الكل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ } [ 13 ] .
{ وَثَمُودُ } وهم قوم صالح : { وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ } أي : الغيضة ، وهم قوم شعيب : { أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ } أي : الكفار المتحزبون على رسلهم ، الذين جعل الجند المهزوم منهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } [ 14 ] .
{ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } أي : فوجبت عليهم عقوبتي . قال الشهاب : { إِن } نافية و : { كُلٌّ } محذوف الخبر . والتفريغ من أعم العام ؛ أي : ما كل أحد مخبر عنه بشيء ، إلا مخبر عنه بأنه كذب جميع الرسل ؛ لأن الرسل يصدق كل منهم الكل . فتكذيب واحد منه تكذيب للكل ، أو على أنه من مقابلة الجمع بالجمع ، فيكون كل كذب رسوله ، أو الحصر مبالغة ، كأن سائر أوصافهم بالنظر إليه ، بمنزلة العدم . فهم غالبون فيه . انتهى .
وقال الزمخشري : وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً ، والاستثنائية ثانياً . وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص - أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه .
وزاد الناصر فائدة أخرى للتكرير : وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد المكذبين ، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم ، كرّر ذلك مصحوباً بالزيادة المذكورة ، ليلي بقوله [ في المطبوع : ليلييقوله ] تعالى : { فَحَقَّ عِقَابِ } على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام ، وهو كما قدمته في قوله : { وَكُذِّبَ مُوسَى } [ الحج : 44 ] ، حيث كرر الفعل ليقترن بقوله : { فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } [ الحج : 44 ] . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } [ 15 ] .
{ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء } أي : أهل مكة : { إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي : أخذة واحدة بعذاب بئيس . يقال : صاح الزمان بهم ، إذا أهلكوا . كما قال :
~صَاْحَ الزَّمَاْنُ بِآَلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً خَرُّوْا لِشِدَّتِهَاْ عَلَى الْأَذْقَاْنِ
وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أي : من توقف مقدار فواق ، وهو ما بين الحلبتين ، أو رجوع وترداد ؛ فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع فـ : فواق ، إما بحذف مضافين ، أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه . وقرئ بالضم ، وهما لغتان . وقيل : المفتوح اسم مصدر من : أفاق المريض ، إفاقة وفاقة ، إذا رجع إلى الصحة ، والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ 16 ] .
{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي : نصيبناً من العذاب الذي وعدته ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } [ الحج : 47 ] و [ العنكبوت : 53 و 54 ] ، { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } أي : الجزاء ، وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية ، كما قص عنهم نظائره في عدة آيات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ 17 ] .
{ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } أي : فقد وعدت بالنصر ، والظفر ، والملك ، والتأييد ، كما أوتي داود عليه السلام ، مما سارت به الأمثال ؛ ولذا قال تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ } أي : القوة ؛ أي : الاجتهاد في أداء الأمانة ، والتشدد في القيام بالدعوة ، ومجانبة إظهار الضعف والوهن : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : رجّاع إليه تعالى بالإنابة ، والخشية ، والعبادة ، والصيام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } [ 18 - 19 ] .
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } أي : تبعاً لتسبيحه : { بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } أي : مجموعة عنده يسبحن معه : { كُلٌّ لَّهُ } أي : لله تعالى : { أَوَّابٌ } أي : مطيع منقاد ، يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه .
قال ابن كثير : أي : أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار . كما قال عز وجل : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } [ سبأ : 10 ] ، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه ، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء ، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب . بل يقف في الهواء ويسبح معه ، وتجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه ، وتسبح تبعاً له . انتهى . أي : بأن خلق فيها حياةً ونطقاً ، أو كان له عليه السلام من شدة صوته الحسن دوي في الجبال ، وحنين من الطيور إليه ، وترجيع ، وقد عهد من الطير القمري أنه ينتظر سكتة المصوّت ، والقارئ بصوت حسن ، أو المنشد ، فيجيبه ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } [ 20 ] .
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي : قويناه بوفرة العَدد والعُدد ، ونفوذ السلطة ، وإمداده بالتأييد والنصر : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } أي : النبوة ، أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال ، والحض على الأداب ، ومكارم الأخلاق ، وكان زبوره عليه السلام ، كله حكماً غرراً : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } أي : فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل ، ورفع الشبه ، وإقامة الدلائل ، وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق ، ولا يخالفه أحد من أقاربه ، ولا من الأجانب .
ثم ذكر تعالى من حكمته عليه السلام وقضائه الفصل ، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك ، ما قصه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } [ 21 ] .
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } أي : ولجوه . والمحراب مقدم كل بيت وأشرفه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ } [ 22 ] .
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ } أي : منا . فلسنا فاتكين وإنما نحن
{ خَصْمَانِ } أي : شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك : { بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } أي : تعدى : { فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي : بما يطابق أمر الله : { وَلَا تُشْطِطْ } أي : ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه : { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ } أي : بحيث لا تميل عن الحق أصلاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } [ 23 ] .
{ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي : أنثى من الضأن : { وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } أي : فلم ينظر إلى غناه عنها ، ولا إلى افتقاري إليها ، بل أراد التغلب عليّ : { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي : ملكنيها ، بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي . أو بمعنى اجعلها كفلي أي : نصيبي : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي : غلبني في المكالمة .

(/)


ْالقول في تأويل قوله تعالى:
[ 24 ]{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}
[ 25 ]{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ }
{ قال } أي داود { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها { إِلَى نِعَاجِهِ } أي مع استغنائه عن هذا الضم { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ } أي الإخوان الأصدعاء المتخالطين في شئونهم { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي بغى الأعداء مع أن من واجب حقهم النصفة على الأقل، إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي فإنهم لا يبغون { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } أي وهم قليل . و ( ما ) مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب : فيه مبالغة من وجوه : وصفهم بالقلة ، وتنكير ( قليل ) وزيادة ( ما ) الإبهامية . والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه ، فكأنه قيل : ما أقلهم .
وفي قضائه عليه السلام هذا ، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون . ذلك صدع بالحق أبلغ صدع فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم . وعرف الباغي ظلمه وحيفه ، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه . ثم نفس عن قلب المظلوم البائس ، وروح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة - خلة البغي و عدم الإنصاف - مع الخلطة و الخلة، ليتأسى و يتسلى كما قيل ( إن التأسي روح كل حزين ) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة ، ممن آمن و عمل صالحا ، فكيف بغيرهم ؟ وكلها حكم وغرر ودرر ، حقائق تنطبق علي أكثر هذا السواد الأعظم من الناس ، الذين يدعون المحبة، والصداقة. و لعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق ، إسهابا نوعوا فيه الأبواب ، ولونو فيه الفصول . و مع ذالك لا تزال الشكوى عامة . و قد امتلأت من منظومها و منثورها كتب الأدب ، كما لا يخفى على من له إلمام به . و بالله التوفيق { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي ابتليناه بتلك الحكومة {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ . فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي ما استغفر منه { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } أي لقربا { وَحُسْنَ مَآَبٍ } أي مرجعا حسنا و كرامة في الآخرة .
تنبيهات :
الأول - للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة و وجوه متنوعة . مرجعها إلى مذهبين : مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألم به داود عليه السلام ثم غفر له . و مذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار له بذالك . فممن ذهب إلى الأول ابن جرير . فإنه قال : هذا مثل ضربه الخصم المتسورون على داود محرابه . و ذلك أن داود كانت له ، فيما قيل ، تسع و تسعون امرأة. و كانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة . فلما قتل نكح ، فيما ذكر ، داود امرأته . ثم لما قضى للخصمين بما قضى ، علم أنه ابتلي . فسأل غفران ذنبه و خر ساجدا لله و أناب إلى رضا ربه ، و تاب من خطيئته . هذا ما قاله ابن جرير . ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس و السدي و عطاء و الحسن و قتادة و وهب و مجاهد . و من طريق عن أنس مرفوعا . و يشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن .
قال السيوطي في (الإكليل) : القصة التي يحكونها في شأن المرأة ، و أنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل ، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا . و في إسناده ابن لهيعة ، و حاله معروف ، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي و هو ضعيف . و أخرجها من حديث ابن عباس موقوفا . انتهى .
أقول : أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيها ، فلم يأت من طريق صحيح . , أما الموقوف من ذلك على الصحب و الأتباع رضي الله عنهم ، فمعولهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ ، أو الثقة بمن حكي عنها . و ينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء . و قد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ . كما فصل في مطولات الكلام .
قال ابن حزم رحمه الله : و هو قول الكرامية من المرجئة ، و ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ، و من اتبعه ، و هو قول اليهود و النصارى . ثم رد هذا القول ، رحمه الله ، ردا متينا .
و أما المذهب الثاني ، فهو ما جزم به ابن حزم في ( الفصل) و عبارته : ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قول صادق صحيح ، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بالخرافات ولدها اليهود . و إنما كان ذاك الخصم قوما من بني آدم ، بال شك ، متخصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم . بغى أحدهم على الآخر على نص الآية . و من قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء ، فقد كذب على الله عز و جل ، و قوله ما لم يقل ، و زاد في القرآن ما ليس فيه ، و كذب الله عز و جل و أقر على نفسه الخبيثة ، أنه كذب الملائكة . لأن الله تعالى يقول ( و هل أتاك نبؤا الخصم ) فقال هو : لم يكونوا قط خصمين، و لا بغى بعضهم على بعض ، و لا كان قط لأحدهما تسع و تسعون نعجة ، و لا كان للآخر نعجة واحدة ، و لا قال له أكفلنيها . فأعجبوا . لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم ؟ و نعوذ بالله من الخذلان . ثم كل ذلك بلا دليل ، بل الدعوى المجردة . و تالله ! إن كل امرىء منا ليصون نفسه و جاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره , ثم يعرض زوجها للقتل عمدا ، ليتزوجها . و عن أن يترك صلاته لطائر يراه . هذه أفعال السفهاء المتهوكين الفساق المتمردين . لا أفعال أهل البر والتقوى. فكيف برسول الله داود عليه السلام الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه ؟ لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله . فكيف أن يستضيف إلى أفعاله ؟ وأما استغفاره وخروره ساجداً ، ومغفرة الله له ، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة . والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولامن نبي . ولا من مذنب ولا من غير مذنب . فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض . والملائكة كما قال الله تعالى ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) . وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة . فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه . فاستغفر الله تعالى من هذا الظن ، فغفر الله تعالى له هذا الظن . إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة . انتهى كلام ابن حزم ، وهو وقوف على ظاهر الآية ، مجردًا عن إشارة وإيماء .
وقال البرهان البقاعي في ( تفسيره ) : وتلك القصة و أمثالها من كذب اليهود .
ثم قال : وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته ، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه . انتهى.
ثم قال : وقوله تعالى (فَغَفَرْنَا لَهُ َذَلِكَ ) أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه . وهذه الدعوى تدريب لداود عليه السلام في الأحكام . وذكرها للنبي - صلى الله عليه وسلم - تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام ز ولما ذكر هذا ، ربما أوهم شيئا في مقامه - صلى الله عليه وسلم - ، فدفعه بقوله ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ) فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال . وأول دليل على ما ذكرته ، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الكحم ، لا بامرآة ولا غيرها . وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر . فكم من باطل مشهور ، ومذكور ، هو عين الزور . انتهى.
وقال ابن كثير : قد ذكر المفسرون ههنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات . ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه . ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه . ويزيد ، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . الأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل . فإن القرآن حق ، وما تضمن فهو حق أيضا . انتهى.
وقال القاضي عياص في (الشفا) : وأما قصة داود عليه السلام ، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الإخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا و غيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله على شيء من ذلك ، ولا ورد في حديث صحيح . و الذي نص الله عليه قوله ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) و قوله فيه ( أوَّابٌ ) فمعنى ( فتنَّاهُ ) أي اختبرناه . و ( أوَّابٌ ) قال قتادة : مطيع . وهذا التفسير أولى . قال ابن عباس وابن مسعود : ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل عن امرأتك و أكفلنيها . فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه . وأنكر عليه شغله بالدنيا. وهذا هو الذي ينبغي أي يعول عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته ، وقيل: بل أحب بقلبه أن يستشهد. وحكى السمرقندي أن ذنبه الذي استغفر منه قوله ( لَقَدْ ظَلَمَكَ ) فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشيه على نفسه، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفى ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ذهب أحمد بن نصر و أبو تمام ، وغيرهما من المحققين . قال الداودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية . وقيل: بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.
وقال ابن القيم في أواخر كتابه ( الجواب الكافي ) في مباحث العشق : وقد أرشد - صلى الله عليه وسلم - المتحابين إلى النكاح. كما في سنن ابن ماجه مرفوعًا: لم ير للمتحابَّين مثل النكاح. ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تواوى نبي الله داود عليه السلام ولم يرتكب نبي الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.
وهذا منه تسليم ببعض القصة لا تمامها . وهو من الأوال فيها.
وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعد داود ملكا حكيما، لا نبيا ، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها، وما فيها من أنه بعث إليه نبي يقال له قاشان، ضرب له المثل المذكور فدعوى مردودة من وجوه:
منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إهباتٍ أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه السلام لا خلاف فيها عند المسلمين، فلا عبرة بخلاف غيرهم.
ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما السلام.
ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب ، أو هي إليه ، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب ، كما أخبر الله تعالى عنه. فليتأمل ذلك. والله أعلم.
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز حدًّث بنبأ داود على ما يرويه القصاص، وعنده رجل من أهل الحق. فكذب المحدث به ، وقال : إن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر: لسماعي هذا الكلام ، أحب إلى مما طلعت عليه الشمس . نقله الزمخشري.
قال الناصر في ( الانتصاف ): وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، داود وغيره ، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب، مبرءون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج ، والسبيل الأبهج ، إن شاء الله تعالى . انتهى.
التنبيه الثاني: قال ابن الفرس: في هذه القصة دليل على جواز القضاء في ا لمسجد ( أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصًّا في محراب المسجد ) والتلطف في رد الإنسان عن المكروه صنعه . وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. وجواز المعاريض من القول.
قال الزمخشري: وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض، دون التصريح ، لكونها أبلغ في التوبيخ . من قبل أن المتأمل إذا أداه إلى الشعور بالعرض به ، كان أوقع في نفسه و أشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه ، وأجلب لاحتشامه وحيائه ، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه ، من أن يباده به صريحا ، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة . ألا ترى إلى الحكماء ؟ كيف أوصوا في سياسة الولد ، إذا وجدت منه منة منكرة ، بأن يعرض له بإنكارها عليه، ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة . مع أنه أصون لما بين الوالد و الولد من حجاب الحشمة.
الثالث: قال ابن مسعود في قوله تعالى ( إنَّ هَذَا أَخِي ): أي على ديني . أخرجه ابن أبي حاتم . فقيه جواز إطلاق ( الأخ ) على غير المناسب . واستدل بقوله تعالى ( وَخَرَّ رَاكِعًا ) من أجاز التعويض عن سجود التلاوة بركوع. والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل، عن السجود . لأنه لإفضائه إليه ن جعل كالسبب، ثم تجوز به عنه . أو هو استعارة له، لمشابهته له في الانحناء والخضوع.
الخامس: قال ابن كثير: اختلف الأئمة في سجدة ( ص ) هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين: أحدهما أنها ليست من العزاغئم ، بل هي سجدة شكر . لما روى عن ابن عباس رشي الله عنهما أنه قال: إنها ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها ، رواه أحمد و البخاري وأصحاب السنن. وعنه أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في ( ص ) وقال: سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة، ونسجدها شكرا، تفرد به النسائي وعن أبي سعيد الخدري رشي الله عنه قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها . فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود. فقال - صلى الله عليه وسلم - :إنملا هي توبة نبي. ولكن رأيتكم تشزنتم ، فنزل وسجد . تفرد أبو داود . وإسناده على شرط الصحيح.

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ 26 ] .
{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } أي : استخلفناك على الملك في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها ، ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه : { فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى } أي : هوى النفس ، من الميل إلى مال ، أو جاه ، أو قريب ، أو صاحب : { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي : صراطه الموصل إلى الكمالات ، كحفظ المملكة ، والنصر على الأعداء ، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها : { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } أي : بسبب نسيانهم ، وهو ضلالهم عن السبيل ، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ، ومخالفة الهوى .
تنبيه :
في الآية بيان وجوب الحكم بالحق ، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة ، أو رجاء ، أو سبب يقتضي الميل ، واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله . كذا في " الإكليل " . و قال ابن كثير : هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله ، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب ، بالوعيد الأكيد ، والعذاب الشديد . روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة ، أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة ، فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ؟ أقول ؟ قال : قل في أمان . قلت : يا أمير المؤمنين ! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام ؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة . ثم توعده في كتابه قال تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } الآية .
وقال الرازي : اعلم أن الْإِنْسَاْن خلق مدنيّاً بالطبع ؛ لأن الْإِنْسَاْن الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة ، حتى هذا يحرث ، وذاك يطحن ، وذلك يخبز ، وذلك ينسج والآخر يخيط . وبالجملة ، فيكون كل واحد منهم مشغولاً بمهم ، وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع . فثبت أن الْإِنْسَاْن مدني بالطبع . وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات ، ويفصل تلك الحكومات . وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل .
فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس ، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس ، إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه ، عظم ضرره على الخلق ، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه ، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ، ووقوع الهرج ، والمرج في الخلق . وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك .
أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية ، انتظمت مصالح العالم ، واتسعت أبوب الخيرات على أحسن الوجوه . فهذا هو المراد من قوله : { فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق ، فكن أنت ذلك . ثم قال : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } الآية ، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب . فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ 27 ] .
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } أي : خلقاً باطلاً ، لا حكمة فيه ، أو مبطلين عابثين ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } [ الدخان : 38 - 39 ] . وهو أن تقوم الناس بالقسط في المعتقدات ، والعبادات ، والمعاملات : { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ولذا أنكروا البعث ، والجزاء على الأعمال ، وأخذوا يصدون عن سبيل الله ، ويبغون في الأرض الفساد .
قال الزمخشري : ومن جحد الخالق فقد جحد الحكمة من أصلها ، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق ، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره ، فكان إقراره بكونه خالقاً ، كلا إقرار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ 28 ] .
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ } قال المهايمي : أي : أنترك البعث بالكلية ، أم نبعث ونجعل الذين آمنوا فشكروا نعمة العقل والكتاب , وعملوا الصالحات فشكروا نعمة الأعضاء ، كالمفسدين ، بصرف العقل , والأعضاء إلى غير [ في المطبوع : الغير ] ما خلقت له ؟ : { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ } أي : مخالفة أمر الله ، رعاية لمحبته : { كَالْفُجَّارِ } أي : الذين يخالفون أوامر الله ، ولا يبالون بعداوته ؛ أي : لا نفعل ذلك ، ولا يستوون عند الله .
قال ابن كثير : وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ، ويعاقب فيها هذا الفاجر ، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، على أنه لا بدّ من معاد وجزاء ، فإذا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ، ويموت كذلك ، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده ، فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل ، الذي لا يظلم مثقال ذرة ، من إنصاف هذا من هذا ، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار ، فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة ، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة ، قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ 29 ] .
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } أي : كثير الخير : { لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } قال المهايمي : أي : لينظروا في ألفاظه وترتيبها ولوازمها ، فيستخرجوا منها علوماً بطريق الاستدلال . وقال الزمخشري : تدبر الآيات : التفكر فيها ، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة ، والمعاني الحسنة ، لأن من اقتنع بظاهر المتلو لم يَحْلَ منه بكثير طائل . وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ، ومرة نثور لا يستولدها . وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : والله ! لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً ، وقد - [ و ] الله ! - أسقطه كله ، ما يُرى للقرآن عليه أثر في خُلُق ولا عمل ، والله ! ما هو بحفظ حروفه ، وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ، ولا الوزعة ، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء . اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين ، وأعذنا من القراء المتكبرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ 30 ] .
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : كثير الرجوع [ في المطبوع : الوجوع ] إلى الله تعالى ، بالتوبة والإنابة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } [ 31 ] .
{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ } أي : من الخيل ، جمع : صافن ، وهو الذي يقوم على طرف سنبك يد ، أو رجل { الْجِيَادُ } جمع جواد ، وهو الذي يسرع في جريه ، أو بمعنى الحسان جمع جيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ 32 ] .
{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } أي : آثرته عليه ، عدل عنه للمناسبة اللفظية وقصد التجنيس ، وفائدة التضمين إشارة إلى عروضه ، و : { ذِكْرِ رَبِّي } إما مضاف لفاعله أو لمفعوله .
قال الزمخشري : والخير المال كقوله : { إِنْ تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] ، وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، والمال : الخيل التي شغلته ، أو سمي الخيل خيراً كأنها نفس الخير ، لتعلق الخير بها . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة > ، وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم : < ما وصف لي رجل فرأيته ، إلا كان دون ما بلغني ، إلا زيد الخيل > وسماه زيد الخير ، وسأل رجل بلالاً رضي الله عنه عن قوم يستبقون ، من السابق ؟ فقال : رسول الله صلّى الله عليه وسلم . فقال له الرجل : أردت الخيل . فقال : وأنا أردت الخير { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } أي : غربت الشمس ، متعلق بقوله تعالى : { أحْبَبْتُ } وفيه استعارة تصريحية ، أو مكنية لتشبيه الشمس بامرأة حسناء ، أو ملك . وباء : { بالْحِجَابِ } للظرفية ، أو الاستعانة ، أو الملابسة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } [ 33 ] .
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ } يعني الصافنات ، وهذا من مقول القول ، فلا حاجة إلى تقدير قول آخر
{ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } أي : فجعل يمسح مسحاً ، أي : يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها ، يعني يقطعها .
تنبيه :
قال ابن كثير : ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أن سليمان عليه السلام اشتغل بعرض الخيل حتى فات وقت صلاة العصر ، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمداً بل نسياناً ، كما شغل النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر ، حتى صلاها بعد الغروب ، وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه ، ويحتمل أنه كان سائغاً في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو ، والقتال . والخيلُ تراد للقتال ، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حتى لا يمكن [ في المطبوع : تمكن ] صلاة ، ولا ركوع ، ولا سجود ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول ، والأوزاعي ، وغيرهما ، والأول أقرب ؛ لأنه قال بعد : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قال الحسن البصري : قال : لا ، والله ! لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك ، ثم أمر بها فعقرت . وكذلك قال قتادة .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبّاً لها ، وهذا القول اختاره ابن جرير . قال : لأنه لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ، ويهلك مالاً من ماله بلا سبب ، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها ، وهذا الذي رجح ابن جرير ، فيه نظر ؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ، ولاسيما إذا كان غضباً لله تعالى ، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى ، عوضه الله عز وجل ما هو خير منها ، وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، غدوّها شهر ، ورواحها شهر ، فهذا أسرع وخير من الخيل .
روى الإمام أحمد عن أبي [ في المطبوع : ابن ] قتادة ، وأبي الدهماء ، وكانا يكثران السفر نحو البيت ، قالا : أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي ، أخذ بيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل ، وقال : < إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله تعالى ، إلا أعطاك الله عز وجل خيراً منه > . [ في المطبوع : لا تدع سبباً ] . انتهى ما ذكره ابن كثير .
وقال القاشاني : أي : طفق يمسح السيف بسوقها ، يعرقب بعضها ، وينحر بعضها ، كسراً لأصنام النفس التي تعبدها بهواها ، وقمعاً لسورتها وقواها ، ورفعاً للحجاب الحائل بينه وبين الحق ، واستغفاراً وإنابة إليه بالتجريد والترك .
وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه ، قال : إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم . كما أنه كذلك في دين الإسلام ، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو ، فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها ، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله ، وطلب تقوية دينه . وهو المراد من قوله : { عَن ذِكْرِ رَبِّي } ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي : غابت عن بصره . ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه . فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ، والغرض من ذلك المسح أمور :
الأول - تشريفاً لها وإبانة لعزتها ، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو .
والثاني - أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه . الثالث - أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها . فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها ، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض .
وقال : فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقاً مطابقاً موافقاً . ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات .
قال : وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة ، مع أن العقل والنقل يردها ، وليس لهم في إثباتها شبهة ، فضلاً عن حجة ، فإن قيل : إن الجمهور فسروا الآية بذلك الوجه ، فما قولك فيه ؟ فنقول : لنا ههنا مقامان :
المقام الأول - أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها . وقد ظهر ، والحمد لله ، أن الأمر كما ذكرناه ، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه .
المقام الثاني - أن يقال : هب أن لفظ الآية لا يدل عليه ، إلا أنه كلام ذكره الناس . فما قولك فيه ؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية ، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم ؟ والله أعلم . انتهى كلام الرازي .
وسبقه ابن حزم حيث قال : تأويل الآية على أنه قتل الخيل ؛ إذ اشتغل بها عن الصلاة . خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة ، قد جمعت أفانين من القول ؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها ، والتمثيل بها ، وإتلاف مال منتفع به بلا معنى ، ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها ، وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير . من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس ، أو تلك الصافنات بحجابها ، ثم أمر بردها . فطفق مسحاً بسوقها ، وأعناقها بيده ، براً بها ، وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلاً إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة ، وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين . فكيف ، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ؟ انتهى كلام ابن حزم .
وأقول : الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم ؛ لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه ، إلا أن له الهيمنة عليه ، فما وقف فيه على حدّ من أنباء ما بين يديه ، يوقف عنده ولا يتجاوز ، وحينئذ ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها . لكن مع الهيمنة عليها ؛ إذ لا تقبل على علّاتها . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ 34 ] .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : ابتليناه : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } أي : جسماً مجسداً كناية عن صنم - على ما رووه - وإنما أوثر الجسد عليه - إجلالاً لسليمان عليه السلام ، وإشارة إلى أن قصته - إن صحت - كانت أمراً عرض وزال ، بدليل قوله تعالى : { ثُمَّ أَنَابَ } أي : إلى ربه بالتوبة والاستغفار ، كما بينه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [ 35 ] .
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي } أي : غيري ؛ لفخامته وعظمته ، هبة فضل ، وإيثار امتنان : { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ } [ 36 ] .
{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ } أي : فذللناها لطاعته إجابة لدعوته : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء } أي : لينة سهلة ، مع شدة وقوة ، لذا وصفت في الآية الأخرى بـ : { عَاصِفَةً } { حَيْثُ أَصَابَ } أي : أراد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } [ 37 ] .
{ وَالشَّيَاطِينَ } عطف على الريح : { كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } أي : في فعر البحر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } [ 38 ] .
{ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } أي : مسلسلين في الأغلال لا يبعثهم إلى عمل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 39 ] .
{ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ } أي : على من شئت من المقربين وغيرهم : { أَوْ أَمْسِكْ } أي امنع : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : غير محاسب على المنّ والإمساك ، فيكون حالاً من المستكين ، أو هو حال من العطاء ، أو صلة له ، وما بينهما اعتراض . والمعنى : إنه عطاء جمٌّ لا يكاد يمكن حصره ، فقد يعبر عن الكثير بـ : لا يعدّ ، ولا يحسب ، ونحوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } [ 40 ] .
{ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى } أي : لقربى في الدرجات ، و : { وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : مرجع في الآخرة .
تنبيه :
روى الأثريّون هنا قصصاً مطولة ومختصرة ، مؤتلفة ومختلفة . قال ابن كثير : وكلها متلقاة من أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ، ولهذا كان في سياقها منكرات ، وتقوية ابن حجر لبعض منها بأنه خرجه النسائي بإسناد قوي لا عبرة له ، فليس المقام قاصراً على صحة السند فحسب [ و ] لو كان ذلك في الصحيحين ، فأنى بمروي غيرهما ؟
وذكر الرازي أن القصص المروية هنا هي لأهل الحشو من تأويلهم ، وأما أهل التحقيق فلهم تأويلات ، وقد ساقها فانظرها .
وقال الإمام ابن حزم : معنى قوله تعالى : { فَتَنَا سُلَيْمانَ } أي : آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته ، كما قال تعالى مصدقاً لموسى عليه السلام في قوله : { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } إذ من الفتنة ما يهدي الله بها من يشاء ، وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال ، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان ، إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط ، وما عدا هذا خرافات ولّدها زنادقة اليهود وأشباههم .
وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد . نؤمن بهذا كما هو ، ونقول : صدق الله عز وجل ، كل من عند الله ربنا . ولو جاء نص صحيح في القرآن ، أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتفسير هذا الجسد ما هو ، لقلنا به ، فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح ، فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك ، فيكون كاذباً على الله عز وجل ، إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال إنه كان جنياً تصور بصورته ، بل نقطع على أنه كذب ، والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلّى الله عليه وسلم هذا الهتك ، وكذلك نبعد في قول من قال إنه كان ولداً له ، أرسله إلى السحاب ليربيه . فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام . وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة ، لم يصح إسنادها قط . انتهى .
وزعم القاشاني أن حكاية الجني والخاتم مع سليمان ، هي من موضوعات حكماء اليهود ، كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات أبسال وسلامان .
ثم أخذ القاشاني في تأويلها ، إلا أنه حل الإشكال بإشكال أعظم منه ، عفا الله عنه ، وقال قبلُ : إن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع ، كان قد ابتلي بمثل ما ابتلي به ذو النون ، وآدم عليهما السلام . انتهى ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ 41 ] .
{ وَاذْكُرْ } أي : في باب الابتلاء ، وحسن عاقبة الصبر عليه : { عَبْدَنَا } أي : الكامل في التحقيق بالعبودية : { أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } أي : دعاه وابتهل إليه قائلاً : { أَنِّي مَسَّنِيَ } أي : أصابني : { الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ } أي : مشقة ، بضم النون ، وفتحها مع سكون الصاد ، وبفتحهما وضمهما : { وَعَذَابٍ } أي : ألم شديد . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ 42 ] .
{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } حكاية لما أجيب به دعاؤه عليه السلام . أي : فاستجبنا له ، وقلنا : اركض برجلك . أي : اعدُ بها وامش ، فقد برأت وشفيت من مرضك ، وقوي جسمك ، وصح بدنك : { هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } أي : ماء تغتسل به ، وتشرب منه . والإشارة إلى عين ، أو نهر ، أو نحوهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ 43 ] .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم : { وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا } أي ترحماً منا عليه بهذا الإضعاف ، والمباركة : { وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } أي : وتذكيراً لهم لينتظروا الفرج بالصبر والنوال بصدق الاتكال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ 44 ] .
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } أي : حزمة صغيرة : { فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً } أي : في كل ما ابتليناه به : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : كثير الرجوع إلى الله تعالى ، بالإنابة والابتهال والعبادة .
تنبيهات :
الأول - كان أيوب عليه السلام نبياً غنياً من أرباب العقار والماشية ، وكان أميراً في قومه ، وكانت أملاكه ، ومنزله في الجنوب الشرقي من البحر الميت ، بين بلاد أدوم وصحراء العربية ، وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة ، كثيرة المياه المتسلسلة ، وكان زمنه بعد زمن إبراهيم ، وقبل زمن موسى عليهم السلام . هذا ما حققه بعض الباحثين . والله أعلم .
الثاني - يذكر كثير من المفسرين ههنا مرويات وقصصاً إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام . ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله ، وهو ما أشار له التنزيل الكريم ؛ لأنه المتيقن ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه ، وماله ، وأهله ، وأنه صبر على ذلك صبراً صار يضرب به المثل لثباته ، وسعة صدره ، وشجاعته ، وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة .
الثالث - قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ نسب المسَّ إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ، ليقضي من إتعابهم ، وتعذيبهم ، وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟
قلت : لما كانت وسوسته إليه ، وطاعته له فيما وسوس ، سبباً فيما مسه الله به من النصب ، والعذاب - نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دمغه ، ورده بالصبر الجميل . انتهى . الرابع - دل قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } الآية ، على تقدم يمين منه عليه السلام ، وقد رووا هنا آثاراً في المحلوف عليه ، لم يصح منها شيء ، فالله أعلم به ، ولا ضرورة لبيانه ؛ إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه ، صلوات الله عليه . وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث ، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج ، ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية ، إيقافاً للقارئ عليه :
قال السيوطي في " الإكليل " : أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلد . فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثاً فيضربها به . فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة . قال سعيد بن جبير : وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب . ثم أخرج أيضاً عن عطاء قال : هي للناس عامة . وعن مجاهد قال : كانت لأيوب خاصة . قال الكيا الهراسي : ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر ، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه ، وخالف مالك ، ورآه خاصاً بأيوب .
قال : وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته ، وأن يحلف ولا يستثني .
انتهى .
واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال ؛ إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء ، ولم يحتج إلى الضرب بالضغث ، واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى . فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح ، أن رجلا قال له : إني أردت أن لا أكسي امرأتي ذراعاً حتى تقف بعرفة . فقال : احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة . فقال : إنما عنيت يوم عرفة . فقال عطاء : وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة ، ما نوى أن يضربها بالضغث ، إنما أمره الله أن يأخذ ضغثاً فيضربها به . قال عطاء : إنما القرآن عِبَرٌ . انتهى كلام " الإكليل " .
وقد رد الإمام ابن القيم في كتابه " إغاثة اللهفان " الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة ، وعبارته : وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول : إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه ، هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد . وقال الشافعي : إن علم أنها مسته كلها ، برّ في يمينه ، وإن علم أنها لم تمسه ، لم يبرّ ، وإن شك لم يحنث ، ولو كان هذا موجباً لبرّ الحالف ، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب ، بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين ، ويضربه بها ضربة واحدة ، وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد ، في المريض عليه الحد ، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد . واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل ، عن سعيد بن سعد بن عُبَاْدَة قال : كان بين أبنائنا إنسان مخدجٍ ضعيف ، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمةِ من إماء الدار يخبث بها ، وكان مسلماً ، فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم . فقال : < اضربوه حدّه > قالوا يا رسول الله ! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلنه . فقال : < فخذوا له عثكالاَ فيه مائة شمراخ ، فاضربوه ضربة واحدة ، وخلوا سبيله > .
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق ؛ فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته ، وخلاصة من دائه ، تلتمس له الدواء بما عليه ، فلما لقيها الشيطان ، وقال ما قال ، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك ، فقال : إنه الشيطان . ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ، ولم يكن في شرعهم كفارة . فإنه لو كان في شرعهم كفارة ، لعدل إلى التفكير ، ولم يحتج إلى ضربها ، فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود .
وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذوراً خفف عنه ، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة . وامرأة أيوب كانت معذورة ، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان ، وإنما قصدت الإحسان . فلم تكن تستحق العقوبة ، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور ، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه , والرفق بامرأته المحسنة المعذورة ، التي لا تستحق العقوبة . فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام ، لنص السنة ، في شأن الضعيف الذي زنى . فلا يتعدى بهما عن محلهما .
فإن قيل : فقولوا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته ، أو أمته مائة ، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما ، إنه يبر بجمع ذلك في ضربهما بمائة شمراخ . قيل : قد جعل الله له مخرجاً بالكفارة ، ويجب عليه أن يكفر يمينه ، ويقضي الله بالبر في يمينه ها هنا ، ولا يحل له أن يبر فيها ، بل بره هو حنثه مع الكفارة ، ولا يحل له أن يضربها ، لا مفرقاً ، ولا مجموعاً .
فإن قيل : فإذا كان الضرب واجباً كالحد ، هل تقولون ينفعه ذلك ؟ قيل : إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر ، والبرد الشديد ، والمرض اليسير ، فهذا ينتظر زواله . ثم يحد الحد الواجب . كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه ، أن أمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها . فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم . فقال : < أحسنت اتركها حتى تَمَاثل > . انتهى كلام ابن القيم . ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...