روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 3. و4. تفسير القاسمي

 

3. مجلد 3. و4. تفسير القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [ 8 ]
.
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } من مقال الراسخين ، أي : لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذا أقمتها عليه ، ولا تجعلها كالذين في قلوبهم زيغ . الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم : { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } تثبت بها قلوبنا : { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } كثير النعم والإفضال ، جزيل العطايا والنوال . وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى . وعن عائشة رضي الله عنها : قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو : < يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك > قلت : يا رسول الله ! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ! فقال : < ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه > . وهو في الصحيح والسنن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ 9 ]
.
{ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } وهذا من تتمة كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ، فإنها منقضية منقرضة . وإنما الغرض الأعظم منه : ما يتعلق بالآخرة فإنها القصد والمآل . فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبداً ، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبداً . فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ؛ ما يتعلق بالآخرة - أفاده الرازي - ثم قال : احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق . قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] . والوعد والموعد والميعاد واحد . وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد . فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد . والجواب : لا نسلّم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد . أما قوله تعالى : { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } ، قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك ، كما في قوله : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عِمْرَان : 21 ] وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . وأيضاً لِمَ لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع .
وذكر الواحدي في " البسيط " طريقة أخرى فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشعر :
~إذا وعد السرّاءَ أَنجز وعده وإن أوعد الضراءَ فالعفو مانعه
وروى المناظرة التي دارت بين أبي عَمْرو بن العلاء ، وبين عَمْرو بن عبيد . قال أبو عَمْرو بن العلاء لعمرو بن عبيد : ما تقول في أصحاب الكبائر ؟ قال : أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً ، فهو منجز إيعاده ما هو منجز وعده ، فقال أبو عَمْرو بن العلاء : إنك رجل أعجم ، لا أقول أعجم اللسان ، ولكن أعجم القلب . إن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤماً . وعن الإيعاد كرماً ، وأنشد :
~وإني وإن أوعدته أو وعدته لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أني المعتزلة حكوا أن أبا عَمْرو بن العلاء لما قال هذا الكلام ، قال له عَمْرو بن عبيد : يا أبا عَمْرو ؟ فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال عمرو ابن عبيد فقد سقطت حجتك . قالوا : فانقطع عَمْرو بن العلاء .
وعندي أنه كان لأبي عَمْرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم . فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك . وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق . فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه ، فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط . وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى . فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } [ 10 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ } التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار : { وَلاَ أَوْلاَدُهُم } الذي بهم يتناصرون في الأمور المهمة : { مِّنَ اللّهِ } أي : من عذابه تعالى : { شَيْئاً } من الإغناء ، أي : لن تدفع عنهم شيئاً من عذابه . يقال : ما أغنى فلان شيئاً ، أي : لم ينفع في مهم ، ولم يكف مؤنة . ورجل مغن ، أي : مجزئ كاف - قاله الأزهري . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] ، { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } بفتح الواو أي : حطبها ، وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها ، وأكثر اللغويين على أن الضم للمصدر ، أي : التوقد ، والفتح للحطب . وقال الزجاج : المصدر مضموم ، ويجوز فيه الفتح ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 11 ]
.
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } خبر مبتدأ محذوف ، أي : دأب هؤلاء في الكفر كدأب آل فرعون . والدأب بالسكون ، ويحرك مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه ، فوضع موضع ما عليه الْإِنْسَاْن من شأنه وحاله ، مجازاً ، يقال : هذا دأبك أي : شأنك وعملك . قال الأزهري : عن الزجاج في هذه الآية : أي : كأمر آل فرعون ، كذا قال أهل اللغة ، قال الأزهري : والقول عندي فيه - والله أعلم - أن دأبهم هنا اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، كتظاهر آل فرعون على موسى عليه الصلاة والسلام . يقال : دأبت أدأب دأباً ودؤوباً إذا اجتهدت في الشيء - انتهى - قال أبو البقاء : وفي ذلك تخويف لهم لعلمهم بما حل بآل فرعون : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة ، فالموصول في محل جر عطف على ما قبله : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريقة الاستئناف المبني على السؤال المقدر : { فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ } أي : عاقبهم وأهلكهم بسببها { وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : الأخذ بالذنب . فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 12 ]
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } بهذا الدين وهم اليهود " للزاوية الآتية " أو نصارى نجران ، لأن السورة نزلت لإحقاق الحق معهم ، أو أعم : { سَتُغْلَبُونَ } أي : في الدنيا : { وَتُحْشَرُونَ } أي : يوم القيامة : { إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } الفراش ، أي : فكفركم ككفر آل فرعون بموسى ، وقد فعل بقريش لكفرهم ما رأيتم ، فسيفعل بكم ما فعل بهم ، وهو أنكم تغلبون كما غلبوا . وقد صدق الله وعده بقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم ، وهو من أوضح شواهد النبوة . وقد روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : < يا معشر يهود ! أسلموا قبل يصيبكم الله بما أصاب قريشاً > فقالوا : يا محمد ! لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله : { قُل لِّلَّذِينَ } إلى قوله : { لِأُولِي الْأَبْصَارِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } [ 13 ]
.
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ } أيها الكافرون المتقدم ذكرهم : { آيَةٌ } عبرة ودلالة على أنكم ستغلبون ، وعلى أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومعلٍ أمره : { فِي فِئَتَيْنِ } أي : فرقتين : { الْتَقَتَا } يوم بدر للقتال : { الْتَقَتَا } يوم بدر للقتال : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : طاعته ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، معهم فرسان وست أذرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة : { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش ، وكانوا قريباً من ألف : { يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ } أي : يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين ، أراهم الله إياهم ، مع قلتهم ، أضعافهم ليهابوهم ، ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مدداً لهم من الله تعالى ، كما أمدهم بالملائكة . فإن قلت : فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ، قلت : قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . ونظيره في المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 39 ] ، وقوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ، وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم ، أبلغ في القدرة وإظهار الآية - كذا في " الكشاف " - قلت : أو يجاب بأنهم كثروا أولاً في أعينهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصافُّ والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أَعْيَن هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر ليقضي الله أمراً كان مفعولاً : { رَأْيَ الْعَيْنِ } يعني : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها ، معاينة كسائر المعاينات كذا في " الكشاف " : { وَاللّهُ يُؤَيِّدُ } أي : يقوي : { بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : التكثير والتقليل ، وغلبة القليل ، مع عدم العدة ، على التكثير الشاكي السلاح : { لَعِبْرَةً } أي : لاعتباراً وآية وموعظة : { لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } لذوي العقول والبصائر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [ 14 ]
.
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ } كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها ، وتزهيد الناس فيها ، وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى ، إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذي كانوا يتعززون بها . والمراد بالناس : الجنس - قاله أبو السعود : { حُبُّ الشَّهَوَاتِ } أي : المشتهيات ، وعبر عنها بذلك مبالغة في كونها مشتهاة مرغوباً فيها ، أو تخسيساً لها ، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية { مِنَ النِّسَاء } في تقديمهن إشعار بعراقتهن في معنى الشهوة ؛ إذ يحصل منهن أتم اللذات : { وَالْبَنِينَ } للتكثر بهم ، وأمل قيامهم مقامهم من بعدهم ، والتفاخر والزينة : { وَالْقَنَاطِيرِ } أي : الأول الكثيرة ، وقوله : { الْمُقَنطَرَةِ } مأخوذة منها للتوكيد كقولهم ألف مؤلفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبلة ، ودراهم مدرهمة : { مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } قال الرازي : وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء ، وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب لا جرم كانا محبوبين : { وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ } أي : المرسلة إلى المرعى ترعى حيث شاءت ، أو التي عليها السيمياء - أي : العلامة - قال أبو مسلم : المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل ، وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة : { وَالأَنْعَامِ } جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم لتحصيل الأموال النامية : { وَالْحَرْثِ } أي : الأرض المتخذة للغراس والزراعة : { ذَلِكَ } أي : المذكور : { مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يتمتع به فيها ثم يفنى : { وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } أي : المرجع وهو الجنة ، فينبغي الرغبة فيه دون غيره . وفي إشعاره ذم من يستعظم تلك الشهوات ويتهالك عليها ، ويرجح طلبها على طلب ما عند الله ، وتزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .
تنبيه :
في تزيين هذه الأمور المذكورات للناس إشارة لما تضمنته من الفتنة :
فأما النساء ، ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : < ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء > .
وأما البنون ، ففي مسند أبي يعلى عن أبي سعيد مرفوعاً : الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة . أي : يجبن أبوه عن الجهاد خوف ضيعته ، ويمتنع أبوه من الإنفاق في الطاعة خوف فقره ، ويحزن أبوه لمرضه خوف موته ، وقد قال تعالى : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } [ التغابن : 14 ] ، وقيل لبعض النساك : ما بالك لا تبتغي ما كتب الله لك ؟ قال : سمعاً لأمر الله ، ولا مرحباً بمن عاش فتنني ، وإن مات أحزنني . يريد قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التغابن : 15 ] .
وأما القناطير المقنطرة : ففيها الآية قبل وقوله تعالى : { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6 - 7 ] وقال تعالى : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [ الإسراء : 83 ] ، فما يورث البطر مثل الغنى . وبه تستجمع أسباب السؤدد والرئاسة والمجد والتفاخر .
وأما الخيل فقد تكون على صاحبها وزراً : إذا ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام ، كما في الصحيح وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً : الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان . فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء الله . وأما فرس الشيطان : فالذي يقامر أو يراهن عليه . وأما فرس الْإِنْسَاْن فالفرس يرتبطها الْإِنْسَاْن يلتمس بطنها فهي تستر من فقر .
وأما الفتنة بالأنعام والحرث ففي معنى ما تقدم . والله أعلم .
ولما ذكر تعالى ما عنده من حسن المآب إجمالاً ، أشار إلى تفصيله مبالغة في الترغيب فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ 15 ]
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ } أي : الشهوات المزينة لكم : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } الله ولم ينهمكوا في شهواتهم : { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، و : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } خبر المبتدأ الذي هو : { جَنَّاتٌ } و : { تَجْرِي } صفة لها ، و : { عِندَ } إما متعلق بما تعلق به الجار من معنى الاستقرار ، وإما صفة للجنات في الأصل ، قدّم فانتصب على الحال . والعندية مفيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي : من الأرجاس والأدناس البدنية والطبيعية مما لا يخلو عنه نساء الدنيا غالباً : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ } التنوين للتفخيم أي : رضوان لا يقدر قدره . وهذه اللذة الروحانية تتمة ما حصل لهم من اللذات الجسمانية وأكبرها ، كما قال تعالى في آية براءة : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، أي : أعظم ما أعطاهم من النعيم المقيم . روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً > { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا . ثم وصف سبحانه الذين اتقوا ففازوا بتلك الكرامات بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ 16 ]
{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } قال الحاكم : في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته وما تقرب به إلى الله ، ثم يدعو . ويؤيده ما في الصحيحين من حديث أصحاب الغار ، وتوسل كل منهم بصالح عمله ، ثم تفريج الباري تعالى عنهم ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ 17 ]
.
{ الصَّابِرِينَ } أي : على البأساء والضراء وحين البأس : { وَالصَّادِقِينَ } في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم : { وَالْقَانِتِينَ } المطيعين لله الخاضعين له : { وَالْمُنفِقِينَ } أموالهم في سبيل الله تعالى من الأرحام ، والقرابات ، وسد الخلات ، ومواساة ذوي الحاجات : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } جمع سحر بفتحتين وفتح وسكون وهو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر آخر الليل . وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت . قال الحرالي : وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال تعالى : { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18 ] .
وقال الرازي : واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء ، لأن الْإِنْسَاْن لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك . فقوله : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل - انتهى -
وقد روى ابن أبي حاتم أن عبد الله بن عُمَر كان يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ! هل جاء السحر ؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح . وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة . وروى ابن جرير عن حاطب قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك ، وهذا السحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا هو ابن مسعود . وثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ينزل ربنا ، تبارك وتعالى ، كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر . يقول : من يدعوني فاستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ > وفي رواية لمسلم : < ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم > . وفي رواية : < حتى ينفجر الفجر > .
قال الحافظ ابن كثير : وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءاً على حدة ، فرواه من طرق متعددة . ويروى أن بعض الصالحين قال لابنه : يا بني ! لا يكن الديك أحسن منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم ، والحكمة في تخصيص الأسحار كونه وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية ، والألطاف السبحانية ، وعند ذلك تكون العبادة أشق ، والنية خالصة ، والرغبة وافرة ، مع قربه ، تعالى وتقدس ، من عباده . قال السيوطي : في الآية فضيلة الاستغفار في السحر ، وأن هذا الوقت أفضل الأوقات . وقال الرازي : واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان ، وفي كمال العبودية .
الأول : أن وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل ، وبسبب طلوع نور الصبح كان الأموات يصيرون أحياء ، فهناك وقت الجود العام ، والفيض التام ، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير ، يطلع صبح العالم الصغير ، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب .
والثاني : أن وقت السحر أطيب أوقات النوّام ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية ، كانت الطاعة أكمل .
والثالث : نقل عن ابن عباس : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } يريد المصلين صلاة الصبح ، انتهى .
وهذا الثالث : أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم ، وعليه ، فإنما سميت الصلاة استغفاراً لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة .
لطيفة :
قال الزمخشري : الواو المتوسطة بين الصفات ، للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 18 ]
.
{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } أي : علم ، وأخبر ، أو قال أو بين أنه لا معبود حقيقي سوى ذاته العلية . وشهد بذلك : { وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } بالإقرار ، وهذه مرتبة جليلة للعلماء ، لقرنهم في التوحيد بالملائكة المشرفين ، بعطفهم على اسم الله عز وجل : { قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل في أحكامه : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } كرره تأكيداً ، وليبني عليه قوله : { الْعَزِيزُ } فلا يرام جنابه عظمة : { الْحَكِيمُ } فلا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة - كذا في " جامع البيان " - .
وقال في " الانتصاف " : هذا التكرار لما قدمته في نظيره مما صدر الكلام به إذا طال عهده ، وذلك أن الكلام مصدر بالتوحيد ، ثم أعقب التوحيد تعداد الشاهدين به ، ثم قوله : { قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ } وهو التنزيه . فطال الكلام بذلك ، فجدد التوحيد تلو التنزيه ، ليلي قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } . ولولا هذا التجديد لكان التوحيد المتقدم ، كالمنقطع في الفهم مما أريد إيصاله به . والله أعلم .
لطيفة :
قال الرازي : فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله ، فكيف يكون المدعي شاهداً ؟
الجواب : من وجوه :
الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله ، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة . ثم بعد نصب تلك الدلائل ، هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة الوحدانية . ثم بعد حصول العلم بالوحدانية ، فهو تعالى وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى معرفة التوحيد . وإذا كان الأمر كذلك ، كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ، ولهذا قال : { قُلْ أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } [ الأنعام : 19 ] . ثم ساق بقية الوجوه فانظره .
وقال العارف الشعراني ، قدس سره ، في كتاب " الجواهر والدرر " : سألت أخي أفضل الدين : لم شهد الحق تعالى لنفسه بأنه لا إله إلا هو ؟ فقال رضي الله عنه : لينبه عباده على غناه عن توحيدهم له ، وأنه هو الموحد نفسه بنفسه . فقلت له : فلم عطف الملائكة على نفسه دون غيرهم ؟ فقال : لأن علمهم بالتوحيد لم يكن حاصلاً من النظر في الأدلة كالبشر ، وإنما كان علمهم بذلك حاصلاً من التجلي الإلهي ، وذلك أقوى العلوم وأصدقها ، فلذلك قدموا في الذكر على أولي العلم . وأيضاً فإن الملائكة واسطة بين الحق وبين رسله ، فناسب ذكرهم في الوسط . فاعلم ذلك ، انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 19 ]
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ، أي : لا دين مرضياً لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة - قاله أبو السعود - وفي الأخرى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 85 ] { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ } مطلقاً أو اليهود ، في دين الإسلام : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } أي : إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذي لا محيد عنه . ولم يكن اختلافهم لشبهة عندهم ، بل : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : حسداً كائناً بينهم ، وطلباً للرئاسة . وهذا تشنيع عليهم إثر تشنيع : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ } المنزلة : { فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } قائم مقام جواب الشرط ، علة له . أي : فإنه تعالى يجازيه ويعاقبه على كفره عن قريب . فإنه سريع الحساب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ 20 ]
.
{ فَإنْ حَآجُّوكَ } في الدين وجادلوك فيه بعد إقامة تلك الآيات : { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ } أي : انقدت لآياته المنزلة ، وأخلصت نفسي وعبادتي له ، لا أشرك فيها غيره . قال أبو السعود : وإنما عبر عن النفس بالوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ، ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود والقراءة ، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء : { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } عطف على الضمير المتصل .
لطيفة :
هل قوله تعالى : { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ } ، إعراض على المحاجة أو هو محاجة وإظهار للدليل ؟ فمن قائل بالأول ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات الجمّة بالقرآن وغيره . فبعد هذا قال : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ } الخ . يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم مهتدين . وإن أعرضتم ، فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم . وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام . فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له ، مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد .
فهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه . ومن قائل بالثاني ، أعني : أنه محاجة . وفي كيفية الاستدلال منها ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقاً في قوله ، صادقاً في دينه . فأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] ، ثم إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 79 ] ، فقول محمد صلى الله عليه وسلم : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ } كقول إبراهيم عليه السلام : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } أي : أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة ، وأخلصت له . فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة . فكان هذا من باب التمسك بالالتزامات ، وداخلاً تحت قوله : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] - نقله الرازي - : { وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ } أي : الذين لا كتاب لهم ، كمشركي العرب : { أَأَسْلَمْتُمْ } لهذه الآيات كما أسلمت ، أم أنتم بعد على الكفر . قال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم ، أم أنتم بعد على كفركم ؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته : هل فهمتها ؟ ومنه قوله عز وعلا : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان . وكذلك في : " هل فهمتها " توبيخ بالبلادة وكلّة القريحة . وفي : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه . انتهى { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ } أي : خرجوا من الضلال فنفعوا أنفسهم : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } عن هداك وهديك : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ } أي : تبليغ آيات الله ، لا الإكراه إذا عاندوك ، إذ ليس عليك هداهم : { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } وعد ووعيد .
قال ابن كثير : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث . فمن ذلك قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] . وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بني آدم ، من عربهم وعجمهم ، كتابيّهم وأمّيهم ، امتثالاً لأمر الله له بذلك . وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن هَمَّام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أهل النار > . رواه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلم : < بعثت إلى الأحمر والأسود > . وقال : < كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة > . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 21 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهم اليهود . قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام ، وقتلوا حزقيال عليه السلام ، قتله قاضٍ يهودي لما نهاه عن منكر فعله ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم عليهما السلام . ولما كان المخاطبون راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ حَقٍّ } إشارة إلى أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق ، في اعتقادهم أيضاً ، فهو أبلغ في التشنيع عليهم : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ 22 ]
.
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات في الدارين . أما الدنيا فإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن والخزي ، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة ، والاسترقاق لهم ، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم . وأما حبوطها في الآخرة ، فإبدال الثواب بالعذاب الأليم { وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } ينصرونهم من عذاب الله . وقد دلت الآية على عظم حال من يأمر بالمعروف ، وعظم ذنب قاتله ، لأنه قرن ذلك بالكفر بالله تعالى ، وقتل الأنبياء .
قال الحاكم : وتدل على صحة ما قيل : إنه يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه . وأن ذلك يكون أولى لما فيه من إعزاز الدين . ففي الحديث : < أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ } [ 23 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } التوراة . والمراد بهم أحبار اليهود : { يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ } وهو القرآن : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب ، إذ قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله : { وَهُم مُّعْرِضُونَ } حال من فريق ، أي : معرضون عن قبول حكمه . أو اعتراض ، أي : وهم قوم ديدنهم الإعراض عن الحق ، والإصرار على الباطل . ومن المفسرين من حمل قوله : { يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ } على التوراة ، وأن الآية إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان ، فحكم عليهما بالرجم ، فأبوا وقالوا : لا نجد في كتابنا إلا التحميم ، فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم ، فرجما ، فغضبوا ، فشنع عليهم بهذه الآية . والله أعلم .
قال بعض المفسرين : وللآية ثمرتان :
الأولى : أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة . وقد قال العلماء رضي الله عنهم : يستحب أن يقول سمعاً وطاعة ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ النور : 51 ] .
الثمرة الثانية : أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان ، لأنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ، ونزلت الآية مقررة له . انتهى . أي : على القول بذلك ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 24 ]
.
{ ذَلِكَ } إشارة إلى التولي والإعراض : { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي : بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من قولهم ذلك ، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون . ثم رد قولهم المذكور ، وأبطل ما غرهم باستعظام ما أعد لهم ، وتهويله ، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 25 ]
.
{ فَكَيْفَ } يصنعون ، وكيف تكون حالتهم : { إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ } أي : في يوم : { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك ، وهو يوم القيامة : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي : جزاء ما عملت من خير أو شر : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } الضمير لكل نفس على المعنى ، لأنه في معنى كل إنسان . أي : لا يظلمون بزيادة عذاب ، أو بنقص ثواب ، ثم علم تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 26 ]
.
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : مالك جنس الملك على الإطلاق ملكاً حقيقياً بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء : إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابة ، من غير مشارك ولا ممانع : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء } بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك ، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة ، وكون مالكية غيره بطريق المجاز ، كما ينبئ عنه إيثار الإيتاء الذي هو مجرد الإعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة - أفاده أبو السعود - . وفي التعبير بـ " من " العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله ، وأخص الناس بالبعد منه العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب ، كما وقع منه ما وقع ، وينتهي منه ما بقي ، إلى من نال الملك بسببها ، وعن الاستناد إليها ، من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم ، وصنوف أهل الأقطار ، حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض بظهور ملك يوم الدين - كذا في البقاعي - : { وَتَنزِع الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 27 ]
.
{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : تدخل أحدهما في الآخر ، إما بالتعقيب أو بالزيادة والنقص : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } كالحيوان من النطف والنطف منه ، والبيض من الطير وعكسه . وقيل : إخراج المؤمن من الكافر وبالعكس . قال القفال : والكلمة محتملة للكل ، أما الكفر والإيمان فقال تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] . يريد : كان كافراً فهديناه ، فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء ، وجعلها قبل ذلك ميتة ، فقال : { يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الروم : 50 ] وقال : { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ فاطر : 9 ] . وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : رزقاً واسعاً غير محدود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } [ 28 ]
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء } جمع ولي ، ومعانيه كثيرة ، منه المحب والصديق والنصير . قال الزمخشري : نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام ، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر . وقد كرر ذلك في القرآن : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } [ المائدة : 51 ] : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ المجادلة : 22 ] الآية ، والمحبة في الله ، والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان . وقوله تعالى : { مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ } حال . أي : متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً ، وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة ، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } أي : ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية ، يعني : أنه منسلخ من ولاية الله رأساً . وهذا أمر معقول ، فإن موالالة الولي وموالاة عدوه متنافيان ، قال :
~تود عدوّي ثم تزعم أنني صديقك . ليس النوك عنك بعازب
أفاده الزمخشري { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } أي : تخافوا منهم محذوراً . فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه ، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم . وأصل : تقاة وقية ، ثم أبدلت الواو تاء ، كتخمة وتهمة ، وقلبت الياء ألفاً . وفي المحكم : تقاة : يجوز أن يكون مصدراً وأن يكون جمعاً ، والمصدر أجود ، لأن في القراءة الأخرى : تقية .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الكريمة تحريم موالاة الكفار ، لأن الله تعالى نهى عنها بقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } ، ثم استثنى تعالى التقية فرخص في موالاتهم لأجلها ، فتجوز معاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة لهم والبغضاء وانتظار زوال المانع . وقد قال الحاكم : في الآية دلالة على جواز إظهار تعظيم الظلمة اتقاء لشرهم . قال : وإنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب ، وقال الصادق : التقية واجبة ، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر عنه بالسارية لئلا يراني . وعن الحسن : تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان .
واعلم أن الموالاة ، التي هي المباطنة والمشاورة وإفضاء الأسرار للكفار ، لا تجوز . فإن قيل : قد جوز كثير من العلماء نكاح الكافرة ، وفي ذلك من الخلطة والمباطنة بالمرأة ما ليس بخاف ، فجواب ذلك : أن المراد موالاتهم في أمر الدين ، وفيما فيه تعظيم لهم . فإن قيل . في سبب نزول الآية أنه صلى الله عليه وسلم منع عُبَاْدَة بن الصامت عن الاستعانة باليهود على قريش ! وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش ، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم . وقد ذكر الراضي بالله أنه يجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين . قال : وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش وغيرها ، إلى أن نقضوه يوم الأحزاب . وحدَّ صلى الله عليه وسلم الحلف بينه وبين خزاعة . قال الراضي بالله : وهو ظاهر عن آبائنا عليهم السلام ، وقد استعان علي عليه السلام بقتلة عثمان . ولعل الجواب - والله اعلم - أن الاستعانة جائزة مع الحاجة إليها . ويحمل على هذا استعانة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود . وممنوعة مع عدم الحاجة ، أو خشية مضرة منهم . وعليه يحمل حديث عُبَاْدَة بن الصامت . فصارت الموالاة المحظورة تكون بالمعاداة بالقلب للمؤمنين ، والمودة للكفار على كفرهم ، ولا لبس في تحريم ذلك ، ولا يدخله استثناء والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمصادقة بإظهار الأسرار ونحو ذلك ، فلا لبس في تحريم ذلك ولا يدخله استثناء ، والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمشاورة فيما لا يضر المسلمين ، فظاهر كلام الزمخشري أنه لا يجوز إلا للتقية . فحصل من هذا أن الموالي للكافر والفاسق عاصٍ ، ولكن أين تبلغ معصيته ؟ يحتاج إلى تفصيل : إن كانت الموالاة بمعنى الموادة ، وهي أن يوده لمعصيته كان ذلك كالرضا بالمعصية . وإن كانت الموالاة كفراً ، كفر . وإن كانت فسقاً ، فسق . وإن كانت لا توجب كفراً ولا فسقاً ، لم يكفر ولم يفسق ، وإن كانت المولاة بمعنى المحالفة والمناصرة ، فإن كانت محالفة على أمر مباح أو واجب ، كأن يدفع المؤمنون عن أهل الذمة من يتعرض لهم ، ويخالفونهم على ذلك ، فهذا لا حرج فيه ، بل هو واجب . وإن كانت على أمر محظور كأن يحالفوهم على أخذ أموال المسلمين والتحكم عليهم ، فهذه معصية بلا إشكال ، وكذلك إذا كانت بمعنى أنه يظهر سر المسلمين ويحبّ سلامة الكافرين لا لكفرهم ، بل ليدٍ لهم عليه أو لقرابة أو نحو ذلك ، فهذا معصية بلا إشكال . لكن لا تبلغ حدها الكفر ، لأنه لم يُروَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بكفر حاطب بن أبي بلتعة .
وقال الراضي بالله : إن مناصرة الكفار على المسلمين توجب الكفر ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس : < ظاهرك علينا > . وقد اعتذر بأنه خرج مكرهاً . وأما مجرد الإحسان إلى الكافر فجائز لا ليستعين به على المسلمين ، ولا لإيناسه . وكذلك أن يضيق لضيقه في قضية معينة لأمر مباح فجائز ، كما كان من ضيق المسلمين من غلب فارس الروم ، فصار تحقيق المذهب أن الذي يوجب الكفر من الموالاة أن يحصل من الموالي الرضا بالكفر . والذي يوجب الفسق أن يحصل الرضا بالفسق . إن قيل : فما حكم من يجند مع الظلمة ليستعينوا به على الجبايات وأنواع الظلم ؟ قلنا : عاص بلا إشكال ، وفاسق بلا إشكال ، لأنه صار من جملتهم . وفسقهم معلوم . فإن قيل : فإن تجند معهم لحرب إمام المسلمين ؟ قلنا : صار باغياً ، وحصل فسقه من جهة البغي والظلم . فإن قيل : حكي عن المهدي علي بن محمد عليه السلام أنه كفّر من تجند مع سلطان اليمن وقضى بردته, قلنا : هذا يحتاج إلى بيان وجه التكفير بدليل قطعي . وإن ساغ أن نقول ذلك اصطلاح لأمر الإمام كما رد الهادي عليه السلام شهادة من امتنع من بيعة الإمام كان ذلك محتملاً - انتهى كلامه رحمه الله .
ومن هذه الآية استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف . وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه : " إيثار الحق على الخلق " فقال ما نصه :
وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران :
أحدهما : خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام . وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق . وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما : فبثثته في الناس ، وأما الآخر : فلو بثثته لقطع هذا البلعوم . وما زال الأمر في ذلك يتفاحش . وقد صرح الغزالي بذلك في خطبة " المقصد الأسنى " ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح " الرحمن الرحيم " فأثبت حكمة الله ورحمته ، وجود الكلام في ذلك ، وظن أنهم لا يفهمون المخالفة ، لأن شرح هذين الاسمين ليس هو موضع هذه المسألة ، ولذلك طوى ذلك ، وأضرب عنه في موضعه ، وهو اسم الضار كما يعرف ذلك أذكياء النظار .
وأشار إلى التقية الجويني في مقدمات " البرهان " في مسألة قدم القرآن . والرازي في كتابه المسمى بـ " الأربعين في أصول الدين " إلى آخر ما ساقه المرتضي فانظره .
{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } أي : ذاته المقدسة ، فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه ، وموالاة أعدائه . وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي في القبح ، وذكر النفس ، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى ، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة : { وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } أي : المنقلب والمرجع ليجازي كل عامل بعمله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 29 ]
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } هذا توعد . وأراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم وإظهارها . أو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم . أو الكفر . وفي هذه الآية تنبيه منه تعالى لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه ، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معاجلتهم بالعقوبة ، وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال بعد هذا :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } [ 30 ]
.
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } بصور تناسبه ، أو في صحف الملائكة ، أو المعنى : جزاء ما عملت : { وَ } تجد : { مَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } أي : عملها السوء : { أَمَداً بَعِيداً } أي : غاية بعيدة لا يصل أحدهما إلى الآخر ، وتود في موضع الحال . والتقدير : وتجد ما عملت من سوء محضراً ، وادّة ذلك { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } كرره ليكون على بالٍ منهم لا يغفلون عنه كذا في " الكشاف " .
وقال أبو السعود : تكرير لما سبق وإعادة له ، لكن لا للتأكيد فقط ، بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل : { وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ، ورحمته الواسعة ، أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه ، وأن تحذيره ليس مبنياً على تناسي صفة الرأفة ، بل هو متحقق مع تحققها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 31 ]
.
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه تلك ، حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [ 32 ]
.
{ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الطاعة : { فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 33 ]
.
{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى } أي : اختار بالنبوة : { آدَمَ } فخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة ، ثم أهبطه منها عما له في ذلك من الحكمة : { وَ } واصطفى : { نُوحاً } فجعله أول رسول إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، ونجى من اتبعه في السفينة وأغرق من عصاه : { وَ } اصطفى : { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أي : عشيرته وذوي قرباه ، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم . وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية . وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة ، وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] ، الآية . ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : < أنا دعوة أبي إبراهيم > { وَ } اصطفى : { آلَ عِمْرَانَ } إذ جعل فيهم عيسى عليه الصلاة والسلام الذي أوتي البينات ، وأيد برح القدس ، والمراد بعمران هذا : والد مريم أم عيسى عليهما السلام : { عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : عالمي زمانهم . أي : اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه . قال السيوطي في " الإكليل " : يستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 34 ]
.
{ ذُرِّيَّةً } أي : نسلاً . نصب على البدلية من الآلين ، أو على الحالية منهما .
لطيفة :
الذرية مثلثة ، ولم تسمع إلا غير مهموزة . اسم لنسل الثقلين . وقد تطلق على الآباء والأصول أيضاً . قال الله تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] .
قال الصاغاني : وفي اشتقاقها وجهان : أحدهما : أنها من الذرء ووزنها فعولة أو فعيلة . والثاني : أنها من الذر بمعنى التفريق ، لأن الله ذرهم في الأرض . ووزنها فعيلة أو فعولة أيضاً . وأصلها : ذرورة ، فقلبت الراء الثالثة ياء كما في : تقضت العقاب . كذا في القاموس وشرحه .
{ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } في محل النصب على أنه صفة لذرية . أي : اصطفى الآلين ، حال كونهم ذرية متسلسلة البعض من البعض في وراثة الاصطفاء { وَاللّهُ سَمِيعٌ } لأقوال العباد : { عَلِيمٌ } بضمائرهم وأفعالهم . وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً . ونظيره قوله تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] . وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 35 ]
.
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ } في حيز النصب على المفعولية ، بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عِمْرَان ، وبيان كيفيته . أي : اذكر لهم وقت قولها ، . . . الخ . وامرأة عِمْرَان هذه هي أم مريم عليها السلام .
فائدة :
قال العلامة النوري في " غيث النفع " : { امْرَأَةُ عِمْرَانَ } رسمت بالتاء ، وكل ما في كتاب الله جل ذكره من لفظ امرأة فبالهاء . سبعة مواضع ، هذا الأول ، والثاني والثالث بيوسف " امرأت العزيز تراود " " امرأت العزيز الآن " والرابع بالقصص " امرأت فرعون " والخامس والسادس والسابع بالتحريم " امرأت نوح " " وامرأت لوط " " وامرأت فرعون " فلو وقف عليها ، فالمكي والنحويان يقفون بالهاء ، والباقون بالتاء . انتهى .
{ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } أي : مخلصاً للعبادة عن الشعبي . أو خادماً يخدم في متعبداتك ، حرره جعله نذيراً في خدمة المعبد ما عاش ، لا يسعه تركه في دينه عن الزجاج . وفي الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها ، وأن للأم الانتفاع بالولد الصغير لمنافع نفسها ، لذلك جعلته للغير . والمعنى : نذرته وقفاً على طاعتك ، لا أشغله بشيء من أموري . قال أبو منصور في " التأويلات " : جعلت ما في بطنها لله خالصاً ، لم تطلب منه الاستئناس به ، ولا ما يطمع الناس من أولادهم ، وذلك من الصفوة التي ذكر عز وجل ، وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولداً أن يطلب للوحه الذي طلبت امرأة عِمْرَان وزكريا حيث قال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عِمْرَان : 38 ] . وما سأل إبراهيم : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 100 ] ، وكقوله : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان : 74 ] ، هكذا الواجب أن يطلب الولد ، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم . انتهى { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصاً ، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [ 36 ]
.
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير لما في بطني ، وإنما أنث على المعنى ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى } أي : وكنت رجوت أن يكون ذكراً ، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرئ في السبع بسكون التاء وضمها ، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى ، إما لدفع ما يتراءى من أن قولها : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى } قصدت بها إعلام الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها ، فأزيلت الشبهة بقوله : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } هذا ما يتراءى لي . وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها ، وتفخيم لشأنه ، وتجهيل لها بقدره ، أي : والله أعلم بالنفس التي وضعتها ، وما علق بها من عظائم الأمور ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، وهي غافلة عن ذلك . وعلى القراءة الثانية أعني : ضم التاء ، فالاعتراض من كلامها ، إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته ، أو لما ذكروه من قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته ، أو تسلية نفسها على معنى : لعل لله تعالى فيه سراً وحكمة ، ولعل هذا الأنثى خير من الذكر : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى } جملة معترضة أيضاً ، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى ، ولذا جبلت النفوس على الرغبة فيه دونها لا سيما في هذا المقام ، أعني : مقام قصد إخلاص النذير للعبادة . فإن الذكر يفضلها من وجوه : منها : أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان .
ومنها : أن الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى ، فإنها ضعيفة ، لا تقوى على الخدمة . ومنها : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ، وليس كذلك الأنثى . ومنها : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يحلق الأنثى . فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام . واللام في الذكر والأنثى على هذا الملحظ ، للجنس - كذا ظهر لي - وعلى قولهم : اللام للعهد فيهما ، أي : ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالاً ، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار ، كالأنثى التي وهبت لها . فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور . هذا ، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها ، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية ، وصلاحية خدمة المتعبدات ، فإنهن بمعزل عن ذلك ، فاللام للجنس .
لطيفة :
قيل : قياس كونه من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر . والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهة بالكامل ، لا العكس . قال الناصر في " الانتصاف " : وقد وجد الأمر في ذلك مختلفاً ، فلم يثبت عين ما قيل . ألا ترى إلى قوله تعالى : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } [ الأحزاب : 32 ] ، فنفى عن الكامل شبه الناقص ، مع أن الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء ، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عِمْرَان ، والله أعلم . ومنه أيضاً : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] . انتهى .
{ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } قال المفسرون : هي في لغتهم بمعني العابدة ، سمتها بذلك رجاءً وتفاؤلاً أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها . لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معناه : مرارة أو مر البحر ، فلينظر . قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه لا يتعين يوم السابع ، لأنه إنما قالت هذا بأثر الوضع ، كما فيها مشروعية التسمية للأم ، وأنها لا تختص بالأب . ثم طلبت عصمتها فقالت : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } أي : أجيرها بحفظك : { وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أي : المطرود لمخالفتك ، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطاناً يكون سبباً لطردهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 37 ]
.
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي : قبلها أو تكفل بها . ولم يقل بتقبل ، للجمع بين الأمرين : التقبل الذي هو الترقي في القبول ، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة ، قال المهايمي : بقبول حسن يجعلها فوق كثير من الأولياء { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } بجعل ذريتها من كبار الأنبياء - انتهى - وقال الزمخشري : نباتها مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها ، أي : كالصلاح والسداد والعفة والطاعة : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي : ضمها إليه ، وقرئ بالتشديد . ونصب زكريا ممدوداً أو مقصوراً ، والفاعل الله . أي : جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها ، وقائماً بتدبير أمروها . وقد روي أن أمها أخذتها وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها إذ كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وأحب كل أن يحظى بتربيتها ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فأبوا إلى القرعة ، وانطلقوا إلى نهر فألقوا فيها أقلامهم ، على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها ، فطفا قلم زكريا ، ورسبت أقلامهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى : { إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عِمْرَان : 44 ] . فأخذها زكريا ورباها في حجر خالتها ، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء ، انزوت في محرابها تتعبد فيه ، وصارت بحيث : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
في الآية مسائل :
الأولى : في معنى المحراب : في القاموس وشرحه ما نصه : والمحراب : الغرفة والموضع العالي ، نقله الهروي في غريبه عن الأصمعي ، قال وضاح اليمن :
~ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلماً .
وقال أبو عبيدة : المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها . قال : وكذلك هو من المساجد ، وعن الأصمعي : العرب تسمي القصر محراباً لشرفه . وقال الأزهري : المحراب عند العامة الذي يفهمه الناس مقام الإمام من المسجد . قال ابن الأنباري : سمي محراب المسجد لانفراد الإمام فيه ، وبعده من القوم . ومنه يقال : فلان حرب لفلان ، إذا كان بينهما بُعدٌ وتباغض . وفي المصباح : ويقال هو مأخوذ من المحاربة ؛ لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه ، ثم قال : ومحاريب بني إسرائيل هي مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها . انتهى .
الثانية : في الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى ، كما وجد ، عند خُبَيْب بن عدي الأنصاري رضي الله عنه المستشهد بمكة ، قطف عنب ، كما في البخاري . وفي الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة ، ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعراني في " اليواقيت " عن العارف أبي الحسن الشاذلي قدس سره أنه قال : إن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بداياتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلهاً ليقينها ، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً . فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه ، فقيل لها : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّا } ، انتهى .
الثالثة : قوله تعالى : { إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ } الخ تعليل لكونه من عند الله . إما من تمام كلامها فيكون في محل نصب ، وإما من كلامه عز وجل فهو مستأنف ، ومعنى : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير تقدير لكثرته . وإما بغير استحقاق تفضلاً منه تعالى .
الرابعة : زكريا المنوه به هنا هو والد يحيى عليهما السلام ، ومعنى زكريا : تذكار الرب كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } [ 38 ]
.
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } كلام مستأنف ، وقصة مستقلة ، سيقت في تضاعيف حكاية مريم ، لما بينهما من قوة الارتباط ، وشدة الاشتباك ، مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بيان اصطفاء آل عِمْرَان . فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين ، و : { هُنَا } ظرف مكان ، أي : في ذلك المكان ، حيث هو عند مريم في المحراب ، أو ظرف زمان أي : في ذلك الوقت ، إذ يستعار هنا وثمت وحيث للزمان ، دعا زكريا ربه لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى ، رغب في أن يكون له من زوجته ولد مثل ولد أختها في النجابة والكرامة على الله تعالى . وإن كانت عاقراً عجوزاً كذا في أبي السعود والذرية هنا الولد . قال الزمخشري : تقع على الواحد والجمع ، وقد سبق الكلام عليها قريباً عند قوله تعالى : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } [ آل عِمْرَان : من الآية 34 ] قوله : { طَيِّبَةً } بمعنى : مطيعة لك ، لأن ذلك طلبة أهل الخصوص كما سبق إيضاحه في آية : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ } الخ . وقوله تعالى : { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي : مجيبه ، وقد أجابه الحق تعالى ، فأرسل إليه الملائكة مبشرة كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ 39 ]
.
{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ } أي : على ألسنتنا : { بِيَحْيَى } وقد قرئ في السبع بكسر : { إنَّ } وفتحها ، ولفظ يحيى معرب عن يوحنا اسمه في العبرانية . ومعنى يوحنا : نعمة الرب ، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ } أي : بنبي خلق بكلمة كن من غير أب . يرسله الله إلى عباده فيصدقه هو . وذلك عيسى عليه السلام : { وَسَيِّداً } أي : يسود قومه ويفوقهم : { وَحَصُوراً } أي : لا يقرب النساء حصراً لنفسه ، أي : منعاً لها عن الشهوات عفة وزهداً واجتهاداً في الطاعة : { وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } أي : ناشئاً منهم ؛ لأنه من أصلابهم . أو كائناً من جملتهم ، كقوله : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ البقرة : 130 ] . ولما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [ 40 ]
.
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ } أي : كيف ، أو من أين : { يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ } أي : أدركني الكبر الكامل المانع من الولادة فأضعفني : { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } أي : ذات عقر ، فهو على النسب ، وهو في المعنى مفعول أي : معقورة ، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث : { قَالَ كَذَلِكَ } يكون لك الولد على الحال التي أنت وزوجتك عليها ؛ لأن الله تعالى لا يحتاج إلى سبب ، بل : { اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر . وفي إعراب : { كَذَلِكَ } أوجه . منها : أنه أخبر لمحذوف أي : الأمر كذلك . وقوله تعالى : { اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } بيان له . ومنها أن الكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف . أي : الله يفعل ما يشاء فعلاً من ذلك الصنع العجيب الذي هو خلق الولد من شيخ فانٍ وعجوز عاقر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } [ 41 ]
.
{ قَالَ } زكريا : { رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً } أي : علامة أعرف بها حصول الحمل . وإنما سألها لكون العلوق أمراً خفياً لا يوقف عليه ، فأراد أن يعلمه الله به من أوله ليتلقى تلك النعمة بالشكر من أولها ، ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً : { قال } الله تعالى : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ } أي : أن لا تقدر على تكليمهم : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } أي : إشارة بيد أو رأس . وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكراً على ما أنعم به عليه . وقيل : كان ذلك عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه - حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين - : { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً } أي : ذكراً كثيراً : { وَسَبِّحْ } أي : وسبِّحه : { بِالْعَشِيِّ } وهو آخر النهار . ويقع العشي أيضاً على ما بين الزوال والغروب : { وَالإِبْكَارِ } وهو الغدوة ، أو من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس . قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية الحث على ذكر الله تعالى وهو من شعب الإيمان . قال محمد بن كعب : لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ؛ لأنه منعه من الكلام وأمره بالذكر - أخرجه ابن أبي حاتم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } [ 42 ]
.
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ } شروع في تتمة فضائل آل عِمْرَان . قال المهايمي : فيه إشارة إلى جواز تكليم الملائكة الولي ، ويفارق النبي في دعوى النبوة : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ } بالتقريب والمحبة : { وَطَهَّرَكِ } عن الرذائل ليدوم انجذابك إليه : { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } بالتفضيل وبما أظهره من قدرته العظيمة حيث خلق منك ولداً من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء . وفي " الإكليل " : استدل بهذه الآية من قال بنبوة مريم . كما استدل بها من فضّلها على بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه . وجوابه : أن المراد عالمي زمانها قاله السدي - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ 43 ]
.
{ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } أي : اعبديه شكراً على اصطفائه : { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : لتزدادي بكثرة السجود والصلاة قرباً . قال البقاعي : الظاهر أن المراد بالسجود هنا ظاهره ، وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ، ولتكن صلاتك مع المصلين ، أي : في جماعة ، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال . ثم قال : وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة ، فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم ولا من بعده من الأنبياء عليهم السلام ، ولا أتباعهم إلا في موضع واحد ، لا يحسن جعله فيه على ظاهره . ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء :
الأول : إطلاق لفظها من غير بيان كيفية .
والثاني : إطلاق لفظ السجود مجرداً .
والثالث : إطلاقه مقروناً بركوع أو حبو أو خرور على الوجه ، ونحو ذلك .
ثم ساق البقاعي ما وقع من النصوص في ذلك ، وقال بعد : فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها : أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك ، وحينئذ يسمى صلاة . وإلا كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم . وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد : خضع ، والخضوع : التطامن ، وأما المكان الذي ذكر فيه الركوع ، فالظاهر أن معناه : فعل الشعب كله ساجداً لله ، لأن الركوع يطلق في اللغة على معان ، منها الصلاة . يقال : ركع أي : صلى ، وركع إذا انحنى كثيراً ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره ، لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن تأويل مما ذكرته في الركوع - والله أعلم - واحتججت باللغة لأن مترجم نسخة التوراة ، التي وقعت لي ، في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل واقع ترجمته لها . على أن سألت عن صلاة اليهود الآن ، فأخبرت أنه ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغوي صرح في قوله تعالى : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ البقرة : 43 ] . بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا ابن عطية وغيرهما . انتهى كلام البقاعي .
لطيفة :
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية دليل على أن الجماعة مطلوبة في الصلاة ، وعلى أن المرأة تندب لها الجماعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ 44 ]
.
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما سبق : { مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ } أي : الأنباء المغيبة عنك : { نُوحِيهِ إِلَيكَ } مطابقاً لما في كتابهم . وتذكير الضمير في : { نُوحِيهِ } بجعل مرجعه ذلك : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } أي : وما كنت معايناً لفعلهم ، وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم ، أي : سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على جهة القرعة : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } بسببها تنافساً في كفالتها . وقد روي عن قتادة وغيره : أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم ، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها . فألقوا أقلامهم ، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا ، فإنه ثبت . ويقال إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء والله أعلم .
قال أبو مسلم : معنى يلقون أقلامهم ، مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] ، وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور . وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً . وقال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في استعمال القرعة عند التنازع . وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل حتى يتميز واحد بمزية ، ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملبس .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : لم نفيت المشاهدة ، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها ، وهو موهوم ؟ قلت : كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة ، وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة ، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة ، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة . ونحوه : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ } [ القصص : 44 ] ، { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ } [ القصص : 46 ] ، { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ } [ يوسف : 102 ] ، - انتهى - وبالجملة : فالنفي تقرير وتحقيق لكون تلك الأنباء وحياً على طريقة التهكم بمنكريه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [ 45 ]
.
{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ } شروع في قصة عيسى عليه السلام : { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } أي : بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب : { اسْمُهُ } ذكر الضمير الراجح إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر . أي : اسمه الذي يميزه لقباً : { الْمَسِيحُ } وعلماً : { عِيسَى } معرب يسوع بالسين المهملة ، كلمة يونانية معناها مخلِّص ويرادفها يشوع بالمعجمة ، إلا أنها عبرانية كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل ، وفيها أن المسيح بمعنى : الممسوح أو المدهون . قال البقاعي : وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم : من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والولايات الفاضلة مباركاً ، فدل سبحانه على أن عيسى عليه السلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح ، وإن لم يمسح . انتهى . وإنما قال : { ابْنُ مَرْيَمَ } مع كون الخطاب لها ، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب ، فلا ينسب إلا إلى أمه ، وبذلك فضلت على نساء العالمين : { وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : سيداً ومعظماً فيهما : { وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : من الله عز وجل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ 46 ]
.
{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } في محل النصب على الحال : { وَكَهْلاً } عطف عليه بمعنى ويكلم الناس ، حال كونه طفلا وكهلاً ، كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين ، وذلك لا شك أنه غاية في المعجز . وفي ذلك بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلاً . والمهد : الموضع الذي يهيأ للصبي ويوطأ لينام فيه . والكهل : من وخطه الشيب ، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو الخمسين . قال ابن الأعرابي : يقال للغلام مراهق ، ثم محتلم ، ثم يقال : تخرج وجهه ، ثم اتصلت لحيته ، ثم مجتمع ، ثم كهل ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . قال الأزهري : وقيل له كهل حينئذ : لانتهاء شبابه وكمال قوته . وقوله تعالى : { وَمِنَ الصَّالِحِينَ } قال ابن جرير : يعني من عدادهم وأوليائهم ؛ لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 47 ]
.
{ قَالَتْ } مخاطبة لله الذي بعث إليها الملائكة : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } أي : لست بذات زوج : { قَالَ كَذَلِكِ } أي : على الحالة التي أنت عليها من عدم مس البشر : { اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } ولا يحتاج إلى سبب ، ولا يعجزه شيء ، وصرح ههنا بقوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } ولم يقل : { يَفْعَلُ } كما في قصة زكريا ، لما أن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكون أنسب بهذا المقام ؛ لئلا يبقى لمبطل شبهة ، وأكد ذلك بقوله :
{ إِذَا قَضَى أَمْراً } من الأمور أي : أراد شيئاً كما في قوله تعالى : { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [ يس : 82 ] : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، من غير تأخر ولا حاجة إلى سبب كقوله : { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] . أي : إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر . وتقدم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } [ 48 ]
.
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ } أي : الكتابة أو جنس الكتب الإلهية : { وَالْحِكْمَةَ } أي : تهذيب الأخلاق : { وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة ، لزيادة فضلهما وإنافتهما على غيرهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 49 ]
.
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } منصوب بمضمر يقود إليه المعنى ، معطوف على يعلّمه أي : ويجعله رسولاً إلى جميع الإسرائيليين . وقيل : معطوف على الأحوال السابقة : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم } معمول لـ " رسولاً " لما فيه من معنى النطق . أي : رسولاً ناطقاً بأني قد جئتكم : { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } التنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً أي : متلبساً ومحتجاً بآية : { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ } الضمير للكاف ، أي : في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير : { فَيَكُونُ طَيْراً } حقيقياً ذا حياة : { بِإِذْنِ اللّهِ } أي : أمره ، لا باستقلال مني : { وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } الذي ولد أعمى : { والأَبْرَصَ } المبتلى بالبرص ، وهو بياض يظهر في البشرة لفساد مزاج . وفي " الإكليل " : هذه الآية أصل لما يقوله الأطباء : إن الأكمه الذي ولد أعمى ، والأبرص لا يمكن برؤهما ، كإحياء الموتى : { وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ } لا باستقلال مني . نفياً لتوهم الألوهية ، فهذه معجزات قاهرة فعلية : { وَأُنَبِّئُكُم } أي : أخبركم : { بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } مما لم أعاينه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي : دلالة : { لَّكُمْ } على صدقي في دعوى الرسالة : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } مصدقين بآيات الله . وقد ذكر في الإنجيل أنه عليه السلام رد بصر أعميين في كفر ناحوم ، وأعمى في بيت صيدا ، ورجل ولد أعمى في أورشليم ، وشفى عشرة مصابين بالبرص في السامرة ، وأبرأ أبرص في كفر ناحوم ، وأقام ابن الأرملة من الموت في بلدة نايين ، وأحيا ابنة جيروس في كفر ناحوم ، والعازر في بيت عينا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ } [ 50 ]
.
{ وَمُصَدِّقاً } حال معطوفة على قوله " بآية " أي : جئتكم بآية وصدقاً : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : مقرراً لهما ومثبتاً : { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } قال ابن كثير : فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين . ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئاً ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ ، وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [ الزخرف : 63 ] . والله أعلم . انتهى .
أقول : من البعض الذي أحله عيسى عليه السلام لهم : فعل الخير في السبوت ، وقد كانوا يعتقدون تحريم مطلق عمل يوم السبت ، ولذا لما اجتاز عليه السلام بالإسرائيليين مرة ، أبصر مريضاً فسألوه : هل يحل أن يشفي في السبت ؟ فقال لهم عليه السلام : أي : إنسان منكم يكون له خروف ، فيسقط في حفرة يوم السبت ولا يمسكه ويرفعه ؟ والْإِنْسَاْن كم يفضل الخروف ؟ فإذن يحل فعل الخير في السبوت ، ثم أبرأ ذلك المريض - كذا في الأصحاح الثاني عشر ، من الفقرة التاسعة إلى الثالثة عشرة من إنجيل متى - وفيه في الأصحاح الخامس الفقرة السابعة عشرة قول المسيح عله السلام : لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل - انتهى - .
وقد اتفقوا على أن المسيح عليه السلام أقام شرائع التوراة كلها ، ثم جاء بولس ومن بعده من الرهبان ، فادعوا أن المسيح عليه السلام فعل ذلك كله ورفعه عنهم ، إذ أكمله وأتمه بفعله إياه . وكفاهم مؤونة العمل بشيء منه ، وأغناهم بشريعته الروحانية ، فنقضوا االناموس الذي جاء لإكماله المسيح . فمما نقضوه إباحة كثير من الحيوانات المحرمة في الناموس الموسويّ ، فنسخت حرمتها في الشريعة العيسوية ، وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس ، إذ قال لهم : لا شيء نجس العين ، كما في رسالته إلى أهل رومية . ومما نقضوه تعظيم السبت ، فقد كان حكماً أبدياً في الشريعة الموسوية ، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل ، وكان من عمل فيه عملاً واجب القتل . ومنه أحكام الأعياد المشروعة في التوراة . ومنه حكم الختان الذي كان أبدياً في شريعة إبراهيم عليه السلام وأولاده إلى شريعة موسى ، وقد ختن عيسى عليه السلام ، فنسخ حكمه الرهبان بعده ، كما نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة ، إلا الزنى ، كما بين في " إظهار الحق " ، في الباب الثالث في إثبات النسخ ، وقد أسلفنا جملة جليلة في هذا الشأن في سورة البقرة عند قوله تعالى : { وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا } [ البقرة : 135 ] . فانظرها { وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } كرره تأكيداً ، وليبنى عليه قوله : { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ 51 ]
.
{ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا } أي : ما آمركم به : { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ 52 ]
.
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ } أي : من بني إسرائيل : { الْكُفْرَ } أي : علمه ووجده منهم : { قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ } جمع نُصَيْر . والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً ، أي : من أنصاري متوجهاً إلى الله ملتجئاً إليه : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } وهم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام فوازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه - جمع حواريّ - وهو الناصر أو المبالغ في النصرة ، والوزير والخليل والخالص كما في " التوشيح " : { نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ } أي : أنصار دينه ورسوله { آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لرسالتك . ولما أشهدوه عليه السلام أشهدوا الله تعالى الآمر بما أنزل من الإيمان به وبأوامره فقالوا :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ 53 ]
.
{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ } فأشهدناك على ما نحن عليه من تصديقنا دعواه : { فَاكْتُبْنَا } أي : جزاء على إشهادنا إياك : { مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع الذين يشهدون بوحدانيتك . وهم المتقدمون في آية : { شهد الله } أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم .
لطيفة :
جاء في إنجيل متى في الأصحاح العاشر ما يأتي :
1 - ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف .
2 - وأما أسماء الاثني عشر رسولاً فهي هذه : الأول : سمعان ، الذي يقال له بطرس واندراوس أخوه ، يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه .
3 - فيلُبُّس وبرثو لماوس ، توما ومتّى العشّار ، يعقوب بن حلفى ، ولبّاوس الملقب تدّاوس .
4 - سمعان القانوي ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه .
وكانوا يسمون رسل عيسى عليه السلام ، لأنه بعثهم إلى الإسرائيليين الضالين يدعونهم إلى الحق الذي جاء به ، فبذلوا الجهد في بثه وانتشاره وإقامته ، إلى أن جاء بولس فسلبهم بخداعه ، دين المسيح الصحيح ، فلم يسمعوا له بعد من خبر ، ولا وقفوا له على أثر ، وطمس لهم رسوم التوراة ، وحلل لهم كل محرم ، كما بين ذلك في غير هذا الموضع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ 54 ]
.
{ وَمَكَرُواْ } أي : الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر ، بأن هموا بالفتك به وإرادته بالسوء ، حيث تمالؤوا عليه ووشوا به إلى ملكهم : { وَمَكَرَ اللّهُ } أي : بهم بعد ذلك فانتقم منهم ، وأورثهم ذلة مستمرة وأباد ملكهم : { وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أي : أقواهم مكراً ، وأنفذهم كيداً ، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب . وقال البقاعي كغيره في قوله تعالى : { وَمَكَرَ اللّهُ } أي : بأن رفعه إليه ، وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه ، وإنما صلبوا أحدهم ، ويقال : إنه الذي دلّهم . وأما هو عليه السلام ، فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه ، لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضربت عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذي طلبوا به العز إلى آخر الدهر ، فكان تدميرهم في تدبيرهم . ثم أخبر تعالى ببشارته بالعصمة من مكرهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ 55 ]
.
{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أي : مستوفي مدة إقامتك بين قومك . والتوفي ، كما يطلق على الإماتة ، كذلك يطلق على استيفاء الشيء . كما في كتب اللغة . ولو ادعي أن التوفي حقيقة في الأول ، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول : لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة . وهذا الوجه ظاهر جداً ، وله نظائر في الكتاب العزيز ، قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] . قال الزمخشري : يريد : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي : يتوفاها حين تنام ، تشبيهاً للنائمين بالموتى ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } [ الأنعام : 60 ] حيث لا يميزون ولا يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك - انتهى كلامه - . ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : من مكرهم وخبث صحبتهم . وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سمواته ، كقوله تعالى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما } [ النساء : 158 ] وقوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] ، وقوله تعالى : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [ السجدة : 5 ] . وقوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } [ الملك : 16 ] . وهو مذهب السلف قاطبة ، كما نقله الإمام الذهبي في كتاب " العلو " .
قال أبو الوليد بن رشد في " مناهج الأدلة " : لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة الفوق حتى نفتها المعتزلة ، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله - إلى أن قال : والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء ، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين ، وأن من السموات نزلت الكتب ، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء ، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول . وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم - إلى أن قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل . وأن أبطاله إبطال الشرائع . قال الدارمي : وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سمواته . وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب " العلو " فانظره ، هذا ، ولما كان لذوي الهمم العوال ، أشد التفات إلى ما يكون عليهم خلفاؤهم من بعدهم من الأحوال ، بشره تعالى في ذلك بما بشره فقال : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وكذا كان لم يزل من انتحل النصرانية فوق اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا ، فلا يبقى منهم أحد : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ثم فسر الحكم الواقع بين الفريقين بقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ 56 ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ 57 ]
.
{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي : يبغضهم ، فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات ، جارية مجرى الحقيقة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [ 58 ]
.
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى عليه السلام وهو مبتدأ و خبره : { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أي : من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه . وقوله تعالى : { مِنَ الآيَاتِ } حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر : { وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } أي : المشتمل على الحكم ، أو المحكم المعصوم من تطرق الخلل إليه ، والمراد به : القرآن .
تنبيه :
في قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } . وجوه في التأويل كثيرة ، إلا أن الذي فتح المولى به مما أسلفناه هو أرجح التأويلات والله أعلم ، وبه يسقط زعم النصارى أن هذه الآية حجة علينا ، لإفادتها وفاته عليه السلام ، أي : بالصلب ، ثم رفعه إلى السماء ، أعني : قيامه حياً بعد وفاته على زعمهم من أنه مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم أنزل ودفن في أول ساعة من ليلة السبت ، وأقام في القبر إلى صبيحة الأحد ، ثم انبعث حياً ، وتراءى للنسوة اللائي جئن إلى قبره زائرات ، وقد استندوا في هذا الزعم إلى شهادة أناجيلهم الأربع ، وشهادة تلاميذه الشفاهية في العالم ، ثم أتباعهم ، وكذا شهادة اليهود بوقوع الصلب على المسيح ذاتياً . ووجه سقوط زعمهم الفاسد المذكور ما بيناه في معنى الآية مما لا يبقى معه أدنى ارتياب . وقد بين علماؤنا بطلان معتقدهم هذا في تآليف وتحارير فانظره في " حواشي تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب " تأليف الشيخ : عبد الله بك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 59 ]
.
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } أي : شأنه العجيب في إنشائه بالقدرة من غير أب : { عِندَ اللّهِ } أي : في تقديره وحكمه : { كَمَثَلِ آدَمَ } أي : كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } جملة مفسرة للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما . وحسم لمادة به الخصوم ، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب ممن اعترف بخلق آدم عليه السلام بغير أب وأم ، مما لا يكاد يصح - قاله أبو السعود - وقوله : { خَلَقَهُ } أي : صور جسد آدم من تراب ثم قال له : { كن } أي : بشراً كاملاً روحاً وجسداً ، فإن أمره تعالى يفيد قوة التكون . قال البقاعي : وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في : { فَيَكُونُ } دون الماضي ، وإن كان المتبادر إلى الذهن أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها ؛ إشارة إلى أنه كان الأمر من غير تخلف ، وتنبيهاً إلى أن هذا هو الشأن دائماً بتجدد مع كل مراد ، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً ، كما تقدم التصريح به في آية { إِذَا قَضَى أَمْراً } .
لطيفة :
قال الرازي : الحكماء قالوا : إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه :
الأول : ليكون متواضعاً .
الثاني : ليكون ستاراً .
الثالث : ليكون أشد التصاقاً بالأرض . وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض . قال تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الإجرام ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية .
الخامس : خلق الْإِنْسَاْن من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة والغضب . انتهى ملخصاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } [ 60 ]
.
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } خبر مبتدأ محذوف ، أي : الذي قصصنا عليك من نبأ عيسى الحق ، وقيل : الحق مبتدأ ، والظرف خبر ، أي : الحق المذكور . وقيل : الحق فاعل لمضمر ، أي : جاءك الحق . وفي الحق تأويلان :
الأول : قال أبو مسلم : المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلهاً ، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف النجار ، فالله تعالى بين أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه .
والقول الثاني : أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل ، وهو قصة آدم عليه السلام ، فإنه لا بيان أقوى منها . والله أعلم .
{ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } خطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التهييج لزيادة الثبات ، أو لكل سامع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [ 61 ]
.
{ فَمَنْ حَآجَّكَ } أي : جادلك من النصارى بإيراد حجة : { فِيهِ } أي : في شأن عيسى ، زعماً منهم أنه ليس على الشأن المتلو : { مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } أي : الذي أنزلناه إليك ، وقصصناه عليك في أمره . وللفاضل المهايمي في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال : { الْحَقُّ } أي : الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء : { مِن رَّبِّكَ } الذي رباك بالإطلاع على الحقائق : { فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله ، فإنه إطلاق مجازي ؛ لأنه لما حدث منه كان كأبيه . وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام : { فَمَنْ حَآجَّكَ } أي : جادلك : { فِيهِ } لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل : { مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } القطعي الموجب لتأويله { فَقُلْ } لم يبق بيننا وبينكم مناظرة ، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة : { تَعَالَوْاْ } أي : أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علو الحق وسفول الباطل : { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي يدع كل منا ومنكم نفسه ، وأعزة أهله ، وألصقهم بقلبه ، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ، ويحارب دونهم ، ويحملهم على المباهلة : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة : { فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ } أي : إبعاده وطرده : { عَلَى الْكَاذِبِينَ } منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين ، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية .
تنبيهات :
الأول - قال القاشاني : إن لمباهلة الأنبياء تأثيراً عظيماً ، سببه : اتصال نفوسهم بروح القدس ، وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه ، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشرية منه ، كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي بتأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الْإِنْسَاْنية منه بما أراد ، ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة ، وطلبت الموادعة بقبول الجزية ! .
الثاني : قال ابن كثير : وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره ، وكانوا ستين راكباً ، منهم ثلاثة نفر ، إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم واسمه : عبد المسيح ، والسيد ثِمَاُلُهم ، وصاحب رحلهم واسمه : الأيهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم ، إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى المباهلة ، فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد [ في المطبوع : نزيد ] أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم إن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعَنَ قوم نبياً قط ، فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ! قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا . فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم ، وأقرهم على خراج يؤدونه إليه .
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبي عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا ، وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والذي بعثني بالحق ، لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي ناراً > . قال جابر : وفيهم نزلت : { نَدْعُ أَبْنَاءنَا } الآية . قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب ، وأبناؤنا الحسن والحسين ، ونساؤنا : فاطمة ، وهكذا - رواه الحاكم في مستدركه بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . هكذا قال .
وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلاً ، وهذا أصح .
وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .
وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال : جاء العاقب والسيد ، صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبياً فلاعنّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلاً أميناً ، ولا تبعث معنا إلا أميناً . فقال : < لأبعثن معكم رجلاً أميناً ، حق أمين > . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هذا أمين هذه الأمة > . ورواه مسلم والنسائي أيضاً وغيرهم .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال أبو جهل قبحه الله - : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته ، قال : فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عياناً ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً .
قال ابن الكثير : وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي . وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في " زاد المعاد " وأعقبها بفصل مهم في فقهها ، فليراجع .
الثالث : قال الزمخشري : فإذا قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلى ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه . فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك . ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب . ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدَّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدّون بها . وفيه دليل ، لا شيء أقوى منه ، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .
الرابع : استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين ، وأن من جادل وأنكر شيئاً من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلى الله عليه وسلم . والمباهلة : الملاعنة .
قال الكازروني في تفسيره : وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار ، وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها : أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعاً ، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ، ومساس الضرورة إليها .
قال الإمام صديق خان في تفسيره : وقد دعا الحافظ ابن القيم ، رحمه الله ، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ، إلى المباهلة بين الركن والمقام ، فلم يجبه إلى [ في المطبوع : يحبه إلا ] ذلك ، وخاف سوء العاقبة . وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بـ " النونية " - انتهى - وقد ذكر في " زاد المعاد " في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه : ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا ، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة ، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ، ولم يقل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، ولم ينكر عليه الصحابة ، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، ولم ينكر عليه ذلك ، وهذا من تمام الحجة - انتهى - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 62 ]
.
{ إِنَّ هَذَا } أي : المتقدم من شأن عيسى عليه السلام : { لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } الذي لا معدل عنه ، دون أقاصيص النصارى . والقصص تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها ، في معنى قص الأثر ، وهو اتباعه ، حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - أفاده الحرالي - .
قال البقاعي : ولما بدأ سبحانه القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلاً على ذلك بأنه الحي القيوم صريحاً ، ختم ذلك إشارة وتلويحاً فقال ، عاطفاً على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى عبد الله ورسوله ، معمماً للحكم : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ } فصرح فيه بـ : { مِنْ } الاستغراقية ، تأكيداً للرد على النصارى في تثليثهم : { وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلا يشاركه أحد في العزة والحكمة ، ليشاركه في الألوهية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } [ 63 ]
.
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن قبول الحق الذي قص عليه بعدما عاينوا تلك الحجج النيرة : { فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } أي : بهم ، فيجازيهم على إفسادهم . والتعبير عنهم بذلك إشارة إلى أنهم بتوليهم ، مفسدون اعتقادهم واعتقاد غيرهم في الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ 64 ]
.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : إلى قول معتدل لا يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك ، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب ، وهي : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } أي : لا نرى غيره مستحقاً للعبادة فنشركه معه ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل . قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً } أي : كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون . كما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] . قال : < إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه > .
قال الكيا الهراسي : فيه رد على من قال بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، وعلى من قال : يجب قبول قول الإمام في التحليل والتحريم ولو دون إبانة مستند شرعي .
قال البقاعي : ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية ، نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد والاجتراء على ما يختص به الله فقال : { مِّن دُونِ اللّهِ } الذي اختص بالكمال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : عن هذه الكلمة السواء المتفق عليها : { فَقُولُواْ } أي : تبعاً لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال : أسلمت لرب العالمين . وامتثالاً لوصيته إذ قال : { وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنَّا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . كذا قال " الكشاف " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 65 ]
.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ } أي : تجادلون فيه فيدعيه كل من فريقكم : { وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ } أي : المقرر كل منهما لأصل دين منتحله منكم : { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدل المحال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ 66 ]
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء } أي : الأشخاص الحمقى : { حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ له ذكر في كتابكم ، فأمكنكم تغييره لفظاً ومعنى ، أو من أمر موسى وعيسى عليهما السلام ، أو مما نطق به التوراة والإنجيل : { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ } من أمر إبراهيم لكونه لم يذكر في كتابكم بما حاججتم ، فلا يمكنكم فيه التغيير : { وَاللّهُ يَعْلَمُ } فيبينه لنبيه : { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 67 ]
.
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً } أي : كما ادعى اليهود : { وَلاَ نَصْرَانِيّاً } كما ادعى النصارى : { وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً } سبق معنى الحنيف عند قوله تعالى : { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } في البقرة : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تعريض بأنهم مشركون بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ 68 ]
.
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } أي : أخصهم به وأقربهم منه ، من " الولي " وهو القرب : { لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } أي : في دينه من أمته وغيرهم : { وَهَذَا النَّبِيُّ } يعني خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } به فعملوا بشريعته الموافقة لشريعة إبراهيم : { وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والمعونة والمحبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 69 ]
.
{ وَدَّت } أي : تمنت : { طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } بالرجوع إلى دينهم حسداً وبغياً : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } أي : وما يتخطاهم الإضلال ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، إذ يضاعف به عذابهم : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : أن وزره خاص بهم . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] وقوله : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } [ النساء : 89 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [ 70 ]
.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم : { وَأَنتُمْ تَشْهَدُون } أي : تعلمون حقيقتها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 71 ]
.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } أي : تسترون الحق المنزل بتمويهاتكم الباطلة : { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي : الذي لا يقبل تمويهاً ولا تحريفاً : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : عالمين بما تكتمونه من حقّيته وقد كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته ، ويلبسون على الناس في ذلك ، كدأبهم في غيره . وفي الآية دلالة على قبح كتمان الحق ، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادة . وعلى قبح التلبيس . فيجب حل الشبهة وإبطالها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 72 ]
.
{ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ } أي : أوله : { وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } هذه الآية حكاية لنوع آخر من تلبيساتهم . وهي مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من المؤمنين أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلّوا مع المسلمين ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم . فيظن الضعفاء أنه لا غرض لهم إلا الحق ، وأنه ما ردهم عن الدين بعد اتباعهم له وترك العناد ، وهم أولو علم وأهل كتاب ، إلا ظهور بطلانه لهم ، ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن الإسلام كما رجعتم .
لطيفة :
قال الرازي : الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه :
الأول : أن هذه الحيلة كانت مخيفة فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً .
الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف .
الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 73 ]
.
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } من تتمة كلامهم ، أي : ولا تصدقوا إلا نبياً تابعاً لشريعتكم ، لا من جاء بغيرها ، أو ولا تؤمنوا ذلك الإيمان المتقدم ، وهو إيمانهم وجه النهار ، إلا لأجل حفظ أتباعكم وأشياعكم وبقائهم على دينكم : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ } أي : الذي هو الإسلام وقد جئتكم به ، وما عداه ضلال ، فلا ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف ولا تقدرون على إضلال أحد منا بعد أن هدانا الله . ثم وصل به تقريعهم فقال : { أَنْ } بمد الألف على الاستفهام ، في قراءة ابن كثير . وتقديرها في قراءة غيره ، أي : دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه الآن : { يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } من الشرائع والعلم والكتاب : { أَوْ } كراهة أن : { يُحَآجُّوكُمْ } أي : الذين أوتوا مثل ما أوتيتم : { عِندَ رَبِّكُمْ } أي : بالشهادة عليكم يوم القيامة أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ } أي : بإنزال الآيات وغيرها : { بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فلا يمكنكم منعه : { وَاللّهُ وَاسِعٌ } كثير العطاء : { عَلِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 74 ]
.
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } فيزيده فضلاً عليكم : { وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 75 ]
.
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } بالمطالبة والترافع وإقامة البينة ، فلا يبعد منه الخيانة مع الله بكتمان ما أمره بإظهاره طمعاً في إبقاء الرئاسة والرشا عليه . ثم استأنف علة الخيانة بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أي : ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب عقاب ومؤاخذة فهم يخونون الخلق : { وَيَقُولُونَ } أي : في الاعتذار عنه : { عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } بادعائهم ذلك وغيره ، فيخونونه أيضاً : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنه كذب محض وافتراء لتحريم الغدر عليهم . كما هو في التوراة . وقد مضى نقله في البقرة في آية : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } [ البقرة : 62 ] . فارجع إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ 76 ]
.
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } اعلم أن بلى إما لإثبات ما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أي : بلى عليهم سبيل ، فالوقف حينئذ على بلى وقف التمام ، وقوله : { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ } جملة مقررة للجملة التي سدت بلى مسدها . وإما لابتداء جملة بلا ملاحظة كونها جواباً للنفي السابق ، فإن كلمة بلى قد تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعدها - كما نقله الرازي - وهذا هو الذي أرتضيه . وإن اقتصر " الكشاف " ومقلدوه على الأول . وقد ذكروا في نعم أنها تأتي لتوكيد إذا وقعت صدراً . نحو : نعم هذه أطلالهم ، فلتكن بلى كذلك ، فإنهما أخوان ، وإن تخالفا في صور ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على بلى . والضمير في : { بِعَهْدِهِ } إما لاسم الله في قوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } على معنى : إن كل من أوفى بعهد الله واتقاه في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه . وإما لـ : { مَنْ أَوْفَى } على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقاه فإنه يحبه .
قال الزمخشري : فإن قلت فهذا عام ، يخيل أنه ولو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 77 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } أي : يستبدلون : { بِعَهْدِ اللّهِ } أي : بما أخذهم عليه في كتابه ، أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم : { وَأَيْمَانِهِمْ } أي : التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل : { ثَمَناً قَلِيلاً } من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه : { أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ } أي : لا نصيب ثواب : { لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي : ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه ، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بالنار . واعلم أن في هذه الآية مسائل :
الأولى : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن من نقض عهداً لله لغرض دنيوي ، أو حلف كاذباً ، فإنه قد ارتكب كبيرة .
الثانية : في الجمع بين قوله تعالى هنا : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ } . وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] . قال القفال : المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه فإنما ذلك بسخطٍ عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك . وقد يأمر بحجبه عنه ، ويقول : لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب ، نعوذ بالله منه . ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه . ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة . ومنهم من قال : معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والكل حسن .
الثالثة : روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان > . قال عبد الله : ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية . وفي رواية قال : < من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان > فأنزل الله تصديق ذلك : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } الآية . فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ قلنا : كذا وكذا ، فقال : صدق ، فيّ نزلت ، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < شاهداك أو يمينه > . قلت : إنه إذاً يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان > ونزلت : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية .
وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا : إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي .
وروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق ، فحلف بالله : لقد أعطى بها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية . وقدمنا في مقدمة التفسير ، في بحث سبب النزول ، وفي سورة البقرة أيضاً عند آية : { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] ، ما يعلم به الجمع بين مثل هذه الروايات ، وأنه لا تنافي . فتذكّر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 78 ]
.
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال الإمام ابن كثير : يخبر تعالى عن اليهود ، عليهم لعائن الله ، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ، ولهذا قال تعالى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس : يلوون ألسنتهم بالكتاب ، ويحرفونه . وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون . وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل ، ولكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله .
وقال وهب بن منبه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله . فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول . رواه ابن أبي حاتم . قال ابن كثير : فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص . وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ، ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش . وهو من باب تفسير المعرب المعبر ، وفهم كثير منهم فاسد . وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده ، فتلك كما قال ، محفوظة لم يدخلها شيء - انتهى - وقد قدمنا الكلام على ذلك في مقدمة التفسير عند الكلام على الإسرائيليات ، وفي سورة البقرة أيضاً عند قوله تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } [ البقرة : 75 ] .
ولما بين تعالى كذبهم عليه - جل ذكره - بين افتراءهم على رسله إذ زعموا أن عيسى عليه السلام أمرهم أن يتخذوه رباً ، فرد سبحانه عليهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } [ 79 ]
.
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } أي : ما صح ولا استقام . وفي التعبير ببشر إشعار بعلة الحكم ، فإن البشرية منافية لما افتروه عليه : { أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ } أي : الفهم والعلم أو الحكمة : { وَالنُّبُوَّةَ } وهي الخبر منه تعالى ليدعو الناس إلى الله بترك الأنداد : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } أي : الذين بعثه الله إليهم ليدعوهم إلى عبادته وحده : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } أي : اتخذوني رباً : { مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن } يقول لهم : { كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } أي : منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية ، بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله . أي : كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات ، حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة - أفاده القاشاني - : { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } أي : بسبب مثابرتكم على تعليم الناس الكتاب ودراسته ، أي : قراءته . فإن ذلك يجركم إلى الله تعالى بالإخلاص في عبادته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 80 ]
.
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ } أي : بالعود إليه وقد بعث لمحو الشرك : { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : بعد استقراركم على الإسلام .
تنبيهات :
الأول : إذا كان ما ذكر في الآية لا يصلح لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم ، بطريق الأولى والأحرى .
ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن ، أن يأمر الناس بعبادته ، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً - يعني أهل الكتاب - كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] الآية وفي جامع الترمذي - كما سيأتي - أن عدي بن حاتم قال : يا رسول الله ما عبدوهم . قال : بلى ، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم . فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه الرسل الكرام ، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام - قاله ابن كثير - .
الثاني : في هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل ، وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه . والدراسة : مذاكرة العلم والفقه . فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الْإِنْسَاْن ربانياً ، فمن اشتغل بها ، لا لهذا المقصود ، فقد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ، ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : < نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع > كذا في فتح البيان والرازي .
الثالث : قرئ في السبع : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالرفع على الاستئناف أي : ولا يأمركم الله أو النبي ، وبالنصب عطفاً على ثم يقول ، ولا مزيدة لتأكيد معنى النفي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [ 81 ]
[ لم يفسر العلَّامة رحمه الله هذه الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 82 ]
.
{ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم . ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية : وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم ، وإن كان ناسخاً لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك ، آمنوا به ونصروه أيضاً ، مبالغة في تشهير أمره . ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره . وأخبر أنهم قبلوا ذلك ، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين . وقد قرئ في السبع بفتح اللام من : { لَمَا آَتَيْتُكُمْ } . وكسرها ، فعلى الأول هي موطئة للقسم ، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، وما حينئذ تحتمل الشرطية ، و : { لَتُؤْمِنُنَّ } سادٍّ مسد جواب القسم والشرط . وتحتمل الموصولة بمعنى " للذي آتيتكموه لتؤمنن به " وعلى الثاني ، أعني كسر اللام فـ : { ما } إما مصدرية أي : لأجل إيتائي إياكم الكتاب ، ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف ، أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه . وإما موصولة والمعنى : أخذه للذي آتيتمكموه ، وجاءكم رسول مصدق له ، وقوله تعالى : { فَاشْهَدُواْ } . أي : يا أنبياء ، بعضكم على بعض ، بالإقرار . وفي قوله تعالى : { وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } توكيد عليهم ومن أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة ، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء ، فمع أممهم أولى . وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياُ من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمداً ، وهو حي ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه . قال ابن كثير : وهذا لا يضاد ما قاله طاوس والحسن وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، بل يستلزمه ويقتضيه ، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قولي علي وابن عباس انتهى - .
ومن أثر عليّ عليه السلام هذا ، فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنينا صلى الله عليه وسلم كما نقل القاضي عياض في " الشفاء " عن أبي الحسن القابسي قال : في استخص الله تعالى محمداً بفضل لم يؤته غيره أبانه به ، وهو ما ذكره في هذه الآية . انتهى . وقد علمت المراد .
بقي أن الإمام أبا مسلم الأصفهاني ذهب إلى أن في قوله تعالى : { مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } حذف مضاف ، أي : أممهم ، وعبارته : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه ، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفاً ، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين ، بل هم أمم النبيين . قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق ، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما يليق بالأمم ، أجاب القفال رحمه الله فقال : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية : أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ؟ ! ونظيره قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض ، فكذا هنا . وقال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] وقال في صفة الملائكة : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 29 ] ، مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم : { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وبأنهم : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] . فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير ، فكذا ههنا .
ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي ، فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، وقد ذكر تعالى على سبيل الفرض والتقدير في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } فكذا ههنا - نقله الرازي .
ولما بين تعالى أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم شرعٌ شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله ، فلهذا قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ 83 ]
.
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } أي : استسلم له من فيهما بالخضوع والانقياد لمراده ، والجري تحت قضائه ، كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } [ الرعد : 15 ] { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [ النحل : 49 ] .
فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم له كرهاً ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع . أفاده ابن كثير : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يوم القيامة فيجزي كلاً بعمله ، والجملة سيقت للتهديد والوعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 84 ]
.
{ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } أي : أولاد يعقوب : { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض ، كدأب اليهود والنصارى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون فلا نتخذ أرباباً من دونه .
لطيفة :
نكتة الجمع في قوله : { آمَنَّا } بعد الإفراد في : { قُلْ } كون الأمر عاماً ، والإفراد لتشريفه عليه الصلاة والسلام ، والإيذان بأنه أصل في ذلك . أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه الزكية خاصة . والجمع لإظهار جلالة قدره ورفعة محله بأمره ، بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك .
ثانية :
عدى أنزل هنا بحرف الاستعلاء ، وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر ، وقال صاحب " اللباب " : الخطاب في البقرة للأمة لقوله : { قولوا } . فلم يصح إلا " إلى " لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً . وهنا قال " قل " ، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته ، فكان اللائق به " على " لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيها .
وفيه نظر ، لقوله تعالى : { آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا } [ آل عِمْرَان : 72 ] - أفاده النسفي - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 85 ]
.
{ وَمَن يَبْتَغِ } أي : يطلب : { غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً } أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى . كدأب المشركين صريحاً . والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } لأنه لم ينقد لأمر الله . وفي الحديث الصحيح : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ > : { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } لضلاله وجوه الهداية في الدنيا .
قال العلامة أبو السعود : والمعنى : أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع ، واقع في الخسران ، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها . وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أنه حال من تدين بغير الإسلام ، واطمأن بذلك أفظع وأقبح - انتهى - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 86 ]
.
{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } استبعاد لأن يرشدهم الله للصواب ويوفقهم . فإن الحائد عن الحق ، بعد ما وضح له ، منهمك في الضلال ، بعيد عن الرشاد . وقيل : نفي وإنكار له ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } . والمعني بهذه الآية إما أهل الكتاب ، والمراد كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءهم ، بعد إيمانهم به قبل مجيئه ، إذ رأوه في كتبهم ، وكانوا يستفتحون به على المشركين وبعد شهادتهم بحقية رسالته لكونهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وجاءهم البينات على صدقه التي آمنوا لمثلها ولما دونها بموسى وعيسى عليهما السلام . فظلموا بحقه الثابت ببيناته وتصديقه الكتب السماوية ، وإما المعنيُّ بالآية من ارتد بعد إيمانه ، على ما روي في ذلك كما سنذكره . ثم بين تعالى الوعيد على كل بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ 87 ]
.
{ أُوْلَئِكَ } أي : الموصوفون بما تقدم : { جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ } أي : طرده وغضبه : { وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } المراد بالناس إما المؤمنين أو العموم ، فإن الكافر أيضاً يلعن منكر الحق والمرتد عنه ، فقد لعن نفسه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [ 88 ]
.
{ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في اللعنة أو العقوبة أو النار ، وإن لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما . والتخليد في اللعنة على الأول بمعنى أنهم يوم القيامة لا يزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار ، فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعنٌ من هؤلاء ، أو بمعنى الخلود في أثر اللعن ، لأن اللعن يوجب العقاب ، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ، ونظيره قوله تعالى : { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ } [ طه : 100 - 101 ] ، - أفاده الرازي - : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي : لا يمهلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا ، أولا ينظر نظر رحمة إليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 89 ]
.
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : الكفر بعد الإيمان : { وَأَصْلَحُواْ } أي : وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة . وفيه أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم . وهذا من لطفه وبره ورأفته وعائدته على خلقه : أن من تاب إليه تاب عليه . وقد روى ابن جرير عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ، ولحق بالشرك ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فنزلت : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } إلى قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . فأرسل إليه قومه فأسلم . وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } إلى قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال : فحملها إليه رجل من قومه ، فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ، ما علمت ، لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه .
قال ابن سلامة : فصارت فيه توبة ، وفي كل نادم إلى يوم القيامة .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية جواز لعن الكفار ، وسواء كان الكافر معيناً أو غير معين ، على ظاهر الأدلة . وقد قال النووي : ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام . وأشار الغزالي إلى تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على الكفر . كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم . قال : لأنه يدري بما يختم له . وأما الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعيانهم يجوز أنه صلى الله عليه وسلم علم موتهم على الكفر . وأما ما ورد في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم : < ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيّ > . فقيل : اللعان مثل الضراب للمبالغة . والمعنى : لا يعتاد اللعن حتى يكثر منه . ومن ثمرات الآية صحة التوبة من الكافر والعاصي بالردة وغيرها ، وذلك إجماع ، إلا توبة المرتد ، ففيها خلاف شاذ ، فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذه [ في المطبوع : لهذا ] الآية وغيرها ، وعند ابن حنبل لا تقبل توبته - رواه عنه في " شرح الإبانة " قيل : وهو غلط . ولهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة النساء : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا } [ النساء : 137 ] . فأثبت إيماناً بعد كفر تقدمه إيمان . ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضاً عند جمهور العلماء ، لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وقال إسحاق بن راهويه : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك . أي : لظاهر آية النساء - انتهى - قلت : وفي " زاد المستقنع " و " شرحه " : من فقه الحنابلة ما نصه : ولا تقبل توبة من تكررت ردته بل يقتل ؛ لأن ذلك يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام - انتهى - وهو قريب من مذهب إسحاق ، وحكى في " فتح الباري " مثله عن الليث وعن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ } [ 90 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ } أي : الذي ضلوا سبيل الحق وأخطأوا منهاجه ، وقد أشكل على كثير قوله تعالى : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها ، وقوله سبحانه : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] . وغير ذلك ، فأجابوا : بأن المراد عند حضور الموت . قال الواحدي في " الوجيز " : لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت ، وتلك التوبة لا تقبل انتهى - . أي : كما قال تعالى : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } [ النساء : 18 ] ، الآية . وقيل : عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم ، أي : لا يتوبون . كقوله : { أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . وإنما كنى بذلك تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، وقيل : لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادهم كفراً . وبقي للمفسرين وجوه أخرى ، هي في التأويل أبعد مما ذكر . ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } الخ . وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته ، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا ، وذلك لرسوخه في الكفر . وقد أشار القاشاني إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد ، وعبارته عند قوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً } أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولاً بالنور الاستعدادي إلى الإيمان ، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم " كذا " . وانضم إليه الاستدلال العقلي بالبينات ، ثم ظهرت نفسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق ، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال : { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ، لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور . وهم قسمان :
قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت ، وتناهوا في الغي والاستشراء ، وتمادوا في البعد والعناد ، حتى صار ذلك ملكة لا تزول . وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ، ولم يصر على قلوبهم ريناً ، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم ، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستجيبوا بحكم غريزة [ في المطبوع : غريز ] العقول . فأشار إلى القسم الأول بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } . . إلى آخره ، وإلى الثاني بقوله : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } ، بالمواظبة على الأعمال والرياضات ، ما أفسدوا - انتهى - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ 91 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } هذه الآية نظير قوله تعالى في سورة المائدة : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] . وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به ؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك > ! وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي : رب ! خير منزل ، فيقول : سل وتمنّ ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي : رب ! شر منزل ، فيقول له : أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهباً ؟ فيقول : أي : رب ! نعم . فيقول : كذبت ! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار > . ولهذا قال : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } أي : من منقذ من عذاب الله ولا مجير من أليم عقابه .
لطيفة :
في قوله تعالى : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } قال صاحب " الانتصاف " : إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطاً آخر ، يعطف عليه الشروط المقترنة به ضرورة . والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبهاً على المسكوت عنه بطريق الأولى . مثاله : قولك : أكرم زيداً ولو أساء ، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره : أكرم زيداً ولو أساء ، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء ، على أن إكرامه أن أحسن بطريق الأولى . ومنه : { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] . معناه والله أعلم : لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم ، فأوجبه تنبيهاً على ما هو أسهل وأولى بالوجوب ، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عِمْرَان هذه مخالفة لهذا النمط ظاهراً ، لأن قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } . يقتضي شرطاً آخر محذوفاً ، يكون هذا المذكور منبهاً عليه بطريق الأولى . وهذه الحال المذكورة ، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهباً ، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ، فلذلك قدر الزمخشري الكلام بمعنى : لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهباً هو أولى بالقبول منها ، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى ؛ فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور . وأما تنزيل الآية عليه فعسر جداً ، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله . فنقول : قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهباً يكون على أحوال :
منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهراً من مال القاتل على قول .
ومنها : أن يقول المفتدي في التقدير : أفدى نفسي بكذا - وقد لا يفعل - .
ومنها : أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضراً عتيداً ، وقد يسلمه مثلاً لمن يأمن منه قبول فديته .
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهباً افتداء محققاً ، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختياراً ، ومع ذلك لا يقبل منه . فمجرد قوله : أبذل المال وأقدر عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى ، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيهاً على أن ثم أحوالاً آخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة . وقد ورد هذا المعنى مكشوفاً في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] - والله أعلم - وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم . ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي هذه . فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله ولي التوفيق - انتهى - .
وثمة وجه ثان وهو أن المراد : ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية ، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية ، ولو زيد عليه مثله ، والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ، تريد مثل ضربه . وأبو يوسف أبو حنيفة [ ؟ ؟ ] ، تريد مثله . وقضية ولا أبا حسن لها ، أي : ولا مثل أبي حسن . كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت . وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد ، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهباً على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى .
ووجه ثالث : وهو أن لا يحمل " ملء الأرض " أولاً على الافتداء بل على التصدق ، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق ، بل يكون شرطاً محذوف الجواب ، ويكون المعنى : لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً تصدق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق .
ووجه رابع : وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي . فتبصر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ 92 ]
.
{ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم ، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم ، أي : لن تبلغوا حقيقة البر ، وتلحقوا بزمرة الأبرار . بناء على أن تعريف البر للجنس . أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته , إذا كان للعهد, حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون ، أي : تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم ، كما في قوله تعالى : { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : 267 ] . وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالاً من نخل ، وكان أحب أمواله إلى بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بخ بخ ، ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين > قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه - وبيرحا يروى بكسر الباء وفتحها وفتح الراء وضمها والمد والقصر ، وهو اسم حديقة بالمدينة - وفي الفائق : إنها فيعلى من البراح ، وهو الأرض الظاهرة . وبخ بخ : كلمة استحسان ومدح كررت للتأكيد ، ورابح بالموحدة : أي : ذو ربح ، وبالمثناة التحتية أي : يروح عليك نفعه وثوابه .
وفي الصحيحين أن عمر قال : يا رسول الله ! لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به ؟ قال : < حبس الأصل وسبل الثمرة > .
وروى الحافظ أبو بكر البزار أن عبد الله بن عُمَر قال : حضرتني هذه الآية : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئاً أحب إلي من جارية لي رومية ، فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها . يعني : تزوجتها .
تنبيه :
قال القاشاني : في هذه الآية : كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه ، فمن أحب شيئاً فقد حجب عن الله تعالى به ، وأشرك شركاً خفياً ، لتعلق محبته بغير الله ، كما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وآثر نفسه به على الله ، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه : وهي محبة غير الحق ، والشرك ، وإيثار النفس على الحق ؛ فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد ، وحصل القرب ، وإلا بقي محجوباً ، وإن أنفق من غيره أضعافه ، فما نال براً لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره .
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : فمجازيكم عليه ، قليلاً كان أو كثيراً ، جيداً أو غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 93 ]
.
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } قال الزمخشري : المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه .
تنبيهات :
الأول : روي ، فيما حرمه إسرائيل على نفسه ، أنه لحوم الإبل وألبانها ، رواه الإمام أحمد في قصة ، والترمذي وقال : حسن غريب . وروي عن ابن عباس والضحاك والسدي وغيرهم موقوفاً عليهم أنه العروق . قالوا : كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه ، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقاً ، ولا يأكل ولد ماله عرق ، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم استناناً به ، واقتداء بطريقه ، قال الرازي : ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان ، بعث بُرُداً إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير ، فانصرف الرسول إليه وقال : إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب وحزن جداً ، فصلى ودعا ، وقدم هدايا لأخيه ، وذكر القصة ، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت ، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق - انتهى - قلت : والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الأصحاح الثاني والثلاثين .
الثاني : التحريم المذكور ، على الرواية الأولى ، أعني لحوم الإبل وألبانها ، فكان تبرراً وتعبداً وتزهداً وقهراً للنفس ، طلباً لمرضاة الحق تعالى . وعلى الثانية : فإما وفاء بالنذر وإما تداوياً ,وإما لكونه يجد نفسه تعافه - والله أعلم - فالتحريم بمعنى الامتناع .
الثالث : قال الزمخشري : الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } [ في المطبوع : فبظلم الَّذِينَ هَادُواْ ] إلى قوله : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] . وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه ، وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم . فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جراً . إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم - انتهى - .
{ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم أنه تحريم قديم - وفي أمره صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به ، من أن تحريم ما حرم عليهم حادث لا قديم ، كما يدعونه - أعظم برهان على صدقه وكذبهم إذ لم يجسروا على إخراج التوراة . فبهتوا وانقلبوا صاغرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 94 ]
.
{ فَمَنِ افْتَرَىَ } أي : تعمد : { عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } أي : في أمر المطاعم وغيرها : { مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لتعرضهم إلى أن يهتكهم تعالى ويعذبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 95 ]
.
{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ } تعريض بكذبهم ، أي : ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون : { فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي : ملة الإسلام التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن آمن معه ، والتي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام ، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه : { حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الأديان الزائفة : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تعريض بما في اليهودية والنصرانية من شرك إثبات الولد أو إلهية عيسى ، فكيف يزعمون أنهم على ملته ، وما كان يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وهو الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ! .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ 96 ]
.
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } أي : لنسكهم وعباداتهم : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } أي : للبيت الذي ببكة ، أي : فيها . وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى . وبكة لغة في مكة ، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم : ضربة لازب ولازم ، والنميط والنبيط في اسم موضع بالدهناء ، وقولهم أمر راتب وراتم وأغبطت الحمى وأغمطت . وقيل : مكة البلد ، وبكة موضع المسجد ، سميت بذلك : لدقها أعناق الجبابرة [ في المطبوع : الجباربة ] ، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى ، أو لازدحام الناس بها من بكَّهُ إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه ، كما أن مكة من مكّهُ : أهلكه ونقصه ؛
لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد ، وتنقص الذنوب أو تنفيها كما في القاموس - وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي ميشا أو ماسا المذكورة في التوراة ، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو مسّا { مُبَارَكاً } أي : كثير الخير ، لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله ، من الثواب وتكفير الذنوب : { وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } لأنه قبلتهم ومتعبدهم .
تنبيه :
ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولاً في الوضع والبناء ، ورووا في ذلك آثاراً ، منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرضين ، ومنها : أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور ، وذلك قبل خلق آدم ، ومنها : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام . وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه . والمتعين أن المراد : أول بيت وضع مسجداً ، كما بينته رواية ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال : كانت البيوت قبله ، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى . وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله : أي : مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : < المسجد الحرام > قلت : ثم أي : ؟ قال : < المسجد الأقصى > قلت : كم كان بينهما ؟ قال : < أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلّه ، فإن الفضل فيه > .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به ، فقال : معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى . وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام . وهذا من جهل القائل ، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم ، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ 97 ]
.
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت . قال ابن كثير : وقد كان ملتصقاً بجدار البيت ، حتى أخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق ، بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده ، حيث قال : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } [ البقرة : 125 ] ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . قال المفسرين : ثمرة الآية : الترغيب في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه ، لأنه تعالى وصفة بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات .
لطيفة :
مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً } أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة . قالوا : فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء ، وغوصه فيها إلى الكعبين ، وإلانة بعض الصخور دون بعض ، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام ، وحفظه ، مع كثرة الأعداء ، ألوف السنين [ في المطبوع : سنة ] ، آية مستقلة . ويؤيده قراءة آية بينة على التوحيد ، وإما بما يفهم من قوله عز وجل :
{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية ، لكنها في قوة أن يقال : وأمن من دخله فتكون بحسب المعنى والمآل ، معطوفة على مقام إبراهيم ، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك ، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان ، وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها - أفاده أبو السعود - . قال المهايمي : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعاء تحت ميزابه ، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر ، ومن أعظمها : النازل منزلة الكل ، مقام إبراهيم ، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت ، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء ، ثم لين ، فغرقت فيه قدماه ، كأنهما في طين ، فبقي أثره إلى يوم القيامة . ومن آياته : أن من دخله كان آمناً من نهب العرب وقتالهم ، وقد أمن صيده وأشجاره . قال أبو السعود : ومعنى أمن داخله : أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وكان الرجل لو جرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب . وعن عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى خرج عنه .
تنبيه :
ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعيّ الذي وردت به الآيات ، وأوضحته الأحاديث والآثار . ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : < لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا > . وقال يوم فتح مكة : < إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته ، إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها > . فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : < إلا الإذخر > . ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ؛ ولهما ، واللفظ مسلم أيضاً ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : < إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب > . فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح . إن الحرم لا يعيذ عاصياً ، ولا فارّاً بدمٍ ، ولا فاراً بخربةٍ .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دماً ، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها ، لكونها حرماً ، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع :
أحدها : وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل ، لا سيما إن كان لها تأويل . كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير . فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزاً بالنص والإجماع ، وإنما خالف في ذلك عَمْرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال : إن الحرم لا يعيذ عاصياً . فيقال له : هو لا يعيذ عاصياً من عذاب الله ، ولو لم يُعذّه من سفك دمه لم يكن حرماً بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرماً بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعد مقيس بن صُبابة وابن خطل ومن سمي معهما ؛ لأنه في تلك الساعة لم يكن حرماً بل حلاً ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها ، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرماً . ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : < فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك > ، وعلى هذا فمن أتى حداً أو قصاصاً خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . وذكر عن عبد الله بن عُمَر أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته . وعن ابن عباس أنه قال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعيّ ولا صحابيّ خلافه . وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث . وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدم ولا بخربة > . وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حداً أو قصاصاً لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته ، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرماً بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين ، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئاً إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه ، كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم > . فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة - وهي فسقهن - ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعاً من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل . قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] . وقوله تعالى : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ القصص : 57 ] .
وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : من دخله كان آمناً من النار ، وقول بعضهم : كان آمناً من الموت على غير الإسلام ، ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود القصاص في كل زمان ومكان فيقال أولاً : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام ، فلا يقول محصِّلٌ إن قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] . مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه ، والحال المحرّمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أوالحر ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم : ليس ذلك تخصيصاً بل تقييداً لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع سواء بسواء . وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : < وإنما أحلت لي ساعة من نهار > ، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالاً في كل وقت ، لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة . وأما قوله : الحرم لا يعيذ عاصياً ، فهو من كلام الفاسق عَمْرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث ، كما جاء مبيناً في الصحيح ، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء : وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال : سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه ما دونه ، لأن حرمة النفس أعظم ، والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده . وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس ما دونها في ذلك . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين . قالوا : وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما . فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : من سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد . وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم . وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضاً : من أحدث حدثاً في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } . والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه :
أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظّم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .
الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيراً .
الثالث : أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه ، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .
الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .
والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته .
فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه . وأما قولكم : إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله . وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة ، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها ، وأيضاً فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها . انتهى . " من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180 " .
ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج فقال : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } اللام في البيت للعهد . وحجه : قصده للزيارة بالنسك المعروف . وكسر الحاء وفتحها لغتان ، وهما قراءتان سبعيتان ، وفي الآية مباحث :
الأول : في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية : جملة من مبتدأ هو : { حِجُّ الْبَيْتِ } وخبر هو : { لِلّهِ } وقوله تعالى : { عَلَى النَّاسِ } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ذلك الاستقرار ، ويجوز أن يكون : { عَلَى النَّاسِ } هو الخبر ، و : { لله } متعلق بما تعلق به الخبر . ثم قال في قوله تعالى : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } في محل الخبر على أنه بدل من : { النَّاسِ } بدل البعض من الكل مخصص لعمومه ، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف ، أي : من استطاع منهم ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع ، فلا حاجة إلى الضمير . وقيل : في محل الرفع ، على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم من استطاع . وقيل : في حيز النصب بتقدير أعني .
الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ البقرة : 196 ] ، والأول أظهر . وفي " فتح البيان " : اللام في قوله : { لله } هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف : { عَلَى } فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل : لفلان عليّ كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً .
الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة ، بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا > . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم > . ثم قال : < ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه > . وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج > ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : < لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة . فمن زاد فهو تطوع > .
الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماعاً لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضاً ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج ، على ظاهر الآية . قال : وروينا عن عِكْرِمَة أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلاً قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : < الزاد والراحلة > - رواه الترمذي - وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . فقيل : ما السبيل ؟ قال : < الزاد والراحلة > ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .
الخامس : قال الإمام ابن القيم الدمشقي رضي الله عنه في " زاد المعاد " في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ .
وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عَمْرة . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال : وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري . وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظاً . ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير ، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر . وأما قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ، فإنها ، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عِمْرَان نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عِمْرَان ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة . ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع . وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم . وقوله تعالى :
{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى ، لا تعلق له بما قبله ، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه ، وهو أظهر وأبلغ . والكفر ، على هذا ، إما بمعنى جحد فريضة الحج ، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به . ونظيره في السنة ما رواه النسائي والترمذي عن بريدة مرفوعاً : < العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر > . وعن عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة - أخرجه الترمذي - ولأبي داود عن جابر مرفوعاً : < بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة > ولفظ مسلم : < بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة > . وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . < من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ، وذلك أن الله تعالى يقول : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } > . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن عُمَر بن الخطاب قال : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانيا . قال ابن كثير : إسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه : وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجلاً إلى هذه الأمصار ، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين . قال السيوطي في " الإكليل " : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج ، وإن لم ينكره ، كفر . ثم قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر : من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج ، كان سيماه بين عينيه كافر ، ثم تلا هذه الآية .
تنبيه :
هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، فمنها الإتيان باللام وعلى في قوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } . يعني : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وفيه ضربان من التأكيد :
أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .
والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام ، والتفصل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين .
ومنها : قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان من لم يحج تغليظاً على تارك الحج .
ومنها : ذكر الاستغناء عنه . وذلك مما يد على المقت والسخط والخذلان .
ومنها : قوله : { عَنِ الْعَالَمِينَ } ، ولم يقل : عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه - أشار لذلك الزمخشري - ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } [ 98 ]
.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله : { وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } حال مفيدة لتشديد التوبيخ . وإظهار الجلالة في موضع الإضمار لتربية المهانة وتهويل الخطب . وصيغة المبالغة في شهيد لتأكيد الوعيد ، وكل ذلك موجب لعدم الاجتراء على ما يأتونه . ثم عقب تعالى الإنكار عليهم في ضلالهم توبيخهم في إضلالهم فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 99 ]
.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن دينه . وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام : { مَنْ آمَنَ } مفعول تصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به : { تَبْغُونَهَا } على الحذف والإيصال ، أي : تبغون لها ، أي : لسبيل الله التي هي أقوم السبل : { عِوَجاً } أي : اعوجاجاً وزيغاً وتحريفاً . قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب ، وأريد ههنا : تبغون لها عوجاً ، ثم أسقطت اللام . كما قالوا : وهبتك درهماً ، أي : وهبت لك درهماً ومثله : صدتك ظبياً ، أي : صدت لك ظبياً ، وأنشد :
~فتولى غلامهم ثم نادى أظليماً أصيدكم أم حمارا
أراد : أصيد لكم .
قال الرازي : وفي الآية وجه آخر ، وهو أن يكون عوجاً في موضع الحال . والمعنى : تبغونها ضالين ، وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله ، فقال تعالى : إنكم تبغون سبيل الله ضالين ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال .
وذكر ناصر الدين في " الانتصاف " وجها آخر قال : هو أتم معنى ، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به ، وعوجاً حال وقع فيها المصدر الذي هو عوجاً موقع الاسم ، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج ، على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم ، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم - والله أعلم - .
{ وَأَنتُمْ شُهَدَاء } بأنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال : { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد ووعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } [ 100 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } أي : بحسن اعتقادكم فيهم لكونهم أهل الكتاب : { يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي : بالتوحيد والنبوة : { كَافِرِينَ } لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 101 ]
.
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب . والمعنى : من أين يتطرق لكم الكفر ؟ : { وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ } وهي القرآن المعجز الذي هو أجلّ من الآيات المتلوّة عليهم : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ، وقد هداكم من الضلالة ، وأنقذكم من الجهالة : { وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : من يتمسك بدينه الحق الذي بيّنه بآياته على لسان رسوله ، وهو الإسلام ، والتوحيد ، المعبر عنه بسبيل الله ، فهو على هدى لا يضل متبعه . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم - انتهى - فالجملة حينئذ تذييل لقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا } الخ ، لأن مضمونه أنكم إن تطيعوهم لخوف شرورهم ومكايدهم ، فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله في دفع ذلك ، لأن من التجأ إليه كفاه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 102 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : حق تقواه ، وذلك بدوام خشيته ظاهراً وباطناً والعمل بموجبها . وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية : هو أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر . ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعاً ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
قال ابن كثير : والأظهر أنه موقوف - والله أعلم - .
وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .
أقول : كل ما روي ، مما تشمله الآية بعمومها ، فلا تنافي .
تنبيه :
زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، متأولاً حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه . قال : فهذا يعجز العبد عن الوفاء ، فتحصيله ممتنع . وهذا الزعم لم يصب المحزّ ، فإن كلاً من الآيتين سيق في معنى خاص به ، فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى ، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلباً وقالباً ، كما بينا . وهذا من المستطاع لكل منيب . وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق ، إذ : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله ، وأخلص في أعماله ، وكان مشفقاً في طاعاته ، فقد اتقى الله حق تقاته { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : مخلصون نفوسكم لله تعالى ، لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلاً ، كما في قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ النساء : 125 ] . وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لا تموتن على حال من الأحوال ، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه ، كما ينبئ عنه الجملة الإسمية . ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها .
والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض . وظاهر النظم الكريم ، وإن كان نهياً عن الموت المقيد بقيد ، هو الكون على أي : حال غير حال الإسلام ، لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ . وحيث كان الخطاب للمؤمنين ، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت . وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور . فإن النهي عن المقيد في أمثاله ، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية ، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد . فإن قولك : لا تصلِّ إلا وأنت خاشع ، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك : لا تترك الخشوع في الصلاة ؛ لما أن هذا نهي عن ترك الخشوع فقط ، وذاك نهي عنه وعما يقارنه ، ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة ، وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل . وفيه نوع تحذير عما وراء الموت - أفاده أبو السعود - .
وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 103 ]
.
{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } الحبل : إما بمعنى العهد ، كما قال تعالى في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 112 ] . أي : بعهد وذمة ، وإما بمعنى القرآن ، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ألا وإني تارك فيكم ثقلين : أحدهما كتاب الله هو حبل الله ، من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة . . . > الحديث ، والوجهان متقاربان ، فإن عهده أي : شرعه ودينه كتابه حرز للمتمسك به من الضلالة ، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط . وقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي : لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم . كما اختلف اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية ، متدابرين ، يعادي بعضكم بعضاً ، ويحاربه . أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم ، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام - أفاده الزمخشري - : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } .
قال الزمخشري : كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، وقذف فيها المحبة ، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد ، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف ، وهو الأخوة في الله : { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا } أي : طرف : { حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ } بما كنتم فيه من الجاهلية : { فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } أي : بالإسلام . قال ابن كثير : وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم . فلما جاء الله بالإسلام ، فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى . قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [ الأنفال : 62 - 63 ] الآية . وكانوا على شفا حفرة من النار ، بسبب كفرهم ، فأنقذهم الله منها ، إذ هداهم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم ، بما فضل عليهم في القسمة ، بما أراه الله ، فخطبهم فقال : < يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ؟ > فكلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ - انتهى - .
لطيفة :
قال الزمخشري : الضمير في : منها للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة ، وهو منها كما قال :
~كما شرقت صدر القناة من الدم
انتهى .
وقال أبو حيان : لا يحسن عوده إلا إلى الشفا ؛ لأنه المحدَّث عنه . انتهى .
وفي " الانتصاف " : يجوز عود الضمير إلى الحفرة ، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور ، كما تقول : أكرمت غلام هند ، وأحسنت إليها ، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم ، لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا ، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالباً من الهويّ إلى الحفرة ، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذاً من الحفرة التي يتوقع الهويّ فيها . فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع . مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر ، خلاف رأيه في " الإيضاح " - نقله ابن يسعون - .
وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها ، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، لأنهم كانوا صائرين إليها غالباً ، لولا الإنقاذ الرباني . ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : < الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه > وإلى قوله تعالى : { أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 109 ] . وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سبباً مؤدياً إلى انهياره في نار جهنم ، مع تأكيد ذلك بقوله : { هَارٍ } . والله أعلم - انتهى - .
ثم قال الزمخشري : وشفا الحفرة وشفتها : حرفها ، بالتذكير والتأنيث ، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة ، وفي المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة ، الجانب والجانبة . انتهى .
وحكى الزجاج في تثنية شفا : شفوان . قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو ، لأنه الإمالة من الياء . كذا في الصحاح .
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار ، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها .
قال الرازي : وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة ، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء .
{ كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك البيان : { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لرشدكم الديني والدنيوي فيه . ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات ، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 104 ]
.
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ } أي : جماعة ، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس ، أي يقصدونها ويقتدون بها : { يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } وهو ما فيه صلاح ديني ودنيوي : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } أي : بكل معروف ، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار : { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر } أي : عن كل منكر ، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة : { وَأُوْلَئِكَ } الداعون الآمرون الناهون : { هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم .
قال بعضهم : الفلاح : هو الظفر وإدراك البغية . فالدنيوي هو إدراك السعادة التي تطيب بها لحياة ، والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وعزّ بلا ذل ، وغنى بلا فقر ، وعلم بلا جهل .
لطيفة :
قيل : عطف : { وَيَأْمُرُونَ } على ما قبله ، من عطف الخاص على العام . كذا قاله الزمخشري . وناقشه في " الانتصاف " . وعبارته : عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام ، كقوله : { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . وكقوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] . وكقوله : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] . وشبه ذلك ، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزاً عن غيره من بقية المتناولات . وأما هذه الآية فقد ذكر ، بعد العام فيها ، جميع ما يتناوله ، إذ الخير المدعوّ إليه إما فعل مأمور ، أو ترك منهي ، لا يعدو واحداً من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات ، فالأولى في ذلك أن يقال : فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء [ في المطبوع : الدعاد ] إلى الخير عامّاً ثم مفصلاً . وفيه تنبيه : أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية - والله أعلم - إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير ، فإن ذاك يتم مراد الزمخشري ، وما أرى هذا العرف ثابتاً - والله أعلم - انتهى .
تنبيه :
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها - كذا في " فتح البيان " .
قال الغزالي رضي الله عنه : في هذه الآية بيان الإيجاب . فإن قوله تعالى : { وَلْتَكُن } أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به ، إذ حَصَرَ وقال : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين ، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين ؛ إذ لم يقل : كونوا كلكم آمرين بالمعروف . بل قال : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ } . فإذاً ، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين ، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين . وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون ، عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة . انتهى .
فإن قلت : فمن يباشره ؟ فالجواب : كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة ، أو إن نهيه لا يأثر ، لأنه عبث ، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام ، وتذكير الناس بأمر الدين . فإن قلت : فمن يؤمر وينهى ؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف ، إذا همّ بضرر غير منع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها - ذكره الزمخشري - .
وتفصيل هذا البحث في " الإحياء " للغزالي قدس سره ، وقد قال ، قدس سره ، في طليعة ذلك البحث ما نصه : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمّت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه ، واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق ، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة ، وسد هذه الثلمة ، إما متكفلاً بعملها ، أو متقلداً لتنفيذها ، مجدداً لهذه السنة الداثرة ، ناهضاً بأعبائها ، ومتشمراً في إحيائها ، كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها - انتهى - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 105 ]
.
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود في افتراقهم مذاهب ، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى ، وطاعة النفس ، والحسد ، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضاً دون بعض ، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه ، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة ، المبينة للحق ، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة ، وهي كلمة الحق ، فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة ، وإلى أعقابهم تبعاً . وفي قوله تعالى : { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين ، والتشديد في تهديد المشبهين بهم ، ما لا يخفى .
تنبيهات :
الأول : ذكر الفخر الرازي من وجوه قوله تعالى : { اخْتَلَفُواْ } أي : بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق ، وأن صاحبه على الباطل . ثم قال : وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة . فنسأل الله العفو والرحمة - انتهى كلامه - وقوله هذا الزمان إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف ، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل ، ما أداه إليه اجتهادهم ، ولم يضلل بعضهم بعضاً ، ولم يدّع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ وأن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب ، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد ، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهم على وحدتهم وتناصرهم .
الثاني : قال القاشاني : يعني بالآيات : الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة ، واتفاق الكلمة ، فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة ، وأهواء متفرقة ، وعادات وسيراً متفاوتة ، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم ، ويترتب على ذلك فهوم متباينة ، وأخلاق متعادية ، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام ، تتحد عقائدهم وسرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهوائهم بمحبته وطاعته ، كانوا مهملين متفرقين ، فرائس للشيطان ، كشريدة الغنم ، تكون للذئب . ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا بد للناس من إمام بر أو فاجر ، ولم يرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين فصاعداً لشأن ، إلا وأمّر أحدهما على الآخر ، وأمَرَ الآخر بطاعته ومتابعته ، ليتحد الأمر وينتظم ، وإلا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدين والدنيا ، واختل نظام المعاش والمعاد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة > . وقال : < الله مع الجماعة > . ألا ترى أن الجمعية الْإِنْسَاْنية إذا لم تنضبط برئاسة القلب ، وطاعة العقل ، كيف اختل نظامها ، وآلت إلى الفساد والتفرق ، الموجب لخسار الدنيا والآخرة ، ولما نزل قوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } ، خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً فقال : < هذا سبيل الرشد ، ثم خطّ عن يمينه وشماله خطوطاً فقال : هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه > .
الثالث : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، قدس سره ، في أول كتابه " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " . وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يعتقد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته ، دقيق ولا جليل ، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا وجد الواحد منهم قول ، قد جاء حديث صحيح بخلافه ، فلا بد له من عذر في تركه . وجماع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله .
الثاني : عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول .
الثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة . ثم أوسع المقال في ذلك .
وذكر قدس سره ، في بعض فتاويه ، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون : الأدلة بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر . وعلى الْإِنْسَاْن أن يجتهد ويطلب الأقوى . فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ، ولم ير ما يعارضه ، عمل به ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها . وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئاً معذوراً ، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه ، وخطؤه مغفور له ، وذلك الباطن هو الحكم ، لكن بشرط القدرة على معرفته ، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه ، فإذا أريد بالخطأ الإثم ، فليس المجتهد بمخطئ ، بل كان مجتهد مصيب ، مطيع لله ، فاعل ما أمره الله به ، وإذا أريد له عدم العلم بالحق في نفس الأمر ، فالمصيب واحد ، وله أجران . كما في المجتهدين في جهة الكعبة ، إذا صلوا إلى أربع جهات ، فالذي أصاب الكعبة واحد ، وله أجران لاجتهاده وعمله ، كان أكمل من غيره ، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، ومن زاده الله علماً وعملاً زاده الله أجراً بما زاده من العلم والعمل ، قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 83 ] قال مالك عن زيد بن أسلم : بالعلم ، وكذلك قال في قصة يوسف : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] . وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم ، واتبعوا العلم ، وأن الفقه من أجلّ العلوم ، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن ، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر ، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر ، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر ، كما قال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 78 - 79 ] . وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال ، في الأصول والفروع .
ثم قال : وإذا تدبر الْإِنْسَاْن تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى ، كما في مسائل الأحكام . ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار ، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه ، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون . انتهى .
فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية ، فإن المراد منها الاختلاف عن الحق ، بعد وضوحه ، يرفضه ، وشتان ما بين الاختلافين . ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات ، فما وجده أقوى دليلاً أخذ به ، وإلا تركه . وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيه : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 17 - 18 ] . وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه ، فليدعُ بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول - إذا قام يصلي من الليل - < اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم > . فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت ، فاستهدوني أهدكم > . انتهى .
الرابع : ذكر بعض المفسرين ، هنا ، ما روي من حديث < اختلاف أمتي رحمة > ، ولا يعرف له سند صحيح ، ورواه الطبراني والبيهقي في " المدخل " بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعاً . قال بعض المحققين : هو مخالف لنصوص الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } [ هود : 118 - 119 ] .
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم : < لا تختلفوا فتختلف قلوبكم > وغيره من الأحاديث لكثيرة ، والذي يقطع به أن الاتفاق خير من الخلاف - انتهى - .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسندهما عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة ، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تَجَارَى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ؛ والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء نبيكم صلى الله عليه وسلم ، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به > . قال ابن كثير : وقد روي هذا الحديث من طرق . انتهى .
نبذة في مبدأ الاختلاف في هذه الأمة من أهل الأهواء :
ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب " الفرقان بين الحق والباطل " أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر ، وصدراً من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولايته متفقين لا تنازع بينهم ، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعاً من التفرق ، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم ، فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان . ولما اقتتل المسلمون بصفَِّين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين . وحدث في أيامه الشيعة أيضاً ، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته ، بل كانوا ثلاث طوائف .
طائفة : تقول إنه إله ، وهؤلاء ، لما ظهر عليهم ، أحرقهم بالنار .
والثانية : السابة وكان قد بلغه عن أبي السودا أنه كان يسب أبا بكر وعمر ، فطلبه قيل : إنه طلبه ليقتله فهرب منه .
والثالثة : المفضِّلة الذي يفضلونه على الشيخين ، وقد تواتر عنه أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر . وروى ذلك البخاري في صحيحه .
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية ، ثم حدثت المرجئة ، ثم قال : وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام : منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم ، فيبدأ بالخوارج ، ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية ، كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه ، كعبد الله ابنه ، ونحوه ، وكالخلاّل ، وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ، وكأبي الفرج المقدسي . وكلا الطائفتين تختم بالجهمية ، لأنهم أغلظوا البدع . وكالبخاري في صحيحه . فإنه بدأ بكتاب الإيمان والرد على المرجئة ، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية .
ثم قال قدس سره : إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان ، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف ، صار أهل التفرق والاختلاف شيعاً ، وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان ، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم ، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدرية والإيمان بالرسول وغير ذلك . وثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به ، وما خالفهما تأولوه ، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى ، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك . والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن . ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول ، بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها . ثم قال قدس سره : فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعاً لما جاء به الرسول ، ولا يتقدم بين يديه ، بل ينظر ما قال ، فيكون قوله تبعاً لقوله ، وعلمه تبعاً لأمره ، كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين . فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس ديناً غير ما جاء به الرسول . وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه ، نظر فيما قاله الله والرسول ، فمنه يتعلم وبه يتكلم ، وفيه ينظر ويتفكر ، وبه يستدل ، فهذا أصل أهل السنة .
وقال قدس سره في رسالته إلى جماعة الشيخ عدي بن مسافر ما نصه : وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها ، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [ المائدة : 14 ] ، فمتى ترك الناس بعضهم ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء ، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا ، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا ، فإن الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } إلى قوله : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عِمْرَان : 102 - 104 ] . فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة ، ومن النهي عن المنكر : إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى . ثم قال : ويجب على أولي الأمر ، وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوّموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر ، فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله ، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 106 ] .
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أي : تبيض وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين لاتباعها الدين الحق الذي هو النور الساطع . وتسود وجوه كثيرة ، وهي وجوه الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ؛ لاتباعها الضلالات المظلمة ، وليستدل بذلك على إيمانهم وكفرهم ، فيجازي كلٍّ بمقتضى حاله ، وهذه الآية لها نظائر ، منها قوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ } [ الزمر : 60 ] ومنها قوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] . ومنها قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38 - 41 ] . ومنها قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 25 ] . ومنها : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } [ المطففين : 24 ] . إلى غير ذلك . والمفسرين في هذا البياض والنضرة والغبرة والقترة وجهان :
أحدهما : أن البياض مجاز عن الفرح والسرور ، والسواد عن الغم . وهذا مجاز مستعمل ، قال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] . ويقال : لفلان عندي يد بيضاء ، أي : جلية سارة .
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ، ومعناه الاستبشار والتهلل ، وعند التهنئة بالسرور يقولون : الحمد لله الذي بيض وجهك . ويقال لمن وصل إليه مكروه : اربدّ وجهه واغبرّ لونه ، وتبدلت صورته . فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه ، فإن كان لك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك ، إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسودّ وجهه بمعنى شدة الحزن والغم ، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني .
والوجه الثاني : أن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين ، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة ، فوجب المصير إليه . ولأبي مسلم أن يقول : الدليل دل على ما قلناه ، وذلك لأنه تعالى قال :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38 - 41 ] . فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار ، فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له ، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة والغم والحزن حتى صح هذا التقابل - أفاده الرازي - .
لطيفة :
يوم منصوب إما مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيراً لهم عن عاقبة التفرق بعد مجيء البينات ، وترغيباً في الاتفاق على التمسك بالدين . أي : اذكروا يوم . . الخ أو ظرف للاستقرار في " لهم " أو لـ " عظيم " أو لـ " عذاب " .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } هذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالاً ، وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال ، وقوله تعالى : { أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } على إرادة القول ، أي : فيقال لهم ذلك ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم - أفاده أبو السعود - والمعنى : أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان ، وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة ، وما يناجيكم به وجدانكم من صدق هذه الدعوى وحقيتها وشهادته بصحتها ، كما قال تعالى فيما قبل هذه الآية : { يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ آل عِمْرَان : 70 ] : فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات ، وقال للمؤمنين { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عِمْرَان : 105 ] .
فقوله تعالى هنا : { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ، محمول على ما ذكر ، حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها ، وهي عامة في حق كل الكفار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 107 ]
.
{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } المراد برحمة الله : الجنة ، عبر عنها بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ 108 ]
.
{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } الإشارة إلى ما تقدم من الوعد والوعيد : { وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } أي : لا يشاء أن يظلم عباده ، فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن . قال الرازي : إنما حسن ذكر الظلم ههنا ، لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة ، وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك ، وقال : إنهم ما وقعوا فيه إلا لسبب أفعالهم المنكرة ، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب . وقال أبو السعود : وفي سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون ، ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } [ 109 ]
.
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أي : له تعالى وحده ، من غير شركة ما فيهما من المخلوقات ملكاً وخلقاً ، وإحياء وإماتة ، وإثابة وتعذيباً : { وَإِلَى اللّهِ } أي : إلى حكمه وقضائه : { تُرْجَعُ الأُمُورُ } أي : أمورهم فيجازي كلاً منهم بما وعده وأوعده ، فلا داعي له إلى الظلم ؟ لأنه غني عن كل شيء ، وقادر على كل شيء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 110 ]
.
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإتفاق على الحق ، والدعوة إلى الخير ، و : { كُنتُمْ } من كان التامة ، والمعنى : وجدتم وخلقتم خير أمة ، أو الناقصة والمعنى كنتم في علم الله خير أمة ، أو في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة و : { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } صفة لأمة ، واللام متعلقة بـ : { أُخْرِجَتْ } أي : أظهرت لهم حتى تميزت وعرفت ، وفصل بينها وبين غيرها . ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم : { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 79 ] { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [ النساء : 150 ] قال أبو السعود : { وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } أي : إيماناً متعلقاً بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب ، وحساب وجزاء . وإنما لم يصرح به تفصيلاً لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون ، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة ، وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى من شيء . قال تعالى : { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً } [ النساء : 150 - 151 ] وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع تقدمه عليهما وجوداً ورتبة ، لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به ما بعده - انتهى - .
روى ابن جرير أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه رأى من الناس رِعَةً ، فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ثم قال : من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدّ شرط الله فيها . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي : خياراً : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، أي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد روي في معنى الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وافرة ، منها ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن معاوية بن حيدة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل > . قال ابن كثير : وهو حديث مشهور ، وقد حسنه الترمذي ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد ونحوه . وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه أشرف خلق الله ، وأكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم ، لم يعطه نبي قبله ، ولا رسول من الرسل ، فالعمل على منهاجه وسبيله ، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه . وقد ذكر الحافظ ابن كثير ههنا حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وساق طرقه ومخرجيه فأجاد رحمه الله تعالى .
{ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } أي : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم : { لَكَانَ خَيْراً لَّهُم } أي : مما هم عليه ، إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العوض القليل الفاني والرياسة التافهة ، وتركهم الغنى الدائم ، والعز الباهر . ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً : { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ } أي : بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ولكنهم قليل : { وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة ، خفف سبحانه عن أوليائه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } [ 111 ]
.
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } أي : بألسنتهم لا يبالي به من طعن وتهديد : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ } أي : يوماً من الأيام : { يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ } يعني منهزمين مخذولين : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } يعني لا يكون لهم النصر عليكم ، بل تنصرون عليهم . وقد صدق الله ، ومن أصدق من الله قيلاً ؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك . قال ابن كثير : فإنهم يوم خيبر أذلهم الله ، وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة : بني قيقناع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، كلهم أذلّهم الله . وكذلك النصارى بالشام ، كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين . ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم ، وهم كذلك ، ويحكم بملة الإسلام ، وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
لطائف :
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا جزم المعطوف في قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ؟
قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟
قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتفٍ عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ، ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .
فإن قلت : فما الذي عطف عليه هذا الخبر ؟
قلت : جملة الشرط والجزاء . كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فما معنى التراخي في ثم ؟
قلت : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
قال الناصر بن المنير : وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى ، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة ، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقاً ، ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو . فإنها تستعار ههنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود ، كأنه قال : ثم ههنا ما هو أعلى في الامتنان ، وأسمح في رتب الإحسان ، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ 112 ]
.
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ } أي : أحيط بهم الهوان والصغار كما يحيط البيت المضروب بساكنه أينما وجدوا ، وقوله : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ } في محل النصب على الحال بتقدير : إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من الله ، وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين ، أي : لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية . كذا في " الكشاف " { وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ } أي : استوجبوه : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } أي : الفقر ، ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل : { ذَلِكَ } أي : ضربت المسكنة والذلة والغضب : { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : استكباراً وعتواً : { وَيَقْتُلُونَ الأنبياء } أي : الآتين من عند الله حقاً . ولما كانوا معصومين ديناً ودنياً قال : { بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : يبيح القتل : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي : ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة ، كما هو معلل بكفرهم وقتلهم الأنبياء ، فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل : ذلك إشارة إلى علة العلة ، وهو الكفر والقتل ، أي : حصلا منهم بسبب عصيانهم واعتدائهم ، فإن الإقدام على المعاصي ، والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر . قال الأصفهاني : قال أرباب المعاملات : من ابتلي بترك الآداب ، وقع في ترك السنن . ومن ابتلي بترك السنن ، وقع في ترك الفرائض ، ومن ابتلي بترك الفرائض ، وقع في استحقار الشرعية ، ومن ابتلي بذلك ، وقع في الكفر .
قال برهان الدين البقاعي رحمه الله تعالى : والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا . وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم ، لأنه قال في السفر الثاني : وقال الله جميع هذه الآيات كلها أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ولا يكون لك آلهة ، لا تعلمن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق ، وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ؛ لأني أنا الرب إلهك غيور آخذ الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحباري وحافظي وصاياي - انتهى - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ 113 ]
.
{ لَيْسُواْ سَوَاء } جملة مستأنفة سيقت تمهيداً للثناء على من أقبل على الحق من أهل الكتاب ، وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً ، وتذكيراً لقوله تعالى : { مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ } أي : ليس أهل الكتاب متساوين ومتشاركين في المساوئ ، ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .
في قوله تعالى : { قَآئِمَةٌ } وجوه :
الأول : أنها قائمة في الصلاة ، وعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] . وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } [ المزمل : 20 ] . وقوله : { قُمِ اللَّيْلَ } [ المزمل : 2 ] . وقوله : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] .
والثاني : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة في التمسك به ، كقوله : { إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً } [ آل عِمْرَان : 75 ] أي : ملازماً للاقتضاء ، ثابتاً على المطالبة . ومنه قوله تعالى : { قَائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عِمْرَان : 18 ] .
الثالث : أنها مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، والآناء : الأوقات ، واحدها إنا مثل معى وأمعاء وإني مثل نِحْي وأنحاء وقوله تعالى : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } جملة مستقلة مستأنفة ، ولست حالاً من فاعل : { يَتْلُونَ } لما صح في السنة من النهي عن التلاوة في السجود ، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إلا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم > . فمعنى الآية أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى ، يبتغون الفضل والرحمة كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] . وقوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 7 ] . ويحتمل أن يكون المعنى : وهم يصلون ، والصلاة تسمى سجوداً وسجدة كما تسمى ركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة . وعليه فالجملة يجوز فيها الوجهان ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده . ثم وصفهم تعالى بصفات أخر ، مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ 114 ]
.
{ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : على الوجه الذي نطق به الشرع . وظاهر أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله . والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي ، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } تعريض بمداهنة اليهود في الاحتساب ، بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل الله ، فإنه أمر بالمنكر ونهي عن المعروف ، وقوله تعالى : { وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } صفة أخرى جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير . والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه . وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها ، بل بمبادرتهم إلى الشرور : { وَأُوْلَئِكَ } أي : المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة : { مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : من عداد من صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه ، والوصف بالصلاح دال على أكمل الدرجات . فهو غاية المدح ، ولذا وصفت به الأنبياء في التنزيل :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } [ 115 ]
.
{ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ } أي : لن يعدموا ثوابه . وإيثار صيغة المجهول للجري على سنن الكبرياء . وقرئ الفعلان بالخطاب : { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } فيوفيهم أجورهم وهؤلاء الموصوفون هم المذكورون في آخر السورة { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [ آل عِمْرَان : 199 ] الآية .
تنبيه :
قال البقاعي : أرشد السياق إلى أن التقدير : وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات . وقال الرازي : لما قال تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } . كان تمام الكلام أن يقال : ومنهم أمة مذمومة إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر . وتحقيقه : أن الضدين يعلمان معاً . فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما ، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر ، قال أبو ذُؤَيب :
~دعاني إلهيا القلب إني لأمره مطيع فما أدرى أرشدٌ طِلاَبُها
أراد : أم غيّ ، فاكتفى بذكر الرشد عن الغي ، وهذا قول الفراء وابن الأنباري . وقال الزجاج : لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكرها قد جرى قبل ، ولأنا قد ذكرنا أن العلم بالضدين معاً ، فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر . كما يقال زيد وعمرو لا يستويان ، زيد عاقل ديّن ذكي ، فيغني هذا عن أن يقال : وعمرو ليس كذلك . فكذا ههنا . لما تقدم قوله : ليسوا سواء . أغنى عن ذلك الإضمار - انتهى ملخصاً - أقول : لا مانع من كون الآية الآتية هي الشق الثاني المقابل للأول . فإن عنوان الذين كفروا مقابل بمفهومه لما قبله كمالا يخفى . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 116 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ } أي : لن تدفع عنهم : { أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً } أي : من عذاب الله ، وإن كان التصدق بالأموال يطفئ غضب الرب في حق المؤمنين ، ويغفر لهم بموت أولادهم ، أو استغفارهم : { وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ولما بين تعالى أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً ، ثم إنهم ربما أنفقوها في وجوه الخيرات ، فيخطر في البال أنهم ينتفعون بها ، فأزال تلك الشبهة ، وضرب لها مثلاً بذهابها هباءً منثوراً بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 117 ]
.
{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } من المكارم ويواسون فيه من المغارم : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي : برد شديد كالصرصر : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله : { فَأَهْلَكَتْهُ } فكذا ريح الكفر إذا أصابت حرث إنفاق قومه تهلكه . فصار الظلم ريحاً لحصوله من هوى النفس ذات برودة شديدة لكونه ظلم الكفر الذي هو الموت المعنوي فأهلكته - قاله المهايمي - .
{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ } بإهلاك حرثهم بإرسال ريح من عنده : { وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بإرسال ريح الظلم الكفريّ على حرثهم الأخروي .
لطائف :
إن قيل : الغرض تشبيه ما أنفقوا في ضياعه ، بالحرث الذي ضربته الصرّ ، وقد جعل ما ينفقون ممثلاً بالريح ، فما وجه المطابقة للغرض ؟ أجيب : بأن هذا من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين ، وإن لم تحصل المشابهة بين أجزائيها ، والمقصود : تشبيه الحال بالحال ؛ ويجوز أن يراد : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح فتحصل المشابهة .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : والأقرب أن يقال أصل الكلام - والله أعلم - مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته ، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة ، وهو تقديم ما هو أهم ، لأن الريح التي هي مثل العذاب ، ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث . فقدمت عنايةً بذكرها ، واعتماداً على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه . ومثل هذا ، في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة ، قوله تعالى : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] الآية . ومثله أيضاً : أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، والأصل : أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وأن أدعم بها الحائط إذا مال ، وأمثال ذلك كثيرة والله الموفق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [ 118 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } أي : أصحاباً يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون .
قال الزمخشري : بطانة الرجل ووليجته : خصيصه وصفيّه الذي يفضي إليه بشُقُوره ثقة به . شبه ببطانة الثوب ، كما يقال : فلان شعاري - انتهى - ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن غيره : أفضيت إلي بشقوري - بضم الشين وقد تفتح - أي : أخبرته بأمري ، وأطلعته على ما أسره من غيره . وفي القاموس وشرحه : البطانة : الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال ، والوليجة : وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر . وقال الزجاج : البطانة الدخلاء الذين ينبسط إليهم ويستبطنون ، يقال : فلان بطانة لفلان ، أي : مداخل له موانس ، وهؤلاء المنهي عنهم ، إما أهل الكتاب ، كما رواه ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس : أنهم اليهود . وذلك لأن السياق في السورة ، والسباق معهم . وقد كان بين الأنصار وبين مجاوريهم من اليهود ما هو معروف من سابق الرضاع والحلف . وإما المنافقون لقوله بعد : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا } [ آل عِمْرَان : 119 ] . . . الخ ، وهذه صفة المنافقين ، كقوله تعالى في سورة البقرة : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } [ البقرة : 14 ] . . . الخ . وربما كان يغتر بعض المؤمنين بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار . وإما جميع أصناف الكفار وقوفاً مع عموم قوله تعالى : { مِنْ دُونِكُمْ } كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [ الممتحنة : 1 ] . ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة نصرانياً ، حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتباً ؟ فقال : قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين .
قال الرازي : فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي من اتخاذ النصراني بطانة .
وقال الحافظ ابن كثير : ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين ، وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب .
وقال السيوطي في " الإكليل " : قال الكيا الهراسي : في الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين - انتهى - .
ووجه ذلك ، كما قال القاشاني : أن بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره ، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة ، متحابين في الله لغرض . كما قيل في الأصدقاء : نفس واحدة في أبدان متفرقة . فإذا كان من غير أهل الإيمان ، فبأن يكون كاشحاً أحرى . ثم بين نفاقهم واستبطانهم العداوة بقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } أي : لا يقصرون بكم في الفساد .
قال القاشاني : لأن المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة . فلا تكون في غيرها لكونهم في عالم التضاد . بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الْإِنْسَاْنية لاشتراكهم في النوع والمنافع ، والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها . والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها ، بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلاً .
قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألوا : إذا قصر فيه . ثم استعمل معدّى إلى مفعولين . في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه . والخبال : الفساد : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي : عنتكم ، على أن ما مصدرية ، والعنت : شدة الضرر والمشقة ، أي : تمنوا ما يهلككم : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : ظهر البغض الباطن حتى خرج من أفواههم ، لأنهم لا يتمالكون ، مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها ، أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين . وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } مما ظهر ؛ لأن ظهوره ليس عن روية واختيار بل فلتة . ومثله يكون قليلاً : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } الدالة على سوء اتخاذكم إياهم بطانة لتمتنعوا منها ، فتخلصوا في الدين ، وتوالوا المؤمنين ، وتعادوا الكافرين : { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي : من أهل العقل . أو تعقلون ما بيّن لكم فعملتم به . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع هذه الجمل ؟ قلت : يجوز أن يكون لا يألونكم صفة للبطالة . وكذلك قد بدت البغضاء . كأنه قيل : بطانة غير آليكم خبالاً ، بادية بغضاؤهم . وأما قد بينا فكلام مبتدأ . وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة . ثم بين تعالى خطأهم في موالاتهم حيث يبذلونها لأهل البغضاء بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 119 ]
.
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم ولا يفعلون مثل ذلك بكم ، وقوله : { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } الواو للحال وهي منتصبة من ضمير المفعول في لا يحبونكم والمعنى : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فلا تنكرون منه شيئاً ، فليس فيكم ما يوجب بغضهم لك . فما بالكم تحبونهم وهم يكفرون بكتابكم كله ؟ .
ولم تجعل الواو للعطف على ولا يحبونكم أو تحبونهم كما ارتضاه أبو حيان لأنه في معرض التخطئة . ولا كذلك الإيمان بالكتاب فإنه محض الصواب . واعتذر له بأن المعنى : يجمعون بين محبة الكفار والإيمان وهما لا يجتمعان ، لبعده ، والحالية مقررة للخطأ فتأمل ، نقله الخفاجي .
قال الزمخشري : فيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . ونحوه : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا } نفاقاً وتغريراً : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } أي : من أجله ، تأسفاً وتحسراً . حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً . وعض الأنامل عادة النادم العاجز ، والمغتاظ إذا عظم حزنه على فوات مطلوبه . ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب . حتى يقال في الغضبان : إنه يعض يده غيظاً ، وإن لم يكن هناك عض : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ : زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله . وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار . كذا في " الكشاف " : { إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق . وهو يحتمل أن يكون من " المقول " أي : وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً . وأن يكون خارجاً عنه بمعنى : قل لهم ذلك لا تتعجب من إطْلاعي إياك على أسرارهم ، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم . وقيل : هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس ، وقوة الرجاء ، والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول . كأنه قيل : حدث نفسك بذلك - أفاده أبو السعود - ثم بين تعالى تناهي عداوتهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ 120 ]
.
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } بظهوركم على العدو ، ونيلكم الغنيمة ، وخصب معاشكم ، وتتابع الناس في دينكم : { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } بإصابة العدو منكم ، أو اختلاف بينكم ، أو جدب أو بلية : { يَفْرَحُواْ بِهَا } ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة .
لطيفة :
المس أصله باليد ، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا . والتعبير به في جانب الحسنة ، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن . وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله : { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [ التوبة : 50 ] وقوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] . وقال : { إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } [ المعارج 20 - 21 ] .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : يمكن أن يقال : المس أقل تمكناً من الإصابة ، وكأنه أقل درجاتها ، فكأن الكلام - والله أعلم - إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها . وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها ، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكّون عن حسدهم ، ولا في هذه الحال ، بل يفرحون ويسرون . والله أعلم - انتهى - .
وهذا من أسرار بلاغة التنزيل . فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن . فإذا ساءهم أقل خيرنا ، فغيره أولى ، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلاً . فكيف تتخذونهم بطانة ؟ . قال البقاعي : ولما كان هذا الأمر منكياً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } أي : تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب ، وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم ، والالتجاء إلى ولايتهم : { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه ، المستعين به لا بغيره : ظافر في طلبته ، غالب على خصمه ، محفوظ بحسن كلاءة ربه . والمستعين بغيره : مخذول موكول إلى نفسه ، محروم عن نصرة ربه ، أفاده القاشاني .
وقيل : المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به ، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال ، جريئاً على الخصم . الكيد : الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه : { إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قرئ بياء الغيبة ، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه . وبتاء الخطاب ، أي : بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله .
تنبيه مهم :
قال الرازي : إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز ، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، وذلك من صفات الأجسام ، لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء ، قادراً على كل الممكنات ، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ، ومنه قوله : { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [ البروج : 20 ] . انتهى .
أقول : ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث ، وأخذ خاصتها به ، وهو قياس مع الفارق . والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب ، لا من الوضع المحدث . فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني ، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني ، وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير " الرحمن الرحيم " من البسملة أول التنزيل الجليل . فارجع إليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 121 ]
.
{ وَإِذْ غَدَوْتَ } أي : خرجت : { مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ } أي : تنزل : { الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ } أي : أماكن ومراكز يقفون فيها : { لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ذهب الجمهور وعلماء المغازي إلى أن هذه الآيات نزلت في وقعة أحد ، والسر في سوق هذه الوقعة الأحدية وإيلائها البدرية ، وهو تقرير ما سبق . فإن المدعي فيما قبلها المساءلة بالحسنة والمسرة بالمصيبة ، وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدو ، إذا هم صبروا واتقوا ، والتغيير إذا غيروا . أي : اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أحد ، فأصيبوا ، وسرَّت الأعداء مصيبتكم ، وحين صبروا واتبعوا فنصروا وساء العدو نصرهم . وفي توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم تهييج لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل ، من غير أدنى وقوف مع المألوف كذا يستفاد من تفسير البقاعي .
وهذه الآية هي افتتاح القصة ، وقد أنزل فيها ستون آية ، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي في هذه الوقعة ، كما سيذكر ، وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور ، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر ، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ، وجاءوا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ، ولم ينل ما في نفسه ، أخذ يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، ويجمع الجموع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش . وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا ليحاموا عنهن ، ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريباً من جبل أحد ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه : أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة . وأن يتحصنوا بها ، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ ، وكان هو الرأي ، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، وأشاروا عليه بالخروج ، وألحوا عليه في ذلك ، فنهض ودخل بيته ، ولبس لأمته ، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الملحين ، وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج ، فقالوا : يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما ينبغي لنبي ، إذا لبس لأمته ، أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه > .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا وهو بالمدينة : رأى أن في سيفه ثلمة ، ورأى أن بقراً تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة . فتأول الثلمة في سيفه : برجل يصاب من أهل بيته ، وتأول البقر : بنفر من أصحابه يقتلون ، وتأول الدرع : بالمدينة . فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط ، بين المدينة وأحد ، انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس ، مغاضباً لمخالفة رأيه في المقام . فتبعهم عبد الله بن عَمْرو ، والد جابر ، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع . فرجع عنهم وسبَّهم ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى ، وسلك حرة بني حارثة ، ومر بين الحوائط ، وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به ، حتى نزل الشعب من أُحُد مستنداً إلى الجبل ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم ، فلما أصبح يوم السبت تعبّى للقتال وهو في سبعمائة . فيهم خمسون فارساً وخمسون رامياً وأمّر على الرماة عبد الله بن جيبر . وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم ، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر . وكانوا خلف الجيش . وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم . وظاهَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يومئذ ، وأعطى اللواء مصعب بن عُمَر ، وجعل على إحدى المجنّبتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى المنذر بن عَمْرو . واستعرض الشباب يومئذ . فرد من استصغره عن القتال . منهم عبد الله بن عُمَر وأسامة بن زيد وأسيد ابن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام . وأجاز من رآه مطيقاً . منهم سَمُرة بن جُنْدب ورافع بن خديج ، ولهما خمس عشرة سنة . فقيل : أجاز من أجازه ، لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ . وقالت طائفة : إنما أجاز من أجاز لإطاقته ، ورد من رد لعدم إطاقته ، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك . قالوا : وفي بعض ألفاظ لحديث ابن عمر : فلما رآني مطيقاً أجازني . وتبعت قريش للقتال ، وهم في ثلاثة آلاف ، وفيه مائتي فارس ، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عِكْرِمَة بن أبي جهل ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة " سِمَاك بن خرشة " ، وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب ، وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق ، واسمه : عبد بن عَمْرو بن صيفي ، وكان يسمى الراهب لترهبه وتنسكه في الجاهلية ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق . وكان رأس الأوس في الجاهلية . فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ، فخرج من المدينة ، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله ، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه . فكان أول من لقي من المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم . قالوا : لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق ! فقاتل المسلمين قتلاً شديداً ، وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس بلاء شديداً ، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتد القتال ، وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار ، فانهزمت أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم . فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه ، وقالوا : يا قوم ! الغنيمة ! الغنيمة ! فذكّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة ، فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر ، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة ، فكرَّ المشركون وقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم وهم ينتهبون ، فأحاطوا بهم ، واستشهد منهم من أكرمه الله ، ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل ، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة في رأسه ، يقال : إن الذي تولى ذلك عُتْبَةُ بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثي . وشد حنظلةُ الغسيل على أبي سفيان ليقتله ، فاعترضه شَدَّاد بن الأسود الليثي ، من شعوب ، فقتله . وكان جنباً . فأخبر سول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته . وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هناك ، فأخذ علي بيده ، واحتضنه طلحة حتى قام ، ومص الدم من جرحه مالك ابن سنان الخدري ، والد أبي سعيد ، ونشبت حلقتان من حلق المغفرة في وجهه صلى الله عليه وسلم ، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح . فندرت ثنيتاه فصار أهتم . ولحق المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . وكرّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن ، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون . وأبو دجانة يلي النبي صلى الله عليه وسلم بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان . فرجع وهي على وجنته ، فردها عليه السلام بيده فصحّت . وكانت أحسن عينيه . وانتهى النضر بن أنس جماعة من الصحابة وقد دهشوا ، وقالوا : قتل رسول الله ، فقال : فما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ، ووجد به سبعون ضربة ، وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها . وقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم . ونادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، لأن عَمْرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عُمَر ، يظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم . ووهن المسلمون لصريخ الشيطان . ثم إن كعب بن مالك الشاعر ، من بني سلمة ، عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنادى بأعلى صوته يبشر الناس . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : أنصت . فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب ، وأدركه أبي بن خلف في الشعب ، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة وطعنه بها في عنقه ، فكرّ أبيّ منهزماً . وقال له المشركون : ما بك من بأس . فقال : والله ! لو بصق علي لقتلني ، وكان صلى الله عليه وسلم قد توعده بالقتل . فمات عدو الله بسَرَف ، مرجعهم إلى مكة . ثم جاء عليّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجهه ونهض . فاستوى على صخرة من الجبل . وحانت الصلاة فصلى بهم قعوداً . وغفر الله للمنهزمين من المسلمين . ونزل : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [ آل عِمْرَان : 155 ] الآية . واستشهد نحو من سبعين . معظمهم من الأنصار . وقتل من المشركين اثنان وعشرون . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة . ويقال : إنه قال لعلي : لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا .
هذا ملخص هذه القصة . وقد ساقها بأطول من هذا أهل السير . وفيما ذكر كفاية . وأما ما اشتملت عليه من الأحكام والفقه والحكم والغايات المحمودة ، فقد تكفل بيانها الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فارجع إليه .
تنبيه :
فسر أكثر العلماء غدوت بأصلها ، وهو الخروج غدوة ، أي : بكرة . ثم استشلكوا أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير ، فكيف المطابقة ؟
فمنهم من أجاب بأنه المراد غدوة السبت ، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد ، إلا أنه لا يساعده من أهلك لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه .
ومنهم من قال : المراد : غدوة الجمعة أي : اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين ، ثم قال : وبنى من غدوت حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه ، فقال تبوئ المؤمنين أي : صبيحة يوم السبت .
وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدو بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة ، وكثيراً ما يستعمل كذلك .
ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ، ونصه : وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة ، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما ، كما يقال : أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى - انتهى - .
قال البقاعي : ولما كان رجوع عبد الله بن أبيّ المنافق ، كما يأتي في ضريح الذكر آخر القصة ، من الأدلة على أن المنافقين ، فضلاً عن المصارحين بالمصارمة ، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء ، مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل . كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد ، في غاية المناسبة . ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلاً من إذ غدوت دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 122 ]
.
{ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ } أي : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس : { أَن تَفْشَلاَ } أي : تكسلا وتجبنا وتضعفا لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم ، فعصمهما الله ، فمضيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا } ناصرهما ، ومتولي أمرهما ، فأمدهما بالتوفيق والعصمة { وَعَلَى اللّهِ } وحده دون ما عداه استقلالاً أو اشتراكاً : { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } في جميع أمورهم ، فإنه حسبهم ، والتوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه ، ولم يتوله بنفسه . وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الْإِنْسَاْن ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله ، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل . روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال : فيما نزلت : { إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا } - قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى : { وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا } .
أي لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية . وإن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 123 ]
.
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر . وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عَدداً وعُدداً ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة . ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين ، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد . وبدر موضع بين الحرمين ، إلى المدينة أقرب ، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخاً . أو اسم بئر هناك ، حفرها رجل اسمه بدر, وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته . وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر ، وكانت في شهر رمضان ، السنة الثانية من الهجرة . وكان سببها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيراً لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة . معها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش ، عميدهم أبو سفيان ، ومعه عَمْرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل .
فندب صلى الله عليه وسلم إلى هذه العير . وأمر من كان ظهره حاضراً بالخروج . ولم يحتفل في الحشد ، لأنه لم يظن قتالاً . وخرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، لم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسَان ، وكان معهم سبعون بعيراً يتعقبونها . واتصل خروجه بأبي سفيان ، فاستأجر ضمضم بن عَمْرو الغفاري ، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم . فنفروا وأوعبوا . وخرج صلى الله عليه وسلم لثمان خلون من رمضان ، واستخلف على الصلاة عَمْرو بن أم مكتوم ، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، ودفع إلى علي راية ، وإلى رجل من الأنصار راية أخرى ، يقال : كانتا سوداوين . وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة . وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ ، فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ، ثم انتهوا إلى صخيرات يمام ، ثم إلى بئر الروحاء ، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء . وبعث صلى الله عليه وسلم قبلها بسبس بن عَمْرو وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر ، يتجسسان أخبر أبي سفيان وعيره ، ثم تنكب عن الصفراء يميناً ، وخرج على وادي دقران ، فبلغه خروج قريش ونفيرهم ، فاستشار أصحابه ، فتكلم المهاجرون ، وأحسنوا ، وهو يريد ما يقول الأنصار ، وفهموا ذلك ، فتكلم سعد بن معاذ ، وكان فيما قال : لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله . فَسُرَّ بذلك وقال : < سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين > .
ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر ، وبعث علياً والزبير وسعداً في نفر يلتمسون الخبر . فأصابوا غلامين لقريش ، فأتوا بهما ، وهو صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، وقالوا : نحن سقاة قريش ، فكذبوهما ، كراهية في الخبر ، ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة ، فجعلوا يضربونهما فيقولان : نحن من العير . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم ، وقال للغلامين : أخبراني أين قريش ؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب وأنهم ينحرون يوماً عشراً من الإبل ويوماً تسعاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : < القوم ما بين التسعمائة والألف > .
وقد كان بسبس وعدي مضيا يتجسسان ولا خبر ، حتى نزلا وأناخا قرب الماء ، واستقيا في شن لهما ، ومجدي بن عَمْرو من جهينة يقربهما . فسمع عديّ جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها : العير تأتي غداً أو بعد غد ، وأعمل لهم وأقضيك الذي لك ، وجاءت إلى مجدي بن عَمْرو ، فصدقها . فرجع بسبس وعدّي بالخبر . وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر . فقال لمجدي : هل أحسست أحداً ؟ فقال : راكبين أناخا يميلان لهذا التل ، فاستقيا الماء ونهضا . فأتى أبو سفيان مناخهما . وفتت من أبعار رواحلهما . فقال : هذه والله علائف يثرب . فرجع سريعاً وقد حذر ، وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا . وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا .
فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، ونقيم به ثلاثاً ، وتهابنا العرب أبداً ، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة ، وكان حليفهم ومطاعاً فيهم , وقال : إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت ، فارجعوا . وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم ، فلم يشهد بدراً من قريش عدوي ولا زهري . وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر ، وثبطهم عنه مطر نزل وبلُه مما يليهم ، وأصاب مما يلي المسلمين دهس الوادي ، وأعانهم على السير . فنزل صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة ، فقال له الحُبَاب بن المنذر : الله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه ، أم قصدت الحرب والمكيدة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : < لا بل هو الرأي والحرب > . فقال : يا رسول الله ! ليس هذا بمنزل ، وإنما نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونبني عليه حوضاً ، ونملؤه ونعوِّر القُلُبَ كلها ، فنكون قد منعناهم الماء ، فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم بنوا عريشاً على تل مشرف على المعركة يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه النصر من ربه ، ومشى يريهم مصارع القوم واحداً وحداً .
ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يحزر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحزرهم وانصرف وخبرهم الخبر . ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ، ولا يكون الحرب ، فأبى أبو جهل ، وساعده المشركون ، وتواقفت الفئتان ، وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده ، ورجع إلى العريش ، ومعه أبو بكر وحده ، وطفق يدعو ويلح ، وأبو بكر يقاوله . ويقول في دعائه : اللهم ! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، اللهم ! أنجز لي ما وعدتني .
وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه ، وأخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتبه ، فقال : أبشر يا أبا بكر ! فقد أتى نصر الله . ثم خرج يحرض الناس . ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول : شاهت الوجوه . ثم تزاحفوا ، فحرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز ، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ، فقتل حمزةُ وعليٌ شيبةَ والوليدَ ، وضرب عتبة عبيدة ، فقطع رجله فمات ، وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه ، وقد كان برز إليهم عوف ومعاذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبو إلا قومهم . وجال القوم جولة ، فهزم المشركون . وقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً . وأسر سبعون . واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً . ثم انجلت الحرب ، وانصرف إلى المدينة ، وقسم الغنائم في الصفراء ، ودخل المدينة لثمان بقين من رمضان ، وبسط القصة في السير . ومن أبدعها سياقاً وفقها " زاد المعاد " فليرجع إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ } [ 124 ]
.
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم } لتقويتكم ونصركم ودفع أعدائكم : { بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ } من سمائه لقتال أعدائه . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ 125 ]
.
{ بَلَى } إما من تتمة مقوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، أو ابتداء خطاب من الله تعالى تأييداً لقول نبيه وزيادة على ما وعدهم تكرماً وفضلاً . أي : نعم يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف ، ولكنه يزيدكم : { إِن تَصْبِرُواْ } على قتالهم : { وَتَتَّقُواْ } الفرار عنهم : { وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا } أي : ساعتهم هذه فلا تنزعجوا بمفاجأتهم : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ } في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم : { مُسَوِّمِينَ } بكسر الواو أي : معلمين أنفسهم بأداة الحرب على عادة الفرسان يوم اللقاء ليعرفوا بها . وقرئ بفتح الواو ، أو معلَّمين من قبله تعالى . روى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : < هذا جبريل آخذ براس فرسه عليه أداة للحرب > .
تنبيه :
وفي وعده صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالإمداد بقوله : { إِذْ تَقُولُ } وجهان :
الأول : أنه كان في يوم بدر ، فإن سياق ما قبله يدل عليه وهو قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ } فإذ ظرف لنصركم ، أي : نصركم وقت قولك للمؤمنين وقد أظهروا العجز واستغاثوا ربهم . فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، على هذا الوجه ، وبين قوله في سورة الأنفال في قصة بدر : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] .
فالجواب : أن التنصيص على الألف ههنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها ، لقوله مردفين بمعنى يردفهم غيرهم ، ويتبعهم ألوف أخر مثلهم ، وذلك أنهم لما استغاثوا أمدهم بألف ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا ، وكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعاً وأقوى لتقويتهم ، وأسرها من أن يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ، ونزوله مرة بعد مرة . قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . ومما يؤيد هذا الوجه أن سياق بدر في الأنفال من قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ } [ الأنفال : 7 ] ، الآيات شبيهة بهذا السياق هنا ، كما يذوقه من تدبره .
الوجه الثاني : أن هذا الوعد كان يوم أحد ، فإن القصة في سياق أحد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً في أثنائها ؛ ليذكرهم بنعمته عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، وإنه كذلك هو قادر على نصرهم في سائر المواطن . ثم عاد إلى قصة أحد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : { أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ } الآية . ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف . فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف . وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذاك مطلق ، والقصة في هذه السورة هي قصة أحد مستوفاة مطولة ، وبدر ذكرت فيها اعتراضاً ، والقصة في الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة ، فالسياق هنا غير السياق في الأنفال - أشار لذلك ابن القيم في " زاد المعاد " .
وقد انتصر للوجه الأول العلامة أبو السعود ، وبين ضعف الثاني بأوجه وجيهة . فليرجع إليه .
ونقل الخازن عن ابن جرير أنه قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ } فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مدداً لهم ، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف ، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله .
ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ولا بالخمسة آلاف ، ولا على أنهم لم يمدوا بهم . وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم . وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك . ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أُمدوا بالثلاثة الآلاف . ولا بالخمسة الآلاف .
وغير جائز ، أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم به الحجة ، ولا خبر به كذلك ، فنسلم لأحد الفريقين قوله .
غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] .
فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا . وذلك أنهم لو أمدوا ، لم يهزموا ، وينال منهم ما نيل منهم .
فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره .
هذا هو نص ابن جرير . صفحة 180 - 181 من الجزء السابع طبعة المعارف .
فإن قلت : فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المروي في الصحيحين أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض ، كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ، يعني جبريل وميكائيل ؟ قلت : إنما كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد . انتهى .
فائدة :
الإمداد لغة : الإعانة . والمراد هنا إعانة الجيش . وهل إعانة الملائكة للجيش بالقتال معهم للحديث السابق . ولحديث عائشة في الصحيحين قالت : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل فقال : قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعناه ، اخرج إليهم ! قال : فإلى أين ؟ قال : ههنا - وأشار إلى بني قريظة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم - أو هي بتكثير سواد المسلمين وتثبيت قلوبهم ، كما قال تعالى في الأنفال : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } [ الأنفال : 12 ] . أو بهما معاً وهو الظاهر . وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة ، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه ، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي وأصحابه ، وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش ، رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده . والله فاعل الجميع - انتهى - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ 126 ]
.
{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ } أي : ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به ، فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم : { وَلِتَطْمَئِنَّ } أي : تسكن : { قُلُوبُكُم بِهِ } أي : فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم : { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ } وحده ، لا من الملائكة ولا من غيرهم ، فالأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير ، وفيه توثيق للمؤمنين ، وعدم إقناط من النصر عند فقدان أسبابه وأماراته : { الْعَزِيزِ } أي : الذي لا يغالب في حكمه : { الْحَكِيمِ } الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه حكمته الباهرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } [ 127 ]
.
{ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : ليهلك وينقص طائفة منهم بالقتل والأسر ، كما كان يوم بدر ، من قتل سبعين وأسر سبعين منهم ، واللام متعلقة ، إما بقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ } .
وما بينهما تحقيق لحقيقته ، وبيان لكيفية وقوعه - إما بما تعلق به الخبر في قوله تعالى : { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } من الثبوت والاستقرار : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي : يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة تقوية للمؤمنين : { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } أي : فيرجعوا منقطعي الآمال ، وإنما أوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [ 128 ]
.
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } اعتراضاً لئلا يغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى لنفسه تأثيراً في بعض هذه الأمور ، فيحتجب عن التوحيد ، أي : ليس لك من أمرهم شيء ، كيفما كان ، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار . إن عليك إلا البلاغ ، إنما أمرهم إلى الله - أفاده القاشاني - وفي الاعتراض تخفيف من حزنه لكفرهم ، وحرصه على هداهم ، كما قال : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . وقوله تعالى : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم للإسلام بعد الضلالة : { أَوْ يُعَذَّبَهُمْ } أي : في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أي : يستحقون ذلك لاستمرارهم على العناد .
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو لأحد, قنت بعد الركوع , فربما قال , إذا قال سمع الله لمن حمده : < اللهم ! ربنا ولك الحمد ، اللهم ! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة, اللهم ! اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف > يجهر بذلك ، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : < اللهم العن فلاناً وفلاناً > لأحياء من العرب حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } الآية .
وقد أسند ما علقه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر ، يقول : < اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً > . بعد ما يقول : < سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد > . فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } الآية ، ورواه الإمام أحمد عن ابن عمر أيضاً ولفظه : < اللهم العن فلاناً وفلاناً ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عَمْرو ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الآية > . فتيب عليهم كلهم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا حميد ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : < كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل > ، فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الآية - انفرد به مسلم . ورواه البخاري تعليقاً . وقد تقدم لنا في مقدمة التفسير تحقيق معنى سبب النزول ، وأن الآية قد تذكر استشهاداً في مقام ، لكونها مما تشمله . فيطلق الراوي عليها النزول فيه ، ولا يكون قصده أن هذا كان سبباً لنزولها ، والحكمة في منعه صلى الله عليه وسلم من الدعاء عليهم ظهرت من توبتهم أخيراً ، والإلحاح في الدعاء مظنة الإجابة ، ولاسيما من أشرف خلقه . فاقتضت حكمته تعالى إمهالهم إلى أن يتوبوا لسابق علمه فيهم . وفيه طلب التفويض في الأمور الملمة ، لما في طيّها من الأسرار الإلهية .
لطيفة :
قوله تعالى : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } منصوب بإضمار أن في حكم اسم معطوف بـ " أو " على الأمر أو على " شيء " ، أي : ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم .
أقول : جعل : { أَوْ يَتُوبَ } منصوباً بالعطف على يكبتهم بعيد جداً . وإن قدمه بعض المفسرين على الوجه المتقدم . وذلك لأن قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ } كلام مستأنف على ما صرحت به الروايات في سبب النزول . وهي المرجع في التأويل - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 129 ]
.
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } تقرير لما قبله من قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } ، أي : له ما فيهما ملكاً وأمراً : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } فيحكم في خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل : { وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون قوله : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } ، مع زيادة . وفي تخصيص التذييل به دون قرينة ، من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى - أفاده أبو السعود - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 130 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه ، كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول : إما أن تقضي حقي أو تربي وأزيد في الأجل . وفي ندائهم باسم الإيمان ؛ إشعار بأن من مقتضى الإيمان وتصديقه ترك الربا . وقد تقدم في البقرة من المبالغة في النهي عنه ما يروع من له أدنى تقوى . ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [ البقرة : 86 ] . وقوله : { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } أي : زيادات متكررة ، وليست لتقييد النهي به ، لما هو معلوم من تحريمه على كل حال ، بل لمراعاة عادتهم كما بينا . ومحله النصب على الحالية من الربا . وقرئ ضعفة : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } فيما تنهون عنه : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } بإيفاء حقوقكم وصونكم عن أعدائكم ، كما صنتم حقوق الأشياء . ومما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد ، ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن عَمْرو بن أقيش رضي الله عنه كان له رباً في الجاهلية ، فكره أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد ، فقال : أين بنو عمي ؟ قالوا : بأحد . قال : أين فلان ؟ قالوا : بأحد ، قال : فأين فلان ؟ قالوا : بأحد . فلبس لأمته ، وركب فرسه ثم توجه قبلهم . فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عَمْرو ! قال : إني قد آمنت ، فقاتل حتى جرح ، فحمل إلى أهله جريحاً ، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال لأخته : سليه حمية لقومك وغضباً لهم أم غضباً لله عز وجل ؟ فقال : بل غضباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم . فمات ، فدخل الجنة ، وما صلى لله عز وجل صلاة .
قال الدينوري : وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط ! فيسكت الناس ، فيقول أبو هريرة : هو أخو بني عبد الأشهل .
وعند ابن إسحاق : فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < إنه لمن أهل الجنة > ، فهذا ملخص ما أورده البقاعي رحمه الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ 131 ]
.
{ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه . روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 132 ]
.
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ } أي : في ترك الربا ونحوه : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ 133 ]
.
{ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } أي : إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار والتوبة والأعمال الصالحة . وقوله : { عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } أي : كعرضهما ، كما قال في سورة الحديد : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [ الحديد : 21 ] . وفي العرض وجهان :
الأول : أنه على حقيقته . وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها ، فإن العرض في العادة أدنى من الطول ، كما قال تعالى في صفة فرض الجنة : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق } [ الرحمن : 54 ] . أي : فما ظنك بظاهرها ؟ فكذا هنا .
والثاني : أنه مجاز عن السعة والبسطة . قال القفال : ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة أي : واسعة عظيمة . والأصل فيه : أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة . وقال الزمخشري : المراد وصفها بالسعة والبسطة . فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه . والله أعلم { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 134 ]
.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء } أي : في حال الرخاء واليسر : { وَالضَّرَّاء } أي : في حال الضيقة والعسر . وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس ، فمخالفتها فيه منقبة شامخة : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي : الممسكين عليه في نفوسهم ، الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه ، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه .
روى الإمام أحمد عن جارية بن قُدَامة السَّعدِي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قل لي قولاً ينفعني وأقلل عليّ لعلي أعيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تغضب > . فأعاد عليه . حتى أعاد عليه مراراً . كل ذلك يقول : < لا تغضب > - انفرد به أحمد - وروى من طريق آخر أن رجلاً قال : يا رسول الله أوصني ، قال : < لا تغضب . . > قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله : { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : ظلمهم لهم ، ولو كانوا قد قتلوا منهم ، فلا يؤاخذون أحداً بما يجني عليهم ، ولا يبقى في أنفسهم موجدة ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى : 37 ] . قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا . فنهى المؤمنون عن ذلك ، وندبوا إلى العفو عن المعسرين ، قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 280 ] . ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] . إلى قوله : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال : < لأمثلنّ بهم > . فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه ، والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفواً . قال تعالى في هذه القصة : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [ النحل : 126 ] - انتهى - .
وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر ؛ إذ لا تعيين : { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } اللام إما للجنس ، وهم داخلون فيه دخولاً أولياً . وإما للعهد ، عبر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله : < أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك > . والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها - أفاده أبو السعود - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 135 ]
.
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } من السيئات الكبار : { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } أي : بأي نوع من الذنوب : { ذَكَرُواْ اللّهَ } أي : تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه : { فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي : لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى .
قال البقاعي : ولما كان هذا مفهماً أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب ، أتبعه بتحقيق ذلك ، ونفى القدرة عليه عن غيره ، مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ } أي : يمحو آثارها حتى لا تذكر . ولا يجازي عليها : { إِلاَّ اللّهُ } أي : الملك الأعلى . وقال أبو السعود : { مَن } استفهام إنكاري . أي : لا يغفر الذنوب أحد إلا الله ، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء ، فيسارع إلى الجواب به ، والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة ، والجملة معترضة بين المعطوفين ، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه ، والإشعار بالوعد بالقبول .
وقال الزمخشري : في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه ، وجب العفو والتجاوز ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجلّ ، وكرمه أعظم ، والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة - انتهى - .
في ومسند الإمام أحمد عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : < عرف الحق لأهله > . وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .
وفيه أيضاً عن علي رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه , وإذا حدثني عنه غيري استحلفته , فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عليه حدثني , وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء , ثم يصلي ركعتين, فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له > , ورواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم . قال الترمذي : حديث حسن : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } أي : لم يقيموا : { عَلَى مَا فَعَلُواْ } أي : ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من فاعل يصروا أي : لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه , والنهي عنه, والوعيد عليه . والتقييد بذلك, لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح . وقد روى أبو داود والترمذي والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة > , وإسناده لا بأس به . قال ابن كثير : وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك - فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر, ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلي أبي بكر, فهو حديث حسن . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ 136 ]
{ أُوْلَئِكَ } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مرّ من الصفات الحميدة : { جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أي : ستر لذنوبهم : { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي : من أنواع المشروبات : { خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } المخصوص بالمدح محذوف ، أي : ذلك . يعني ما ذكر من المغفرة والجنات ، ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصد أُحُد ، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } [ 137 ]
.
{ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت : { مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي : وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين : { فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم [ في المطبوع : أهلاكهم ] : { فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } أي : وقيسوا بها عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال ، والأمر بالسير والنظر ؛ لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً في الاعتبار ، والروعة أقوى من أثر السماع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ 138 ]
.
{ هَذَا } أي : القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين : { بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } أي : تخويف نافع : { لِّلْمُتَّقِينَ } ثم شجع قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 139 ]
.
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ، ولا تحزنوا على من قتل منكم ، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم ، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم ، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق ، وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالنهي أو بالأعلون . وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه . أي : إن كنتم مؤمنين ، فلا تهنوا ولا تحزنوا ، فإن الإيمان يوجب قوة القلب ، والثقة بصنع الله تعالى ، وعدم المبالاة بأعدائه . أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون . فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة - أفاده أبو السعود - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ 140 ]
.
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } بالفتح والضم قراءتان ، وهما لغتان ، كالضَّعف والضُّعف ، أي : إن أصابكم يوم أحد جراح : { فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } أي : يوم بدر ، ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى ، لأنكم موعودون بالنصر دونهم ، أي : فقد استويتم في الألم ، وتباينتم في الرجاء والثواب ، كما قال : { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] . فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان ، وأنتم أصبتم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته . وقيل : كلا المسَّين كان يوم أحد ، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَتِلْكَ الأيَّامُ } أي : أيام هذه الحياة الدنيا : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } أي : نصرفها بينهم ، نديل تارة لهؤلاء ، وتارة لهؤلاء فهي عرض حاضر ، يقسمها بين أوليائه وأعدائه . بخلاف الآخرة ، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا .
قال ابن القيم قدس سره في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد :
ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة . فإنهم و انتصروا دائماً دخل معهم المسلمون وغيرهم ، ولم يميز الصادق من غيره . ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة . فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به ، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة - انتهى - .
وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } قال ابن القيم : حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم ، علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه ، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحسّ .
لطيفة :
في الآية وجهان :
أحدهما : أن يكون المعلل محذوفاً معناه : { وَلِيَعْلَمَ } الخ فعلنا ذلك .
الثاني : أن تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه - أفاده الزمخشري - .
تنبيه :
في هذه الآية بحث مشهور ، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ } [ آل عِمْرَان : 142 ] الخ . وقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 3 ] وقوله : { لِنَعْلَمَ أي : الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى } [ الكهف : 12 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] . وقوله : { إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } [ البقرة : 143 ] .
قال الرازي : وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها .
ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه ، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة :
منها : أنها من باب التمثيل . فالتقدير في هذه الآية : ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم .
ومنها : أن العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب ، أي : لميز الثابتين على الإيمان من غيرهم .
ومنها : أن العلم على حقيقته ، إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم ، من حيث إنه واقع موجود بالفعل ، أي : ليعلم الثابت واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد ، وهذا ما اعتمده ابن القيم كما نقلناه أولاً .
ومنها : أن الكلام على حذف مضاف . أي : ليعلم أولياء الله ، فأضاف إلى نفسه تفخيماً . والله أعلم .
ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } أي : وليكرم ناسا ًمنكم بالشهادة ليكونوا مثالاً لغيرهم في تضحية النفس شهادته للحق ، واستماتة دونه ، وإعلاء لكلمته ، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده ، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها ، وقد اتخذهم لنفسه ، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة . وفي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب ، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى . وقوله : { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } قال ابن القيم : تنبيه لطيف الموقع جداً على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ، ولم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لم يحبهم ، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم ، وما أعطاه من استشهد منهم ، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه . انتهى .
فالتعريض بالمنافقين ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم ، تنبيهاً على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم ، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين . ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ 141 ]
.
{ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس . وأيضاً فإن خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم . فحصل لهم تمحيصان : تمحيص من نفوسهم ، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدو . ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله : { وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } أي : يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا . فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنة الله تعالى ، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم . ومن أعظمها ، بعد كفرهم ، بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم . والمحق : ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء ، وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وأصروا على الكفر جميعاً ، ثم أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه ، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه : فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ 142 ]
.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : ولما يقع ذلك منكم فيعلمه ، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة . فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، لا على مجرد العلم ، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه - أفاده ابن القيم - .
وفي " الكشاف " : { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ } بمعنى : ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم ، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة ، لأنه منتف بانتفائه ، يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيراً ، يريد ما فيه خير حتى علمه ، ولما بمعنى لم ، إلا أن فيها ضرباً من التوقع ، فدل على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدني أن يفعل كذا ولما . تريد : ولما يفعل ، وأنا أتوقع فعله .
لطيفة :
قال أبو مسلم في : { أَمْ حَسِبْتُمْ } : إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1 - 2 ] . وافتتح الكلام بذكر أم التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين ، يشك في أحدهما لا بعينه . يقولون : أزيداً ضربت أم عمراً ؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما . قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا } كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ! . وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب أصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا ، فلما كان كذلك ، فمن البعيد أن يصل الْإِنْسَاْن إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة - انتهى - .
ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [ 143 ]
.
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ } أي : الحرب ، فإنها من مبادئه ، أو الموت على الشهادة : { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } أي : تشاهدوه وتعرفوا هوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أي : ما تتمنونه من أسباب الموت ، أو الموت بمشاهدة أسبابه العادية ، أو قتل إخوانكم بين أيديكم : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } حال من ضمير المخاطبين ، وفي إيثار الرؤية على الملاقاة ، وتقييدها بالنظر ، مبالغة في مشاهدتهم له .
قال ابن عباس : لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة ، رغبوا في الشهادة ، فتمنوا قتالاً يستشهدون [ في المطبوع : يشهدون ] فيه فيلحقون إخوانهم ، فأراهم الله ذلك يوم أحد ، وسببه لهم ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم ، فأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ } الآية . وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف > .
قال أهل المغازي : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، أقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذبّ عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وهو يومئذ صاحب رايته ، فقتله ابن قميئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع فقال : قد قتلت محمداً ، وصرخ الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل . فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال . ففي ذلك أنزل الله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [ 144 ]
.
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } والرسل منهم من مات ، ومنهم من قتل ، فلا منافاة بين الرسالة والقتل والموت ، إذ : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } فسيخلو كما خلوا : { أَفَإِن مَّاتَ } أي : أتؤمنون به في حال حياته ، فإن مات : { أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ } أي : ارتددتم : { عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : بعد علمكم بخلو الرسل قبله ، وبقاء دينهم ، متمسكاً به : { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً } وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب : { وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } بالنصر والغلبة في الدنيا ، والثواب والرضوان في الآخرة ، وهم الذين لم ينقلبوا ، بل قاموا بطاعته ، وقاتلوا على دينه ، واتبعوا رسوله حياً وميتاً . وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام الذي هو أجلّ نعمة وأعزّ معروف . والمعنى : أن من كان على يقين من دينه ، وبصيرة من ربه ، لا يرتد بموت الرسول وقتله ، ولا يفتر عما كان عليه ، لأنه يجاهد لربه لا للرسول ، كأصحاب الأنبياء السالفين ، كما قال أنس عم أنس بن مالك ، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر ، وانهزم المسلمون ، وبلغ إليه تفاؤل بعضهم : ليت فلاناً يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وقول المنافقين : لو كان نبياً ما قتل : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد حي لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء ، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل - أفاده القاشاني - .
روى ابن أبي نَجِيْح عن أبيه أن رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلّغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : { وَمَا مُحَمَّدٌ } الآية . ورواه أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " :
ومنها : أي : من الغايات في هذه الغزوة أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل . بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ، يموتوا عليه ويقتلوا ، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت . فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه ، وما جاء به ، فكل نفس ذائقة الموت ، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد ، لا هو ولا هم ، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ، فإن الموت لا بد منه ، فسواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي ، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأن محمداً قد قتل ، فقال : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } الآية - والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا ، فظهر أثر هذا العتاب ، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتد من ارتد على عقبيه ، وثبت الشاكرون على دينهم ، فنصرهم الله وأعزهم ، وأظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم - انتهى - .
وثبت في الصحيح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم . وتلاها منه الناس كلهم ، والحديث مشهور . ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفس أجلاً ، لا بد أن تستوفيه وتلحق به ، فيرد الناس كلهم حوض المنايا مورداً واحداً ، وإن تنوعت أسبابه ، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } [ 145 ]
.
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : بأمره وإرادته : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : كتب لكل نفس عمرها كتاباً مؤقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر . وفي الآية تشجع للجبناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه : { وَمَن يُرِدْ } أي : بعمله : { ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي : ما نشاء أن نؤتيه ، ولم يكن له في الآخرة من نصيب ، وهو تعريض بمن حضر لطلب الغنائم : { وَمَن يُرِدْ } أي : بعمله : { ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } ونظير هذه الآية قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . وقوله سبحانه : { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 18 - 19 ] .
واعلم أن الآية ، وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال ، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي ، لا ظواهر الأعمال . ثم نعى عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن [ في المطبوع : سسن ] الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية ، عليهم السلام ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ 146 ]
.
{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : كم من الأنبياء قاتل معهم ، لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، جماعتهم الأتقياء العباد : { فَمَا وَهَنُواْ } أي : ضعفوا : { لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } من الجراح وشهادة بعضهم ، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسوله : { وَمَا ضَعُفُواْ } أي : عن الجهاد أو العدو أوالدين : { وَمَا اسْتَكَانُواْ } للأعداء بل صبروا على قتالهم : { وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } على قتال أعدائه .
تنبيهات :
الأول : كأين بمعنى كم الخبرية ، وفيها لغات ، قرئ منها في السبع كائن ممدوداً مهموزاً لابن كثير . والباقون بالتشديد . وفيها كلام كثير في معناها ولغاتها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً ، وفي رسمها ، فانظر موادّ ذلك .
الثاني : قرئ في السبع : { قُتِلَ } بالبناء للمجهول ونائب الفاعل : { رِبِّيُّونَ } قطعاً . وأما احتمال أن يكون ضميراً لنبي ومعه ربيون حال ، أو يكون على معنى التقديم والتأخير ، أي : وكائن من نبي معه ربيون قتل ؛ فتكلفٌ ينبوا عن سُلَيم الأفهام . وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله . وإن نقله القفال ، ونصره السهيلي وبالغ فيه . فما كل سوداء تمرة .
الثالث : الربيون بكسر الراء قراءة الجمهور ، وقرئ بضمها وفتحها ، فالفتح على القياس ، والكسر والضم من تغييرات النسب ، وهم الربانيون ، أي : الذين يعبدون الرب تعالى .
ثم أخبر سبحانه ، بعد بيان محاسنهم الفعلية ، بمحاسنهم القولية ، وهو ما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم ، وأن ينصرهم على عدوهم ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 147 ]
.
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } أي : هؤلاء الربانيين ، مثل قول المنافقين ولا المعجبين . و : { قَوْلَهُمْ } بالنصب خبر لكان ، واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
قال ابن القيم : لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزموهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز لحد . وأن النصر منوط بالطاعة ، قالوا : { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } . ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى ، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم ، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم ، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يثبتوا ولم ينتصروا . فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضى ، وهو التوحيد ، والالتجاء إليه سبحانه . ومقام إزالة المانع من النصرة ، وهو الذنوب والإسراف - انتهى - .
قال القاضي : وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن ، سواء كان في الجهاد أو غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 148 ]
.
{ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } من النصر والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان ، وكفارة السيئات : { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم . وتخصيص وصف الحسن بثواب الآخرة للإيذان بفضله ومزيته ، وأنه المعتد به عنده تعالى ، بخلاف الدنيا ؛ لقلتها وامتزاجها بالمضار ، وكونها منقطعة زائلة : { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } إشارة إلى أن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان .
قال الرازي : فيه دقيقة لطيفة ، وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا } الآية - سماهم الله محسنين ، كأن الله تعالى يقول لهم : إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيباً لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز .
ثم حذرهم سبحانه ، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء المفضي لسعادة الدارين ، من طاعة عدوهم . وأخبر أنه إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة . وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } [ 149 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : إلى الشرك . والارتداد على العقب عَلَمٌ في انتكاس الأمر ، ومثلٌ في الحور بعد الكور : { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } لدين الإسلام ولمحبة الله ورضوانه وثوابه الدنيوي والأخروي . فلا تعتقدوا أنهم يوالونكم كما توالونهم . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار ، ولا يطيعوهم ، ولا يقبلوا مشورتهم ؛ خشية أن يستنزلوهم عن دينهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } [ 150 ]
.
{ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ } فأطيعوه : { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } ينصركم خيراً من نصرهم لو نصروكم ، وكيف لا يكون خير الناصرين وهو ينصركم بغير قتال ، كما وعد بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } [ 151 ]
.
{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } أي : الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حرمكم : { بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } أي : بكونه إلهاً أو متصفاً بصفاته أو مستحقاً للعبادة : { سُلْطَاناً } أي : حجة قاطعة ينبني عليها الاعتقادات : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } هي . والمثوى : المقر والمأوى والمقام . من ثوى يثوي .
لطائف :
الأولى : أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله ، وعلى قدر الشرك يكون الرعب . قال القاشاني : جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسبباً عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد ، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده . وأما المشرك فلأنه محجوب عن منيع القدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ، ولم ينزل الله بوجوده حجة ، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل .
وقال القفال رحمه الله : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك ، في قلوب الكافرين ، حتى يقهر الكفار ، ويظهر دينكم على سائر الأديان . وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل - انتهى - .
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة ، وأعطيت الشفاعة > .
الثانية : في ذكر عدم تنزيل الحجة مع استحالة تحققها في نفسها ، إشعار بنفيها ونفي نزولها جميعاً ، لأن ما لم ينزل به سلطاناً ، لا سلطان له .
الثالثة : قال أبو السعود : في الآية إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماوي ، دون الآراء والأهواء الباطلة .
وقد سبقه إلى ذلك الرازي حيث قال : هذه الآية دالة على فساد التقليد . وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه ، فوجب أن يكون القول به باطلاً ، وهذا إنما صح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته ، يكون باطلاً ، فيلزم فساد القول بالتقليد - انتهى - ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه ، وهو الصادق الوعد ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم ، ولكن انخلعوا عن الطاعة ، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر ، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفاً لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ 152 ]
.
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } في قوله : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } { إِذْ تَحُسُّونَهُم } أي : تقتلونهم قتلاً كثيراً . من حسه إذا أبطل حسه : { بِإِذْنِهِ } أي : بتيسيره وتوفيقه : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي : ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة : { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } أي : في الإقامة بالمركز ، فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة . أي : قوم ! الغنيمة . ظهر أصحابكم فما تنظرون ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين - رواه الإمام أحمد - .
والأمر إما بمعنى الشأن والقصة ، وإما الذي يضاده النهي أي : فيهم أمرتم به من عدم البراح : { وَعَصَيْتُم } أي : أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا ، فلا تعينونا - رواه البخاري - : { مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } أي : من الظفر والغنيمة ، وانهزام العدو . روى البخاري عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة ، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال : لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم - بلفظ ما تقدم - ثم قال البراء : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل ، رفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة . . الحديث { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } أي : الغنيمة فترك المركز { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } فثبت فيه ، وهم الذين نالوا شرف الشهادة ، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام ، القائل وقتئذ : اللهم ! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون ، فتقدم بسيفه ، فلقي سعد بن معاذ فقال : أين يا سعد ؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحُد ! فمضى فقتل ، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه ، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم - هذا لفظ البخاري - وأخرجه مسلم بنحوه ، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي : كفكم عنهم حتى حالت الحال ، ودالت الدولة . وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره ، وملتم إلى الغنيمة . ثم أعملهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } أي : تفضلاً عليكم لإيمانكم : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي : في الأحوال كلها ، إما بالنصرة [ و ] إما بالابتلاء ، فإن الابتلاء فضل ولطف خفي ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات في المواطن ، ويتمكنوا في اليقين ، ويجعلوه ملكة لهم ، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها ، ولا يذهلوا على الحق ، وليكون عقوبة عاجلة للبعض ، فيتمحصوا عن ذنوبهم ، وينالوا درجة الشهادة ، فيلقوا الله ظاهرين - أفاده القاشاني - .
لطائف :
الأولى : إذا في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } إما شرط ، أو لا . وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور . فتقديره على كونه محذوفاً : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منعكم الله نصره - لدلالة صدر الآية عليه - أو صرتم فريقين ، لأن قوله تعالى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ } الخ يفيد فائدته ويؤدي معناه ، وعلى كونه مذكوراً فهو إما : { وَعَصَيْتُمْ } والواو صلة ، وحكي هذا عن الكوفيين والفراء . قالوا : ونظيره قوله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ } [ الصافات : 103 - 104 ] . والمعنى : ناديناه .
وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب حتى إذا بدليل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] . أي : فتحت . وأجابوا عما أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه - إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها - بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان . ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه ، فلا لزوم . وإما قوله تعالى : { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } وكلمة ثم صلة - قاله أبو مسلم - .
وعلى الثاني : أعني كونها ليست شرطاً فهي اسم و حتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى : { صَدَقَكُمُ } باعتبار تضمنه لمعنى النصر ، كأنه قيل : لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم .
الثانية : فائدة قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد ، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام .
الثالثة : ظاهر قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } . أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة, لأنها لم تذكر , فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر .
الرابعة : في قوله تعالى : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن, فإن الذنب في الآية كان كبيرة - والله أعلم - .
ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 153 ]
إذ تصعدون متعلق بصرفكم أو بقوله ليبتليكم , أو بمقدر . والإصعاد : الإبعاد في الأرض . أي : تبعدون في الفرار, وقرئ : تَصعَدون ، من الثلاثي, أي : في الجبل : { وَلاَ تَلْوُونَ } أي : لا تعطفون بالوقوف : { عَلَى أحَدٍ } أي : من قريب ولا بعيد, من الدهش والروعة : { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي : ساقتكم وجماعتكم الأخرى, إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم . وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقاً بوعد الله ومراقبة له .
قال السدَي : لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد, فهزموهم, دخل بعضهم المدينة, وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : < إليَّ عَبَّاد الله ! إليَّ عَبَّاد الله ! > فذكر الله صعودهم إلى الجبل - ثم ذكر دعاء النبيَ صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ } الخ .
قال ابن كثير : وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد .
وفي حديث البراء رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبيَ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً . وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش : { فَأَثَابَكُمْ } أي : جازاكم بهذا الهرب والفرار : { غُمَّاً بِغَمٍّ } أي : غماً متصلاً بغم, يعني غم الهزيمة والكسرة, وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمداً قتل . وقيل : الباء بمعنى مع , وقيل : بمعنى على , وهما قريبان من الأول . وقيل : الباء للمقابلة والعوض , أي : أذاقكم عماً بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو عصيانكم أمره . قاله الزجاج . وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين, وقيل : المعنى غماً بعد غم أي : غماً مضاعفاً . ثم أشار إلى سر ذلك بقوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي : لتتمرنوا بالصبر على الشدائد, والثبات فيها, وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة, وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم, فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع . وقوله : { وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ } من الغموم والمضار .
قال العلامة ابن القيم في " زاد المعاد " : وقيل جازاكم غماً بما غممتم به رسوله بفراركم عنه, وأسلمتموه إلى عدوه . فالغم الذي حصل لكم جزاءً على الغم الذي أوقعتموه بنبيه . والقول الأول أظهر لوجوه :
أحدها : أن قوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ } تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم, وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر, وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح, فنسوا بذلك السلب, وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر .
الثاني : أنه مطابق للواقع, فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة, ثم أعقبه غم الهزيمة, ثم غم الجراح الذي أصابهم, ثم غم القتل ، ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم . وليس المراد غمين اثنين خاصة, بل غماً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان .
الثالث : أن قوله بغم من تمام الثواب, لا أنه سبب جزاء الثواب . والمعنى : أثابكم غماً متصلاً بغم, جزاء على ما وقع منكم من الهرب, وإسلامكم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وترك استجابتكم له وهو يدعوكم, ومخالفتكم له في لزوم مركزكم, وتنازعكم في الأمر وفشلكم . وكل واحد من هذه الأمور يوجب غماً يخصه, فترادفت عليهم الغموم, كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها . ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمراً آخر . ومن لطفه بهم, ورأفته ورحمته, أن هذه الأمور التي صدرت منهم كان من أمور الطباع, وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة, فقيض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل, فيترتب عليها آثارها المكروهة, فعلموا حينئذ أن التوبة منها, والاحتراز من أمثالها, ودفعها بأضدادها, أمرٌ متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به, فكانوا أشد حذراً بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها . وربما صحت الأجسام بالعلل .
لطيفة :
لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير, ويجوز أيضاً استعماله في الشر, لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب إليه عقله, أي : رجع إليه . قال تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } [ البقرة : 125 ] . والمرأة تسمى ثيَباً لأن الواطئ عائد إليها . وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله, سواء كان خيراً أو شراً, إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير . فإن حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام , وإن حملنا على مقتضى العرف كان ذلك وارداً على سبيل التهكم, كما يقال : تحيته الضرب وعتابه السيف, أي : جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عِمْرَان : 21 ] - قاله الرازي - .
تنبيه :
قال المفضل : لا زائدة, والمعنى : لتتأسفوا [ في المطبوع : للتأسفوا ] على مما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم, كقوله : { أَلَّا تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] , و : { لِئَلَّا يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] , أي : أن تسجد وليعلم .
وعندي أنه بعيد, لا سيما مع تكرار لا في المعطوف, واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها, فالوجه ما سلف .
{ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } خيراً وشراً, قادر على مجازاتكم, وفيه أعظم زاجر عن الإقدام على المعصية . ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته, وخفف عنهم ذلك الغم, وغيَّبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمناً منه, كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 154 ]
.
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً } أي : أمناً . والأمنة بتحريك الميم مصدر, يقال : أمن أمناً وأماناًَ وأمناً وأمنة محركتين وفي حديث نزول عيسى عليه السلام, وتقع الأمنة في الأرض, أي : الأمن . ومثله من المصادر العظمة والغلبة, وهو منصوب على المفعولية . وقوله تعالى : { نُّعَاساً } بدل من : { أَمَنَةً } وقيل : هو المفعول, و : { أَمَنَةً } حال أو مفعول له : { يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ } وهم المخلصون, أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق, والجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله . والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان, كما قال في سورة الأنفال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] الآية .
وروى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه . ورواه الترمذي والنسائي والحاكم . ولفظ الترمذي : قال أبو طلحة : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر ، وما منهم ويومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس . فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } . وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد :
منها : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم . وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى - انتهى - . ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه ، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، بقوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ } أي : ما بهم إلا هم أنفسهم وقد قصد خلاصها ، فلم يغشهم النعاس من القلق والجزع والخوف : { يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه : { ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كما قال تعالى في الآية الأخرى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } [ الفتح : 12 ] الآية . وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وأنه يسلمه للقتل . وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ، ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله ، ويظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح ، حيث يقول : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } [ الفتح : 6 ] . وإنما كان هذا ظن السوء ، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل ، وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وذاته المبرأة من كل سوء . بخلاف ما يليق بحكمته وحمده ، وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ، ولا يتم أمره ، ولا يؤيده ويؤيد جنده ، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ، ويظهرهم عليهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق ، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً - فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته . فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك ، ويأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به ، العادلين به - فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ، ولا عرف صفاته وكماله ، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة ، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها ، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب ، وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ، ولا أنشأها عبثاً ، ولا خلقها باطلاً : { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ] . وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ، ظن السوء ، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم . ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته . فمن قنط من رحمته ، وأيس من روحه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ، ويسوي بينهم وبين أعدائه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ، ولا ينزل عليهم كتبه ، بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه ، ولا اختيار له ، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ، يضلون بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته ، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، وينعم من استنفد عمره في داوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقتضي بقبح أحدهما وحسن الآخر - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به ، وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة ، وأشار إليه إشارات ملغزة ، لم يصرح به ، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل ، ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة ، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي ، أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه ، وصفاته على عقولهم وآرائهم ، لا على كتابه ، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل ، فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان - فقد ظن به ظن السوء . فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه ، فقد ظن بقدرته العجز . وإن قال : إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان ، وعن التصريح بالحق ، إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال ، والاعتقاد الفاسد - فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء . وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله ، وإن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم . وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال ، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق ، وهذا من أسوأ الظن بالله . فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء . ومن الظانين به غير الحق ، ظن الجاهلية . ومن ظن به يكون في ملكه ما يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد ، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه ، بائناً من خلقه ، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، ومن قال سبحان ربي الأسفل ، كمن قال سبحان ربي الأعلى - فقد ظن به أقبح الظن .
ثم قال : وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ، ووصفه به ورسله ، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ، ووصفته به رسله - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوسلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيدعونهم ، ويخافونهم ، ويرجونهم - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
ثم قال : ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه ، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله - فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله .
ثم قال : ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه ، ثم اتخذ من دونه ولياً ، ودعا من دونه ملكاً أو بشراً حياً أو ميتاً ، يرجوا بذلك أن ينفعه عند ربه ، ويخلصه من عذابه - فقد ظن به ظن السوء . وذلك زيادة في بعده من الله ، وفي عذابه . ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطاً مستقراً دائماً في حياته وفي مماته ، وابتلاه بهم لا يفارقونه . فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته ، وظلموا أهل بيته ، وسلبوهم حقهم ، وأذلوهم ، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائماً من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق ، وهو يرى قهرهم لهم ، وغصبهم إياهم حقهم ، وتبديلهم دين نبيهم ، وهو يقدر على نصر أوليائه ، وحزبه وجنده ، ولا ينصرهم ولا يديلهم ، بل يديل أعدائهم عليهم أبداً ، أو أنه لا يقدر على ذلك ، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته ، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه ، وسواء قالوا : إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر ، أو أنه غير قادر على ذلك . فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده ، وذلك من ظن السوء به . ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك ، غير محمود عندهم ، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك ، لكن رَفَوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، فقالوا : لم يكن هذا بمشيئة الله ، ولا قدرة على دفعه ونصر أوليائه ، فإنه لا يقدر على أفعال عباده ، ولا يدخل تحت قدرته ، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم . وكل مبطر وكافر ومبتدع ومقهور مستذل ، فهو يظن بربه هذا الظن ، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه ، فأكثر الخلق ، بل كلهم ، إلا من شاء الله ، يظنون بالله غير الحق وظن السوء . فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ، ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه ، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها ، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشته ، لرأيت عنده تعتباً على القدر ، وملامة له ، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك :
~فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً
فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت ، من ظنه بربه ظن السوء . وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ، ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم ، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين ، الغني الحميد ، الذي له الغنى التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء ، في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه . فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه ، وصفاته كذلك ، وأفعاله كذلك ، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل . وأسماؤه كلها حسنى . والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } .
ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } أي : هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء ، استفهام على سبيل الإنكار . أي : ما لنا أمر يطاع . ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [ آل عِمْرَان : 168 ] . وذلك أن عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة ، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، كما تقدم . ولما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه ، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج ، قال : هل لنا من الأمر شيء ؟ يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقبل قولي حين أمرته بأن يبقى في المدينة ولا يخرج منها : { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } أي : التدبير كله لله ، فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له .
قال الإمام ابن القيم قدس الله روحه : ليس مقصودهم بقولهم : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } وقولهم : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } . إثبات القدر ، ورد الأمر كله إلى الله . ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه ، لما حسن الرد عليهم بقوله : { إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية . ولهذا ، قال غير واحد من المفسرين : إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر ، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعاً لهم ، ويسمعون منهم ؛ لما أصابهم القتل ، ويكون النصر والظفر لهم . فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل ، الذي هو ظن الجاهلية ، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل ، الذين يزعمون ، بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه ، أنهم كانوا قادرين على دفعه ، أن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء ، فأكذبهم الله بقوله : { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } . فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره ، وجرى به علمه وكتابه السابق ، وما شاء الله كان ولا بد ، شاء الناس أم أبوا . وما لم يشأ لم يكن ، شاء الناس أو لم يشاؤوه . وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل ، فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه ، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن ، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم ، لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد . سواء أن يكون لهم من الأمر شيء أو لم يكن . وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة ، الذين يجوّزون أن يقع ما لا يشاؤه الله ، وأن يشاء ما لا يقع - انتهى - .
{ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم } أي : يضمرون فيها ، أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية : { مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } لكونه لا يرضاه الله تعالى . ثم بين ذلك بعد إجماله فقال : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ } أي : المسموع : { شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَهُنَا } أي : ما غلبنا ، أو ما قتل من قتل منا ، لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو . ولما أخبر تعالى بما أخفوه جهلاً منهم ، ظناً أن الحذر يغني من القدر ، أمره تعالى بالرد عليهم بقوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ } أي : أجمع رأيكم على أن لا تبرحوا من منازلكم أنتم والمقتولون : { لَبَرَزَ } أي : خرج : { الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ } في اللوح المحفوظ : { إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } أي : التي قدر الله قتلهم فيها ، ولم يثبتوا في ديارهم ، لأنه يوقع في قلوبهم الخروج إمضاء لقدره وحكمه المحتوم الذي لا يقع خلافه ولا يرد ، لقوله : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] . وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة ، حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل ، بل عين مكانه أيضاً . وفي التعبير بمضاجعهم من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } أي : ليعاملكم معاملة الممتحن ، ليستخرج ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ، ليجعله حجة عليكم ، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً ، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه ؛ وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية ، للإيذان بكثرتها . كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي . . . الخ ، أو لفعل مقدر بعدها ، أي : وللابتلاء المذكور فعل ما فعل ، لا لعدم العناية بأمر المؤمنين . وجعلها عللاً لبرز يأباه الذوق السليم . فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول ، لا بيان حكمة البروز المفروض - أفاده أبو السعود - ثم ذكر تعالى حكمة أخرى بقوله : { وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : يخلصه وينقيه ويهذبه ، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع ، وميل النفوس ، وحكم العادة ، وتزيين الشيطان ، واستيلاء الغفلة - ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى . فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص منه ، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقضي لها من المحن والبلاء ، ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء ، إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده ، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك . فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة ، وقتل من قتل منهم ، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم . فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا . أفاده ابن القيم .
وقال القاشاني : البلاء سوط من سياط الله ، يسوق به عباده إليهم بتصفيتهم عن صفات نفوسهم ، وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم من الخلق إلى الحق . ولهذا كان متوكلاً بالأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لفضله : < ما أوذي نبي مثل ما أوذيت > . كأنه قال : ما صفى نبي مثل ما صفيت . ولقد أحسن من قال :
~لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده .
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : الضمائر الملازمة لها ، وعد ووعيد . ثم أخبر تعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم ، وأنه بسبب كسبهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 155 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ } أي : عن القتال ومقارعة الأبطال : { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } أي : جمع المسلمين وجمع المشركين : { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ } أي : حمله على الزلل بمكر منه . مع وعد الله بالنصر : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أي : بشؤم بعض ما اكتسبوه من الذنوب ، كترك المركز ، والميل إلى الغنيمة ، مع النهي عنه ، فمنعوا التأييد وقوة القلب . قال ابن القيم : كانت أعمالهم جنداً عليهم ازداد بها عدوهم قوة . فإن الأعمال جند للعبد ، وجند عليه ، ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره . فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه . فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاه من الخير والشر . والعبد لا يشعر ، أو يشعر ويتعامى . ففرار الْإِنْسَاْن من عدوه ، وهو يطيقه ، إنما هو بجند من عمله ، بعثه له الشيطان واستزله به ، ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله : { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } أي : بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ، ولا شك أنه كان عارضاً عفا الله عنه ، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها : { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 156 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم المنافقون القائلون : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ } أي : سافروا فيها للتجارة فأصيبوا بغرق أو قتل : { أَوْ كَانُواْ } أي : إخوانهم : { غُزًّى } جمع غاز فأصيبوا باصطدام أو قتل : { لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا } أي : مقيمين : { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } قال أبو السعود : ليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول ، بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه .
أقول : بل الآية تفيد الأمرين . أعني حفظ الاعتقاد المقصود أولاً وبالذات ، وحفظ المنطق مما يوقع في إضلال الناس ، ويخل بالمقام الإلهي ، كما بينته السنة ، وسنذكره في التنبيه الآتي .
وقوله : { لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ } أي : القول : { حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بقالوا على أن اللام لام العاقبة ، مثلها في : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] أي : قالوا ذلك واعتقدوه ، ليكون حسرة في قلوبهم . والمراد بالتعليل المذكور : بيان عدم ترتب فائدة ما, على ذلك أصلاً : { وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } رد لقولهم الباطل ، إثر بيان غائلته . أي : هو المؤثر في الحياة والممات وحده ، من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك ، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامها لموارد الحتوف ، ويميت المقيم مع حيازته لأسباب السلامة . وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال عند موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أَعْيَن الجبناء ! : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تهديد للمؤمنين في مماثلة من ذكر .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية أنه لا يجوز التشبه بالكفار . قال الحاكم : وقد يكون منه ما يكون كفراً . وفيها أيضاً دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل .
تنبيه :
أشعرت الآية بوجوب حفظ المنطق مما يشاكل ألفاظ المشركين من الكلمات المنافية للعقيدة الإسلامية كما ذكرنا . وقد عقد الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فصلاً في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ النطق واختيار الألفاظ قال :
كان صلى الله عليه وسلم يتخير في خطابه ، ويختار لأمته أحسن ألفاظ وأجملها وألطفها ، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش . إلى أن قال : ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر : لو أني فعلت كذا وكذا . وقال : < إنها تفتح عمل الشيطان > . وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة ، وهو أن يقول : قدر الله ، وما شاء فعل ، وذلك لأن قوله : لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه ، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة . فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته بلو . وفي ضمن لو ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه ، لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ، فإن ما وقع مما يتمنى خلافه ، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته . فإذا قال : لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع ، فهو محال ، إذ خلاف المقدّر المقضي محال . فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً . وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت لدفعت ما قدر عليّ . فإن قيل : ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضاً من القدر ، فهو يقول : لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء ، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد ، فكلاهما من القدر . قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه . وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحبّ الكيس ويأمر به . والكيس : هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير والأمر ، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان . فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأمانيّ الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل . ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما . وهو مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم والحزن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال . فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها لو ، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : < فإن لو تفتح عمل الشيطان > ، فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن المنى رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر ، وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تعرضه عن المعاصي ، ويحول بينها وبينه ، فيقع في المعاصي .
فجمع في هذا الحديث الشريف ، في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره . وهو مشتمل على ثمان خصال ، كل خصلتين منهما قرينتان فقال : < أعوذ بك من الهم والحزن > ، وهما قرينان . فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين : فإنه إما أن يكون سببه أمراً ماضياً ، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز . فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ، بل بالرضاء والحمد والصبر والإيمان بالقدر ، وقول العبد : قدر الله وما شاء فعل . وما يستقبل لا يدفع أيضاً بالهم . بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه ، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة ، ويستجن بجُنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له ، والرضا به رباً في كل شيء ، ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره . فإذا كان هكذا لم يرض به رباً على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق . . فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة ، بلا مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ، ويقطعان عليه طريق السير ، أو ينكسانه إلى وراء ، أو يعوقانه ويقفانه ، أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه وجدّ في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر ، بل إن عاقة الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده ، أنفع به من هذا الوجه ، وهذا من حكمة العزيز الحكيم ، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان ، والآلام القلبية ، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية . وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار . وإن أريد بها الخير ، كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن ، حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ، والأنس به ، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب الغالب عليه ، الذي متى فقده ، فقد قوته ، الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلا م التي هي أعظم أمراضه وأفسدها له ، إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر هيأه له ، فمنه الإيجاد ، ومنه الإعداد ، ومنه الإمداد . وإذا أقامه في مقام ، أي : مقام كان فبحمده أقامه فيه ، وحكمته إقامته فيه ، ولا يليق به غيره ، ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقاً هو للعبد ، فيكون بمنعه ظالماً ، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعطيه ، وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه ، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه ، على تعاقب الأنفاس . وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده ، فلم يمنع عبده ما العبد محتاج إليه بخلاً منه ولا نقصان من خزائنه ولا استئثاراً عليه بما هو حق للعبد . بل منعه ليرده إليه وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه ، وليذيقه بمرارة المنع ، حلاوة الخضوع ولذة الفقر . وليلبسه خلعة العبودية ، وليوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ، ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره . وأن منعه عطاء وعزله تولية ، وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية ، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه . وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه . وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه ، انتهى .
ثم أشار تعالى إلى أن الموت في سبيل الله ليس مما يوجب الحسرة حتى يحذر منه . بل هو مما يوجب الفرح والسرور فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ 157 ]
.
{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ } أي : فيه من غير قتال : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ } أي : لذنوبكم تنالكم : { وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي : الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها الفانية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ 158 ]
.
{ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } على أي : وجه كان حسب القضاء الأسبق : { لإِلَى الله } أي : الذي هو متوفيكم لا غيره : { تُحْشَرُونَ } فيجزيكم بأعمالكم .
لطائف :
الأولى : أطال نحاة المفسرين في قوله تعالى : { وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا } الخ . من الوجوه النحوية في إذا هنا ، وإنه ربما يتبادر أن الموقع لـ " إذ " لا لها ، حيث إن متعلقها وهو قالوا ماض . و إذا ظرف لما يستقبل . فمن قائل بأن إذا لحكاية الحال الماضية ، ومن قائل بأنها للاستمرار . وقيل : إن " كفروا " و " قالوا " مراد بهما المستقبل ، وفي كل مناقشات وتعسفات . والحق أنها تكون للمضي أيضاً . قال المجد الفيروز أبادي : وتجيء إذا للماضي كقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا } . فلا إشكال .
ونقل الرازي عن قطرب : أن كلمة إذ وإذا يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى . قال الرازي : وهذا الذي قال قطرب كلام حسن ، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى . ثم قال : وكثيراً أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجب منهم . فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلاً على صحته كان أولى . انتهى .
الثانية : المجهول على ضم الميم في قوله تعالى : { أو متُّم } وهو الأصل لأن الفعل منه يموت . ويقرأ بالكسر وهو لغة طائية . يقال مات يمات مثل خاف يخاف فكما تقول : خفت تقول : مت .
الثالثة : قدم القتل على الموت في الأولى لأنه أكثر ثواباً وأعظم عند الله . فترتيب المغفرة والحرمة عليه أقوى . وقدم الموت في الثانية لأنه أكثر . وهما مستويان في الحشر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [ 159 ]
.
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي : للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام ، وللمؤمنين عموماً كما قال تعالى : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] . وما مزيدة للتوكيد أو نكرة . ورحمة بدل منها مبين لإبهامها . والتنوين للتفخيم ، أي : ما لنت هذا اللين الخارق للعادة ، مع ما سبّب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة ، لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به ، إلا بسبب رحمة عظيمة : { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً } أي : سيء الخلق خشن الكلام : { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي : قاسيه وشديده . تعاملهم بالعنف والجفا : { لاَنفَضُّواْ } أي : تفرقوا : { مِنْ حَوْلِكَ } فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك . ولكن الله جعلك سهلاً سمحاً طلقاً ليناً لطيفاً باراً رؤوفاً رحيماً { فَاعْفُ عَنْهُمْ } أي : فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم : { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } إتماماً للشفقة عليهم : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } أي : أمر الحرب وغيره تودداً إليهم وتطييباً [ في المطبوع : وتطيباً ] لنفوسهم واستظهاراً بآرائهم وتمهيداً لسنة المشاورة في الأمة . وقد ساق العلامة الرازي وجوهاً أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم ، منها : أنه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان أكمل الناس عقلاً ، إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر بباله . لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال : أنتم أعرف بأمور دنياكم . ومنها : أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل لأنه صلى الله عليه وسلم محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله . وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات ، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . انتهى .
وقد ثبت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عدة أمور منها : أنه شاورهم في يوم بدر في الذهاب إلى العير . فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك ، وعن يمينك وشمالك مقاتلون . وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عَمْرو بالتقدم أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو . فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم . وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ . فأبى ذلك عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عُبَاْدَة ، فترك ذلك . وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لم نجيء لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قاله .
وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك : < أشيروا علي ، معشر المسلمين ، في قوم أبنوا أهلي ورموهم ، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء . وأبنوهم بمن ، والله ، ما علمت عليهم إلا خيراً > . واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها . فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها . أفاده الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى .
قال الخفاجي : في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم . وقال الرازي : دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي . والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، فلهذا كان مأموراً بالمشاورة ، انتهى .
وقال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصاً لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف : { فَإِذَا عَزَمْتَ } أي : بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } في الإعانة على إمضاء ما عزمت ، لا على المشورة وأصحابها . قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الْإِنْسَاْن نفسه ، كما يقول بعض الجهال ، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الْإِنْسَاْن الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 160 ]
.
{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ } كما نصركم يوم بدر : { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ } كما فعل يوم أحد : { فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ } استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر ذاتاً وصفة وبطريق المبالغة . وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله ، وترغيب في الطاعة ، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد . وتحذير من المعصية ، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان . كذا في " الكشاف " { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه - كذا في " الكشاف " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 161 ]
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } قرئ بالبناء للمعلوم ، أي : ما صح وما تأتّى لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم ، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ؛ وبالبناء للمجهول ، أي : ما صح أن ينسب إلى الغلول ويخوِّن . روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } ، في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ } الآية . قال الترمذي : حسن غريب . ورواه ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً ، ولفظه : اتهم المنافقون رسول الله بشيء فُقد ، فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ } الآية . وهذا تنزيه لمقامه صلى الله عليه وسلم الرفيع ، وتنبيه على عصمته . ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : بعينه ، حاملاً له على ظهره ، ليفتضح في المحشر ، كما روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : < لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً فقد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأقول [ في المطبوع : فأفول ] : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبغلتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً ، قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد بلغت > . لفظ مسلم . وروى البخاري عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له : كركرة فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها . وعن زيد بن خالد الجُهَنِي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < صلوا على صاحبكم > ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فقال : إن صاحبكم غلّ في سبيل الله ، ففتشنا متاعه ، فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين - أخرجه أبو داود والنسائي - وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عُبَاْدَة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول : < ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه . إياكم والغلول ، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر . فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم ، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ، ولا تأخذكم في الله لومة لائم > . وروى ابن ماجة بعضه . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال : حدثني عُمَر بن الخطاب قال : لما كان يوم خيبر ، أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : فلان شهيد . فلان شهيد . حتى أتوا على رجل فقالوا : فلان شهيد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة > . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا ابن الخطاب ! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون > ، قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون . وكذا رواه مسلم والترمذي . وروى أبو داود عن سَمُرة بن جُنْدب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالاً فينادي في الناس ، فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة . فقال : < أسمعت بلالاً ينادي ثلاثاً ؟ > قال : نعم . قال : < فما منعك أن تجيء ؟ > فاعتذر . فقال : < كن أنت تجيء به يوم القيامة ، فلن أقبله منك > .
تنبيه :
من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازاً عن الإتيان بإثمه تعبيراً بما غلّ عما لزمه من الإثم مجازاً . قال أبو مسلم : المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية . وقال أبو القاسم الكعبي : المراد أنه يشتهر بذلك ، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء . وناقشهما الرازي بأن هذا التأويل يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة ، إلا إذا قام دليل يمنعه منه ، وههنا لا مانع من الظاهر ، فوجب إثباته - انتهى . ومما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : < له رغاء ، له حمحمة . . . > الخ الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال .
{ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } تعطى جزاء ما كسبت وافياً ، وإنما عمم الحكم ولم يقل : ثم يوفى ما كسب ، ليكون كالبرهان على المقصود ، والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله ، فالغالّ ، مع عظم جرمه بذلك أولى : { وَهُمْ } أي : الناس المدلول عليهم بكل نفس : { لاَ يُظْلَمُونَ } فلا ينقص ثواب مطيعهم ، ولا يزاد في عقاب عاصيهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 162 ]
.
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ } بالطاعة : { كَمَن بَاء } رجع : { بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ } بسبب المعاصي كالغالّ ومن شاكله : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 163 ]
.
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ } أي : طبقات متفاوتة ، تشيبه بليغ ، ووجه ما بينهم من تباين الأحوال في الثواب والعقاب ، كالدرجات في تفاوتها علواً وسفلاً .
قال القاشاني : أي : كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات ، أو هم مختلفون اختلاف الدرجات .
{ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : بأعمالهم ، فيجازيهم على حسبها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [ 164 ]
.
{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ } أي : أنعم : { عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } أي : من جنسهم ، عربياً مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته ، والانتفاع به ، ولما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام خصوا بالذكر ، وإلا فبعثته صلى الله عليه وسلم إحسان إلى العالمين ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية ، لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي : { وَيُزَكِّيهِمْ } أي : يطهرهم من الذنوب والشرك بدعوته : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } أي : القرآن : { وَالْحِكْمَةَ } أي : السنة : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } أي : من قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وتزكيته : { لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي : ظاهر من عبادة الأوثان ، وأكل الخبائث ، وعدوان بعضهم على بعض ، وسواها ، فنقلوا ببعثته صلى الله عليه وسلم من الظلمات إلى النور ، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة ، فعظمت المنة لله تعالى عليهم بذلك . قال الرازي : وفي قوله تعالى : { مِّنْ أَنفُسِهِمْ } وجه آخر من المنة ، وذلك أنه صار شرفاً للعرب ، وفخراً لهم ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ } [ الزخرف : 44 ] . وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركاً فيه بين اليهود والنصارى والعرب ، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل . فما كان للعرب ما يقابل ذلك . فلما بعث الله محمداً ، وأنزل عليه القرآن ، صار شرف العرب ذلك زائداً على شرف جميع الأمم .
ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا القول أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 165 ]
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } الهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد ، أو على محذوف مثل : أفعلتم : كذا وقلتم . ولما ظرفه المضاف إلى أصابتكم ، أي : حين أصابتكم مصيبة ، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد ، والحال أنكم نلتم ضعفيها يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين : من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز ، فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات والمطاوعة .
قال ابن القيم : وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . وقال : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] فالحسنة والسيئة ههنا النعمة والمصيبة ، فالنعمة من الله منَّ بها عليك ، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك ، فالأول فضله ، والثاني عدله ، والعبد يتقلب بين فضله وعدله ، جارٍ عليه فضله ، ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضائه . وختم الآية الأولى بقوله : { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } بعد قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله ، وأنه عادل قادر ، وفي ذلك إثبات القدر والسبب . فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم ، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه ، فالأول ينفي الجبر ، والثاني ينفي القول بإبطال القدر ، فهو شاكل قوله : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 28 - 29 ] . وفي ذكر قدرته ههنا نكتة لطيفة ، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته ، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ، ولا تتكلوا على سواه ، كشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 166 ]
.
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد : { فَبِإِذْنِ اللّهِ } أي : فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار ، فالإذن هنا هو الإذن الكوني القدري ، لا الشرعي الديني ، كقوله في السحر : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] . ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير بقوله : { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [ 167 ]
.
{ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } أي : ليعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تميزاً ظاهراً : { وَقِيلَ لَهُمْ } عطف على : { نَافَقُواْ } داخل معه في حيز الصلة . أو كلام مبتدأ : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ } يعني إن لم تقاتلوا لوجه الله تعالى فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأموالكم : { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } أي : لكنه ليس إلا إلقاء النفس في التهلكة : { هُمْ } أي : بهذا القول : { لِلْكُفْرِ } في الظاهر : { يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } في الظاهر مع أنه لا إيمان لهم في الباطن أصلاً .
فائدتان :
الأولى : قال ابن كثير : استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان .
الثانية : قال الواحدي : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره ؛ لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم ، مع أنهم كانوا كافرين ، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله . انتهى .
{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أي : يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان ، وقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } تأكيد على حد : { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 168 ]
.
{ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أي : من أجل أقاربهم من قتلى أحد : { وَقَعَدُواْ } أي : والحال قد قعدوا عنهم خذلاناً لهم : { لَوْ أَطَاعُونَا } أي : في الرجوع : { مَا قُتِلُوا } كما لم نقتل : { قُلْ } كأنكم تزعمون ادعاء القدرة على دفع الموت : { فَادْرَؤُوا } أي : ادفعوا : { عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } أي : فإنها أقرب إليكم من أنفسهم : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أن الموت يغني منه حذر ، والمعنى : أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً عليكم ، لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود ، مع كتابته عليكم ، فإن ذلك مما لا سبيل إليه .
قال ابن القيم : وكان من الحكمة تقديره تعالى في هذه الواقعة تكلم المنافقين بما في نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مواد النفاق ، وما يؤول إليه ، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة . فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة . فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف ، وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ 169 ]
.
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً } كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذّرون الناس منه ، ليس مما يحذر ، بل هو من أجلّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني ، أي : لا تحسبنهم أمواتاً تعطلت أرواحهم : { بَلْ } هم : { أَحْيَاء } فوق الدنيا لأنهم مقربون : { عِندَ رَبِّهِمْ } إذ بذلوا له أرواحهم ، لا بمعنى بقاء أرواحهم ورجوعها إليه ، لمشاركة أرواح غيرهم في ذلك ، بل بمعنى أنهم : { يُرْزَقُونَ } رزق الأحياء ، لا رزقاً معنوياً ، بل حقيقياً . كما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش . فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم ، وحسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب . فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } > الخ . هكذا رواه الإمام أحمد ؛ ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه . وأخرج مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ } الخ . فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي : شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الشهداء على بارق - نهر بباب الجنة - فيه قبة خضراء ، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكره وعشية > - تفرد به أحمد - ورواه ابن جريج بإسناد جيد .
قال ابن كثير : وكأن الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر ، فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح - والله أعلم - ثم قال : وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن ، بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعدّ الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتعبة ، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه > . قوله : يعلق أي : يأكل . وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة ، وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم ، في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين ، فإنها تطير بأنفسها . فنسأل الله الكريم المنان ، أن يميتنا على الإيمان - انتهى - .
تنبيه :
قال الواحدي : الأصح في حياة الشهداء ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن أرواحهم في أجواف طير خضر ، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون .
وقال البيضاوي : الآية تدل على أن الْإِنْسَاْن غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتأمله والتذاذه ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه وتعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [ غافر : 46 ] الآية . وحديث : < أرواح الشهداء في أجواف طير . . > الخ .
قال الشهاب : يعني ليس الْإِنْسَاْن مجرد البدن بدون النفس المجردة ، بل هو في الحقيقة النفس المجردة ، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق بها ، وهو جوهر مدرك لذاته ، أي : من غير احتياج إلى هذا البدن ، لوصفه بعد مفارقته بالتنعم ونحوه - انتهى .
وقال أبو السعود : في الآية دلالة على أن روح الْإِنْسَاْن جسم لطيف ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه . ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول : المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيوراً خضراً أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر - انتهى .
وقد أسلفنا في سورة البقرة ، في مثل هذه الآية ، زيادة على ذلك . فتذكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 170 ]
.
{ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان الذين لا يغتم فيه بسلبه : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ } أي : بإخوانهم المجاهدين الذين : { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يقتلوا فيلحقوا بهم : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بيلحقوا والمعنى : أنهم بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم . أو لم يلحقوا بهم : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل من الذين ، بدل اشتمال مبين أن استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم ، والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين . وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة ، بشرهم الله بذلك ، فهم مستبشرون به . وفي ذلك حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 171 ]
.
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : يسرون بما أنعم الله عليهم ، وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة ، وتوفير أجرهم عليهم .
قال أبو السعود : كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن ، بل به وبما يقارنه ، من نعمة عظيمة ، لا يقادر قدرها ، وهي ثواب أعمالهم . ثم قال : والمراد بالمؤمنين : إما الشهداء ، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو ربتة الإيمان ، وكونه مناطاً لما نالوه من السعادة . وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم ، ذكرت توفية أجورهم على إيمانهم ، وعدت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين - انتهى - .
وقال ابن القيم : إن الله تعالى عزّى نبه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم بقوله : { وَلَا تَحْسَبَنَّ } الآيات - فجمع لهم إلى الحياة الدائمة ، منزلة القرب منه ، وأنهم عنده ، وجريان الرزق المستمر عليهم ، وفرحهم بما آتاهم من فضله ، وهو فوق الرضا ، بل هو كمال الرضا ، واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم ، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته ، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو أعظم منة [ في المطبوع : منه ] ونعمة عليهم ، التي قابلوا بها كل محنة تنالهم وبيلة تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ، ولم يبق لها أثراً البتة ، وهي منّته ، عليهم بإرسال رسول من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال ، الذي كانوا فيه قبل إرساله ، إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى الفلاح ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن الجهل إلى العلم . فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له ، أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير . كما ينال الناس بأذى المطر ، في جنب ما يحصل لهم به من الخير . وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ، ليحذروا ، وأنها بقضائه وقدره ، ليوحدوه ويتكلوا عليه ، ولا يخافوا غيره ، وأخبرهم بما له فيها من الحكم لئلا يتهموا في قضائه وقدره ، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه . وسلاّهم بما أعطاهم مما هو أجلّ قدراً وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة ، وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته ، لينافسوا فيه ، ولا يحزنوا عليهم ، فله الحمد كما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعز جلاله .
ثم قال ابن القيم : ولما انقضت الحرب ، انكفأ المشركون ، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال ، فشق ذلك عليهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : < اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون ، فإن هم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا ركبوا الخيل ، وساقوا الإبل ، فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده ! لئن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزهم فيها > . قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة . ولما عزموا على الرجوع إلى مكة ، أشرف على المسلمين أبو سفيان ، ثم ناداهم : موعدكم الموسم ببدر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قولوا نعم قد فعلنا > . قال أبو سفيان : فذلكم الموعد . ثم انصرف هو وأصحابه ، فلما كان في بعض الطريق ، تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً ! أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم ، وقال : < لا يخرج معنا إلا من شهد القتال > ، فقال له عبد الله بن أبيّ : أركب معك ، قال : لا . فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف ، وقالوا : سمعاً وطاعة ، واستأذنه جابر بن عبد الله وقال : يا رسول الله ! إني أحب أن لا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته ، فَأْذن لي أسير معك ، فأذن له ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأقبل مَعْبَد بن أبي مَعْبَد الخُزَاعِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم . فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله ، فلحقه بالروحاء - ولم يعلم بإسلامه - فقال : ما وراءك يا مَعْبَد ؟ فقال : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم ، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله ، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم . فقال : ما تقول ؟ فقال : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة ، فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم ، قال : فلا تفعل ، فإني لك ناصح ، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة - انتهى - وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 172 ]
.
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } أي : دعوة الله ورسوله إلى الخروج في طلب أبي سفيان إرهاباً له : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } بأحد : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } بطاعته : { وَاتَّقَواْ } مخالفته : { أَجْرٌ عَظِيمٌ } روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية ، قالت لعروة : يا ابن أختي كان أبواك منهم : الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما . لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابهم يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : من يذهب في أثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير ، قال أبو هشام : ولما ثنى مَعْبَد أبا سفيان ومن معه ، كما تقدم ، مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة ، قال : ولمَ ؟ قالوا : نريد الميرة ، قال : فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه ، وأحمل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالا : نعم ، قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد جمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا والله ونعم الوكيل ، فأنزل الله تعالى في ذلك :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ 173 ]
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } أي : الركب المستقبل لهم : { إِنَّ النَّاسَ } أي : أبا سفيان وأصحابه : { قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } أي : الجموع ليستأصلوكم : { فَاخْشَوْهُمْ } ولا تأتوهم : { فَزَادَهُمْ } أي : ذلك القول : { إِيمَاناً } أي : تصديقاً بالله ويقيناً . والمعنى : أنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا ، بل ثبت به عزمهم على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه . وفي الآية دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصاناً ، فإن ازدياد اليقين بتناصر الحجج ، وكثرة التأمل ، مما لا ريب فيه : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } أي : كافينا أمرهم من غير عدة لنا ولا عدد : { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } أي : الموكول إليه والمفوض إليه الأمر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [ 174 ]
.
{ فَانقَلَبُواْ } أي : رجعوا من حمراء الأسد : { بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ } يعني : العافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي : لم يصبهم قتل ولا جراح : { وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ } أي : في طاعة رسوله بخروجهم وجراءتهم : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } حيث تفضل عليهم بالعافية وما ذكر معها ، وبالحفظ عن كل ما يسوؤهم . وفي تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به .
فائدة :
قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة .
تنبيه :
حمل الآية على غزوة حمراء الأسد ، هو ما قاله الحسن وقتادة وعكرمة وغير واحد . وروي أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى . قال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : في قوله تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } الآية ، أن أبا سفيان قال ، لما انصرف من أحد : موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < عسى ! > فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً ، فوافقوا السوق فيها ، فابتاعوا ، فذلك قوله تعالى : { فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ } الآية - قال : وهي غزوة بدر الصغرى - رواه ابن جرير - وأخرج أيضاً عن ابن جريج قال : لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش ، فيقولون : قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم , فيقول المؤمنون : { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } حتى قدموا بدراً ، فوجدوا أسواقها عافية ، لم ينازعهم فيها أحد .
وروى البيهقي عن عِكْرِمَة عن ابن عباس في قوله : { فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ } قال : النعمة أنهم سلموا ، والفضل أن عيراً مرت في أيام الموسم ، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً ، فقسمه بين أصحابه .
قال ابن القيم في " الهدى " : إن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد : موعدكم وإيانا العام القابل ببدر ، فلما كان شعبان ، وقيل : ذو القعدة من العام القابل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة ، وكانت الخيل عشرة أفراس ، وحمل لواءه علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة ، فانتهى إلى بدر ، فأقام به ثمانية أيام ينتظر المشركين ، وخرج أبو سفيان بالمشركين من مكة ، وهم ألفان ، ومعهم خمسون فرساً ، فلما انتهوا إلى مرّ الظهران ، مرحلة من مكة ، قال لهم أبو سفيان : إن العام عام جدب ، وقد رأيت أن أرجع بكم ، فانصرفوا راجعين ، وأخلفوا الموعد ، فسميت هذه بدر الموعد ، وتسمى بدر الثانية - انتهى - .
قال ابن كثير : والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 175 ]
.
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : قول الشيطان : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ } أي : يخوفكم بقوله ، أولياءه الكفار ، وحينئذ فأولياءَه ثاني مفعولي يخوف ، والأول محذوف ، أي : يخوفكم أولياءه ، كما قرئ كذلك ، وقيل : لا حذف فيه ، والمعنى يخوف من يتبعه ، فأما من توكل على الله فلا يخافه : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي : أولياءه : { وَخَافُونِ } في مخالفة أمري ورسولي : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 176 ]
.
{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } أي : لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله . وقرئ في السبع : { يُحْزِنك } بضم الياء وكسر الزاي : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً } قال عطاء : يريد أولياء الله . نقله الرازي . قال أبو السعود : تعليل للنهي ، وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبداً ، أي : لن يضروا بذلك أولياء الله البتة . وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه ، وفيه مزيد مبالغة في التسلية .
وقال المهايمي : أي : لن يضروا أولياء الله ، لأنهم يحميهم الله ، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجزيهم إياه عن حمايتهم ، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئاً بل : { يُرِيدُ اللّهُ } أن يضرهم الضرر الكلي وهو : { أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ } أي : نصيباً من الثواب في الآخرة : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال المفسرين : ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 177 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ } أي : استبدلوا : { الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً } فيه تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم ، كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم . فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه ، إما بأخذه بدلاً من الإيمان الحاصل بالفعل ، كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة ، كما هو شأن اليهود ومنافقيهم . فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ، ببيان علته ، بتغيير عنوان الموضوع ، فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم ، وعدم تعديه إلى غيرهم أصلاً ، كيف وهو علم في الخسران الكلي ، والحرمان الأبدي ، دال على كمال سخافة عقولهم ، وركاكة آرائهم ، فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ، ورزانة الرأي ، ورصانة التدبير ، من مضارة حزب الله تعالى ، وهي أعز من الأبلق الفرد ، وأمنع من عقاب الجو ، وإن أجرى الموصول على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ، ولأخذ الكفر بدلاً مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له ، الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق ، وملاحظة الدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس ، كما هو دأب جميع الكفرة ، فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقريراً للقواعد الكلية ، لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام - أفاده أبو السعود - . ثم قال : وقوله تعالى : { وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم ، بذكر غاية إيلامه ، بعد ذكر نهاية عظمه ، قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه ، وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة ، وبتألمه عند كونها خاسرة ، وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ 178 ]
.
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أي : بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهراً طويلاً : { خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ } بل هو سبب مزيد عذابهم ، لأنه : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً } بكثرة المعاصي فيزدادوا عذاباً : { وَلَهْمُ } أي : في الآخرة : { عَذَابٌ مُّهِينٌ } ذو إهانة في أسفل دركات النار .
لطائف :
الأولى : في ما - من قوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } الأولى - وجهان : أن تكون مصدرية أو موصولة ، حذف عائدها . أي : إملاؤنا لهم أو الذي نمليه لهم .
الثانية كان حق ما في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ، ولكنها وقعت في مصحف الإمام متصلة ، فلا يخالف ، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف .
الثالثة : ما الثانية في : { إِنَّمَا نُمْلِي } الخ متصلة ، لأنها كافّة .
الرابعة : في قوله تعالى : { مُّهِينٌ } سر لطيف ، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها ، وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر ، وصف عذابهم بالإهانة ، ليكون جزاؤهم جزاء وفاقاً .
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب . فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر ، وطار لهم الصيت ، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق ، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وظهر مخبآتهم ، وعاد تلويحهم صريحاً ، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً ، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 179 ]
.
{ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ } أي : يترك : { الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } من الالتباس بالمنافقين ، وبل لا يزال يبتليكم : { حَتَّىَ يَمِيزَ } المنافق : { الْخَبِيثَ مِنَ } المؤمن : { الطَّيِّبِ وَ } لا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه : { مَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } أي : الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر : { وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } باطلاعه على الغيب ، كما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال ، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويخلصكم من سوء جوارهم .
قال ابن القيم : هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب ، كما قال : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 - 27 ] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقتيم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، كما قال تعالى : { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال : { وَإِن تُؤْمِنُواْ } فتصححوا الاعتقادات : { وَتَتَّقُواْ } فتصلحوا الأعمال : { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وههنا :
لطائف :
الأولى : في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما ، بما يليق به ، وإشعار بعلة الحكم .
الثانية : إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما ، أعني : المؤمنين بصيغة الجمع ، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، كما في مثل قوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } [ النساء : 3 ] ، ونظيره قوله تعالى : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] ، حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم .
الثالثة : تعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق ، مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين ، لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى ، مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان ، وإن ظهر مزيد إخلاصهم ، لا بالتصرف فيهم ، وتغييرهم ، من حال إلى حال أخرى ، مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ، ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [ البقرة : 220 ] .
الرابعة : إنما لم ينسب عدم الترك إليهم ، لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه ، فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة ، كما يشهد به الذوق السليم .
الخامسة : التعرض للاجتباء في قوله : { يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ } الخ للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم ، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر متين ، له أصل أصيل ، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام .
السادسة : تعميم الأمر في يقوله تعالى : { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني ، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل ، لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل ، وهم شهداء بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم ، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام ، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً .
هذا ما اقتبسناه من تفسير العلامة أبي السعود رحمه الله ، وقد استقرب حمل هذه الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم . فالمعنى : ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبداً كما تركهم كذلك إلى الآن ، لسر يقتضيه ، بل يفرز عنهم المنافقين ، ولذلك فعله يومئذ ، حيث خلى الكفرة وشأنهم ، فأبرز لهم صورة الغلبة ، فأظهر من في قلوبهم مرض ، ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 180 ]
.
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة ، شرع ههنا في التحريض على بذل المال في سبل الله ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه وإيراد ما بخلوا به بعنوان : " إيتاء الله تعالى إياه من فضله " للمبالغة في بيان سوء صنيعهم ، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله كما في قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } لاستجلاب العقاب عليهم ، والتنصيص على شريته لهم ، مع انفهامها من نفي خيريته ، للمبالغة في ذلك ، والتنوين للتفخيم : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بيان لكيفية شرية مآل ما بخلوا به . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره ، وأنه نوع من العذاب الأخروي المحسوس ، وأيدوه بما روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته ، مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك > ، ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } إلى آخرها .
وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثِّل الله عز وجل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع ، له زبيبتان ، ثم يلزمه يطوِّقه يقول : أنا كنزك ، أنا كنزك > .
وروى الإمام أحمد والترمزي والنسائيَ وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه, يفر منه وهو يتبعه, فيقول : أنا كنزك > . ثم قرأ عبد الله مصداقه في كتاب الله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . قال الترمذي : حسن صحيح .
وروى الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من ترك بعده كنزاً مثل له شجاعاً أقرع ، له زبيبتان ، يتبعه . فيقول : من أنت ويلك ؟ فيقول : أنا كنزك الذي خلفت بعدك ، فلا يزال يتعبه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يتبع سائر جسده > ، قال الحافظ ابن كثير : إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه ، وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي . ورواه ابن جرير والحافظ ابن مردويه عن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده ، فيمنعه إياه ، إلا دُعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع > .
وروى ابن جرير مرفوعاً : < ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه > . ورواه أيضاً موقوفاً ومرسلاً .
والشجاع كغراب وكتاب : الحية مطلقاً ، أو الذكر منها ، أو ضرب منها دقيق ، وهو أجرؤها - كذا في القاموس وشرحه - .
ثم أشار تعالى إلى أنهم ، وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله ، فهي راجعة إليه بقوله : { وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ، ولا ينفقونه في سبيله . ونظيره قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] ، فالميراث على هذا على حقيقته ، أو المعنى : أنه يفني أهل السموات والأرض ، ويصير أملاك أهلهما بعد فنائهم إلى خالص ملكه ، كما يصير مال المورث ملك الوارث ، فجرى ما هنا مجرى الوراثة ، إذ كان الخلق يدعون الأملاك ظاهراً ، وإلا فالكل له ، وعلى هذا فهو مجاز .
قال الزجاج رحمه الله : أي : أن الله تعالى يفني أهلهما ، فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك ، فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ، ما يرجع إلى الْإِنْسَاْن ميراثاً ، ملكاً له : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : فيجازيكم على المنع والبخل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ 181 ]
.
{ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } روى الحافظان ابن مردويه وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] ، قالت اليهود : يا محمد ! افتقر ربك ، فسأل عباده القرض ، فأنزل الله هذه الآية .
وروى محمد بن إسحاق عن عِكْرِمَة عن أبن عباس قال : دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس ، فوجد من يهود ناساً كثيرة ، قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له : فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له : أشيع ، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص ! اتق الله واسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل . فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم . ينهاكم عن الربا ، ويعطينا ، ولو كان غنياً ما أعطاناً الربا . فغضب أبو بكر رضي الله عنه ، فضرب وجه فنحاص ضرباً وشديداً ، وقال : والذي نفسي بيده ! لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله . فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! أبصر ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر ؟ > فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيماً . يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله فيما قال فنحاص : { لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ } الآية . ولما كان مثل هذا القول ، سواء كان من اعتقاد ، أو استهزاء بالقرآن والرسول - وهو الظاهر - لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية العظم والهول ، أشار إلى وعيده الشديد بقوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } أي : ما قالوه من هذه العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة : { وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } إنما نظم مع ما قبله إيذاناً بسوابقهم القبيحة ، وأنه ليس أول جريمة ارتكبوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه هذا الكلام : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 182 ]
.
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً ، بسبب هتكهم حرمة الله ، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له .
لطائف :
الأولى : إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحداً ، كما روي ، لرضا الباقين بذلك ، ونظائره في التنزيل كثيرة .
الثانية : إضافة عذاب الحريق بيانية ، أي : العذاب الذي هو الحريق .
الثالثة : الذوق إدراك الطعوم ، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره ههنا ، لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل ، والتهالك على المال ، وغالب حاجة الْإِنْسَاْن إليها لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال - أفاده البيضاوي - .
الرابعة : تقديم الأيدي عملها ، لأن من يعمل شيئاً يقدمه ، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث أن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهنّ ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جلّ العمل عليه .
الخامسة : إن قيل : ظلاّم صيغة مبالغة من الظلم ، تفيد الكثير ، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل ، فلو قيل : بظالم ، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره ! . فالجواب عنه من أوجه :
أحدها : أن الصيغة للنسب من قبيل بزّاز وعطّار لا للمبالغة ، والمعنى : لا ينسب إلى الظلم .
الثاني : أن فعالاً قد جاء . لا يراد به الكثرة ، كقوله طرفة :
~ولستُ بحلاَّل التِّلاعِ مخافةً ولكن متى يَسْتَرفِدِ القومُ أرفِدِ
لا يريد ههنا أنه قد يحل التلاع قليلاً ، لأن ذلك يدفعه قوله : متى يسترفد القوم أرفد . وهذا يدل على نفي البخل في كل حال ، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة .
والثالث : أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده ، وظلام لعبيده ، فالصيغة للمبالغة كماً لا كيفاً .
الرابع : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان للظلم القليل المنفعة أترك .
الخامس : إن المبالغة لتأكيد معنى بديع, وذلك لأن جملة : { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } - اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها, أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم . والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم, كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها . وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقين } [ 183 ]
.
{ الَّذِينَ قَالُوا } نصب بتقدير " أعني " أو رفع على الذم بتقدير " هم الذين قالوا " : { إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } أي : أمرنا : { أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ } أي : تبكيتاً لهم ، وإظهاراً لكذبهم : { قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } أي : المعجزات الواضحة : { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } بعينه من تشريع القربان الذي تأكله النار : { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي : فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيْنَ } في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِير } [ 184 ]
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَْ } أي : بعد بطلان عذرهم المذكور : { فَقَدْ كُذِّبَ } أي : فلا تحزن وتسلّ فقد كذب : { رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } جمع زبور أي : الكتب الموحاة منه تعالى : { وَالْكِتَابِ الْمُنِير } أي : الواضح الجلي . والزبور والكتاب : واحد في الأصل, وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين . فالزبور فيه حكم زاجرة, والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة .
فائدة :
في قربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم
اعلم أن القربان بضم القاف معناه لغةً : ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته . قال في " مرشد الطالبين " : ذبائح العبرانيين عديدة جداً, وكان المستعمل هذه الذبيحة, بتعيين الله, الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام . وكانت الذبائح نوعين عامّين : إحداهما كانت تقرّب لتكفير الخطايا, والأخرى شكراً لله على مراحمه وبركاته .
ثم قال : فالذبيحة اليومية كانت مشهورة جداً, وهي خروف بلا عيب, يقدم وقوداً لله كفارة للخطايا, وذلك مرتان صباحاً ومساءً, طول مدة السنة, فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلاً, والتي في المساء عن خطاياهم نهاراً . وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم, وبهذا كان ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه, ثم يذبح ويقرب وقوداً . وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار, وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية, ويقدمون الطلبات لله عن الشعب, وأما في يوم السبت, فكانت تتضاعف الذبيحة, ويقرب في كل دفعة خروفان .
ثم قال : يوم الكفارة كان ممتازاً بالذبيحة السنوية, وهي أنه بعد أن يقرب الكاهن ثوراً كفارة لخطايا عائلته يقرب ماعزان كفارة لخطايا الشعب - انتهى - .
وقد أشير لكيفية ذبح القربان وحرقه في مواضع من التوراة . منها : سفر الخروج في الفصل التاسع والعشرين . ومنها : في الفصل الأول من سفر الأحبار المسمين باللاويين ونصه : ودعا الرب موسى وخاطبه من خباء المحضر قائلاً : خاطب بني إسرائيل وقل لهم : أي : إنسان منكم قرب قرباناً للرب من البهائم فمن البقر والغنم يقربون قرابينهم إن كان قربانه محرقة من البقر, فذكراً صحيحاً يقربه عند باب خباء المحضر يقربه للرضوان عنه, وضع يده على رأس المحرقة ويترضى به ليغفر له, ثم يذبح الثور ويقرب الكهنة بنو هارون الدم وينضحون الدم على المذبح, وما أحاط به في باب قبة الشهادة - يعني التابوت الذي كان فيه لوحا التوراة المسماة شهادة - ثم يسلخون المحرقة, ويقطعونها قطعاً, ثم يوقدون ناراً على المذبح, وينضدون الحطب على النار, ثم يجعلون الأعضاء المقطعة الرأس والشحم على الحطب الذي على النار على المذبح, ويغسلون أكارعه وجوفه بالماء, ثم يصعده الكاهن ويجعله على المذبح وقوداً وقرباناً لرضا الرب . . . الخ .
وفي الفصل السادس من سفر الأحبار : وكلم الرب موسى قائلاً : مرْ هارون وبنيه, وقل لهم : هذه شريعة المحرقة, تكون المحرقة على وقيدة المذبح طول الليل إلى الغداة, ونار المذبح متقدة عليه, ويلبس الكاهن قميصه من الكتان, وسراويلات من الكتان على بدنه, ويرفع الرماد الذي آلت إليه نار المحرقة على المذبح, ويجعله إلى جانب المذبح, ثم يخلع ثيابه ويلبس ثياباً أخر, ويخرج الرماد إلى خارج المحلة إلى موضع طاهر, وتبقى النار على المذبح متقدة لا تطفأ, ويضع عليها الكاهن حطباً في كل غداة . . . الخ .
قال بعضهم : زعم الربانيون أن النار التي كانت في هيكل سليمان ، والتي أمر اليهود بحفظها دون أن تطفأ البتة ، كان أصلها من النار التي نزلت من السماء بعد تقدمة هارون وأبنائه المحرقات ، وأنها بقيت إلى أيام الخراب الهيكل على يد بختنصر ، إلا أنه ليس في التوراة ما يصرح بذلك - انتهى - .
وهذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه : أن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قرباناً , فذبح عجلاً وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة ، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح ، ثم قرب تيساً وثوراً وكبشاً بكيفية خاصة ، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر ، فخرجت نار من عند الرب ، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح ، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا - انتهى - .
إذا علمت ذلك ، فقوله تعالى : { تَأْكُلُهُ النَّارُ } بمعنى أن يذبح على الكيفية المعروفة ، ثم تنزل نار من السماء فتأكله ، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة ، كما ذكرنا . وفي عهد سليمان أيضاً ، فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني : أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح ، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ 185 ]
.
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } كقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26 - 27 ] . وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس ، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : تعطون جزاء أعمالكم وافياً يوم القيامة ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . قال الزمخشري : فإن قلت : فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ! قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور .
وقال الرازي : بيّن تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم ، وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع . وكذا القول في العقاب ، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه { فَمَن زُحْزِحَ } أي : أبعد : { عَنِ النَّارِ } التي هي مجمع الآفات والشرور : { وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ } الجامعة للَّذات والسرور : { فَقَدْ فَازَ } أي : حصل الفوز العظيم ، وهو الظفر بالبغية ، أعني النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه > . وأخرجه مسلم أيضاً : { وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : لذاتها : { إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } المتاع : ما يتمتع وينتفع به ، والغرور : بضم الغين مصدر غره ، أي : خدعه وأطمعه بالباطل ، وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنِّيه لذاتها من طول البقاء ، وأمل الدوام ، فتخدعه ثم تصرعه . قال بعض السلف : الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول . فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ 186 ]
.
{ لَتُبْلَوُنَّ } أي : لتختبرن : { فِي أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات : { وَأَنفُسِكُمْ } بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد . وهذا كقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ } [ البقرة : 155 - 156 ] ، إلى آخر الآيتين - أي : لا بد أن يبتلي المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله . وفي الحديث : < يبتلى المرء على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة ، زيد في البلاء > { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } بالقول والفعل : { وَإِن تَصْبِرُواْ } على ذلك : { وَتَتَّقُواْ } أي : مخالفة أمره تعالى : { فَإِنَّ ذَلِكَ } أي : الصبر والتقوى : { مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } أي : من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون . أي : مما يجب أن يعزم عليه كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف . أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه . يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى ، لا بد أن تصبروا وتتقوا . وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية ، من إظهار كمال اللطف بالعبادة ، ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب الصبر . وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ 187 ]
.
{ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } وهم علماء اليهود والنصارى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } أي : لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلم . وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } من النهي عن الكتمان ، بعد الأمر بالبيان ، مبالغة في إيجاب المأمور به : { فَنَبَذُوهُ } أي : الميثاق : { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } أي : طرحوه ولم يراعوه ، ونبذُ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به ، والإعراض عنه بالكلية . كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به : { وَاشْتَرَوْاْ بِهِ } أي : استبدلوا به : { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : شيئاً حقيراً من حطام الدنيا : { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره . وقد تقدم هذا ، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة ، ويدخل في الكتم ؛ منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها .
وقال العلامة الزمخشري عليه الرحمة : كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه ، وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، أو لجر منفعة وحطام الدنيا ، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة ، أو لبخل بالعلم ، وعيرة أن ينسب إليه غيرهم - انتهى - .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار > - أخرجه الترمذي - ولأبي داود : < من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة > . وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثكم بشيء . ثم تلا : { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ } الآية .
لطيفة :
قال العلامة أبو السعود : في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة ، لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ ، والإعراض عن المعطي ، والتعبير عن المشتري الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه ، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون ، مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل - من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير ، على الشريف الخطير ، وتعكيسهم بجعلهم المقصد وسيلة ، والوسيلة مقصداً - ما لا يخفي جلالة شأنه ورفعة مكانه - انتهى - .
ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 188 ]
.
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ } أي : بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } أي : بمنجاة : { مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بكفرهم وتدليسهم .
روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أن مروان قال : اذهب يا رافع " لبوابه " إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل ، لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : ما لكم وهذه ، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } - إلى قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه . وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم الترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه بنحوه . ورواه البخاري أيضاً عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس - فذكره - وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : { وَلَا تَحْسَبَنَّ } الآية - وكذا رواه مسلم بنحوه .
ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك ، لا أن أحد الأمرين كان سبباً لنزولها . كما حققناه غير مرة .
تنبيه :
هذه الآية ، وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم ، ففيها ترهيب للمؤمنين عما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها ومحبة المدح بما عرا عنه من الفضائل . ويدخل في ذلك المراؤون المتكثرون بما لم يعطوا ، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : < من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة > .
وفي الصحيحين أيضاً : < المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور > . فليحذر من يأتي بما لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على الله تعالى .
فائدة :
قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني ، وفاعل الأول " الذين يفرحون " . وأما مفعولاه فمحذوفان اكتفاء بمفعولي : { تَحْسَبَنَّهُمْ } لأن الفاعل فيهما واحد . فالفاعل الثاني تأكيد للأول ، وحسن لما طال الكلام المتصل بالأول . والفاء زائدة ، إذ ليست للعطف ولا للجواب ، وثمة وجوه أخرى .
لطيفة :
تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور ، للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة ، وقطع أطماعهم الفارغة ، حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة ، كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية ، وعليه كان مبنى فرحهم . وأما نهيه صلى الله عليه وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور ، لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه الصلاة والسلام - أفاده أبو السعود - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 189 ]
.
{ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فهو قادر على عقابهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ } [ 190 ]
.
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : في إيجادها على ما هما عليه من الأمور المدهشة ، تلك في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار ، وجبال وقفار وأشجار ، ونبات وزروع ، وثمار وحيوان ، ومعادن ومنافع ، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص : { وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : في تعاقبهما ، وكون كل منهما خلفة للآخر ، بحسب طلوع الشمس وغروبها ، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما انتقاص الآخر ، وانتقاصه بازدياده : { لآيَاتٍ } أي : لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته ، وباهر حكمته . والتنكير للتفخيم كمّاً وكيفاً ، أي : كثرة عظيمة : { لِّأُوْلِي الألْبَابِ } أي : لذوي العقول المجلوّة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائماً كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ 191 ]
.
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ } أي : فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن . فالمراد : تعميم الذكر للأوقات ، وعدم الغفلة عنه تعالى . وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ، ليس لتخصيص الذكر بها ، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الْإِنْسَاْن غالباً : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : في إنشائهما بهذه الأجرام العظام ، وما فيهما من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً ، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى . كما قيل :
~وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
روى ابن أبي الدنيا في " كتاب التوكل والاعتبار " عن الصوفي الجليل الشيخ أبي سليمان الداراني قدس الله سره أنه قال : إني لأخرج من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة ، ولي فيه عبرة . وإنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته .
خرّج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن سلام : لا تفكروا في الله ، ولكن تفكروا فيما خلق ، وله شواهد كثيرة .
قال الرازي : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِوَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] . ولما كان الأمر كذلك ، لا جرم أمر في هذه الآية الفكر في خلق السموات والأرض ، لأن دلالتها أعجب ، وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ، ولو كأن الْإِنْسَاْن نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة ، رأى في تلك الورقة عرقاً واحدا ًممتداً في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر ، حتى تصير في الدقة بحيث لا يرها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة ، وأسراراً عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ، ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق ، حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة ، جزءٌ من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ، ولو أراد الْإِنْسَاْن أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها ، لعجز عنه . فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات ، مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم . وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ؛ عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم . فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الإطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض ، وإذا عرف بهذا البرهان النيّر قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام ، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين . بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة ، وأسرار عظيمة ، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها . وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } على إرادة القول بمعنى يتفكرون قائلين ذلك . وكلمة : { هَذا } متضمنة لضرب من التعظيم ، أي : ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً ، عارياً عن الحكمة ، خالياً عن المصلحة ، بل منتظماً لحكم جليلة ، ومصالح عظيمة . من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك ، وأن يكون مداراً لمعايش العباد ، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد .
لطيفة :
قال أبو البقاء : باطلاً مفعول من أجله . والباطل ، هنا ، فاعل بمعنى المصدر ، مثل العاقبة والعافية . والمعنى : ما خلقتهما عبثاً . ويجوز أن يكون حالاً . تقديره ما خلقت هذا خالياً عن حكمة . ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي : خلقاً باطلاً - انتهى - .
وقوله : { سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً لك من العبث ، وأن تخلق شيئاً بغير حكمة : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } قال السيوطي : فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء . ذكره النووي في " الأذكار " . وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء ، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولاً ، كما دل عليه قوله : { سُبْحَانَكَ } ثم بعد الثناء يأتي الدعاء ، كما دل عليه : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
وعن فَضَالة بن عبيد رضي الله عنه قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعوا في صلاته ، لم يمجد الله تعالى ، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < عجل هذا > ، ثم دعاه فقال له أو لغيره : < إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه ، والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يدعو بعد بما شاء > . رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث صحيح .
واعلم أنه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى ، وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، بقولهم :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ 192 ]
.
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي : أهنته وأظهرت فضيحته لأهل الموقف . وسر هذا الإتباع عظم موقع السؤال ، لأن من سأل ربه حاجة ، إذا شرح عظمها وقوتها ، كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل ، وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء [ في المطبوع : الدعائ ] لا يتصل بالإجابة ، إلا إذا كان مقروناً بالإخلاص ، وهذا أيضاً تعليم من الله تعالى فنّاً آخر من آداب الدعاء : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم ، ببيان خلود عذابهم ، بفقدان من ينصرهم ، ويقوم بتخليصهم . وغرضهم تأكيد الاستدعاء . ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين ، لذمهم ، والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ، ووضعهم الأشياء في غير مواضعها . وجمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين ، أي : ما لظالم من الظالمين نُصَيْر من الأنصار . والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر . فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة ، على أن المراد بالظالمين هم الكفار - أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } [ 193 ]
.
{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } حكاية لدعاء آخر لهم ، وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة والابتهال ، والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة ، وكمال النشاط . والمراد بالمنادى : الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتنوين للتفخيم ، وهذا كقوله تعالى : { وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ } [ الأحزاب : 46 ] . وفي وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادي دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوى وتبليغاً إلى الداني والقاصي ، لما فيه من الإيذان برفع الصوت : { يُنَادِي لِلإِيمَانِ } أي : لأجل الإيمان بالله . فإن قلت : فأي فائدة في الجمع بين المنادي وينادي ؟ قلت : ذكر النداء مطلقاً ، ثم مقيداً بالإيمان تخفيماً لشأن المنادي ، لأنه لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادي إذا أطلق ، ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، وغير ذلك . فإذا قلت : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادي والهادي ، وفخمته . ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له وإليه ، ونحوه : هداه للطريق وإليه . وذلك أن معنى انتهاء الغاية ، ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً - أفاده الزمخشري - .
{ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي : فامتثلنا أمره ، وأجبنا نداءه ، و : { أن } إما تفسيرية ، أي : آمنوا ، أو مصدرية ، أي : بأن آمنوا : { رَبَّنَا } تكرير للتضرع ، وإظهار لكمال الخضوع : { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي : استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها ، وأذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات : { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } أي : معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة . والأبرار جمع بارّ أو بر وهو كثير البر بالكسر أي : الطاعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ 194 ]
.
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } أي : على تصديق رسلك والإيمان بهم . أو على ألسنة رسلك . وهو الثواب ، وهذا حكاية لدعاء آخر لهم ، معطوف على ما قبله . وتكرير النداء لما مرّ : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] بإظهار أنهم ممن آمن معه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [ 195 ]
.
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي } أي : بأني : { لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } بيان لعامل وتأكيد لعمومه : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي : الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر , كلكم بنو آدم . وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال ، فيما وعد الله عباده العاملين . وروى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } الآية - وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا - ورواه الترمذي ، والحاكم في " مستدركه " وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه . وروى ابن مردويه عن مجاهد عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } إلى آخرها . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : من حزَبَهُ أمر ، فقال : خمس مرات ربَّنا أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد . وقرأ الآيات .
{ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم, كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة : { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : التي ولدوا فيها ونشأوا : { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي : من أجله وبسببه, يريد سبيل الإيمان بالله وحده, وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين : { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } أي : غزوا المشركين واستشهدوا : { لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جملة قسمية, خبر المبتدأ الذي هو الموصول, وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه, بعد ما وعد ذلك عموماً : { وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي : من تحت قصورها الأنهار, من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن ، وغير ذلك مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر : { ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } في موضع المصدر المؤكد لما قبله, فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة, في معنى الإثابة . وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم, لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً . كما قيل :
~إن يعاقبْ يكن غراماً وإن يع طِ جزيلاً فإِنَّه لا يُبالي
{ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي : حسن الجزاء لمن عمل صالحاً . ثم بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا, وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها, إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب, بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ } [ 196 ]
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ } أي : تصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب, أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 197 ]
{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ } أي : هو متاع قليل, لقصر مدته, وكونه بُلغةً فانية, ونعمة زائلة, فلا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين .
وفي صحيح مسلم عن النبيَ صلى الله عليه وسلم : < والله ! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم, فلينظر بم يرجع > .
{ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : مصيرهم الذي إليه يأوون : { وَبِئْسَ الْمِهَاد } أي : الفراش هي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار ِ } [ 198 ]
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِِ } بيان لكمال حسن حال المؤمنين, غبّ بيان وتكرير له, إثر تقرير, مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم, ويزداد تبجحهم, ويتكامل به سوء حال الكفرة . والنزل بضمتين, وضم فسكون : المنزل, وما هُيَئ للنزيل أن ينزل عليه : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار } أي : مما يتقلب فيه الفجر من المتاع القليل الزائل . والتعبير عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر, كما أنها من قبيل التقوى .
روى الشيخان - واللفظ للبخاريَ - عن عُمَر بن الخطاب قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا هو في مشربة, وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء, وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف, وعند رجليه قرظ مصبور, وعند رأسه أهب معلقة, فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال : < ما يبكيك > ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه, وأنت رسول الله ! فقال : < أما ترضى أن تكون لهم الدنيا, ولنا الآخرة > ؟
وروى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من نفس برة ولا فاجرة, إلا الموت خير لها ، لئن كان برَاً, لقد قال الله تعالى : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } وقرأ : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عِمْرَان : 178 ] .
وروى ابن جرير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له, وما من كافر إلا والموت خير له, ومن يصدقني فإن الله يقول : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } ويقول : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } الآية . وأخرج نحوه رَزين عن ابن عباس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 199 ]
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق, وتحريف الكتاب وغير ذلك . بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان, ويؤمنون بما أنزل على النبيَ صلى الله عليه وسلم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة, وأنهم خاشعون لله, أي : مطيعون له, خاضعون متذللون بين يديه, لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً, أي : لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم, سواء كانوا هوداً أو نصارى, وقد قال تعالى في سورة القصص : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } [ القصص : 52 - 54 ] الآية, وقال تعالى : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] , وقال تعالى : { لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عِمْرَان : 113 ] . وهذه الصفات توجد في اليهود, ولكن قليلاً, كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود, ولم يبلغوا عشرة أنفس . وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق, كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } [ المائدة : 82 - 85 ] .
وهكذا قال هنا : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } .
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة " كهيعص " بحضرة النجاشي ملك الحبشة ، وعنده البطاركة والقساقسة ، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم .
وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال : < إن أخاً لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه > ، فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه .
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه عن أنس بن مالك قال : لما توفي النجاشي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < استغفروا لأخيكم > . فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة ؟ ! فنزلت : { وإن من أهل الكتاب } الآية - ورواه عبد بن حميد أيضاً مرسلاً . ورواه ابن جرير عن جابر ، وفيه : فقال المنافقون : يصلي على علج مات بأرض الحبشة ؟ ! فنزلت .
وروى الحاكم في " مستدركه " عن عبد الله بن الزبير قال : نزل بالنجاشي عدوّ من أرضهم ، فجاءه المهاجرون فقالوا : إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك ما صنعت بنا ، فقال : لداءٌ بنصر الله عز وجل ، خير من دواء بنصرة الناس . قال : وفيه نزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } الآية - ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : وإن من أهل الكتاب ، يعني : مسلمة أهل الكتاب .
وقال عَبَّاد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } الآية - قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوه وعرفوا الإسلام ، فأعطاه الله أجر اثنين : للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، واتباعهم محمداً صلى الله عليه وسلم - رواه ابن أبي حاتم - .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين > ، فذكر منهم رجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي - أفاده ابن كثير - .
ثم إن الإخبار , في آخر الآية ، بكونه تعالى : { سَرِيعُ الْحِسَابِ } . كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق ، وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي ، وقدر ما ينبغي . ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر لكونه من لوازمها . ولكونها من لوازمها أشبه التأكيد ، فلذا لم يعطف عليه - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 200 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ } أي : على مشاق الطاعات وما يمسكم من المكاره والشدائد : { وَصَابِرُواْ } أي : غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد . لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً . والمصابرة : باب من الصبر . ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصاً ، لشدته وصعوبته - كذا في " الكشاف " - : { وَرَابِطُواْ } أي : أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدو بالترصد والاستعداد لحربهم ، وارتباط الخيل . قال الله تعالى : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] ، والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره ، وكل معد لصاحبه ، ثم صار لزوم الثغر رباطاً . وربما سميت الخيل أنفسها رباطاً ، وقد يتجوّز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر ، فتسمى : رباطاً ومرابطة .
قال الفارسي : هو ثان من لزوم الثغر ، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل . وقد وردت الأخبار بالترغيب في الرباط ، وكثرة أجره . فمنها ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < رباط يوم في سبيل الله ، خير من الدنيا وما عليها > .
وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < رباط يوم وليلة ، خير من صيام شهر وقيامه > ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمِنَ الفُتّان .
وروى الإمام أحمد عن فَضَالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < كل ميت يختم على عمله ، إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله ، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر > ، وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح . وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً . وبقيت أحاديث أخر ساقها الحافظ ابن كثير في تفسيره .
هذا ومن الوجوه في قوله تعالى : { رَابِطُواْ } أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة . فقد روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط > ، فشبه صلى الله عليه وسلم ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط .
وروى الحاكم في " مستدركه " والحافظ ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليَّ أبو هريرة يوماً فقال : أتدري ، يا ابن أخي ! فيم نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } ؟ قلت : لا ؟ قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، ويصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت : { اصْبِرُواْ } أي : على الصلوات الخمس : { وَصَابِرُواْ } أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } فيما عليكم : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : تفوزون بما يغتبط به ، و " لعل " لتغييب المآل . لئلا يتكلوا على الآمال .
خاتمة
فيما ورد في الآيات الأواخر من هذه السورة ، وفي فضل هذه السورة بتمامها . قال الحافظ ابن كثير : قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عِمْرَان إذا قام من الليل لتهجده .
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بتُّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ، ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر ، قعد فنظر إلى السماء ، فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } ثم قال فتوضأ ، واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال ، فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح - وهكذا رواه مسلم ، ورواه البخاري من طريق أخرى بلفظ : حتى إذا انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عِمْرَان . . الحديث - وهكذا أخرجه الجماعة من طرق .
وروى ابن مردويه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأحفظ صلاته ، قال : فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة ، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري ، قام فمر بي فقال : من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت : نعم ! قال : فمه ؟ قلت : أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة ، قال : فالحق ، الحق . فلما دخل قال : افرش ، عبد الله ! فأتى بوسادة من مسوح ، قال : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه ، ثم استوى على فراشه قاعداً ، قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال : < سبحان الملك القدوس > ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عِمْرَان حتى ختمها .
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حديثاً في ذلك أيضاً .
وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل ، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلى آخر السورة ، ثم قال : < اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن بين يديّ نوراً ، ومن خلفي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، وأعظم لي نوراً يوم القيامة > . وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه .
وروى ابن مروديه وعبد بن حميد حديثاً عن عائشة ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلى قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها > .
ومما ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان : < يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمُه سورة البقرة وآل عِمْرَان > . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ، ما نسيتهن بعد ، قال : كأنهما غمامتان ، أو ظلتان سوداوان ، بينهما شرق أي : ضياء ونور ، أو كأنهما حزقان من طير صوافَّ تحاجَّان عن صاحبهما .
والله سبحانه الموفق .
تمّ تفسير هذه السورة صباح الجمعة في 11 ذي القعدة الحرام سنة 1318 وذلك في حرم جامع السنانية في الشباك القبلي من السدة اليمنى العليا بيد جامعه الفقير محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي غفر له ولوالديه وللمؤمنين .
آمين .
ويليه الجزء الثالث وفيه : تفسير سورة النساء .

(/)


سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ 1 ]
{ يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ } أي : اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه .
ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة ، لتأييد : { الّذِي خَلَقَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : فرّعكم من أصل واحد ، وهو نفس أبيكم آدم ، وخلقهُ تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ، ومنه عقابهم على معاصيهم .
فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته ، وكذا جعلُه تعالى إياهم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة .
كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام ، ورعاية حال الأيتام ، والعدل في النكاح وغير ذلك .
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر ، وهم مجتابو النمار ( أي : من عريهم وفقرهم ) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : < : { يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : من الآية 1 ] حتى ختم الآية ، ثم قال : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ } [ الحشر : من الآية 18 ] > ، ثم حضهم على الصدقة فقال : < تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، من صاع تمره > ، وذكر تمام الحديث .
وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة .
وفيها : ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : { أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ } الآية { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : من نفسها ، يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضامّ ، فإن الجنسية علة الضم ، وقد أوضح هذا بقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } [ الروم : 21 ] .
{ وَبَثّ مِنْهُمَا } أي : نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها ، بطريق التوالد والتناسل .
{ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً } أي : كثيرة .
وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور .
{ وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به ، فإن سؤال بعضهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا : أسألك بالله وأنشدك الله ، على سبيل الاستعطاف ، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه .
وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة ، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته .
و : { تَسَاءَلُونَ } أصله تتساءلون ، فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً ، وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس ، وقرئ تسألون ( من الثلاثيّ ) أي : تسألون به غيركم ، وقد فسر به القراءة الأولى والثانية ، وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع ، كما في قولك : رأيت الهلال وتراءيْناه -أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى : { وَالْأَرْحَامَ } قرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور ، والباقون بالنصب عطفاً على الاسم الجليل ، أي : اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها ، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى ، أو عطفاً على محل الجار والمجرور ، كقولك مررت بزيدٍ وعمراً .
وينصره قراءة : { تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ } فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل .
ويقولون : أسألك بالله وبالرحم ، ولقد نبه سبحانه وتعالى ، حيث قرنها باسمه الجليل ، على أن صلتها بمكان منه ، كما في قوله تعالى : { أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : من الآية 23 ] ، وقال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينِ } [ النساء : من الآية 36 ] .
وقد روى الشيخان عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الرحم معلقة بالعرش ، تقول : من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله > .
ورويا أيضاً عن جُبير بن مطعم - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا يدخل الجنة قاطع > .
قال سفيان في روايته : يعني قاطع رحم .
وروى البخاريّ عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها > .
ورويا عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : < من كان يؤمن بالله ، واليوم الآخر فليصل رحمه > ، والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم ، وترهيب من قطيعتها كثيرة .
تنبيه :
دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى : كذا قاله الرازيّ ، ووجهه أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل ، لكونهم يعتقدون عظمته ، ولم ينكره عليهم ، نعم من أدّاه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله ووسيلة للأبواب الساسانية ، فهذا محظور قطعاً .
وعليه يحمل ما ورد من لعن من سأل بوجه الله ، كما سنذكره ، وقد ورد في هذا الباب أحاديث وافرة .
منها عن ابن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن أتى عليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه > ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس مرفوعاً : < من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه > .
وعن ابن عمر مرفوعاً : < من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة > ، رواه البيهقيّ بإسناد ضعيف .
وفي البخاريّ عن البراء بن عازب : < أمرنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بسبع > ، وذكر منها : < وإبرار القسم > .
وروى أبو داود والضياء في " المختارة " بإسناد صحيح عن جابر مرفوعاً : < لا يُسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة > .
وروى الطبرانيّ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً : < ملعون من سَأل بوجه الله ، وملعون من سُئل بوجه الله ثم منع سائله ، ما لم يسأل هجراً > ، قال السيوطيّ : إسناده حسن .
وقال الحافظ المنذريّ : رجاله رجال الصحيح إلا شيخه ( يعني الطبرانيّ ) يحيى بن عثمان بن صالح ، وهو ثقة وفيه كلام .
وهُجْراً ( بضم الهاء وسكون الجيم ) أي : ما لم يسأل أمراً قبيحاً لا يليق ، ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالاً قبيحاً بكلام قبيح . انتهى .
وعن أبي عبيدة ، مولى رِفاعة ، عن رافع أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ملعون من سَأل بوجه الله ، وملعون من سُئل بوجه الله فمنع سائله > ، رواه الطبراني .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ألا أخبركم بشر الناس ؟ رجل يُسأل بوجه الله ولا يعطي > ، رواه الترمذيّ .
وقال : حسن غريب ، والنسائيّ وابن حبان في صحيحه .
وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ألا أخبركم بشر البرية ؟ > قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : < الذي يُسأل بالله ولا يعطي > .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي : مراقباً لجميع أحوالكم وأعمالكم ، يراها ويعلمها فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، كما قال [ تعالى ] : { وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
وفي الحديث : < اعبد اللهَ كَأنكَ تراهُ ، فإن لمْ تكن تراه فإنه يَراك > .
وهذا إرشاد وأمر بمراقبته تعالى ، فعلى المرء أن يراقب أحوال نفسه ، ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة فيهلك على غفلة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ 2 ]
{ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمراً ونهياً .
وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام ، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء ، وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب .
واليتيم من مات أبوه ، من اليتم ، وهو الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة ، والقياس الاشتقاقيّ يقتضي وقوعه على الصغار والكبار .
وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم .
كما روى أبو داود بإسناد حسن عن عليّ عليه السلام عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يُتْمَ بعد احتلام > .
وفي الآية وجوه :
الأول : أن يُراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازاً ، باعتبار ما كان ، أوثر لقرب العهد بالصغر ، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ ، حتى كأنّ اسم اليتيم باق بعدُ ، غير زائل .
الثاني : أن يُراد بهم الكبار حقيقة ، واردةً على أصل اللغة .
الثالث : أن يُراد بهم الصغار ، وبـ ( الإيتاء ) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة ، لا دفعها إليهم ، وفيه بُعْدٌ .
الرابع : أن يُراد بهم ما ذكر .
وبـ ( إيتائهم ) الأموال ، أن لا يطمع فيها الأولياء ، والأوصياء ، وولاة [ في المطبوع ولاة ] السوء ، وقضاته ، ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة ، فالتجوّز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك .
قال الناصر في " الانتصاف " : هذا الوجه قويّ بقوله بعد آيات : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : من الآية 6 ] دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم .
والثانية : في الحض على الإيتاء الحقيقيّ عند حصول البلوغ والرشد .
ويقويه أيضاً قوله عقيب الأولى : { وَلَا تَتَبَدّلُوا } الخ ، فهذا كله تأديب للوصيّ ما دام المال بيده واليتيم في حجره .
وأما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحداً وهو الأمر بالإيتاء حقيقة ، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة ، والثانية كالمبيّنة لشرط الإيتاء : من البلوغ وإيناس الرشد ، والله أعلم .
{ وَلَا تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ } أي : ولا تستبدلوا الحرام ، وهو مال اليتامى بالحلال وهو ما لكم ، وما أبيح لكم من المكاسب ، ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه .
{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه ، أي : لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة .
{ إِنّهُ } أي : الأكل : { كَانَ حُوباً } أي : ذنباً عظيماً ، وقرئ بفتح الحاء ، وقوله تعالى : { كَبِيراً } مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور ، كأنه قيل من كبار الذنوب .
تنبيه :
خص من ذلك مقدار أجر الملل عند كون الوليّ فقيراً لقوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ } كذا قاله البيضاويّ وتابعه أبو السعود .
وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغنيّ ، لقوله : { إِلَى أَمْوَالِكُمْ } فلا يشمل مساقها الفقير ، وسنوضح ذلك .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمّع بهم ليكون أزجر لهم . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : أهل البيان يقولون : المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيهاً على الأعلى ، كقوله تعالى : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ } [ الإسراء : من الآية 23 ] ، وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفاً لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غنيّ عنه ، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه ، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى ، وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية .
فنقول : أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته ، ولا شك أن النهي عن الأدنى ، وإن أفاد النهي عن الأعلى ، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضاً فائدة أخرى جليلة ، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى ، وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد .
ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل .
فخصص بالنهي تشنيعاً على من يقع فيه ، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقاً .
ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم ، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر ، إذ ليست الطباع في هذه الصورة مُعينة على الاجتناب ، كإعانتها عليه في الصورة الأولى ، ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل ، مع أن تناول مال اليتيم على أي : وجه كان ، منهيّ عنه ، كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلاً ، أو غير ذلك .
إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل ، وتعدّ البطنة من البهيمية ، وتعيب على من اتخذها ديدنه ، ولا كذلك سائر الملاذ ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا ، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به ، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها ، أكلاً أو غيره .
ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى : { لا تَأْكُلُوا الرّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً } [ آل عِمْرَان : من الآية 130 ] ، فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون .
ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر ، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهاً على الأعلى ، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب ، ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ } [ النساء : من الآية 8 ] الآية ، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم ، وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال ، فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة ، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم ، بخلاف ما إذا حضروا ، فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعف ولا يساعد ، فإذا أمرت في هذه الحالة بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع ، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقاً حضر أو غاب .
فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يُلْقَى إلا في الكتاب العزيز ، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق ، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط ، فخذ هذا القانون عمدة ، وهو : أن النهي ، إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى ، وإن خص الأعلى ، فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقاً من الانكفاف عن الأقبح ، ومثل هذا ، النظر في جانب الأمر ، والله الموفق . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاّ تَعُولُواْ } [ 3 ]
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ } أي : أن لا تعدلوا : { فِي الْيَتَامَى } أي : يتامى النساء .
وقال الزمخشريّ : ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور ، وهو جمع يتيمة ، على القلب ، كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم .
{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } أي : من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن أو العقل أو الصلاح منهن .
{ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ومعنى الآية : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن ، بإساءة العشرة أو بنقص الصداق ، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم .
فالآية للتحذير من التورط في الجور والأمر بالاحتياط ، وإنّ في غيرهن متسعاً إلى الأربع .
وروى البخاريّ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عَذْق ( أي : نخلة ) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء ، فنزلت فيه : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله ، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي .
وفي رواية لهم عن عائشة هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سُنّتِهِن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن .
قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعد هذه الآية فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاءِ } [ النساء : من الآية 127 ] .
قالت عائشة : وقول الله تعالى في آية أخرى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنّ } [ النساء : من الآية 127 ] ، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال .
قالت : فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ، إذا كن قليلات المال والجمال .
وفي رواية في قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء } إلى آخر الآية .
قالت عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها ، فنهاهم الله عن ذلك ، زاد أبو داود رحمه الله تعالى : وقال ربيعة في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } قال يقول : اتركوهن إن خفتم فقد أحللت لكم أربعاً .
لطائف :
الأول : ( ما ) في قوله تعالى : ما طاب لكم ، موصولة ، وجاء بـ ( ما ) مكان ( من ) لأنهما قد يتعاقبان ، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر ، كما في قوله تعالى : { وَالسّمَاء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، وقوله : { وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 5 ] .
{ فَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] ، قال بعضهم : وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول .
الثانية : في إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى ، مع أنه المقصود بالذات ، مزيدُ لطف في استنزالهم عن ذلك ، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ، كما أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه ، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى - ، أفاده أبو السعود - .
الثالثة : اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة .
الرابعة : مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة ، ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل ( طاب ) مؤكدة لما ، أفاده وصف الطيب من الترغيب فيهن ، والاستمالة إليهن ، بتوسيع دائرة الإذن ، أي : فانكحوا الطيبات لكم ، معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، حسبما تريدون .
فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع ؟ قلت : الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى .
فإن قلت : فلم جاء العطف بواو دون ( أو ) ، قلت : كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك ، ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثاً ثلاثاً أو أربعة أربعة ، أعلمتَ أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها ، فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو .
وتحريره أن الواو : دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها ، محظوراً عليهم ما وراء ذلك ، أفاده الزمخشري .
بحث جليل :
قال الرازي : ذهب قوم سَدّى ( كحتى ، موضع قرب زُبَيد باليمن ا ، ه قاموس ) إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر :
أما القرآن : فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النّسَاءِ } إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلاً .
والثاني : أن قوله : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } لا يصلح تخصيصاً لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقاً فان الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت ، اذهب إلى السوق ، وإلى المدينة ، وإلى البستان ، كان تنصيصاً في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقاً ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ، ولا يكون ذلك تخصيصاً للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذناً في المذكور وغيره ، فكذا هاهنا ، وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النّسَاءِ } كان ذلك تنبيهاً على حصول الإذن في جميع الأعداد .
والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } يفيد حل هذا المجموع وهو يفيد تسعة بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط بل عن اثنين اثنين ، وكذلك القول في البقية .
وأما الخبر فمن وجهين :
الأول : أنه ثبت بالتواتر : < أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مات عن تسع > ، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : { فَاتّبِعُوهُ } وأقل مراتب الأمر الإباحة .
الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم إنه عليه السلام قال : < فمن رغب عن سنتي فليس مني > ، فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين :
الأول :
الخبر : وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم
< أمسك أربعاً وفارق باقيهن > .
وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه الصلاة السلام : < أمسك أربعاً وفارق واحدة > .
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين :
الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخاً للقرآن بخبر الواحد ، وإنه غير جائز .
والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي ، لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع .
وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله .
الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان :
الأول : أن الإجماع لا يَنسخَ ولا يُنسخ فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية .
الثاني : أن في الأمة أقواماً شذاذاً لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد .
والجواب عن الأول :
أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وعن الثاني : أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته . انتهى كلام الرازي ، وقوله ( من أهل البدعة ) لا يجوز أخذه على عمومه لما ستراه .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في " وبل الغمام " : الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم ، أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثراً يحتج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفرد في قوة تلك الأعداد ، فإن كان مجيء القوم مثلاً اثنين اثنين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة ، وكانوا ألوفاً مؤلفة ، فقلت : جاءني القوم مثنى ، أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين ، حتى تكاملوا .
فإن قلت : مثنى وثلاث ورباع ، أفاد ذلك أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين ، وتارة ثلاثة ثلاثة ، وتارة أربعة أربعة ، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم ، فإنه لا يستفاد منها أصلاً ، بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثراً تشق الإحاطة به .
ومثل هذا إذا قلت : نكحت النساء مثنى ، فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين ، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من هذه الدفعات لم يدخل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى ، كما أنه لا دليل في قولك : جاءني القوم مثنى ، أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان ، إذا تقرر هذا فقوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً .
والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات ، وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن ، بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين ، كما قدمنا في مجيء القوم .
وليس فيه أيضاً دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى ، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا ، فهذا مقام الاستفادة منه ، فليتفضل بها علينا ، وابن عباس ، إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة .
وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ وآل عمرانيّ ، والقاسم بن إبراهيم ، نجم آل الرسول ، وجماعة من الشيعة ، وثلة من محققي المتأخرين ، خالفه أيضاً القرآن الكريم ، كما بيناه .
وخالفه أيضاً فعل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما صح ذلك تواتراً ، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات .
{ وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : من الآية 7 ] .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : من الآية 21 ] .
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عِمْرَان : من الآية 31 ] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل ، والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنه المعاذير .
وأما حديث أمره صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لغيلان ، لما أسلم وتحته عشر نسوة ، بأن يختار منهن أربعاً ويفارق سائرهن ، كما أخرجه الترمذيّ وابن ماجة وابن حبان ، فهو وإن كان له طرق ، فقد قال ابن عبد البر : كلها معلولة ، وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى ، ومثل هذا لا ينْتَهِضُ للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفويّ الذي مات صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عليه والبراءة الأصلية .
ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ، أو جاءنا بدليل في معناه ، فجزاه الله خيراً ، فليس بين أحد وبين الحق عداوة .
وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير ، كما نفعله في كثير من الأبحاث ، وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب ، فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك ، لقيل وقال .
ولا سيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال ، فإنك لا تُسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر مَعْقِل ، ومن ورد البحر استقل السواقيا . انتهى .
وقال الشوكاني قدس سره أيضاً في " نيل الأوطار " : حديث قيس بن الحارث ( وفي رواية الحارث بن قيس ) في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة .
قال أبو القاسم البغوي : ولا أعلم للحارث بن قيس حديثاً غير هذا .
وقال أبو عَمْرو النمري : ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح ، وفي معنى هذا الحديث غيلان الثقفي وهو عن الزهريّ عن سالم عن ابن عمر قال : أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة ، في الجاهلية ، فأسلمن معه ، < فأمره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يختار منهن أربعاً > ، رواه أحمد وابن ماجة والترمذيّ ، وحكم أبو حاتم أبو زرعة بأن المرسل أصح .
وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة ، قال : فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة ، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقيّ بظاهر الحكم ، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة ، وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه .
قال الحافظ : ولا يفيد ذلك شيئاً ، فإن هؤلاء كلهم ، إنما سمعوا منه بالصرة ، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها ، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب ، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة ، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها ، اتفق على ذلك أهل العلم ، كابن المديني والبخاريّ وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم .
وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح ، والعمل عليه ، وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده .
وقال ابن عبد البر : طرقه كلها معلولة .
وقد أطال الدارقطني في " العلل " تخريج طرقه .
ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهريّ مرسلاً ، ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك ، وقد وافق معمراً على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهريّ ، ولكنه ضعيف ، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ، ويحيى ضعيف .
وفي الباب عن نوفل بن معاوية ، عند الشافعيّ ، أنه أسلم وتحته خمسة نسوة ، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : أمسك أربعاً وفارق الأخرى ، وفي إسناده رجل مجهول ، لأن الشافعيّ قال : حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية قال : أسلمت ، فذكره ، وفي الباب أيضاً عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقيّ .
وقوله : اختر منهن أربعاً ، استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع ، وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعاً ، ولعل وجهه قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل ، تسع .
وحكي ذلك عن ابن الصباغ وآل عمراني وبعض الشيعة .
وحكي أيضاً عن القاسم بن إبراهيم ، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه ، وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية ، وقوم مجاهيل .
وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم ، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال ، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول ، قالوا : ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك ، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة ، وقد قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : من الآية 21 ] .
وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ، ولم يقم عليه دليل .
وأما قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } فالواو فيه للجمع لا للتخيير ، وأيضاً لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين ، وهو يدل على تناول ما كان متصفاً من الأعداد بصفته الأثنينية ، وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف ، فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي : اثنين اثنين ، وهكذا ثلاث ورباع ، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد .
فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً ، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها ، فإنه لا شك أنه يصح ، لغة وعرفاً ، أن يقول الرجل ، لألف رجل عنده : جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير ، سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير .
لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم ، فكأن الله سبحانه وتعالى قال ، لكل فرد من الناس : أنكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ، ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة ، وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها .
وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره ، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج ، وإن كان كل واحد لا يخلوا عن مقال ، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة ، كما صرح به الخطابي ، فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل ، وأيضاً هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع ، كما صرح بذلك في " البحر " .
وقال في " الفتح " اتفق العلماء على أن من خصائصه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن ، وقد ذكر الحافظ في " الفتح " و " التلخيص " الحكمة في تكثير نسائه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فليراجع ذلك . انتهى .
وقال قدس سره في تفسيره " فتح القدير " : وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ( أو هذا المال الذي في البدرة ) درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة .
وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته ، أو عيّن مكانه ، أما لو كان مطلقاً ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد بها ما كسبوه ، فليس المعنى هكذا ، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول ، على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كبيراً : اقتسموه مثنى وثلاث ورباع ، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين ، وبعضه ثلاثة ثلاثة ، وبعضه أربعة أربعة ، كان هذا هو المعنى العربيّ .
ومعلوم أنه إذا قال القائل : جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف ، كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين ، هكذا : جاءني القوم ثلاث ورباع .
والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، كما في قوله تعالى : { اقْتُلُواْ المشْرِكِينَ } : { أَقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا الزّكَاةَ } ونحوها ، ومعنى قوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً وأربعاً .
هذا ما تقتضيه لغة العرب ، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فإنه وإن كان خطاباً للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد .
فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن ، وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربيّ ، ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون ( أو ) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني .
أخرج الشافعيّ وابن أبي شيبة وأحمد والترمذيّ وابن ماجة والدارقطني والبيهقيّ ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اختر منهن ( وفي لفظ أمسك منهن ) أربعاً وفارق سائرهن > ، وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق .
وعن نوفل بن معاوية الديليّ قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أمسك أربعاً وفارق الأخرى > ، أخرجه الشافعيّ في مسنده .
وأخرج ابن ماجة والنحاس في " تاريخه " عن قيس بن الحارث الأسدي قال : أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة ، فأتيت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأخبرته ، فقال : < اختر منهن أربعاً وخل سائرهن > ، ففعلت ، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقيّ .
وقال قدس سره أيضاً في كتابه " السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار " : أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل : { مّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فغير صحيح ، كما أوضحته في " شرحي للمنتقى " وقد قدمناه .
ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفي وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه ، وإن كان في كل واحد منها مقال ، لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه .
وقد حكى الإجماع صاحب " فتح الباري " والمهدي في " البحر " والنقل عن الظاهرية لم يصح ، فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم . انتهى .
تتمة :
روى الدارقطني عن عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : ينكح البعد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين .
قال الشوكاني في : " نيل الأوطار " : قد تمسك بهذا من قال : إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين .
وهو مروي عن عليّ وزيد بن عليّ والناصر والحنفية والشافعية ، ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته ، نعم ، لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلاً عند القائلين بحجية الإجماع ، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم ؛ أنه يجوز له أن ينكح أربعاً كالحر ، حكى ذلك عنهم صاحب " البحر " فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم ، إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة ، كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما انتهى .
{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا } أي : بين هذه الأعداد .
{ فَوَاحِدَةً } أي : فاختاروها ، وقرئ بالرفع أي : فحسبكم واحدة .
{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من الإماء ، بالغة ما بلغت من مراتب العدد ، لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ، ولا قسم لهن .
و ( أو ) للتسوية ، أي : التخيير ، والعدد يؤخذ من السياق ، ومقابلة الواحدة ، قال الزمخشري : سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد ، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغَباً وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك ، أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل . انتهى .
{ ذَلِكَ } أي : الاقتصار على واحدة أو على التسري : { أَدْنَى } أي : أقرب : { أَلاّ تَعُولُواْ } أي : من أن لا تميلوا ولا تجوروا .
لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول ، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر ، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر ، هذا إن قدر ( تعولوا ) مضارع عال ، بمعنى جار ومال عن الحق ، وهو اختيار أكثر المفسرين .
ومن الوجوه المحتملة فيه كونه مضارع عال بمعنى كثر عياله ، قال في : " القاموس " : وعال فلان عولاً وعيالة : كثر عياله ، كأعول وأعيل . انتهى .
وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايمي ، قدس سره ، في تفسيره حيث قال : أي : أقرب من أن لا تكثر عيالكم فيمكن معه القناعة بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى . انتهى .
وروي هذا التأويل عن زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي ، وأما قول ابن كثير في هذا التفسير : ههنا نظر ، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري - فجوابه ( كما قال الرازي ) من وجهين :
الأول : ما ذكره القفال - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب ، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً ، وحينئذ تقل العيال ، أما إذا كانت المرأة حرة ، لم يكن الأمر كذلك ، فظهر الفرق .
الثاني : أن المرأة إذا كانت مملوكة ، فإذا عجز المولي عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها ، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الإنفاق عليها ، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر ، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة . انتهى .
تنبيهان :
الأولى : قال بعض المفسرين : دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق .
وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز ، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح ، فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم إذا تزوج أكثر من واحدة ، أن يتزوج أكثر .
وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها ، فإنه لا يجوز له قبول الوديعة .
وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات .
وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة .
وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدّها جائز ، وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة .
الثاني : في سر ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل ، قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها " الإسلام وإصلاح النسل " ما مثاله : ما زال البشر يسعى منذ ألوف من السنين وراء إصلاح ما يقتنيه من خيل وبقر وغنم ليكثر انتفاعه به ، فيختار لإناث هذه الحيوانات أفحلاً كريمة ، هي على ما يرومه من الصفات ، ليحصل منها على نسل أنفع له من أمهاته .
وقد زادت رغبة الناس بهذا العصر في إصلاح النوع النافع من الحيوان ، فضربوه ورقوه باختيار الأفحُل المناسبة ، حتى حصلوا على صنف من الخيل الجياد تسابق الرياح فتجري ( 16 ) متراً في الثانية من الزمن ، وعلى صنف من البقر تحلب في اليوم الواحد خمسين أقة ، وعلى صنف من المعزى والغنم شعره أو صوفه مثل الحرير نعومة ، ولم يقصر إصلاحهم على الحيوان ، بل تجاوز إلى النبات ، فحصلوا بفضله على أشجار كثيرة الثمر لذيذته ، وانتفعوا انتفاعاً كبيراً ، ما تيسر لأسلافهم .
نعم إن البشر افتكروا في إصلاح الحيوان الصامت والنبات ، وعلموا ما فيه من الفوائد ، فسعوا إليه السعي الذي يرضاه العلم ، وجنوا ثمار ذلك السعي ، ولكنهم ما افتكروا في إصلاح ما هو أهم من كل ذلك : في إصلاح الحيوان الذكي ، والشرير أكثر من الصالح ، والجبان أكثر من الشجاع ، والكاذب أكثر من الصادق ، والكسلان أكثر من أخي الجد النشيط ، ولو أنهم أصلحوا نسلهم لما وجد في الناس من يولد مريضاً ويعيش مريضاً ، فلا ينتفع بوجوده المجتمع ، وهو كثير .
قام من بين هذا الجيل فيلسوفان : ألماني وإنكليزي ، وأخذا يعلمان بكتاباتهما المبينة على البراهين وجوب إصلاح الإِنسَاْن لنسل الإِنسَاْن ، ويعددان فوائد الإصلاح لنوعه ، ويبيّنان للملأ أن الرقي المطلوب لا يتم إلا به ، وطفقا يلومان الناس على اعتنائهم بإصلاح المواشي وإهمالهم إصلاح أنفسهم ، الأمر الذي هو أهم من ذلك كثيراً ، وذكرا لذلك طرقاً :
( منها ) منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج لينقطع نسلهم الذي يجيء غالباً على شاكلتهم .
( ومنها ) إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرجال ليكثر نسلهم ، وقالا : إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قروناً عديدة كان نسل الإِنسَاْن الأخير ، بحكم ناموس الوراثة ، سالماً من الأمراض ، حسن الطوية ، ليس فيه ميل إلى الشر ، قوياً ، ذكي الفؤاد ، نابغاً في العلوم ، التي يتعلمها ، كأنه نوع أرقى من الإِنسَاْن الحاضر ، وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل ، هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس ، فإن منع أصحاب الأمراض المزمنة والجناة من الزواج إنما يفيد في تقوية النسل وجعله ميالاً بالفطرة إلى الخير ليس إلا ، لا في جعله أذكى من آبائه وأسمى مدارك ، وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين ، قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة ، فقد أباح لهم تعددهن إلى أربع ، ليكثر نسلهم ، فيكثر عدد النابغين ، الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا ، فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية .
وقد جعل رضاهن بذلك شرطاً أنه لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن .
والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال - وإن كان ذا زوجات أخر - على أن تكون زوجة لرجل أحمق ، وإن اقتصر عليها ، لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون أكثر منهم من الثاني .
وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة ، لئلا يكثر نسلهم ، قال الله تعالى في كتابه المبين يخاطب المؤمنين : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } الخطاب في هذه الآية لعموم الأمة ، فهي تأذن لكل أحد من المسلمين أن يتزوج بأكثر من واحدة من النساء إلى أربع ، إذا آنس من نفسه القدرة على العدل بينهن ، وإلا وجب عليه الاقتصار على واحدة لئلا يجور عليهن .
والقدرة على العدل بين أربع من النساء ، متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة وحكمة بالغة في المعاملة ، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال ، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه ، والرجل النابغة ، إذا تزوج بأكثر من واحدة ، كثر نسله فكثر النوابغ .
والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب ، كما يدلنا عليه التاريخ .
ثم خاطب الله ، في مكان آخر ، الخائفين أن لا يعدلوا بين الناس ؛ وهم غير النوابغ من المسلمين ، بقوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } .
فأمرهم في هذه الآية ، التي هي في المعنى تتمة للأولى ، أن لا يقترنوا بأكثر من واحدة لأنهم في درجة من العقل هي دون درجة النابغين ، لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء ، المتوقف على عقل كبير يسهل لصاحبه أن يرضيهن جمعاء ، كما يأتيه النابغون والدهاة من الناس ، وحرم على هؤلاء ، الذين لم يجوزوا المقدرة على العدل ، التزوج بأكثر من واحدة ، لئلا يقع سلم الارتقاء ، ولئلا يكثر نسل غير النابغين ، وهو الأهم ، فتبقى الأمة في مكانها من الانحطاط .
وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } في الآية الأولى لعموم الأمة ، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصة بالعادلين منهم ، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم .
والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع ، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع ، كما أسلفنا ، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ ، بمجرد تعدد الزوجات ، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطاً أو منحطين ، وإن كان أبوهم راقياً ، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل .
بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات ، ليكون أولادهم مثلهم نبوغاً أو أنبغ منهم ، بحكم سنة الوراثة ، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج ، فنكحوا ما طاب لهم ، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغاً مثل نبوغه ، إلى حسن رائع ، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي ، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه .
ولذلك قال تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } ولم يقل وانكحوا من النساء ، وفي قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل ، الثلاث ، فكأنه أراد أن لا يتجاوز ، الذي قلّ نبوغه ، الاقتران باثنتين ، وأن لا يتجاوز ، الذي نبوغه متوسط ، الاقتران بثلاث ، وأن يحل ، للذي نبوغه أعلى من الأولين ، الاقترانُ بأربع .
وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة ، لأنهم أناس لن يستطيعوا ، مع كل حرصهم ، أن يعدلوا بين النساء ، لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم ، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ ، هو محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولاً منه إلى البشر ، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن .
وأظنك ، بعد قراءة ما أوردت ، تعترف ، إن كنت من المنصفين ، أن الإسلام جاء ، قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، بسنّة للزواج ، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر ، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضّون عليه ، تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها ، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي ، وهو إباحة تعدد الزوجات ، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن ، لأفراد نابغين من المسلمين ، لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن ، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله ، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين ، للخائفين أن لا يعدلوا ، ولغير الخائفين ، ففسد النسل ، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت ، بحكم الجهل ، منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب ، فكثر نسل الظالمين وقلّ نسل العادلين من أهل العقل الراجح . انتهى كلامه ، وهو استنباط بديع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مّرِيئاً } [ 4 ]
{ وَآتُواْ } أي : أعطوا .
{ النّسَاء } أي : اللاتي أمر بنكاحهن .
{ صَدُقَاتِهِنّ } أي : مهورهن ( جمع صدقة كسَمْرة ) وهي المهر .
{ نِحْلَةً } أي : عطاءً غير مسترد بحيلة تلجئهن إلى الرد ، والنّحلة ( بكسر النون وضمها ، على ما رواه ابن دريد ) اسم مصدر لـ ( نحل ) ، والمصدر النّحل ( بالضم ) وهو العطاء بلا عوض ، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة ، مع كونها واجبة على الأزواج ، لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر .
فائدتان :
الأولى : هذا الخطاب إما للأزواج ، كما روى عن علقمة والنخعي وقتادة ، واختاره الزجاج ، فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج ، وإما لأولياء النساء ، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً .
ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة ، ومعناه إنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي : تعظمه .
وقال ابن الأعرابيّ : النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته ، فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله ، وهذا قول الكلبي وأبي صالح ، واختيار الفراء وابن قتيبة .
الثانية : قال القفال رحمه الله تعالى : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام ، قال تعالى : { حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } [ التوبة : من الآية 29 ] ، والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها ، فعلى هذا الوجه الأول ، كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن ، وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم ، سواء سمي ذلك أو لم يسم ، إلا ما خص به الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الموهوبة .
ثم قال رحمه الله : ويجوز أن يكون الكلام جامعاً للوجهين معاً ، والله أعلم .
{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً } الضمير للصدُقات ، وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك ، أي : فإن أحللن لكم من المهر شيئاً بطيبة نفس ، جلباً لمودتكم ، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم ، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم .
{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } أي : فخذوه وانصرفوا فيه تملكاً ، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية .
وهنيئاً مريئاً : صفتان من ( هنؤ الطعام ومرؤ ) إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه ، وقيل : الهنيء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة ، والمريء حميد المغبة ، وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة ، لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : للآية ثمرات :
منها : أنه لا بد في النكاح من صداق .
ومنها : أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون .
ومنها : أن لها أن تتصرف فيه بما شاءت ، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا ، ولذا قال بعض الفقهاء : لها بيع مهرها قبل قبضه ، ولبعضهم : لا تبيعه حتى تقبضه ، كالملك بالشراء .
ومنها : أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها [ في المطبوع : نفسسها ] ، وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت ، واحتج بالآية .
روى الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحاً في عطية أعطتها إياه ، وهي تطلب الرجوع ، فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } ؟ فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه .
وروي عنه أيضاً : أقيلها فيما وهبت ولا أقبله ، لأنهن يُخْدعن .
وعن عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى قضاته : أن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها ، نقله الرازيّ .
أقول : ما رآه شريح وروي عن عمر ، هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع ، إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط ، حيث بني الشرط على طيب النفس ، ولم يقل : فإن وهبن لكم ، إعلاماً بأن المراعَى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيّبة ، وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها ، وذلك بين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } [ 5 ]
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } اعلم أن في الآية وجوهاً يحتملها النظم الكريم . الأول : أن يراد بالسفهاء اليتامى ، كما روي عن سعيد بن جبير ، والخطاب حينئذ للأولياء ، نهوا أن يؤتوا اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها لقلة عقولهم ، لأن السفيه هو الخفيف الحلم ، وإنما أضيفت للأولياء ، وهي لليتامى ، تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء ، فكان أموالهم عين أموالهم ، لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي ، مبالغة في حملهم على المحافظة عليها ، كما قال تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : من الآية 29 ] ، أي : لا يقتل بعضكم بعضاً حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم ، مبالغة في زجرهم عن قتلهم ، فكأن قتلهم قتل أنفسهم ، وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطاً لمعاش أصحابها بجعلها مناطاً لمعاش الأولياء ، بقوله تعالى : { الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } أي : جعلها الله شيئاً تقومون وتنتعشون ، فلو ضيعتموها لضعتم .
وقوله تعالى : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } أي : اجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم ، بأن تتجروا وتتربحوا ، حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال .
وقوله سبحانه : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } أي : كلاماً ليناً تطيب به نفوسهم ، ومنه أن يعدهم عدة جميلة ، بأن يقول وليهم : إذا صلحتم ورشدتم ، سلمنا إليكم أموالكم .
الوجه الثاني : أن يراد بالسفهاء الناس والصبيان ، روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، فالخطاب عام والنهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطيه امرأته وأولاده ، ثم ينظر إلى أيديهم ، وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقلهم واستهجاناً لجعلهم قواماً على أنفسهم .
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : لا تعمد إلى مالك خوّلك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو ابنتك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم .
الوجه الثالث : أن يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ، فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام كل من كان موصوفاً بهذه الصفة .
قال الرازي : وهذا القول أولى ، لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : في هذه الآية الحجر على السفيه ، وأنه لا يمكّن من ماله ، وأنه ينفق عليه منه ويكسي ، ولا ينفق في التبرعات ، وأنه يقال له معروف كـ : ( إن رشدت دفعنا إليك مالك ، وإنما يحتاط لنفعك ) .
واستدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ ، سواء طرأ عليه أم كان من حين البلوغ ، ومن قال بالحجر على من يُخدع في البيوع ، ومن قال بأن من يتصدق على محجور ، وشرط أن يترك في يده ، لا يسمع منه في ذلك .
لطيفة :
في قوله تعالى : { الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها .
قال الزمخشري : كان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه ، خير من أحتاج إلى الناس .
وعن سفيان ، وكانت له بضاعة يقلبها : لولاها لتمندل بي بنو العباس .
وعن غيره ( وقيل له : إنها تدنيك من الدنيا ) : لأن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها ، وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا ، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه ، وربما رأوا رجلاً في جنازة ، فقالوا له : اذهب إلى دكانك . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } [ 6 ]
{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } أي : اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف .
{ حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } أي : بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة .
لما في الصحيحين عن ابن عمر قال : < إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عرضه يوم أُحُد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني > .
قال نافع : فقدمت على عُمَر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال : إن هذا لحَدّ بين الصغير والكبير ، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة ، وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة ، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عطية القرظي قال : < عُرِضنا على النبيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلى سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت ، فخلى سبيلي > ، قال الترمذيّ : حسن صحيح .
{ فَإِنْ آنَسْتُم } أي : شاهدتم وتبينتم .
{ مّنْهُمْ رُشْداً } أي : صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم ، قاله سعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة .
{ فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } أي : من غير تأخير .
وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق ، لا يسلم إليه ماله لأنها مفسدة للمال .
{ وَلاَ تَأْكُلُوهَا } أيها الأولياء .
{ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } أي : مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ، تفرطون في إنفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا .
{ وَمَن كَانَ } من الأولياء .
{ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } أي : يتنزه عن أكل مال اليتيم ، فإنه عليه كالميتة والدم ، وليقنع بما آتاه الله تعالى من الزرق .
{ وَمَن كَانَ فَقِيراً } يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب ، وإهمالُه يفضي إلى تلفه عليه .
{ فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ } بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته .
كما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة حيث قالت : فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه ، ورواه البخاريّ أيضاً .
قال ابن كثير : قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين أجرة مثله ، وقد حاجته ، وهل يرد إذا أيسر ؟ وجهان :
أحدهما : لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً ، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعيّ ، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل .
وروى الإمام أحمد عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ، فقال : < كل من مال يتيمك غير مسرف ، ولا مبذر ولا متأثل مالاً ، ومن غير أن تقي مالك > ، أو قال : < تفدي مالك بماله > .
ورواه ابن أبي حاتم ولفظه : < كل بالمعروف غير مسرف > ، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة .
وروى ابن حبان في : " صحيحه " وابن مردويه في : " تفسيره " عن جابر : أن رجلاً قال : يا رسول الله ! مما أضرب يتيمي ؟ قال : < مما كنت ضارباً منه ولدك ، غير واقٍ مالك بماله ، ولا متأثل منه مالاً > .
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاماً ، وإن لهم إبلاً ، ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء ، فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسعى عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب ، ورواه مالك في موطئه .
وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - يقول عطاء بن أبي رَبَاح وعكرمة وإبراهيم النَّخَعِي وعطية العوفيّ والحسن البصريّ .
والوجه الثاني : يردّ ، لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيردّ بدله - كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة .
وقد روى ابن أبي الدنيا عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة وإلى اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرت قضيت .
وروى سعيد بن منصور في : " سننه " : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء قال : قال لي عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم إن احتجت أخذت منه ، فإذا أيسرت رددته ، وإن استغنيت استعففت ، قال ابن كثير : إسناد صحيح .
وروى البيهقيّ عن ابن عباس نحو ذلك ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ } يعني القرض ، قال : وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل ، وسعيد بن جبير ( في إحدى الروايات ) ومجاهد والضحاك والشعبي والسدّي نحو ذلك .
قال الفخر الرازي : وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب الفضة وغيرها .
وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال ، وهذا قول أبي العالية وغيره ، واحتجوا بأن الله تعالى قال : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فحكم في الأموال بدفعها إليهم . انتهى .
أقول : الكل محتمل ، إذ لا نص من الأصلين على واحد منها ، ولا يخفى الورع .
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } أي : بعد البلوغ والرشد .
{ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أي : عند الدفع بأنهم قبضوها ، فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة .
قال السيوطيّ : فيه الأمر بالإشهاد ندباً ، وقيل : وجوباً ، ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبيّ ، لا الولي .
فلا يقبل قوله إلا ببينة .
{ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } أي : كافياً في الشهادة عليكم بالدفع والقبض ، أو محاسباً ، فلا تخالفوا ما أمركم به ، ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا ، فإن الوصي يحاسب على ما في يده .
وفيه وعيد لوليّ اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره ، لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله .
وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تَأمّرَنّ على اثنين ولا تَوَلّيَنّ مال يتيم > .
ثم ذكر تعالى أحكام المواريث بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً } [ 7 ]
{ لّلرّجَالِ } أي : الأولاد والأقرباء .
{ نَصيِبٌ } أي : حظ .
{ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } أي : المتوفون .
{ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ } أي : المال .
{ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً } أي : مقطوعاً واجباً لهم ، وإيراد حكم النساء على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام الرجال ، بأن يقال للرجال والنساء إلخ للاعتناء بأمرهن ، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين ، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية ، فإنهم كانوا لا يورّثون النساء والأطفال ، ويقولون ، لا يرث إلا من طاعَنَ بالرماح ، وذاد عن الحوزة ، وحاز الغنيمة ، وقد استدل بالآية على توريث ذوي الأرحام لأنهم من الأقربين ، وهو استدلال وجيه ، ولا حجة لمن حاول دفعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } [ 8 ]
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي : قسمة التركة .
{ أُوْلُواْ الْقُرْبَى } ذوو القرابة ممن لا يرث ، قدّمهم لأن إعطاءهم صدقة وصلة .
{ وَالْيَتَامَى } الضعفاء بفقد الآباء .
{ وَالمسَاكِينُ } الضعفاء بفقد ما يكفيهم من المال .
{ فَارْزُقُوهُم مّنْهُ } أي : أعطوهم من الميراث شيئاً .
{ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } بتلطيف القول لهم والدعاء لهم بمثل : بارك الله عليكم .
قال ابن كثير في هذه الآية : المعْنَى أَنّهُ إِذَا حَضَرَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء مِنْ الْقَرَابَة الّذِينَ لَا يَرِثُونَ ، وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِين قِسْمَة مَال جَزِيل فَإِنّ أَنْفُسهمْ تَتُوق إِلَى شَيْء مِنْهُ إِذَا رَأَوْا هَذَا يَأْخُذ وَهَذَا يَأْخُذ ، وَهُمْ يَائِسُونَ لَا يُعْطُونَهُ شيئاً ، فَأَمَرَ اللّه تَعَالَى وَهُوَ الرّءُوف الرّحِيم أَنْ يُرْضَخ لَهُمْ شَيْء مِنْ الْوَسَط يَكُون بِرّا بِهِمْ وَصَدَقَة عَلَيْهِمْ وَإِحْسَاناً إِلَيْهِمْ وَجَبْراً لِكَسْرِهِمْ .
كَمَا قَالَ اللّه تَعَالَى : { كُلُوا مِنْ ثَمَره إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقّه يَوْم حَصَاده } [ الأنعام : من الآية 141 ] .
وَذَمّ الّذِينَ يَنْقُلُونَ المال خِفْيَة ، خَشْيَة أَنْ يَطّلِع عَلَيْهِمْ المحَاوِيج وَذَوُو الْفَاقَة كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ أَصْحَاب الْجَنّة : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنّهَا مُصْبِحِينَ } [ القلم : من الآية 17 ] ، { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنّهَا الْيَوْم عَلَيْكُمْ مِسْكِين } [ القلم : 23-24 ] : { دَمّرَ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالهَا } [ محمد : 10 ] فَمَنْ جَحَدَ حَقّ اللّه عَلَيْهِ عَاقَبَهُ فِي أَعَزّ مَا يَمْلِكهُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث : < مَا خَالَطَتْ الصّدَقَة مَالاً إِلّا أَفْسَدَتْهُ > ، أي : مَنْعهَا يَكُون سَبَب مَحْق ذَلِكَ المال بِالْكُلّيّةِ . انتهى .
وقد روى البخاريّ عن ابن عباس ، في الآية قال : هي محكمة وليست بمنسوخة ، وفي لفظ عنه : هي قائمة يعمل بها .
وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، في هذه الآية : أنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم .
وروى عبد الرزاق في : " مصنفه " أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن ، وعائشة حية ، فلم يدع في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه ، وتلا : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى } الآية .
وأخرج سعيد بن منصور عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيّعهن كثير من الناس : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } وآية الاستئذان : { وَالّذِينَ لم يَبْلُغُوا الْحُلم مِنكُمْ } وقوله : { إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } الآية .
وقد ذكر ههنا كثير من المفسرين آثاراً عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية الميراث ، وهي من الضعف بمكان ، ولقد أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة ، وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث ، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل ، وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعَف ولا يساعَد ، فالآية بينة بنفسها ، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة ، لا تنسخ أو تقومَ الساعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ 9 ]
{ وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } في الآية وجوه .
الأول : أنها أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى ، فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريّهم الضعاف بعد وفاتهم .
الثاني : أنها أمر لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم ، فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم .
الثالث : أنها أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين ، متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم ، هل يجوّزون حرمانهم ؟
الرابع : أنها أمر للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية .
كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله ! إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : < لا > ، قال : فالشطر ؟ قال : < لا > ، قال : فالثلث ، قال : < الثلث ، والثلث كثير > ، ثم قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس > .
وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لو غض الناس إلى الربع ؟ لأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال الثلث : والثلث كثير ( أو كبير ) .
والوجه الأول : حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ، قال ابن كثير : وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً .
ونقل الرازي عن القاضي : إن هذا الوجه أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود .
قال الزمخشري : والقول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ، ويدعوهم بـ ( يا بنيّ ) ويا ولدي ، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له ، إذا أراد الوصية : لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك ، مثل قول رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لسعد : < إنك إن تترك ولدك أغنياء ، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس > ، ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين .
لطيفة :
لا بد من حمل قوله تعالى : ( تركوا ) على المشارفة : ليصح وقوع ( خافوا ) خيراً له ، ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة ، ونظيره : { وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : من الآية 231 ] ، أي : شارفن بلوغ الأجل ، ولهذا المجاز ، في التعبير عن المشارفة على الترك ، بالترك ، سرّ بديع ، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة ، ولا في الذبّ عن الذرية الضعاف ، وهي الحالة التي ، وإن كانت من الدنيا ، إلا أنها لقربها من الآخرة ، ولصوقها بالمفارقة ، صارت من حَيّزها ، ومعبراً عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك ، كذا في الانتصاف .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : إن يجب أن يحب الإِنسَاْن لأخيه ما يحب لنفسه ويحب لذرية غيره من المؤمنين ما يحب لذريته ، وأن على وليّ اليتيم أن لا يؤذي اليتيم ، بل يكلمه كما يكلم أولاده بالأدب الحسن والترحيب ، ويدعوا اليتيم : يا بني ، يا ولدي ، وقد جاء في الرقة على الأيتام آثار كثيرة .
وفي الآية إشارة إلى إرشاد الآباء ، الذي يخشون ترك ذرية ضعاف ، بالتقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناؤهم وتغاث بالعناية منه تعالى ، ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى ، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع .
وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف ، كما في آية : { وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامينِ يَتِيمينِ فِي المدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [ الكهف : 82 ] ، إلى آخرها ، فإن الغلامين حُفِظا ، ببركة صلاح أبيهما ، في أنفسهما ومالهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلما إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ 10 ]
{ إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلما } أي : على وجه الظلم من الورثة ، أو أولياء السوء وقضاته ، بخلاف أكل الفقير الناظر في أموالهم بقدر أجرته ، كما تقدم .
{ إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } أي : ما يجر إلى النار ويؤدي إليها .
{ وَسَيَصْلَوْنَ } أي : في القيامة .
{ سَعِيراً } أي : ناراً مستعرة .
روى ابن حبان في : " صحيحه " وابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي برزة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً > ، قيل : يا رسول الله ! من هم ؟ قال : ألم تر أن الله قال : { إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلماً } الآية .
لطيفة :
قال الزمخشري : في بطونهم ، أي : ملء بطونهم ، يقال : أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه ، قال الشاعر :
~كلوا في بعض بطنكموا تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
قال الناصر : ومثله : قد بدت البغضاء من أفواههم أي : شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم ، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير ، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله ، خص الأكل ، لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها ، والله أعلم .
تنبيه :
روى أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه ، فيحبس له حتى أكله أو يفسد ، فاشتد عليهم ذلك ، فذكروا ذلك لرسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأنزل الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } [ البقرة : من الآية 220 ] ، الآية ، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابه بشرابه ، وقد مضى ذلك في سورة البقرة .
قال الرازي رحمه الله : ومن كالجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك ، وهو بعيد ، لأن هذه الآية في المنع من الظلم ، وهذا لا يصير منسوخاً بتلك ، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى ، إن كان على سبيل الظلم ، فهو من أعظم أبواب الإثم ، كما في هذه الآية ، وإن كان على سبيل التربية والإحسان ، فهو من أعظم أبواب البر ، كما في قوله : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .
وقال رحمه الله قبل ذلك : ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله ، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى ، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لم يَكُن لّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً } [ 11 ]
وقوله تعالى :
{ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة .
في قوله تعالى : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } إلخ .
قال الحافظ ابن كثير : هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة وَاَلّتِي بَعْدهَا وَالْآيَة الّتِي هِيَ خَاتِمَة هَذِهِ السّوَرة ، هُنّ آيَات عِلْم الْفَرَائِض ، وَهُوَ مُسْتَنْبَط مِنْ هَذِهِ الْآيَات الثّلَاث ، وَمِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ مِمّا هُوَ كَالتّفْسِيرِ لِذَلِكَ . انتهى .
والمعنى : يأمركم الله ويعهد إليكم في شأن ميراث أولادكم بعد موتكم .
{ لِلذّكَرِ } أي : منهم .
{ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } أي : نصيبهما اجتماعاً وانفراداً .
أما الأول : فإنه يعدّ كل ذكر بأنثيين ، في مثل ابن مع بنتين ، وابن ابنٍ مع بنتي ابن ، وهكذا في السافلين ، فيضعف نصيبه ويأخذ سهمين ، كما أن لهما سهمين ، وأما الثاني فإن له الكل وهو ضعف نصيب البنت الواحدة ، لأنه جعل لها في حال انفرادها النصف ، فاقتضى ذلك أن للذكر ، عند انفراده ، مثلي نصيبها عند انفرادها ، وذلك الكامل ، فالمذكور هنا ميراث الذكر مطلقاً ، مجتمعاً مع الإناث ومنفرداً ، كما حققه صاحب " الانتصاف " .
تنبيه :
قال السيوطيّ : استدل بالآية من قال بدخول أولاد الابن في لفظ ( الأولاد ) للإجماع على إرثهم ، دون أولاد البنت .
لطائف :
الأولى : وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق ، فهو إلى المال أحوج ، ولأنه لو كمل نصيبها ، مع أنها قليلة العقل ، كثيرة الشهوة لأتلفته في الشهوات إسرافاً ، ولأنها قد تنفق على نفسها فقط ، وهو على نفسه وزوجته .
الثانية : لم يقل : للذكر ضعف نصيب الأنثى ، لأن الضعف يصدق على المثلين فصاعداً ، فلا يكون نصاً ، ولم يقل : للأنثيين مثل حظ الذكر ، ولا للأنثى نصف حظ الذكر ، تقديماً للذكر بإظهار مزيته على الأنثى ، ولم يقل : للذكر مثلاً نصيب الأنثى ، لأنه المثل في المقدار لا يتعدد إلا بتعدد الأشخاص ، ولم يعتبر ههنا .
الثالثة : إيثار اسمي ( الذكر والأنثى ) على ما ذكر أولاً من الرجال والنساء ، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق ، من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلاً ، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال ، كالنساء .
الرابعة : استنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم أنه أرحم بهم منهم .
كما جاء في الحديث الصحيح ، وقد رأى امرأة من السبي ، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها ، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لأصحابه : < أَتَرَوْنْ هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟ > قالوا : لا يا رسول الله ، قال : < فوالله ! لَلّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها > .
{ فَإِن كُن } أي : الأولاد ، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى : { نِسَاء } يعني بنات خلصاً ليس معهن ذكر .
{ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } خبر ثان أو صفة لنساء ، أي : نساء زائدات على اثنتين .
{ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي : المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام .
تنبيه :
ظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً حيث لا ذكر معهن ، ولم يسم للبنتين فريضة .
وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما ، فذهب الجمهور إلى أن لهما ، إذا انفردتا عن البنين ، الثلثين .
وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف ، احتج الجمهور بالقياس على الأختين ، فإن الله سبحانه قال في شأنهما : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ } فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين ، كما ألحقوا الأخوات ، إذا زدن على اثنتين ، بالبنات ، في الاشتراك في الثلثين .
وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث ، كان للابنتين ، إذا انفردتا ، الثلثان ، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد .
قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين ، وأيضاً للمخالف أن يقول : إذا ترك بنتين وابناً فللبنتين النصف ، فهذا دليل على أن هذا فرضهما .
ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت ، بقوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ } كان فرض البنتين ، إذا انفردتا ، فوق فرض الواحدة ، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين .
وقيل إن ( فوق ) زائدة ، والمعنى : إن كن نساء اثنتين ، كقوله تعالى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } [ الأنفال : من الآية 12 ] أي : الأعناق .
ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا : هو خطأ ، لأن ظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى .
قال ابن عطية : ولأن قوله ( فوق الأعناق ) هو الفصيح وليست ( فوق ) زائدة بل هي محكمة المعنى ، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال . انتهى .
وأيضاً لو كان لفظ ( فوق ) زائداً كما قالوا ، لقال : فلهما ثلثا ما ترك ، ولم يقل : فلهن ثلثا ما ترك .
وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقيّ في : " سننه " عَنْ جَابِرِ قَالَ : جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيداً ، وَإِنّ عَمّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً ، وَلاَ تُنْكَحَانِ إِلاّ وَلَهُمَا مَالٌ .
فقَالَ : < يَقْضِى اللّهُ فِي ذَلِكَ > ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إِلَى عَمّهِمَا فَقَالَ : < أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثّلُثَيْنِ ، وأُمّهُمَا الثّمُنَ ، وَمَا بَقِىَ فَهُوَ لَكَ > .
أخرجوه من طرق ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر .
قال الترمذيّ : هَذَا حَدِيثٌ [ حَسَنٌ ] صَحِيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكٌ أَيْضاً عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ من حديثه ، كذا في : " فتح البيان " .
{ وَإِن كَانَتْ } أي : المولودة .
{ وَاحِدَةً } أي : امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت .
{ فَلَهَا النّصْفُ } أي : نصف ما ترك ، ولم يكمل لها لأنها ناقصة ، ولذلك لم يُجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها ، ثم ذكر ، بعد ميراث الأولاد ، ميراث الوالدين فقال : { وَلأَبَوَيْهِ } أي : الميت ، وهو كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه ، والمراد بالأبوين الأب والأم ، والتثنية على لفظ الأب للتغليب .
{ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ } من المال .
{ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى .
{ فَإِن لم يَكُن لّهُ } للميت : { وَلَدٌ } ذكر أو أنثى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمّهِ الثّلُثُ } أي ثلث المال مما ترك ، والباقي للأب للذكر مثل حظ الأنثيين لكن قرر لها الثلث تنزيلاً لها منزلة البنت مع الابن ، لا منفردة ، حطّاً لها عن درجتها ، لقيام البنت مقام الميت في الجملة ، قاله المهايميّ .
{ فَإِن كَانَ لَهُ } أي : للميت : { إِخْوَةٌ } من الأب والأم ، أو من الأب أو من الأم ، ذكوراً أو إناثاً .
{ فَلأُمّهِ السّدُسُ } يعني لأم الميت سدس التركة .
{ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث ، ومن بعد قضاء دين على الميت .
وقرئ في ( السبع ) : يوصي مبنياً للمفعول وللفاعل .
قال الحافظ ابن كثير : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء مِنْ السّلَف وَالْخَلَف عَلَى أَنّ الدّيْن مُقَدّم عَلَى الْوَصِيّة .
وَرَوَى أَحْمَد وَالترمذيّ وَابْن مَاجَهْ وَأَصْحَاب التّفَاسِير مِنْ حَدِيث اِبْن إِسْحَاق عَنْ الْحَارِث بْن عَبْد اللّه الْأَعْوَر عَنْ عليّ بْن أَبِي طَالِب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : إِنّكُمْ تَقْرَءُونَ هذه الآية : { مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } < وَإِنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَضَى بِالدّيْنِ قَبْل الْوَصِيّة ، وَإِنّ أَعْيَان بَنِي الْأُمّ يَتَوَارَثُونَ دُون بَنِي الْعِلّات ، الرّجُل يَرِث أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمّه دُون أَخِيهِ لِأَبِيهِ > .
ثُمّ قَالَ الترمذيّ : لَا نَعْرِفهُ إِلّا مِنْ حَدِيث الْحَارِث ، وَقَدْ تَكَلّمَ فِيهِ بَعْض أَهْل الْعِلْم ، لَكِنْ كَانَ حَافِظاً لِلْفَرَائِضِ ، مُعْتَنِياً بِهَا وَبِالْحِسَابِ ، فَاَللّه أَعْلَم .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا ، وفيها مشروعية الوصية ، واستدل بتقديمها في الذّكر من قال بتقديمها على الدين في التركة ، وأجاب من أخرها بأنها قدمت لئلا يتهاون بها ، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر ، ولو استغرق المال ، ومن أجازها للوارث والكافر ، حربياً أو ذمياً ، واستدل بها من قال : إن الدّين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ، ومن قال إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله : { أَوْ دَيْنٍ } انتهى .
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة بسند صحيح عَنْ سَعْدِ بْنِ الْأَطْوَلِ أَنّ أَخَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلَاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَتَرَكَ عِيَالاً فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا عَلَى عِيَالِهِ ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنّ أَخَاكَ مُحْتَبَسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ > ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! قَدْ أَدّيْتُ عَنْهُ ، إِلّا دِينَارَيْنِ ادّعَتْهُمَا امرأة وَلَيْسَ لَهَا بَيّنَةٌ ، قَالَ : < فَأَعْطِهَا فَإِنّهَا مُحِقّةٌ > .
لطيفة :
( فائدة ) وصف الوصية بقوله : { يُوصِي بِهَا } هو الترغيب في الوصي والندب إليها .
وإيثار ( أو ) المفيدة للإباحة في قوله : أو دين ، على ( الواو ) للدلالة على تساويهما في الوجوب ، وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين ، وتقديم الوصية على الدّين ، ذكْراً مع تأخرها عنه حكماً ، ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها ، لكونها مظنة التفريط في أدائها ، ولاطرّادها ، بخلاف الدين - ، أفاده أبو السعود .
{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } أي : لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم ، والمعنى : فرض الله الفرائض ، على ما هو ، على حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع ، وأنتم لا تدرون تفاوتها ، فتولى الله ذلك فضلاً منه ، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير ، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة ، وردّ لما كان في الجاهلية .
قال السمرقندي : ويقال : معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث ، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتاً فيرث منه الآخر . انتهى .
{ فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ } نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : فرض الله ذلك فرضاً ، أو لقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } فإنه في معنى : يأمركم ويفرض عليكم .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما } أي : بالمصالح والرتب : { حَكِيماً } أي : في كل ما قضى وقدر ، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى ، دخولاً أولياً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لم يَكُن لّهُنّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لم يَكُن لّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرّ وَصِيّةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ 12 ]
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } من المال .
{ إِن لم يَكُن لّهُنّ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم .
{ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ } على نحو ما فصّل .
{ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ } من المال ، والباقي لباقي الورثة .
{ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي : من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن .
{ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ } من المال .
{ إِن لم يَكُن لّكُمْ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى ، منهن أو من غيرهن .
{ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ } على النحو الذي فصل .
{ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الكلام فيه كما تقدم ، وفي تكرير ذكر الوصية والدين ، من الاعتناء بشأنهما ، ما لا يخفى .
لطيفة :
في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء ، لأنه تعالى حيث ذكر الرجال ، في هذه الآية ، ذكرهم على سبيل المخاطبة ، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة ، وأيضاً خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات ، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك ، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء ، كما فضلوا عليهن في النصيب ، كذا يستفاد من الرازي .
{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ } أي : تورث كذلك .
{ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ } أي : الأخوة والأخوات من الأم .
{ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ } أي : من واحد .
{ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثّلُثِ } يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم .
قال المجد في : " القاموس " : والكَلالَةُ : مَن لا ولَدَ له ولا والِدَ ، أو ما لم يكنْ من النّسَبِ لَحّاً ، أو مَن تَكَلّلَ نَسَبُهُ بنَسَبِكَ ، كابْنِ العَمّ وشِبْهِهِ ، أو هي الأخُوّةُ للْأُمّ ، أَو بَنو العَمّ [ في المطبوع : العلم ] الأَباعدُ ، أو ما خَلا الوالدَ والوَلَدَ [ في المطبوع : الوالد ] ، أو هي من العَصَبَةِ مَنْ وَرِثَ منه الإِخْوَةُ للْأُمّ ، فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة .
وقال ابن بري : اعلم أَن الكَلالة في الأَصل هي مصدر ( كَلّ الميت يَكِلّ كَلاّ وكَلالة ) فهو كَلّ إِذا لم يخلف ولداً ولا والداً يرِثانه ، هذا أَصلها .
قال : ثم قد تقع الكَلالة على العين دون الحدَث ، فتكون اسماً للميت المَوْروث ، وإِن كانت في الأَصل اسماً للحَدَث على حدّ قولهم : هذا خَلْقُ الله أي : مخلوق الله .
قال : وجاز أَن تكون اسماً للوارث على حدّ قولهم : رجل عَدْل أي : عادل ، وماءٌ غَوْر أي : غائر .
قال : والأَول هو اختيار البصريين من أَن الكَلالة اسم للموروث ، قال : وعليه جاء التفسير في الآية : إِن الكَلالة الذي لم يخلّف ولداً ولا والداً ، فإِذا جعلتها للميت كان انتصابها في الآية على وجهين :
أَحدهما : أَن تكون خبر ( كان ) تقديره : وإِن كان الموروث كَلالةً ، أي : كَلاّ ليس له ولد ولا والد .
والوجه الثاني : أَن يكون انتصابها على الحال من الضمير في ( يُورَث ) أي : يورَث وهو كَلالة ، وتكون ( كان ) هي التامة التي ليست مفتقرة إِلى خبر .
قال : ولا يصح أَن تكون الناقصة كما ذكره الحوفي ، لأَن خبرها لا يكون إِلا الكَلالة ، ولا فائدة في قوله ( يورَث ) ، والتقدير إِن وقَع أَو حضَر رجل يموت كَلالة ، أي : يورَث وهو كَلالة أي : كَلّ ، وإِن جعلتها للحدَث دون العين جاز انتصابها ، على ثلاثة أَوجه :
أَحدها : أَن يكون انتصابها على المصدر ، على تقدير حذف مضاف تقديره : يورَث وِراثة كَلالةٍ ، كما قال الفرزدق :
~ورِثْتُم قَناة المُلْك لا عن كَلالةٍ
أَي ورثتموها وِراثة قُرْب لا وِراثة بُعْد ؛ وقال عامر بن الطّفَيْل :
~وما سَوّدَتْني عامِرٌ عن كَلالةٍ أَبى اللهُ أَنْ أَسْمُو بأُمّ ولا أَب
ومنه قولهم : هو ابن عَمّ كَلالةً أي : بعيد النسب ، فإِذا أَرادو القُرْب قالوا : هو ابن عَمّ دِنْيَةً .
والوجه الثاني : أَن تكون الكَلالة مصدراً واقعاً موقع الحال ، على حد قولهم : جاء زيد رَكْضاً ، أي : راكِضاً ، وهو ابن عمي دِنيةً أي : دانياً ، وابن عمي كَلالةً أي : بعيداً في النسَب .
والوجه الثالث : أَن تكون خبر ( كان ) على تقدير حذف مضاف ، تقديره : وإِن كان المَوْروث ذا كَلالة ؛ قال : فهذه خمسة أَوجه في نصب الكلالة :
أَحدها : أَن تكون خبر ( كان ) .
والثاني : أَن تكون حالاً .
الثالث : أَن تكون مصدراً ، على تقدير حذف مضاف .
الرابع : أَن تكون مصدراً في موضع الحال .
الخامس : أَن تكون خبر ( كان ) على تقدير حذف مضاف ، فهذا هو الوجه الذي عليه أَهل البصرة والعلماء باللغة ، أَعني أَن الكَلالة اسم للموروث دون الوارث .
قال : وقد أَجاز قوم من أَهل اللغة ، وهم أَهل الكوفة ، أَن تكون الكَلالة اسماً للوارِث ، واحتجّوا في ذلك بأَشياء منها :
قراءة الحسن : { وإِن كان رجل يُورِث كَلالةً } بكسر الراء ، فالكَلالة على ظاهر هذه القِراءة هي ورثةُ الميت ، وهم الإِخوة للأُم .
واحتجّوا أَيضاً بقول جابر أنه قال : يا رسول الله ! إِنما يرِثني كَلالة .
فإِذا ثبت حجة هذا الوجه كان انتصاب كَلالة أَيضاً على مثل ما انتصبت في الوجه
الخامس من الوجه الأَول ، وهو أَن تكون خبر ( كان ) ويقدر حذف مضاف ، ليكون الثاني هو الأَول ، تقديره : وإِن كان رجل يورِث ذا كَلالة ، كما تقول ذا قَرابةٍ
ليس فيهم ولد ولا والد ، قال : وكذلك إِذا جعلتَه حالاً من الضمير في ( يورث ) تقديره ذا كَلالةٍ .
قال : وذهب ابن جني في قراءة مَنْ قرأَ : { يُورِث كَلالة } و : { يورّث كَلالة } أَن مفعولي ( يُورِث ويُوَرّث ) محذوفان أي : يُورِث وارثَه مالَه ، قال : فعلى هذا يبقى ( كَلالة ) على حاله الأُولى التي ذكرتها ، فيكون نصبه على خبر ( كان ) أَو على المصدر ، وتكون ( الكَلالة ) للمَوْروث لا للوارث ؛ قال : والظاهر أَن الكَلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث ، والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أُخرى ، والله أَعلم .
قال ابن الأَثير : الأَب والابن طرَفان للرجل ، فإِذا مات ولم يخلّفهما فقد مات عن ذهاب طَرَفَيْه ، فسمي ذهاب الطرَفين كَلالة .
وفي الأساس : ومن والمجاز كلّ فلان كلالة ، إذا لم يكن ولداً ولا والداً ، أي : كلّ عن بلوغ القرابة المماسة .
وقال الأزهري : ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين :
أحدهما : قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ } .
والموضع الثاني : قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } [ النساء : 176 ] .
فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم ، والإخوة للأب والأم ، فجعل للأُخت الواحدة نصفَ ما ترك الميت ، وللأُختين الثلثين ، وللإِخوة والأَخوات جميع المال بينهم ، للذكر مثل حَظّ الأُنثيين ، وجعل للأَخ والأُخت من الأُم ، وفي الآية الأُولى ، الثلث ، لكل واحد منهما السدس ، فبيّن بسِياق الآيتين أَن الكَلالة تشتمل على الإِخوة للأُم مرّة ، ومرة على الإِخوة والأَخوات للأَب والأُم .
ودل قول الشاعر أَنّ الأَب ليس بكَلالة ، وأَنّ سائر الأَولياء من العَصَبة بعد الولد كَلالة ؛ وهو قوله :
~فإِنّ أَبا المَرْء أَحْمَى له ومَوْلَى الكَلالة لا يغضَب
أَراد : أَن أَبا المرء أَغضب له إِذا ظُلِم ، وموالي الكلالة ، وهم الإِخوة والأَعمام وبنو الأَعمام وسائر القرابات ، لا يغضَبون للمرء غَضَب الأَب . انتهى .
وروى ابن جرير وغيره عن الشعبي قال : قال أبو بكر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إني قد رأيت في الكلالة رأياً ، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، والله بريء منه ، إنَّ [ في المطبوع : أنت ] الكلالة ما خلا الولد والوالد .
تنبيه :
اتفق العلماء على المراد من قوله تعالى : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } : الأخ والأخت من الأم .
وقرأ سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف : وله أخ أو أخت من أم ، وكذا فسرها أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - فيما رواه قتادة عنه .
قال الكرخيّ : القراءة الشاذة كخبر الآحاد ، لأنها ليست من قبل الرأي .
وأطلق الشافعيّ الاحتجاج بها ، فيما حكاه البويطي عنه ، في باب ( الرضاع ) وباب ( تحريم الجمع ) وعليه جمهور أصحابه ، لأنها منقولة عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتهما ، انتفاء خصوص خبريتها .
وقال القرطبيّ : أجمع العلماء على أن الإخوة ههنا هم الأخوة لأم .
قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم ، أو للأب ، ليس ميراثهم هكذا ، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } : هم الأخوة لأبوين ، أو لأب .
لطيفة :
إفراد الضمير في قوله تعالى : { وَلَهُ أخٌ } إما لعَوْده على الميت المفهوم من المقام ، أم على واحد منهما ، والتذكير للتغليب ، أو على الرجل ، واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه .
{ مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ } حال من ضمير : { يُوصِي } [ على قراءته مبنياً للفاعل ] أي : غير مدخل الضرر على الورثة ، كأن يوصي بأكثر من الثلث ، ومن فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور ( على قراءته مبنياً للمجهول ) وتخصيص هذا القيد بهذا المقام ، لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم .
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً : الضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه النسائي في : " سننه " عن ابن عباس موقوفاً ، وهو الصحيح كما قال ابن جرير .
{ وَصِيّةً مّنَ اللّهِ } مصدر مؤكد لفعل محذوف ، وتنوينه للتفخيم ، كقوله : { فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ } أو منصوب بـ ( غير مضار ) على أنه مفعول به ، فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال ، أو منفي معنى ، فيعمل في المفعول الصريح ، ويعضده القراءة بالإضافة ، أي : غير مضار لوصية الله وعهده في شأن الورثة .
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ } بالمضار وغيره .
{ حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة ، فلا يغتر بالإمهال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 13 ]
{ تِلْكَ } الأحكام .
{ حُدُودُ اللّهِ } أحكامه وفرائضه المحدودة التي لا تجوز مجاوزتها .
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } في قسمة المواريث وغيرها .
{ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي : من تحت شجرها ومساكنها .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } لا يموتون ولا يخرجون .
{ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } النجاة الوافرة بالجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مّهِينٌ } [ 14 ]
{ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } في قسمة المواريث وغيرها .
{ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ } بتجاوز أحكامه وفرائضه بالميل والجور .
{ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مّهِينٌ } أي : لكونه غير ما حكم الله به ، وضادّ الله في حكمه ، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم .
وقد روى أبو داود في باب ( الإضرار في الوصية ) من ( سننه ) عن أَبَي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - قَالَ < إِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةَ [ في المطبوع : أو المرأة ] بِطَاعَةِ اللّهِ سِتّينَ سَنَةً ، ثُمّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارّانِ فِي الْوَصِيّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النّارُ > .
وَقَرَأَ عَلَىّ أَبُو هُرَيْرَةَ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ } حَتّى بَلَغَ : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ورواه الترمذيّ وابن ماجة .
ورواه الإمام أحمد بسياق أتم ولفظه : < إِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ، فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرّ عَمَلِهِ ، فَيَدْخُلُ النّارَ ، وَإِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشّرّ سَبْعِينَ سَنَةً ، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيّتِهِ ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ ، فَيَدْخُلُ الْجَنّةَ > ، قَالَ ثُمّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } إِلَى قَوْلِهِ : { عَذَابٌ مُهِينٌ } .
ثم بين تعالى بعضاً من الأحكام المتعلقة بالنساء ، إثر بيان أحكام المواريث بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الموْتُ أَوْ يجعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } [ 15 ]
{ وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } أي : الخصلة البليغة في القبح ، وهي الزنى ، حال كونهن .
{ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ } أي : فاطلبوا من القاذفين لهن .
{ أَرْبَعةً مّنكُمْ } أي : من المسلمين .
{ فَإِن شَهِدُواْ } عليهن بها .
{ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ } أي : احبسوهن فيها ، ولا تمكنوهن من الخروج ، صوناً لهن عن التعرض بسببه للفاحشة .
{ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الموْتُ } أي : يستوفي أرواحهن ، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها ، أو يتوفاهن ملائكة الموت .
{ أَوْ يجعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } أي : يشرع لهن حكماً خاصاً بهن ، ولعل التعبير عنه بـ ( السبيل ) للإيذان بكونه طريقاً مشكوكاً ، قاله أبو السعود .
وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده ، وجعل لهن سبيلاً ، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قال : إنّ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كَانَ إِذَا أنَزَلَ الْوَحْيُ كَرَبَ لَهُ وَتَرَبّدَ وَجْهُهُ ، وَإِذَا سُرّيَ عَنْهُ قَالَ : < خُذُوا عَنّي خُذُوا عَنّي - ثَلاَثَ مِرَارٍ - قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً ، الثّيّبُ بِالثّيّبِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ، الثّيّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرّجْمُ ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ > .
هذا لفظ الإمام أحمد وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك فيه ، فلما أنزلت : { أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] وارتفع الوحي قال : رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة ، والثيب بالثيب ، جلد مائة ورجم بالحجارة > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً } [ 16 ]
{ وَاللّذَانَ } : بتخفيف النون وتشديدها .
{ يَأْتِيَانِهَا } أي : الفاحشة : { مِنكُمْ } أي : الرجال .
{ فَآذُوهُمَا } بالسب والتعبير ، ليندما على ما فعلا .
{ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا } أي : أعمالهما .
{ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } بقطع الأذية والتوبيخ ، وبالإغماض والستر ، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً } أي : على من تاب .
{ رّحِيماً } واسع الرحمة ، وهو تعليل للأمر بالإعراض .
تنبيه :
هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .
قال الإمام الشافعيّ في " الرسالة " في ( أبواب الناسخ والمنسوخ ) بعد ذكره هاتين الآيتين [ 376 ] : ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال : { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : من الآية 2 ] .
[ 377 ] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرَين ( لحديث عُبَاْدَة بن الصامت المتقدم ) .
ثم قال : [ 380 ] فدلت سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين ، ومنسوخ عن الثيبين ، وأن الرجم ثابت عن الثيبين الحرين ، ثم قال : [ 381 ] لأن قول رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم - أَوّلُ ما نزل ، فنُسِخَ به الحبس والأذى عن الزانيين .
[ 382 ] فلما رجم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ماعزاً ولم يجلده ، وأمر أنيساً أن يغدو على امرأة الأسلمي ، فإن اعترفت رجمها - دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين ، وثبت الرجم عليهما ، لأن كل شيء أبداً بعد أول فهو آخر . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 17 ]
{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ } استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه ، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً ، بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم .
قوله تعالى : { التّوْبَةُ } مبتدأ وقوله تعالى : { لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ } خبره .
وقوله تعالى : { عَلَى اللّهِ } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه ، صدورُ القبول عنه تعالى ، وكلمة : { عَلَى } للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه ، والمراد بالسوء المعصية ، صغيرة أو كبيرة - كذا في أبي السعود .
{ بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل .
{ يَعْمَلُونَ } أي : متلبسين بها ، أي : جاهلين سفهاء ، أو بـ : { يَعْمَلُونَ } على أن الباء سببية ، أي : يعملونه بسبب الجهالة ، والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة : والجهلُ بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب ، كقوله :
~فنجهل فوق جهل الجاهلينا
{ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أي : من زمان قريب ، وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ ، وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلاً ، إذ بتأخيرها وتسويفها يدخل في زمرة المصرين ، فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب ، والإنابة إلى المولى بعده فوراً ، ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه ، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور ، وتتمته في : " الإحياء " .
إذا عرفت هذا ، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى : { مِن قَرِيبٍ } ما قبل حضور الموت - بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه ، أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان ، عياذاً بالله تعالى .
( فإن قيل ) : من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت ؟
( قلنا ) يستفاد من الآية التي بعدها ، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك لا من قوله تعالى : { مِن قَرِيبٍ } بما أولوه ، وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى : { وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ } - صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة ، فبقي ما وراءه في حيز القبول .
وقد روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < إِنّ اللّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ > .
ورواه ابن ماجة والترمذيّ وقال : حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عَمْرو قال : < من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه > ، ( قال أيوب ) فقلت له : إنما قال الله عز وجل : { إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } فقال : إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وروى نحوه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وابن مردويه .
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَاْلَ : قَاْلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ > .
وروى الحاكم مرفوعاً : < من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه > .
وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن : < التائب من الذنب كمن لا ذنب له > .
وقوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } أي : يقبل توبتهم : { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 18 ]
{ وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ } عند النزاع .
{ قَالَ } عند مشاهدة ما هو فيه .
{ إِنّي تُبْتُ الآنَ } فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه .
{ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ } فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب .
روى الإمام أحمد عن أبي ذَرّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنّ اللّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ وْيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ > ، قيل : يَا رَسُولَ اللّهِ ! وَمَا الْحِجَابِ ؟ قَالَ : < أَنْ تَمُوتَ النّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ > .
ولهذا قال تعالى : { أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا } أي : أعددنا : { لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيجعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [ 19 ] وقوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً } نهيٌ عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم .
روى البخاريّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كَانُوا إِذَا مَاتَ الرّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقّ بِامْرَأَتِهِ ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوّجَهَا ، وَإِنْ شَاءُوا زَوّجُوهَا ، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوّجُوهَا ، فَهُمْ أَحَقّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ } الآية .
ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم ، ولفظ أبي داود عن ابن عباس : أَنّ الرّجُلَ كَانَ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَتِهِ فَيَعْضُلُهَا حَتّى تَمُوتَ ، أَوْ تَرُدّ إِلَيْهِ صَدَاقَهَا ، فَأَحْكَمَ اللّهُ عَنْ ذَلِكَ ، أي : نَهَى عَنْه .
قال السيوطيّ : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد ، ولا يجري مجرى الأموال بوجه .
و : { كَرْهاً } بفتح الكاف وضمها ، قراءتان ، أي : حال كونهن كارهات لذلك ! أو مكرهات عليه ، والتقييد ( بالكره ) لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، كما في قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : من الآية 31 ] .
{ وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ } الخطاب للأزواج ، كما عليه أكثر المفسرين .
روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أن الآية في الرجل تكون له المرأة ، وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر ، فيضرها لتفتدي به .
والعضل الحبس والتضييق ، أي : ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ، أي : من الصداق ، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن .
{ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ } أي : زنى ، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين ، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك ، وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { وَلا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } [ البقرة : من الآية 229 ] ، الآية .
وروي عن ابن عباس أيضاً وغيره : الفاحشة المبينة النشوز والعصيان ، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله : الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك ، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ، ويفارقها .
قال ابن كثير : وهذا جيد ، والله أعلم .
قال أبو السعود : ( مبينة ) على صيغة الفاعل من ( بيّن ) بمعنى تبين ، وقرئ على صيغة المفعول ، وعلى صيغة الفاعل من ( أَبَان ) بمعنى تبين أي : بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة .
ويعضده قراءة أُبي : { إلا أن يفحشن عليكم } انتهى .
وفي " الإكليل " استدل قوم بقوله : { بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ } : على منع الخلع بأكثر مما أعطاها . انتهى .
ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله : { وَعَاشِرُوهُنّ } أي : صاحبوهن : { بِالمعْرُوفِ } أي : بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن ، أو سبب النشوز أو سوء الخلق ، فلا يحل لكم حينئذ .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقَسْم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب .
واستدل بعمومها مَنْ أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها .
{ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ } يعني كرهتمو الصحبة معهن .
{ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيجعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } أي : ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً يكون فيه خير كثير ، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن ، على خلاف الطبع .
وفي " الإكليل " قال الكيا الهراسيّ : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس ، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه .
وقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ > .
( يَفرَك ) بفتح الياء والراء ، معناه بغض .
لطيفة :
قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه ، وانحصار العلية في الثاني ، للتوسل إلى تعميم مفعوله - ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروه ، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق ، حسب اقتضاء الحكمة ، وإن ما نحن فيه مادة من موادها ، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ، ما لا يخفى .
تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن :
كفى في هذا الباب هذه الآية الجليل الجامعة ، وهي قوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ } .
قال ابن كثير : أي : طَيّبُوا أَقْوَالكُمْ لَهُنّ ، وَحَسّنُوا أَفْعَالكُمْ وَهَيْئَاتكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتكُمْ ، كَمَا تُحِبّ ذَلِكَ مِنْهَا ، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْله ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُنّ مِثْل الّذِي عَلَيْهِنّ } [ البقرة : 228 ] .
وَقَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ ، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي > ، رواه الترمذيّ عن عائشة ، وابن ماجة عن ابن عباس ، والطبراني عن معاوية .
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خيركم خيركم للنساء > ، رواه الحاكم عن ابن عباس .
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ، ما أكرم النساء إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم > ، رواه ابن عساكر عن عليّ عليه السلام .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ سمع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في حَجّةَ الْوَدَاعِ يقول : بعد أن حَمِدَ اللّهَ تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَذَكّرَ وَوَعَظَ ثم قَالَ : < أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْراً ، فَإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ ، إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً ، أَلاَ إِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا ، فَحَقّكُمْ عَلَيهن أَن لاّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ ، أَلاَ وَحَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ > ، رواه الترمذيّ ، وقال : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وقوله : ( عوان ) أي : أسيرات ، جمع عانية .
وعن معاوية بن حيدة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا حَقّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : < أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ ، وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبّحْ وَلاَ تَهْجُرْ إِلاّ فِي الْبَيْتِ > ، رواه أبو داود .
وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَيْسَ مِنَ اللّهْوِ إِلاّ ثَلاَثٌ : تَأْدِيبُ الرّجُلِ فَرَسَهُ ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ ، وَمُلاَعَبَتُهُ [ في المطبوع : ومداعبة ] أَهْلَهُ > ، رواه أبو داود .
وفي رواية له : < كل شيء يلهوا به الرجل باطل ، إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبته أهله > .
قال ابن كثير : وَكَانَ مِنْ أَخْلَاق النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أَنّهُ جَمِيل الْعِشْرَة ، دَائِم الْبِشْر ، يُدَاعِب أَهْله ، وَيَتَلَطّف بِهِمْ ، وَيُوسِعهُمْ نَفَقَة ، وَيُضَاحِك نِسَاءَهُ ، حَتّى إِنّهُ كَانَ يُسَابِق عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - ، يَتَوَدّد إِلَيْهَا بِذَلِكَ ، قَالَتْ : سَابَقَنِي رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَسَبَقْته ، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ أَحْمِل اللّحْم ، ثُمّ سَابَقْته بَعْدَمَا حَمَلْت اللّحْم فَسَبَقَنِي ، فَقَالَ : < هَذِهِ بِتِلْكَ > .
وكان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يَجْمَع نِسَاءَهُ كُلّ لَيْلَة فِي بَيْت الّتِي يَبِيت عِنْدهَا ، فَيَأْكُل مَعَهُنّ الْعَشَاء فِي بَعْض الْأَحْيَان ثُمّ تَنْصَرِف كُلّ وَاحِدَة إِلَى مَنْزِلهَا ، وَكَانَ يَنَام مَعَ الْمَرْأَة مِنْ نِسَائِهِ فِي شِعَار وَاحِد ، يَضَع عَنْ كَتِفَيْهِ الرّدَاء وَيَنَام بِالْإِزَارِ .
وَكَانَ إِذَا صَلّى الْعِشَاء يَدْخُل مَنْزِله يَسْمُر مَعَ أَهْله قَلِيلاً قَبْل أَنْ يَنَام ، يُؤَانِسهُمْ بِذَلِكَ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وَقَدْ قَالَ اللّه تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللّه أُسْوَة حَسَنَة } انتهى .
وقال الغزالي في : " الإحياء " في ( آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح ) : الأدب الثاني : حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ، ترحماً عليهن ، لقصور عقلهن ، قال الله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ } : وقال في تعظيم حقهن : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ ميثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : من الآية 21 ] ، وقال تعالى : { وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ } [ النساء : من الآية 36 ] ، قيل : هي المرأة .
ثم قال : واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها ، اقتداء برسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام ، وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل ، وراجعت امرأةُ عمرَ عُمَر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - فقال : أتراجعيني ؟ فقالت : إن أزواج رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يراجعنه ، وهو خير منك .
وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول لعائشة : < إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى > . قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ فقال : < أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا ، ورب محمد ! ، وإذا كنت غضبى قلت : لا ، ورب إبراهيم ! قالت : قلت : أجل ، والله ! يا رسول الله ! ما أهجر إلا اسمك > .
ثم قال الغزالي :
الثالث : أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة ، فهي التي تطيب قلوب النساء ، وقد كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال ، حتى روي أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوماً وسبقها في بعض الأيام ، فقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < هذه بتلك > .
قال العراقي : رواه أبو داود ، والنسائي في : " الكبرى " وابن ماجة في حديث عائشة بسند صحيح .
وقالت عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - : سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد ، فقال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أتحبين أن تري لعبهم ؟ قالت : قلت : نعم ، فأرسل إليهم فجاؤوا ، وقام رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بين البابين ، فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه ، وجعلوا يلعبون وأنظر ، وجعل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : حسبك ! وأقول : لا تعجل ، ( مرتين أو ثلاثاً ) ثم قال : يا عائشة ! حسبك ، فقلت : نعم > .
وفي رواية للبخاري قالت : قَالَتْ : رَأَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ ، حَتّى أَكُونَ أَنَا الّذِي أَسْأَمُ ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السّنّ ، الْحَرِيصَةِ عَلَى اللّهْوِ .
وقال عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي ، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلاً .
وقال لقمان رحمه الله تعالى : ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي ، وإذا كان في القوم وجد رجلاً .
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لجابر : < هلاّ بكراً تلاعبها وتلاعبك ؟ > رواه الشيخان .
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت : والله ! لقد كان ضحوكاً إذا ولج ، سكوتاً إذا خرج ، آكلاً ما وجد ، غير سائل عما فقد . انتهى بتصرف .
ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن ، بقوله تعالى :

مجلد 4. محاسن التأويل
المؤلف : محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } [ 20 ]
{ وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ } أي : تزوج امرأة ترغبون فيها .
{ مّكَانَ زَوْجٍ } ترغبون عنها بأن تطلقوها .
{ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ } أي : إحدى الزوجات ، فإن المراد بالزوج الجنس .
{ قِنطَاراً } أي : مالاً كثيراً مهراً .
{ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } أي : يسيراً ، فضلاً عن الكثير .
{ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً } أي : باطلاً : { وَإِثْماً مّبِيناً } بيناً ، والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، أي : أتأخذونه باهتين وآثمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثَاقاً غَلِيظاً } [ 21 ]
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إنكار لأخذه إثر إنكار ، وتنفير عنه غب تنفير ، على سبيل التعجب ، أي : بأي وجه تستحلون المهر .
{ وَقَدْ أَفْضَى } أي : وصل : { بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } فأخذ عوضه .
{ وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثَاقاً غَلِيظاً } أي : عهداً وثيقاً مؤكداً مزيد تأكيد ، يعسر معه نقضه ، كالثوب الغليظ يعسر شقه .
قال الزمخشري : الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة ، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوماً قرابة ، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ؟ انتهى .
قال الشهاب الخفاجي : قلت بل قالوا :
~صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب
أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أو قول الولي عند العقد : أنكحتك على ما في كتاب الله : من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
تنبيه في فوائد :
الأولى : في قوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً } دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل .
وكان عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك .
كما روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السّلَمِيّ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بن الخطاب ، يَقُولُ : أَلاَ لاَ تُغْلُوا صُدُقَ النّسَاءِ ، أَلاَ لاَ تُغْلُوا صُدُقَ النّسَاءِ ، فَإِنّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللّهِ كَانَ أَوْلاَكُمْ بِهَا النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ، وَلاَ أُصْدِقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ ، أَكْثَرَ مِنْ اثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً ، وَإِنّ الرّجُلَ لَيُبْتَلَى بِصَدَقَةِ امْرَأَتِهِ - وَقَالَ مَرّةً : وَإِنّ الرّجُلَ لَيُغْلِي بِصَدَقَةِ امْرَأَتِهِ - حَتّى تَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي نَفْسِهِ ، وَحَتّى يَقُولَ : كَلِفْتُ إِلَيْكِ عَلَقَ [ في المطبوع : عرق ] الْقِرْبَةِ ، ورواه أهل السنن ، وقال الترمذيّ : هذا حديث صحيح .
وروى أبو يعلى عن مسروق قال : ركب عُمَر بن الخطاب منبر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ثم قال : أيها الناس ! ما إكثاركم في صدق النساء ! وقد كان رسول لله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم .
قال : ثم نزل ، فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين ! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأيّ ذلك ؟ قالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً } الآية .
قال : فقال : اللهم ! غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس ! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب .
قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل ، إسناده جيد قوي ، قاله ابن كثير .
وفي " الحجة البالغة " ما نصه : لم يضبط النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المهر بحدّ لا يزيد ولا ينقص ، إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة ، والرغبات لها مراتب شتى ، ولهم في المشاحّة طبقات ، فلا يمكن تحديده عليهم ، كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص ، ولذلك قال : < التمس ولو خاتماً من حديد > .
غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّاً ، أي : نصفاً . انتهى .
وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه .
أخرج أبو داود والحاكم ، وصححه ، من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خير الصداق أيسره > .
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَ له : إِنّي تَزَوّجْتُ امْرَأَةً مِنِ الْأَنْصَارِ .
فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا ؟ فَإِنّ فِي عُيُونِ الْأَنْصَارِ شَيْئاً > .
قَالَ : قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا .
قَالَ : < عَلَى كَمْ تَزَوّجْتَهَا ؟ > قَالَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ .
فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ ؟ كَأَنّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ > .
قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثاً إِلَى بَنِي عَبْسٍ ، بَعَثَ ذَلِكَ الرّجُلَ فِيهِمْ .
الثانية : خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي ، تنبيهاً بالأعلى على الأدنى ، لأنه إذا كان هذا ، على كثير ما بذل لامرأته من الأموال ، منهياً عن استعادة شيء يسير حقير منها ، على هذا الوجه ، كان من لم يبذل إلا الحقير منهياً عن استعادته بطريق الأولى .
ومعنى قوله : { وَآتَيْتُمْ } والله أعلم : وكنتم آتيتم ، إذ إرادة الاستبدال ، في ظاهر الأحمر ، واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية - كذا في : " الانتصاف " .
الثالثة : اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء ، واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة ، ومنشأ ذلك : أن ( أفضى ) في قوله تعالى : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } يجوز حملها على الجماع كناية ، جرياً على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيي من ذكره ، والخلوة لا يستحيي من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية : ويجوز إبقاؤها على ظاهرها .
قال ابن الأعرابي : الإفضاء في الحقيقة الانتهاء ، ومنه : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } أي : انتهى وآوى ، هذا ، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام ، ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع ، لا مجرد الخلوة ، فوجب حمل الإفضاء إليه - ذكره الرازي من وجوه .
ثم قال : وقوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } كلمة تعجب ، أي : لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا ؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك ، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما ، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطيبة نفسه ؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سُلَيم وذوق مستقيم .
الرابعة : في : " الإكليل " استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقاً ، وقال : إنها ناسخة لآية البقرة .
وقال غيره : إن هذه الآية منسوخة بها .
وقال آخرون : لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها . انتهى .
أقول : إن القول الثالث متعين ، لأن كلاً من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم ، وذلك لأن قوله في البقرة : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : من الآية 229 ] ، صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خُلُقَه أو نقص دينه أو خافت إثماً بترك حقه ، أبيح لها أن تفتدي منه وحلّ له أخذ الفداء مما آتاها ، لقوله تعالى ثم : { وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أَن يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ } [ البقرة : 229 ] إلخ .
والحكمة في حل الأخذ ظاهرة ، وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه ، واسترداد ما لو أخذ منه ، لكان في صورة المظلوم ، لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه ، فكان من العدل الإلهي أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال .
وأما هذه الآية فهي في حكم آخر ، وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه ، أو ترغيب في خلع نفسها منه ، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه ، وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع ، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئاً قط بعد الإفضاء ، لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلماً واضحاً ، لأنه أخذ بلا جريرة منها ، فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها ، رحمة منه تعالى ، وعدلاً في القضيتين .
فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين ، وليت شعري ماذا يقول في الحديث المروي في البخاريّ وغيره ، وهو قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لامرأة ثابت : < أتردّين عليه حديقته ! فقالت : نعم ، فقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لزوجها : اقبل الحديقة وطلقها > .
ولا يقال : لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إلخ ، وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا ، لأنا نقول إن دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة إنما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين ، فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلاً ، وبالعكس ، ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس ، ولا من مؤكد بدون مؤكده ، وهكذا .
وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } لكان الاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكده ، وهذا ساقط ، لأن قوله : { وَكَيْفَ } - تنفير عما تقدم ، متعلق به ، وما قبله خاص ، ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله : { وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ } عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها - نقول : هذا باطل وفاسد ، لأن مورد الآية في إرادته ، هو فراقها مبتدئاً ، فلا يصدق على المختلعة ، لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداءً من جانب الزوج ، وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين على أن كلاً في حكم على حدة ، لا تعلق فيها له بالآخر ، والنسخ لا يصار إليه بالرأي ، وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قوي ، بل لما يتراءى ظاهراً بلا إمعان ، فتثبت هذا .
وفي الصحيحين أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال للمتلاعنين ، بعد فراغهما من تلاعنهما : < اللّهُ يَعْلَمُ إِنّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ قالها ثلاثاً .
فقال الرجل : يا رسول الله : مالي ؟ يعني ما أصدقها ، قال : لا مال لك ، إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها > .
وفي سنن أبي داود وغيره ، عن بصرة بن أكثم : أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها ، فإذا هي حامل من الزنى ، فأتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكر ذلك له : < فقضى لها بالصداق وفرق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : الولد عبد لك ، والصداق في مقابلة البضع > .
ثم بين تعالى من يحرم نكاحهن من النساء ومن لا يحرم ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مّنَ النّسَاء إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً } [ 22 ]
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مّنَ النّسَاء } بنكاح أو ملك يمين ، وإن لم يكن أمهاتكم .
{ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي : سوى ما قد مضى في الجاهلية فإنه معفو لكم ولا تؤاخذون به .
{ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : خصلة قبيحة جداً ، لأنه يشبه نكاح الأمهات .
{ وَمَقْتاً } أي : بغضاً عند الله وعند ذوي المروآت ، ولذا كانت العرب تسمي هذا النكاح : نكاح المقت ، وتسمي ذلك المتزوج ، مقيتاً ، قاله ابن سيده .
وقال الزجاج : المقت أشد البغض ، ولما علموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال فه المقت ، أُعلموا أنه لم يزل منكراً ممقوتاً .
{ وَسَاء سَبِيلاً } أي : بئس مسلكاً ، إذ فيه هتك حرمة الأب .
وقد روى ابن أبي حاتم : أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه ، قيس ، امرأته ، فقالت : إنما أعدّك ولداً ، وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقالت : إن أبا قيس توفي ، فقال : < خيراً > .
ثم قالت : إن ابنه قيساً خطبني وهو من صالحي قومه ، وإنما كنت أعده ولداً ، فما ترى ؟ فقال لها : ارجعي إلى بيتك ، فنزلت : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم } الآية .
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحْرُمُ إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مّنَ النّسَاء إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ } : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } [ النساء : من الآية 23 ] .
لطيفة :
قال الرازي : مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات ، فقوله تعالى : { إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً } إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله : { وَمَقْتاً } إشارة إلى القبح الشرعي ، وقوله : { وَسَاء سَبِيلاً } : إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح ، والله أعلم .
قال ابن كثير : فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال .
كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من طرق ، عن البراء بن عازب ، وفي رواية عن عمه أنه بعثه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، أن يقتله ويأخذ ماله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ فَإِن لم تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } [ 23 ]
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ } من النسب أن تنكحوهن ، وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم .
{ وَبَنَاتُكُمْ } من النسب ، وشملت بنات الأولاد وإن سفلن .
{ وَأَخَوَاتُكُمْ } من أم أو أب أو منهما .
{ وَعَمّاتُكُمْ } أي : أخوات آبائكم وأجدادكم .
{ وَخَالاَتُكُمْ } أي : أخوات أمهاتكم وجداتكم .
{ وَبَنَاتُ الأَخِ } من النسب ، من أي : وجه يكنّ .
{ وَبَنَاتُ الأُخْتِ } من النسب من أي : وجه يكنّ ، ويدخل في البنات أولادهن .
{ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } قال المهايمي : لأن الرضاع جزء منها وقد صار جزءاً من الرضيع ، فصار كأنه جزؤها فأشبهت أصله . انتهى .
ويعتبر في الإرضاع أمران :
أحدهما : القدر الذي يتحقق به هذا المعنى ، وقد ورد تقييد مطلقه وبيان مجمله في السنة بخمس رضعات ، لحديث عائشة عند مسلم وغيره : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحَرّمن ، ثم نسخن بخمسٍ معلومات ، فتوفي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن .
والثاني : أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبح صورة الولد ، وذلك قبل الفطام ، وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبح وقيام الهيكل ، كالشاب يأكل الخبز .
عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام > ، رواه الترمذيّ وصححه ، والحاكم أيضاً .
وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقيّ عن ابن عباس مرفوعاً : < لا رضاع إلا ما كان في الحولين > ، وصحح البيهقيّ وقفه .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : واستدل بعموم الآية من حرم برضاع الكبير . انتهى .
وقد ورد الرخصة فيه الحاجة تعرض ، روى مسلم وغيره عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ : إِنّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الّذِي مَا أُحِبّ أَنْ يَدْخُلَ عليّ .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أُسْوَةٌ ؟ .
وقَالَتْ : إِنّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! إِنّ سَالِماً يَدْخُلُ عليّ وَهُوَ رَجُلٌ ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أَرْضِعِيهِ حَتّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ > .
وأخرج نحوه البخاريّ من حديث عائشة أيضاً .
وقد روى هذا الحديث ، من الصحابة : أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وزينب بنت أم سلمة ، ورواه من التابعين جماعة كثيرة ، ثم رواه عنهم الجمع الجم .
وقد ذهب إلى ذلك عليّ وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رَبَاح والليث بن سعد وابن علية وداود الظاهري وابن حزم ، وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك .
قال ابن القيم : أَخَذَ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ بِهَذِهِ الْفَتْوَى مِنْهُمْ عَائِشَةُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدّمُوا عَلَيْهَا أَحَادِيثَ تَوْقِيتِ الرّضَاعِ الْمُحَرّمِ بِمَا قَبْلَ الْفِطَامِ ، وَبِالصّغَرِ ، وَبِالْحَوْلَيْنِ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : كَثْرَتُهَا وَانْفِرَادُ حَدِيثِ سَالِمٍ .
الثّانِي : أَنّ جَمِيعَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سوى عَائِشَةَ رضي الله عنهن فِي شِقّ الْمَنْعِ .
الثّالِثُ : أَنّهُ أَحْوَطُ .
الرّابِعُ : أَنّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُنْبِتُ لَحْماً وَلَا يَنْشُرُ عَظْماً ، فَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَعْضِيّةُ الّتِي هِيَ سَبَبُ التّحْرِيمِ .
الْخَامِسُ : أَنّهُ يُحْتَمَلُ أَنّ هَذَا كَانَ مُخْتَصّا بِسَالِمٍ وَحْدَهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذَلِكَ إلّا فِي قِصّتِهِ .
السّادِسُ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا رَجُلٌ قَاعِدٌ ، فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَغَضِبَ ، فَقَالَتْ : إنّهُ أَخِي مِنْ الرّضَاعَةِ ، فَقَالَ : < اُنْظُرْنَ إخْوَتكُنّ مِنْ الرّضَاعَةِ ، فَإِنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ > ، مُتّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَاللّفْظُ لِمُسْلِمٍ .
وَفِي قِصّةِ سَالِمٍ مَسْلَكٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنّ هَذَا كَانَ مَوْضِعَ حَاجَةٍ ; فَإِنّ سَالِماً كَانَ قَدْ تَبَنّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ وَرَبّاهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ وَمِنْ الدّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ بُدّ ، فَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِهِ مِمّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَلَعَلّ هَذَا الْمَسْلَكَ أَقْوَى الْمَسَالِكِ ، وَإِلَيْهِ كَانَ شَيْخُنَا يَجْنَحُ . انتهى .
يعني تقي الدين بن تيمية رضي الله عنهما .
{ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ } قال الرازي : إنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة ، إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن ، لأنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يحرم من الرضاع ما يرحم من النسب > .
وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات ، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أماً ، والمرضعة أختاً ، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعاً :
اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة ، وهما الأمهات والبنات .
وخمس منها بطريق الأخوة ، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، ثم إنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ، ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيهاً بها على الباقي ، فذكر من قسم قرابة الولادة ، الأمهات ، ومن قسم قرابة الأخوة ، الأخوات ، ونبه بذكر هذين المثالين ، من هذين القسمين ، على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ، ثم إنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أكد هذا البيان بصريح قوله : < يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب > ، فصار صريح الحديث مطابقاً لمفهوم الآية ، وهذا بيان لطيف . انتهى .
لطيفة :
تعرض بعض المفسرين في هذا المقام لفروع فقهية مسندها مجرد الأقيسة .
قال الرازي : من تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية .
فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه .
{ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } أي : أصول أزواجكم .
{ وَرَبَائِبُكُمُ } جمع ربيبة ، بمعنى مربوبة ، قال الأزهري : ربيبة الرجل بنت امرأته من غيره . انتهى .
سميت بذلك لأنه يربّها غالباً ، كما يرب ولده .
{ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } جمع حجر ( بفتح أوله وكسره ) أي : في تربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان ، إذا كان في تربيته ، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلاً أجلسه في حجره ، فصار الحجر عبارة عن التربية ، وسر تحريمهن كونهن حينئذ يشبهن البنات إلا أنه إنما يتحقق الشبه إذا كن : { مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ } لأنهن حينئذ بنات موطوءاتكم ، كبنات الصلب ، والدخول بهن كناية عن الجماع ، كقولهم : بنى عليها ، وضرب عليها الحجاب ، أي : أدخلتموهن الستر ، والباء للتعدية .
{ فَإِن لم تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن .
تنبيهات :
الأول : ذهب بعض السلف إلى أن قيد الدخول في قوله تعالى : { اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ } : راجع إلى الأمهات والربائب ، فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها ، لقوله : { فَإِن لم تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .
وروى ابن جرير عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها : أيتزوج بأمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة .
وروي أيضاً عن زيد بن ثابت وعبد الله ابن الزبير ومجاهد وابن جبير وابن عباس ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني ، فيما نقله الرافعي عن العبادي ، وقد روي عن ابن مسعود مثله ، ثم رجع عنه ، وتوقف فيه معاوية ، وذلك فيما رواه ابن المنذر عن بكر بن كنانة أن أباه أنكحه امرأة بالطائف .
قال : فلم أجامعها حتى توفي عمي عن أمها ، وأمها ذات مال كثير ، فقال أبي : هل لك في أمها ؟ قال فسألت ابن عباس وأخبرته ، فقال : انكح أمها .
قال : وسألت ابن عمر فقال : لا تنكحها ، فأخبرت أبي بما قالا ، فكتب إلى معاوية ، فأخبره بما قالا ، فكتب معاوية : إني لا أحل ما حرم الله ، ولا أحرم ما أحل الله ، وأنت وذاك ، والنساء سواها كثير ، فلم ينه ولم يأذن لي ، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحنيها .
وذهب الجمهور إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم .
قالوا : الاشتراط إنما هو في أمهات الربائب ، وروي في ذلك عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < أَيّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَلاَ يَحِلّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلْيَنْكِحِ ابْنَتَهَا ، وَأَيّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَلاَ يَحِلّ لَهُ أن ينَكَحَ أُمّهَا ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا > ، أخرجه الترمذيّ .
قال الحافظ ابن كثير : هذا الخبر غريب ، وفي إسناده نظر .
وقال الزجاج : قد جعل بعض العلماء : { اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ } وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة ، وليس كذلك ، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل ، وهذا ، لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة ، والثانية بـ ( من ) ولا يجوز أن تقول : مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات ، على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء ولهؤلاء النساء .
قال الناصر في : " الانتصاف " : والقول المشهور عن الجمهور ، إبهام تحريم أم المرأة ، وتقييد تحريم الريبية بدخول الأم ، كما هو ظاهر الآية ، ولهذا الفرق سر وحكمة ، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلوا بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها ، ومخاطبات ومسارّات فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم ، ولا كذلك العاقد على الأم فإنه بعيد عن مخاطبة بنتها قبل الدخول بالأم ، فلم تدعُ الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة .
وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة ، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما ، والله أعلم .
الثاني : استدل بقوله تعالى : { اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } من لم يحرم نكاح الربيبة الكبيرة والتي لم يربّها ، روى ابن أبي حاتم عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي ، فوجدت عليها ، فلقيني عليّ بن أبي طالب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - فقال : مالك : ؟ فقلت : توفيت المرأة ، فقال : لها ابنة ؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف ، قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا ، هي بالطائف ، قال : فانكحها ، قلت : فأين قول الله : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } قال : إنها لم تكن في حجرك ، إنما ذلك إذا كانت في حجرك ؟ .
قال الحافظ ابن كثير : إسناده قوي ثابت إلى عليّ بن أبي طالب ، على شرط مسلم ، وإلى هذا ذهب الإمام داود بن عليّ الظاهري وأصحابه ، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله تعالى ، واختاره ابن حزم .
والجمهور على تحريم الربيبة مطلقاً ، سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن ، قالوا : والخطاب في قوله : { اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } خرج مخرج الغالب ، فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكنّ في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن ، ولم يرد كونهن كذلك بالفعل .
وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها ، كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء ، فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن ، وفي شرف التقلب في حجورهم ، وتحت حمايتهم وتربيتهم ، مما يقوي الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم ، ويستدعي إجراءهن مجرى بناتهم ، لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل - كذا قرره أبو السعود - .
وفي " الانتصاف " : إن فائدة وصفهن بذلك ، هو تخصيص أعلى صور المنهيّ عنه ، بالنهي ، فإن النهي عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام ، في جميع الصور ، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية ، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور ، والطبع عنها أنفر ، فخصت بالنهي لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة ، ثم يكون ذلك تدريباً وتدريجاً إلى استقباح المحرم في جميع صوره ، والله أعلم .
وفي الصحيحين أن أم حبيبة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : يا رسول الله ! انكِح أختي بنت أبي سفيان ( وفي لفظ لمسلم : عزة بنت أبي سفيان ) فقال : أو تحبين ذلك ؟ قالت : نعم ، لست لك بمخلية ، وَأَحَبّ من شاركني في خير أختي ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن ذلك لا يحل لي > .
قلت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ، قال : < بنت أم سلمة ؟ > ، قلت : نعم .
فقال : < لو أنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ، ما حلت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُويبة ، فلا تعرضنَ عليّ بناتكن ولا أخواتكن > ، ( وفي رواية للبخاري : < لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي > ) .
قال ابن كثير : فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة ، وحكم بالتحريم بذلك .
الثالث : اشتهر أن المراد من الدخول في قوله تعالى : { دَخَلْتُم بِهِنّ } معناه الكنائي ، وهو الجماع ، لأنه أسلوب الكتاب العزيز في نظائره بلاغة وأدباً .
ولذا فسره به ابن عباس وغير واحد ، فمدلول الآية صريح حينئذ في كون الحرمة مشروطة بالجماع ، فلا تتناول غيره من اللمس والتقبيل والنظر لمتاعها ، ومن أثبت تحريم الربيبة بذلك لحظ أن معنى الدخول أوسع من الجماع ، لأنه يقال : دخل بها ، إذا أمسكها وأدخلها البيت .
وفي " فتح البيان " : الذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعاً أو لغة ، فإن كان خاصاً بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به ، من لمس أو نظر أو غيرهما ، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك . انتهى .
وفي " شرح القاموس للزبيدي " : ودخل بامرأته كناية عن الجماع ، وغلب استعماله في الوطء الحلال ، والمرأة مدخول بها ، قلت : ومنه الدخلة ، لليلة الزفاف . انتهى .
{ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ } أي : موطوآت فروعكم بنكاح أو ملك يمين ، جمع حليلة ، سميت بذلك لحلها للزوج .
وقوله تعالى : { الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } لإخراج الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية .
كما قال تعالى : { فَلما قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى المؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } [ الأحزاب : من الآية 37 ] وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } [ الأحزاب : من الآية 4 ] .
فالسر في التقيد هو إحلال حليلة المتبنى ، رداً لمزاعم الجاهلية ، لا إحلال حليلة الابن من الرضاع وأبناء الأبناء ، كأنه قيل : بخلاف من تبنيتموهم ، فلكم نكاح حلائلهم .
{ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } في حيز الرفع ، عطفاً على ما قبله من المحرمات ، أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الوطء بنكاح أو ملك يمين من نسب أو رضاع ، لما فيه من قطيعة الرحم .
{ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ } في الجاهلية فإنه معفو عنه .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } تعليل لما ، أفاده الاستثناء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُم مّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ 24 ]
{ وَالمحْصَنَاتُ } أي : وحرمت عليكم المزوجات .
{ مِنَ النّسَاء } حرائم وإماء ، مسلمات ، أوْ لا ، لئلا تختلط المياه فيضيع النسب .
{ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من اللائي سبين ولهن أزواج في دار الكفر ، فهن حلال لغزاة المسلمين ، وإن كن محصنات ، لأن السبي لهن يرفع نكاحهن ويفيد الحل بعد الاستبراء .
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذيّ والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا من سبي أوطاس ، ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فنزلت هذه الآية : { وَالمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فاستحللنا فروجهن .
تنبيه :
استدل بعموم الآية من قال : إن انتقال الملك ببيع أو إرث أو غير ذلك يقطع النكاح .
عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها ، وعنه : بيع الأمة طلاقها .
وروي ذلك أيضاً عن أُبي بن كعب وجابر وابن عباس رضي الله عنهم قالوا : بيعها طلاقها .
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : طلاق الأمة ست : بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها .
كذا قرأته في تفسير ابن كثير ، ولا يخفى أن المعدود خمسة ، ولعل السادس بيع زوجها ، حيث قال بعد ذلك : وروى عوف عن الحسن بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها ، فهذا قول هؤلاء من السلف .
وحجتهم عموم الاستثناء في قوله تعالى : { إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } والجمهور على أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها ، واحتجوا بحديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما ، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ ، وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها لما خيرت ، وتخييرها دال على أن المراد من الآية المسبيات فقط ، وبالجملة ، فالجمهور قصروا الآية على السبب الذي نزلت فيه .
قال الرازي : وهو يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، أي : وهو مقبول ومعمول به في غير ما موضع ، كنصاب السرقة ، وفي التنبيه الآتي زيادة لهذا فتأثره .
فائدة :
اتفق القراء على فتح الصاد في : { المحْصَنَاتُ } هنا ، ويقرأ بالفتح والكسر في غير هذا الموضع ، وكلاهما مشهور ، فالفتح على أنهن أُحصنّ بالأزواج أو بالإسلام ، والكسر على أنهن أَحصن فروجهن أو أزواجهن ، واشتقاق الكلمة من الإحصان وهو المنع .
{ كِتَابَ اللّهِ } مصدر مؤكد ، أي : كتب الله .
{ عَلَيْكُمْ } تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه قرضاً ، فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه .
{ وَأُحِلّ لَكُم } عطف على : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } : { مّا وَرَاء ذَلِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة ، أي : أحل لكم نكاح ما سواهن .
{ أَن تَبْتَغُواْ } مفعول له ، أي : أحل لكم إرادة أن تبتغوا ، أو بدل من ( ما ) أي : ابتغاء النساء .
{ بِأَمْوَالِكُم } أي : يصرفها إلى مهورهن .
{ مّحْصِنِينَ } حال من فاعل ( تبتغوا ) ، والإحصان : العفة ، وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم .
{ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } غير زانين ، والسفاح الزنى والفجوز ، من السفح وهو الصبّ ، لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة ، وكان أهل الجاهلية ، إذا خطب الرجل المرأة ، قال : انكحيني ، فإذا أراد الزنى قال : سافحيني .
قال الزجاج : المسافحة أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح .
تنبيه :
قوله تعالى : { وَأُحِلّ لَكُم مّا وَرَاء ذَلِكُم } : عام مخصوص بمحرمات أخر دلت عليها دلائل أخر ، فمن ذلك ، ما صح عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها .
وقد حكى الترمذيّ المنع من ذلك عن كافة أهل العلم ، وقال : لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك .
ومن ذلك ، نكاح المعتدة ، ومن ذلك ، أن من كان في نكاحه حرة ، لا يجوز له نكاح الأمة .
ومن ذلك ، القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة .
ومن ذلك ، من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة .
ومن ذلك ، الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبداً ، فالآية مما نزل عاماً ودلت السنة ومواضع من التنزيل على أنها مخصصة بغيرها .
قال الإمام الشافعيّ في : " الرسالة " :
[ 244 ] فرض الله عز وجل على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 245 ] فقال في كتابه : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلمهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .
[ 250 ] وقال : { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلمكَ مَا لم تَكُنْ تَعْلم وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } .
في آيات نظائرها .
قال الشافعيّ :
[ 252 ] فذكر الله عز وجل الكتاب وهو القرآن : وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 253 ] وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم .
[ 254 ] لأن القرآن ذُكر وأُتبِعَتْهُ الحكمة ، وذَكّرَ الله جل ثناؤه مَنّهُ على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز ، والله أعلم ، أن يقال : الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 255 ] وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وحتّم على الناس اتباع أمره - فلا يجوز أن يقال لقولٍ : فرضٌ ، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 256 ] لما وصفنا من أن الله تعالى جل ثناؤه جعل الإيمان برسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مقروناً بالإيمان به .
[ 257 ] وسنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مبينة عن الله عز وجل معنى ما أراد - دليلاً على خاصه وعامه ، ثم قرن الحكمة بها بكتابه ، فأتبعها إياه ، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه ، غير رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
وإنما أوردنا هذا تزييفاً لزعم الخوارج أن حديث : < لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها > المرويّ في الصحيحين وغيرهما ، خبر واحد ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز ، كما نقله عنهم الرازي ، وأورد من حججهم أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة ، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة ، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن ، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى ، وأنه لا يجوز . انتهى .
وقد توسع الرازي هنا في الجواب عن شبهتهم ، ومما قيل فيه : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها مأخوذ من قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } .
قال العلامة أبو السعود : ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها نظائرها ، فإن مدار حرمة حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله بوصله ، وذلك متحقق في الجمع بين هؤلاء ، بل أولى .
فإن العمة والخالة بمنزلة الأم ، فقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا تنكح المرأة ، إلخ > ، من قبيل بيان التفسير ، لا بيان التغيير .
وقيل : هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب ، وقال أيضاً : ولعل إيثار اسم الإشارة ( يعني في قوله : { مّا وَرَاء ذَلِكُمْ } ) المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه ، على الضمير المتعرض للذات فقط - لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة ، فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريقة الدلالة ، فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها ، ليست بطريق العبارة ، بل بطريق الدلالة ، كما سلف . انتهى .
وفي " تنوير الاقتباس " : ويقال في قوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } أن تطلبوا بأموالكم تزوجهن وهي المتعة ، وقد نسخت الآن . انتهى .
وسيأتي الكلام على ذلك .
{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنّ } أي : من تمتعتم به من المنكوحات بالجماع .
{ فَآتُوهُنّ } فأعطوهن : { أُجُورَهُنّ } مهورهن كاملة .
{ فَرِيضَةً } أي : من الله عليكم أن تعطوا المهر تاماً ، و : { فَرِيضَةً } حال من الأجور ، بمعنى مفروضة ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي : إيتاءً مفروضاً ، أو مصدر مؤكد أي : فرض ذلك فريضة .
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا حرج عليكم .
{ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ } أنتم وهن : { مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي : من حطها أو بعضها أو زيادة عليها بالتراضي .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فيما شرع من الأحكام .
تنبيه :
حمل قوم الآية على نكاح المتعة ، قالوا : معنى وقوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنّ } أي : فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن .
قال الحافظ ابن كثير : وَقَدْ اُسْتُدِلّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَة عَلَى نِكَاح الْمُتْعَة ، وَلَا شَكّ أَنّهُ كَانَ مَشْرُوعاً فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام ثُمّ نُسِخَ بَعْد ذَلِكَ .
وقد رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبّاس وَطَائِفَة مِنْ الصّحَابَة الْقَوْل بِإِبَاحَتِهَا لِلضّرُورَةِ ، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ الْإِمَام أَحْمَد ، وَكَانَ اِبْن عَبّاس وَأُبَيّ بْن كَعْب وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالسّدّيّ يَقْرَءُونَ : { فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إِلَى أَجَل مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورهنّ فَرِيضَة } .
وَقَالَ مُجَاهِد : نَزَلَتْ فِي نِكَاح الْمُتْعَة ، وَلَكِنّ الْجُمْهُور عَلَى خِلَاف ذَلِكَ ، وَالْعُمْدَة مَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : < نَهَى رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَنْ نِكَاح الْمُتْعَة وَعَنْ لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيّة يَوْم خَيْبَر > .
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ الرّبِيع بْن سَبْرَة الْجُهَنِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ كان مَعَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَ : < يَا أَيّهَا النّاس ! إِنّي كُنْت أَذِنْت لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاع مِنْ النّسَاء ، وَإِنّ اللّه قَدْ حَرّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، فَمَنْ كَانَ عِنْده مِنْهُنّ شَيْء فَلْيُخْلِ سَبِيله ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً > . انتهى .
وفي " الكشاف " : قيل نزلت هذه الآية في المتعة ، كان الرجل نكح المرأة وقتاً معلوماً ، ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً ، بثبوت أو غير ذلك ، ويقضي منها وطره ثم يسرحها ، وسميت متعة لاستمتاعه بها ، أو لتمتيعه لها بما يعطيها .
وقال الخفاجي : روي أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما : أتدري ما صنعت بفتواك ؟ قال : سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر ، كقوله :
~قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس ؟
~هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس ؟
فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله ! ما بهذا أفتيت ولا أحللت ، إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم .
وقال الإمام شمس الدين بن القيم رضوان الله عليه في : " زاد المعاد " في الكلام على ما في غزوة الفتح من الفقه ، ما نصه : ومما وقع في هذه الغزوة ، إباحةُ مُتعة النساء ، ثم حرّمها صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قبلَ خروجه مِن مكة ، واخْتُلِفَ في الوقت الذى حُرّمت فيه المُتعة ، على أربعة أقوال :
أحدها : أنه يوم خَيْبَر ، وهذا قولُ طائفة من العلماء ، منهم : الشافعى ، وغيره .
والثانى : أنه عامَ فتح مكة ، وهذا قولُ ابنِ عيينة ، وطائفة .
والثالث : أنه عام حُنَيْن ، وهذا في الحقيقة هو القولُ الثانى ، لاتصال غزاة حُنَيْن بالفتح .
والرابع : أنه عامَ حَجّةِ الوداع ، وهو وهم من بعض الرواة ، سافر فيه وهمُه من فتح مكة إلى حَجّةِ الوداع ، وسفرُ الوهم مِن زمان إلى زمان ، ومِن مكان إلى مكان ، ومِن واقعة إلى واقعة ، كثيراً ما يعرض للحُفّاظ فمَن دونهم .
والصحيح : أنّ المُتعة إنماحُرّمت عام الفتح ، لأنه قد ثبت في " صحيح مسلم " أنهم استمتعوا عامَ الفتح مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بإذنه ، ولو كان التحريمُ زمنَ خَيْبَر ، لزم النسخُ مرتين ، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ، ولا يقعُ مثلُه فيها .
وأيضاً : فإن خَيْبَر لم يكن فيها مسلمات ، وإنما كُنّ يهوديات ، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد ، إنما أُبِحْنَ بعد ذلك في سورة المائدة بقوله : { اليَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] ، وهذا متصل بقوله : { اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وبقوله : { اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وهذا كان في آخِر الأمر بعد حجة الوداع ، أو فيها ، فلم تكن إباحةُ نساء أهل الكتاب ثابتة من خَيْبَر ، ولا كان للمسلمين رغبةٌ في الاستمتاع بنساء [ في المطبوع : ونساء ] عدوهم قبل الفتح ، وبعد الفتح استُرِقّ مَن استُرِقّ منهن [ في المطبوع : منهم ] ، وصِرْنَ إماءً للمسلمين .
فإن قيل : فما تصنعون بما ثبت فى : " الصحيحين " من حديث على بن أبى طالب : < أن رسولَ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عن مُتعة النساء يوم خَيْبَر ، وعن أكْلِ لُحُوم الحُمُر الإنسية > وهذا صحيح صريح ؟
قيل : هذا الحديثُ قد صحّت روايتُه بلفظين : هذا أحدُهما .
والثانى : الاقتصار على نهي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن نِكاح المُتعة ، وعن لُحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر ، هذه رواية ابن عُيينة عن الزهرى .
قال قاسم بن أصبغ : قال سفيان ابن عيينة : يعنى أنه نهى عن لحوم الحُمُر الأهلية زمنَ خَيْبَر ، لا عن نكاح المُتعة ، ذكره أبو عمر ، وفى : " التمهيد " : ثم قال : على هذا أكثرُ الناس انتهى .
فتوهم بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر ظرفٌ لتحريمهن ، فرواه : < حرّم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المُتعة زمن خَيْبَر ، والحُمُرَ الأهلية > ، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث ، فقال : < حرّم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المُتعة زمَن خَيْبَر > ، فجاء بالغلط البيّن .
فإن قيل : فأى فائدة في الجمع بين التحريمين ، إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد ، وأين المُتعةُ مِن تحريم الحُمُرِ ؟ قيل : هذا الحديثُ رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه محتجاً به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين ، فإنه كان يُبيح المُتعة ولحوم الحُمُر ، فناظره على بن أبى طالب في المسألتين ، وروى له التحريمين ، وقيّد تحريمَ الحُمُر زمن خَيْبَر ، وأطلق تحريمَ المُتعة وقال : إنك امرؤ تائه ، إنّ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرّم المُتعة ، وحرّم لحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر ، كما قاله سفيانُ بنُ عُيينة ، وعليه أكثرُ الناس ، فروى الأمرين محتجاً عليه بهما ، لا مقيّداً لهما بيوم خَيْبَر . . . . والله الموفق .
ولكن ههنا نظر آخر ، وهو أنه : هَلْ حرّمها تحريمَ الفواحش التي لا تُباح بحال ، أو حرّمها عند الاستغناء عنها ، وأباحها للمضطر ؟ هذا هو الذى نظر فيه ابنُ عباس وقال : أنا أبحتُها للمضطر كالميتة والدم ، فلما توسّعَ فيها مَنْ توسّع ، ولم يقف عند الضرورة ، أمسك ابنُ عباس عن الإفتاء بحلّها ، ورجع عنه ، وقد كان ابنُ مسعود يرى إباحتها ويقرأ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] .
ففى : " الصحيحين " عنه قال : كنّا نغزو مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وليس لنا نِساء ، فقلنا : ألا نختصِي ؟ فنهانا عن ذلك ، فرخّص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوبِ [ إلى أجل ] ، ثم قرأ عبد الله : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَاأَحَلّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إنّ اللهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 87 ] .
وقراءة عبد الله الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين :
أحدهما : الردّ على مَن يُحرّمها ، وأنها لو لم تكن مِن الطيبات لما أباحها رسولُ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
والثانى : أن يكون أراد آخِرَ هذه الآية ، وهو الرد على مَن أباحها مطلقاً ، وأنه معتد ، فإن رسولَ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما رخّص فيها للضرورة عند الحاجة في الغزو ، وعند عدم النساء ، وشدة الحاجة إلى المرأة ، فمَن رخّص فيها في الحَضَر مع كثرة النساء ، وإمكان النكاح المعتاد ، فقد اعتدى ، والله لا يُحب المعتدين .
فإن قيل : فكيف تصنعون بما روى مسلم فى : " صحيحه " من حديث جابر ، وسلمة بن الأكوع ، قالا : خرج علينا منادي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : إنّ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد أذِن لكم أن تستمتعوا ، ( يعنى : مُتعة النساء ) .
قيل : هذا كان زمنَ الفتح قبل التحريم ، ثم حرّمها بعد ذلك بدليلِ ما رواه مسلم فى : " صحيحه " ، عن سلمة بن الأكوع قال : < رخّص لنا رسولُ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عامَ أوطاسٍ في المُتعة ثلاثاً ، ثم نهى عنها > .
( وعام أوطاس ) هو ( وعام الفتح ) واحد ، لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .
فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في : " صحيحه " ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا نستمتع بالقَبْضَةِ مِن التمر والدقيق الأيامَ على عهدِ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وأبى بكر حتى نهى عنها عُمَرُ في شأن عَمْرو بن حريث .
وفيما ثبت عن عمر أنه قال : مُتعتانِ كانتا على عهدِ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أنا أنهى عنهما : مُتعةُ النساءِ ومُتعةُ الحجّ .
قيل : الناس في هذا طائفتان : طائفة تقول : إن عُمَر هو الذي حرّمها ونهى عنها ، وقد أمر رسولُ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم باتباع ما سَنّه الخلفاء الراشدون ، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سَبْرَة بن مَعْبَد في تحريم المُتعة عامَ الفتح ، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة ، عن أبيه ، عن جده ، وقد تكلم فيه ابنُ معين ، ولم ير البخاريّ إخراجَ حديثه فى : " صحيحه " مع شدة الحاجة إليه ، وكونه أصلاً من أُصول الإسلام ، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه أو الاحتجاج به ، قالوا : ولو صح حديثُ سَبْرة ، لم يخفَ على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها ، ويحتجّ بالآية .
وقالوا أيضاً : ولو صح لم يقل عُمَر : إنها كانت على عهد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأنا أنهى عنها ، وأُعاقب عليها ، بل كان يقول : إنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرّمها ونهى عنها ،
قالوا : ولو صح لم تُفعل [ في المطبوع : يفعل ] على عهد الصّدّيق وهو عهدُ خلافة النبوة حقاً .
والطائفة الثانية : رأت صحةَ حديثِ سَبْرَة ، ولو لم يصح ، فقد صحّ حديثُ على رضي الله عنه : < أنّ رسولَ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرّم مُتعة النساء > .
فوجب حملُ حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريمُ ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمنُ عُمَر رضي الله عنه ، فلما وقع فيها [ النزاعُ ] ، ظهر [ تحريمُها ] واشتهر ، وبهذا تأتَلِفُ الأحاديثُ الواردة فيها . . . . وبالله التوفيق . انتهى .
هذا ، والذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا : المراد من قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ } الخ ، أنه إذا كان المهر مقداراً بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئاً من المهر ، أو تبرئه عنه بالكلية ، بالتراضي ، كما تقدم وهو كقوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } [ النساء : 4 ] وقوله : { إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ } [ البقرة : من الآية 237 ] .
وقد روى ابن جرير عن حضرمي : أن رجلاً كانوا يقرضون المهر ، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة ، فقال الله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } الخ .
يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ .
وأما الذين حملوا الآية على بيان المتعة ، قالوا : المراد من نفي الجناح أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة ، فإن قال لها : زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة - كانت المرأة بالخيار ، إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل ، فهذا هو المراد من قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي : من بعد المقدار المذكور أولاً من الأجر والأجل ، أفاده الرازي .
قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى ، يعني الأجر [ في المطبوع : الاحر ] الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما ، فقال : أتمتع منك أيضاً بكذا وكذا ، فإن شاء زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } .
قال السدي : إذا انقضت المدة فليس عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، فلا يرث واحد منهما صاحبه .
قال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الأول : لقيام لحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
قال المهايمي : ثم أشار تعالى إلى نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة .
لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن لم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ المؤْمِنَاتِ فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ المؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلم بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالمعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } [ 25 ]
{ وَمَن لم يَسْتَطِعْ } أي : لم يقدر .
{ مِنكُمْ } أيها الأحرار ، بخلاف العبيد ، أن يحصل .
{ طَوْلاً } أي : غنى يمكنه به : { أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ } أي : الحرائر المتعففات ، بخلاف الزواني إذ لا عبرة بهن .
{ المؤْمِنَاتِ } إذ لا عبرة بالكوافر .
{ فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي : فله أن ينكح بعض ما يملكه أَيْمَان إخوانكم .
{ مّن فَتَيَاتِكُمُ } أي : إمائكم حال الرق .
{ المؤْمِنَاتِ } لا الكتابية ، لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر ، وقد استفيد من سياق هذه الآية أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة : اثنان منها في الناكح ، والثالث في المنكوحة .
أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق ، وهو معنى قوله : { وَمَن لم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ المؤْمِنَاتِ } فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة ، فإن قيل : الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة ، يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة ، فمن أين هذا التفاوت ؟ قلنا : كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات ، وعلى هذا التقدير يظهر التفاوت .
وأما الشرط الثاني : فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله : { ذَلِكَ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } أي : الزنى بأن بلغ الشدة في العزوبة .
وأما الشرط الثالث : المعتبر في المنكوحة ، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة ، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين : الرق والكفر ، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق ، وحينئذ يعلق الولد رقيقاً على ملك الكافر ، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكاً للكافر ، وما ذكرناه هو المطابق لمعنى الآية ، ولا يخلوا ما عداه عن تكلف لا يساعده نظم الآية .
قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة ؟ قلت : لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق ، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها ، ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولاّجة ، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ، ومهانة ، والعزة من صفات المؤمنين ، وسيأتي مزيد لهذا عند قوله تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ } .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ أَعْلم بِإِيمَانِكُمْ } إشارة إلى أنه لا يشترط الإطلاع على بواطنهن ، بل يكتفي بظاهر إيمانهن ، أي : فاكتفوا بظاهر الإيمان ، فإنه تعالى العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان ، فرب أمة تفضل الحرة فيه .
وقوله تعالى : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } اعتراض آخر جيء به لتأنيسهم بنكاح الإماء حالتئذ ، أي : أنتم وأرقاؤكم متناسبون ، نسبكم من آدم ودينكم الإسلام .
{ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ } أي : مواليهن لا استقلالاً ، وذلك لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له .
{ وَآتُوهُنّ } أعطوهن : { أُجُورَهُنّ } أي : مهورهن : { بِالمعْرُوفِ } أي : بلا مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء .
واستدل الإمام مالك بهذا على أنهن أحق بمهورهن ، وأنه لا حق فيه للسيد .
وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد ، وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن ، تأديةٌ إلى سيدهن لكونهن ماله .
{ مُحْصَنَاتٍ } حال من مفعول : { فَانكِحُوهُنّ } أي : حال كونهن عفائف عن الزنى .
{ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حال مؤكدة : أي : غير زانيات بكل من دعاهن .
{ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } أي : أخلة يتخصصن بهم في الزنى .
قال أبو زيد : الأخدان الأصدقاء على الفاحشة ، والواحد خدن وخدين .
وقال الراغب : أكثر ذلك يستعمل فيمن يصاحب بشهوة نفسانية ، ومن لطائف وقوع قوله تعالى : { مُحْصَنَاتُ } الخ إثر قوله : { وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ } : الإشعار بأنهن لو كن إحدى هاتين ، فلكم المناقشة في أداء مهورهن ليفتدين نفوسهن .
{ فَإِذَا أُحْصِنّ } أي : بالتزويج ، وقرئ على البناء للفاعل أي : أحصن فروجهن أو أزواجهن .
{ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } أي : فعلن فاحشة وهي الزنا : { فَعَلَيْهِنّ } أي : فثابت عليهن شرعاً .
{ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ } أي : الحرائر : { مِنَ الْعَذَابِ } أي : من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون جلدة ، لا الرجم .
قال المهايميّ : لأنهن من أهل المهانة ، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر .
تنبيه :
قال ابن كثير : مَذْهَب الْجُمْهُور إِنّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جَلْدَة ، سَوَاء كَانَتْ مُسْلِمَة أَوْ كَافِرَة ، مُزَوّجَة أَوْ بِكْراً ، مَعَ أَنّ مَفْهُوم الْآيَة يَقْتَضِي أَنّهُ لَا حَدّ عَلَى غَيْر الْمُحْصَنَة مِمّنْ زَنَى مِنْ الْإِمَاء ، وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتهمْ عَنْ ذَلِكَ .
فَأَمّا الْجُمْهُور فَقَالُوا : لَا شَكّ أَنّ الْمَنْطُوق مُقَدّم عَلَى الْمَفْهُوم ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيث عَامّة فِي إِقَامَة
الْحَدّ عَلَى الْإِمَاء ، فَقَدّمْنَاهَا عَلَى مَفْهُوم الْآيَة .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ عَلِيّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ خَطَبَ فَقَالَ < يَا أَيّهَا النّاسُ ! أَقِيمُوا عَلَى أَرِقّائِكُمُ الْحدّ ، مَنْ أَحصَنَ مِنْهُن وَمَنْ لَمْ يُحصِنْ > .
فَإِنّ أَمَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زَنَتْ . فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا . فَإِذَا هِيَ حدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ . فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا ، أَنْ أَقْتُلَهَا . فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَ : < أَحسَنْتَ ، اُتْرُكْهَا حَتّى تَمَاثَل > .
وَعِنْد عَبْد اللّه بْن أَحْمَد عَنْ غَيْر أَبِيهِ : < فَإِذَا تَعَافَتْ مِنْ نِفَاسهَا فَاجْلِدْهَا خَمْسِينَ > .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللّه صَلّى يَقُول : < إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرّب عَلَيْهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ الثّانِيَة فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرّب عَلَيْهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ الثّالِثَة فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْر > .
وَلِمُسْلِمٍ : < إِذَا زَنَتْ ثَلَاثاً ، ثم لْيَبِعْهَا فِي الرّابِعَة > .
وَرَوَى مَالِك عَنْ عَبْد اللّه بْن عَيّاش الْمَخْزُومِيّ قَالَ : أَمَرَنِي عُمَر بْن الْخَطّاب فِي فِتْيَة مِنْ قُرَيْش فَجَلَدْنَا ولائد مِنْ وَلَائِد الْإِمَارَة خَمْسِينَ خَمْسِينَ ، في الزّنَا .
الْجَوَاب الثّانِي : جَوَاب مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن فَلَا حَدّ عَلَيْهَا وَإِنّمَا تُضْرَب تَأْدِيباً ، وَهُوَ الْمَحْكِيّ عَنْ اِبْن عَبّاس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَاوُس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلّام ، وَدَاوُد بْن عليّ الظّاهِرِيّ ( فِي رِوَايَة عَنْهُ ) وَعُمْدَتهمْ مَفْهُوم الْآيَة ، وَهُوَ مِنْ مَفَاهِيم الشّرْط ، وَهُوَ حُجّة عِنْد أَكْثَرهمْ ، فَقُدّمَ عَلَى الْعُمُوم عِنْدهمْ .
وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَزَيْد بْن خَالِد : أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سُئِلَ عَنْ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن ؟ قَالَ : < إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ > .
قَالَ اِبْن شِهَاب : لَا أَدْرِي بَعْد الثّالِثَة أَوْ الرّابِعَة . أَخْرَجَاهُ فِي الصّحِيحَيْنِ .
وَعِنْد مُسْلِم قَالَ اِبْن شِهَاب : الضّفِير الْحَبْل . قَالُوا : فَلَمْ يُؤَقّت فِيهِ عَدَد كَمَا أُقّتَ فِي الْمُحْصَنَة ، وَكَمَا وَقّتَ فِي الْقُرْآن بِنِصْفِ مَا عَلَى الْمُحْصَنَات ، فَوَجَبَ الْجَمْع بَيْن الْآيَة وَالْحَدِيث بِذَلِكَ وَاَللّه أَعْلَم .
وَأَصْرَح مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ اِبْن عَبّاس مَرْفُوعاً : < لَيْسَ عَلَى أَمَةٍ حَدّ حَتّى تُحْصَن - يَعْنِي تُزَوّج - فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَات > .
وَرَوَاهُ اِبْن خُزَيْمَة مَرْفُوعاً أيضاً وَقَالَ : رَفْعه خَطَأ ، إِنّمَا هُوَ مِنْ قَوْل اِبْن عَبّاس .
وَكَذَا رَوَاهُ البيهقيّ وَقَالَ : مِثْل قول اِبْن خُزَيْمَة .
قَالُوا : وَحَدِيث عليّ وَعُمَر قَضَايَا أَعْيَان ، وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْهُ أَجْوِبَة :
أَحَدهَا : إنّ ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْأَمَة الْمُزَوّجَة ، جَمْعاً بَيْنه وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث .
الثّانِي : إنّ لَفْظَة الْحَدّ فِي قَوْله : < فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدّ > مُقْحَمَة مِنْ بَعْض الرّوَاة بِدَلِيلِ .
الْجَوَاب الثّالِث : وَهُوَ أَنّ هَذَا مِنْ حَدِيث صَحَابِيّيْنِ وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة فَقَطْ ، وَمَا كَانَ عَنْ اِثْنَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتّقْدِيمِ مِنْ رِوَايَة وَاحِد .
وَأَيْضاً فَقَدْ رَوَاهُ النّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْط مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبّاد بْن تَمِيم عَنْ عَمّه ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً : إنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < إِذَا زَنَتْ الْأَمَة فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ > .
الرّابِع : أَنّهُ لَا يَبْعُد أَنّ بَعْض الرّوَاة أَطْلَقَ لَفْظ ( الْحَدّ ) فِي الْحَدِيث عَلَى ( الْجَلْد ) لِأَنّهُ لَمّا كَانَ الْجَلْد اِعْتَقَدَ أَنّهُ حَدّ ، أَوْ أَنّهُ أَطْلَقَ لَفْظَة ( الْحَدّ ) عَلَى التّأْدِيب ، كَمَا أَطْلَقَ ( الْحَدّ ) عَلَى ضَرْب مَنْ زَنَى مِنْ الْمَرْضَى بِعِثْكَال نَخْل فِيهِ مِائَة شِمْرَاخ ، وَعَلَى جَلْد مَنْ زَنَى بِأَمَةِ اِمْرَأَته إِذَا أَذِنَتْ لَهُ فِيهَا مِائَة ، وَإِنّمَا ذَلِكَ تَعْزِير وَتَأْدِيب عِنْد مَنْ يَرَاهُ ، كَأَحْمَد وَغَيْره مِنْ السّلَف . وَإِنّمَا الْحَدّ الْحَقِيقِيّ هُوَ جَلْد الْبِكْر مِائَة ، وَرَجْم الثّيّب . انتهى .
وله تتمة سابغة .
وقال الإمام ابن القيم في : " زاد المعاد " : وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالحد ، وأما قوله تعالى في الإماء : { فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد ، وأما قبل التزويج فأمر بجلدها ، وفي هذا الحد قولان :
أحدهما : أنه الحد ، ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده ، فإن للسيد إقامته قبله ، وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام .
والقول الثاني : أن جلدها قبل الإحصان تعزير لا حد ، ولا يُبطل هذا ما رواه مسلم فى : " صحيحه " : من حديث أبى هريرة رضيَ اللّهُ عنه يرفعُه : < إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُعَيّرْها ثَلاَثَ مَرّاتٍ ، فإِنْ عَادَتْ في الرّابِعَةِ فَلْيَجْلِدْهَا وَلْيَبِعْها وَلَوْ بِضَفِير > ، وفى لفظ : < فَلْيَضْرِبْها بكتاب الله > .
وفى " صحيحه " أيضاً : من حديث على كرم الله وجهه أنه قال : أَيّها الناسُ ! أقيمُوا على أرقائكم الحدّ ، مَنْ أحصنَ مِنهن ، ومن لم يُحصنْ ، فإن أمةً ِرَسُولِ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زَنَتْ ، فأمرني أن أجلِدَهَا . الحديث .
فإن التعزير يدخلُ فيه لفظُ ( الحد ) في لسان الشارع ، كما في قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدّ مِن حدُود الله تعالى > .
وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً في مواضِع عديدة لم يَثْبُتْ نسخُها ، ولم تُجْتمِع الأمةُ على خِلافها .
وعلى كل حال ، فلا بد أن يُخالِفَ حالُها بعد الإحصان حالها قبله ، وإلا لم يكن للتقييد فائدة .
فإما أن يُقال قبل الإحصان : لا حدّ عليها ، والسنة الصحيحةُ تبطِلُ ذلك .
وإما أن يقال : حدّها قبل الإحصان حدّ الحرة ، وبعده نصفه ، وهذا باطل قطعاً مخالف لقواعد الشرع وأصوله .
وإما أن يُقال : حدها قبل الإحصان تعزير ، وبعده حد ، وهذا أقوى .
وإما أن يُقال : الافتراقُ بين الحالتين في إقامة الحدّ لا في قدرِه ، وأنه في إحدى الحالتين للسيد ، وفى الأخرى للإمام ، وهذا أقربُ ما يُقال .
وقد يقال : إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الإحصان لئلا يتوهّم متوهم أن بالإحصان يزولُ التنصيفٌ ، ويصيرُ حدها حدّ الحرة ، كما أن الجلد عن البِكر يزال بالإحصان ، وانتقل إلى الرجم ، فبقى على التنصيف في أكمل حالتيها ، وهى الإحصان تنبيهاً على أنه إذا اكتُفِىَ به فيها ، ففي ما قبل الإحصان أولى وأحرى ، والله أعلم .
{ ذَلِكَ } أي : إباحة نكاح الإماء .
{ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ } أي : المشقة في التحفظ من الزنى : { مِنْكُمْ } أيها الأحرار .
{ وَأَن تَصْبِرُواْ } على تحمل تلك المشقة متعففين عن نكاحهن .
{ خَيْرٌ لّكُمْ } من نكاحهن ، وإن سبقت كلمة الرخصة ، لما فيه من تعريض الولد للرق ، قال عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : أيما حرّ تزوج بأمة فقد أَرَقّ نصفه ، ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ، ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر ، وعلى بيعها للحاضر والبادي ، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه ، ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولاّجة ، وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح ، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين ، ولأن مهرها لمولاها ، فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج ، فلا ينتظم أمر المنزل ، كذا حرره أبو السعود ، وقد قيل :
~إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره

قال في : " الإكليل " : في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط ، بقوله تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 26 ]
{ يُرِيدُ اللّهُ } أي : في تحريم ما حرم من النساء ، وتحليل ما أحل بالشرائط .
{ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } أي : شرائعه .
{ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : يرشدكم إلى طرائق من تقدم من أهل الكتاب في تحريم ما حرمه ، لتتأسوا بهم في اتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها .
وفي الآية دليل على أن كل ما بيّن تحريمه لنا من النساء ، في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم كذلك في الملة السابقة .
وقد قرأت في سفر الأحبار اللاويين ، من التوراة ، في ( الفصل الثامن عشر ) ما يؤيد ذلك ، عدا ما رفعه تعالى عنا من ذلك مما فيه حرج .
{ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : يتجاوز عنكم ما كان منكم في الجاهلية ، أو يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته .
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ } أي : فيما شرع لكم من الأحكام : { حَكِيمٌ } مراع في جميع قضائه الحكمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَميلُواْ ميلاً عَظِيماً } [ 27 ]
{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : من المآثم والمحارم ، أي : يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى ، وفيه بيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى ، وكمال مضرة ما يريده الفجرة ، كما قال سبحانه : { وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ } أي : ما حرمه الشرع ، وهم الزناة .
{ أَن تَميلُواْ } عن الحق بالمعصية .
{ ميلاً عَظِيماً } يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَاْن ضَعِيفاً } [ 28 ]
{ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ } أي : في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم .
ولهذا أباح نكاح الإماء بشروطه ، ونظير هذا قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : من الآية 185 ] ، وقوله : { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] .
{ وَخُلِقَ الإِنسَاْن ضَعِيفاً } أي : عاجزاً عن دفع عن دفع دواعي شهواته ، فناسبه التخفيف لضعف عزمه وهمته وضعفه في نفسه ، فالجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف في أحكام الشرع .
وفي " الإكليل " : قال طاووس : ضعيفاً أي : في أمر الناس لا يصبر عنهن .
وقال وكيع : يذهب عقله عندهن ، أخرجهما ابن أبي حاتم ، ففيه أصل لما يذكره الأطباء من منافع الجماع ومن مضار تركه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ 29 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ } أي : لا يأكل بعضكم أموال بعض .
{ بِالْبَاطِلِ } أي : ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة ، والغضب والسرقة والخيانة ، وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل .
{ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } أي : معاوضة محضة كالبيع .
{ عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ } في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه ، وقرئ : { تِجَارَةٌ } بالرفع على أن ( كان ) تامة ، وبالنصب على أنها ناقصة ، والتقدير : إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال ، تجارة .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي ، وإباحة التجارة والربح فيها ، وأن شرطها التراضي ، ومن ههنا أخذ الشافعيّ رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً ، لأن التراضي أمر قلبي فلا بد من دليل عليه .
وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا . انتهى .
أي لأن الأقوال ، كما تدل على التراضي ، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً ، فصح بيع المعاطاة مطلقاً .
وفي " الروضة الندية " : حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى : والمراد ها هنا أمارته ، كالإيجاب والقبول ، وكالتعاطي عند القائل به ، وعلى هذا أهل العلم ، لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة ، وأنه لا يجوز البيع بغيرها ، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو : ( بعت منك وبعتك ) فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك ، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ، ولم يرد في ذلك شيء ، وقد قال الله تعالى : { تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ } فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط ، ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة ، بأي لفظ وقع ، وعلى أي : صفة كان وبأي إشارة مفيدة ، حصل . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فيه وجهان :
الأول : أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين ، فإن كلهم كنفس واحدة ، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم ، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل .
والثاني : النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه ، وقد احتج بهذه الآية عَمْرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد ، وأقره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على احتجاجه ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، ولفظ أحمد عن
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّهُ قَالَ : لَمّا بَعَثَه رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَامَ ذَاتِ السّلاَسِلِ - قَالَ - احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ ، فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصّبْحِ - قَالَ - فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : < يَا عَمْرُو صَلّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ > .
قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنَ أَهْلَكَ وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ ، < فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً > .
وهكذا أورده أبو داود ، قال ابن كثير وهذا ، أي : المعنى الثاني ، والله أعلم ، أشبه بالصواب ، وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه والوعيد عليه .
روى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ : قَالَ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ تَرَدّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهْوَ في نَارِ جَهَنّمَ ، يَتَرَدّى فِيهِ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً ، وَمَنْ تَحَسّى سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَسَمّهُ في يَدِهِ ، يَتَحَسّاهُ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ ، يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً > .
وأخرج الشيخان عنه رضى الله عنه - قَالَ شَهِدْنَا خَيْبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِرَجُلٍ مِمّنْ مَعَهُ يَدّعِى الإِسْلاَمَ : < هَذَا مِنْ أَهْلِ النّارِ > .
فَلَمّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرّجُلُ أَشَدّ الْقِتَالِ ، حَتّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ ، فَكَادَ بَعْضُ النّاسِ يَرْتَابُ ، فَوَجَدَ الرّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحَةِ ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُماً ، فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ .
فَاشْتَدّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللّهِ ، صَدّقَ اللّهُ حَدِيثَكَ ، انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ .
فَقَالَ : < قُمْ يَا فُلاَنُ ، فَأَذّنْ أَنّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ مُؤْمِنٌ ، إِنّ اللّهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ > . وهذا لفظ البخاريّ .
وروى أبو داود عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال : أُخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يرجل قتل نفسه فقال : < لا أصلي عليه > .
وفي الصحيحين من حديث جُنْدب بن عبد الله قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكّيناً فَحَزّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدّمُ حَتّى مَاتَ ، قَالَ اللّهُ عز وجل : بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ ، حَرّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ > .
ولهذا قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلما فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [ 30 ]
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي : القتل .
{ عُدْوَاناً وَظُلما } أي : متعدياً فيه ، ظالماً في تعاطيه ، أي : عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه .
{ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ } أي : ندخله .
{ نَاراً } أي : هائلة شديدة العذاب .
{ وَكَانَ ذَلِكَ } أي : إصلاؤه النار .
{ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } هيناً عليه ، لا عسر فيه ولا صارف عنه ، لأنه تعالى : لا يعجزه شيء .
قال النسفي : وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد ، وفي حق غيره ، لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مّدْخَلاً كَرِيماً } [ 31 ]
{ إِن تَجْتَنِبُواْ } أي : تتركوا .
{ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } أي : كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها ، مما ذكر ههنا ومما لم يذكر .
{ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } أي : صغائر ذنوبكم ، ونمحها عنكم ، وندخلكم الجنة ، كما قال تعالى : { وَنُدْخِلْكُم } في الآخرة .
{ مّدْخَلاً كَرِيماً } أي : حسناً وفي الجنة ، و ( مدخلاً ) قرئ بضم الميم ، اسم مكان أو مصدر ميمي ، أي : إدخالاً مع كرامة ، وبفتح الميم ، وهو أيضاً يحتمل المكان والمصدر ، وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر ، وردّ على من قال : إن المعاصي كلها كبائر ، وإنه لا صغيرة .
قال الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي " : قد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر ، قال الله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، وقال تعالى : { الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلّا اللّمَمَ } [ النجم : من الآية 32 ] .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان : مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر > .
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات :
إحداها : أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها ، والقيام بحقوقها ، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية .
الثانية : أن تقاوم الصغائر ، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر .
الثالثة : أن تقوى على تكفير الصغائر ، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر ، فتأمّل هذا ، فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < أَلاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ > .
قُالوَا بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ : < الإِشْرَاكُ بِاللّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ > . وَجَلَسَ وَكَانَ مُتّكِئاً فَقَالَ : < أَلاَ وَقَوْلُ الزّورِ ( ثلاثاً ) > .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : < اجْتَنِبُوا السّبْعَ الْمُوبِقَاتِ > .
قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : < الإشّرْكُ بِاللّهِ ، وَالسّحْرُ ، وَقَتْلُ النّفْسِ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ، وَأَكْلُ الرّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتّوَلّي يَوْمَ الزّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ > .
وفي الصحيح عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود - رضى الله عنه - قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - أي : الذّنْبِ عِنْدَ اللّهِ أَكْبَرُ ؟ ، قَالَ : < أَنْ تَجْعَلَ لِلّهِ نِدّا وَهْوَ خَلَقَكَ > .
قُلْتُ ثُمّ أي : ؟ قَالَ : < ثُمّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ > .
قُلْتُ ثُمّ أَىّ ؟ قَالَ : < أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ > .
قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلَا يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، الآية .
ثم ساق الخلاف في تعدادها .
وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث ، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مبين لكتاب الله عز وجل ، أمين على تأويله ، والمرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة ، كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العدّ دون ضبطها بحد ، كما تكلفه جماعة من الفقهاء ، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود ، وإن منها ما ليس جامعاً ، ومنها ما ليس مانعاً ، فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك .
وقد ساق الحافظ ابن كثير ههنا جملة وافرة منها وجوّد النقل عن الصحابة والسلف والتابعين ، فانظره فإنه نفيس .
ثم نهى تعالى عن الحاسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه ، مما يجري فيه التنافس بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَتَمَنّوْاْ مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 32 ]
{ وَلاَ تَتَمَنّوْاْ مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبُواْ } أي : أصابوا وأحرزوا .
{ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبْنَ } أي : أصبن وأحرزن ، أي : لكل فريق نصيب مما اكتسب في نعيم الدنيا قبضاً أو بسطاً ، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له .
وقد روى الإمام أحمد عن مجاهد أن أم سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء ، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَتَمَنّوْاْ } الآية . ورواه الترمذيّ وقال : غريب .
ورواه الحاكم في مستدركه وزاد : ثم أنزل الله : { أَنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } [ آل عِمْرَان : من الآية 195 ] ، الآية فإن صح هذا فالمعنى : لكلٌ أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه ، فلا تتمنوا خلاف ذلك ، ولا مانع من شمول الآية لما يتعلق بأحوال الدنيا والآخرة ، فإن اللفظ محتمل ولا منافاة ، والله أعلم .
{ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } أي : من خزائن نعمه التي لا نفاد لها ، وقد روى الترمذيّ وابن مردويه عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < سَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ، فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يُحِبّ [ أَنْ ] يُسْأَلَ ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ > .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } ولذلك جعل الناس على طبقات رفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية ، قاله أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً } [ 33 ]
{ وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } أي : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا ورثة وعصبة يلونه ويحرزونه ، وهم يرثونه ، دون سائر الناس .
كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِىَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ > ، أي : اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض ، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة ، فـ ( فما ) تبيين ( كل ) .
قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى ، كما قال الفضل بن العباس :
~مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
وفي " القاموس " و " شرحه تاج العروس " : والمولى : القريب كابن العم ونحوه .
قال ابن الأعرابي : ابن العم مولى ، وابن الأخت مولى ، وقول الشاعر :
~هَمُ المَوْلى ، وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا وإنّا مِنْ لِقائِهِمُ لَزُورُ
قال أَبو عبيدة : يعني المَوالي ، أي : بني العَمّ [ في المطبوع : العلم ] ، وقال اللّهبيّ يخاطب بني أمية :
~مهلاً بني عمنا ، مهلاً مواليناً امشوا رويداً كما كنتم تكونونا
وقوله تعالى : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } ويقرأ ( عاقدت ) بالألف ، والمفعول محذوف أي : عاقدتهم ، ويقرأ بغير ألف والمفعول محذوف أيضاً هو والعائد ، تقديره عقدت حلفهم أيمانكم ، والعقد الشد والربط والتوكيد والتغليظ ، ومنه : عقد العهد يعقده : شده .
والأيمان : جمع يمين ، إما بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود ، أو بمعنى القسم وهو الأظهر ، لأن العقد خلاف النقض ، وقد جاء مقروناً بالحلف في قوله تعالى : { وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : من الآية 91 ] ، وفي قوله : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } [ المائدة : من الآية 89 ] ، وفي هذه الآية محامل كثيرة ووجوه للسلف والخلف ، أظهرها السلف المفسرين رضوان الله عليهم ، وهو أن المعنيّ بالموصول ، الحلفاء ، وهو المروي عن ابن عباس في البخاريّ كما سيأتي : قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : هم الحلفاء . انتهى .
ويزاد أيضاً : عليّ بن أبي طلحة .
وكان الحلفاء يرثون السدس من محالفيهم ، وروى الطبري من طريق قتادة : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول : دمي دمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس ، فأمروا بأن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس ، ثم نسخ ذلك بالميراث ، فقال : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } .
ولذا قال سعيد بن جبير : فآتوهم نصيبهم من الميراث ، قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه .
قال الزمخشري : والمراد ، بـ ( الذين عاقدت أيمانكم ) موالي الموالاة ، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف . انتهى .
وعلى هذا ، فمعنى الآية : والذين عاقدتموهم على المؤاخاة والموالاة وتحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم على النصر والإرث ، قبل نزول هذه الآية ، فآتوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود ، إذ وعدتموهم ذلك في الأيمان المغلظة .
وروى ابن أبي حاتم : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول ، وترثني أرثك ، وكان الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كُلّ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ ، أو عقد أدركه الإسلام ، فَلا يَزِيدْهُ الإِسْلاَمَ إِلاّ شِدّةً ، ولا عقد وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > .
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ ، وأيما حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاّ شِدّةً > .
وروى الإمام أحمد عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنّهُ سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَنِ الْحِلْفِ ؟ فَقَالَ : < مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَتَمَسّكُوا بِهِ ، وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > .
ورواه أيضاً عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ : لَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مَكّةَ عَامَ الْفَتْحِ قَامَ خَطِيباً فِي النّاسِ ، فَقَالَ : < يَا أَيّهَا النّاسُ ، مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ ، لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمَ إِلاّ شِدّةً ، وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > .
قال ابن الأثير : الحلف في الأصل المُعاقَدةُ والمعاهدة على التّعاضُد والتّساعُد والاتّفاق ، فما كان منه في الجاهلية على الفِتَن والقتال والغاراتِ فذلك الذي ورد النّهْي عنه في الإسلام بقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا حِلْفَ في الإسلام > .
وما كان منه في الجاهلية على نَصْر المَظْلوم وصلة الأرحام كحلْف المُطَيّبين وما جرى مَجْراه ، فذلك الذي قال فيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < وأَيّمَا حِلفٍ كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شدة > .
يريد من المُعاقدة على الخير ونُصْرَة الحق ، وبذلك يجتمع الحديثان ، وهذا هو الحِلْف الذي يَقْتَضِيه الإسلام ، والمَمْنُوع منه ما خالف حُكْم الإسلام . انتهى .
قال الحافظ ابن كثير : كان هذا ، أي : التوارث بالحلف ، في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول : وترثني وأرثك ، كان الأحياء يتحالفون فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كُلّ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ ، أو عقد أدركه الإسلام ، فَلا يَزِيدْهُ إِلاّ شِدّةً ، ولا عقد وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > . فنسختها هذه الآية : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } [ الأنفال : 75 ] .
وروى أبو داود عن ابن عباس في هذه الآية : كَانَ الرّجُلُ يُحَالِفُ الرّجُلَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ ، فَنَسَخَ ذَلِكَ الأَنْفَالُ فَقَالَ : { وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } الآية .
وروى ابن جرير عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً } يقول : إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا ، وصية ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، ذلك هو المعروف .
وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقول : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ } الآية .
أقول : على ما ذكر ، تكون الآية محكمة في صدر الإسلام ، منسوخة بعده ، وثمة وجه آخر فيها ، وهو أنها ناسخة لميراث الحليف بتأويل آخر .
وهو ما رواه البخاريّ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رضى الله عنهما - قال : { وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } وَرَثَةً { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } كَانَ الْمُهَاجِرُون لَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُي الأَنْصَارِيّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ لِلأُخُوّةِ الّتِي آخَى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بَيْنَهُمْ ، فَلَمّا نَزَلَتْ : { وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } نَسَخَتْ ، ثُمّ قَالَ : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } من النّصْرَ وَالرّفَادَةَ وَالنّصِيحَةَ ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِى لَهُ .
وقد فهم بعضهم من هذا الأثر أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل ، وحكم الحلف الماضي أيضاً ، وأنه لا توارث به ، والصحيح ما أسلفناه من ثبوت التوارث بالحلف السابق على نزول الآية في ابتداء الإسلام ، كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون ذوي رحمه حتى نسخ ذلك .
وقد حاول الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " الجمع بين الروايات المتقدمة ورواية البخاريّ باحتمال أن يكون النسخ وقع مرتين :
الأولى : حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة ، فنزلت : { وَلِكُلّ جَعَلْنَا } فصاروا جميعاً يرثون ، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما ، والله أعلم .
هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها :
منها : ما روى أبو داود وابن أبي حاتم عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ : كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أُمّ سَعْدٍ بِنْتِ الرّبِيعِ ، وَكَانَتْ يَتِيمَةً فِي حِجْرِ أَبِي بَكْرٍ الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، فَقَرَأْتُ : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَقَالَتْ : لاَ تَقْرَأْ هكذا وَلَكِنْ : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } إِنّمَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ رضي الله عنهما حِينَ أَبَى الإِسْلاَمَ ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلاّ [ في المطبوع لا ] يُوَرّثَهُ ، فَلَمّا أَسْلَمَ أَمَرَه اللّهُ تَعَالَى أَنْ يُورثهُ نَصِيبَهُ .
ومنها ما روى ابن جرير عن الزهريّ عَن ابْن الْمُسَيّب قَال : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الّذِينَ كَانُوا يَتَبَنّوْنَ رِجَالاً غَيْر أَبْنَائِهِمْ وَيُوَرّثُونَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللّه فِيهِمْ ، فَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيباً فِي الْوَصِيّة ، وَرَدّ الْمِيرَاث إِلَى الْمَوَالِي فِي ذَوِي الرّحِم وَالْعَصَبَة ، وَأَبَى اللّه أن يكون لِلْمُدّعِينَ مِيرَاثاً مِمّنْ اِدّعَاهُمْ وَتَبَنّاهُمْ ، وَلَكِنّ جَعَلَ لَهُمْ نَصِيباً فِي الْوَصِيّة .
واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية ، كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها : ولا تنافي بينها ، لما أسلفناه في مقدمة التفسير ، فراجعها ولا تغفل عنها .
هذا ولأبي عليّ الجبائي تأويل آخر في الآية ، قال : تقدير الآية : ولكن شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ، ورثة { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : فآتوا الموالي والورثة نصيبهم ، فقوله : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } معطوف على قوله : { الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } والمعنى : إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به ، وسمى الله تعالى الوارث مولى ، والمعنى : لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : المراد بـ : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } الزوج والزوجة ، والنكاح يسمى عقداً ، قال تعالى : { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ } [ البقرة : 235 ] ، فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة ، ونظيره آية المواريث ، في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ، ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة .
أقول : هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير ، ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك ، ذهاباً إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية من خبر أو إجماع ، فلا حجة في المروي منه آحاداً ، مرفوعاً أو موقوفاً ، وإن صح ، وهذه الطريقة سبيل طائفة قصّرت في علم السمع وأقلت البحث عنه ، فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض .
ومذهبنا : أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة رضي الله عنهم ، لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة ، ولأن القرآن أنزل على لغتهم ، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم ، لا سيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، فمتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير ، مقدماً على كثير من الأئمة الجماهير ، لوجوه متعددة : منها : أنه - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي ، روي عنه أنه قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ، وفي رواية ( بغير علم ) رواه أبو داود في العلم ، والنسائي والترمذيّ .
فإذا جزم - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - بأمر كان دليلاً على رفعه ، كما أسلفنا في المقدمة .
{ إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ } من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع .
{ شَهِيداً } أي : عالماً ، ففيه وعد ووعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّا كَبِيراً } [ 34 ]
{ الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } جمع قوام ، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب ، أي : مسلطون على أدب النساء يقومون عليهن ، آمرين ناهين ، قيام الولاة على الرعية ، وذلك لأمرين : وهبيّ وكسبيّ .
أشار للأول بقوله تعالى : { بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } والضمير للرجال والنساء جميعاً ، يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم ، وهم الرجال ، على بعض ، وهم النساء ، وقد ذكروا ، في فضل الرجال ، العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي ، وإن منهم الأنبياء وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والشهادة في مجامع القضايا والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وزيادة السهم والتعصيب ، وهم أصحاب اللحى والعمائم ، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص .
وأشار للثاني بقوله سبحانه : { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } في مهورهن ونفقاتهن فصرن كالأرقاء ، ولكون القوامين في معنى السادات وجبت عليهن طاعتهم ، كما يجب على العبيد طاعة السادات .
وروى ابن مردويه عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : أتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رجل من الأنصار بامرأة ، فقالت : يا رسول الله ! إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري ، وإنه ضربها فأثر في وجهها ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ليس له ذلك > .
فأنزل الله تعالى : { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } في الأدب ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أردت أمراً وأراد الله غيره > ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلاً من طرق .
قال السيوطيّ : وشواهده يقوي بعضها بعضاً ، وقال عليّ بن أبي طلحة في هذه الآية عن ابن عباس : يعني أمراء عليهن ، أي : تطيعه فيما أمرها الله به من طاعة ، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله .
وروى الترمذيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا > .
{ فَالصّالِحَاتُ } أي : من النساء .
{ قَانِتَاتٌ } أي : مطيعات لله في أزواجهن .
{ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ } قال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة ، أي : حافظات لمواجب الغيب ، إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة ، من الفروج والأموال والبيوت .
{ بِمَا حَفِظَ اللّهُ } أي : بحفظ الله إياهن وعصمتهن بالتوفيق لحفظ الغيب ، فالمحفوظ من حفظه الله ، أي : لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله ، أو المعنى : بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال ، أي : عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن ، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن ، فقوله : بما حفظ الله ، يجري مجرى ما يقال : هذا بذاك ، أي : في مقابلته .
وجعل المهايمي الباء للاستعانة حيث قال : مستعينات بحفظه مخافة أن يغلب عليهن نفوسهن ، وإن بلغن من الصلاح ما بلغن . انتهى .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً : < خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت حفظتك في نفسها ومالك ، قال : ثم قرأ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذه الآية : { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } إلى آخرها > .
وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم :
< إِذَا صَلّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي الْجَنّةَ مِنْ أي : الأَبْوَابِ شِئْتِ > .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في قوله تعالى : { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } : إن الزوج يقوم بتربية زوجته وتأديبها ومنعها من الخروج وإن عليها طاعته إلا في معصية ، وإن ذلك لأجل ما يجب لها عليه من النفقة ، ففهم العلماء من هذا أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها ، وسقط ما له من منعها من الخروج .
واستدل بذلك من أجاز لها الفسخ حينئذ ، ولأنه إذا خرج من كونه قواماً عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح .
واستدل بالآية من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها ، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه ، لأنه جعله ( قواماً ) بصيغة المبالغة ، وهو الناظر في الشيء الحافظ له .
واستدل بها على أن المرأة لا تجوز أن تلي القضاء كالإمامة العظمى ، لأنه جعل الرجال قوامين عليهن ، فلم يجز أن يقمن على الرجال . انتهى .
{ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ } أي : عصيانهن وسوء عشرتهن وترفعهن عن مطاوعتكم ، من ( النشز ) وهو ما ارتفع من الأرض يقال : نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها : استعصت عليه ، وارتفعت عليه وأبغضته ، وخرجت عن طاعته .
{ فَعِظُوهُنّ } أي : خوفوهن بالقول ، كاتقي الله ، واعلمي أن طاعتك لي فرض عليك ، واحذري عقاب الله في عصياني ، وذلك لأن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته ، لما له عليها من الفضل والإفضال ، وقد قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا > . رواه الترمذيّ ، عن أبي هريرة والإمام أحمد عن معاذ ، والحاكم عن بريدة .
وروى البخاريّ عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِذَا دَعَا الرّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا ، لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ > ، ورواه مسلم ، ولفظه : < إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ > .
{ وَاهْجُرُوهُنّ } بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة .
{ فِي المضَاجِعِ } أي : المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن ، فيكون كناية عن الجماع .
قال حماد بن سلمة البصري : يعني النكاح ، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : الهجر هو أن لا يجامعها ، ويضاجعها على فراشها ، ويوليها ظهره ، وكذا قال غير واحد .
وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس ( في رواية ) : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها ، وقيل : المضاجع المبايت ، أي : لا تبايتوهن .
وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طمعتَ ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت .
{ وَاضْرِبُوهُنّ } إن لم ينجع ما فعلتم من العظمة والهجران ، ضرباً غير مبرح أي : شديد ولا شاق ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال في حجة الوداع : < واتقوا الله في النساء ، فإنهن عوانٍ عندكم ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ . فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ > .
قال الفقهاء : هو أن لا يجرحها ، ولا يكسر لها عظماً ، ولا يؤثر شيناً ، ويجتنب الوجه لأنه مجمع المحاسن ، ويكون مفرّقاً على بدنها ، ولا يوالي به في موضع واحد لئلا يعظم ضرره ، ومنهم من قال : ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف ، أو بيده ! لا بسوط ولا عصا ، قال عطاء : ضرب بالسواك .
قال الرازي : وبالجملة ، فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه ، والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع ، ثم ترقى منه إلى الضرب ، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف ، وجب الاكتفاء به ، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق ، وهذه طريقة من قال : حكم هذه الآية مشروع على الترتيب ، فإن ظاهر اللفظ ، وإن دل على الجمع ، إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب .
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : يهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح ، ولا تكسر لها عظماً ، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية .
وقال آخرون : هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز ، أما عند تحققه فلا بأس بالجمع بين الكل .
وعن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < علقوا السوط حيث يراه أهل البيت ، فإنه أدب لهم > . رواه عبد بن حميد والطبراني عن ابن عباس ، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر .
{ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً } أي : إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يراد منهن مما أباحه الله منهن ، فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّا كَبِيراً } فاحذروه ، تهديد للأزواج على ظلم النسوان من غير سبب ، فإنهن ، وإن ضعفن عن دفع ظلمكم ، وعجزن عن الانتصاف منكم ، فالله سبحانه عليّ قاهر كبير قادر ، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن ، فلا تغتروا بكونكم أعلى يداً منهم وأكبر درجة منهن ، فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن ، فَخَتْمُ الآية بهذين الاسمين ، فيه تمام المناسبة ، ولما ذكر تعالى حكم النفور والنشوز من الزوجة ، ذكر ما إذا كان النفور من الزوجين بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } [ 35 ]
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أصله شقاقاً بينهما فأضيف الشقاق إلى الظرف ، إما على إجرائه مجرى المفعول به اتساعاً ، كقوله : { بَلْ مَكْرُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ } [ سبأ : 33 ] ، أصله بل مكر في الليل والنهار ، أو مجرى الفاعل بجعل البين مشاقاً والليل والنهار ماكرين ، كما في قولك : نهارك صائم ، والضمير للزوجين ، ولم يجر ذكرهما لجري ما يدل عليهما ، وهو الرجال والنساء ، أي : إن علمتم مخالفة مفرقة بينهما ، واشتبه عليكم أنه من جهته أو من جهتها ، ولا يفعل الزوج الصالح ولا الصفح ولا الفرقة ، ولا تؤدي المرأة الحق ولا الفدية .
{ فَابْعَثُواْ } أي : إلى الزوجين لإصلاح ذات البين وتبيّن الأمر .
{ حَكَماً } رجلاً صالحاً للحكومة ، والإصلاح ومنع الظالم من الظلم .
{ مّنْ أَهْلِهِ } أي : أقارب الزوج : { وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } على صفة الأول ، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للإصلاح ، فيلزمها أن يَخْلُوا ويستكشفا حقيقة الحال فيعرفا أن رغبتهما في الإقامة أو الفرقة .
{ إِن يُرِيدَا } أي : الحكمان .
{ إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا } أي : يوقع بينهما الموافقة فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد ، أو الضمير الأول للحكمين ، والثاني للزوجين ، أي : إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله ، بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة ، وألقى في نفوسهما المودة والرحمة .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } بظواهر الحكمين وبواطنهما ، إن قصدا إفساداً يجازيهما عليه ، وإلا يجازيهما على الإصلاح ، روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أمر الله عز وجل أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلاً صَالِحاً مِنْ أَهْل الرّجُل ، وَمِثْله مِنْ أَهْل الْمَرْأَة ، فَيَنْظُرَانِ أَيّهمَا الْمُسِيء ، فَإِنْ كَانَ الرّجُل هُوَ الْمُسِيء حَجَبُوا عَنْهُ اِمْرَأَته وَقَصَرُوهُ عَلَى النّفَقَة ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَة هِيَ الْمُسِيئَة قَصَرُوهَا عَلَى زَوْجهَا ، وَمَنَعُوهَا النّفَقَة . فَإِنْ اِجْتَمَعَ رَأْيهمَا عَلَى أَنْ يُفَرّقَا أَوْ يُجَمّعَا ، فَأَمْرهمَا جَائِز . فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يُجَمّعَا فَرَضِيَ أَحَد الزّوْجَيْنِ وَكَرِهَ الْآخَر ثُمّ مَاتَ أَحَدهمَا ، فَإِنّ الّذِي رَضِيَ يَرِث الّذِي لمْ يرض ، وَلَا يَرِث الْكَارِه الرّاضِيَ .
وروى عبد الرزاق في مصنفه عَنْ اِبْن عَبّاس قَالَ : بَعَثْت أَنَا وَمُعَاوِيَة حَكَمَيْنِ ، قَالَ مَعْمَر : بَلَغَنِي أَنّ عُثْمَان بَعَثَهُمَا وَقَالَ لَهُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا ، وَإِنْ رَأَيْتُمَها أَنْ تُفَرّقَا فَفَرّقَا .
( وأسند ) عن اِبْن أَبِي مُلَيْكَة أَنّ عَقِيل بْن أَبِي طَالِب تَزَوّجَ فَاطِمَة بِنْت عُتْبَة بْن رَبِيعَة فَقَالَتْ : تَصِير إِلَيّ وَأُنْفِق عَلَيْك ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، قَالَتْ : أَيْنَ عُتْبَة بْن رَبِيعَة وَشَيْبَة بْن رَبِيعَة ، فَقَالَ : عَلَى يَسَارك فِي النّار إِذَا دَخَلْت .
فَشَدّتْ عَلَيْهَا ثِيَابهَا ، فَجَاءَتْ عُثْمَان فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَضَحِكَ ، فَأَرْسَلَ اِبْن عَبّاس وَمُعَاوِيَة ، فَقَالَ اِبْن عَبّاس : لَأُفَرّقَن بَيْنهمَا ، فَقَالَ مُعَاوِيَة : مَا كُنْت لِأُفَرّق بَيْن شَخْصَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْد مَنَاف ، فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ أَغْلَقَا عَلَيْهِمَا أَبْوَابهمَا ، فَرَجَعَا .
( وأسند ) عَنْ عُبَيْدَة قَالَ شَهِدْت عَلِيّا وَجَاءَتْهُ اِمْرَأَة وَزَوْجهَا مَعَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِئَام مِنْ النّاس ، فَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ حَكَماً ، وَهَؤُلَاءِ حَكَماً ، فَقَالَ عليّ لِلْحَكَمَيْنِ : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إِنّ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا .
فَقَالَتْ الْمَرْأَة : رَضِيت بِكِتَابِ اللّه لِي وَعليّ ، وَقَالَ الزّوْج : أَمّا الْفُرْقَة فَلَا .
فَقَالَ عليّ : كَذَبْت وَاَللّه ! لَا تَبْرَح حَتّى تَرْضَى بِكِتَابِ اللّه عَزّ وَجَلّ لَك وَعَلَيْك . ورَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم واِبْن جَرِير .
قال الحافظ ابن كثير وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنّ الْحَكَمَيْنِ لَهُمَا الْجَمْع وَالتّفْرِقَة حَتّى قَالَ إِبْرَاهِيم النّخَعِيّ : إِنْ شَاءَ الْحَكَمَانِ أَنْ يُفَرّقَا بَيْنهمَا بِطَلْقَةٍ أَوْ بِطَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً فَعَلَا ، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ مَالِك .
وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : الْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ فِي الْجَمْع لَا فِي التّفْرِقَة ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَزَيْد بْن أَسْلَم ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد ، وَمَأْخَذهمْ قَوْله تَعَالَى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّق اللّه بَيْنهمَا } وَلَمْ يَذْكُر التّفْرِيق ، وَأَمّا إِذَا كَانَا وَكِيلَيْنِ مِنْ جِهَة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف . انتهى .
وفي " الإكليل " : أخرج ابن منصور أن المأمور بالبعث الحكام .
وعن السدي : إنه الزوجان ، فعلى الأول استدل به من قال : إنهما مولّيان من الحاكم ، فلا يشترط رضا الزوجين عما يفعلانه من طلاق وغيره ، وعلى الثاني : استدل من قال : إنهما وكيلان من الزوجين ، فيشترط .
وقال ابن كثير : وَالْجُمْهُور عَلَى الْأَوّل - أعني أنهما منصوبان مِنْ جِهَة الْحَاكِم - لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَابْعَثُوا حَكَماً } الخ . فَسَمّاهُمَا حَكَمَيْنِ ، وَمِنْ شَأْن الْحَكَم أَنْ يَحْكُم بِغَيْرِ رِضَا الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِر الْآيَة .
وَذْهَب الشافعيّ وَأَبو حَنِيفَة إلى الثّانِي ، لقَوْل عَلِيّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - لِلزّوْجِ ( حِين قَالَ : أَمّا الْفُرْقَة فَلَا ) فَقَالَ : كَذَبْت ، حَتّى تُقِرّ بِمَا أَقَرّتْ بِهِ .
قَالُوا : فَلَوْ كَانَا حَكَمَيْنِ لَمَا اِفْتَقَرَ إِلَى إِقْرَار الزّوْج وَاَللّه أَعْلَم .
وفي الآية تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتوخاه ، وفقه الله تعالى لمبتغاه .
تنبيه :
قال الحاكم : في الآية دلالة على أن كل من خاف فرقة وفتنة جاز له بعث الحكمين ، وقد استدل بها أمير المؤمنين على الخوارج فيما فعل من التحكيم ، قال مشايخ المعتزلة : لأن المصاحف لما رفعت ، فظهرت الفرقة في عسكره ، وخاف على نفسه ، جازت المحاكمة ، بل وجبت ، ولهذا صالح صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم الحديبية ، وعلى هذا يحمل صلح الحسن عليه السلام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ 36 ]
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } يأمر تعالى بعبادته وحده وبالإخلاص فيها بقوله : { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } كما قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } [ البينة : 5 ] ، لأنه تعالى هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأوقات والحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من الشرك ، الجليّ والخفيّ ، للنفس وشهواتها ، وما يتوصل بها إليها من المال والجاه ، وهذه العبادة حق الله علينا .
كما في الصحيحين عن معاذ بن جبل أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ له : < يَا مُعَاذُ ، هَلْ تَدْرِي ما حَقّ اللّهِ عَلَى العِبَادِ ، وَمَا حَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ ؟ > .
قُلْتُ : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : < حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِه شَيْئاً ، وَحَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ أَنْ لاَ يُعَذّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً > .
ثم أوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين ، إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمها ، تنبيهاً على جلالة شأن الوالدين بنظمها في سلكها بقوله : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقد كثرت مواقع هذا النظم في التنزيل العزيز كقوله : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] ، { وَقَضَى رَبّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، أي : أحسنوا بهما إحساناً يفي بحق تربيتهما ، فإن شكرهما يدعو إلى شكر الله المقرب إليه ، مع ما فيه من صلة أقرب الأقارب الموجب لوصلة الله ، وقطعها لقطعه ، ثم عطف ، على الإحسان إليهما ، الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء ، بقوله :
{ وَبِذِي الْقُرْبَى } أي : الأقارب ، وقد جاء في الحديث الصحيح ، عن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الصدقة على المسكين صدقة ، وهي على ذي الرحم اثنتان : صلة وصدقة > ، رواه الإمام أحمد والترمذيّ والنسائي والحاكم وابن ماجة .
ثم قال تعالى : { وَالْيَتَامَى } وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنوّ عليهم ، تنزلاً لرحمته عز وجل .
{ وَالمسَاكِينِ } وهم المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم ، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم ، وتزول به ضرورتهم .
{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي : الذي قرب جوارهم ، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين .
{ وَالْجَارِ الْجُنُبِ } أي : الذي جواره بعيد ، أو الأجنبي ، وقال نوف البكاليّ : الجار ذي القربى ، يعني الجار المسلم ، والجار الجنب : يعني اليهودي والنصراني .
وقد ورد في الوصية بالجار أحاديث كثيرة ، منها قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَازَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثُهُ > ، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر .
ومنها ما رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ > .
وروى الإمام أحمد عن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا يَشْبَع الرّجُل دُون جَاره > .
قال ابن كثير : تَفَرّدَ بِهِ أَحْمَد .
وَعنْ الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد قَالَ : قَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِأَصْحَابِهِ : < مَا تَقُولُونَ فِي الزّنَا ؟ > قَالُوا : حَرّمَهُ اللّه وَرَسُوله ، فَهُوَ حَرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة .
قَال : فَقَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِأَصْحَابِهِ : < لَأَنْ يَزْنِي الرّجُل بِعَشْرَةِ نِسْوَة أَيْسَر عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِي بامرأة جَار > .
قَالَ : فَقَالَ : < مَا تَقُولُونَ فِي السّرِقَة ؟ > ، قَالُوا حَرّمَهَا اللّه وَرَسُوله ، فَهِيَ حَرَام .
قَالَ : < لَأَنْ يَسْرِق الرّجُل مِنْ عَشَرَة أَبْيَات أَيْسَر عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِق مِنْ جَاره > .
قَالَ ابن كثير : تَفَرّدَ بِهِ أَحْمَد ، وَلَهُ شَاهِد فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود : قَالَ : سَأَلْتُ ( أو سأل ) رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عليّه وسلّم : أي : الذّنْبِ عِنْدَ اللّهِ أكبر ؟ قَالَ : < أَنْ
تَجْعَلَ لِلّهِ نِدّا وَهُوَ خَلَقَكَ > .
قُلْتُ : ثُمّ أي : ؟ قَالَ : < ثُمّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خشية أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ > .
قُلْتُ : ثُمّ أي : ؟ قَالَ : < أَنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةَ جَارِكَ > .
وروى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ أَبِي الْعَالِيَة عَنْ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار قَالَ : خَرَجْتُ مِنْ أَهْلِي أُرِيدُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ ، وَرَجُلٌ مَعَهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ ، فَظَنَنْتُ أَنّ لَهُمَا حَاجَةً .
قَالَ : فَقَالَ الأَنْصَارِيّ : وَاللّهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حَتّى جَعَلْتُ أَرْثِي لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مِنْ طُولِ الْقِيَامِ ، فَلَمّا انْصَرَفَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! لَقَدْ قَامَ بِكَ الرّجُلُ حَتّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ .
قَالَ : < وَلَقَدْ رَأَيْتَهُ ؟ > . قُلْتُ : نَعَمْ .
قَالَ : < أَتَدْرِي مَنْ هُوَ ؟ > . قُلْتُ : لاَ .
قَالَ : < ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ ، مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثُهُ > . ثُمّ قَالَ : < أَمَا إِنّكَ لَوْ سَلّمْتَ عَلَيْهِ رَدّ عَلَيْكَ السّلاَمَ > .
ورواه عَبْد بْن حُمَيْد عَنْ جَابِر بْن [ في المطبوع عن ] عَبْد اللّه قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْعَوَالِي وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَام يُصَلّيَانِ حَيْثُ يُصَلّى عَلَى الْجَنَائِزِ ، فَلَمّا انْصَرَفَ ، قَالَ الرّجُلُ : يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ هَذَا الرّجُل الّذِي رَأَيْت يُصَلّي مَعَك ؟
قَالَ : < وَقَدْ رَأَيْتَهُ ؟ > قَالَ : نَعَمْ قَالَ : < لَقَدْ رَأَيْتَ خَيْراً كَثِيراً ، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتّى رَأَيْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثُهُ > .
قال ابن كثير : تَفَرّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْه وَهُوَ شَاهِد لِلّذِي قَبْله .
وروى الْبَزّار عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الْجِيرَان ثَلَاثَة :
جَار لَهُ حَقّ وَاحِد ، وَهُوَ أَدْنَى الْجِيرَان حَقّا ، وَجَار لَهُ حَقّانِ ، وَجَار لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق وَهُوَ أَفْضَل الْجِيرَان حَقّا .
فَأَمّا الْجَار الّذِي لَهُ حَقّ وَاحِد : فَجَار مُشْرِك لَا رَحِم لَهُ ، لَهُ حَقّ [ الجِوَارِ ] .
وَأَمّا الْجَار الّذِي لَهُ حَقّانِ : فَجَار مُسْلِم لَهُ حَقّ الْإِسْلَام وَحَقّ الْجِوَار .
وَأَمّا الّذِي لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق : فَجَار مُسْلِم ذُو رَحِم لَهُ حَقّ الْجِوَار وَحَقّ الْإِسْلَام وَحَقّ الرّحِم > .
وَقد رَوَى الْإِمَام أَحْمَد والبخاريّ عَنْ عَائِشَة أَنّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَتْ : إِنّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيّهمَا أُهْدِي ؟ قَالَ : < إِلَى أَقْرَبهَما مِنْك بَاباً > .
وروى الإمام مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يَا أَبَا ذَرّ ! إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً ، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا ، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ > .
وفي رواية قال : < إِذَا طَبَخْتَ مَرَقاً فَأَكْثِرْ مَاءَهُا ، ثُمّ انْظُرْ إلى أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ > .
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < وَاللّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللّهِ لاَ يُؤْمِنُ > .
قِيلَ : وَمَنْ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : < الّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ > .
ولمسلم : < لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ > .
والبوائق : الغوائل والشرور .
ورويا عنه قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ ، لاَ تَحْقِرَنّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا ، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ > .
معناه : ولو أن تهدي لها فرسن شاة ، وهو الظلف المحرق ، وأراد به الشيء الحقير .
ورويا عنه أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ > .
وقوله تعالى : { وَالصّاحِبِ بِالجَنبِ } قال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح .
وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر ، أي : فإنه كالجار .
وأوضحه الزمخشري بقوله : هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك ، إما رفيقاً في سفر وإما جاراً ملاصقاً ، وإما شريكاً في تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك ، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان .
وروي عَنْ عليّ وَابْن مَسْعُود قَالَا : هِيَ الْمَرْأَة ، أي : لأنها تكون معك وتضجع إلى جنبك .
{ وَابْنِ السّبِيلِ } أي : ابن الطريق ، أي : المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله ، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به ، نُسِبَ إلى السبيل الذي هو الطريق لمروره عليه وملابسته له ، أو الذي يريد البلد غير بلده ، لأمر يلزمه .
وقال ابن عرفة : هو الضيف المنقطع به ، يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه .
وقال ابن بري : هو الذي أتى به الطريق ، كذا في " تاج العروس " ، ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة ( السائل ) في معنى ابن السبيل ، لأنه جاء تابعاً لابن السبيل في البقرة ، في قوله تعالى : { لّيْسَ الْبِرّ } - إلى قوله : { وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ } .
قال بعضهم في ( ابن السبيل ) :
~ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نَزّلَ في الكتاب
{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني المماليك ، فإنهم ضعفاء الحيلة ، أسرى في أيدي الناس كالمساكين ، لا يملكون شيئاً ، وقد ثبت عن عليّ عليه السلام ، أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم جَعَلَ يُوصِي أُمّته فِي مَرَض الْمَوْت يَقُول : < الصّلَاة الصّلَاة ، اتقوا الله فيَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ > . رواه أبو داود وابن ماجة وهذا لفظ أبي داود .
وروى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ الْمِقْدَام بْن مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَا أَطْعَمْت نَفْسك فَهُوَ لَك صَدَقَة ، وَمَا أَطْعَمْت وَلَدك فَهُوَ لَك صَدَقَة ، وَمَا أَطْعَمْت زَوْجك فَهُوَ لَك صَدَقَة ، وَمَا أَطْعَمْت خَادِمك فَهُوَ لَك صَدَقَهُ > . وَرَوَاهُ النّسَائِيّ .
قال الحافظ ابن كثير : وَإِسْنَاده صَحِيح وَلِلّهِ الْحَمْد .
وَعَنْ عَبْد اللّه بْن عَمْرو أَنّهُ قَالَ لِقَهْرَمَانٍ لَهُ : هَلْ أَعْطَيْت الرّقِيق قُوتهمْ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ ، فَإِنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < كَفَى بالْمَرْء إِثْماً أَنْ يَحْبِس عَمّنْ يَمْلِك قُوتهمْ > . رَوَاهُ مُسْلِم .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < لِلْمَمْلُوكِ طَعَامه وَكِسْوَته ، وَلَا يُكَلّف مِنْ الْعَمَل إِلّا مَا يُطِيق > . رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضاً .
وعَنْه أَيْضاً عَنْ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ [ خَادِمُهُ ] بِطَعَامِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً [ أَوْ أُكْلَتَيْنِ ] ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ ، فَإِنّهُ وَلِيَ حَرّهُ وَعِلاَجَهُ > . أَخْرَجَاهُ وَلَفْظه لِلْبُخَارِيّ .
وَعَنْ أَبِي ذَرّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عَنْ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < هُمْ إِخْوَانكُمْ خَوَلكُمْ ، جَعَلَهُمْ اللّه تَحْت أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْت يَده فَلْيُطْعِمْهُ مِمّا يَأْكُل ، وَليُلْبِسهُ مِمّا يَلْبَس ، وَلَا تُكَلّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ > . أَخْرَجَاهُ .
{ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } أي : متكبراً عن الإحسان إلى من أُمِرَ ببره .
{ فَخُوراً } يعدّد مناقبه كبراً ، وإنما خص تعالى هذين الوصفين بالذم ، في هذا الموضع ، لأن المختال هو المتكبر ، وكل من كان متكبراً فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق ، ثم أضاف إليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة ، بل لمحض أمر الله تعالى .
روى أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الكبر من بطر الحق وغمط الناس > .
وروى اِبْن جَرِير عَنْ أَبِي رَجَاء الْهَرَوِيّ قَالَ : لَا تَجِد سَيّئ الْمَلَكَة ( المِلْكة ) إِلّا وَجَدْته مُخْتَالاً فَخُوراً ، وَتَلَا : { وَمَا مَلَكَت أَيْمَانكُمْ } الْآيَة ، وَلَا عَاقّا إِلّا وَجَدْته جَبّاراً شَقِيّا وَتَلَا : { وَبَرّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبّاراً شَقِيّا } [ مريم : 32 ] ، وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر ما هو معروف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } [ 37 ]
{ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي : بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به فيما تقدم .
{ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ } أي : ولا يكونون سبب الإحسان ، بل يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم .
فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء ممن وجد ، وفي أمثال العرب : أبخل من الضنين بنائل غيره ، قال :
~وإن امرءاً ضنت يداه على امرئ بنيل يدٍ من غيره ، لبخيل
قال الزمخشري بعد حكاية ما تقدم : ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل ، مَن إذا طرق سمعه أن أحداً جاد على أحد ، شخص به ، وحل حبوته واضطرب ، ودارت عيناه في رأسه ، كأنما نهب رحله ، وكسرت خزانته ، ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده . انتهى .
{ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } أي : من المال والغنى ، فيوهمون الفقر مع الغنى والإعسار مع اليسار والعجز مع الإمكان .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بأن مَن هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى ، ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه ، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء .
فائدة :
قال أبو البقاء : في قوله تعالى : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } وجهان :
أحدهما : هو منصوب بدل من : { مَنْ } في قوله : { مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } وجمع على معنى : { مَن } ويجوز أن يكون محمولاً على قوله : { مُخْتَالاً فَخُوراً } وهو خبر : { كَانَ } وجمع على المعنى أيضاً ، أو على إضمار : أذم .
والثاني : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره : مبغضون ، ودل عليه ما تقدم من قوله : { لاَ يُحِبّ } ويجوز أن يكون الخبر : معذبون ، لقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } ويجوز أن يكون التقدير : هم الذين ، ويجوز أن يكون مبتدأ : { وَالّذِينَ يُنفِقُونَ } معطوف عليه ، والخبر : { إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم } أي : يظلمهم .
ثم قال : والبُخْل والبَخَل لغتان : وقد قرئ بهما ، وفيه لغتان أُخريان البُخُل - بضم الخاء والباء - والبَْخل - بفتح وسكون الخاء - . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً } [ 38 ]
{ وَالّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النّاسِ } أي : قصد رؤية الخلق إياه ، غفلة عن الخالق تقدس ، وعمايةً عنه ، ليقال : ما أسخاهم وما أجودهم .
{ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } أي : الذي يتقرب إليه وحده ويتحرى بالاتفاق رضاه .
{ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الذي هو يوم الجزاء .
{ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً } معيناً في الدنيا : { فَسَاء قِرِيناً } فبئس القرين والصاحب الشيطان ، لأنه يضله عن الهدى ويحجبه عن الحق ، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان ، تقريعاً لهم على طاعته .
والمعنى : من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله ، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار .
لطيفة :
قوله تعالى : { وَالّذِينَ } عطف على : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } أو : { عَلَى الْكَافِرِينَ } وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل كالإنفاق رياء ، سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفي مجرى التغاير الذاتي ، كما في قوله :
~إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أو مبتدأ خبره محذوف ، يدل عليه قوله تعالى : { وَمَن يَكُنِ } الخ أي : فقرينهم الشيطان ، وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به ، أو التقدير : فلا يقبل إحسانهم لأن رياءهم يدل على تفضيلهم الخلق على الله ، ورؤيتهم على ثوابه .
وقد روى مسلم عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه .
وروى ابن أبي حاتم ، في سبب نزول الآية ، عن سعيد بن جبير قال : كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم ، فأنزل الله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية .
وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس ، أن رجالاً من اليهود كانوا يأتون رجالاً من الأنصار ينتصحون لهم ، فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون ، فانزل الله فيهم : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً } [ 39 ]
{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ } أي : فلم يرجحوا الخلق عليه .
{ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } بالبعث والجزاء فلم يرجحوا تعظيمهم وحطامهم على ثوابه .
{ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ } أعطاهم الله من المال ، أي : طلباً لرضاه وأجر آخرته .
قال العلامة أبو السعود : وإنما لم يصرح به تعويلاً على التفصيل السابق ، واكتفاءً بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ، فإنه يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة ، أي : وما الذي عليهم ، أو : وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله ؟ وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة ، والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه ، وتحريض على التكفير لطلب الجواب ، لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة ، وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه يجيب إليه احتياطاً ، فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى ، وتقديم الإيمان بهما ، لأهميته في نفسه ، ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه ، وأما تقديم ( إنفاقهم رئاء الناس ) على عدم إيمانهم بهما ، مع كون المؤخر أقبح من المقدم ، فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به . انتهى .
{ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً } وعيد لهم بالعقاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ 40 ]
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ } أي : لا يبخس أحداً من ثواب عمله ولا يزيد في عقابه شيئاً مقدار ذرة ، وهي النملة الصغيرة ، في قول أهل اللغة .
قال ثعلب : مائة من الذر زنة حبة شعير ، وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء ، والمعنى : إن الله تعالى لا يظلم أحداً شيئاً ، قليلاً ولا كثيراً ، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس .
{ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أي : وإن تك مثقال ذرة حسنة يضاعف ثوابها ، وإنما أنث ضمير المثقال لتأنيث الخير ، أو لإضافته إلى الذرة .
{ وَيُؤْتِ } أي : زيادة على الإضعاف .
{ مِن لّدُنْهُ } مما يناسب عظمته على نهج التفضل .
{ أَجْراً عَظِيماً } أي : عطاء جزيلاً ، وقد ورد في معنى هذه الآية أحاديث كثيرة ، منها ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل : وفيه : فيقول الله عز وجل : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار ، وفي لفظ : أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم : { إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ } .
وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ، أي : بحسنته ، ولا يخرج من النار أبداً .
قال الحافظ ابن كثير : وقد يستدل له بالحديث الصحيح إن العباس قال : يا رسول الله ! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : < نعم ، هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدّركِ الأسفل من النار > .
وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار ، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أنس أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ، ويجزي بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة > . انتهى .
ورواه مسلم أيضاً عن أنس أيضاً مرفوعاً ، ولفظه : < إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة ، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم يكن له حسنة يجزى بها > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } [ 41 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } قال الرازي : وجه النظم هو أنه تعالى بيّن أن في الآخرة لا يجزي على أحد ظلم ، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه ، فبيّن تعالى في هذه الآية أن ذلك يجزي بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ ، والتبكيت له أعظم ، وحسرته أشد ، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم ، ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم : { إِنّ اللّهَ لا يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ } [ النساء : من الآية 40 ] ووعداً للمطيعين الذين قال الله فيهم : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : من الآية 40 ] .
ثم [ في المطبوع : ثمن ] قال : من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه : كيف بك إذا كان كذا وكذا ، وإذا فعل فلان كذا ، أو إذا جاء وقت كذا ؟ فمعنى هذا الكلام : كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها ، واستشهدك على هؤلاء ، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم ، ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم ، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : من الآية 117 ] ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ النحل : من الآية 89 ] ، الخ .
وروى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اقرأ عليّ > . فقلت : يا رسول الله ! أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : < نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري > فقرأت عليه سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } فقال : < حسبك الآن > . فإذا عيناه تذرفان .
زاد مسلم : < شهيداً ما دمت فيهم ، أو قال : ما كنت فيهم ، شك أحد رواته > .
وروى ابن جرير عن ابن مسعود في هذه الآية قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } [ 42 ]
{ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة : { يَوَدّ } أي : يتمنى : { الّذِينَ كَفَرُواْ } بالله .
{ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ } بالإجابة .
{ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأَرْضُ } أي : يهلكون فيها ، أي : يدفنون ، فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، إذ هو أعز لهم من الهوان الذي يلحقهم من فضائحهم ، كقوله : { يَوْمَ يَنظُرُ المرْءُ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ } الآية ، فـ ( تسوّى ) بمعنى : تجعل مستوية ، والباء للملابسة ، أي : تسوى الأرض متلبسة بهم .
وقيل : الباء بمعنى ( على ) وفي " الدر المصون " : وتسوية الأرض بهم أو عليهم : دفنهم ، أو أن تنشق وتبلعهم ، أو أنهم يبقون تراباً على أصلهم من غير خلق .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } عطف على ( يود ) أي : ويعترفون بجميع ما فعلوه لا يقدرون على كتمانه ، لأن جوارحهم تشهد عليهم ، أو ( الواو ) للحال ، أي : يودون أن يدفنوا في الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثاً ، ولا يكذبونه بقولهم : { وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } كما روى ابن جرير عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس ! قول الله تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } وقوله : { وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : ألقي على ابن عباس متشابه القرآن ، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئاً ممن وحده ، فيقولون : { تَعَالَوْا نَقُلْ } فيسألهم فيقولون : { وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } قال : فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم - جوارحهم أنهم كانوا مشركين ، فعند ذلك تمنّوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثاً .
وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير نحو ما تقدم ، واعتمده الإمام أحمد في كتاب " الرد على الجهمية " في باب ( بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن ) وساق مثل ما تقدم عن ابن عباس ، ثم قال : فهذا تفسير ما شكّت فيه الزنادقة ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء فَلم تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا غَفُوراً } [ 43 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ } نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلّون ، أي : من مقتضى إيمانكم الحياء من الله ، ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه ، فالحياء من الله يوجب ذلك ، وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه ، للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي ، وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة ، مع أن المراد هو النهي عن إقامتها ، للمبالغة في ذلك .
قال الحافظ ابن كثير : كان هذا النهي قبل تحريم الخمر ، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالميسِرِ } [ البقرة : من الآية 219 ] ، الآية ، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم تلاها على عمر ، فقال : اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَاناً شَافِياً ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة تَلَاهَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَاناً شَافِياً ، فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ الْخَمْر فِي أَوْقَات الصّلَوَات ، حَتّى نَزَلَتْ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَل الشّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } إِلَى قَوْله تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 90-91 ] فَقَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا اِنْتَهَيْنَا .
ولفظ أبي داود عن عُمَر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث ، وفيه نزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ } فَكَانَ مُنَادِي رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إِذَا قَامَتْ الصّلَاة يُنَادِي : لَا يَقْرَبَن الصّلَاة سَكْرَان .
وروى اِبْن أَبِي شَيْبَة واِبْن [ أَبِي ] حَاتِم عَنْ سَعْد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَرْبَع آيَات : صَنَعَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار طَعَاماً فَدَعَا أُنَاساً مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَأُنَاساً مِنْ الْأَنْصَار ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا حَتّى سَكِرْنَا ، ثُمّ اِفْتَخَرْنَا ، فَرَفَعَ رَجُل لَحْي بَعِير فَغَرَزَ بِهَا أَنْف سَعْد فَكَانَ سَعْد مَغْرُوز الْأَنْف ، وَذَلِكَ قَبْل تَحْرِيم الْخَمْر ، فَنَزَلَتْ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الْآيَة . وَالْحَدِيث بِطُولِهِ عِنْد مُسْلِم ، وَرَوَاهُ أَهْل السّنَن إِلّا اِبْن مَاجَهْ .
وروى أبو داود والنسائي عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : { قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ } فخلط فيها ، فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ } الآية .
وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَلِيّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : صَنَعَ لَنَا عَبْد الرّحْمَن بْن عَوْف طَعَاماً فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْر ، فَأَخَذَتْ الْخَمْر مِنّا ، وَحَضَرَتْ الصّلَاة ، فَقَدّمُوا فُلَاناً ، قَالَ فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ مَا أَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ ، فَأَنْزَلَ اللّه : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاة } . الآية ، وَكَذَا رَوَاهُ الترمذيّ وَقَالَ : حَسَن صَحِيح .
{ وَلاَ جُنُباً } عطف على قوله : { وَأَنتُمْ سُكَارَى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب .
{ إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أي : مارين بلا لبث .
{ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } من الجنابة : أي : لا تقربوا موضع الصلاة ، وهو المسجد ، وأنتم جنب ، إلا مجتازين فيه ، إما للخروج منه أو للدخول فيه .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية قال : قَالَ : لَا تَدْخُلُوا الْمَسْجِد وَأَنْتُمْ جُنُب إِلّا عَابِرِي سَبِيل ، قَالَ : تَمُرّ بِهِ مَرّا ، وَلَا تَجْلِس ، ثُمّ رواه عن كثير من الصحابة ، منهم ابن مسعود وثلة من التابعين .
وروى ابن جرير عن اللّيْث قَالَ : حَدّثَنَا يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ قَوْل اللّه عَزّ وَجَلّ : { وَلَا جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيل } إِنّ رِجَالاً مِنْ الْمَسْجِد تُصِيبهُمْ الْجَنَابَة ، وَلَا مَاء عِنْدهمْ فَيَرِيدُونَ الْمَاء وَلَا يَجِدُونَ مَمَرّا إِلّا فِي الْمَسْجِد ، فَأَنْزَلَ اللّه : { وَلَا جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيل } .
قال الحافظ ابن كثير : وَيَشْهَد لِصِحّةِ مَا قَالَهُ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب رَحِمَهُ اللّه ، مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح البخاريّ أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < سُدّوا كُلّ خَوْخَة فِي الْمَسْجِد ، إِلّا خَوْخَة أَبِي بَكْر > .
وَهَذَا قَالَهُ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فِي آخِر حَيَاته ، عِلْماً مِنْهُ أَنّ أَبَا بَكْر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - سَيَلِبي الْأَمْر بَعْده وَيَحْتَاج إِلَى الدّخُول فِي الْمَسْجِد كَثِيراً لِلْأُمُورِ الْمُهِمّة فِيمَا يَصْلُح لِلْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَرَ بِسَدّ الْأَبْوَاب الشّارِعَة إِلَى الْمَسْجِد إِلّا بَابه - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وَمَنْ رَوَى إِلّا بَاب عليّ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْض السّنَن فَهُوَ خَطَأ وَالصّوَاب مَا ثَبَتَ فِي الصّحِيح .
وَمِنْ هَذِا التأويل اِحْتَجّ كَثِير مِنْ الْأَئِمّة عَلَى أَنّهُ يَحْرُم عَلَى الْجُنُب الْمُكْث فِي الْمَسْجِد ، وَيَجُوز لَهُ الْمُرُور .
وثمة تأويل آخر في قوله تعالى : { إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وهو أن المراد منه المسافرون ، أي : لا تقربوا الصلاة جنباً في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين ، فيكون هذا الاستثناء دليلاً على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية ، قال : لا يقرب الصلاة لا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء ، فيصلي حتى يجد الماء ، ثم رواه من وجه آخر عن عليّ : ورواه عن جماعة من السلف أيضاً : أنه في السفر .
قال ابن كثير : ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي ذر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الصّعِيد الطّيّب طَهُور الْمُسْلِم ، وَإِنْ لَمْ تَجِد الْمَاء عَشْر حِجَج ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاء فَأَمِسّهُ بَشَرَتك فَإِنّ ذَلِكَ خَيْر لَك > ، وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقي في الجملتين المتعاطفتين ، وفي التأويل السابق تكون الصلاة ، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها .
قال في " فتح البيان " : وبالجملة ، فالحال الأولى أعني قوله : { وَأَنتُمْ سُكَارَى } تقوي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي ، من دون تقدير مضاف ، وسبب نزول الآية السابق يقوي ذلك ، وقوله : { إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يقوي تقدير المضاف ، أي : لا تقربوا مواضع الصلاة ، ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي ( أعني لا تقربوا وهو قوله : { وَأَنتُمْ سُكَارَى } ) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود النهي ( وهو قوله : { إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ) ، يدل على أن المراد مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد ، منهما بقيد ، وهما : لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز بتأويل مشهور .
وقال ابن جرير ( بعد حكايته للتأويلين ) : وأولى القولين بالتأويل لذلك ، تأويل من تأوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء ، وهو جنب ، في قوله : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } إلى آخره ، فكان معلوماً بذلك أن قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك .
وإن كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة ، مصلين فيها ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل .
قال : و ( العابر السبيل ) المجتازه مراً وقطعاً ، يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عَبْراً وعبوراً ، ومنه [ في المطبوع : مه ] قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه ، ومنه قيل ، للناقة القوية على الأسفار : هي عُبْر أسفار ، وعَبْر أسفار ، لقوتها على الأسفار .
قال ابن كثير : وهذا الذي نصره ( يعني ابن جرير ) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضاً ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها ، حال الجنابة ، والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا ، إلا حال عبوركم السبيل .
تنبيهات :
الأولى : في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو ، وبطلانها وبطلان الاقتداء به ، وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافراً ، فيباح له التيمم .
الثاني : تمسك بالآية من قال : إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد ، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزني واختاره الطحاوي ، والمسألة مبسوطة في " زاد المعاد " للإمام ابن القيم .
الثالث : في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة : لأن قراءة سورة الكافرين ، بطرح اللاءات ، كفر ، ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان ، وما أمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالتفريق بينه وبين امرأته ، ولا بتجديد الإيمان ، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً ، لا يحكم بكفره ، قاله النسفي .
الرابع : استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران ، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول ، فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه ، كذا في " الإكليل " .
الخامس : استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف السكران ودخوله تحت الخطاب ، وفيه نظر ، لأن الخطاب عام لكل مؤمن ، وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر ، فإنما نزل بعد صحوهم ، كذا في " الإكليل " .
السادس : في قوله تعالى : { حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } رد على من أباح جلوس الجنب مطلقاً إذا توضأ ، لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل ، فلا يقوم مقامه الوضوء ، كذا في " الإكليل " .
أقول : إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصاً في تأويل واحد ، وحيث تطرق الاحتمال لها ، على ما رأيت ، فلا .
وقد تمسك المبيح ، وهو الإمام أحمد ، بما روى هو وسعيد بن منصور في " سننه " بسند صحيح ، أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك .
قال سعيد بن منصور في " سننه " : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، هو الدراوردي ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يجلسون في المسجد وهم مجنبون ، إذا توضؤوا وضوء الصلاة .
قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
السابع : قال العلامة أبو السعود : لعل تقديم الاستثناء على قوله : { حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } للإيذان ، من أول الأمر ، بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق ، كما في صورة السكر ، تشويقاً إلى البيان ، وروماً لزيادة تقرره في الأذهان .
الثامن : قال أيضاً : في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه ، وأن يزكي نفسه عما يدنسها ، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية ، عند إمكان أعاليها .
التاسع : أشعر قوله تعالى : { حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ } بالنهي عن الصلاة حال النعاس ، كما روى الإمام أحمد والبخاريّ والنسائي عن أنس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول > .
وفي رواية : < فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه > .
وقد روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها سكر النوم .
قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب .
قال الرازي : ويدل عليه وجهان :
الأول : أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر ، والأصل في الكلام الحقيقة .
والثاني : أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة مُعينة ، ولأجل سببٍ مُعين ، امتنع أن لا يكون ذلك السببُ مُراداً بتلك الآية .
العاشر : قال الحافظ ابن كثير : قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية ، لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات ، من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً ، والله أعلم .
وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ } [ آل عِمْرَان : 102 ] ، وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام ، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك . انتهى .
الحادي عشر : قال الرازي : قال بعضهم : هذه الآية ، أي : { لاَ تَقْرَبُواْ } الخ منسوخة بآية المائدة ، وأقول : الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أن يقال : نهى عن قربان الممدود إلى غاية ، يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية ، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة ، فقد رفع هذا الجواز ، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية ، هذا ما حضر ببالي في تقرير هذا النسخ .
والجواب عنه : أنا بيّنا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة ، وتخصيصُ الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف ، ومثل هذا لا يكون نسخاً . انتهى .
{ وَإِن كُنتُم مّرْضَى } أي : ولم تجدوا بقربكم ماء تستعملونه ، ومنه فَقْدُ من يناوله إياه ، أو خشيته الضرر به .
{ أَوْ عَلَى سَفَرٍ } لا تجدونه فيه .
{ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مّن الْغَآئِطِ } أي : أو كنتم محدثين ، والغائط هو المكان المنخفض ، فالمجيء منه كناية عن الحدث ، لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أَعْيَن الناس .
قال الخازن : كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث ، فكنوا به عن الحدث ، وذلك أن الرجل منهم ، كان إذا أراد قضاء الحاجة ، طلب غائطاً من الأرض ، يعني مكاناً منخفضاً منها يحجبه عن أَعْيَن الناس ، فسمي الحدث بهذا الاسم ، فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه . انتهى .
وإسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم ، للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به ، كذا قاله أبو السعود .
ثم قال : وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } على التصريح بالجماع ، قال الشهاب : وفي ذكر ( أحد ) دون غيره إشارة إلى أن الإِنسَاْن ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه .
{ فَلم تَجِدُواْ مَاء } قال المهايمي : أي : فلا تستحيوا من الله ، بل اعتذروا إليه .
{ فَتَيَمّمُواْ } أي : اقصدوا : { صَعِيداً } أي : تراباً ، أو وجه الأرض .
{ طَيّباً } أي : طاهراً .
{ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا غَفُوراً } تعليل للترخيص والتيسير ، وتقرير لهما ، فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين ، لا بد أن يكون ميسراً لا معسراً ، وفي هذه الآية مسائل :
الأول : الظاهر أن قوله تعالى : { فَلم تَجِدُواْ } راجع إلى جميع ما قبلها وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء ، وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى : { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض ، بعدم الوجود للماء ، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم - فلا يفيد ، لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعاً ، إذ ليس السفر بمجرده مبيحاً ، وكذلك المرض .
وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به ، فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد ، فالجواب : أن هذا داخل تحت عدم الماء لأن من تعذر عليه استعماله هو ، عادم له ، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع ، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر ، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه ، فهو عادم له ، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء ، وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له ، ولئن سلمنا ، تنزلاً ، أن المراد مطلق الوجود فنقول : المدعي أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء ، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء .
فإن قيل : من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه ؟ قلنا : من التحقيق الذي ذكرناه وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعاً وكذا من قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : من الآية 29 ] وقوله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ } [ البقرة : من الآية 195 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : من الآية 78 ] .
ومما أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني من حديث جَابِرٍ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ ، فَأَصَابَ رَجُلاً مِنّا حَجَرٌ فَشَجّهُ فِي رَأْسِهِ ، ثُمّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ ، فَقَالَ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التّيَمّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى النّبِي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ : < قَتَلُوهُ ، قَتَلَهُمُ اللّهُ ، أَلاّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا ؟ فَإِنّمَا شِفَاءُ الْعِي السّؤَالُ ، إِنّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ : يَعْصِبَ - عَلَى جُرْحِهِ [ خِرْقَةً ] ثُمّ يَمْسَحَ عَلَيْهَ ، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ > .
ومما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم والدارقطني عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السّلاَسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ ، أَنْ أَهْلِكَ ، فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي الصّبْحَ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنّبِي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - فَقَالَ : < يَا عَمْرُو ! صَلّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ > . فَأَخْبَرْتُهُ بِالّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاِغْتِسَالِ ، وَقُلْتُ : إِنّي سَمِعْتُ اللّهَ يَقُولُ : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً ، فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر .
قال مجد الدين ابن تيمية : في حديث عَمْرو ، من العلم ، أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة . انتهى .
وقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى } قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
قال ابن كثير : هذا مرسل .
الثانية : ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة ، هو المعتبر في تسويغ التيمم ، كما هو الظاهر من الآية ، لا عدم الوجود مع طلب ، مخصوص ، كما قيل : إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل ، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم ؟ إذ لا دليل على ذلك ، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة ، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به ، أو يغتسل في منزله أو مسجده ، أو ما يقرب منهما ، كان ذلك عذراً مسوقاً للتيمم ، فليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإخفاء [ وإحفاء ] السؤال ، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك ، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه .
فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة ، والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك ، مع عدم وجود عرف شرعيّ ، وقد وقع منه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ما يشعر بما ذكرناه ، فإنه تيمم في المدينة من جدار .
كما ثبت ذلك في الصحيحين من دون أن يسال ويطلب ، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة ، فهذا ، كما يدل على وجوب الطلب ، يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت ، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمماً في سفر ثم وجدا الماء ، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر : فقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للذي لم يعد : < أصبت السنة > ، أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد ، فإنه يردّ قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم ، سواء كان مسافراً أو مقيماً ، كذا في " الروضة الندية ) .
الثالثة : دلت الآية على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، طال سفره أو قصر .
الرابعة : قرئ في السبع ( لامستم ولمستم ) والملامسة واللمس يردان ، لغةً ، بمعنى الجس باليد ، وبمعنى الجماع ، قال المجد في " القاموس " لمس يلمِسه ويلمُسه : مسّه بيده ، والجارية جامعها ، ثم قال : والملامسة المماسة والمجامعة .
ومن ثمة اختلف المفسرون ، والأئمة في المعنيّ بذلك هنا ، فمن قائل بأن اللمس حقيقةٌ في الجس باليد ، مجازٌ في غيره ، والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح ، لا سيما على قراءة ( لمستم ) إذْ لم يشتهر في الوِقَاع كالمُلامسة ، وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال : الملامسة ما دون الجماع ، وعنه : القبلة من المس وفيها الوضوء ، رواهما ابن جرير .
وروى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال : يتوضأ الرجل من المباشرة ، ومن اللمس بيده ، ومن القبلة ، وكان يقول في هذه الآية : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } هو الغمز .
وروى ابن جرير عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللّماس .
وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك ، قالوا : ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقي قوله تعالى : { وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلمسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : من الآية 7 ] ، أي : جسّوه ، وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لماعز ، حين أقر بالزنى ، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار : < لعلك قبلت أو لمست > ؟ .
وفي الحديث الصحيح : < واليد زناها اللمس > .
وقالت عائشة : قلّ يوم إلا ورسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يطوف علينا ، فيقبل ويلمس .
ومنه ما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عن بيع الملامسة ، وهو يرجع إلى الجس باليد .
واستأنسوا أيضاً بالحديث الذي رواه أحمد عن معاذ ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها ، قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَقِمِ الصّلاةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ } [ هود : من الآية 114 ] الآية ، قال : فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < توضأ ثم صل > ، قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ! أنه خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال : < بل للمؤمنين عامة > .
ورواه الترمذيّ وقال : ليس بمتصل ، والنسائي مرسلاً ، قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها .
فصل
ومن قائل : إن المعنيّ باللمس هنا الجماع ، وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه ، فدل على أنه من كنايات التنزيل ، قال تعالى : { وَإِنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ } [ البقرة : من الآية 237 ] ، وقال تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ } [ الأحزاب : من الآية 49 ] ، وقال في آية الظهار : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا } [ القصص : من الآية 3 ] .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية : { أَوْ لَمَسْتُمُ النّسَاءَ } قال : الجماع .
وروى ابن جرير عنه ، قال : إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء ، وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك ، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره ، لاستجابة دعوة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيه بتعليمه تأويل الكتاب ، كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير ، ويؤيد عدم النقض بالمس ما رواه مسلم والترمذيّ وصححه عن عائشة قالت : فقدت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد ، وهما منصوبتان ، وهو يقول : < اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك > .
وروى النسائي عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : إن كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة ، حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله .
قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص " : إسناده صحيح ، وقوله في " الفتح " : يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، تكلف ، ومخالفة للظاهر .
وعن إبراهيم التَّيمي عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - : < أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ > . رواه أبو داود والنسائي : قال أبو داود : هو مرسل ، إبراهيم التَّيمي لم يسمع من عائشة ، وقال النسائي : ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث ، وإن كان مرسلاً ، وصححه ابن عبد البر وجماعة .
وشهد له ما تقدم وما رواه الطبراني في المعجم الصغير من حديث عَمْرة عن عائشة قالت : فقدت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذات ليلة ، فقلت : إنه قام إلى جاريته مارية ، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائماً يصلي ، فأدخلت يدي في شعره لأنظر : أغتسل أم لا ؟ فلما انصرف قال : أخذك شيطانك يا عائشة ، وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة ، قال ابن أبي حاتم : ولم يسمع منها .
قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم أسنده من طرق ، وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقي من اللمس ، وأوجبت المصير إلى معناه المجازي .
وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود ، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد ، بل هو المعنى الحقيقي ، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز ، وأما قولهم : بأن القبلة فيها الوضوء ، فلا حجة في قول الصحابي : لا سيما إذا وقع معارضاً لما ورد عن الشارع ، ويؤيد ذلك قول اللغويين ، أن المراد بقول بعض الأعراب للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : إن امرأته لا تردّ يد لامس ، الكناية عن كونها زانية ، ولهذا قال له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < طلقها > .
وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض ، لأنه لم يثبت أنه كان متوضئاً قبل أن يأمره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالوضوء ، ولا ثبت أنه كان متوضئاً عند اللمس ، فأخبره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قد انتقض وضوؤه كذا في " نيل الأوطار " .
وقال ابن كثير : هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة ، كما تقدم في حديث الصديق : < ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له > ، وهو مذكور في سورة آل عِمْرَان عند قوله : { ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عِمْرَان : من الآية 135 ] ، الآية .
الخامسة : التيمم : لغةً القصد ، يقال : تيممته وتأممته ويممته ، وآممته أي : قصدته ، وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد .
قَالَ الزّجّاجُ : الصّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَاباً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، لَا أَعْلَمُ اخْتِلَافاً بَيْنَ أَهْلِ اللّغَةِ فِي ذَلِكَ .
وفي " المصباح " : الصّعِيدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى وُجُوهٍ : عَلَى التّرَابِ الّذِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى الطّرِيقِ .
وفي " القاموس " : الصعيد التراب أو وجه الأرض .
قَالَ الْأَزْهَرِيّ : وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنّ الصّعِيدَ فِي قوله تعالى : { صَعِيداً طَيّباً } هَو التّرَابُ . انتهى .
واحتجوا بما في صحيح مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عليّه وسلّم : < فُضّلْنَا عَلَى النّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلّهَا مَسْجِداً ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً ، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ > .
وفي لفظ : < وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء > .
قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه ، قالوا : وحديث جابر المتفق عليه : < جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً > ، خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام ، واحتجوا أيضاً بأن الطيّب لا يكون إلا تراباً .
قال الواحدي : إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيباً ، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى : { وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ } [ الأعراف : من الآية 58 ] ، فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة ، فكان قوله : { فَيَتَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً } أمراً بالتيمم بالتراب فقط ، وظاهر الأمر للوجوب ، واحتجوا أيضاً بآية المائدة ، قالوا : الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة وهي قوله سبحانه وتعالى : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [ المائدة : من الآية 6 ] وكلمة ( من ) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه .
قال الزمخشري : وقولهم إن ( من ) لابتداء الغاية ، قول متعسف ، ولا يفهم أحد من العرب ، من قول القائل : ( مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب ) إلا معنى التبعيض ، ثم قال : والإذعان للحق أحق من المراء . انتهى .
وأجاب القائلون ، بجواز التيمم بالأرض وما عليها ، عن هذه الحجج - بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض لأنه ما صعد أي : علا وارتفع على وجه الأرض ، وهذه الصفة لا تختص بالتراب .
ويؤيد ذلك حديث : < جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً > ، وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره ، وما ثبت في رواية بلفظ : < وتربتها طهوراً > كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة - فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء ، لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية ، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة ، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول ، فيكون ذكر التراب ، في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام ، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث ، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة ، ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من جدار .
وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب ، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله تعالى : : { وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] - فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر ، والضرورة تدفعه ، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات ، كذا في " الروضة الندية " .
وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في ( من ) فذاك إذا كان الضمير عائداً إلى الصعيد .
قال الناصر في " الانتصاف " : وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى } إلى آخرها فإن المفهوم منه : وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال : سفر أو مرض ، أو مجيء من الغائط ، أو ملامسة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث ، فتيمموا منه ، يقال : تيممت من الجنابة ، قال : وموقع ( من ) على هذا مستعمل متداول ، وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو الغاية ، وكلاهما فيها متمكن ، والله أعلم .
السادسة : أفاد قوله تعالى : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم } أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط ، وهذا إجماع ، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة ، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين ، لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : من الآية 38 ] ، وقالوا : وحمل ما أطلق ههنا ، على ما قيد في آية الوضوء ، أولى لجامع الطهورية .
وروى الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال : < مررت على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو يبول ، فسلمت عليه فلم يرد عليّ ، حتى قام إلى الجدار فحتّه بعصاً كانت معه ، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ، ثم رد عليّ > .
وهذا الحديث منقطع ، لأن الأعرج ، وهو عبد الرحمن بن هرمز ، لم يسمع هذا من ابن الصمة ، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة ، وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال : دخلنا على أبي جُهَيم بن الحارث ، فقال أبو جُهَيم : < أقبل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يرد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حتى أقبل على الجدار ، فوضع يده على الحائط ، فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام > .
ولأبي داود عن نافع قال : انطلقت : مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فقضى ابن عمر حاجته ، فكان من حديثه يومئذ أن قال : مر رجل على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سكة من السكك ، وقد خرج من غائط أو بول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ، ثم رد على الرجل السلام ، وقال : < إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام ، إلا أني لم أكن على طهر > .
وفي رواية : فمسح ذراعيه إلى المرفقين ، فهذا أجود ما في الباب ، فإن البيهقيّ أشار إلى صحته ، كذا في " لباب التأويل " .
قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه : ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبديّ ، وقد ضعفه بعض الحفاظ ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاريّ ، وأبو زرعة وابن عدي : هو الصحيح .
وقال البيهقيّ : رفع هذا الحديث منكر .
قال ابن كثير : وذكر بعضهم ما رواه الدارقطنيّ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < التيمم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين > ، ولكن لا يصح ، لأن في إسناده ضعفاً لا يثبت الحديث به . انتهى .
وذلك لأن فيه عليّ بن ظبيان ، قال الحافظ ابن حجر : هو ضعيف ، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد ، وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين ، مما ذكر ، ففيه نظر ، لأن طرقها جميعها لا تخلوا من مقال ، ولو صحت لكان الأخذ بها متعيناً لما فيها من الزيادة .
فصل
ذهب الزهريّ إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال : < تمسّحوا وهم مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالصعيد لصلاة الفجر ، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة ، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى ، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم > . أخرجه أبو داود .
قال الحافظ في " الفتح " : وأما رواية الآباط ، فقال الشافعيّ وغيره : إن كان ذلك وقع بأمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فكل تيمم صح للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعده فهو ناسخ له ، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به .
فصل
والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار ، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين .
قال عمار : أجنبت فلم أصِب الماء ، فتمعكت في الصعيد ، وصليت ، فذكرت للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : < إنما كان يكفيك هكذا ، وضرب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه > ، متفق عليه .
وفي لفظ : < إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين > . رواه الدارقطني .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عمار بن ياسر أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال في التيمم : < ضربة للوجه واليدين > .
وفي لفظ : < إن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أمره بالتيمم للوجه والكفين > . رواه الترمذيّ وصححه .
قال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة ، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة ، وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب ، وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم - فتكلف واضح ، ومخالفة للظاهر .
وقد سرى هذا إلى العلامة السنديّ في " حواشي البخاريّ " حيث كتب على حديث عمار ما نصه : قد استدل المصنف ( يعني البخاريّ ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع ، وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر ، وكذا سيجيء في الروايات هذا الحديث أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه ، فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب ، فلعل القائل بخلاف ذلك يقول : إن هذا الحديث ليس مسوقاً لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب ، بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة ، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله ، والقصر في قوله : ( إنما كان يكفيك ) معتبر بالنسبة إليه ، كما هو القاعدة أن القصر يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب ، فالمعنى : إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين : وهما الوجه واليد .
وأشار إلى اليد بـ ( الكف ) ، ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن ، وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر ، كحديث : < التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين > ، وغير ذلك ، فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ ، وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد ، فيقدم على غير المسوق لذلك ، والله تعالى أعلم . انتهى كلامه .
وقوله : فإنه حديث صحيح ، فيه ما تقدم .
وقد قال الإمام ابن القيم في " زاد العماد " في ( فصل هديه صلى الله عليه وسلم بالتيمم ) ما نصه : كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ، ولم يَصِحَّ عنه أنه تيمم بضربتين ، ولا إلى المرفقين .
قال الإِمام أحمد : من قال : إن التيمم إلى المرفقين ، فإنما هو شيء زاده مِن عنده ، وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ، تراباً كانت أَوْ سَبِخَةً أو رملاً .
وصح عنه أنه قال : < حَيْثُماَ أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي الصَّلاَةُ ، فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ > ، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل ، فالرمل له طهور . ولما سافر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابُه في غزوة تبوك ، قطعوا تلك الرمال في طريقهم ، وماؤهم في غاية القِلة ، ولم يُرْوَ عنه أنه حمل معه التراب ، ولا أمر به ، ولا فعله أحد من أصحابه ، مع القطع بأن في المفاوز الرمالَ أكثر من التراب ، وكذلك أرضُ الحجاز وغيره ، ومن تدبر هذا ، قطع بأنه كان يتيمم بالرمل ، واللّه أعلم وهذا قول الجمهور .
وأمّا ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ، ثم إمرارها إلى المرفق ، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع ، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن ، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى ، فَيُطبِقها عليها ، فهذا مما يُعلم قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولا علَّمه أحداً من أصحابه ، ولا أمر به ، ولا استحسنه ، وهذا هديُه ، إليه التحاكُم ، وكذلك لم يَصِحَّ عنه التيمُّمُ لكِل صلاة ، ولا أمر به ، بل أطلق [ التيمم ] ، وجعله قائماً مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكْمُه حكْمَه ، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه . انتهى .
السابعة : ذكر هنا الحافظ ابن كثير سَبَب مَشْرُوعِيَّة التَّيَمُّم قَالَ : وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ هَهُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاء مُتَقَدِّمَة النُّزُول عَلَى آيَة الْمَائِدَة ، وَبَيَانه : أَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْل تَحْرِيم الْخَمْر ، وَالْخَمْر إِنَّمَا حُرِّمَ بَعْد أُحُد بِيَسِيرٍ ، فِي مُحَاصَرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي النَّضِير ، وَأَمَّا الْمَائِدَة فَإِنَّهَا مِنْ آخِر مَا نَزَلَ ، وَلَا سِيَّمَا صَدْرهَا ، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَر السَّبَب هُنَا ، وَبِاَللَّهِ الثِّقَة .
قَالَ الإمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا اِبْن نُمَيْر حَدَّثَنَا هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة ، أَنَّهَا اِسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاء قِلَادَة فَهَلَكَتْ ، فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالاً فِي طَلَبهَا ، فَوَجَدُوهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، فَصَلَّوْهَا بِغَيْرِ وُضُوء ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل [ آيَة ] التَّيَمُّم ، فَقَالَ أُسَيْد بْن الْحُضَيْر لِعَائِشَة : جَزَاك اللَّه خَيْراً ، فَوَاَللَّهِ مَا نَزَلَ بِك أَمْر تَكْرَهِينَهُ ، إِلَّا جَعَلَ اللَّه لَك وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْراً .
( طَرِيق أُخْرَى ) قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن يُوسُف قال : أَنْبَأَنَا مَالِك عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة زوج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض أَسْفَاره ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْش ، اِنْقَطَعَ عِقْد لِي .
فَأَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِلْتِمَاسه ، وَأَقَامَ النَّاس مَعَهُ ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاء ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، فَأَتَى النَّاس إِلَى أَبِي بَكْر الصديق فَقَالُوا : أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَة ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاء وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، فَجَاءَ أَبُو بَكْر وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِع رَأْسه عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ .
فَقَالَ : حَبَسْتِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاس وَلَيْسُوا عَلَى مَاء وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، قَالَتْ عَائِشَة : فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْر ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقُول ، فجَعَلَ يَطْعَنني بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي ، فَلَا يَمْنَعنِي مِنْ التَّحَرُّك إِلَّا مَكَان رَأْس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي ، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أَصْبَحَ عَلَى غَيْر مَاء ، فَأَنْزَلَ اللَّه آيَة التَّيَمُّم فَتَيَمَّمُوا . فَقَالَ أُسَيْد بْن الْحُضَيْر : مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتكُمْ يَا آل أَبِي بَكْر .
قَالَتْ : فَبَعَثْنَا الْبَعِير الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْد تَحْته .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ أَيْضاً عَنْ قُتَيْبَة بن سعيد عَنْ مَالِك .
وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ مَالِك . انتهى كلام ابن كثير .
وأورد الواحدي في " أسباب النزول " هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضاً .
وقال ابن العربيّ : لا نعلم أي : الآيتين عنت عائشة .
قال ابن بطال : هي آية النساء أو آية المائدة .
وقال القرطبيّ : هي آية النساء ، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء ، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء ، فيتجه تخصيصها بآية التيمم .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد ، لرواية عَمْرو بن الحارث ، إذ صرح فيها بقوله : فنزلت : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ } الآية .
وقال الحافظ قبلُ : استدل به ( أي : بحديث عائشة ) على أن الوضوء كان واجباً عليهم قبل نزول آية الوضوء ، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء ، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع .
وقال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يصل منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء ، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند ، قال : وفي قوله في هذا الحديث ( آية التيمم ) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء ، قال : والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ، ليكون فرضه متلواً بالتنزيل .
قال السيوطيّ في " لباب النقول " بعد تصويب هذا الكلام : فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة ، والآية مدنية . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في قول أسيد ( ما هي بأول بركتكم ) : يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك ، فيقوّي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد ، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباريّ فقال : سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق .
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال : لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع . . الحديث .
فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق ، لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة ، وهي بعدها بلا خلاف قال : وسيأتي في المغازي أن البخاريّ يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى ، وقدومُه كان في وقت إسلام أبي هريرة ، ومما يدل على تأخر القصة أيضاً عن قصة الإفك ، ما رواه الطبرانيّ من طريق عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت : لما كان من أمر عقدي ما كان ، وقال أهل الإفك ما قالوا ، خرجت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في غزوة أخرى فسقط أيضاً عقدي حتى حبس الناس على التماسه ، فقال لي أبو بكر : يا بنية ! في كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس ؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة في التيمم .
فقال أبو بكر : إنك لمباركة ( ثلاثاً ) ، وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال ، وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب ، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين ، والله أعلم . انتهى كلام الحافظ .
وقال الإمام شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " في ( غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق ) : إنها كانت في شعبان سنة خمس ، وبعد ذكرها قال : قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه ، فنزلت آية التيمم ، ثم ساق حديث الطبراني المتقدم وقال : هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة ، وهو الظاهر ، ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه ، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى . انتهى .
وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضاً عن عمار بن ياسر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عرّس بأولات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جَزْعِ ظَفَارِ فحبس الناس ابتغاءُ عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء ، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال : حبست الناس وليس معهم ماء ! فأنزل الله تعالى على رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رخصة التطهُّر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط ، ورواه أيضاً ابن جرير عن أبي اليقظان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : كنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حتى أضاء الصبح ، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة ، المسح بالصعيد ، فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة ، نزل فيك رخصة ، فضربنا بأيدينا : ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط .
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في سبب نزولها وجهاً آخر عن الأسلع بن شَرِيك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماءً واغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه فقال : يا أسلع ! مالي أرى رحلتك قد تغيرت ؟ قلت : يا رسول الله ! لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : ولم ؟ قلت : إني أصابتني جنابة فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله عز وجل : { لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } إلى قوله : { إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } .
قال ابن كثير : وقد روي من وجه آخر ، عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّواْ السّبِيلَ } [ 44 ]
وقوله تعالى :
{ أَلم تَرَ } من رؤية القلب ، وضمن معنى الانتهاء ، أي : ألم ينته علمك إليهم ، أو من رؤية البصر ، أو : ألم تنظر .
{ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } أي : حظّاً من علم التوراة ، وهم أحبار اليهود ، قال العلامة أبو السعود : المراد بالذي أوتوه ، ما بيّن لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وحقية الإسلام ، والتعبير عنه بالنصيب ، المنبئ عن كونه حقاً من حقوقهم ، التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعاً .
وتنوينه تفخيمي مؤيد للتشنيع عليهم ، والتعجيب من حالهم ، فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم ، والإشعار بمكان ما طوى ذكره في المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين : { يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ } وهو البقاء على اليهودية ، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وأنه هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل ، أي : يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهدى ليشتروا ثمناً قليلاً من حطام الدنيا .
وإنما طوى ذكر المتروك لغاية ظهور الأمر ، لا سيما بعد الإشعار المذكور ، والتعبير عن ذلك بالاشتراء ، الذي هو عبارة عن استبدال السلعة بالثمن ، أي : أخذها بدلاً منه ، أخذاً ناشئاً عن الرغبة فيها والإعراض عنه - للإيذان بكمال رغبتهم في الضلالة ، التي حقها أن يعرض عنها كل الإعراض ، وإعراضهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون ، وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم ، وغاية ركاكة آرائهم - ما لا يخفى - حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز ، قاله أبو السعود : { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّواْ السّبِيلَ } أي : لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا ، من كتمان نعوته صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أن تضلوا أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوا ، ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم من الهدى والعلم النافع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ أَعْلم بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً } [ 45 ]
{ وَاللّهُ أَعْلم } أي : منكم .
{ بِأَعْدَائِكُمْ } أي : وقد أخبركم بعداوتهم لكم ، وما يريدون بكم ، فاحذروهم ، ولا تستنصحوهم في أموركم ، ولا تستشيروهم .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّا } يلي أموركم .
{ وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً } ينصركم ، أي : فثقوا بولايته ونصرته دونهم ، ولا تتولوا غيره ، أو : ولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء ، فإنه تعالى يفكيكم مكرهم وشرهم ، ففيه وعد ووعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 46 ]
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ } بيان للموصول وهو : { الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } فإن متناول لأهل الكتابين ، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم ، وتحذيرهم عن مخالطتهم ، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل ، والاكتفاء بولايته ونصرته .
وقوله تعالى : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم بالمذكور ، وتفصيل لفنون ضلالهم ، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام ، والتفصيل إثر الإجمال ، روماً لزيادة تقرير يقتضيه الحال ، أفاده أبو السعود .
قال الإمام ابن كثير : قوله : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } أي : يتناولونه على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل ، قصداً منهم وافتراء .
وقال العلامة الرازيّ : في كيفية التحريف وجوه :
أحدها : إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر .
ثم قال : والثاني : أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا ، بالآيات المخالفة لمذاهبهم ، وهذا هو الأصح .
والثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به ، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه . انتهى .
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في " إغاثة اللهفان " : قد اختلف في التوراة التي بأيديهم ، هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل ؟ على ثلاثة أقوال :
قالت طائفة : كلها أو أكثرها مبدل ، وغلا بعضهم حتى قال : يجوز الاستجمار بها .
وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه الكلام : إنما وقع التبديل في التأويل .
قال البخاريّ في " صحيحه " : يحرفون يزيولون ، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله ، وهو اختيار الرازيّ أيضاً .
وسمعت شيخنا يقول : وقع النزاع بين الفضلاء ، فأجاز هذا المذهب ووهّى غيره ، فأنكر عليه ، فأظهر خمسة عشر نقلاً به ، ومن حجة هؤلاء ، أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، وانتشرت جنوباً وشمالاً ، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله ، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ ، حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة ، وهذا مما يحيله العقل ، قالوا : وقد قال الله لنبيه : { قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : من الآية 93 ] قالوا : وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ، ولذا لما اقرؤوها على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وضع القارئ يده على آية الرجم ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها ، وتوسطت طائفة فقالوا : قد زيد فيها وغُيَّر أشياء يسيرة جداً ، واختاره شيخنا في " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " قال : وهذا كلما في التوراة عندهم : إن الله سبحانه قال لإبراهيم : اذبح ابنك بكرك أو وحيدك ، إسحاق ، ثم قال : قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة ، ثم ساقها فارجع إليه ، وقد نقلها عنه هنا الإمام صديق خان ، فانظره في تفسيره " فتح الرحمن " .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف قيل ههنا : { عَن مّوَاضِعِهِ } وفي المائدة : { من بعض مواضعه } ؟ قلت : أما : { عَن مّوَاضِعِهِ } فعلى ما فسرنا من إزالته عن موضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها ، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غير مكانه ، وأما : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له مواضع ، هو قَمِِنٌ بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان .
وقال الرازيّ : ذكر الله تعالى ههنا : { عَن مّوَاضِعِهِ } وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } والفرق : إنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب ، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة ، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين ، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضاً من الكتاب ، فقوله : { يُحَرّفُونَ الْكَلم } إشارة إلى التأويل الباطل ، وقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } إشارة إلى إخراجه عن الكتاب .
وقال الناصر في " الانتصاف " : الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به ، في هذه الصورة مثل : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } و : { رَاعِنَا } ولم يقصد ههنا تبديل الأحكام ، وتوسطها بين الكلمتين بين قوله : { يُحَرّفُونَ } ويبين قوله : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } والمراد أيضاً تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما ، وأما في سورة المائدة فالظاهر ، والله أعلم ، أن المراد فيها بـ : { الْكَلم } الأحكام ، وتحريفها وتبديلها ، كتبديلهم الرجم بالجلد ، ألا تراه عقبه بقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لم تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } [ المائدة : من الآية 41 ] ؟ ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين ، قيل في سورة المائدة : يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، أي : ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه ، فصار وطنه ومستقره ، إلى غير الموضع ، فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه ، ولا يوجد هذا المعنى في مثل : { رَاعِنَا } و : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي ، ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره ، فلذلك جاء هنا : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } غير مقرون ما قرن به الأول من صورة التأسف ، والله أعلم . انتهى .
وقال العلامة أبو السعود : والمراد بالتحريف ههنا ، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه ، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المجاورة مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وما بعده ، على ما قبله عطفاً تفسيرياً ، لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة ، مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة ، بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقي ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ، أي : يقول في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أو لا ، بلسان المقال أو الحال : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } عناداً أو تحقيقاً للمخالفة . انتهى .
قال ابن كثير : وَيَقُولُونَ : { سَمِعْنَا } أي : سَمِعْنَا مَا قُلْته يَا مُحَمَّد وَلَا نُطِيعك فِيهِ ، هَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَهُوَ الْمُرَاد ، وَهَذَا أَبْلَغ فِي كُفْرهمْ وَعِنَادهمْ وَأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ كِتَاب اللَّه بَعْدَمَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِثْم وَالْعُقُوبَة .
{ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } عطف على : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } داخل تحت القول أي : ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته عليه الصلاة والسلام خاصة ، وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر ، بأن يحمل على معنى : { اسْمَعُ } حال كونك غير مسمع كلاماً أصلاً ، بصمم أو موت ، أي : مدعواً عليك بلا سمعت ، أو غير مسمع كلاماً ترضاه ، وللخير بأن يحمل على : اسمع منا غير مسمع مكروهاً ، كانوا يخاطبون به النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم استهزاء به ( عليهم اللعنة ) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به : { وَرَاعِنَا } عطف على ما قبله ، أي : ويقولون راعناً في أثناء خطابهم له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذا أيضاً ، وهي كلمة ذات وجهين أيضاً محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك ، وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابّون بها ، أو على السب بالرعونة أي : الحمق ، وبالجملة فكانوا ، سخرية بالدين وهزؤاً برسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام : { لَيّا بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي : فتلاً بها وصرفاً للكلام من وجه إلى وجه وتحريفها ، أي : يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون : { رَاعِنَا } موضع : { انظُرْنَا } و : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } موضع ( لا أسمعت مكروهاً ) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرون من التوقير نفاقاً ، فإن قلت : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به ، كذا في الكشاف .
وأصل : { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون ، ومثله ( الطيّ ) .
{ وَطَعْناً فِي الدّينِ } أي : قدحاً فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلّية لـ : { يَقُولُونَ } باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين ، أي : يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين ، أو على الحالية ، أي : لاوين وطاعنين في الدين ، أفاده أبو السعود .
{ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ } أي : عندما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : بدل قولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال : { وَاسْمَعْ } أي : لو قالوا عند مخاطبة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بدل قولهم : { اسْمَعُ } فقط بلا زيادة : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } المحتمل للشر : { وَانظُرْنَا } يعني بدل قولهم : { رَاعِنَا } المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف : { لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ } في الدنيا بحقن دمائهم وعلو رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية ، وفي الآخرة بضعف الثواب ، أفاده المهايميّ .
قال أبو السعود : وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم ، أو بطريق التهكم ، وإما بمعنى اسم الفاعل : { وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي : ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى ، بسبب كفرهم : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من : { لّعَنَهُمُ } أي : ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً منهم ، آمنوا فلم يلعنوا ، أو على الوصفية لمصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً أي : ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به ، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ، ويكفرونه ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة ، ورجح أبو عليّ الفارسي هذا ، قال : لأن : { قَلِيلاً } لفظ مفرد : ولو أريد به ( ناس ) لُجمِعَ نحو قوله : { إِنّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفرداً ، والمراد به الجمع قال تعالى : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : من الآية 69 ] ، وقال : { وَلا يَسْأَلُ حَميمٌ حَميماً } [ المعارج : 10 ] يبصرونهم ، أفاده الرازيّ ، وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية ، كقوله :
~قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة ، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها ، فاستعمل لفظ ( قَليِل ) وأراد به نفي الكل ، أو منصوب على الاستثناء من فاعل ( لا يؤمنون ) أي : فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل ، وأما قول الخفاجيّ : كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب .
وأبي السعود : بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار - فمردود بأن النصب عربيّ جيد ، وقد قرئ به في السبع في ( قَلِيلٌ ) من قوله تعالى : { مَا فَعَلُوهُ إِلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } [ النساء : من الآية 66 ] ، وفي ( امرأتك ) من قوله تعالى : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلّا امْرَأَتَكَ } [ هود : من الآية 81 ] ، كما قاله ابن هشام في التوضيح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لما مَعَكُم مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } [ 47 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزّلْنَا } يعني القرآن : { مُصَدّقاً لما مَعَكُم } أي : موافقاً للتوراة : { مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً } أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، وقال العوفيّ عن ابن عباس : طمسها أن تعمى .
{ فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } أي : فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر ، فالفاء للتسبيب ، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها ، وقد اكتفى بذكر أشدهما ، فالفاء للتعقيب .
قال الرازيّ : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة ، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة .
{ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ } أي : أو نفعل بهم أبلغ من ذلك ، وهو أن نطردهم عن الْإِنْسَاْنية بالمسخ الكلي جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان ، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد ، فمسخناهم قردةً .
{ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ } أي : ما أمر به : { مَفْعُولاً } أي : نافذاً كائناً لا محالة ، هذا وفي الآية تأويل آخر ، وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة ، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم .
قال ابن كثير : وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى : { إِنّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 8 - 9 ] : أي : مثل هذا سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى ، قال مجاهد : { مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً } يقول : عن صراط الحق .
{ فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } أي : في الضلال .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا .
قال السديّ : { فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } : فنمنعها عن الحق ، نرجعها كفاراً .
قال الرازيّ : المقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ، ونظيره قوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لما يُحْيِيكُمْ وَاعْلمواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ] ، تحقيق القول فيه أن الإِنسَاْن في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، فقدامه عالم المعقولات ، ووراءه عالم المحسوسات ، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه ، كما قال تعالى في صفتهم : { نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ } [ السجدة : 12 ] .
ثم قال الرازيّ : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى ، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء ، من أرض الشام ، كما جاءوا منها و ( طمس الوجوه ) على هذا التأويل يحتمل معنيين :
أحدهما : تقبيح صورتهم ، يقال : طمس الله صورته ، كقوله : قبح الله وجهه ، والثاني - إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها ، وثمة تأويل آخر ، وهو : أن المراد بالوجوه الوجهاء ، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير ، أي : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم ، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ، ونكسوهم صغاراً وإدباراً .
وقال بعضهم : الأظهر حمل قوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } الخ على اللعن المتعارف ، قال : ألا ترى إلى قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } [ المائدة : 60 ] ، ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير .
وأقول : لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات ، غير الأول ، لا يساعده مقام تشديد الوعيد ، وتعميم التهديد ، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة ، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها ، ولا تعذر هنا ، كما أن المتبادر من اللعن ، المشبه بلعن أصحاب السبت ، هو المسخ ، وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل ، إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع ، ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية ، وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها ، فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول ، لأنه أدخل في الزجر ، ويؤيده ما روي ، أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ولفظه بعد إسناده : عَنْ أَبِي إِدْرِيس عَائِذ اللَّه الْخَوْلَانِيّ قَالَ : كَانَ أَبُو مُسْلِم الْجَلِيلِيّ مَعَلمْ كَعْب ، وَكَانَ يَلُومهُ فِي إِبْطَائِهِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ يَنْظُر أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ كَعْب : فَرَكِبْت حَتَّى أَتَيْت الْمَدِينَة ، فَإِذَا تَالٍ يَقْرَأ الْقُرْآن يَقُول : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِس وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارهَا } [ فَبَادَرْت الْمَاء ( الزيادة عند ابن كثير ) ] فَاغْتَسَلْت ، وَإِنِّي لَأَمَسّ وَجْهِي مَخَافَة أَنْ أَطْمِس ، ثُمَّ أَسْلَمْت .
وروى ، من غير طريق ، نحوه أيضاً .
فإن قيل : قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به ، فالجواب : أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز ، إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا ، ولو فهم منها هذا فهماً أولياً لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار ، وهو ينافي التكليف الشرعي ، إذا لم تجر سنته تعالى بهذا ، بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداءً للقطع بوقوعه المتوعد به ، ولوقوعه معلقاً بأمره تعالى ومشيئته بذلك ، وهو المراد ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : من الآية 37 ] ، أي : ما يأمر به ، ويريد وقوعه ، وإذا كان الوعيد منوطاً بأمره سبحانه فله أن يمضيه على حقيقته وله أن يصرفه لما هو أعلم به ، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق ، ليكون أدخل في الترهيب ، ومزجرة عن مخالفة الأمر ، هكذا ظهر لنا الآن ، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر ، أو أنه مشروط بعدم الإيمان ، إلى غير ذلك ، فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود ، ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخروي ، قال : لأنه لم يتضح وقوعه ، وهذا فيه بعدٌ أيضاً ، لنبوّ مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخروي ، لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها ، أعني لعنهم كأصحاب السبت ، كان عقابها دنيوياً ، فالوجه ما قررناه ، وما أشبه هذه الآية ، في وعيديها ، بآية يس ، أعني قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فَأَنّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لمسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ } [ يس : 66 - 67 ] ، بل هذه عندي تفسير لتلك ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فبرح الخفاء والحمد لله .
لطيفة :
الضمير في ( نلعنهم ) لأصحاب الوجوه ، أو ( للذين ) على طريقة الالتفات أو ( للوجوه ) إن أريد بها الوجهاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [ 48 ]
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } قال أبو السعود : كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد ، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر من الإيمان ، ببيان استحالة المغفرة بدونه ، فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة ، كما في قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ } [ الأعراف : من الآية 169 ] : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : على التحريف ، { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاماً أولياً ، فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبةً ، وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار ، ونزوله في حق اليهود ، كما قال مقاتل ، هو الأنسب بسياق النظم الكريم ، وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم ، بل يكفي اندراجه فيه قطعاً ، بل لا وجه له أصلاً ، لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر ، أي : لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان ، لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ، وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه ، ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان ، فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي . انتهى .
قال الشهاب : الشك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكاً ، وبمعنى الكفر مطلقاً ، وهو المراد هنا ، وقد صرح به في قوله تعالى في سورة ( البينة ) بقوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } [ البينة : من الآية 6 ] ، فلا يبقى شبهة في عمومه . انتهى .
وقال الرازيّ : هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركاً ، في عرف الشرع ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أن الآية دالة على ما سوى الشرك مغفور ، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية ، وبالإجماع هي غير مغفرة ، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك .
الثاني : إن اتصال هذه الآية بما قبلها ، إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك ، وإلا لم يكن الأمر كذلك ، فإن قيل : قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ } إلى قوله : { وَالّذِينَ أَشْرَكُوا } [ المائدة : من الآية 82 ] ، فعطف المشرك على اليهودي ، وذلك يقتضي المغايرة ، قلنا : المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي ، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي ، ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه ، دفعاً للتناقض . انتهى .
لطيفة :
قال أبو البقاء : الشرك أنواع : شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين ، كشرك المجوس ، وشرك التبعيض ، وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى ، وشرك التقريب ، هو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى ، كشرك متقدمي الجاهلية ، وشرك التقليد ، وهو عبادة غير الله تبعاً للغير ، كشرك متأخري الجاهلية ، وشرك الأسباب ، وهو إسناد التأثير للأسباب العادية ، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك ، وشرك الأغراض ، هو العمل لغير الله ، فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع ، وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع ، وحكم الخامس التفصيل ، فمن قال في الأسباب العادية إنها تؤثر بطبعها فقد حكى الإجماع على كفره ، ومن قال إنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق . انتهى .
{ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي : ما دون الشرك من المعاصي ، صغيرة أو كبيرة .
{ لمن يَشَاء } تفضلاً منه وإحساناً ، قال ابن جرير : وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه ، ما لم تكن شركاً بالله عز وجل ، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة ، وقد تقدم قوله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } [ النساء : من الآية 31 ] ، وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته ، ولذا قال الرازيّ هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر ، ثم جود وجوه الاستدلال ، ومنها : أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة ، ومنها أن غفران البيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة ، فوجب أن يكون الغفران المذكور ، في هذه الآية ، هو غفران الكبيرة قبل التوبة ، وهو المطلوب .
وأوّل الزمخشريّ هذه الآية على مذهبه : بأن الفعل المنفي والمثبت جميعاً ، موجهان إلى قوله تعالى : { لمنْ يَشَاء } على قاعدة التنازع ، كأنه قيل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك ، على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب ، قال : ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء ، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله . انتهى .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة ، وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له ، هذا مع عدم التوبة ، وأما مع التوبة فكلاهما مغفور ، والآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى ، فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة ، كما ترى ، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة ، وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر ، في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين ، فإذا عرض الزمخشريّ هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه ، إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب ، فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقاً ، إذ هما سيّان في استحالة المغفرة ، وأما أن يكون المراد فيهما التائب قد قال في الشرك إنه .
{ لاَ يَغْفِرُ } والتائب من الشرك مغفور له ، وعند ذلك أخذ الزمخشريّ يقطع أحدهما عن الآخر ، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة ، حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحداً منهما :
أحدهما : إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر ، وأيضاً لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلاً ، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل ، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب ، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء ؟
الثاني : أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر ، وما هذا إلا من جعل القرآن تبعاً للرأي ، نعوذ بالله من ذلك .
وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر ( السيد يعطي والعبد يمنع ) ، لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصرّ على الكبائر ، إن شاء ، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح ، التي هي بالفساد أجدر وأحق . انتهى .
فائدة :
وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة :
الأول : عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ : دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً ، وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً ، وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ .
فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية ، وقال : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [ المائدة : من الآية 72 ] .
وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ ، أَوْ صَلاَةٍ تَرَكَهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ .
وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً ، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ لاَ مَحَالَةَ > . رواه الإمام أحمد ، وقد تفرد به .
الثاني : عن أنس بن مالك عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ : فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله ، وظُلْمٌ يَغْفِرُهُ الله ، وظُلْمٌ لا يَتْرُكُ الله منه شيئاً .
فأمَّا الظُّلْمُ الذي لا يَغْفِرُهُ الله ، فالشِّرْكُ ، وقالَ : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : من الآية 13 ] .
وأَمَّا الظُّلْمُ الذي يَغْفِرُهُ الله : فَظُلْمُ العِبَادِ لأنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ .
وأَمَّا الظُّلْمُ الذي لا يَتْرُكُه ، فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتّى يَدِينَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ > . رواه أبو بكر البزار في مسنده .
الثالث : عن مُعَاوِيَةَ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : < كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ ، إِلاَّ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِراً ، أَوِ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً > ، رواه الإمام أحمد والنسائي .
الرابع : عَنْ أَبَي ذَرٍّ : أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ > .
قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَال : < وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ > .
قُلْتُ : وإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ < وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ > . ثَلاَثاً .
ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : < عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ > .
قَالَ فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهو يَجُرُّ إِزَارَهُ وَهُوَ يَقُولُ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ بِهَذَا بَعْدُ وَيَقُولُ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .
أخرجه الإمام أحمد والشيخان .
وفي رواية لهما عن أبي ذر : قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < قال لي جبريل : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ، قلت : يا جبريل ! وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم ، قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم ، وإن شرب الخمر > .
الخامس : عن جابر قال : جاء أعرابي إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟ قال : < مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ . وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ به دَخَلَ النَّارَ > ، أخرجه مسلم ، وعبد بن حميد في مسنده .
السادس : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ > ، رواه الإمام أحمد .
السابع : عن ابن عباس عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي > . رواه الطبراني .
الثامن : عن أنس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له ، ومن توعده على عملٍٍ عقاباً ، فهو فيه بالخيار > ، رواه البزار وأبو يعلى .
التاسع : عن ابن عمر ، قال : كنا ، معشر أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } فأمسكنا عن الشهادة ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وفي رواية لابن حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل .
العاشر : عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال : ما في القرآن وأحب إلي من هذه الآية : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } رواه الترمذيّ وقال : حديث حسن غريب .
الحادي عشر : عن أنس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : < قَالَ اللَّهُ تَعالى : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِى .
يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى .
يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئاً ، لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً > . رواه الترمذيّ وقال : حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذر ولفظه عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن الله عز وجل يقول : يا عبدي ! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك ، ويا عبدي ! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقاربها مغفرة > .
والأحاديث في ذلك متوافرة ، ويكفي هذا المقدار .
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } أي : افترى واختلق ، مرتكباً إثماً لا يغادر قدره ، ويستحقر دونه جميع الآثام ، فلا تتعلق به المغفرة قطعاً .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه " الجواب الكافي " : الشرك بالرب تعالى نوعان : شرك به في أسمائه وصفاته ، وجعل آلهة أخرى معه ، وشرك به في معاملته ، وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار ، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره ، وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب ، ويدخل فيه القول على الله بلا علم ، في خلقه وأمره ، فمن كان من أهل هذه الذنوب ، فقد نازع الله ، سبحانه وتعالى ، ربوبيته وملكه ، وجعل له نداً ، وهذا أعظم الذنوب عند الله ، ولا ينفع معه عمل .
وقال بعد ذلك : وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال : إن الله عز وجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السماوات والأرض ، ليعرف ويُعبد ويُوحد ويكون الدين كله له ، والطاعة كلها له ، والدعوة له ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلّا بِالْحَقّ } [ الحجر : من الآية 85 ] وقال تعالى : { اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنَزّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنّ لِتَعْلموا أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلّ شَيْءٍٍ عِلماً } [ الطلاق : 12 ] ، وقال تعالى : { جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنّاسِ وَالشّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلموا أَنّ اللّهَ يَعْلم مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍٍ عَلِيمٌ } [ المائدة : 97 ] ، فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته ، ويعبد وحده لا يشرك به ، وأن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض ، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالميزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : من الآية 25 ] فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل ، ومن أعظم القسط التوحيد ، بل هو رأس العدل وقوامه ، وإن الشرك ظلم عظم ، كما قال تعالى : { إِنّ الشّرْكَ لَظُلم عَظِيمٌ } [ لقمان : من الآية 13 ] ، فالشرك أظلم الظلم ، والتوحيد أعدل العدل ، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر ، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له ، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود ، فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات ، فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله ، تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم ، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي ، فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود ، وكان أكبر الكبائر على الإطلاق ، وحرم الله الجنة على كل مشرك ، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد ، وأن يتخذوهم عبيداً لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً ، أو يقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة ، أو يقيل له فيها عثرة - فإن المشرك أجهل الجاهلية بالله حيث جعل له من خلقه نداء وذلك غاية الجهل به ، كما أنه غاية الظلم منه ، وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه .
ووقعت مسألة : وهي أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى ، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء ، كحال الملوك ، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية ، وإنما قصد تعظيمه .
وقال : إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني وتدخلني عليه ، فهو المقصود ، وهذه وسائل وشفعاء ، فلم كان هذا القدر موجباً لسخطه وغضبه تبارك وتعالى ومخلداً في النار وموجباً لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم ؟ وترتب على هذا سؤال آخر : وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقريب إليه بالشفعاء والوسائط ؟ فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع ، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول ، يمتنع أن تأتي به شريعة ، بل جاءت بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح ؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب ؟ كما قال تعالى : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } فتأمل هذا السؤال ، واجمع قلبك وذهنك على جوابه ، ولا تستهونه فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين ، والعالمين بالله والجاهلين به ، وأهل الجنة وأهل النار .
فنقول ( وبالله التوفيق والتأييد ، ومنه نستمد المعونة والتسديد ، فإنه من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له ، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ) : الشرك شركان : شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وشرك في عبادته ومعاملته ، وإن كان صحابه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، والشرك الأول نوعان :
أحدهما : شرك التعطيل : وهو أقبح أنواع الشرك ، كشرك فرعون إذ قال : { وَمَا رَبّ الْعَالمينَ } [ الشعراء : من الآية 23 ] ؟ وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعليّ أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السّمَاوَاتِ فَأَطّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنّي لَأَظُنّهُ كَاذِباً } [ غافر : من الآية 37 ] ، فالشرك والتعطيل متلازمان ، فكل مشرك معطل وكل معطل مشرك ، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ، ولكن عطل حق التوحيد ، وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها هو التعطيل ، وهو ثلاثة أقسام : تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه ، وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله ، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد .
ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود ، الذين يقولون : ماثَمَّ خالق ومخلوق ، ولا ههنا شيئان ، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه ، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته وإنه لم يكن معدوماً أصلاً ، بل لم يزل ولا يزال ، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها ، يسمونها العقول والنفوس .
ومن هذا أشرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة ، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة ، بل جعلوا المخلوق أكمل منه ، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها .
فصل
النوع الثاني : شرك من جعل معه إلهاً آخر ولم يعطل أسمائه وربوبيته وصفاته ، كشرك النصارى الذي جعلوه ثالث ثلاثة ، فجعلوا المسيح إلهاً وأمه إلهاً .
ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة .
ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه ، وإنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته ، ولهذا كانوا من أشباه المجوس .
ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُميتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُميتُ } [ البقرة : من الآية 258 ] ، فهذا جعل نفسه نداً لله ، يحيي ويميت بزعمه ، كما يحيي الله ويميت ، فألزمه إبراهيم ، عليه السلام ورحمة الله وبركاته ، أن طرد قولك ، أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها ، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض أهل الجدل ، بل إلزاماً على طرد الدليل إن كان حقاً .
ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم ، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم .
ومن هذا شرك عَبَّاد الشمس وعباد النار وغيرهم .
ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة .
ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة .
ومنهم من يزعم أنه إله من حملة الآلهة ، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه ، أقبل إليه واغتنى به .
ومنهم من يزعم أنه معبودهم الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه ، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه ، حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه ، فتارة تكثر الوساطة وتارة تقل .
فصل
وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا وأخف أمراً ، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله ، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته ، بل يعمل لحظ نفسه تارة وطلب الدنيا تارة ، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة ، فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب ، وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب ، هذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيما رواه ابن حبان في صحيحه : < الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ، قالوا : وكيف ننجو منه ؟ يا رسول الله ! قال : قل : اللهم ! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم > .
فالرياء كله شرك ، قال تعالى : { قُلْ إِنّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ أَنّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَداً } [ الكهف : 110 ] .
أي كما أنه إله واحد ، لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده ، فكما تفرد بالإلهية ، يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء ، المقيد بالسنة ، وكان من دعاء عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : اللهم ! اجعل عملي كله صالحاً ، واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ، وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل ، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجباً ، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله ، فيعاقب على ترك الأمر ، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء } [ البينة : من الآية 5 ] .
فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به ، شيء غير المأمور به ، فلا يصح ولا يقبل منه ، ويقول الله تعالى : < أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه > .
وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور ، وأكبر وأصغر ، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر ، وليس شيء منه مغفوراً .
فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب الله ، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً } [ البقرة : من الآية 165 ] الآية .
وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم : { تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍٍ مُبِينٍٍ } [ الشعراء : 97 ] : { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالمينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ، ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والزرق والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة ، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل ، وهذا غاية الجهل والظلم ، فكيف يسوى من خلُق من التراب برب الأرباب ؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ؟ وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات ، العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم - بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته ، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته ؟ فأي ظلم أقبح من هذا ؟ وأي حكم أشد جوراً منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه ، كما قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظّلماتِ وَالنّورَ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال بذرة في السماوات ولا في الأرض ، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه ! !
فصل
ويتبع هذا الشرك ، الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات ، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره ، والطواف بغير بيته ، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره ، وتقبيل الأحجار ، غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض ، أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها ، وقد لعن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي فيها ، فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً يعبدوها من دون الله ، وفي الصحيحين عنه أنه قال : < لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ > .
وفي الصحيح عنه : < إن من شِرَارَ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُم السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ > .
وفي الصحيح أيضاً عنه : < إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك > .
وفي مسند الإمام أحمد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - وصحيح ابن حبان عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لعن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج > .
وقال : < اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد > .
وقال : < إن من كان قبلكم ، إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة > .
فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر ، فكيف حال من سجد للقبر بنفسه ؟ وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اللهم ! لا تجعل قبري وثناً يعبد > ، وقد حمى النبي جانب التوحيد أعظم حماية حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها ، لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين ، وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح ، لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس .
وأما السجود لغير الله فقال : < لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله > .
و ( لا ينبغي ) في كلام الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - للذي هو في غاية الامتناع شرعاً ، كقوله تعالى : { وَمَا يَنْبَغِي لِلرّحْمَنِ أَنْ يَتّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] ، وقوله : { وَمَا عَلمنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَه } [ يس : من الآية 69 ] ، وقوله : { وَمَا تَنَزّلَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ } [ الشعراء : 210 ] : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُم } [ الشعراء : من الآية 211 ] ، وقوله عن الملائكة : { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } [ الفرقان : من الآية 18 ] .
فصل
ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ ، كالحلف بغيره ، كما رواه أحمد وأبو داود عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أنه قال : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ > . وصححه الحاكم وابن حبان .
ومن ذلك قول القائل للمخلوق : ما شاء الله وشئت ، كما ثبت عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : أنه قال له رجل : ما شاء الله وشئت ، قال : < أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده > ، وهذا ، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة ، كقوله : { لمنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 28 ] - فكيف من يقول : أنا متوكل على الله وعليك ، وأنا في حسب الله وحسبك ؟ وما لي إلا الله وأنت ؟ وهذا من الله ومنك ، وهذا من بركات الله وبركاتك ؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض ؟ أو يقول : والله ! وحياة فلان ، أو يقول : نذراً لله ولفلان ، وأنا تائب لله ولفلان ، وأرجو الله وفلاناً ونحو ذلك ، فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل : ما شاء الله وشئت ، ثم انظر أيهما أفحش ؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لقائل تلك الكلمة ، وأنه إذا كان قد جعله نداً لله بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في شيء من الأشياء ، بل لعله أن يكون من أعدائه ، نداً لرب العالمين ، فالسجود والعبادة ، والتوكل والإنابة ، والتقوى والخشية ، والتحسب والتوبة ، والنذر والحلف ، والتسبيح والتكبير ، والتهليل والتحميد ، والاستغفار وحلق الرأس ، خضوعاً وتعبداً ، والطواف بالبيت ، والدعاء - كل ذلك محض حق الله ، لا يصلح ولا ينبغي لسواه ، من ملك مقرب ولا نبي مرسل .
وفي مسند الإمام أحمد أن رجلاً أتي به إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد أذنب ذنباً ، فلما وقف بين يديه قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ ، وَلاَ أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ . قَالَ [ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] : < قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ لأَهْلِهِ > .
فصل
وأما الشرك في الإرادات والنيات ، فذلك البحر الذي لا ساحل له ، وقلّ من ينجو منه ، فقمن أراد بعمله غير وجه الله ، ونوى شيئاً غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه ، فقد أشرك في نيته وإرادته .
والإخلاص : أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونيته ، وهذه هي الحنيفية ، ملة إبراهيم ، التي أمر الله بها عباده كلهم ، ولا يقبل من أحد غيرها ، وهي حقيقة الإسلام .
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 85 ] ، وهي ملة إبراهيم عليه السلام ، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء .
فصل
وإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور ، فنقول ( ومن الله وحده نستمد الصواب ) : حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به ، وهذا هو التشبيه في الحقيقة ، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيهاً والتشبيه تعظيماً وطاعة ، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية ، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجال والتوكل به وحده ، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، أفضل من غيره ، تشبيهاً بمن له الأمر كله ، فأزمة الأمور كلها بيده ، ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد ، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد ، فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات ، بالقادر فيه بوجه من الوجوه ، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجال والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون له وحده ، ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره ، فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيح وأبطله ، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم ، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره ، مع أنه كتب على نفسه الرحمة ، ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما : غاية الحب مع غاية الذل : هذيا تمام العبودية ، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين ، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ، فقد شبهه به في خالص حقه ، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع ، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل ، ولكن غيرت الشيطان فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، واجتالتهم عنها ، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى ، فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم ، فازدادوا بذلك نوراً على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء .
إذا عرف هذا ، فمن خصائص الإلهية السجود ، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به ، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به ، ومنها التوبة ، فمن تاب لغيره فقد شبهه به ، ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً ، فمن حلف بغيره فقد شبهه به ، هذا في جانب التشبيه ، وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع والرجاء ، وتعليق القلب به خوفاً ورجاء ، والتجاء واستعانة ، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته ، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان ، ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يقول الله عز وجل : العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحداً منهما عذبته > ، وإذا كان المصور ، الذي يصنع الصورة بيده ، ومن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، لتشبهه بالله في مجرد الصنعة - فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية ، كما قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم > .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة > ، فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر ، والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة ، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته ؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده ، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه .
وقد ثبت في الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < إن أخنع الأسماء عند الله رجل يتسمى بشاهان شاه ملك الملوك ، ولا ملك إلا الله > .
وفي لفظ : < أغيظ رجل على الله رجل يسمي بملك الأملاك > ، فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له ، فهو سبحانه ملك الملوك وحده ، وهو حاكم الحكام وحده ، فهو الذي يحكم على الحكام كلهم ، ويقضي عليهم كلهم ، لا غيره .
تنبيه :
حيثما وقع في حديث : من فعل كذا فقد أشرك ، أو فقد كفر - لا يراد به الكفر المخرج من الملة ، والشرك الأكبر المخرج عن الإسلام الذي تجري عليه أحكام الردة ، والعياذ بالله تعالى ، وقد قال البخاريّ : باب كفران العشير وكفر دون كفر .
قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ في " شرحه " : مراده أن يبين أن الطاعات ، كما تسمى إيماناً ، كذلك المعاصي تسمى كفراً ، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج عن الملة ، فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون مشركاً أو كافراً ، فإنه يعذر بالجهل والخطأ ، حتى تتبين له الحجة ، الذي يكفر تاركها ، بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله ، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعاً جلياً قطعياً ، يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل ، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع .
قال الشيخ تقي الدين في كتاب " الإيمان " : لم يكفّر الإمام أحمد الخوارج ولا المرجئة ولا القدرية ، وإنما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهمية ، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ، ولا كل من قال : أنا جهمي - كفّره ، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم ، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة : ولم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم ، والحج والغزو معهم ، والمنع من الخروج عليهم بما يراه لأمثالهم من الأئمة ، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم ، وإن لم يعلموا هم أنه كفر ، كان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان ، فيجمع بين طاعة الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين ، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالاً مبتدعين ، وظلمة فاسقين . انتهى كلام الشيخ ، فتأمله تأملاً خالياً عن الميل والحيف .
وقال الشيخ تقي الدين أيضاً : من كان في قلبه الإيمان بالرسول وبما جاء به ، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع ولو دعا إليها ، فهذا ليس بكافر أصلاً ، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم ، لا عليّ ولا غيره ، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين ، كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع ، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة ، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن ، من كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافراً في الباطن ، وإن كان أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه ، وقد يكون في بعضهم شبة من النفاق ، ولا يكون فيه النفاق الذي كون صاحبه في الدرك الأسفل من النار ، ومن قال : إن الثنتين والسبعين فرقة ، كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة ، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة ، فليس فيهم من كفّر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة . انتهى .
وقال ابن القيم في طرق أهل البدع : الموافقون على أصل الإسلام ولكنهم مختلفون في بعض الأصول كالخوارج والمعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وغلاة المرجئة :
فهؤلاء أقسام :
أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى ، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان .
القسم الثاني : متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورياسته ولذاته ومعاشه ، فهذا مفرط مستحق للوعيد ، آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته ، فهذا ، إن ما فيه البدعة والهوى ، على ما فيه من السنة والهدى ، ردت شهادته ، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى ، على ما فيه من البدعة والهوى ، قبلت شهادته .
الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويترك ، تعصباً أو معاداة لأصحابه ، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً ، وتكفيره محل اجتهاد . انتهى كلامه ، فانظره وتأمله ، فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه ، وذكر أن الأئمة وأهل السنة لا يكفرونهم ، هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر ، والكفر الأكبر ، وبين في غالب كتبه مخازيهم .
ولنذكر من كلامه طرفاً تصديقاً لما ذكرنا عنه ، قال رحمه الله في " المدارج " : المثبتون للصانع نوعان : أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته ، كالمجوس وزمن ضاهاهم من القدرية ، فإنهم يثبتون مع الله إلهاً آخر ، والمجوسية القدرية تثبت مع الله خالقاً للأفعال ، ليست أفعالهم مخلوقة لله ولا مقدورة له ، وهي صادرة بغير مشيئته تعالى وقدرته ، ولا قدرة له عليها ، بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين مريدين شيّائين ، وحقيقة قول هؤلاء : إن الله ليس رباً خالقاً لأفعال الحيوان . انتهى كلامه .
وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه ، وشبههم بالمجوس الذين يقولون : إن للعالم خالقين ، وانظر لما تكلم على التكفير هو وشيخه ، كيف حكيا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السنة ، حتى مع معرفة الحق والمعاندة ، قال : كفره محل اجتهاد ، كما تقدم كلامه قريباً .
وقال ابن تيمية ، وقد سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير ، فأجاب وأطال ، وقال في آخر الجواب : لو فرض أن رجلاً دفع التكفير عمن يعتد أنه ليس بكافر ، حماية له ونصراً لأخيه المسلم ، لكان هذا غرضاً شرعياً حسناً ، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصابه فله أجران ، وإن اجتهد فاخطأ فله أجر ، وقال رحمه الله : التكفير إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجتمع عليها ، وسئل أيضاً ، قدس الله روحه ، عن التكفير الواقع في هذه الأمة ، من أول من أحدثه وابتدعه ؟ فأجاب : أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة ، وعنهم تلقاه من تلقاه ، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره ، واضطرب الناس في ذلك ، فمن الناس من يحكي عن مالك فيه قولين ، وعن الشافعيّ كذلك ، وعن أحمد روايتان ، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم قولان ، وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً ، فيطلق القول بتكفير قائله ، ويقال : من قال كذا فهو كافر ، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، من تعريف الحكم الشرعي ، من سلطان أو أمير مطاع ، كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام ، فإذا عرفه الحكم وزالت عنه الجهالة قامت عليه الحجة ، وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنة ، وهي كثيراً جداً ، والقول بموجبها وأجب على وجه العموم ، والإطلاق ، من غير أن يعين شخص من الأشخاص ، فيقال : هذا كافر أو فاسق أو ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار ، لا سيما إن كان للشخص فضائل وحسنات - فإن ما سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقاً أو شهيداً أو صالحاً ، كما قد بسط في غير هذا الموضع ، من أن موجب الذنوب تتخلف عنه بتوبة أو باستغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو لمحض مشيئة الله ورحمته ، فإذا قلنا بموجب قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمّدا } [ النساء : من الآية 93 ] الآية ، وقوله : { إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] ، وقوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ النساء : 14 ] الآية ، وقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } - إلى قوله - : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلماً } [ النساء : من الآية 30 ] الآية ، إلى غير ذلك من آيات الوعيد ، وقلنا بموجب قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لعن الله من شرب الخمر > ، أو < من عق والديه > ، أو < من غير منار الأرض > ، أو < من ذبح لغير الله > ، أو < لعن الله السارق > ، أو < لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه > ، أو < لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيها > ، أو < من أحدث في المدينة حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين > ، إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد ، لم يجز أن تعين شخصاً ، ممن فعل بعض هذه الأفعال ، وتقول : هذا المعين قد أصاب هذا الوعيد ، لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة ، إلى أن قال : ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك ، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد به لمانع ، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك ، وهذه السبيل هي التي يجب اتباعها ، فإن ما سواها طريقان خبيثان :
أحدهما : القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه ، ودعوى أنها عمل بموجب النصوص ، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب ، والمعتزلة وغيرهم ، وفساده معلوم بالاضطرار ، وأدلته معلومة في غير هذا الموضع ، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق ، لكن الشخص المعين الذي فعله لا يشهد عليه بالوعيد ، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار ، لفوات شرط أو لحصول مانع ، وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها ، قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده ، أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها ، أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها ، فمن كان مؤمناً بالله وبرسوله ، مظهراً للإسلام ، محباً لله ورسوله ، فإن الله يغفر له لو فارق بعض الذنوب القولية أو العملية ، سواء أطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي ، هذا الذي عليه أصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وجماهير أئمة الإسلام ، لكن المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل ، بالفرق بين النوع والعين ، بل لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعي ؛ أنهم لا يكفرون المرجئة الذين يقولون : الإيمان قول وعمل ، ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم ، وإنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية لأنه ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم ، وأنه يدور على التعطيل ، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة ، لكن ما كانوا يكفرون أعيانهم ، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه ، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط ، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقب ، ومع هذا فالذين من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية : إن القرآن مخلوق ، وإن الله لا يُرى في الآخرة ، وإن ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله ، ولا الأحاديث الصحيح ، وإن الدين لا يتم إلا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة ، وأن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإن أقوال الجهمية والمعطلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله ، بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الإمام أحمد وجلدوه وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين ، ومع ذلك لا يطلقون أسيراً ولا يعطون من بيت المال إلا من وافقهم ويُقر بقولهم ، وجرى على الإسلام منهم أمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، ومع هذا التعطيل الذي هو شر من الشرك ، فالإمام أحمد ترحم عليهم واستغفر لهم ، وقال : ما علمت أنهم مكذبون للرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا جاحدون لما جاء به ، لكنهم تأوّلوا فأخطأوا ، وقلدوا من قال ذلك ، والإمام الشافعيّ لما ناظر حفص الفرد ، من أئمة المعطلة ، في مسألة ( القرآن مخلوق ) قال له الإمام الشافعيّ : كفرت بالله العظيم ، فكفره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك ، ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله ، وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدري والجعد بن درهم وجهم بن صفوان إمام الجهمية وغيرهم ، وصلى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين ، وصار قتلهم من باب قتل الصائل ، لكفّ ضررهم ، لا لردتهم ، ولو كانوا كفاراً لرآهم المسلمون كغيرهم ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
وقال ابن القيم في " شرح المنازل " : أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين ، ويكون محبوباً لله ومبغوضاً من وجهين ، بل يكون فيه إيمان ونفاق ، وإيمان وكفر ، ويكون إلى أحدهما أقرب من الآخر ، فيكون إلى أهله كما قال تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 167 ] ، وقال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُم مّشْرِكُونَ } فأثبت لهم ، تبارك وتعالى ، الإيمان مع مقارنة الشرك ، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان ، وإن كان تصديق برسله وهم يرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل واليوم الآخر - فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أهل الكبائر ، وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منهم ودخولهم الجنة ، لما قام به من السببين ، قال : وقال ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَمَنْ لم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : من الآية 44 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس بكفر ينقل عن الملة ، إذا فعله فهو به كفر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر ، وكذلك قال طاوس وعطاء . انتهى كلامه .
وقال الشيخ تقي الدين : كان الصحابة والسلف يقولون : إنه يكون في العبد إيمان ونفاق ، وهذا يدل عليه قوله عز وجل : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 167 ] وهذا كثير في كلام السلف ، يبينون أن القلب يكون فيه إيمان ونفاق ، والكتاب والسنة يدل على ذلك .
ولهذا قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان > .
فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل قليل لم يخلد في النار ، وإن كان معه كثير من النفاق ، فهذا يعذب في النار على قدر ما معه ثم يخرج ، إلى أن قال : وتمام هذا أن الإِنسَاْن قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر وشعبة من شعب النفاق ، وقد يكون مسلماً وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية ، كما قال الصحابة ، ابن عباس وغيره : كفر دون كفر ، وهذا عامة قول السلف . انتهى .
فتأمل هذا الفصل وانظر حكايتهم الإجماع من السلف ، ولا تظن أن هذا في المخطئ ، فإن ذلك مرفوع عنه إثم خطئه كما تقدم مراراً عديدة .
وقال الشيخ تقي الدين في كتاب " الإيمان " : الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن ، وإن المنافقين الذين قالوا : { آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : من الآية 8 ] هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع المسلمين ويناكحونم ويوارثونهم ، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولم يحكم النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيهم بحكم الكفار المظهرين الكفر لا في مناكحتهم ولا في موارثتهم ولا نحو ذلك ، بل لما مات عبد الله بن أُبَيّ ، وهو من أشهر الناس في النفاق ، وَرِثَهُ عبد الله ابنه ، وهو من خيار المؤمنين ، وكذلك سائر من يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون ، وإذا مات لهم وارث ورثوه مع المسلمين وإن علم أنه منافق في الباطن ، وكذلك كانوا في الحدود والحقوق كسائر المسلمين ، وكانوا يغزون مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ومنهم مَنْ هَمّ بقتل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في غزوة تبوك ومع هذا ، ففي الظاهر ، تجري عليهم أحكام أهل الإيمان ، إلى أن قال : ودماؤهم وأموالهم معصومة ولا يستحل منهم ما يستحل من الكفار ، والذين يظهرون أنهم مؤمنون ، بل يظهرون الكفر دون الإيمان ، فإنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله > .
وكما قال لأسامة : < أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ > قال : فقلت : إنها قالها تعوذاً ، قال : < هل شققت على قلبه > ؟ وقال : < إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم > .
وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول : < أليس يصلي ؟ أليس يشهد ؟ > فإذا قيل له : إنه منافق ، قال ذلك .
فكان حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم ولا يستحل منها شيئاً مع أنه يعلم نفاق كثير منهم . انتهى كلام الشيخ .
وقد أوضح حجة الإسلام الغزالي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في " فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة " الكفر المخرج عن الملة ، والعياذ بالله تعالى ، بعد مقدمته المدهشة بقوله : لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين ، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض ، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام ، وإن اختلفت طرقهم ما داما متمسكين بقوله : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) صادقين بها غير مناقضين لها ، فأقول : الكفر هو تكذيب الرسول عليه السلام في شيء مما جاء به ، والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به .
فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه السلام .
والبرهميّ كافر بالطريق الأولى ، لأنه أنكر ، مع رسولنا ، سائر المرسلين .
والدهريّ كافر بالطريق الأولى ، لأنه أنكر ، مع رسولنا المرسل ، سائر الرسل ، وهذا لأن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلاً .
إذ معناه ، إباحة الدم والحكم بالخلود في النار ، ومدركه شرعيّ فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص ، وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى ، والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية ، وكلهم مشركون ، فإنهم مكذبون للرسول ، فكل كافر مكذب للرسول ، وكل مكذب فهو كافر ، فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة .
وتتمة هذا البحث في هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه فاضل ، فارجع إليه ، وعض بنواجذك عليه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلمونَ فَتِيلاً } [ 49 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ } تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلاً وقولاً ، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل ، فالمراد بهم اليهود ، وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُه } [ المائدة : من الآية 18 ] ، وحكى عنهم أيضاً أنهم قالوا : { ا لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً } [ البقرة : من الآية 80 ] ، وأنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : من الآية 111 ] .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، وكذبوا ، قال الله : إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ، وأنزل الله : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ } أي : انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والإثم العظيم ، أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يُغفَرَ للكافر شيء من كفره أو معاصيه .
وقوله تعالى : { بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَاء } تنبيه على أن تزكيته هي المعتد به دون تزكية غيره ، فإنه العالم بما ينطوي على الإِنسَاْن من حَسَن وقبيح ، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين .
تنبيه :
قال الزمخشريّ : يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله ، فإن قلت : أما قال رسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < والله ! إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض ؟ > .
قلت : إنما قال ذلك حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة ، إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم .
وقد ورد في من التمادح والتزكية أحاديث كثيرة ، منها :
عن أبي موسى الأشعري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : سمع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدح فقال : < أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل > ، متفق عليه .
وعن أبي بكرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رجلاً ذكر عند النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأثنى عليه رجل خيراً فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ويحك ! قطعت عنق صاحبك - يقوله مراراً - إن كان أحدكم مادحاً ، لا محالة ، فليقل : أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك ، وحسيبه الله ، ولا يزكي على الله أحداً > ، متفق عليه .
وعن هَمَّام بن الحارث عن المقداد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رجلاً عل يمدح عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه ، فجعل يجثوا في وجهه الحصاء ، فقال له عثمان : ما شأنك ؟ فقال : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب > رواه مسلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر ابن الخطاب : من قال : أنا مؤمن فهو كافر ، ومن قال : هو عالم ، فهو جاهل ، ومن قال : هو في الجنة فهو في النار .
ورواه ابن مردويه عن طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر ، ومن قال هو عالم فهو جاهل ، ومن قال هو في الجنة فهو في النار .
وروى الإمام أحمد عن مَعْبَد الجُهَنِي قال : كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : كان قلّما يدع ، يوم الجمعة ، هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يقول : < من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر فمن يأخذه حقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح > .
وروى ابن ماجة عنه : < إياكم والتمادح فإنه الذبح > .
وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال : إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعاً ولا ضراً فيقول له : والله ! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء ، وقد أسخط الله عليه ، ثم قرأ : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ } الآية : { وَلاَ يُظْلمونَ فَتِيلاً } عطف على جملة قد حذفت ، تعويلاً على دلالة الحال عليها وإيذاناً بأنها غنية عن الذكر ، أي : يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلاً ، أي : أدنى ظلم وأصغره ، والفتيل الخيط الذي في شق النواة أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ ، يضرب به المثل في القلة والحقارة ، وقيل : التقدير ، يُثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلاً ، ولا يساعده مقام الوعيد ، قاله أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مّبِيناً } [ 50 ]
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ } أي : في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : من الآية 111 ] وقولهم : { لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً } [ البقرة : من الآية 80 ] واتكالهم على أعمال آياتهم الصالحة ، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً ، في قوله : { تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : من الآية 134 ] ، الآية .
قال العلامة أبو السعود : ( كيف ) نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال ، والعامل ( يفترون ) وبه تتعلق ( على ) أي : في حال أو على أي : حال يفترون عليه تعالى الكذب ، والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها ، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و ( النظر ) متعلق بهما ، وهو تعجيب إثر تعجيب ، وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب : ادعاؤهم الإنصاف بما هم متصفون بنقيضه ، وافتراؤهم على الله سبحانه ، فإن ادعائهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قرب الله وارتضاءهم إياهم ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، ولكون هذا أشنع من الأول جرماً ، وأعظم قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قول الكفر وارتضائه لعباده ، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه - وجّه النظر إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب ، والتصريح بالكذب ، مع أن الافتراء لا كون إلا كذباً ، لمبالغة في تقبيح حالهم .
{ وَكَفَى بِهِ } أي : بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثارهم العظام .
{ إِثْما مّبِينا } ظاهراً بيناً كونه إثماً ، والمعنى : كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثماً من كل كفار أثيم ، أو في استحقاقهم لأشد العقوبات ثم حكى تعالى عن اليهود نوعاً آخر من المكر ، وهو أنهم كانوا يفضلون عَبْدة الأصنام على المؤمنين ، تعصباً وعناداً ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ 51 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } أي : علماً بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله ، والكفر بالجبت والطاغوت ، ووصفهم بما ذكر ، من إيتاء النصيب ، لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح .
{ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ } الجبت يطلق ، لغة على الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله تعالى ، وكذا الطاغوت ، فيطلق على الكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله وَمَرَدَة أهل الكتاب ، كما في القاموس .
{ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ } أي : أشركوا بالله ، وهم كفار مكة ، أي : لأجلهم وفي حقهم : { هَؤُلاء } يعنونهم .
{ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ } بالله وحده : { سَبِيلاً } أي : أرشد طريقة ، وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قِبَل القائلين ، بل من جهة الله تعالى ، تعريفاً لهم بالوصف الجميل ، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [ 52 ]
{ أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ } أي : أبعدهم عن رحمته وطردهم .
{ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ } أي : يبعده عن رحمته .
{ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } يدفع عنه العذاب دنيوياً كان أو أخروياً ، لا بشفاعة ولا بغيرها .
قال الرازيّ : إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عَبْدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يجري مجرى المكابرة ، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالاً ممن لا يرضى بمعبود غير الله ؟ ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالاً ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال ؟
وقد روى الإمام أحمد عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية ، قال : أنتم خير ، قال فنزلت فيهم : { إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } [ الكوثر : 3 ] ، ونزل : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } - إلى - : { نَصِيراً } .
وقال الإمام ابن إسحاق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : حدثني محمد بن أبي محمد عن عِكْرِمَة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة ، حُيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبي الحقيق وأبو عامر ووحوح بن عامر وهودة بن قيس .
فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول ، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا : دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ، فأنزل الله عز وجل : { أم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله عز وجل : { وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة ، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين ، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم وقد أجابوهم وجاؤوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه حول المدينة الخندق فَكَفَى اللهُ شَرَّهُمْ .
{ وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لم يَنَالُوا خَيْراً } : { وَكَفَى اللّهُ المؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } [ الأحزاب : من الآية 25 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً } [ 53 ]
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً } لما ذم سبحانه اليهود بتزكيتهم أنفسهم وتفضيل المشركين على الموحدين ، شرع في تفصيل بعض آخر من مثالبهم ، وهو وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين .
و ( أم ) منقطعة ، والهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف ، أي : لو كان لهم نصيب من الملك ، والفاء للسببية الجزائرية لشرط محذوف ، أي : لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم .
و ( النقير ) النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة والحقارة ، كالفتيل والقطمير ، والمراد بالملك إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله ، كقوله تعالى : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ } [ الإسراء : من الآية 100 ] .
وقال أبو السعود : وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم ، وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متنافرون ؟ ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه ، أي : لعده منكراً غير لائق بالوقوع على أن الفاء عطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى : ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيراً ؟ كما تقول لغني لا يراعي أباه : ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئاً ؟ وفائدة ( إذن ) تأكيد الإنكار والتوبيخ ، حيث يجعلون ثبوت النصيب سبباً للمنع مع كونه سبباً للإعطاء ، وهي ملغاة عن العمل ، كأنه قيل : فلا يؤتون الناس إذن : وقرئ : ( فإذن لا يؤتوا ) بالنصب على إعمالها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } [ 54 ]
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ } منقطعة أيضاً مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق ، أعني البخل ، إلى توبيخهم بالحسد ، وهما شر الرذائل كما قدمنا ، وكان بينهما تلازماً وتجاذباً ، واللام في ( الناس ) للعهد والإشارة إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمؤمنين .
وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس في هذه الآية قال : نحن الناس دون الناس ، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه .
قال الرازيّ : وإنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس ، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ومن كان على دينه - كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس ، فلهذا حسن إطلاق لفظ ( الناس ) وإرادتهم على التعيين : { عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوماً فيوماً ، وقوله تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ } تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم ، وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم ، المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابراً عن كابر ، وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر ، والمعنى : أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان ، فإنا قد آتينا من قبل هذا : { آلَ إِبْرَاهِيمَ } الذين هم أسلاف محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأبناء أعمامه : { الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } النبوة : { وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } لا يقادر قدره ، فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على إيتائها ؟ ، أفاده أبو السعود .
قال الرازيّ : إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة ، فكلما كانت فضيلة الإِنسَاْن أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصاراً وأعواناً ، فلما كانت هذه النعم سبباً لحسد هؤلاء ، بين تعالى ما يدفع ذلك فقال : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } والمعنى : أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدوهم ، فلم تتعجبون من حال محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولم تحسدونه ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمِنْهُم مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مّن صَدّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنّمَ سَعِيراً } [ 55 ]
{ فَمِنْهُم مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مّن صَدّ عَنْهُ } حكاية لما صدر عن أسلافهم ، أي : فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم ، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه ، وهو منهم ومن جنسهم ، أي : من بني إسرائيل ، وقد اختلفوا عليه ، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين ، وفيه تسلية لرسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأن ذلك ديدنهم المستمر .
{ وَكَفَى بِجَهَنّمَ سَعِيراً } أي : ناراً مسعّرة يعذبون بها على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله ، ثم أخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 56 ]
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } أي : عظيمة هائلة .
{ كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي احترقت احتراقاً تاماً .
{ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } أي : ليدوم لهم ، وذلك أبلغ في العذاب للشخص ، لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق ، أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق .
تنبيه :
لهم في التبديل وجهان :
الأول : أنه تبديل حقيقي مادي ، فيخلق مكانها جلود أخر جديدة مغايرة للمحترقة .
الثاني : أنه تبديل وصفي : أي : أعدنا الجلد جديدة مغايرة للمحترقة صورة ، وإن كانت عينها مادة ، بأن لا يزال عنها الاحتراق ليعود إحساسها للعذاب ، فلم تبدل إلا صفتها ، لا مادتها الأصلية ، وفيه بُعد ، إذ يأباه معنى التبديل .
وقال الرازيّ : يمكن أن يقال : هذه استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع ، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام : كلما انتهى فقد ابتدأ ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ ، من أوله ، فكذا قوله : { كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } الآية ، يعني : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك ، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة ، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه . انتهى .
وهذا أبعد مما قبله ، إذ ليس لنا أن نعدل في كلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز ، إلا عند الضرورة ، لا سيما وقد روي عن السلف ، صحابة وتابعين ، أنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة ، كما رواه ابن جرير وغيره مفصلاً .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً } لا يمتنع عليه ما يريد .
{ حَكِيماً } فيما يقضيه ، ومنه هذا التبديل ، إذا لا يتم تخليد العذاب الموعود ، على الكفر الذي لا ينزجون عنه ، بالعذاب المنقطع ، وعداً لا بد من إيفائه ، ثم بين مآل أهل السعادة فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً } [ 57 ]
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ } أي : بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والقرآن وجملة الكتب والرسل .
{ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } أي : الطاعات فيما بينهم وبين ربهم بالإخلاص : { سَنُدْخِلُهُمْ } أي : في الآخرة .
{ جَنّاتٍٍ } أي : بساتين : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } أي : من تحت شجرها وصورها .
{ الأَنْهَارُ } أي : أنها الخمر واللبن والعسل والماء .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } أي : مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها .
{ لّهُمْ فِيهَا } أي : الجنة : { أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ } أي : من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة .
{ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً } أي : كنّاً كنيناً لا تنسخه الشمس ، ولا حر فيه ولا برد ، و ( ظليل ) صفة مشتقة من لفظ ( الظل ) لتأكيد معناه ، كما يقال : ليل أليل ، ويوم أيوم .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ ، مِائَةَ عَامٍ ، مَا يَقْطَعُهَا > .
وفيهما أيضاً من رواية أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : < يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ سَنة مَاَ يَقْطَعُهَا > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَميعاً بَصِيراً } [ 58 ]
{ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع .
قال أبو السعود : في تصدير الكلام بكلمة التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار ، من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه ، وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة ، كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم : من حقوق الله تعالى وحقوق العباد ، سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية ، وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة . انتهى .
أي لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما تقرر في الأصول ، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها ، الأبرار منهم والفجار ، كما قال ابن المنذر .
وفي حديث سمرة : إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : < أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ > ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن .
قال الحافظ ابن كثير : وَقَدْ ذَكَرَ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن عُثْمَان بْن طَلْحَة بْن أَبِي طَلْحَة وَاسْم أَبِي طَلْحَة عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْعُزَّى بْن عُثْمَان بْن عَبْد الدَّار بْن قُصَيّ بْن كِلَاب الْقُرَشِيّ الْعَبْدَرِيّ حَاجِب الْكَعْبَة الْمُعَظَّمَة ، وَهُوَ اِبْن عَمّ شَيْبَة بْن عُثْمَان بْن أَبِي طَلْحَة الَّذِي صَارَتْ الْحِجَابَة فِي نَسْله إِلَى الْيَوْم .
أَسْلَمَ عُثْمَان هَذَا فِي الْهُدْنَة بَيْن صُلْح الْحُدَيْبِيَة وَفَتْح مَكَّة ، هُوَ وَخَالِد بْن الْوَلِيد وَعَمْرو بْن الْعَاصِ ، وَأَمَّا عَمّه عُثْمَان بْن طَلْحَة بْن أَبِي طَلْحَة ، فَكَانَ مَعَهُ لِوَاء الْمُشْرِكِينَ يَوْم أُحُد وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ كَافِراً .
وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا النَّسَب لِأَنَّ كَثِيراً مِنْ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ يَشْتَبِه عَلَيْهِ هَذَا بِهَذَا .
وَسَبَب نُزُولهَا فِيهِ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاح الْكَعْبَة يَوْم الْفَتْح ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي غَزْوَة الْفَتْح حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه أَبِي ثَوْر عَنْ صَفِيَّة بِنْت شَيْبَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّة وَاطْمَأَنَّ النَّاس ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ سَبْعاً عَلَى رَاحِلَته يَسْتَلِم الرُّكْن بِمِحْجَنٍ فِي يَده ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافه دَعَا عُثْمَان بْن طَلْحَة فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاح الْكَعْبَة فَفُتِحَتْ لَهُ ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامة مِنْ عِيدَان فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة وَقَدْ اِسْتَكَفَّ لَهُ النَّاس فِي الْمَسْجِد .
قَالَ اِبْن إِسْحَق : فَحَدَّثَنِي بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ : < لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ ، صَدَقَ وَعْده ، وَنَصَرَ عَبْده ، وَهَزَمَ الْأَحْزَاب وَحْده ، أَلَا كُلّ مَأْثُرَة أَوْ دَم أَوْ مَال يُدْعَى فَهُوَ تَحْت قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِدَانة الْبَيْت وَسِقَايَة الْحَاجّ > .
وَذَكَرَ بَقِيَّة الْحَدِيث فِي خُطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ ، إِلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ جَلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَمِفْتَاح الْكَعْبَة فِي يَده فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه اِجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَة مَعَ السِّقَايَة ، صَلَّى اللَّه عَلَيك ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْنَ عُثْمَان بْن طَلْحَة ؟ فَدُعِيَ لَهُ ، فَقَالَ [ لَهُ ] : < هَاكَ مِفْتَاحك يَا عُثْمَان ، الْيَوْم يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء > .
وروى اِبْن جَرِير عَنْ اِبْن جُرَيْج فِي الْآيَة قَالَ : نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن أبي طَلْحَة ، قَبَضَ مِنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاح الْكَعْبَة ، وَدَخَلَ به الْبَيْت يَوْم الْفَتْح ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة : { إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا } فَدَعَا عُثْمَان إِلَيْهِ ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمِفْتَاح .
قَالَ : وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب ( لَمَّا خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَعْبَة وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة : { إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا } فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي ، مَا سَمِعْته يَتْلُوهَا قَبْل ذَلِكَ .
قال السيوطيّ : ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة . انتهى .
وعن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حَوْشَب أن هذه الآية نزلت في الأمراء ، يعني الحكام بين الناس .
وقال السيوطيّ في " الإكليل " : في هذه الآية وجوب رد كل أمانة من وديعة وقراض وقرض وغير ذلك ، واستدل المالكية ، بعموم الآية ، على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل ، إنه يجب رد وديعته إلى أهله ، وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب ثم خرج ، يجب وفاؤه ، وأن الأسير إذا ائتمنه الحربي على شيء لا يجوز له أن يخونه ، وعلى أن من أودع مالاً وكان المودع خانه قبل ذلك ، فليس له أن يجحده كما جحده ، ويوافق هذه المسألة حديث : < أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ > .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في هذه الآية قال : مبهمة للبر والفاجر ، يعني عامة .
وقد أخرج ابن جرير وغيره أنها نزلت في شأن مفتاح الكعبة ، لما أخذه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من عثمان بن طلحة ، واختار ما رواه عليّ وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين ، أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليهم ، فيستدل بالآية على أن على الحكام والأئمة ونظار الأوقاف أداء الحقوق المتعلقة بذممهم من توليه المناصب وغيرها إلى من يستحقها ، كما أن قوله تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } أمرٌ لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها ، وحيث كان المأمور بِهِ هُنا بههنا مختصاً بوقت المرافعة ، قيد به ، بخلاف المأمور به أولاً ، فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقاً ، وأصل العدل هو المساواة في الأشياء ، فكل ما خرج من الظلم والاعتداء سمي عدلاً .
روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحْمَنِ ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ > .
وروى الترمذيّ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ عِنْدهُ مَجْلِساً : إِمَامٌ عَادِلٌ ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِساً إِمَامٌ جَائِرٌ > .
وروى الحاكم والبيهقيّ بسند صحيح عن ابن أبي أوفى عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تبرأ الله منه وألزمه الشيطان > .
قال الإمام ابن تيمية - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في رسالته " السياسة الشرعية " بعد الخطبة : هذه الرسالة مبنية عل آية الأمراء في كتاب الله تعالى ، وهي قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } الآية .
قال العلماء : نزلت في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ، ثم قال : وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها : والحكم بالعدل ، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة ، ثم قال : أما أداء الأمانات فيه نوعان :
أحدهما : الولايات وهو كان سبب نزول الآية ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة وطلبها العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية ، فرد مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة ، فيجب على وليّ الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل .
قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من وَلِيَ من أمر المسلمين شيئاً ، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين > . رواه الحاكم في صحيحه .
وفي رواية : < من قلد رجلاً عملاً على عصابة ، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه ، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين > .
وقال عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين ، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار ، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاء ، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الكبار والصغار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين ، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده ، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء لحاج والبُرُد وخزان الأموال ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق .
على كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين من الأمراء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده ، في كل موضع ، أصلح من يقدر عليه ، ولا يقدم الرجل لكونه طَلَبَ أو سَبَقَ في الطلب ، بل ذلك سبب المنع ، فإن في الصحيح عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أن قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال : إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه > .
وقال لعبد الرحمن بن سمرة : < يا عبد الرحمن ! لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها ، وإن أعطيتها من مسألة وكلت إليها > . أخرجاه في الصحيحين .
وقال : < من طلب القضاء واستعان عليه وَكِل إليه ، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكاً يسده > . رواه أهل السنن .
فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره ، لأجل قرابة بينهما ، أو ولاه عتاقة أو صداقة أو موافقة في مذهب أو بلد أو طريقة أو جنس ، كالعربيّة والفارسية والتركية والرومية ، أو لرشوة يأخذها منه من ماله أو من منفعة ، أو غير ذلك من الأسباب ، أو لضغن في قلبه على الأحق ، أو عداوة بينهما - فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلمونَ } [ الأنفال : 27 ] .
ثم قال الله تعالى : { وَاعْلموا أَنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنّ اللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 28 ] ، فإن الرجل لحبه لولده أو عتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته ، وكذلك قد يؤثر زيادة حفظه أو ماله يأخذ ما لا يستحقه أو محاباة مَنْ يُدَاهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته ، ثم إن المؤدي الأمانة ، مع مخالفة هواه ، يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده ، والمطيع لهواه يعاقبه بنقيض قصده ، فيذل أهله ويذهب ماله ، وفي ذلك الحكاية المشهورة : إن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدّث بما أدرك ، فقال : أدركت عُمَر بن عبد العزيز ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ! أفقرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم ، وكان في مرض موته ، فقال : أدخلوهم عليّ ، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكراً ، ليس فيهم بالغ ، فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال : والله ! يا بني ! ما منعتكم حقاً هو لكم ، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فادفعها إليهم ، وإنما أنتم أحد رجلين : إما صالح فالله يتولى الصالحين ، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله ، قوموا عني .
قال : ولقد رأيت بعض ولده حمل على مائة في سبيل الله ، يعني أعطاها لمن يغزو عليها .
قلت : هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق ببلاد الترك إلى أقصى المغرب بالأندلس وغيرها من جزيرة قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها ، إلى أقصى اليمن ، وإنما أخص كل واحد من أولاده من تركته شيئاً يسيراً ، يقال أقل من عشرين درهماً .
قال : وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه ، فأخذ كل واحد ستمائة ألف دينار ، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس ، أي : يسألهم بكفه ، وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان ، والمسموعة عما قبله ، عبرة لكل ذي لب ، وقد دلت سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها ، في موضع مثل ما تقدم ، ومثل قوله لأبي ذر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في الإمارة : < إِنَّهَا أَمَانَةُ ، وَإِنَّهَا ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حسرة وَنَدَامَةٌ . إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ > . فيما رواه مسلم .
وروى البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ > . قيل : يا رسول الله ! وما إِضَاعَتُهَا ؟ قال : < إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ > .
وقد أجمع المسلمون على هذا .
ثم قال ابن تيمية رحمه الله :
القسم الثاني : أمانات الأموال كما قال تعالى في الديون : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } [ البقرة : من الآية 283 ] ، ويدخل في هذا القسم الأعيان والديون الخاصة والعامة ، مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك ، وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك ، وقد قال الله تعالى : { إِنّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلّا المصَلّينَ الّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقّ مّعْلُومٌ لّلسّائِلِ وَالمحْرُومِ } - إلى قوله - : { وَالّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المعارج : 32 ] ، وقال تعالى : { إِنّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] ، أي : لا تخاصم عنهم .
وقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه ، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات > ، وهو حديث صحيح ، بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذيّ ، وقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاها اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ > ، رواه البخاريّ .
وإذا كان الله تعالى قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ، ففيه تنبيه على وجوب أداء الغضب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم ، وكذلك أداء العارية ، ولينظر تتمة هذا البحث في الرسالة المذكورة ، فإن الوقوف عليها من المهمات .
{ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ } أي : نعم ما يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة ، و ( ما ) إما منصوبة موصوفة بـ ( يعظكم ) أو مرفوعة موصولة ، كأنه قيل نعم شيئاً يعظكم به ، أو نعم الشيء الذي يعظكم به ، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها متضمنة لمزيد لطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال بالأمر .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ سَميعاً } لأقوالكم في الأمانات والأحكام : { بَصِيراً } بأفعالكم فيها ، فإن سمع ورأى خيراً جازاكم عليه خير الجزاء ، وإن سمع ورأى شراً جازاكم عليه ، فهو وعد ووعيد .
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي يونس قال : سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } إلى قوله : { سَميعاً بَصِيراً } ويضع إبهامه على أذنه ، والتي تليها على عينه ويقول : هكذا سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقرؤها ويضع إصبعه .
وقال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ووضع أبو زكريا إبهامه الأيمن على عينه اليمنى ، والتي تليها على الأذن اليمنى ، وأرانا ، فقال : هكذا ، وهكذا ، رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن مردويه في تفسيره .
وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة ، واسمه سُلَيم بن جبير ، أفاده ابن كثير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ 59 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } اعلم أنه تعالى ، لما أمر الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل ، أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك ، إلا أن يأمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
قال الرازيّ : قال عليّ بن أبي طالب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا ، وقد روى الطبري بسند صحيح عن أبي هريرة : إن أولي الأمر هم الأمراء .
واحتج له الشافعي بأن قريشاً ومن يليها من العرب كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير ، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر ، والانقياد له إذا بعثهم في السرايا ، وإذا ولاهم البلاد ، فلا يخرجوا عليهم ولا يمتنعوا عليهم ، لئلا تفترق الكلمة ، ولذلك قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي > ، متفق عليه .
وفي البخاريّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سرية .
قال ابن كثير : وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة وقال الترمذيّ : حديث حسن غريب ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج .
وروى الطبري عن السدي أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد ، وكان خالد أميراً ، فأجاز عمار رجلاً بغير أمره ، فتخاصما وارتفعا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجبر الثانية على أمير .
قال ابن كثير : وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلاً ، ورواه ابن مردويه عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس ، فذكر بنحوه .
ولا تنافي بين الروايتين لما أسلفناه في مقدمة التفسير في بحث سبب النزول ، فتذكر .
وقال الزمخشريّ : المراد بأولي الأمر منكم ، أمراء الحق ، لأن أمراء الجور ، الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم ، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما ، كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان ، وكان الخلفاء يقولون : أطيعوني ما عدلت فيكم فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم .
وفي الصحيحين عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ > .
وروى الإمام أحمد عن عِمْرَان بن حصين عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ الله > .
لطيفة :
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر ، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى - كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة ، فكان التقدير : وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن ، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن وما ينصه عليكم من السنة ، والمعنى : أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته ، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن .
ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية ، لما قال له : أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله : { وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ؟ فقال له : أليس قد نزعت عنكم ، يعني الطاعة ، إذا خالفتم الحق بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ؟ .
قال الطيبي : أعاد الفعل في قوله : { وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ } إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة ، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته ، ثم بين ذلك بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ } ، كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعونهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله . انتهى .
تنبيه :
يشمل عموم وقوله : { وَأُوْلِي الأَمْرِ } العلماء ، كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أنه يعني أهل الفقه والدين ، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية ، وهذا ليس قولاً ثانياً في الآية بل هو مما يشمله لفظها ، فهي عامة في أولي الأمر من الأمراء والعلماء وإن نزلت على سبب خاص ، وقد كثرت الأوامر بطاعة العلماء كالأمراء ، قال تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ } [ المائدة : من الآية 63 ] ، وقال تعالى : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمونَ } [ النحل : من الآية 43 ] وقال تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلمهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : من الآية 83 ] .
وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ أطِاع أَمِيرَي فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ عْصى أَمِيرَي فَقَدْ عَصَانِي > .
وروى أبو داود عن عبد الله بن عُمَر عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِذا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ [ عَلَيْهِ زيادة عند أبو داوود ] وَلاَ طَاعَةَ > .
وروى البخاريّ عن أنس بن مالك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ > .
والأحاديث في هذا كثيرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه " الحسبة في الإسلام " : وقد أمر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس ، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام ، فلهذا كان أولو الأمر صنفين : العلماء والأمراء ، فإذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس ، كما قال أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ( للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الأمر ) قال : ما استقامت لكم أئمتكم ، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر ، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهي عما نهى عنه ، وعلى كل واحد ممن له عليه طاعة أن يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله ، كما قال أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، حين تولى أمر المسلمين وخطبهم ، فقال في خطبته : أيها الناس ! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق ، أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } أي : اختلفت أنتم وأولو الأمر : { فِي شَيْءٍٍ } من الأحكام : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ } أي : فارجعوا فيه إلى كتابه : { وَالرّسُولِ } بالسؤال منه في زمانه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والرجوع إلى سننه بعده لا إلى ما تهوون ولا إلى ما يهواه الحكام : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } الواضع لشرائع العدل : { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الذي يجازي فيه الموافق والمخالف لتلك الشرائع : { ذَلِكَ } أي : الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول ، والرجوع إليهما فصل النزاع .
{ خَيْرٌ } أي : لكم ولحكامكم وأصلح : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : عاقبة ومآلاً ، كما قاله السديّ وغير واحد ، وقال مجاهد : وأحسن جزاء ، وهو قريب .
قال الحافظ ابن كثير : هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ } [ الشورى : من الآية 10 ] ، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، فدل على أن من لم يتحاكم ، في محل النزاع ، إلى الكتاب والسنة ، ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر . انتهى .
تنبيهات :
الأول : قال البيضاوي : إن قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } يؤيد أن المراد بأولي الأمر الأمراء لا العلماء ، قال : إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس ، ثم قال : إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر ، على طريقة الالتفات ، وتابعه أبو السعود .
قال الخفاجي : وجه التأييد أن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء ، إذ المراد بهم المجتهدون ، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم ، والمراد بالمرؤوس ( على وزن المفعول ) العامة التابعة للرائس والرئيس ، فإذا كان الخطاب في ( تنازعتم ) لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء ، لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضاً مجادلة ومحاجة ، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل . انتهى .
وفي قوله : ( إذ ليس للمقلد إلخ ) ما ستراه .
الثاني : فيهم كثير من الناس والمفسرين أيضاً أن طاعة أولي الأمر العلماء ، تقليدهم فيما يفتون به ، وهو غلط قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " في :
فصل
في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان .
قال المقلد : وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأولي الأمر - وهم العلماء ، أو العلماء والأمراء - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به ، فإنه لولا التقليد ، لم يكن هناك طاعة تختص بهم ، قال : وجوابه أن أولي الأمر ، قيل : هم الأمراء ، وقيل : هم العلماء ، وهما روايتان عن الإمام أحمد ، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين ، وطاعتهم من طاعة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لكن خفي على المقلدين أنهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وإيثار التقليد عليها ؟ ثم قال ابن القيم : إن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالاً للتقليد ، وذلك من وجوه :
أحدها : الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه .
الثاني : طاعة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا يكون العبد مطيعاً لله ولرسوله حتى يكون عالماً بأمر الله تعالى ورسوله ، وأما من هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم البتة .
الثالث : أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم ، كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عُمَر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة ، وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم ، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد ، وإن لم تكن واجبة الاستدلال .
الرابع : أنه سبحانه وتعالى ، قال في الآية نفسها : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد ، فإن قيل : فما هي طاعتهم المختصة بهم ؟
فإن كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كانت الطاعة لله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا لهم ، قيل : هذا هو الحق ، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ، ولهذا قرنها بطاعة الرسول ، وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعاً كما يطاع أولو الأمر تبعاً ، وليس كذلك ، بل طاعته واجبة استقلالاً ، كان ، ما أمر به أو نهى عنه في القرآن ، أو لم يكن . انتهى .
وقال رحمه الله تعالى قبل ذلك : إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم ، وسلكوا ضد طريق أهل العلم ، أما أمر الله تعالى ، فإنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله ، والمقلدون قالوا : إنما نرده إلى من قلدناه ، وأما أمر رسوله فإنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أمر عند الاختلاف بالآخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين ، وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ ، وقال المقلدون : بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه ، وأما هدي الصحابة رضي الله عنهم فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن شخص واحد يقلد رجلاً في جميع أقواله ويخاف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئاً ولا يقبل من أقوالهم شيئاً ، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث ، وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهو عن تقليدهم وحذروا منه ، كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأقوال خلفائه الراشدين ، فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به ، وقبضوا به وأفتوا به ، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه ، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الأتباع لا واجبة الاتباع ، من غير أن يلزموا بها أحداً ولا يقولوا إنها الحق دون ما خلفها ، هذه طريقة أهل العلم سلفاً وخلفاً ، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين ، فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأقوال خلفائه وجميع أصحابه ، وعرضوها على أقوال من قلدوه ، فما وافقها منها قالوا : لنا ؛ وانقادوا مذعنين ، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا : احتج الخصم بكذا وكذا ، ولم يقبلوه ولم يدينوا به ، واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن ، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها ، حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم ، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها ، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها ، وقالوا : لا تُرَدُّ النصوص بهذا ، ومن له همة تسموا إلى الله ومرضاته ، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أين كان ومع من كان ، لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم . انتهى .
الثالث : إن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } أي : فوضوا علمه إلى الله وأسكتوا عنه ولا تتعرضوا له ؟ وأيضاً ، لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية ؟ قلنا : أما الأول فمدفوع ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين : منها ما يكون حكمها منصوصاً عليه ، ومنها ما لا يكون كذلك ، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد ، وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه ، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت ، لأن الواقعة بما كانت لا تحتمل ذلك ، بل لا بد من قطع للشغب والخصومة فيها ، بنفيٍٍ أو إثبات ، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله ، على السكوت عن تلك الواقعة ، وأما السؤال الثاني : فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل ، فلا يكون رد الواقعة إليها رداً إلى الله بوجه من الوجوه ، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها ، كان هذا رداً للواقعة على أحكام الله تعالى ، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى : أفاده الرازيّ .
الرابع : استدل مثبتوا القياس بقوله تعالى : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ } إلخ قالوا : معنى الآية : فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة ، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له ، وذلك هو القياس ، قالوا : ولو كان المراد من قوله تعالى : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة - لكان داخلاً تحت قوله : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ } وهو إعادة لعين ماضي ( كذا ) وهو غير جائز ، وقد توسع الرازيّ في تقرير ذلك ههنا ، كما توسع في أن قوله تعالى ( وأولي الأمر ) إشارة إلى الإجماع ، فتكون الآية ، بزعمه ، دلت على الأصول الأربع ، ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط .
الخامس : قدمنا رواية البخاريّ في سبب نزول هذه الآية ، وأن ابن عباس قال : نزلت في عبد الله بن حذافة .
قال الداودي ( شارح الصحيح ) : هذا وهم على ابن عباس ، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم ، فأمرهم أن يوقدوا ناراً ويقتحموها ، فامتنع بعضهم وهم بعض أن يفعل .
قال : فإن كانت الآية نزلت قبلُ ، فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره ؟ وإن كانت نزلت بعدُ فإنما قيل لهم : إنما الطاعة في المعروف ، وما قيل لهم : لِمَ لم تطيعوه ؟ انتهى .
وأجاب الحافظ ابن حجر : أي : المقصود في قصته قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى } لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به ، وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة ، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار ، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع ، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله ، أي : إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة ، والله أعلم .
ولما أوجب تعالى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله ، آثرها بأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه ، وإنما يريدون حكم غيره ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 60 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن .
{ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني التوراة ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله ، لتأكيد العجيب من حالهم وتشديد التوبيخ والاستقباح ، ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتماً للتحاكم إلى الرسول ، وبين ما صدر عنهم من مخالفة الأمر المحتوم .
{ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ } الداعي إلى الطغيان بالحكم على خلاف المنزل إليك والمنزل على من قبلك ، وتقدم قريباً معاني الطاغوت ، والمراد به ها هنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله ، من الباطل .
{ وَقَدْ أُمِرُواْ } في جميع تلك الكتب .
{ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } أي : يتبرؤوا منه ، لأنه تحاكم على خلاف ما أنزل الله في كتبه فيعصونه ويطيعون الشيطان .
{ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ } أي : من الجن والْإِنْسَ .
{ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } عن الحق والهدى ، وقوله : { وَيُرِيدُ } إلخ عطف على ( يريدون ) داخل في حكم التعجيب ، فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم ، أعجب من كل عجيب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ المنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ 61 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ } أي : إلى حكم ما أنزل الله في القرآن الذي تدعون الإيمان به : { وَإِلَى الرّسُولِ } أي : حكمه .
{ رَأَيْتَ المنَافِقِينَ يَصُدّونَ } أي : يمنعون خصومهم فيبعدونهم .
{ عَنكَ صُدُوداً } بليغاً ليتمكنوا مما يريدونه بالرشوة ، وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ } إلخ تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله ، إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت ، وإظهار ( المنافقين ) في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق ، وذمهم به ، والإشعار بعلة الحكم .
تنبيه - في سبب نزولها
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ } إلى قوله : { إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } .
أقول : ثم أسلم أبو برزة وصحب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، واسمه نَضْلَة بن عبيد .
قال الحافظ ابن حجر في التقريب : صحابي مشهور بكنيته ، أسلم قبل الفتح ، وغزا سبع غزوات ، ثم نزل البصرة ، وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح . انتهى .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عِكْرِمَة ، أو سعيد ، عن ابن عباس قال : كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير ، ورافع بن زيد ، وَبشَرٌ يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين ، في خصومة كانت بينهم إلى الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فدعوهم إلى الكهان ، حكام الجاهلية ، فأنزل الله فيهم : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية .
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك ، أو قال : إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لأنه قد علم أن لا يأخذ الرشوة في الحكم ، فاختلفا ، واتفقا على أن يأتيا كاهناً في جهينة ، فنزلت ، ولا تَعَاَرُضَ ، لما أسلفناه في المقدمة في بحث سبب النزول ، فتذكر .
قال أبو مسلم الأصفهاني : ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقاً من أهل الكتاب ، مثل : إنه كان يهودياً فأظهر الإسلام على سبيل النفاق ، لأن قوله تعالى : { يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليق بمثل هذا المنافق . انتهى .
أقول : ما استظهره مناف لما أسلفناه مما روي في نزولها ، على أن توصيفهم بالإيمان بـ ( ما أنزل من قبل ) لا يؤيد ما ذكره ، لأن هذا كثيراً ما يذكر تنويهاً به وتثبيتاً لركنيته في الإيمان ، وتذكيراً له ، كما لا يخفى على من سبر قاعدة التنزيل في أمثاله ، فاعرفه .
مباحث
الأول : قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية إنكار من الله عز وجل على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم ، في فصل الخصومات ، إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذُكر في سبب نزول هذه الآية ، ثم ساق ما قدمناه وقال : الآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بـ ( الطاغوت ) ههنا ، واعرضوا كالمستكبرين كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [ البقرة : من الآية 170 ] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم : { إِنّمَا كَانَ قَوْلَ المؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : من الآية 51 ] الآية .
الثاني : قال القاضي : يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر ، وعدم الرضا بحكم محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كفر ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه تعالى قال : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيماناً به ، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله .
الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلى قوله : { وَيُسَلموا تَسْلِيماً } [ النساء : من الآية 65 ] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
الثالث : قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : من الآية 63 ] وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة ، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئاً من أوامر الله ، أو أوامر الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهو خارج عن الإسلام ، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد ، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم ، نقله الرازيّ .
الرابع : قال بعض المفسرين : في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه ، والرضا بما شرعه ، وتدل على أنه لا يجوز التحكم إلى غير شريعة الإسلام .
قال الحاكم : وتدل على أن من لم يرض بحكمه كَفَرَ ، وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر ، لا قصاص فيه ولا دية .
وههنا فرع ، وهو أن يقال : إذا تحاكم رجلان في أمر فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني ، وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة ، فإنه يكفر ، لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة . انتهى .
الخامس : في قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ } دقيقة بديعة ، قال أبو السعود : الاقتصار في معرض التعجب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم ، دون نفسه ، مع وقوعه أيضاً - للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع ، فما ظنك بنفسه ؟
السادس : قال المفسرون : إنما صد المنافقون عن حكم الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لأنهم كانوا ظالمين ، وعلموا أنه لا يأخذ الرشا ، وأنه لا يحكم إلا بمرّ الحكم ، وقيل : كان ذلك الصد لعدوانهم في الدين ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [ 62 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ } متصل بما قبله ، مبين غائلة جناياتهم المحكية ووخامة عاقبتها ، أي : كيف يكون حالهم إذا ساقتهم التقادير إليك ، في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم ، التي منها المحاكمة إلى الطاغوت والكراهة لحكمك ، واحتاجوا إليك في ذلك .
{ ثُمّ جَآؤُوكَ } للاعتذار عما صنعوا من القبائح : { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ } كذباً .
{ إِنْ أَرَدْنَا } أي : ما أردنا بذلك التحاكم : { إِلاّ إِحْسَاناً } أي : فصلاً بالوجه الحسن .
{ وَتَوْفِيقاً } بالصلح بين الخصمين ، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك ، فلا تؤاخذنا بما فعلنا ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا ، وأنهم سيندمون عليه لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار .
قال الرازيّ : ذكروا في تفسير قوله تعالى : { أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ } وجوهاً :
الأول : إن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أَقَرّ أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام ، فهم جاؤوا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فطالبوا عمر بدمه ، وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة ، وهذا اختيار الزجاج .
قلت : واختياره غير مختار ، لأن قصة قتل عمر لم ترو من طريق صحيح ولا حسن ، فهي ساقطة عند المحققين ، واستدلال الحاكم ، الذي قدمناه ، مسلم ، لو صحت .
الثاني : قال أبو عليّ الجبائي : المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ، وأنه يخصهم بمزيد من الإذلال والطرد عن حضرته ، وهو قوله تعالى : { لَئِنْ لم يَنْتَهِ المنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمرْجِفُونَ فِي المدِينَةِ لَنُغْرِيَنّكَ بِهِمْ ثُمّ لا يجاوِرُونَكَ فِيهَا إِلّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 60 - 61 ] وقوله : { فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً } [ التوبة : من الآية 83 ] ، وبالجملة ، فأمثال هذه الآيات ، توجب لهم الذل العظيم ، فكانت معدودة في مصائبهم ، وإنما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم .
الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول ، بَشَّرَ الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا له الإيمان به ، وإلى أن يحلفوا بأن مرادهم الإحسان والتوفيق ، قال : ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا : كيف أنت إذا كان كذا وكذا ؟ ومثاله ، قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍٍ بِشَهِيدٍٍ } [ النساء : من الآية 41 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍٍ لا رَيْبَ فِيهِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 25 ] ، ثم أمره تعالى ، إذا كان منهم ذلك ، أن يعرض عنهم ويعظهم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الّذِينَ يَعْلم اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ 63 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المنافقين : { الّذِينَ يَعْلم اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من النفاق والميل إلى الباطل وإن أظهروا إسلامهم وعذرهم بحلفهم .
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم ولا تزد على كفهم ، بالموعظة والنصيحة عما هم عليه .
{ وَعِظْهُمْ } أي : ازجرهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر .
{ وَقُل لّهُمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي : مؤثراً واصلاً إلى كنه المراد ، فإن قيل : بم تعلق قوله تعالى : { فِي أَنفُسِهِمْ } ؟ فالجواب : بقوله : { بَلِيغاً } على رأي من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف ، أي : قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتمون به إغتماماً ، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قَرْنَه ، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق ، معلوم عند الله ، وإنه لا فرق بينكم وبين المشركين ، وما هذه المكافّة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره ، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف ، أو يتعلق بقوله : { قُل لّهُمْ } أي : قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق ، قولاً بليغاً ، وإن الله يعلم ما في قلوبكم ، لا يخفى عليه ، فلا يغني عنكم إبطانه فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم ، لا يخفى عليه ، فلا يغني عنكم إبطانه ، فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق ، وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمهاجرين بالشرك ، من انتقامه ، وشراً من ذلك وأغلظ ، أو قل لهم في أنفسهم خالياً بهم ، ليس معهم غيرهم ، مساراً لهم بالنصيحة ، لأنها في السر أنجع وفي الإمحاض أدخل : { قَوْلاً بَلِيغاً } يبلغ منهم ويؤثر فيهم ، كذا يستفاد من الكشاف .
قال الناصر في " الانتصاف " ولكل من هذا التأويلات شاهد على الصحة .
أما الأول : فلأن حاصله أمره بتهديدهم على وجه مبلغ صميم قلوبهم ، وسياق التهديد في قوله : { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآؤُوكَ } يشهد له ، فإنه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد .
وأما الثاني : فيلائمه من السائق قوله : { أُولَئِكَ الّذِينَ يَعْلم اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } يعني ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل ، ثم أمره بوعظهم والإعراض عن جرائمهم حتى لا تكون مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم ، ثم جاء قوله : { وَقُل لّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } كالشرح للوعظ ولذكر أهم ما يعظهم فيه ، وتلك نفوسهم التي علم الله ما انطوت عليه من المذامّ ، وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق به .
وأما الثالث : فيشهد له سيرته عليه الصلاة والسلام في كتم عناد المنافقين ، والتجافي عن إفصاحهم والستر عليهم ، حتى عدّ حذيفة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، صاحب سره عليه الصلاة والسلام ، لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم وتسميتهم له بأسماءهم ، وأخباره في هذا المعنى كثيرة .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : وثمرة الآية قبح الرياء والنفاق واليمين الكاذبة والعذر الكاذب ، لأنهم اعتذروا بإرادتهم الإحسان ، وذلك كذب ، ثم قال : ودلت الآية على لزوم الوعظ والمبالغة فيه . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلمواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوّاباً رّحِيماً } [ 64 ]
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } كلام مبتدأ ، جيء به تمهيداً لبيان خطتهم في ترك طاعة الرسول ، والاشتغال بسر جنايتهم بالاعتذار بالأباطيل وعدم تلاقيها بالتوبة ، أي : وما أرسلنا رسولاً إلا ليطاع فيما حكم ، لا ليطلب الحكم من غيره ، فطاعته فرض على من أرسل إليهم ، وإنكارُ فرضيتها كفر .
وقوله : { بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بسبب إذنه في طاعته ، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه ، لأنه مؤدٍّ عن الله فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله : { مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } ويجوز أن يراد : بتيسير الله وتوفيقه في طاعته :
{ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلمواْ أَنفُسَهُمْ } هذا الظلم العظيم غاية العظم ، إذ عرضوها لعذاب ، على عذاب النفاق ، بترك طاعتك والتحاكم إلى الطاغوت .
{ جَآؤُوكَ } تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا .
{ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ } من ذلك وتابوا إليه تعالى من صنيعهم : { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ } أي : دعا لهم بالمغفرة ، فكان استغفاره شفاعة لقبول استغفارهم .
{ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوّاباً } أي : قابلاً لتوبتهم : { رّحِيماً } أي : متفضلاً عليهم بالرحمة وراء قبول التوبة .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : ولم يقل : واستغفرت لهم ، وعَدَل عنه إلى طريقة الالتفات ، تفخيماً لشأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعةَ مَنِ اسمُهُ الرسول ، من الله بمكان .
قال في " الانتصاف " : وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية ، وهي اشتماله على ذكر صفة مناسبة لما أضيف إليه ، وذلك زائد على الالتفات بذكر الأعلام الجامدة .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على أن توبة المنافق مقبولة عند الله وفاقاً ، وأما الظاهر فظاهر الآية قبولها ، لأنه جعل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مستغفراً لهم وشافعاً .
وعن الراضي بالله في ( الباطنية ) : إن أظهروا شبههم وما يعتادون كتمه ، دل ذلك على صدق توبتهم ، فيقبل وإلا فلا ، ودلت الآية على أن من تكررت منه المعصية والتوبة صحت توبته لقوله تعالى : { تَوّاباً } وذلك ينبئ عن التكرار ، كذا في بعض التفاسير .
الثاني : قال الرازيّ : لقائل أن يقول : أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح ، لكانت توبتهم مقبولة ؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم : قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله ، وكان أيضاً إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره ، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم .
الثاني : إن القول لما لم يرضوا بحكم الرسول ، ظهر منهم ذلك التمرد ، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد ، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ويطلبوا منه الاستغفار .
الثالث : لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتَوْا بها على وجه الخلل ، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول . انتهى .
أقول : وثمة وجه رابع - وهو التنويه بشأن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وأن طاعته طاعته تعالى ، فرضاه رضاه وسخطه سخطه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } [ 65 ]
{ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر .
{ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ } يجعلوك حاكماً ويترافعوا إليك : { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي : فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس .
{ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ } في قلوبهم : { حَرَجاً } أي : ضيقاً : { مّمّا قَضَيْتَ } بينهم .
{ وَيُسَلمواْ } أي : ينقادوا لأمر ويذعنوا لحكمك : { تَسْلِيماً } تأكيد للفعل ، بمنزلة تكريره ، أي : تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : < وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به > .
تنبيهات :
الأول : روى البخاريّ عن الزهريّ عن عروة قال : خاصم الزبير رجلاً في شراج الحراة ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ > ، فقال الأنصاري : يا رسول الله ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ثم قال : < اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ > .
واستوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة .
قال الزبير : فما أحسب هذا الآيات إلا نزلت في ذلك : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .
قال ابن كثير : هكذا رواه البخاريّ في ( كتاب التفسير ) في " صحيحه " من حديث معمر ، وفي كتاب ( المساقاة ) من حديث ابن جريج ومعمر أيضاً ، وفي كتاب ( الصلح ) من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهريّ عن عروة فذكره ، وصورته الإرسال وهو متصل في المعنى ، وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهريّ أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً ، إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في شراج الحرة ، كان يستقيان بها كلاهما ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير : < اسْقِ ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ > ، فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ثم قال للزبير : < اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ > .
فاستوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه ، وكان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قبل ذلك ، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، استوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم .
قال عروة : فقال الزبير : والله ! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } .
هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه ، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في " تفسيره " ، فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب ؛ أن عروة بن الزبير حدثه ؛ أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام ؛ أنه خاصم رجلاً . . . . الحديث ) .
قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به ، ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به ، وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير ، وهكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير ، والله أعلم .
وروى ابن أبي حاتم عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء ، فقضى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل .
قال ابن كثير : هذا مرسل ، لكن فيه فائدة تسمية الأنصاري . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : وحكى الواحدي وشيخه الثعلبي والمهدوي أنه حاطب بن أبي بلتعة ، وتعقب بأن حاطباً وإن كان بدرياً ، لكنه من المهاجرين ، لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية ، قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء . . . . الحديث ، وإسناده قوي مع إرساله ، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير ، فيكون موصولاً ، وعلى هذا فيؤول قوله ( من الأنصار ) على إرادة المعنى الأعم ، كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة ، وأما قول الكرمانيّ بأن حاطباً كان حليفاً للأنصار - ففيه نظر .
وأما قوله ( من بني أمية بن زيد ) فلعله كان مسكنه هناك ، كعمر ، ثم قال : ويترشح بأن حاطباً كان حليفاً لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاوراً للزبير ، والله أعلم .
أقول : وقع في التفسير المنسوب لابن عباس ، ههنا ، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وإدراجه تحت قوله تعالى : { رَأَيْتَ المنَافِقِينَ } وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر ، وكيف ؟ وقد كان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - من البدريين ، وقد انتفى النفاق عمن شهدها .
قال التوربشتي : يحتمل أنه أصدر ذلك منه بادرة النفس ، كما وقع لغيره ممن صحت توبته ، إذا لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب ، قال : بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب ، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة . انتهى .
ولما همّ عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - بضرب عنقه في قصة الظعينة ، قال حاطب : لا تعجل عليّ يا رسول الله ! والله ! إني لمؤمن بالله ورسوله ، وما ارتددت ولا بدلت ، فأقرّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وكف عمر عنه ، وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لعمر : < إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم > ، فذرفت عينا عمر . . . . الحديث .
ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه ستراً عليه كيلا يغض من مقامه ، وهكذا ليكن الأدب ، وكفانا أصلاً عظيماً في هذا الباب إبهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة ، فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب ، هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : والراجح رواية الأكثر ، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك ، ثم قال الحافظ ابن حجر : وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها وهي قوله تعالى : { أَلم تَرَ } الخ فروى إسحاق بن راهويه في " تفسيره " بإسناد صحيح عن الشعبي ، قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ، لأنه علم أنهم يأخذونها ، فأنزل الله هذه الآيات ، إلى . . . . { وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } .
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد ، نحوه .
وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب .
وروي بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد ؛ أنه كعب بن الأشرف . انتهى .
وقال ابن كثير : ذكر سبب آخر غريب جداً ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ابن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى بينهما ، فقال المقضي عليه : ردنا إلى عُمَر بن الخطاب ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : نعم انطلقا إليه ، فلما أتيا إليه ، فقال الرجل يا ابن الخطاب ! قضى لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على هذا ، فقال : ردنا إلى عُمَر بن الخطاب فرددنا إليك ، فقال : أكذاك ؟ قال : نعم : فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما ، فخرج إليه مشتملاً على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر ، فقتله ، وأدبر الآخر ، فأتى إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول ! قتل عمر ، والله ! صاحبي ، ولولا أني أعجزته لقتلني .
فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن > ، فأنزل الله : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله ، فكره الله أن يسن ذلك بعد ، فأنزل : { لَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } الآية وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به ، وهو أثر غريب مرسل ، وابن لهيعة ضعيف ، والله أعلم .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في " تفسيره " : حدثنا شعيب بن شعيب ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عُتْبَةُ بن حمزة ، حدثني أبي ، أن رجلين اختصما إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضي عليه : لا أرضى ، فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قضى له : قد اختصمنا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى لي ، فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأبى صاحبه أن يرضى ، فقال : نأتي عُمَر بن الخطاب ، فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، فسأله عُمَر بن الخطاب ، فقال كذلك فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده سله ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى ، فقتله ، فأنزل الله : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : روى الكلبي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف ، فذكر القصة ، وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق ، وهذا الإسناد ، وإن كان ضعيفاً ، لكن تقوى بطريق مجاهد ، ولا يضره الاختلاف ، لإمكان التعدد .
وأفاد الواحدي بإسناد صحيح عن سعيد عن قتادة أن اسم الأنصاري المذكور قيس ، ورجح الطبري في " تفسيره " وعزاه إلى أهل التأويل في " تهذيبه " أن سبب نزولها هذه القصة ، ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد ، قال : ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك .
ثم قال : ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية ، والله أعلم . انتهى .
قال الرازيّ : اعلم أن قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قسمٌ من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط :
أولها : قوله تعالى : { حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمناً .
الشرط الثاني : قوله : { ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ } واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضياً في الظاهر دون القلب ، فبين ، في هذه الآية ، أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب ، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر ، فليس المراد من الآية ذلك بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق .
الشرط الثالث : قوله : { وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقاً وصدقاً ، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول ، فبين تعالى أنه ، كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب ، فلا بد أيضاً من التسليم معه في الظاهر ، فقوله : { ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ } المراد به الانقياد في الباطن ، وقوله : { وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } المراد منه الانقياد في الظاهر ، والله أعلم .
الثالث : قال الرازيّ : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس ، لأنه لا يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق ، وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره ، ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف ، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس ، وقوله : { ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ } مشعر بذلك ، لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص ، فهناك يحصل الحرج في النفس ، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه ، إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ، ويسلم النص تسليماً كلياً ، وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف .
الرابع : ( لا ) في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ } قيل إنها ردٌّ لمقدر ، أي : تفيد نفي أمر سبق ، والتقدير : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ، ثم استأنف القسم بقوله : { وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ } وقيل : مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد أعني الجواب ، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن ، وقيل : إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم ، وارتضاه الزمخشريّ ، قال كما زيدت في : { لِئَلّا يَعْلم } [ الحديد : من الآية 29 ] لتأكيد وجوب العلم ، قال في " الانتصاف " يشير إلى أن ( لا ) لما زيدت مع القسم ، وإن لم يكن المقسم به ، دَلَّ ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم ، فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفياً ، تعين جعلها لتأكيد القسم ، طرداً للباب ، أو الظاهر عنده ، والله أعلم ، أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه ، والزمخشريّ لم يذكر مانعاً من ذلك ، وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات ، وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة ، على أن في دخولها على القسم المثبت نظراً ، وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم حيث يكون بالفعل ، مثل : { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } [ البلد : 1 ] : { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنّسِ } [ التكوير : 15 ] : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] : { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 - 39 ] ، ولم تدخل أيضاً إلا على القسم بغير الله تعالى ، ولذلك شرٌّ يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم ، ويعين كونها للتوطئة : وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به ، إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له ، فكأنه بدخولها يقول : إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ، كلا إعظام ، يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك ، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعاً لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم ، وللإقسام بها ، فيزاح هذا الوهم بالتأكيد ، في إبراز فعل القسم مؤكداً بالنفي المذكور ، وقد قرر الزمخشريّ هذا المعنى في دخول ( لا ) عند قوله : { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } على وجه مجمل ، هذا بسطه وإيضاحه ، فإذا بين ذلك ، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله ، مندفع في الإقسام بالله ، فلا يحتاج إلى دخول ( لا ) مؤكدة للقسم ، فيتعين حملها على الموطئة ، ولا تكاد تجدها ، في غير الكتاب العزيز ، داخلة على قسم مثبت ، وأما دخولها في القسم ، وجوابه نفي ، فكثير مثل :
~فَلاَ وأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيّ لاَ يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنَّي أَفرّ
وكقوله :
~أَلاَ نَادَتْ أُمَامةُ باحتمالٍٍ لِتَحْزنَنِي ، قَلاَ بِكِ مَا أُبَالِي
وقوله :
~رأَىَ بَرْقاً فَأَوضع فوق بَكْرٍٍ فَلاَ بِكِ مَا أَساَل وَلا أغاما
وقوله :
~فَخَالِفْ فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً من الأرض إلاَّ أنت للذلِّ عَارفٌ
وهو أكثر من أن يحصى ، فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل . انتهى .
الخامس : أعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بأن رواه جامعو الصحاح ، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث ، فهو مما تشمله هذه الآية ، أعني قوله تعالى : { مّمّا قَضَيْتَ } فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهراً وباطناً ، وإلا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله ، بخلاف ظاهره ، لتمذهب تقلَّده وعصبية رُبِيَ عليها ، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله - فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية ، الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة .
قال الإمام الشافعيّ في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال : أرسله عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا ، فذهبت معه إلى عمر ، فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية ، فقال : أما الفراش فلفلان ، وأما النطفة فلفلان ، فقال : صدقت ، ولكن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى بالفراش .
قال الشافعيّ : وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال : أخبرني مخلد بن خفاف قال : ابتعت غلاماً فاستغللته ، ثم ظهرتُ منه على عيب فخاصمت فيه إلى عُمَر بن عبد العزيز ، فقضى لي برده ، وقضى عليّ برد غلته ، فأتيت عروة فأخبرته فقال : أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى في مثل هذا ، أن الخراج بالضمان ، فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال عُمَر بن عبد العزيز : فما أيسر عليّ من قضاء قضيتُه ، والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق - فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به عليّ له .
قال الشافعيّ : وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال : قضى سعيد بن إبراهيم على رجل ، بقضية ، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فأخبرته عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بخلاف ما قضى به ، فقال سعد لربيعة : هذا ابن أبي ذئب ، وهو عندي ثقة ، يخبرني عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بخلاف ما قضيت به ، فقال له ربيعة : قد اجتهدت ومضى حكمك ، فقال سعد : واعجباً ، أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردّ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول لله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فدعى سعد بكتاب القضية فشقه ، فقضى للمقضي عليه .
قال الشافعيّ : أخبرنا أبو حنيفة بن سِمَاك بن الفضل الشهابي ، قال : حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال عام الفتح : < مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود > .
قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا ، يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري وصاح عليّ صياحاً كثيراً ، ونال مني وقال : أحدثك عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وتقول أتأخذ به ؟ نعم ، آخذ به ، وذلك القرض عليّ وعلى من سمعه ، إن الله تبارك وتعالى اختار محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه ، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك .
وما سكت حتى تمنيت أن يسكت . انتهى .
قال الإمام الفُلاني في " إيقاظ الهمم " بعد نقل ما مرّ : تأمل فعل عُمَر بن الخطاب وفعل عُمَر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم ، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين ، أن حكم الحاكم المجتهد ، إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية ، بأن يقال : لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له ، أو أنه اطلع على دليل آخر ، ونحو هذا ، مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين ، وأطبق عليه جهلة المقلدين فافهم . انتهى .
وقال ولي الدين التبريزي في " مشكاة المصابيح " في ( الفصل الثالث عشر ) من ( باب الجماعة وفضلها ) : وعن بلال بن عبد الله بن عُمَر عن أبيه قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنِ الْمَسَاجِدِ . إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ > ، فقال بلال : والله ! لنمنعهن ، فقال عبد الله : أقول : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وتقول أنت : لنمنعهن ؟ ( وفي رواية سالم عن أبيه ) قال : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبّاً ما سمعت سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وتقول : والله ! لنمنعهن .
رواه مسلم ، وعن مجاهد عن عبد الله بن عُمَر أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد > ، فقال ابنٌ لعبد الله بن عُمَر : فإنا نمنعهن ، فقال عبد الله أحدثك عن رسول الله وتقول هذا ؟ قال فما كلمه عبد الله حتى مات ، رواه الإمام أحمد .
وقال الطيبي شارح " المشكاة " : عجبت ممن سمي بالسني ، إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي ، راجح رأيه عليها ، وأي فرق بينه وبين المبتدع ؟ أما سمع : < لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به > ؟ وها هو ابن عمر ، وهو من أكابر الصحابة وفقهائها ، كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة ، عبرة لأولي الألباب .
وروى الإمام مسلم في " صحيحه " في ( كراهة الخذف ) قبيل ( كتاب الأضاحي ) ، عن سعيد بن جبير أن قريباً لعبد الله بن مُغَفَّل حذف ، قال فنهاه وقال : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عن الخذف ، وقال : < إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً ، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ > ، فقال فعاد ، فقال : أحدثك أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عنه ثم تخذف ، لا أكلمك أبداً .
قال النووي : فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق ، وأنه يجوز هجرانهم دائماً ، فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما هجر أهل البدع ، فيجوز على الدوام ، كما يدل عليه هذا مع نظائر له ، لحديث كعب بن مالك .
قال السيوطيّ : وقد ألفت مؤلفاً سميته " الزجر بالهجر " لأني كثير الملازمة لهذه السنة .
أقول : حديث الخذف ساقه الحافظ الدارمي في " سننه " تحت باب ( تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حديثه فلم يعظمه ولم يوقره ) ورواه من طرق متنوعة ، وفي بعضها : أحدثك أني سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ينهى عن الخذف ثم تخذف ؟ والله ! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبداً .
وأسند الدارمي في هذا الباب عن قتادة عن ابن سيرين ؛ أنه حدث رجلاً بحديث عن الني صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال رجل : قال فلان وفلان : كذا وكذا ! فقال ابن سيرين : أحدثك عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وتقول : قال فلان وفلان ؟ لا أكلمك أبداً ، وأسند أيضاً فيه عن عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عَمْرة ، فقال له : لا تبرح حتى تصلي ، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق ، إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد ، فقال : إن أصحابي بالحرة ، قال فخرج ، قال : فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه .
وذكر الدرامي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قبل هذا الباب ( باب ما يتّقى من تفسير حديث النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وقول غيره عند قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ) وأسند عن معتمر عن أبيه عن ابن عباس أنه قال : أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا : قال رسول الله ، وقال فلان .
قال الإمام شمس الدين بن القيم في " أعلام الموقعين " : ترى كثيراً من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده ، وقد خالفه راويه يقول : الحجة فيما روى لا في قوله ، فإذا جاء قول الراوي موافقاً لقول من قلده ، والحديث يخالفه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه وإلا وقد صح عنده نسخه ، وإلا كان قدحاً في عدالته ، فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا ، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد ، وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين الله به ، ولا يسعنا غيره ، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كان ، لا رواية ولا غيره : إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة ، أو أن يتأول فيه تأويلاً مرجوحاً ، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضاً في نفس الأمر ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه ، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ، ولو قدّر انتقاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوماً ، ولم توجب مخالفته ، لما رواه ، سقوط عدالته ، حتى تغلب سيئاته حسناته ، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك .
وقال الفلاني رحمه الله تعالى في " الإيقاظ " قال عثمان بن عُمَر : جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كذا وكذا ، فقال الرجل : أرأيت ؟ فقال مالك : { فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال مالك : لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم : لم قلت هذا ؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها .
قال الجنيد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( فتوى له ) قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه ، في كل ما أمر به ونهى عنه ، إلا رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ورضي عنه يقول : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ، واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهو الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه ، وذلك هو الواجب ، وقال أبو حنيفة : هذا رأيي ، وهذا أحسن ما رأيت ، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه ، أبو يوسف بإمام دار الهجرة ، مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع ، وصدقة الخضروات ، ومسألة الأحباس ، فأخبره مالك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - بما دلت عليه السنة في ذلك ، فقال : رجعت لقولك يا أبا عبد الله ، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
ومالك رحمه الله كان يقول : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة : أو كلام هذا معناه .
والشافعي رحمه الله كان يقول : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ، وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي .
ثم قال ابن تيمية : وإذا قيل لهذا المستفني المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضة فاسدة ، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ، ولست من هذا ولا من هذا ، ولكن نسبه هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وأبن مسعود وأُبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم ، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله ، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع آخر ، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة ، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب ، وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - وغيره ، لما احتج بالكتاب والسنة ، وتركوا قول عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في دية الأصابع ، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان ، لما كان من السنة أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < هذه وهذه سواء > ، وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة ، فقال له : قال أبو بكر وعمر ، فقال ابن عباس : يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ، وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما ، لما سألوه عنها ، فأمر بها فارضوه بقول عمر ، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه ، فألحوا عليه فقال لهم ، أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته ، وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله : { اتّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، والله سبحانه أعلم . انتهى .
وقال الإمام ابن القيم في خطبة " زاد المعاد " : فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته ، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة ، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة ، وقد أقسم صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكمه في كل ما تنازعه فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به ، ثم يسلم له تسليماً ، وينقاد له انقياداً ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍٍ وَلا مُؤْمِنَةٍٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : من الآية 36 ] ، فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله ، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بل إذا أمر فأمره حتم ، وإنما الخيرة في قوله غيره ، إذا خفي أمره ، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته ، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع ، لا واجب الاتباع ، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه ، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه ، ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن عاصياً لله ورسوله ، فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله ، فلا حكم لأحد معه ، ولا قول لأحد معه ، كما لا تشريع لأحد معه ، وكل حي سواه ، فإنما يجب اتباعه على قوله ، إذا أمر بما أمر به ونهى عما نهى عنه ، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً ، لا منشئاً ومؤسساً ، فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد ، بحسب فهمه وتأويله ، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها ، حتى تعرض على ما جاء به ، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة ، قبلت حينئذ ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها ، وإن لم يتبين فيها أحد الأمرين ، جعلت موقوفة ، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها ، وأما أنه يجب ويتعين ، فكَلاّ . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً } [ 66 ]
{ وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } قال الرازيّ : اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الإخلاص وترك النفاق ، والمعنى : إنا لو شدّدنا التكليف على الناس ، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان ، لصعب ذلك عليهم ، ولما فعله إلا الأقلون ، وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم ، فلما لم نفعل ذلك ، رحمة منا على عبادنا ، بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة ، فليقبلوها بالإخلاص ، وليتركوا التمرد والعناد ، حتى ينالوا خير الدارين . انتهى .
ونقله فيما بعد عن ابن عباس ، وعليه فمرجع الضمير في ( عَلَيْهِمْ ) إلى المنافقين ، وثمة وجه آخر ، وهو عوده إلى الناس كافة ، ويكون المراد بـ ( القليل ) المؤمنين ، وأما الضمير في قوله : { وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ } فهو مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً ، قرره الرازيّ ، روى ابن جريج بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي قال : لما نزلت : { وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : < إن من أمتي لرجالاً ، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي > ، ورواه ابن أبي حاتم نحوه ، وأسند عن السديّ قال : افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله ! لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا ، فقال ثابت : والله ! لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا ، فنزلت الآية ، وأسند أيضاً عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم ، وأسند أيضاً عن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذه الآية ، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال : لو أن الله كتب ذلك ، لكان هذا من أولئك القليل .
تنبيهات :
الأول : قال بعض المفسرين : أراد حقيقة القتل والخروج من الديار ، وقيل : أراد التعرض للقتل بالجهاد ، وأراد الهجرة بالخروج من الديار ، والمعنى : لو أمر المنافقون ، كما أمر المؤمنون ، ما فعلوه . انتهى .
والقول الثاني بعيد ، لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلا لضرورة ، ولمنافاته للآثار المذكور الصريحة في الأول .
الثاني : الضمير في ( فعلوه ) للمكتوب الشامل للقتل والخروج ، لدلالة ( كتبنا ) عليه ، أو هو عائد على أحد مصدري الفعلين ، قال الخفاجي : وللعطف بـ ( أو ) لزم توحيد الضمير . انتهى .
أقول : ذكر الشيخ خالد في " التصريح " أن إفراد الضمير في العطف بـ ( أو ) رأي البصريين ، والتثنيةُ رأي الكوفيين ، فأفاد جواز الوجهين ، قال محشيه العلامة يس : الذي نص عليه ابن مالك أن ( أو ) التي للشك والإبهام يفرد بعدها الضمير ، والتي للتنويع يطابق ، نحو قوله تعالى : { إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : من الآية 135 ] ، ونص على ذلك ابن هشام في " المغني " في ( بحث الجملة المعترضة ) ، فقال ( في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّا أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } ) : الظاهر أن الجواب : فالله أولى بهما ، ولا يرد ذلك تثنية للضمير كما قد توهموا ، لأن ( أو ) هنا للتنويع ، حكمها حكم ( الواو ) في وجوب المطابقة ، نص عليه الأبدي وهو الحق . انتهى .
وبه يعلم أن ما اشتهر من أنه إذا ذكر متعاطفان بـ ( أو ) فإنه يعاد الضمير إلى أحدهما - ليس على عمومه .
الثالث : قرأ ابن عامر ( قليلاً ) بالنصب على الاستثناء ، والباقون بالرفع بدلاً من الضمير المرفوع : { وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي : من متابعة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وطاعته والانقياد لما يحكم به ظاهراً وباطناً ، وسميت أوامر الله ونواهيه مواعظ ، لاقترانها بالوعد والوعيد : { لَكَانَ } أي : فعلهم ذلك : { خَيْراً لّهُمْ } في عاجلهم : { وَأَشَدّ تَثْبِيتاً } أي : لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذاً لّآتَيْنَاهُم مّن لّدُنّا أَجْراً عَظِيماً } [ 67 ]
{ وَإِذاً لّآتَيْنَاهُم مّن لّدُنّا } أي : من عندنا .
{ أَجْراً } أي : ثواباً : { عَظِيماً } يعني الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } [ 68 ]
{ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } أي : لثبتناهم في الدنيا على دين قويم نرتضيه ، وهو الإسلام ، ثم بين تعالى فضل الطاعة وأن ثمرتها مرافقة أقرب عَبَّاد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَاء وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ 69 ]
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم } ولم يذكر المنعَم به إشعاراً بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه .
{ مّنَ النّبِيّينَ } الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام ، وأمرهم بإنبائها الخلق ، كلّاً بمقدار استعداده .
{ وَالصّدّيقِينَ } جميع صديق ، وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة ، وباطنه بالمراقبة ، أو الذي يصدق قوله بفعله كذا في " المدارك " .
قال الرازيّ : للمفسرين ( في الصديق ) وجوه :
الأول : أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق ، والدليل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُون } [ الحديد : من الآية 19 ] .
الثاني : قال قولهم : الصديقون أفاضل أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
الثالث : أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام .
فصار في ذلك قدوة لسائر الناس ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أولى الخلق بهذا الوصف ، ثم جوّد الرازيّ الكلام في سبقه - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - إلى التصديق ، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك ، فانظره .
{ وَالشّهَدَاء } الذين استشهدوا في سبيل الله تعالى .
{ وَالصّالِحِينَ } الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم .
{ وَحَسُنَ أُولَئِكَ } إشارة إلى النبيين والصديقين وما بعدهما .
{ رَفِيقاً } يعني في الجنة ، والرفيق الصاحب ، سمي رفيقاً لارتفاقك به وبصحبته ، وإنما وحدّ ( الرفيق ) وهو صفة الجمع ، لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع ، كالصديق والخليط ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، مؤكد للترغيب والتشويق .
قال الزمخشريّ : فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقاً ! ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ ( وحسْن ) بسكون السين .
تنبيهات :
الأول : قال الرازيّ : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين . . . . إلخ - كون الكل في درجة واحدة ، لأن هذا يقتضي التسوية ي الدرجة بين الفاضل والمفضول ، وأنه لا يجوز ، بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد المكان ، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضاً ، وإذا أرادوا الزيادة قدروا عليه ، فهذا هو المراد من هذه المعية .
الثاني : دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف ، وهو كون الإِنسَاْن صديقاً ، ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة .
كما قال تعالى في وصف إسماعيل : { إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [ مريم : من الآية 54 ] ، وفي صفة إدريس : { إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نَبِيّاً } [ مريم : من الآية 56 ] ، وقال في هذه الآية : { مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة ، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية ، ولا متوسط بينهما ، وقال في آية أخرى : { وَالّذِي جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ } [ الزمر : من الآية 33 ] ، فلم يجعل بينهما واسطة ، وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة ، فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة ، حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر ، على سبيل الإجماع ، ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية ، لا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها ، أفاده الرازيّ .
الثالث : روى الطبري في سبب نزولها عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو محزون ، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : يا فلان ! ما لي أراك محزوناً ! فقال : يا نبي الله ! شيء فكرت فيه ، فقال : ما هو ! قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك ، غداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك ، فلم يرد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم شيئاً ، فأتاه جبريل بهذه الآية : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ } إلخ ، فبعث النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فبشره ، وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق وعن عِكْرِمَة وعامر الشعبي وقتادة وعن الربيع بن أنس ، وهو من أحسنها سنداً : قال الطبري : حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال ( في هذه الآية ) : إن أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قالوا : قد علمنا أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم له فضله على من آمن به في درجات الجنة ، ممن اتبعه وصدقه ، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضاً ؟ فأنزل الله في ذلك هذه الآية ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ الْأَعْلَيْنَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَل مِنْهُمْ ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي رِيَاضها فَيَذْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ وَيَنْزِل لَهُمْ أَهْل الدَّرَجَات فَيَسْعَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ وَمَا يَدْعُونَ بِهِ فَهُمْ فِي رَوْضَة يُحْبَرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ فِيهِ > .
ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً عن عائشة ، قالت : جاء رجل إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول الله ! إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك ، فما أصبر حتى آتيك ، فانظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك ، إذا دخلت الجنة ، رفعت مع النبيين ، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك ، فلم يرد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حتى نزلت عليه : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ } الآية ، وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في " صفة الجنة " بإسناد قال فيه : لا أرى به بأساً .
الرابع : روي في السنة في معنى هذه الآية أخبار وافرة ، منها : في صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأتيته بوضوء وحاجته فقال لي : سل : فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة فقال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك ، قال : < فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسك بِكَثْرَةِ السُّجُود > .
ومنها في مسند الإمام أحمد عن عَمْرو بن مرة الجُهَنِي : قال : جاء رجل إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول الله ! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وصليت الخمس وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا - وَنَصَبَ أُصْبُعَيْهِ - مَا لَمْ يَعُقّ وَالِدَيْهِ > .
قال ابن كثير : تفرد به أحمد ، ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضاً عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ قَرَأَ أَلْف آيَة فِي سَبِيل اللَّه تبارك وتعالى كُتِبَ يَوْم الْقِيَامَة مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً > ، إن شاء الله تعالى .
ومنها ما رواه الترمذيّ عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < التَّاجِر الصَّدُوق الْأَمِين مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء > .
قال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ، ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ فقال : < الْمَرْء مَعَ مَنْ أَحَبّ > .
قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث .
وفي رواية عن أنس أنه قال : إِنِّي لَأُحِبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُحِبّ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَأَرْجُو أَنَّ [ اللَّه ] يَبْعَثنِي مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَل كَعَمَلِهِمْ .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ أَهْل الْجَنَّة لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْل الْغُرَف مِنْ فَوْقهمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَب الدُّرِّيّ الْغَابِر فِي الْأُفُق مِنْ الْمَشْرِق أَوْ الْمَغْرِب لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنهمْ > ، قالوا : يا رسول الله ! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : < بَلَى وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَال آمَنُوا بِاَللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ > ، أخرجها في الصحيحين من حديث الإمام مالك ، واللفظ لمسلم ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً } [ 70 ]
{ ذَلِكَ } مبتدأ ، إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم ، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم ، فالمشار إليه إما جميع ما قبله أو ما يليه .
{ الْفَضْلُ } صفة : { مِنَ اللّهِ } خبره ، أي : ذلك الفضل العظيم من الله تعالى لا من غيره ، أو : { الْفَضْلُ } خبر ، و : { مِنَ اللّهِ } حال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، أي : ذلك الثواب ، لكمال درجته ، كأنه هو الفضل ، وإن ما سواه ليس بشيء موجوداً وكائناً من الله تعالى ، لا أن أعمال المكلفين توجيه .
قال الناصر في " الانتصاف " : معتقدنا ، معاشر أهل السنة ، أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص ، خلقُ الله تعالى وفعله ، وإن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم ، بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها ، فالطاعة إذاً من فضله ، فله الفضل على كل حال ، والمنة في الفاتحة والمآل ، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة : فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام : < لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله > قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : < ولا أنا ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بفضل مِنْهُ وَبِرَحْمَةٍ > ، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، اللهم ! اختم لنا باقتفاء السنة ، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة . انتهى كلام الناصر .
والحديث المذكور أخرجه الشيخان عن أبي هريرة : { وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً } بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله .
قال الرازيّ : وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله ، لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفية الجزاء والتفضل ، وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة ، والاحتراز عن التقصير فيه ، ثم أعاد تعالى ، بعد الترغيب في طاعته وطاعة رسوله ، الأمر بالجهاد الذي تقدم ، لأنه أشق الطاعات وأعظم الأمور التي يحصل بها تقوية الدين ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍٍ أَوِ انفِرُواْ جَميعاً } [ 71 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي : تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم ، يقال : أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ، ويطلق الحذر على ما يحذر به ويصون ، كالسلاح والحزم ، أي : استعدوا للعدو ، والحذر على هذا حقيقة ، وعلى الأول من الكناية والتخييل ، بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية .
قال في " الإكليل " : فيه الأمر باتخاذ السلاح ، وأنه لا ينافي التوكل .
قال بعض المفسرين : دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر ، وهو الحزم ، من العدو ، وترك التفريط ، وكذلك ما يحذرونه وهو استعمال السلاح على أحد التفسيرين ، فتكون الرياضة بالمسابقة والرهان في الخيل ، من أعمال الجهاد .
{ فَانفِرُواْ } أي : أخرجوا إلى الجهاد .
{ ثُبَاتٍٍ } جمع ( ثبة ) بمعنى الجماعة ، كما في القاموس ، أي : جماعات متفرقين ، سرية بعد سرية ، وفرقة بعد فرقة إظهاراً للجراءة .
{ أَوِ انفِرُواْ جَميعاً } أي : مجتمعين كلكم كوكبة واحدة ، إيقاعاً للمهابة بتكثير السواد ، ومبالغة في التحرز عن الخطر .
قال الحاكم : اتفق العلماء على أن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنّ مِنكُمْ لمن لّيُبَطّئَنّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عليّ إِذْ لم أَكُن مّعَهُمْ شَهِيداً } [ 72 ]
{ وَإِنّ مِنكُمْ لمن لّيُبَطّئَنّ } أي : ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد والخروج مع الجماعة لنفاق ، أو معناه : ليثبطن غيره ، كما كان المنافقون يثبطون غيرهم ، وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أُبي ، وهو الذي ثبط الناس يوم أُحُد ، وقد روي عن كثير من التابعين أن الآية نزلت في المنافقين ، فإن ما حكي عنهم هو دأبهم ، وقيل : الخطاب للمؤمنين وقوفاً مع صدر الآية ، فإن قال : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } ثم قال : { وَإِنّ مِنكُمْ } وقد قال تعالى في المنافقين : { مَا هُم مّنكُمْ } .
قال الحاكم : والتقدير على القول الأول : وإن منكم ، على زعمه ، في الظاهر أو في حكم الشرع .
{ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مّصِيبَةٌ } كهزيمة ، وشهادة ، وغلب العدو لكم ، لما لله في ذلك من الحكمة .
{ قَالَ } أي : المبطئ فرحاً بصنعه ، ومعجباً برأيه .
{ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عليّ } بالقعود : { إِذْ لم أَكُن مّعَهُمْ شَهِيداً } أي : حاضراً في المعركة ، فيصيبني ما أصابهم ، يعدّ ذلك من نعم الله عليه ، ولم ير ما فاته من الأجر في الصبر ، أو الشهادة إن قتل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مّنَ الله لَيَقُولَنّ كَأَن لم تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ 73 ]
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مّنَ الله } كفتحٍٍ ، وغنيمةٍٍ ، ونصرٍٍ ، وظفرٍٍ ، ونسبة إصابة الفضل إلى جنابه تعالى ، دون إصابة المصيبة ، من العادات الشريفة التنزيلية ، كما في قوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] .
{ لَيَقُولَنّ } ندامة على تثبطه وقعوده ، وتهالكاً على حطام الدنيا ، وتحسُّراً على فواته .
{ كَأَن لم تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ } أي : صلة في الدين ، ومعرفة بالصحبة .
{ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } فأصيب غنائم كثيرة ، وحظاً وافراً .
وقوله تعالى : { كَأَن لم } إلخ ، اعتراض بين الفعل وهو : { لَيَقُولَنّ } ومفعوله وهو : { يَا لَيْتَنِي } الخ للتنبيه على ضعف عقيدتهم ، وأن قولهم هذا قول من لم تتقدم له معكم موادة ، لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن ، وفيه تعجيب أيضاً من قولهم المذكور .
قال بعض المفسرين : ثمرة ذلك تأكيد وجوب الجهاد وتحريم التثبيط عنه . انتهى .
ولما ذم تعالى المبطئين عن الجهاد ، رغّب المؤمنين فيه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ 74 ]
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي : يبيعونها بها وهم المؤمنون الذي يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها ، والمعنى : إن صد الذين في قلوبهم مرض ، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة ، ويقال : عني بالموصول المنافقين المبطئين ، أي : الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة ، فيكون وعظاً لهم بأن يبدلوا التثبيط بالجهاد .
{ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ } أي : يستشهد .
{ أَو يَغْلِبْ } أي : يظفر على العدوّ .
{ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } نعطيه : { أَجْراً عَظِيماً } ثواباً وافراً .
روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَاداً فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَاناً بِي وَتَصْدِيقاً بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِناً أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ > . ( لفظ مسلم ) .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالم أَهْلُهَا وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ وَلِيّا وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ نَصِيراً } [ 75 ]
{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } خطاب للمأمورين بالقتال ، على طريقة الالتفات ، مبالغةً في التحريض عليه ، وتأكيداً لوجوبه .
وقوله تعالى : { وَالمسْتَضْعَفِينَ } مجرور ، عطفاً على اسم الله ، أي : في سبيل المستضعفين الذين هم كأنفسكم ، وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو ، أو على السبيل ، بحذف المضاف ، أي : في خلاص المستضعفين ، أو منصوب على الاختصاص ، يعني : وأختص من سبيل الله خلاص المستضعفين ، لأن سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه .
قال في " الانتصاف " : وفي النصب مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين :
إحدهما : التخصيص بعد التعميم ، فإنه يقتضي إضمار الناصب الذي هو أختص ، ولولا النصب لكان التخصيص معلوماً من إفراده بالذكر ، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم ، بأن أخرجه إلى النطق .
{ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ } بيان للمستضعفين ، أو حال منهم ، وهم المسلمون الذين صدّهم المشركون عن الهجرة ، فبقوا بمكة مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد ، وكان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يدعو لهم فيقول : < اللَّهُمْ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ > ، كما في الصحيح .
وإنما ذكر ( الولدان ) معهم ، تكميلاً للاستعطاف واستجلاب المرحمة ، وتنبيهاً على تناهي ظلم المشركين ، بحيث بلغ أذاهم الصبيان ، وإيذاناً بإجابة الدعاء الآتي بسبب مشاركتهم في الدعاء .
{ الّذِينَ يَقُولُونَ } من إيذاء أهل مكة وإذلالهم إياهم ، متبرئين من المقام بها .
{ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالم أَهْلُهَا } أي : بالشرك الذي هو ظلم عظيم ، وبأذية المسلمين ، وهي مكة ، و ( الظالم ) صفتها ، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه ، فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أُجري على غير من هو له ، كان كالفعل في التذكير والتأنيث ، بحسب ما عمل فيه ، قاله أبو السعود .
{ وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ وَلِيّا } أي : سخر لنا من عندك حافظاً يحفظ علينا ديننا .
{ وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ نَصِيراً } ناصراً يدفع عنا أذيّات أعدائنا ، أو المعنى : واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة ، أي : لتكن أنت ولينا وناصرنا ، وقد استجاب الله عز وجل دعائهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر ، ففتح مكة على نبيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فتولاهم أي : تولٍّ ، ونصرهم أية نصرة ، حتى صاروا أعزّ أهلها .
وروى البخاريّ بالسند إلى ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين ، وبه إليه قال : كانت أمي ممن عذر الله .
قال الرازيّ : معنى الآية : لا عذر لكم في ترك المقاتلة ، وقد بلغ حال المستضعفين من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف ، فهذا حث شديد على القتال ، وبيان العلة التي صار لها القتال واجباً ، وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة ، لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير . انتهى .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : ثمرة هذه الآية تأكيد لزوم الجهاد ، لأنه تعالى وبخ على تركه ، تدل الآية على لزوم استنقاذ المسلم من أيدي الكفار ، ويأتي مثل هذا استنقاذه من كل مضرة ، من ظالم أو لص وغير ذلك ، ووجه مأخذ ذلك ، أنه تعالى جعل ذلك كالعلم للانقطاع إليه ، وتدل على أن حكم الولدان حكم الآباء ، لأن الظاهر أنه أراد الصغار .
قال الزمخشريّ : ويجوز أن يراد بالرجال والنساء ، الأحرارَ والحرائر ، وبالولدان ، العبيد والإماء ، لأن العبد والأمة يقال لهما : الوليد والوليدة ، وقيل ( للولدان والولائد ) : الولدان ، لتغليب الذكور على الإناث ، كما يقال : الآباء والإخوة ، وتدل الآية على أن للداعي حقاً عند الله ، لأنه جعل ذلك اختصاصاً لنصرته ، وتدل على لزوم الهجرة من ديار الكفر ، وأن المؤمن لا يذل نفسه بجعله مستضعفاً ، لأنه تعالى أوجب المقاتلة لزوال الغلبة عليهم ، وفي الآيات هذه تأكيدات متتابعة على لزوم الجهاد .
لطيفة :
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : وقفت على نكتة في هذه الآية حسنة ، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز ، فالظلم ينسب إليها بطريق المجاز ، كقوله : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً } إلى قوله : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ } [ النحل : من الآية 112 ] ، وقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : من الآية 58 ] ، وأما هذه القرية ( في سورة النساء ) فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة ، لأن المراد بها مكة ، فوقرت عن نسبة الظلم إليها ، تشريفاً لها ، شرفها الله تعالى ، ثم شجع تعالى المؤمنين ورغبّهم في الجهاد بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [ 76 ]
{ الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } يعني في طاعته لإعلاء كلمته ، فهو وليهم وناصرهم .
{ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ } في طاعة الشيطان الآمر بغاية الطغيان ، كإيذاء المستضعفين من المؤمنين وقتال أقويائهم .
{ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشّيْطَانِ } أي : جنده .
قال أبو السعود : وذكرهم بهذا العنوان للدلالة على أن ذلك نتيجة لقتالهم في سبيل الشيطان ، والإشعار بأن المؤمنين أولياء الله تعالى لما أن قتالهم في سبيله ، وكل ذلك لتأكيد رغبة المؤمنين في القتال وتقوية عزائمهم عليه ، فإن ولاية الله تعالى علم في العزة والقوة ، كما أن ولاية الشيطان مثل في الذلة والضعف ، كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك ، فقاتلوا ، يا أولياء الله ! أولياء الشيطان ، ثم صرح في التعليل فقيل : { إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } أي : في حد ذاته ، فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى ، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى ، إيذاناً بظهورها .
قالوا : فائدة إدخال ( كان ) في أمثال هذه المواقع التأكيد ببيان أنه منذ كان ، كان كذلك ، فالمعنى : إن كيد الشيطان منذ كان ، كان موصوفاً بالضعف . انتهى .
( والكيد ) : السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه ، يقال : كاده يكيده ، إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه ، أفاده الرازيّ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ فَلما كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبّنَا لم كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍٍ قَرِيبٍٍ قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لمنِ اتّقَى وَلاَ تُظْلمونَ فَتِيلاً } [ 77 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ } وهم المؤمنون عند استئذانهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في القتال ، قبل أن يؤمروا به .
{ كُفّواْ أَيْدِيَكُمْ } أي : عن القتال ، فإنكم لم تؤمروا به .
{ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ } أي : أتموا الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها ، وما يجب فيها من مواقيتها ، وأعطوا زكاة أموالكم .
{ فَلما كُتِبَ } أي : فرض : { عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } أي : الجهاد في سبيل الله حين قوي حالهم .
{ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ } أي : طائفة منهم وهم المنافقون ، وإدخالهم المؤمنين لما كانوا يظهرونه من أنفسهم أنهم منهم .
{ يَخْشَوْنَ النّاسَ } أي : يخافون أهل مكة الكفار أن يقتلوهم .
{ كَخَشْيَةِ اللّهِ } أي : كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه .
{ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً } أي : أكثر خوفاً منه .
فإن قيل : ظاهر قوله : { أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً } يوهم الشك ، وذلك على علام الغيوب محال ، ( أجيب ) بأن ( أو ) إما بمعنى ( بل ) أو هي للتنويع على أن معنى : أن خشية بعضهم كخشية الله ، وخشية بعضهم أشد منها ، أو للإبهام على السامع ، بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة ، وهو قريب مما في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] يعني أن من يبصرهم يقول : إنهم مائة ألف أو يزيدون .
تنبيه :
حكى المفسرون هنا رواية عن ابن عباس ، أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة المهاجرين وأنهم كانوا يلقون من مشركي مكة ، قبل الهجرة ، أذىً شديداً ، فيشكون ذلك إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ويقولوا : ائذن لنا في قتالهم ، فيقول لهم النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كفوا أيدكم ، فإني لم أومر بقتالهم ، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة > ، ثم بعد الهجرة إلى المدينة ، لما أمروا بقتالهم في وقعة بدر ، كرهه بعضهم ، فنزلت الآية .
وعندي أن هذه الآية كسوابقها نزلت في المنافقين ، تقريعاً لهم وتحذيراً للمخلصين ، من شاكلتهم ، والقول بنزولها في بعض المؤمنين لا يصح لوجوه :
منها : أن في إسنادها عن ابن عباس من ليس على شرط الصحيح .
ومنها : أن طلبهم للجهاد وهم في مكة ، مع قلة العَدد والعُدَد ، وممالأة العدو عليهم من كل جانب في غاية البعد .
ومنها : أن السياق في المنافقين : وقد ابتدئ الكلام في شأنهم من قوله تعالى : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ } - إلى قوله تعالى الآتي - : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } الآية ، كما يظهر من التدبر الصادق .
ومنها : أن هذا السياق اشتمل على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين ، لأنه تعالى قال في وصفهم : { يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً } ولا يكون هذا الوصف إلا لكافر أو منافق ، وحكى تعالى عنهم أنهم قالوا : { وَقَالُواْ رَبّنَا لم كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } ولم يعهد هذا عن المؤمنين ، بل المحفوظ مبادرتهم للجهاد ، كما روى ابن إسحاق في " السيرة " أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم استشار الناس في غزوة بدر ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عُمَر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عَمْرو فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! امض لما أراك الله ، فنحن معك ، والله ! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : من الآية 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ! لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .
ثم قال سعد بن معاذ : امض ، يا رسول الله ! لما أردت ، فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوناً غداً ، إنا لصبُرٌ في الحرب صُدُق في اللقاء .
ومنها أنه تعالى ذكر بعد ذلك قوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } [ النساء : من الآية 78 ] ، ولا شك أن هذا من كلام المنافقين ، ثم صرح تعالى في آخر الكلام عليهم بقوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فزال اللبس وبرح الخفاء .
وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في ( سورة محمد ) : { وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزّلَتْ سورة } أي : تأمرنا بالجهاد : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سورة مّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } إلى قوله : { أَمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّهُ أَضْغَانَهُمْ } [ محمد : 29 ] .
{ وَقَالُواْ رَبّنَا لم كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } أي : الجهاد في سبيلك .
{ لَوْلا أَخّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍٍ قَرِيبٍٍ } أي : هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت بآجالنا .
{ قُلْ } أي : تزهيداً لهم فيما يؤملون بالقعود من المتاع الفاني ، وترغيباً فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي .
{ مَتَاعُ الدّنْيَا } أي : ما يتمتع وينتفع به في الدنيا .
{ قَلِيلٌ } سريع التقضي ، وشيك الانصرام ، وإن أخرتم إلى ذلك الأجل .
{ وَالآخِرَةُ } أي : ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد .
{ خَيْرٌ } أي : لكم من ذلك المتاع الفاني لكثرته وعدم انقطاعه ، وصفائه عن الكدورات ، وإنما قيل : { لمنِ اتّقَى } حثاً لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف .
{ وَلاَ تُظْلمونَ فَتِيلاً } عطف على مقدر ، ينسحب عليه الكلام ، أي : تجزون ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم ، التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال ، فلا ترغبوا عنه .
( والفتيل ) ما في شق النواة من الخيط ، يضرب به المثل في القلة والحقارة .
وقرئ : { يُظْلمونَ } بالياء ، إعادة للضمير إلى ظاهر ( مَن ) ، أفاده أبو السعود .
روى ابن أبي حاتم قال : قرأ الحسن : قل متاع الدنيا قليل ، قال : رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك ، وما الدنيا كلها ، أولها وآخرها ، إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه ، وقال ابن معين : كان أبو مصهر ينشد :
~وَلَا خَيْر فِي الدُّنْيَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ اللَّه فِي دَار الْمَقَام نَصِيب
~فَإِنْ تُعْجِب الدُّنْيَا رِجَالاً فَإِنَّهَا مَتَاع قَلِيل وَالزَّوَال قَرِيب
ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت ، لأنه لا خلاص لهم منه ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الموْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍٍ مّشَيّدَةٍٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ 78 ]
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ } أي : في أي : مكان تكونوا عند الأجل .
{ يُدْرِككّمُ الموْتُ } أي : الذي لأجله تكرهون القتال ، زعماً منكم أنه من مظانه ، وتحبون القعود عنه ، على زعم أنه منجاة منه ، أي : وإذا كان لا بد من الموت ، فبأن يقع على وجه يكون مستعقباً للسعادة الأبدية ، كان أولى من أن لا يكون كذلك ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الموْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتّعُونَ إِلّا قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 ] .
{ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍٍ } أي : حصون : { مّشَيّدَةٍٍ } أي : مرفوعة مستحكمة ، لا يصل إليها القاتل الْإِنْسَاْني ، لكنها لا تمنع القاتل الإلهي ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
~وَمَنْ هَابَ أَسْبَاب الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَاب السَّمَاء بِسُلَّمِ
وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم ههنا حكاية مطولة عن مجاهد ، والشاهد منها هنا ؛ أنها كانت أُخبرت بأنها تموت بالعنكبوت ، فاتخذ لها زوجها قصراً منيعاً شاهقاً ليحرزها من ذلك ، فبينما هم يوماً فإذا العنكبوت في السقف ، فأراها إياها فقالت : أهذه التي تحذرها عليّ ؟ والله ! لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف ، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها ، واسودت رجلها ، فكان في ذلك أجلها ، فماتت .
ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد ، خائفين من الموت ، غير راغبين في سعادة الآخرة ، أتبع ذلك بخلّة لهم أشنع ، بقوله سبحانه :
{ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها .
{ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ } أي : من قِبَلِه ، لما علم فينا الخير .
{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } كقحط وجدب ، وغلاء السعر ، ونقص في الزروع والثمار ، وموت أولاد ونتاج ، ونحو ذلك .
{ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } يعنون : من شؤمك ، كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطّيّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : من الآية 131 ] ، وعن قوم صالح : { قَالُوا اطّيّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } [ النمل : من الآية 47 ] .
قال أبو السعود : فأمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ، ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال ، إذ لا يجترؤون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل : { قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ اللّهِ } أي : كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى ، خلقاً وإيجاداً ، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون ، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلاً ، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة ، كما سيأتي بيانه ، فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ، رداً على أسلافهم من قوله تعالى : { أَلا إِنّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ } أي : إنما سبب خيرهم وشرهم ، أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم ، عند الله تعالى لا عند غيره ، حتى يسندوها إليه ويطيروا به .
{ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ } يعني المنافقين .
{ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } أي : قولاً ، والجملة اعتراضية مسوقة لتعبيرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجب من كمال غباوتهم ، إذ لو فقهوا شيئاً لعلموا مما يوعظون به ، أن الله هو القابض الباسط ، وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل الإحسان ، والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍٍ فَمِن نّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } [ 79 ]
{ مّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍٍ } أي : نعمة .
{ فَمِنَ اللّهِ } أي : فمن نعمته وتفضله ابتداءً .
{ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍٍ } أي : بلية .
{ فَمِن نّفْسِكَ } أي : من شؤمها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها ، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى ، نازلة من عنده عقوبة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مّن مّصِيبَةٍٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍٍ } [ الشورى : 30 ] .
روى ابن عساكر عن البراء - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يغفر الله أكثر > .
روى الترمذيّ عن أبي موسى الأشعري عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا يصيب عبداً نكتة فما فوقها أو دونها ، إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، قال وقرأ : { وَمَا أَصَابَكُم مّن مّصِيبَةٍٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍٍ } > .
لطيفة
الخطاب في : { أَصَابَكَ } عام لكل من يقف عليه ، لا للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كقوله :
~إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
ويدخل فيه المذكورون دخولاً أولياً ، وجوز أن يكون الخطاب له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قبله وما بعده ، لكن لا لبيان حاله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ، ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم ، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب ، لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة ، قرره أبو السعود .
قال بعض المفسرين : وثمرة الآية رد التطير والتشاؤم .
{ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً } بيان لجلالة منصبه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ومكانته عند الله عز وجل ، بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه عليه الصلاة والسلام ، بناء على جهلهم بشأنه الجليل ، وتعريف ( الناس ) للاستغراق ، أفاده أبو السعود ، أي : فمن أين يتصور لك الشؤم وقد أرسلت داعياً العموم إلى الخيرات ؟ فأنت منشأ كل خير ورحمة : { وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } أي : على رسالتك وصدقك ، بإظهار المعجزات على يديك ، أي : وإذا ثبتت رسالتك ، فاليُمن في طاعتك ، والشؤم في مخالفتك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [ 80 ]
{ مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغ لأمره ونهيه ، مرجع الطاعة وعدمها هو الله سبحانه وتعالى .
{ وَمَن تَوَلّى } عن طاعته .
{ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : كفيلاً تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها .
{ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] .
ولما بين تعالى وجوب طاعة الرسول ، تأثره بذكر معاملتهم معه ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } [ 81 ]
{ وَيَقُولُونَ } أي : المنافقون ، إذا أمرتهم بشيء ، وهم عندك : { طَاعَةٌ } بالرفع .
أي : أمرنا وشأننا طاعة ، ويجوز النصب بمعنى : أطعناك طاعة ، كما يقول المنقاد : سمعاً وطاعة ، وسمعٌ وطاعةٌ .
قال سيبويه : سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له : كيف أصبحت ؟ فيقول : حمدُ الله وثناءٌ عليه ، كأنه قال : أمري وشأني حمدُ الله وثناءٌ عليه ، ولو نصب ( حمد الله ) كان على الفعل ، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها .
{ فَإِذَا بَرَزُواْ } أي : خرجوا : { مِنْ عِندِكَ } أي : من مجلسك .
{ بَيّتَ } أي : دبر ليلاً .
{ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ } أي : من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم .
{ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ } أي : خلاف ما قالت لك ، من القبول وضمان الطاعة ، لأنهم مصرون على الرد والعصيان ، وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق .
تنبيهان :
الأول : في " القاموس وشرحه " وبينت الأمر : عمله أو دبره ليلاً .
وقال الزجاج : كل ما فكر فيه ، أو خِيض بليل ، فقد بيّت ، ويقال : بيت بليل ودبر بليل بمعنى واحد ، وفي الحديث : أنه كان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا يبيّت مالاً ولا يقيله ، أي : إذا جاءه مال لا يمسكه إلى الليل ولا إلى القائلة ، بل يعجل قسمته . انتهى .
ونقل الرازيّ عن الزجاج أيضاً : أن كل أمر تفكر فيه وتأمل في مصالحه ومفاسده كثيراً ، يقال فيه مبيت ، وفي اشتقاقه وجهان :
الأول : من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإِنسَاْن في بيته بالليل ، فهناك تكون الخواطر أخلى ، والشواغل أقل ، فلما كان الغالب أن الإِنسَاْن وقت الليل يكون في البيت ، والغالب أنه يستقصي الأفكار في الليل ، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتاً .
الثاني : اشتقاقه من أبيات الشعر ، لأن الشاعر يدبرها ويسويها ، قال الأخفش : العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه ، فسمَّوُا المتفكِّر فيه ، المستقصى ، مبيتاً ، تشبيهاً له يبيت الشعر ، من حيث إنه يسوى ويدبر .
الثاني : تذكير الفعل ، لأن تأنيث ( طائفة ) غير حقيقي ، ولأنها في معنى الفوج والفريق ، وإسناده إلى طائفة منهم ، لبيان أنهم المتصدون له بالذات ، والباقون اتباع لهم في ذلك ، لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة .
{ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ } أي : يثبه في صحائف أعمالهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الموكلين بالعباد فيجازيهم عليه .
قال ابن كثير : والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وعصياه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك . انتهى .
وجوز أن يكون المعنى : والله يكتبه في جملة ما يوحي إليك في كتابه ، فيطلعك على أسرارهم ، فلا يسحبوا أن إبطانهم يغني عنهم ، فالقصد لتهديدهم على الأول ، وتحذيرهم من النفاق لأن الله يظهره ، على الثاني .
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : تجاف عنهم ولا تعاقبهم .
{ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ } أي : ثق بالله في شأنهم ، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } كفيلاً بالنصرة والدولة لك عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ 82 ]
{ أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ } إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان ، ليعلموا كونه من عنده تعالى ، بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه .
وأصل التدبر التأمل والنظر في أدبار الأمر وعواقبه خاصة ، ثم استعمل في كل تأمل ، سواء كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه ، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه .
{ وَلَوْ كَانَ } أي : القرآن : { مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ } تعالى كما يزعمون .
{ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للوقع ، إذ لا علم بالأمور الغيبية ، ماضية ، كانت أو مستقبلة ، لغيره سبحانه ، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع ، تعيّن كونه من عنده تعالى .
قال الزجاج : ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب ، مما يسره المنافقون وما يبيّتونه ، مختلفاً : بعضه حق وبعضه باطل ، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى .
وقال أبو بكر الأصم : إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر ، وكان الله تعالى يُطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على ذلك ، ويخبره بها مفصلة ، فقيل لهم إن ذلك ، لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه ، ولوقع فيه الاختلاف ، فلما لم يقع ذلك قط ، علم أنه بإعلامه تعالى ، وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة ، فمما لا يساعده السباق ولا السياق ، أفاده أبو السعود .
تنبيه :
دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال ، وعلى القول بفساد التقليد ، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته ، أفاده الرازيّ .
وفي الآية ، أيضاً ، الحث على تدبر القرآن ليعرف إعجازه عن موافقته للعلوم واشتماله على فوائد منها ، وكمال حججه وبلاغته العليا ، وموافقته أحكامه للحكمة ، وأخباره الماضية لكتب الأولين ، والمستقبلة للواقع .
قال الحافظ ابن حجر : من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل ، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ، ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به ، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعده . انتهى .
وقد روى البخاريّ في صحيحه تعليقاً عن ابْنُ عَوْنٍ ( وهو عبد الله البصري ، من صغار التابعين ) ، أنه قال : ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا ، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا [ النَّاسَ ] عَنْهُ ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ . وفي رواية ( فيتدبروه ) بدل ( يتفهموه ) .
قال الكرماني : قال في القرآن : يتفهموه ، وفي السنة : يتعلموها ، لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه ، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه . انتهى .
وفي بقية الآية العذر للمصنفين فيما يقع لهم من الاختلاف والتناقض ، لأن السلامة عن ذلك من خصائص القرآن ، ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعاً آخر من مفاسدهم ، وهو إظهارهم أسرار رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلمهُ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 83 ]
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ } أي : مما يوجب أحدهما .
{ أَذَاعُواْ بِهِ }

أي : أفشوه ، فتعودُ إذاعتهم مفسدة من وجوه :
الأول : أن هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير .
والثاني : أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن ، زادوا فيه زيادات كثيرة ، فإذا لم توجد تلك الزيادات ، أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لأن المنافقين كانوا يرون تلك الإرجافات عن الرسول ، وإن كان ذلك في جانب الخوف ، تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب ، فكانت تلك الإرجافات سبباً للفتنة من هذا الوجه .
الثالث : أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام ، وذلك سبب لظهور الأسرار ، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة .
والرابع : أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار ، فكل ما كان أمناً لأحد الفريقين كان خوفاً للفريق الثاني ، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم ، أرجف المنافقون بذلك ، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار ، فأخذوا في التحصن من المسلمين ، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم ، وإن وقوع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين ، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئاً للفتن والآفات من كل الوجوه ، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير ، ومنعهم منه ، أفاده الرازيّ .
{ وَلَوْ رَدّوهُ } أي : ذلك الأمر الذي جاءهم .
{ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } هم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضي الله عنهم ، أو الذين يؤمرون منهم وكانوا لم يسمعوا .
{ لَعَلمهُ } أي : الأمر .
{ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ } أي : يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون .
{ مِنْهُمْ } أي : من الرسول وأولي الأمر ، يعني لو أنهم قالوا : نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه ، ونعرف الحالف فيه من جهتهم ، لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا ؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير ، يعني لم يقل ( لعلموه ) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ، أو لذمهم أو للتنبيه على خطأهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر .
قال الناصر في " الانتصاف " : في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع ، وكفى به كذباً ، وخصوصاً عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو ، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم ، خيراً أو غيره . انتهى .
وقد روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ > .
وعند أبي داود والحاكم عنه : < كفى بالمرء إثماً > ، ورواه الحاكم أيضاً عن أبي أمامة .
هذا ، ونقل الرازيّ وجهاً آخر في الموصول ، وهو أن المعنيّ به طائفة من أولي الأمر ، قال : والتقدير : ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلاً عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر ، وذلك لأن أولي الأمر فريقان : بعضهم من يكون مستنبطاً ، وبعضهم من لا يكون كذلك .
فقوله ( منهم ) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر .
فإن قيل : إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون ، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله : { وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } ؟ قلنا : إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر ، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنّ مِنْكُمْ لمنْ لَيُبَطّئَنّ } [ النساء : من الآية 72 ] وقوله : { مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } انتهى .
وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطيّ في " الإكليل " : قوله تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ } ، الآية ، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد .
وقول المهايميّ : فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر ، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق .
وقال بعض الإمامية : ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين ، وأن إذاعته قبيحة ، وأنه لا يُخْبَرُ بما لم يعرف صحته ، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين ، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا ، وتدل على صحة القياس والاجتهاد ، لأنه استنباط . انتهى .
تنبيه :
ما نقله الزمخشريّ وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم ، من أن قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ } عنى به طائفة من ضعفة المسلمين - فإن أرادوا بالضعفة المنافقين ، فصحيح ، وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها ، وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه ، فكله لم يصب المرمى ، والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول ، ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه ، فتبصر ولا تكن أسير التقليد .
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بإرسال الرسول وإنزال الكتاب .
{ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ } بالكفر والضلال .
{ إِلاّ قَلِيلاً } أي : إلا قليلاً منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب ، وعصمه عن متابعة الشيطان ، كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة ، كقس بن ساعدة وأضرابه ، وهم عشرة ، وقد أوضحت شأنهم في كتابي " إيضاح الفطرة في أهل الفترة " في : ( الفصل الرابع عشر ) فانظره .
وانقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بفضل الله ورحمته ، هنا ، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم : فأفوز فوزاً عظيماً ، أي : لولا تتابع النصرة والظفر لابتعتم الشيطان ، وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذي يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين ، واستحسن هذا الوجه الرازيّ .
وقال : هو الأقرب إلى التحقيق .
قال الخفاجي : لارتباطه بما بعده ، هذا وزعم بعضهم أن قوله تعالى : { إِلاّ قَلِيلاً } مستنثى من قوله ( أذاعوه ) أو ( لعلمه ) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله ، قال : لأنه لو كان مستثنى من جملة ( اتبعتم ) فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله ، وهو لا يستقيم ، وبيان لزومه أن ( لولا ) حرف امتناع لوجود ، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان ، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ، ضرورة ، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم ، ألا تراك إذا قلت ( لمن تذكره بحقك عليه ) : لولا مساعدتي لك لسُلِبَتْ أموالك إلا قليلاً ، كيف لم يجعل لمساعدتك أثراً في بقاء القليل للمخاطب ، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله ، لا في كله ، ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان ، إلا بفضله تعالى عليه ، هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف ، وهول فيه ، ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه ، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه ، واللازم ممنوع ، لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص ، وهو ما بيناه ، فإن عدم الاتباع ، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص ، لا ينافي أن يكون بفضل آخر ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ المؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنكِيلاً } [ 84 ]
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } تلوين الخطاب ، وتوجيه له إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بطريق الالتفات وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم ، أي : إذا كان الأمر ، كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم ، فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا ، قاله أبو السعود .
{ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ } أي : إلا فعل نفسك ، بالتقدم إلى الجهاد ، فإن الله هو ناصرك ، لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك ، كما ينصرك وحولك الألوف ، أي : ومن نكل ، فلا عليك منه ولا تؤاخذ به .
قال الرازيّ : دلت الآية على أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال ، لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صَلّى اللهُ عليّه وسلّم موصوف بهذه الصفات ، ولقد اقتدى به أبو بكر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ، ومن علم أن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله ، سهل ذلك عليه .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال : سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل ، فيكون ممن قال الله فيه : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ } ؟ قال : قد قال الله تعالى لنبيه : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ } .
ورواه الإمام أحمد أيضاً عنه قال : قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال : لا ، إن الله بعث رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ } إنما ذلك في النفقة .
{ وَحَرّضِ المؤْمِنِينَ } أي : على الخروج معك وعلى القتال ، ورغبهم فيه وشجعهم عليه ، كما قال لهم صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يوم بدر ، وهو يسوي الصفوف : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك ، منها :
ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بَيْنَ كل الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ > .
{ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ } أي : يمنع : { بَأْسَ } أي : قتال : { الّذِينَ كَفَرُواْ } وهم كفار مكة أي : بتحريضك إياهم على القتال ، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ، ومقاومتهم ومصابرتهم .
قال أبو السعود : وقوله تعالى : { عَسَى } الخ عِدَةٌ منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم ، فإن ما صدر بـ ( لعل وعسى ) مقرر الوقوع من جهته عز وجل ، وقد كان كذلك ، حيث روي في السيرة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم واعد أبا سفيان ، بعد حرب أُحُد ، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة ، فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج ، وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكباً ، ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب ، فرجعوا من مر الظهران . انتهى . بزيادة .
وقال في ذلك عبد الله بن رواحة ( وقيل كعب بن مالك ) :
~وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْراً فَلَمْ نَجِدْ لميعاده صِدْقاً وَمَا كَانَ وَافِيَا
~فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتنَا فَلَقِيتنَا لأُبْت ذَمِيماً وَافْتَقَدْت الْمَوَالِيَا
~تَرَكْنَا بِهَا أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِه وَعَمْراً ، أَبَا جَهْلٍ ، تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا
~عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللّهِ أُفّ لِدِينِكُمْ وَأَمْرُكُمْ السّيّئُ الّذِي كَانَ غَاوِيَا
~فِإنّي وَإِنْ عَنّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ فِدًى لِرَسُولِ اللّهِ أَهْلِي وَمَا لِيَا
~أَطَعْنَا لَمْ نَعْدِلْه فينا بِغَيْرِهِ شِهَاباً لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ هَادِيَا
{ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً } أي : شدة وقوة من قريش : { وَأَشَدّ تَنكِيلاً } أي : تعذيباً وعقوبة .
قال ابن كثير : أي : هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { ا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍٍ } [ محمد : من الآية 4 ] . انتهى .
قال الخفاجي : والقصد التهديد أو التشجيع ، ثم أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة في تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُن لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ مّقِيتاً } [ 85 ]
{ مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } أي : يتوسط في أمر فيترتب عليه خير من دفع ضر ، أو جلب نفع ، ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنه حمل المؤمنين على قتال الكفار .
{ يَكُن لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها .
{ وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً } وهي ما كانت بخلاف الحسنة ، بأن كانت في أمر غير مشروع .
{ يَكُن لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا } أي : نصيب من وزرها الذي ترتب على سعيه ، مساوٍٍ لها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء .
فوائد :
الأولى : قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية مدح الشفاعة وذم السعاية وهي الشفاعة السيئة ، وذكر الناس عند السلطان بالسوء ، وهي معدودة من الكبائر .
الثانية : روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة ، منها :
ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال : < اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ [ عَزَّ وَجَلَّ ] عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أحب > .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بَرِيرَةَ وزوجها قال : قال لها النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَوْ رَاجَعْتِهِ ! > قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي ؟ قال : < إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ > ، قَالَتْ : لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ ، رواه البخاريّ .
الثالثة - قال مجاهد والحسن والكلبي وابن زيد : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض ، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه ، فهو شفاعة حسنة ، وما لا يجوز أن يشفع فيه ، فهو شفاعة سيئة .
ثم قال الحسن : من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر ، وإن لم يشفع ، لأن الله يقول : من يشفع ، ولم يقل : من يشفع ، ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام : < اشْفَعُوا تُؤْجَرُوْا > ، نقله الرازيّ .
الرابعة : قال الزمخشريّ : الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم ، ودفع بها عنه شر ، أو جلب إليه خير ، وابتغي بها وجه الله ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز ، لا في حد من حدود الله ، ولا في حق من الحقوق ، يعني الواجبة عليه ، والسيئة ما كان بخلاف ذلك ، وعن مسروق : أنه شفع شفاعة ، فأهدى إليه المشفوع جارية فغضب وردها ، وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ، ولا أتكلم فيما بقي منها . انتهى .
وروى أبو داود : أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا ، فَقَبِلَهَا ، فَقَدْ أَتَى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا > .
وهذا الحديث أورده أيضاً المنذري في " كتاب الترغيب والترهيب " في ترجمة ( الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم ، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه ) ثم ساق حديث الشيخين وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَ الدُنيَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ > .
وروى الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من ما عبد أنعم الله نعمة فأسبغها عليه ، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرّم ، فقد عرّض تلك النعمة للزوال > .
وروي نحوه عن عائشة وابن عمر وابن عَمْرو .
وروى الطبراني وابن حبان في " صحيحه " عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ برٍّ ، أو تيسير عسير ، أعانه الله إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام > .
وفي رواية للطبراني عن أبي الدرداء : < رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة > .
وروى الطبراني عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم > .
ورواه عن عمر مرفوعاً بلفظ : < أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن > .
ورواه بنحو ذلك أيضاً عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم ، انظر الترغيب .
الخامسة : نكتة اختيار النصيب في ( الحسنة ) والكفل في ( السيئة ) ما أشرنا إليه ، وذلك أن النصيب يشمل الزيادة ، لأن جزاء الحسنات يضاعف ، وأما الكفل فأصله المركب الصَّعب ، ثم استعير للمثل المساوي ، فلذا اختير ، إشارة إلى لطفه بعباده ، إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات ، ويقال : إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره ، كقوله تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] ، فلذا خص به السيئة تطرية وهرباً من التكرار .
و ( مِنْ ) بيانية أو ابتدائية ، أفاده الخفاجي .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ مّقِيتاً } أي : مقتدراً ، من ( أقات على الشيء ) إذا اقتدر عليه كما قال :
~وذي ضِغْنٍ كففتُ النفس عنه وكنتُ على مساءته مُقيتاً
أي رب ذي حقد عليّ كففت السوء عنه مع القدرة عليه ، أو شهيداً حافظاً ، واشتقاقه من ( القوت ) فإنه يقوي البدن ويحفظه ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا حُيّيْتُم بِتَحِيّةٍٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً } [ 86 ]
{ وَإِذَا حُيّيْتُم بِتَحِيّةٍٍ } أي : إذا سلم عليكم فدعى لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية ، فقيل : السلام عليكم .
{ فَحَيّواْ } أي : أداءً لحق المسلم عليكم .
{ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أي : بتحية أحسن منها ، بأن تقولوا : وعليكم السلام ورحمة الله ، ولو قالها المسلم ، زيد : وبركاته .
قال الراغب : أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ، ثم استعملت في كل دعاء ، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضاً ، يقول : حياك الله ، ثم استعملها الشرع في السلام ، وهي تحية الإسلام ، قال الله تعالى : { تَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [ إبراهيم : من الآية 23 ] ، وقال : { تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [ الأحزاب : من الآية 44 ] وقال : { فَسَلموا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ } [ النور : من الآية 61 ] ، قالوا : في السلام مزية على ( حياك ) لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية ، وهي مسلتزمة لطول الحياة ، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك ، ولأن السلام من أسمائه تعالى ، فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته .
{ أَوْ رُدّوهَا } أي : أجيبوها بمثلها ، ورد السلام ورجعه : جوابه بمثله ، لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً } أي : فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية ، فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به ، وفي الآية فوائد شتى :
الأولى : نكتة نظمها مع آيات الجهاد هو التمهيد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريباً ، ببيان أن لكل مسلم حقاً يؤدى إليه ، وذلك لأن السلام نوع من الإكرام ، والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد .
قال الرازيّ : إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه ، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله ، وربما ظهر أنه كان مسلماً ، فمنع الله المؤمنين عنه ، وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد ، فإنه إن كان كافراً لا يضر المسلم ، إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام ، أما إن كان مسلماً ، وقتله ، ففيه أعظم المصادر والمفاسد .
ولذا قال : { إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً } أي : هو محاسبكم على كل أعمالكم ، وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم ، فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف ، فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء ، والمنع من إهدارها .
وقد روى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ، وإن كان مجوسياً ذلك بأن الله يقول : { فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا } .
وقال قتادة : فحيوا بأحسن منها ، يعني للمسلمين ، أو ردوها ، يعني لأهل الذمة ، ومن هنا حكى المارودي وجهاً : أنه يقول في الرد على أهل الذمة ، إذا ابتدؤوا : وعليكم السلام ، ولا يقول : ورحمة الله نقله عنه النووي .
وروى الزمخشريّ عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام ، ولا تقل : ورحمة الله ، فإنها استغفار .
وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله ، فقيل له في ذلك ، فقال : أليس في رحمة الله يعيش ؟ انتهى .
والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية ، ومع هذا فالثابت في الصحيحين عن أنس مرفوعاً : < إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ > ، كما يأتي .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده ، واستدل به الجمهور على رد السلام على كل مسلم ، مسلماً كان أو كافراً ، لكن مختلفان في صيغة الرد .
الثانية : ورد في إفشاء السلام أحاديث كثيرة ، منها :
قول البراء بن عازب رضي الله عنهما : أمرنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بِسَبْعٍ ، منها : وإفشاء السلام ، رواه الشيخان .
وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ > رواه مسلم .
وعن عبد الله بن سلام - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أَيُّهَا النَّاسُ ! أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا [ بِاللَّيْلِ ] وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ > قال الترمذيّ : حديث صحيح .
الثالثة : في كيفية السلام ، قال الرازيّ : إن شاء قال : سلام عليكم ، وإن شاء قال : السلام عليكم ، قال تعالى في حق نوح : { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍٍ مِنّا } [ هود : من الآية 48 ] ، وقال عن الخليل : { قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي } [ مريم : من الآية 47 ] ، وقال في قصة لوط : { قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلام } [ هود : من الآية 69 ] ، وقال عن يحيى : { وَسَلامٌ عَلَيْه } [ مريم : من الآية 15 ] ، وقال عن محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى } [ النمل : من الآية 59 ] وقال عن الملائكة : { وَالملائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَابٍٍ } [ الرعد : من الآية 23 ] : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } [ الرعد : من الآية 24 ] ، وقال عن نفسه المقدسة : { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيمٍٍ } [ يس : 58 ] ، وقال : { فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍٍ مِنْ رَبّكَ وَالسّلامُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ الْهُدَى } [ طه : من الآية 47 ] ، وقال عن عيسى عليه السلام : و : { وَالسّلامُ عليّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] فثبت أن الكل جائز . انتهى .
قال الإمام أبو الحسن الواحدي : أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار . انتهى .
ولكثرة ورود التنكير في القرآن ، على ما بيناه ، فضله بعضهم على التعريف .
الرابعة : في فضله ، روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ والدارمي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : جَاءَ رَجُل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ . فَقَالَ النَّبِيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < عَشْرٌ > . ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < عِشْرُونَ > . ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < ثَلاَثُونَ > .
قال الترمذيّ : حديث حسن [ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ] .
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَلِيٍ وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ .
وقال البزار : قد روي هذا عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من وجوه ، هذا أحسنها إسناداً .
وفي رواية لأبي داود ، من رواية معاذ بن أنس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - زيادة على هذا ، قال : ثم أتى آخر ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ ، قَالَ : < أَرْبَعُونَ > ، قَالَ : < هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ > .
وفيه رد على من زعم أنه لا يزاد على ( وبركاته ) ، لا يقال رواية ( ومغفرته ) عند أبي داود ، هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه ، وأبو مرحوم ضعفه يحيى .
وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به - لأنا نقول : قد حسّن الترمذيّ روايته عن سهل بن معاذ ، وصححها أيضاً هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم .
قال النسائي : لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه .
عود :
وروى الطبراني عن سهل بن حنيف - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من قال : السلام عليكم كتب له عشر حسنات ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله ، كتبت عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة > .
وروى ابن حيان في صحيحه عن أبي هريرة ، - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رجلاً مر على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو في مجلس فقال : سلام عليكم ، فقال : < عشر حسنات > ، ثم مر آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله فقال : < عشرون حسنة > ، ثم مر آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال : < ثلاثون حسنة > ، فقام رجل من المجلس ولم يسلم ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ما أوشك ما نسي صاحبكم ، إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإن بدا له أن يجلس فليجلس ، وإن قام فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة > .
وروى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الله بن مُغَفَّل قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أبخل الناس من بخل بالسلام > . ورواه أيضاً عن أبي هريرة ، ولأحمد والبزار نحوه عن جابر .
وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر > .
قال المنذري : ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً .
وروى البزار عن عُمَر بن الخطاب قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه ، فإن أحبهما إلى الله أحسنهما بشراً لصاحبه ، فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة : للبادئ منهما تسعون ، وللمصافح عشرة > .
وروى أبو داود عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ > .
الخامسة : في بعض أحكامه المأثورة ، روى أبو داود عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ > .
وفي الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم > ، قال النووي : هذا مرسل صحيح الإسناد .
وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ >
قالت : قلت : وعليه السلام ورحمة الله ، ترى ما لا نرى ( تريد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ) .
قال النووي : ووقع في بعض روايات الصحيحين ( وبركاته ) ، ولم يقع في بعضها ، وزيادة الثقة مقبولة .
وفي سنن أبي داود عن غالب القطان عن رجل قال : حدثني أبي عن جدي قال : بعثني أبي إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : ائته فاقرئه السلام ، فأتيته فقلت : إِنَّ أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ . فَقَالَ : < عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلاَمُ > .
قال النووي : هذا وإن كان رواية عن مجهول ، فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم ، فيستفاد منه الرد على المبلغ كالمسلم .
وروى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِذَا لَقِي أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ > ، ففيه أن من سلم عليه إنسان ، ثم لقيه على قرب ، ندب التسليم عليه ثانياً وثالثاً .
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ > .
وروى الشيخان عن أنس : أنه مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ .
ولفظ أبي داود : أتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على غِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ .
وعند ابن السني فيه ، فقال : < السلام عليكم يا صبيان > .
وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت : مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا .
وروى الترمذيّ نحوه ، وروى الشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ > .
ورويا عن أسامة : أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مر على مجلس فيه أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ > .
قال النووي : روينا في موطأ مالك أنه سئل عمن سلم على اليهودي أو النصراني هل يستقبله ذلك ؟ فقال : لا ، قال أبو سعد المتولي الشافعيّ : لو أراد تحية ذمي ، فعلها بغير السلام ، بأن يقول : هداك الله أو أنعم الله صباحك .
قال النووي ، هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به ، إذا احتاج إليه فيقول : صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية ، أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك .
السادسة : قال الحسن البصري : السلام تطوع والرد فريضة .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب على من سلم عليه : فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله : { فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا } انتهى ، وفي ترك الرد إهانة وازدراء وهو حرام ، ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم إظهاراً للإكرام ومبالغة فيه ، وإن كان الفرض يسقط ببعضهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً } [ 87 ]
{ اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : ليبعثنكم من قبوركم ويحشرنكم إلى حساب يوم القيامة في صعيد واحد ، فيجازي كل عامل بعمله .
قال الزمخشريّ : القيامة والقيام كالطلابة والطلاب ، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب ، قال الله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالمينَ } [ المطففين : 6 ] .
{ لا رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك في يوم القيامة أو في الجمع .
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً } إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده وبيان لاستحالته لأنه نقص وقبيح ، إذْ مَنْ كذب ، لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يجر منفعة بكذبه أو يدفع مضرة ، أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره ، ولا يبالي بأيهما نطق ، فظهر استحالة الكذب عليه جل شأنه ، والغير ، وإن دلت الدلائل على صدقه ، فكذبه ممكن إذا لم ينظر إليها .
فوائد :
الأولى : قال الرازيّ : في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : إنا بينا أن المقصود من قوله : { وَإِذَا حُيّيتُمْ بِتَحِيّةٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا } أن لا يصير الرجل المسلم مقتولاً ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله : { إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً } ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية ، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان ، فقوله : { لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ } إشارة إلى التوحيد ، وقوله : { لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } إشارة إلى العدل [ في المطبوع : العد ] ، وهو كقوله : { شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالملائِكَةُ وَأُولُو الْعِلم قَائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 18 ] وكقوله في طه : { إِنّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] وهو إشارة إلى التوحيد ، ثم قال : { إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ بِمَا تَسْعَى } [ طه : 15 ] ، وهو إشارة إلى العدل ، فكذا في هذه الآية ، بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة ، فينتصف للمظلومين من الظالمين ، ولا شك أنه تهديد شديد .
الوجه الثاني : كأنه تعالى يقول : من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر ، فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو ، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة .
الثانية : قوله : { لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ } إما خبر للمبتدأ و ( ليجمعنكم إلخ ) ، جواب قسم محذوف ، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها ، أو خبر ثان ، وإما اعتراض ، والجملة القسمية خبر .
الثالثة : تعدية ( ليجمعنكم ) بـ ( إلى ) لكونه بمعنى الحشر كما بينا ، أو لكون ( إلى ) بمعنى ( في ) كما أثبته أهل العربيّة ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [ 88 ]
{ فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ } أي : فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين .
{ فِئَتَيْنِ } أي : فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم ، والاستفهام للإنكار ، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين ، لكن ما فيه من معنى التوبيح متوجه إلى بعضهم ، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم ، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم ، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم ، لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية ، فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم ، وقد قيل : إن المراد بهم هنا عبد الله بن أُبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم أحد ، ورجعوا بعسكرهم ، بعد أن خرجوا ، كما تقدم في آل عِمْرَان ، كما أوضحه الشيخان والإمام أحمد والترمذيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ ، فَرَجَعَ ناسٌ خَرَجُوا مَعَهُ ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ ، فِرْقَةٌ تَقُولُ : نقَتْلِهِمْ ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لاَ هم المؤمنون ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < إِنَّهَا طَيْبَةُ وَإِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ > . هذا لفظ أحمد .
وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق في واقعة أحد : أن عبد الله بن أبيّ بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش : رجع بثلاثمائة وبقي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سبعمائة .
وثمة في نزول الآية رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : أَنَّ قَوْماً مِنَ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ حُمَّاهَا ، فَأُرْكِسُوا ، فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُمْ : مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ ؟ قَالُوا : أَصَابَنَا وَبَاءٌ الْمَدِينَةِ . فَقَالُوا : أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَافَقُوا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يُنَافِقُوا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } الآيَةَ .
وهذه الرواية هي الأقرب لنظم الآية كما سنبينه في التنبيه الثاني : { وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ } أي : نكسهم وردهم إلى الكفر .
{ بِمَا كَسَبُوا } : أي : بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار .
{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلّ اللّهُ } أي : تعدّوهم من جملة المهتدين .
قال أبو السعود : تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانه من الفئتين ، وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى ، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم ، وهم بمعزل عن ذلك ، سعى في هدايتهم وإرادة لها ، ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيّز الصلة ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها ، بأن يقال : أتهدون إلخ للمبالغة في إنكاره بيان أنه مما لا يمكن إرادته ، فضلاً عن إمكان نفسه : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ } عن دينه .
{ فَلَنْ تَجِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً إلى الهدى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً } [ 89 ]
{ وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا } كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم ، إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم أي : تمنوا أن تكفروا ككفركم بعد الإيمان .
{ فَتَكُونُونَ سَوَاءً } أي : في الكفر والضلال .
{ فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم ، وإن أظهروا لكم الإيمان طلباً لموالاتكم .
{ حَتّى يُهَاجِرُوا } من دار الكفر : { فِي سَبِيلِ اللّهِ } فتتحققوا إيمانهم .
{ فَإِنْ تَوَلّوْا } أي : عن الهجرة ، فهم ، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة ، فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار ، لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر .
{ فَخُذُوهُمْ } أي : اتسروهم : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُ وَجَدْتُمُوهُمْ } في الحل والحرم .
{ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً } أي : لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك .
تنبيهان :
الأول : قال الرازيّ : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد ، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََ } [ الممتحنة : من الآية 1 ] ، والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين ، لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة ، وإذا كان كذلك ، كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة ، وإذا كان كذلك ، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه ، والله أعلم .
الثاني : يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ } الخ ، رواية عبد الرحمن بن عوف ، كما يدل عليه سير هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان ، وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايميّ في تفسيره ، فاقتصر على هذا الوجه فقال : وهم الذين استأذنوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الْخُرُوجَ إِلَى البدو لاجتواء المدينة ، فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين . انتهى .
وقول السيوطيّ : في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع ، لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة ، لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف ، وحينئذ فقول زيد بن ثابت : فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أُحُد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم ، لا أن ما وقع كان سبباً لنزولها ، واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة ، وإلا لأشكل قوله تعالى : { إلا أن يهاجروا } إذ لم تطلب المهجرة إلا من النائبين عن المدينة ، أولئك ، أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد ، كانوا بها ، فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمؤمنين ، صابرين محتسبين مخلصين ، كما قاله بعض المفسرين ، وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة ، ولأشكل أيضاً قوله تعالى : { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ } فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة ، وإنه يتوقع الظفر بهم ، وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلاً ونهاراً ، فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف ، وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال : < إنها طيبة وإنها تنفي الخبث > ، إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم ، والله أعلم ، لم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقولهم :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلم فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [ 90 ]
{ إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ } يلجئون .
{ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ } أي : عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق .
{ أَوْ جَآؤُوكُمْ } عطف على الصلة أي : والذين جاءوكم .
{ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } حال بإضمار ( قد ) أي : ضاقت وانقبضت نفوسهم .
{ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ } لإرادتهم المسالمة .
{ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } أي : معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم ، فهم لا لكم ولا عليكم .
قال أبو السعود : استُثْنِي من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان :
أحدهما : من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين .
والآخر : من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سُرَاقَة بن مالك المدلجيّ حدثهم قال : لما ظهر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم ، قال : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج ، فأتيته فقلت : أنشدك النعمة ، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم ، فأخذ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بيد خالد فقال : < اذهب فافعل ما يريد > ، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، وأنزل الله : { إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ } فكان ومن وصل إليهم كان معهم على عهدهم ، وفي قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } إشعار بقوتهم في أنفسهم ، وأن في التعرض لقتلهم إظهاراً لقوتهم الخفية في الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل .
{ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ } أي : تركوكم : { فَلم يُقَاتِلُوكُمْ } مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل .
{ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلم } أي : الانقياد والاستسلام .
{ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي : طريقاً بالأسر أو القتل ، إذ لا ضرر منهم في الإسلام ، وقتالهم يظهر كمال قوتهم .
لطيفة :
قال الخفاجيّ ( السَلَم ) بفتحتين : الانقياد ، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها ، وكان إلقاء السلم استعارة ، لأن من سلّم شيئاً ألقاه وطرحه عند المسلّم له ، وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم ، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له ؟
تنبيه :
ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار ، وحاول أبو مسلم الأصفهاني كونهما من المسلمين حيث قال : إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم ، استثنى من له عذر ، فقال : إلا الذين يصلون ، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة ، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار ، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص ، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ، ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه ، لأنه يخاف الله تعالى فيه ، ولا يقاتل الكفار أيضاً ، لأنهم أقاربه ، أو أنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم ، فيخاف ، لو قاتلهم ، أن يقتلوا أولادهم وأصحابه ، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم ، إن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لم يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السّلم وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } [ 91 ]
{ سَتَجِدُونَ } أقواماً : { آخَرِينَ يُرِيدُونَ } بإظهار الإسلام لكم .
{ أَن يَأْمَنُوكُمْ } : أي : على أنفسهم .
{ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } بإظهار الكفر .
{ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ } أي : دعوا إلى الارتداد والشرك : { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أي : رجعوا إلى منكوسين على رؤوسهم .
{ فَإِن لم يَعْتَزِلُوكُمْ } أي : ينتحوا عنكم جانباً ، بأن لم يكونوا معكم ولا عليكم .
{ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السّلم } أي : ولم يلقوا الانقياد .
{ وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ } أي : عن قتالكم .
{ فَخُذُوهُمْ } أي : اتسروهم .
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أي : وجدتموهم في داركم أو دارهم .
{ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } أي : حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلاً وسبياً ، لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، وإضرارهم بأهل الإسلام ، أو تسلطاً ظاهراً ، حيث أذنّا لكم في أخذهم وقتلهم .
تنبيهان :
الأول : قال ابن كثير : هؤلاء الآخرون ، في الصورة الظاهرة ، كمن تقدمهم ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولأصحابه الإسلام ، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ويصانعون الكفار في الباطن ، فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليأمنوا بذلك عندهم ، وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ } [ البقرة : من الآية 14 ] الآية .
وحكى ابن جرير عن مجاهد ؛ أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيُسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا ، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .
الثاني : قال الرازيّ : قال الأكثرون : في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا ، لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم ، ونظيره قوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلم يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرّوهُمْ } [ الممتحنة : من الآية 8 ] ، وقوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : من الآية 190 ] ، فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثَاقٌ فَدِيَةٌ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةً فَمَن لم يجدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 92 ]
{ وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً } أي : ما جاز ولا صح ولا لاق لمؤمن قتل أخيه المؤمن ، فإن الإيمان راجز عن ذلك ، إلا على وجه الخطأ ، فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : بم انتصب خطأ ؟ قلت : بأنه مفعول له : أي : ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده ، ويجوز أن يكون حالاً ، بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، وأن يكون صفة للمصدر : إلا قتلاً خطأ ، والمعنى : إن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء ، البتة ، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد ، بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً ، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذ اهو مسلم . انتهى .
{ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } أي : بما ذكرنا ، فهو ، وإن عفي عنه ، لكنه لا يخلوا عن تقصير في حق الله ، ولا يهدر دم المؤمن بالكلية .
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ } أي : فالواجب عليه ، لحق الله ، إعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان ، ولو صغيرة ، ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءاً من النار .
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، أَنَّهُ جَاءَ بِأَمَةٍ سَوْدَاءَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَإِنْ كُنْتَ تَرَى هَذِهِِ مُؤْمِنَةً أَعْتَقْتُهَا .
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ > . قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ < أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ > . قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ < أَتُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ > . قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ < أَعْتِقْهَا > .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَجَهَالَة الصَّحَابِيّ لَا تَضُرّهُ .
وَفِي مُوَطَّأ مَالِك وَمُسْنَد الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَصَحِيح مُسْلِم وَسُنَن أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ مُعَاوِيَة بْن الْحَكَم أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِتِلْكَ الْجَارِيَة السَّوْدَاء ، قَالَ لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَيْنَ اللَّه ؟ >
قَالَتْ : فِي السَّمَاء .
قَالَ : < مَنْ أَنَا ؟ >
قَالَتْ : أَنْتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : < أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة > . أفاده ابن كثير .
لطيفتان :
الأولى : قال الزمخشريّ : التحرير : الإعتاق ، والحر والعتيق : الكريم ، لأن الكرم في الأحرار ، كما أن اللؤم في العبيد ، ومنه عتاق الخليل وعتاق الطير لكرامها وحر الوجه أكرم موضع منه ، وقولهم للئيم : عبد ، وفلان عبد الفعل ، أي : لئيم الفعل ، والرقبة عبارة عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأساً من الرقيق .
الثانية : قيل في حكمة الإعتاق : إنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء ، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها ، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق من آثار الكفر ، والكفر موت حكماً : { أَوَمَنْ كَانَ ميتاً فَأَحْيَيْنَاه } [ الأنعام : من الآية 122 ] ، ولهذا منع من تصرف الأحرار ، وهذا مشكل ، إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضاً ، لكن يحتمل أن يقال : إنما وجب عليه ذلك ، لأن الله تعالى أبقى للقتال نفساً مؤمنة حيث لم يوجب القصاص ، فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة ، أفاده النسفي .
{ وَدِيَةٌ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ } أي : والواجب عليه أيضاً ، لحق ورثة المقتول ، عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم ، دية مؤداة إلى ورثته ، يقتسمونها اقتسام الميراث .
وقد بينت السنة مقدارها ، وذلك فيما رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم ، عن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم عن أبيه عن جده ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتاباً ، وفيه : < إن في النفس الدية ، مائة من الإبل > ، وفيه : < وعلى أهل الذهب ألف دينار > .
وروى أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه : < فرض في الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الإِبِلِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَىْ بَقَرَةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَىْ شَاةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَىْ حُلَّةٍ > .
وفي الموطأ أن عُمَر بن الخطاب قوّم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، وهذه الدية إنا تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله .
قَالَ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - : لَمْ أَعْلَم مُخَالِفاً أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَة .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : اِقْتَتَلَتْ اِمْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْل ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا ، وَمَا فِي بَطْنهَا ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَضَى أَنَّ دِيَة جَنِينهَا غُرَّةٌ ، عَبْد أَوْ أَمَة ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَة عَلَى عَاقِلَتهَا .
ورواه أبو داود عَنْ جَابِرِ بلفظ : أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ ، وَبَرَّأَ زَوْجَهَا وَوَلَدَهَا .
قَالَ : فَقَالَ : عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ مِيرَاثُهَا لَنَا ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : < لاَ مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا > .
و ( العاقلة ) : القرابات من قبل الأب وهم عصبته ، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول ، وسميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر ، لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول ، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ، ولو لم تكن إبلاً ، وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ فاطر : من الآية 18 ] ، فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية ، لما في ذلك من المصلحة ، لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله ، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن ، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول ، كذا في " نيل الأوطار " .
قال المهايمي : تجب الدية على كل عاقلة القاتل ، وهم عَصبَته غير الأصول والفروع ، لأنه لما عفي عن القاتل فلا وجه للأخذ منه ، وأصوله وفروعه أجزاؤه ، فالأخذ منهم أخذ منه ، ولا وجه لإهدار دم المؤمن ، فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية ، لأن الغُرم بالغنم ، فإن لم يكن له عاقلة ، أو كانوا فقراء ، فعلى بيت المال . انتهى .
وقد خالف أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج ، فأوجبوا الدية على القاتل لا على عاقلته ، واحتجوا بوجوه خمسة عقلية ، ساقها الفخر الرازيّ ، هنا ، وكلها مما لا يساوي فلساً ، إذ هي من معارضة النص النبوي بالرأي المحض .
اللهم : إنا نبرا إليك من ذلك ، وقد غفلوا عن حكمة المشروعية على العاقلة التي بيناها
~دعوا كل قول عند قول محمد فما آمنٌ في دينه كمخاطر
تنبيه :
يشتمل قوله تعالى : { فَدِيَةٌ مّسَلمةٌ } تسليمها حالّة ومؤجلة ، إلا أن الإجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة ، ولكن اختلفوا في مقدار الأجل ، فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين ، وقال ربيعة : إلى خمس .
وحكى في " البحر " عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق : أنها تكون حالة : إذ لم يرو عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم تأجيلها ، قال في " البحر " قلنا : روي عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقاله عُمَر وابن عباس ، ولم ينكر . انتهى .
قال الشافعيّ في " المختصر " : لا أعلم مخالفاً أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين .
قال الرافعي : تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك ، فمنهم من قال : ورد ، ونسبه إلى رواية عليّ عليه السلام ، ومنهم من قال : ورد أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى بالدية على العاقلة ، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر ، وأخذ ذلك من إجماع الصحابة .
وقال ابن المنذر : ما ذكره الشافعيّ لا نعرفه أصلاً من كتاب ولا سنة ، وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال : لا نعرف فيه شيئاً ، فقيل : إن أبا عبد الله ، يعني الشافعي ، رواه عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال : لعله سمعه من ذلك المدني ، فإنه كان حسن الظن به ، يعني إبراهيم بن أبي يحيى ، وتعقبه ابن الرفعة : بأن من عرف حجة على من لم يعرف .
وروى البيهقيّ من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين ، وقد وافق الشافعيّ ، على نقل الإجماع ، الترمذيّ في " جامعه " وابن المنذر ، فحكى كل واحد منهما الإجماع . كذا في " نيل الأوطار " .
وقوله تعالى : { إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ } أي : إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه ، وسمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيها ( أي : هذه الآية ) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه ، ونفيه عن الخطأ ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية ، لا قصاص ، وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول ، إلا أن يصدقوا بها ، أي : يبرؤا منها ، ففيه جواز الإبراء من أهل الدية ، مع أنها مجهولة ، وفي قوله ( مسلمة ) دون ( يسلمها ) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل ، ذكره سعيد بن جبير ، أخرجه ابن أبي حاتم واستدل بقوله : { إِلَى أَهْلِهِ } على أن الزوجة ترث منها ، لأنها من جملة الأهل خلافاً للظاهرية ، واحتج بها من أجاز أرث القاتل منها ، لأنه من أهله ، واحتج الظاهرية بقوله : { إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ } على أن المقتول ليس له العفو عن الدية ، لأن الله جعل ذلك لأهله خاصة ، وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ ، خلافاً لمن قال : لا شيء عليه ولا على عاقلته ، واستدل بعمومها أيضاً من قال : إن في قتل العبد الدية والكفارة ، وإن على الصبي والمجنون ، إذا قتلا ، الكفارة ، وإن المشارك في القتل عليه كفارة كاملة . انتهى .
{ فَإِن كَانَ } أي : المقتول خطأ : { مِن قَوْمٍ عَدُوّ لّكُمْ } أي : محاربين .
{ وَهُوَ مْؤْمِنٌ } فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه ، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم ، أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهمٍّ من المهمات .
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ } أي : فعلى قاتله الكفارة ، لحق الله دون الدية ، فإنها ساقطة ، إذ لا إرث بينه وبين أهله ، لأنهم محاربون .
وقال الإمام زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام : لا تؤدى الدية إليهم لأنهم يتقوون بها ، ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذاً من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة ، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية وآخرها .
وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان الرجل يأتي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون : فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة ، فيعتق الذي يصيبه رقبة .
{ وَإِن كَانَ } أي : المقتول خطأ : { مِن قَوْمٍ } أي : كفرة .
{ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثَاقٌ } أي : عهد من هُدْنَة أو أمان ، أي : كان على دينهم ومذهبهم .
{ فَدِيَةٌ } أي : فعلى قاتله دية .
{ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ } إذ هم كالمسلمين في الحقوق .
{ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةً } لحق الله تعالى ، وتقديم الدية ههنا مع تأخيرها فيما سلف ، للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشياً عن توهم نقض الميثاق .
قال السيوطيّ : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ } إلخ : هو الرجل يكون معاهداً ويكون قومه أهل عهد ، فتسلم إليهم الدية ويعتق الذي أصابه رقبة .
قال السيوطيّ : ففيه أن المقتول إذا كان من أهل الذمة والعهد ففيه دية مسلمة إلى أهله مع الكفارة ، وفيه رد على من قال : لا كفارة في قتل الذميّ ، والذين قالوا ذلك قالوا : إن الآية في المؤمن الذي أهله أهل عهد ، وقالوا : إنهم أحق بديته لأجل عهدهم ، ويرده تفسير ابن عباس المذكور ، وأنه تعالى لم يقل فيه : وهو مؤمن ، كما قال في الذي قبله . انتهى .
تنبيه :
استدل بالآية من قال : إن دية المعاهد حربياً أو كتابياً ، كالمسلم ، لأنه تعالى ذكر في كل منهما الكفارة والدية ، فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء ، إذ إطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة ، وهي دية المسلم .
وقد أخرج الترمذيّ عن ابن عباس وقال : غريب ؛ أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَدَى العامريين اللذين قتلهما عَمْرو بن أمية الضمري ، وكان لهما عهد من النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يشعر به عَمْرو ، بدية المسلمين ، وأخرجه البيهقيّ عن الزهريّ أنها كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مثل دية المسلم ، وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بيت المال ، قال : ثم قضى عُمَر بن عبد العزيز بالنصف وألقى النصف وألقى ما جعل معاوية .
وأخرج أيضاً عن ابن عمر أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَدَى ذمياً دية مسلم ، وفي أَثَرَي البيهقيّ المذكورين مقال ، إذ علل الأول بالإرسال ، والثاني بأن في إسناده أبا كرز ، وهو متروك .
وروى أحمد والنسائي والترمذيّ عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : < عقل الكافر نصف دية المسلم > .
وأخرج أبو داود عنه بلفظ : < دية المعاهد نصف دية الحر > ، وفي لفظ : < قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين > : وهم اليهود والنصارى ، رواه أحمد والنسائي وابن ماجة .
وعندي : لا تنافي بين هذه الروايات المذكورة ، لأن الظاهر أن الفرض في دية الكافر إنما هو النصف ، ولا حرج في الزيادة عليه ، إلى أن يبلغ دية المسلم تبرعاً وتفضلاً ، وبه يحصل الجمع بين الروايات ، والاستدلال بالآية على تماثل ديني المسلم والكافر المتقدم - غير ظاهر ، لما في الدية من الإجمال المرجوع في بيانه إلى السنة ، وقد بينته وصح فيها أنه النصف فرضاً ، والله أعلم .
{ فَمَن لم يجدْ } أي : رقبة ليحررها ، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها .
{ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : فعليه صيام شهرين متواصلين لا إفطار بينهما ، بحيث لو صام تسعة وخمسين ، وتعمد بإفطار يوم ، استأنف الجميع ، لأن الخطأ إنما نشأ من كدورة النفس ، وهذا القدر يزيلها ويفيد التزكية .
قال المهايمي : { تَوْبَةً مّنَ اللّهِ } أي : قبولاً من الله ورحمة منه ، من ( تاب عليه ) : إذا قبل توبته ، ( فتوبة ) منصوب على أنه مفعول له ، أي : شرع لكم ذلك توبة منه ، أو مصدر مؤكد لمحذوف ، أي : تاب عليكم توبة منه .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً } بجميع الأشياء التي منها مقدار كدورة هذا الخطأ العظيم .
{ حَكِيماً } في دواء إزالتها ، قال المهايمي : وإذا كان للخطأ هذه الكدورة مع العفو عنه ، فأين كدورة العمد ؟ أي : وهي التي ذكرت في قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [ 93 ]
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } لقتله : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ } إذ قتل وليه عمداً .
{ وَلَعَنَهُ } أي : أبعده عن الرحمة : { وَأَعَدّ لَهُ } وراء ذلك : { عَذَاباً عَظِيماً } أي : فوق عذاب سائر الكبائر ، سوى الشرك .
قال الإمام ابن كثير : هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله ، في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول سبحانه ي سورة ( الفرقان ) : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَق } [ الفرقان : من الآية 68 ] الآية ، وقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا } [ الأنعام : من الآية 151 ] الآية ، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَوَّل مَا يُقْضَى بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي الدِّمَاء > .
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < لَا يَزَال الْمُؤْمِن مُعْنِقاً صَالِحاً مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً ، فَإِذَا أَصَابَ دَماً حَرَاماً بَلَّحَ > .
وَفِي حَدِيث آخَر : < لَزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن عِنْد اللَّه مِنْ قَتْل رَجُل مُسْلِم > . قلت : رواه الترمذيّ والنسائي عن ابن عمرو
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر : < لَوْ اِجْتَمَعَ أَهْل السَّمَوَات وَالْأَرْض عَلَى قَتْل رَجُل مُسْلِم لكَبَّهُمْ اللَّه فِي النَّار > .
قلت : رواه الترمذيّ عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ : < لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله عز وجل في النار > .
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر : < مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل الْمُسْلِم وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَة ، جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوباً بَيْن عَيْنَيْهِ آيِس مِنْ رَحْمَة اللَّه > .
قلت : رواه ابن ماجة عن أبي هريرة .
وَقَدْ كَانَ اِبْن عَبَّاس يَرَى أَنّ لَا تَوْبَة لِقَاتِلِ الْمُؤْمِن عَمْداً .
وَقَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا آدَم حَدَّثَنَا شُعْبَة حَدَّثَنَا الْمُغِيرَة بْن النُّعْمَان قَالَ : سَمِعْت اِبْن جُبَيْر ، قَالَ : اِخْتَلَفَ فِيهَا أَهْل الْكُوفَة ، فَرَحَلْت إِلَى اِبْن عَبَّاس فَسَأَلْته عَنْهَا .
فَقَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم } هِيَ آخِر مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْء .
وَكَذَا رَوَاهُ هُوَ أَيْضاً وَمُسْلِم وَالنَّسَائِيّ مِنْ طُرُق عَنْ شُعْبَة بِهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ اِبْن مَهْدِيّ عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ مُغِيرَة بْن النُّعْمَان عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم } فَقَالَ : مَا نَسَخَهَا شَيْء .
وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار قال حَدَّثَنَا اِبْن أبي عدي ، عَنْ سَعِيد عن أبي بشر عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : قَالَ لي عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى سُئِلَ اِبْن عَبَّاس ، عَنْ قَوْله : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً } الْآيَة .
فقَالَ : لَمْ يَنْسَخهَا شَيْء ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهاً آخَر } إِلَى آخِرهَا ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَهْل الشِّرْك .
وروى ابن جرير أيضاً عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام ، وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له ، فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .
وروى الإمام أحمد عن سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد عن ابن عباس أن رجلاً أتى إليه فقال : أرأيت رجلاً قتل رجلاً عمداً ؟ فقال : { جَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا } الآية ، قال : لقد نزلت من آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة ؟ وقد سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < ثَكِلَتْهُ أُمّه ، رَجُل قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمِّداً يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة آخِذاً قَاتِله بِيَمِينِهِ أَوْ بِيَسَارِهِ أَوْ آخِذاً رَأْسه بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ تَشْخَب أَوْدَاجه دَماً مِنْ قِبَل الْعَرْش يَقُول يَا رَبّ سَلْ عَبْدك فِيمَ قَتَلَنِي > . ورواه النسائي وابن ماجة .
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة ، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف ، زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عُمَر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد ابن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مُزَاحم ، نقله ابن أبي حاتم ، وفي الباب أحاديث كثيرة ، فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يَجِيء الْمَقْتُول مُتَعَلِّقاً بِقَاتِلِهِ يَوْم الْقِيَامَة آخِذاً رَأْسه بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، فَيَقُول : يَا رَبّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟
قَالَ : فَيَقُول : قَتَلْته لِتَكُونَ الْعِزَّة لَك فَيَقُول فَإِنَّهَا لِي .
قَالَ : وَيَجِيء آخَر مُتَعَلِّقاً بِقَاتِلِهِ ، فَيَقُول : رَبّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟
قَالَ : فَيَقُول : قَتَلْته لِتَكُونَ الْعِزَّة لِفُلَانٍ .
قَالَ : فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ بُؤْ بِإِثْمِهِ قَالَ فَيَهْوِي بهِ فِي النَّار سَبْعِينَ خَرِيفاً > ، ورواه النسائي .
وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن معاوية قال : سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < كُلّ ذَنْب عَسَى اللَّه أَنْ يَغْفِرهُ إِلَّا الرَّجُل يَمُوت كَافِراً أَوْ الرَّجُل يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً > .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد ، قال : أَتَانِي أَبُو الْعَالِيَة أَنَا وَصَاحِب لِي ، فَقَالَ لَنَا : هَلُمَّا فَأَنْتُمَا أَشَبّ سِنّاً مِنِّي ، وَأَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنِّي ، فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى بِشْر بْن عَاصِم ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَة : حَدِّثْ هَؤُلَاءِ حَدِيثك ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا عُقْبَة بْن مَالِك اللَّيْثِيّ قَالَ : بَعَثَ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّة فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْم فَشَدَّ مَعَ الْقَوْم رَجُل فَاتَّبَعَهُ رَجُل مِنْ السَّرِيَّة شَاهِراً سَيْفه ، فَقَالَ الشَّادّ مِنْ الْقَوْم : إِنِّي مُسْلِم ، فَلَمْ يَنْظُر فِيمَا قَالَ ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ ، فَنَمَى الْحَدِيث إلى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِيهِ قَوْلاً شَدِيداً ، فَبَلَغَ الْقَاتِل ، فَبَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ يَخْطُب إِذْ قَالَ الْقَاتِل : وَاَللَّه مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذاً مِنْ الْقَتْل ، قَالَ فَأَعْرَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبْله مِنْ النَّاس ، وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ أَيْضاً : يَا رَسُول اللَّه مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذاً مِنْ الْقَتْل ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبْله مِنْ النَّاس وَأَخَذَ فِي خُطْبَته ، ثُمَّ لَمْ يَصْبِر حَتَّى قَالَ الثَّالِثَة : وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذاً مِنْ الْقَتْل ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تُعْرَف الْمَسَاءَة فِي وَجْهه ، فَقَالَ : < إِنَّ اللَّه أَبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً > ( ثَلَاث مرات ) .
ورواه النسائي ، ثم قال ابن كثير : والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها ، أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملاً صالحاً ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته ، قال الله تعالى : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً } إلى قوله : { إِلّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 68 - 70 ] الآية ، وهذا خبر لا يجوز نسخه ، وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين - خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .
وقال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ } [ الزمر : من الآية 53 ] الآية ، وهذا عام في جميع الذنوب : من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك ، كل من تاب من أي : ذلك تاب الله عليه ، قال الله تعالى : { إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاءُ } [ النساء : من الآية 48- 116 ] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَر الْإِسْرَائِيلِيّ الَّذِي قَتَلَ مِائَة نَفْس ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِماً هَلْ لِي مِنْ تَوْبَة ؟ فَقَالَ : وَمَنْ يَحُول بَيْنك وَبَيْن التَّوْبَة ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَد يَعْبُد اللَّه فِيهِ فَهَاجَرَ إِلَيْهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيق ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة . . ) .
وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيل فَلَأَنْ يَكُون فِي هَذِهِ الْأُمَّة التَّوْبَة مَقْبُولَة بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لِأَنَّ اللَّه وَضَعَ عَنَّا الْآصَار وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ، وَبَعَثَ نَبِيّنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة . فَأَمَّا الْآيَة الْكَرِيمَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً } الْآيَة . فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف : هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ .
وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعاً ، ولكن لا يصح ، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد لا يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط ، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب ، وبتقدير دخول القاتل في النار ، إما على قول ابن عباس ومن وافقه ، أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به - فليس بمخلد فيها أبداً ، بل الخلود هو المكث الطويل ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان ، ثم قال ابن كثير : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين ، وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول ، أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم . انتهى .
وقال النووي في " شرح مسلم " في شرح حديث الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس : استدل به على قبول توبة القاتل عمداً ، وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم ، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس ، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلال هذا ، فمراد قائله الزجر والتوبة ، لا أنه يعتقد بطلان توبته ، وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا ، وفي الاحتجاج به خلاف ، فليس هذا موضع الخلاف ، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره ، فإن ورد كان شرعاً لنا بلا شك ، وهذا قد ورد شرعنا به ، وذلك قوله تعالى : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النّفْسَ } إلى قوله : { إِلّا مَنْ تَابَ } [ الفرقان : 68 ] ، الآية ، وأما قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } الآية ، فالصواب في معناها : أن جزاءه جهنم ، فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره ، وقد لا يجازى بل يعفى عنه ، فإن قتل عمداً مستحلاً بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد ، يخلد في جهنم بالإجماع ، وإن كان غير مستحل بل معتقداً تحريمه فهو فاسق عاص ، مرتكب كبيرة ، جزاؤها جهنم خالداً فيها ، لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحداً فيها ، فلا يخلد هذا ، ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلاً ، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين ، ثم يخرج معهم إلى الجنة ، ولا يخلد في النار .
قال : فهذا هو الصواب في معنى الآية ، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة ، أن يتحتم ذلك الجزاء ، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم ، وإنما فيها أنها جزاؤه ، أي : يستحق أن يجازى بذلك ، وقيل : وردت الآية في رجل بعينه ، وقيل : المراد بالخلود طول المدة ، لا الدوام ، وقيل : معناها : هذا جزاؤه ، إن جازاه ، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة ، لمخالفتها حقيقة لفظ الآية ، فالصواب ما قدمناه . انتهى .
وقال علاء الدين الخازن : اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا ؟ وهل لمن قَتَلَ متعمداً توبة أم لا ؟ فروي عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : ألمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة ؟ قال : لا ، فتلوت عليه الآية التي في الفرقان : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ } [ الفرقان : من الآية 68 ] ، إلى آخر الآية ، قال : هذه آية مكية ، نسختها آية مدنية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ } وفي رواية ، قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت إلى ابن عباس ، فقال : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينسخها شيء ، وفي رواية أخرى ، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ } إلى قوله : { مُهَاناً } فقال المشركون : وما يغني عنا الإسلام ، وقد عدلنا بالله ، وقد قتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش ؟ فأنزل الله تعالى : { إِلّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً } [ الفرقان : من الآية 70 ] ، إلى آخر الآية ، زاد في رواية : فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له ، أخرجاه في الصحيحين ، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال : من أين لك أنها محكمة ؟ فقال ابن عباس : تكاثف الوعيد فيها .
وقال ابن مسعود : إنها محكمة ، وما تزداد إلا شدة ، وعن خارجة بن زيد قال : سمعت زيد بن ثابت يقول : أنزلت هذه الآية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا } بعد التي في الفرقان : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ } بستة أشهر ، أخرجه أبو داود والنسائي ، وزاد النسائي في رواية : بثمانية أشهر .
وقال زيد بن ثابت : لما نزلت هذه الآية في الفرقان : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ } عجبنا من لينها ، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة ، وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء ، وباللينة آية الفرقان ، وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة ، واختلفوا في ناسخها ، فقال بعضهم : نسختها التي في الفرقان ، وليس هذا بالقوي ، لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء ، والمتقدم لا ينسخ المتأخر ، وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضاً ، وهي قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاءُ } [ النساء : من الآية 48 ] وأجاب ، من ذهب إلى أنها منسوخة ، عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين : بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية ، والنسخ لا يدخل الإخبار ، ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض ، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان ، فيكون المعنى : فجزاؤه جهنم إلا من تاب .
وقال بعضهم : ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل ، فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم ندم وجاء تائباً يقال له : لك توبة .
وقيل : إنه قد روي عن ابن عباس مثله ، وروي عنه أيضاً أن توبته تُقبل ، وهو قول أهل السنة ، ويدل عليه الكتاب والسنة ، أما الكتاب فقوله تعالى : { وَإِنّي لَغَفّارٌ لمنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمّ اهْتَدَى } [ طه : 82 ] ، وقوله : { إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَميعا } [ الزمر : من الآية 53 ] .
وأما السنة فما روي عَنْ جَابِر بن عبد الله قَالَ : جَاءَ رَجُل إعرابي إِلَى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا الْمُوجِبَتَانِ ؟
قَالَ : < مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئاً دخل الْجَنَّة ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِك بِهِ شَيْئاً دخل النَّار > ، أخرجه مسلم .
وروى الشيخان عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : كنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في مجلس فقال : < تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئاً وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ > .
وفي رواية : < ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك فسَتَرَه الله عليه فأمره إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه > ، فبايعناه على ذلك . انتهى .
وقال العلامة أبو السعود : تمسّكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمداً في النار ، ولا متمسَّك لهم فيها ، لا لما قيل من أنها في حق المستحل ، كما هو رأي عِكْرِمَة وأضرابه ، بدليل أنها نزلت في مَقِيس بن صُبَابَة الكِنَانِي المرتد ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام ، لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم .
وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً ، وكذا ما روي عن سفيان : أن أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له - محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ ، وعليه يحمل ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : < أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة > ، وقال عَوْن بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح : المعنى هو جزاؤه إن جازاه ، قالوا : قد يقول لمن يزجره عن أمر : إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً .
قال الواحدي : والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد ، وأن امتنع أن يخلف الوعد ، والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور ، لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك ، لا بأنه يجزيه بذلك ، كيف لا ؟ وقد قال الله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : من الآية 40 ] ، ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها ، لعارضه قوله تعالى : { وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : من الآية 30 ] . انتهى .
وقال العلامة الشوكاني في " نيل الأوطار " : وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول : لا نزاع أن قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب ، بل للمسلم والكافر ، والاستثناء لمذكور في آية الفرقان ، أعني قوله تعالى : { إِلّا مَنْ تَاب } [ مريم : من الآية 60 ] ، بعد قوله تعالى : { وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ } [ الفرقان : من الآية 68 ] : مختص بالتائبين فيكون مخصصاً لعموم قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقاً ، قد تقدم أو تأخر أو قارن : فظاهر ، وأما على مذهب من قال : إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } على آية الفرقان ، فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله ، كقوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَميعاً } [ الزمر : من الآية 53 ] ، وقوله تعالى : { إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاءُ } [ النساء : من الآية 116 ] .
ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ تَابَ قَبْلَ طْلُوعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ > .
وما أخرجه الترمذيّ وصححه من حديث صفوان بن عسال ، قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < بابٌ من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة ، خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض ، مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها > .
وأخرج الترمذيّ أيضاً عن أن عمر ، أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : < إِنَّ اللَّه عز وجل يَقْبَل تَوْبَة الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرْغِر > .
وأخرج مسلم من حديث أبي موسى ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ . وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ . حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا > ، ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده - لا يقال : إن هذه المعومات مخصصة بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } الآية ، لأنا نقول : الآية أعم من وجه ، وهو شمولها للتائب وغيره ، وأخص من وجه ، وهو كونها في القاتل ، وهذه العمومات أعم من وجه ، وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل ، وأخص من وجه ، وهو كونها في التائب ، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح ، ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقاً أرجح لكثرتها وهكذا أيضاً يقال : إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى ، كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث ، تدل على خروج كل موحد ، سواء كان ذنبه القتل أو غيره ، والآية القاضية بخروج من قتل نفساً هي أم من أن يكون القاتل موحداً أو غير موحد ، فيتعارضان عمومان ، وكلاهما ظني الدلالة ، ولكن عموم آية القتل قد عورض بها سمعته ، بخلاف أحاديث خروج الموحدين ، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقاً ، كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم ، ولا حكم لهذه المعارضة ، أو بما هو أخص منها مطلقاً ، كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي ، نحو : من قتل نفسه ، وهو يبني العام على الخاص ، وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب ، وعدم خلوده في النار إذا لم يتب ويتبين لك أيضاً أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } الآية .
كما أخرج ذلك عنه البخاريّ ومسلم وغيرهما ، وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي والترمذيّ عنه : أنه سمع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < يَجِيءُ الْمَقْتُولُ متعلقاً بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَماً يَقُولُ يَا رَبِّ قَتَلَنِي هَذَا حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ > .
وفي رواية للنسائي فيقول : < سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ > .
لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل ، وذلك لا يسلتزم أخذ التائب بذلك الذنب ، ولا تخليده في النار ، على فرض عدم التوبة ، والتوبة النافعة ، ههنا ، هي الاعتراف بالقتل عند الوارث ، إن كان له وارثٌ ، أو السلطان ، إن لم يكن له وارث ، والندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إلى مثله ، لا مجرد الندم والعزم ، بدون اعتراف ، وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها ، لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله ، وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به ، فإن قلت : فعلى ما تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب ؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوباً بين عينيه : الإياس من الرحمة ، والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله - قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل ، والدليل على هذا التأويل ، ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموماً وخصوصاً ، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة ، الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، وحديث عُبَاْدَة بن الصامت المذكور قبله ، فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل ، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر حديث عبادة ، ومع كون الحديثين في الصحيحين ، بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية ، وأيضاً في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل ، فإنه جعل الرجل القاتل عمداً مقترناً بالرجل الذي يموت كافراً ، ولا شك أن الذي يموت كافراً مصراً على ذنبه غير تائب منه ، من المخلدين في النار ، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر ، فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها .
وقد قال العلامة الزمخشريّ في " الكشاف " : إن هذه الآية فيها من التهديد والإبعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ ، قال : ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي ، من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة ، وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له ، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد : وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلاً .
ثم ذكر حديث : < لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم > ، وهو عند النسائي من حديث ابن عَمْرو ، أخرجه أيضاً الترمذيّ انتهى ، كلام الشوكاني .
وقال الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي " : لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض ، وأرسل الله سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط - كان ( أي : الظلم ) من أكبر الكبائر عند الله ، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه : وكان قتل الإِنسَاْن المؤمن من أقبح الظلم وأشده ، ثم قال : ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة قال الله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَميعاً } [ المائدة : من الآية 32 ] .
ثم قال : وفي صحيح البخاريّ عن سَمُرة بن جُنْدب قال : أول ما ينتن من الإِنسَاْن بطنه ، فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيباً فليفعل ، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل .
وفي جامع الترمذيّ عن نافع ، قال : نظر عبد الله بن عُمَر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك ، قال الترمذيّ هذا حديث حسن .
وفي صحيح البخاريّ أيضاً عن ابن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً > ، وذكر البخاريّ أيضاً عن ابن عمر قال : من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها ، سفك الدم الحرام بغير حله .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه : < سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر > .
وفيهما أيضاً عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض > .
وفي صحيح البخاريّ عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً > .
هذه عقوبة قاتل عدو الله ، إذا كان معاهداً في عهده وأمانه ، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن ؟ .
وإذا كانت امرأة قد دخلت النار ، في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً وعشطاً ، فرآها النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في النار والهرة تخشدها في وجهها وصدرها ، فكيف عقوبة من حبس مؤمناً حتى مات بغير جرم ؟ وفي بعض السنن عن صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق > .
وقال ابن القيم أيضاً قبل ذلك : وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمداً ، الخلود في النار وغضب الجبار ولعنته وإعداد العذاب العظيم له ، هذا موجب قتل المؤمن عمداً ما لم يمنع منه مانع ، ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل ، طوعاً واختياراً ، مانع من نفوذ ذلك الجزاء ، وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه ؟ فيه قولان للسلف والخلف ، وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا : لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا وخرج منه بظلامته فلا بد أن يستوفي له في دار العدل ، قالوا : فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله ، من استيفائه والعفو عنه ، وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه ؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه ؟ وهذا أصح القولين في المسألة ، إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء وارثه ؟ وهذا أصح القولين في المسألة ، إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث ، وهي وجهان لأصحاب الشافعيّ وأحمد وغيرهما ، ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث ، فإن التوبة تهدم ما قبلها ، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده ، قالوا : وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر ، وهما أعظم إثماً من القتل ، فكيف تقصر عن محو أثر القتل ؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم ، وجعلهم من خيار عباده ، ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة .
وقال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَميعاً } وهذا في حق القاتل ، وهي تتناول الكفر فيما دونه ، قالوا : وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة ؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه ، قالوا : وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه ، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول ، فأقام الشارع وليه مقامه ، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول ، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه ، فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث ، والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق : حق لله ، وحق للمظلوم المقتول ، وحق للولي ، فإذا سلم القاتل نفسه طوعاً واختياراً إلى الوليّ ، ندماً على ما فعل ، وخوفاً من الله ، وتوبة نصوحاً - فقطع حق الله بالتوبة ، وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو ، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ، ويصلح بينه وبينه ، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا .
فصل
ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام ، منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني ، فإنه قال في كتابه : " إيثار الحق " في ( بحث الوعد والوعيد ) ، ما نصه : لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد ، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول ، إما على جهة الجمع ، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه ، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها ، بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح ، فإن تعذر الجمع فالترجيح ، فإن وضح عمل به ، فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلم } [ الإسراء : 36 ] .
ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن ، بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون ، واجب قتله والبراءة منه ، والقطع أن جزاءه جهنم خالداً فيه ، كما قال تعالى على ما أراد ، وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في " العواصم " لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية ، هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء ؟ أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول ؟ والله سبحانه أعلم .
فمن رجع الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاء } [ النساء : من الآية 48 ] .
وسائر آيات الرجاء وأحاديثه - قال بالأول ، ومن رجح [ ؟ ؟ ؟ كذا في المطبوع ] وعيد القاتل في هذه الآية ، وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن ، بقطع الرجاء ، كما أوضحته في " العواصم " - رجح وعيد القاتل ، ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجباً ولا إليه ضرورة - رجح الوقف ، والله عند لسان كل قائل ونيته ، ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه ، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة ، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع ، واضطر إلى التحكم والتلوّن من غير حجة بينة وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي ، متى كان أهل الصغائر من المسلمين ، ولمن يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها ، فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد ، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى ، وذلك باب واحد ، ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين ، ولم ينكرها أحد ، بل رواتها أكابرهم وأئمتهم ، وفي " العواصم " من ذلك عن عليّ عليه السلام بضعة عشر أثراً ، بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية ، وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد ، وعلى أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير ، وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه ، وأجمعوا على أنه يسمى عفواً ، كما قال كعب بن زهير .
~أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
وإنما اختلفوا ، مع تسميته عفواً ، هل يسمى خلفاً أم لا ؟ ومن منع من ذلك ، منع صحة النقل له لغة ، واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد . انتهى .
فصل
تشرع الكفارة في قتل العمد ، لما رواه الإمام أحمد عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، فَقَالُوا : إِنَّ صَاحِباً لَنَا قَدْ أَوْجَبَ .
قَالَ : < فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً ، يَفْدِي اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ > .
ورواه أيضاً بسند آخر عنه ، قَالَ : أَتَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ ، قَالَ : < أَعْتِقُوا عَنْهُ ، يُعْتِقِ اللَّهُ [ عَزَّ وَجَلَّ ] بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنَ النَّارِ > .
وهذا رواه أبو داود والنسائي ، ولفظ أبي داود : < قد أوجب ( يعني النار ) بالقتل > .
قال الشوكانيّ في " نيل الأوطار " : في حديث وَاثِلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد ، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية ، وأما إذا اقتصّ منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته ، لحديث عبادة المذكور في الباب ، ولما أخرجه أبو نعيم في " المعرفة " : أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : < القتل كفارة > ، وهو من حديث خزيمة بن ثابت ، وفي إسناده ابن لهيعة .
قال الحافظ : لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسناً ، ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن عليّ موقوفاً عليه .
ثم حذر تعالى عما يؤدي إلى القتل العمد من قلة المبالاة في الأمور بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 94 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ } أي : ذهبتم .
{ فِي سَبِيلِ اللّهِ } إلى أرض العدو للغزو .
{ فَتَبَيّنُواْ } أي : اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون ، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية .
{ وَلاَ تَقُولُواْ لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به ، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين ، أي : لا تقولوا ( لمن أظهر الانقياد لدعوتكم فقال : لا إله إلا الله ، أو سلّم عليكم فحياكم بتحية الإسلام ) : لست مؤمناً في الباطن ، وإنما قلته باللسان لطلب الأمان ، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه .
{ تَبْتَغُونَ } أي : تطلبون بقتله .
{ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي : ماله الذي هو سريع النفاد ، والجملة حال من فاعل ( لا تَقُولوا ) منبئة عما يحملهم على العجلة وترك الثاني .
وقوله تعالى : { فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تعليل للنهي عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمني ، كأنه قيل : لا تبتغوا ماله ، فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها ، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه ، أفاده أبو السعود ، ثم قال : وقوله تعالى : { كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } تعليل للنهي عن القول المذكور ، أي : مثل ذلك الذي ألقى إليهم السلام ، كنتم أنتم أيضاً ، في مبادئ إسلامكم ، لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم ، من تحية الإسلام ونحوها ، فمنّ الله عليكم ، بأن قبل منكم تلك المرتبة ، وعصم بها دماءكم وأموالكم ، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم .
والفاء في قوله تعالى : { فَتَبَيّنُواْ } فصيحة ، أي : إذا كان الأمر كذلك ، فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم ، وافعلوا به ما فعل بكم ، في أوائل أموركم ، من قبول ظاهر الحال ، من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك .
قال ابن كثير ( في سبب نزولها ) أخرج الإمام أحمد عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : مر جل من بني سُلَيم بنفر من أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يرعى غنماً له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما يسلم علينا إلا ليتعوذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وأتوا بغنمه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فنزلت هذه الآية : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخرها ، ورواه الترمذيّ ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن أسامة بن زيد .
رواه الحاكم وصححه ، وروى البخاريّ عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان رجل في غنيمة له ، فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم ، فقتلوه ، وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله في ذلك . . . . إلى قوله : عرض الحياة الدنيا : ( تلك الغنيمة ) .
وقال البخاريّ : قال حبيب بن أبي عَمْرة عن سعيد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للمقداد : < إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل > ، هكذا رواه البخاريّ معلقاً مختصراً .
ورواه الحافظ أبو بكر البزار مطولاً موصولاً عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سرية فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأهوى إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلاً شهد أن لا إله الله الله ؟ والله ! لأذكرن ذلك للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فلما قدموا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قالوا : يا رسول الله ! إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد ، فقال : < ادعوا لي المقداد ، يا مقداد ! أقتلت رجلاً يقول : لا إله إلا الله ! فكيف لك بـ ( لا إله إلا الله ) غداً ؟ > قال : فأنزل الله : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } إلى قوله : { كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ } الآية ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للمقداد : < كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل > .
قال ابن كثير : فقوله تعالى : { كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } أي : قد كنت من قبل هذه الحال كهذا الذي يُسِرّ إيمانه ويخفيه من قومه ، كما تقدم في الحديث المرفوع ، وكما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ } [ الأنفال : من الآية 26 ] الآية ، وهذا وجه آخر في مرجع الإشارة ، غير ما سلف ، وهو الأدق ، وبالقبول أحق .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : يستفاد من هذه الرواية ( أي : رواية البزار ) تسمية القاتل ، وأما المقتول ، فروي الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه ، واللفظ للكلبي : أن اسم المقتول مرداس بن نَهِيْك ، من أهل فدك ، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد ، وأن اسم أمير السرية غالب بن فَضَالة الليثي ، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده ، وكان ألجأ غنمه بجبل ، فلما لحقوه قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله أسامة بن زيد ، فلما رجعوا نزلت الآية .
وكذا أخرج الطبري من طريق السدي نحوه ، وفي آخر رواية قتادة : لأن تحية المسلمين السلام ، بها يتعارفون .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال : أُنزلت هذه الآية في مرداس ، وهذا شاهد حسن ، وأسند ابن أبي حاتم أن أسامة حلف لا يقتل رجلاً يقول : لا إله الله ، بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيه .
قال بعض المفسرين من أئمة الزيدية : وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه السلام حتى تخلف عنه ، وإن كان عذراً غير مقبول ، لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة ويكفر يمينه .
قال الحاكم : إلا أن أمير المؤمنين أذن له . انتهى .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي حدرد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : بعثنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن رِبْعي ، ومحلِّم بن جثَّامة بن قيس ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له ، معه مُتيع له ( تصغير متاع ، وهو السلعة ) ورطب من لبن ، لما مر بنا سلم علينا ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جَثَّامة فقتله ، لشيء كان بينه وبينه ، وأخذ بعيره ومتيعه ، فلما قدمنا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأخبرناه الخبر ، نزل القرآن : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } إلى قوله تعالى : { خَبِيراً } .
ورواه ابن جرير عن ابن عمر وزاده : فجاء محلم في بردين ، فجلس بين يدي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليستغفر له فقال رسول الله : < لا غفر الله لك > ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت له سابعة حتى مات ، ودفنوه في الأرض ، فلفظته الأرض ، فجاؤوا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكروا ذلك له ، فقال : < إن الأرض تقبل من هو شرٌّ من صاحبكم ، ولكن الله أراد أن يعظكم > ، ثم طرحوه بين صَدَفي جبل ، وألقوا عليه الحجارة ونزلت .
وروى أئمة السير ؛ أنه لما كان عام خيبر ، جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر وهو سيد قيس ، وكان الأقرع بن حابس يردّ عن محلِّم وهو سيد خندف فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لقوم عامر : < هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيراً ، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ >
فقال عيينة بن بدر : والله ! لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرّ مثل ما أذاق نسائي ، فلم يزل به حتى رضي بالدية .
قال ابن إسحاق : حدثني سالم بن النضر قال : لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم : فقال : يا معشر قيس ! سألكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قتيلاً تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه ، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فيغضب عليكم الله لغضبه ؟ أو يلعنكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فيلعنكم الله بلعنته ؟ والله ! لتسلمنه إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط ، فلأبطلن دمه ، فلما قال ذلك أخذوا الدية .
وأخرج ابن منده عن جزء بن الحدرجان قال : وَفَدَ أخي ، قدادٌ إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من اليمن فلقيته سرية النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال لهم : أنا مؤمن ، فلم يقبلوا منه وقتلوه ، فبلغني ذلك ، فخرجت إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فنزلت : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ } الآية ، فأعطاني النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم دية أخي .
قال القفال : ولا منافاة بين هذه الروايات ، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها ، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته . انتهى .
وتقدم لنا في مقدمة التفسير في سبب النزول ما يدفع التنافي في نحو هذا ، فارجع إليه .
تنبيه :
قال الرازيّ : اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين ، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه ، لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف .
وفي " الإكليل " : استدل بظاهره على قبول توبة الزنديق [ في المطبوع : التزنديق ] إذا أظهر الاستسلام ، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده ، على قراءة ( السلام ) وفي الآية وجوب التثبت في الأمور ، خصوصاً القتل ووجوب الدعوة قبل القتال . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : في الآية دليل على أن من أظهر شيئاً من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره ، لأن السلام تحية المسلمين ، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك ، فكان هذه علامة ، وأما على قراءة ( السلم ) بفتحتين ، أو بكسر فسكون ، فالمراد به الانقياد ، وهو علامة الإسلام . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الكريمة وجوب الثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة ، لقوله : فَتَبَيَّنُوا ( بالنون ) وهذه قراءة الأكثر ، وحمزة والكسائي قراءتهما : ( فتثبتوا ) من ( الثبات ) ، ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأفعال من الأحكام وسائر الأعمال ، فهذا حكم ، والحكم الثاني أنه يجب الأخذ بالظاهر ، فمن أظهر الإسلام أو شيئاً من شعائر الإسلام ، لا يكذّب بل يقبل منه ، ويدخل ، في هذا ، الملحد والمنافق ، وهذا هو مذهبنا والأكثر ، ويدخل في هذا قبول توبة المرتد ، خلافاً لأحمد ، وقبول توبة الزنديق ، وهذا قول عامة الأئمة .
وقال مالك : لا تقبل ، لأن هذا عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون .
قال الراضي بالله والإمام يحيى : إن أظهروا ما يعتادون إخفاءه قبلت توبتهم ، وإلا فلا ، قال عليّ خليل : تقبل توبتهم ، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا ، كما قبل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المنافقين ، وقد أخبر الله تعالى بكفرهم .
وقال أبو مضر : تقبل ما لم يعرف كذبهم ، وهذا الخلاف في الظاهر ، وأما عند الله ، إذا صدق ، فهي مقبولة وفاقاً .
قال الحاكم : وتدل على التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز و وقد ذكر العلماء صوراً في التوصل إلى المباح بالمحظور مختلفة ، ذكرت في غير هذا الموضع ، والحجة هنا من قوله تعالى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } لأن الذي قصد هنا أخذه ، محظور ، لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال ، فذلك توصل بمحظور إلى محظور ، وقوله تعالى : { لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } قرئ ( السلم ) وهذه قراءة نافع وحمزة وابن عامر بغير ألف وهو الاستسلام ، وقيل : إظهار الإسلام ، وقرأ الباقون : ( السلام ) بألف وهو التحية . انتهى .
وقال أبو منصور في " التأويلات " : فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة ، والنهي عن الإقدام عندها ، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله : { فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } وقال في الخبر : { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيّنُوا } [ الحجرات : من الآية 6 ] ، أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة ، كما أمر في الأفعال لنبيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلم } [ الإسراء : من الآية 36 ] ، وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة ، لأنه نهاهم أن يقولوا ( لمن قال : إني مسلم ) لست مؤمناً ، وهم يقولون صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ، وهو يقول ألف مرة ( على المثل ) أني مسلم ، فإذا نهى أن يقولوا : ليس بمؤمن ، أمرهم أن يقولوا : هو مؤمن ، فيقال لهم : أنتم أعلم أم الله ؟ على ما قيل لأولئك . انتهى .
وقال الرازيّ : قال أكثر الفقهاء : لو قال اليهودي والنصراني : أنا مؤمن ، أو قال : أنا مسلم ، لا يحكم بهذا القدر بإسلامه ، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام ، وهو الإيمان ، ولو قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعند قوم لا يحكم بإسلامه ، لأن فيهم من يقول : إنه رسول الله إلى العرب ، لا إلى الكل ، ومنهم من يقول : إن محمداً الذي هو الرسول الحق ، بعدُ ما جاء ، وسيجيء بعد ذلك ، بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل ، وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم . انتهى .
أقول : كل من قال : أنا مؤمن أو أنا مسلم ، من المحاربين ، مظهراً الانقياد لنا ، وأنه من ملتنا ، فإنه يحكم بإسلامه ، ويكف عن قتله وأخذ ماله ، كتابياً كان أو مشركاً ، وهذا هو المقصود من الآية ، وأما مسالة من أراد الدخول في الإسلام وهو على عقيدة فاسدة ، وأنه لا بد في صحة إسلامه من تبرئه عنها ، ونبذها ظهرياً ، وأنه لا يكتفي بقوله : أنا مسلم - فذاك بحث آخر مسلَّم ، لكن ليس مما تشمله الآية ، كما أن من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين ولم يَدِنْ بشرائع الإسلام وإقامة شعائره ، كبعض القبائل البادية الجافية ، فإن يجب على الإمام قتالهم ، ولا يقال : إن الآية تشملهم لما ذكرنا ، وظاهر أن مدار النهي في الآية إنما هو على سفك الدماء ابتغاء عرض الدنيا ، لقوله ( تبتغون ) ، وهو حال كما أسلفنا ، والحال قيد لعاملها ، فما ذكره الرازيّ عن الفقهاء ليس مما تشمله الآية ، لأن البحث ليس في القدر الذي يصير به الكافر مسلماً ، بل في الكف عن قتل المنقاد لنا ، فافهم ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } [ 95 ]
{ لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد ، بعدما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه ، ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته ، فيهتز له رغبة في ارتفاع طبقته ، قاله أبو السعود .
وأصله للزمخشري حيث قال : فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان ، فما فائدة نفي الاستواء ؟ قلت : معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد ، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته ، فيهتز للجهاد ويرغب فيه ، وفي ارتفاع طبقته ، ونحوه : { هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلمونَ وَالّذِينَ لا يَعْلمونَ } [ الزمر : من الآية 9 ] ، أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليُهاب به إلى التعلم ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم . انتهى .
والمراد بهم ، وقت النزول ، القاعدون عن غزوة بدر والخارجون إليها ، كما رواه البخاريّ والترمذيّ عن ابن عباس ، وقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ } مخرج لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد : من العمى والعرج والمرض ، عن مساواتهم للقاعدين ، فإنهم مساوون المجاهدين بالنية ، ولا يعتد بزيادة أجر العمل لهم لعظم أمر النية .
كما روى الإمام أحمد والبخاريّ وأبو داود عن أنس ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه > ، قالوا : وهم بالمدينة ؟ يا رسول الله ! قال : < نعم ، حبسهم العذر > ، وفي هذا المعنى قال الشاعر :
~يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
~إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا
وروى البخاريّ عن البراء قال : لما نزلت : { لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زيداً فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته ، فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ } .
وفي رواية للبخاري عن زيد : فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ ، قال : يا رسول الله ! والله ! لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى ، فأنزل الله على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وكان فخذه على فخذي ، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي ، ثم سرّى عنه فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ } .
وقوله تعالى : { بِأَمْوَالِهِمْ } أي : التي ينفقونها على أنفسهم في الجهاد أو على مجاهد آخر .
{ وَأَنفُسِهِمْ } أي : التي هي أعز عليهم من كل شيء ، وإن أنفق عليهم غيرهم إذا لم يكن عندهم مال .
قال أبو السعود : وإيرادهم ، يعني الغزاة ، بعنوان المجاهدين ، دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه ، كما وقع في عبارة ابن عباس رضي الله عنهما ، وكذا تقييد المجاهدة بكونها في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، - لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلوّ المرتبة ، مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود . انتهى .
وظاهر أن نفي المساواة يسلتزم التفضيل ، إلا أنه للاعتناء به ، وليتمكن أشدتمكن ، لم يكتف بما فهم ضمناً ، بل صرح به فقال : { فَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ } لأنهم رجحوا جانبه .
{ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ } أي : غير أولي الضرر .
{ دَرَجَةً } في القرب ممن رجحوا جانبه : { وَكُلاّ } أي : كل واحد من القاعدين والمجاهدين .
{ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } أي : المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم ، والجملة اعتراض جيء به تداركاً لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول .
{ وَفَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ } بالجهاد : { عَلَى الْقَاعِدِينَ } أي : بغير عذر .
{ أَجْراً عَظِيماً } أي : ثواباً وافراً في الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } [ 96 ]
{ دَرَجَاتٍ مّنْهُ } بدل من ( أجراً ) بدل الكل ، مبيّن لكمية التفضيل و ( مِنْهُ ) متعلق بمحذوف وقع صفة لـ ( دَرَجَاتٍ ) دالة على فخامتها وجلالة قدرها ، قاله أبو السعود .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض > .
وقال الأعمش عن عَمْرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من رمى بسهم فله أجره درجة > ، فقال رجل : يا رسول الله ! وما الدرجة ؟ فقال : < أما إنها ليست بعتبة أمك : ما بين الدرجتين مائة عام > .
{ وَمَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم : { وَرَحْمَةً } فوق الأجر ودرجاته .
{ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة ، وههنا فوائد :
الأولى : دلت الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين ، إذ لو كان فرضاً من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل ، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد ، وقال : وكلاً وعد الله الحسنى .
الثانية : دلت أيضاً على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد ، لأنه فضله على القاعد مطلقاً ، ويؤيد هذا قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الجهاد سنام الدين > .
وقد فرّع العلماء على هذا أن رجلاً لو وقف ما له على أحسن وجوه البر ، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البّر ، فإنه يصرف في الجهاد ، خلاف ما ذكر أبو عليّ أنه يصرف في طلب العلم ، كذا في بعض التفاسير .
الثالثة : قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم ، وأن المعذورين في درجة المجاهدين ، واستدل بقوله ( بِأَمْوالِهِم ) على تفضيل المجاهدين بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه .
الرابعة : قال الرازيّ : لقائل أن يقول : إنه تعالى قال : { إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم } فقدم ذكر النفس على المال ، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله : { الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } قدم ذكر المال على النفس ، فما السبب ؟ وجوابه : أن النفس أشرف من المال ، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد ، والبائع أخر ذكرها تنبيهاً على أن المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب .
الخامسة : قال أبو السعود : لعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة ، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات ، مع اتحاد المفضل والمفضل عليه ، حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام - إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيداً لسلوك طريق الإبهام ، ثم التفسير رَوماً لمزيد التحقيق والتقرير ، كما في قوله تعالى : { وَلما جَاء أَمْرُنَا نَجّيْنَا هُوداً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَنَجّيْنَاهُم مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] ، كأنه قيل : فضل المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادَرُ قدرها ، ولا يبلغ كنهها ، وحيث كان تحقيق هذا البون البعيد بينهما موهماً لحرمان القاعدين ، قيل : { وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام ، بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة ، فقيل ما قيل ، ولله درّ شأن التنزيل ، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات ، على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة ، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر ، كما ينبئ عن تقديم الأول وتأخير الثاني ، وتوسيط الوعد بالجنة بينهما ، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود ، أعني الوعد بالجنة ، توضيحاً لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول ، والله سبحانه أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلم تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ 97 ]
{ إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ } روى البخاريّ عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يأتي السهم فيُرْمَى به فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يُضرب فيُقتل ، فأنزل الله : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ } الآية .
وأخرجه ابن مردويه ، وسمى منهم ( في روايته ) قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والوليد بن عُتْبَةُ بن ربيعة ، وعمرو بن أمية بن سفيان ، وعليّ بن أمية بن خلف ، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا : غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر .
وأخرجه ابن أبي حاتم ، وزاد : منهم الحارث بن زَمْعَة بن الأسود ، والعاص بن منبه بن الحجاج .
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : كان قوم بمكة قد أسلموا ، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كرهوا أن يهاجروا وخافوا ، فأنزل الله : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ } إلى قوله : { إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ } .
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة قد أسلموا ، وكانوا يخفون الإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين ، فأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ } الآية ، فكتبوا بها إلى من بقي منهم ، وإنه لا عذر لهم فخرجوا ، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا ، فنزلت : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ } [ العنكبوت : من الآية 10 ] ، فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا ، فنزلت : { ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا } [ النحل : من الآية 110 ] الآية ، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا ، فلحقوهم ، فنجا وقتل من قتل .
وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه ، كذا في " لباب النقول " .
قال المهايميّ : ولما أوهم ما فُهِم مما تقدم ، من تساوي القاعدين أولي الضرر والمجاهدين ، أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم ، وإن عجز عن إظهار دينه ، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر ، الموعود لهم الحسنى - أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم ، مع إمكان الخروج عنه ، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة ، بل لعذاب جهنم ، فقال : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ } أي : في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار .
( وتوفاهم ) يجوز أن يكون ماضياً كقراءة من قرأ : ( توفتهم ) ومضارعاً بمعنى تتوفاهم ، بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها ، أي : يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ، كذا في " الكشاف " .
و ( الظلم ) قد يراد به الكفر كقوله تعالى : { إِنّ الشّرْكَ لَظُلم عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وقد يراد به المعصية كقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالم لّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] ، ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا ، روى أبو داود عن سَمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله > .
{ قَالُواْ } أي : الملائكة للمتوفين ، تقريراً بتقصيرهم وتوبيخاً لهم .
{ فِيمَ كُنتُمْ } أي : في أي : شيء كنتم من أمور دينكم .
{ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } أي : أرض الأعداء ، قال الزمخشريّ : كيف صح وقوع قوله : { كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } جواباً عن قولهم : { فِيمَ كُنتُمْ } وكان حق الجواب : كنا في كذا أو لم نكن في شيء ؟ قلت : معنى : { فِيمَ كُنتُمْ } التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به ، واعتلالاً بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء ، فبكتتهم الملائكة بقولهم : { قَالْوَاْ أَلم تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } أرادوا : إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، ومن الهجرة إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة ، وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلاد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب ، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر ، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة - حقت عليه المهاجرة . انتهى .
{ فَأُوْلَئِكَ } أي : النفر المذكور : { مَأْوَاهُمْ } أي : مصيرهم .
{ جَهَنّمُ } لأنهم الذين ضعفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم .
{ وَسَاءتْ مَصِيراً } أي : جهنم ، بدل المصير إلى دار الهجرة ، ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } [ 98 ]
{ إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ } لعمى أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر .
{ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ } أي : الصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة لأنهم : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } في الخروج ، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة .
{ وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } أي : لا يعرفون طريقاً إلى دار الهجرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُوراً } [ 99 ]
{ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أي : يتجاوز عنهم بترك الهجرة .
قال الرازيّ : ههنا سؤال ، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة ، والعاجز عن الشيء غير مكلف به ، وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة - فِلَم قال : عسى الله أن يعفو عنهم ؟ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب ، وأيضاً ( عسى ) كلمة الإطماع ، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم ، والجواب عن الأول : أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة ، وتمييز الضعيف الذي يحصل عنده الرخصة ، عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة ، شاق ومشتبه ، فربما ظن الإِنسَاْن بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ، ولا سيما في الهجرة عن الوطن ، فإنها شاقة في النفس ، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإِنسَاْن كونه عاجزاً ، مع أنه لا يكون كذلك ، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام ، والجواب عن الثاني : بأن الفائدة في ( عسى ) الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني ، فكيف الحال في غيره ؟ هذا ما ذكره صاحب : " الكشاف " .
والأولى في الجواب ما قدمناه ، وهو أن الإِنسَاْن لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ، ربما ظن نفسه عاجزاً عنها ، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة ، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة ( عسى ) لا بالكلمة الدالة على القطع . انتهى .
وقال أبو السعود : جيء بكلمة ( الإطماع ) ولفظ ( العفو ) إيذاناً بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها ، ممن تحقق عدم وجوبها عليه ، ذنباً يجب طلب العفو عنه ، رجاء وطمعاً ، لا جزماً وقطعاً .
وقال المهايميّ : فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير ، حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلق قلبه بها ، وإن الصبي إذا قدر فلا محيص له عنه ، وإن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم ، ثم أكد الإطماع لئلا ييأسوا فقال : { وَكَانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُوراً } وفي إقحام ( كان ) إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق ، أو أن هذه عادته تعالى ، أجراها في حق خلقه ، ووعده بالعفو والمغفرة مطلقاً مما يدل على أنه تعالى قد يعفوا عن الذنب قبل التوبة .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكيل " : استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر ، إلا على من لم يطقها ، وعن مالك : الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تُغَيَّرُ فيه السنن ، فينبغي أن يخرج منه . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر ، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح ، ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال : { وَالّذِينَ آمَنُوا وَلم يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنفال : من الآية 72 ] ، قيل : ونسخت بعد الفتح ، والصحيح عدم النسخ ، وقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا هجرة بعد الفتح > ، معناه من مكة .
قال جار الله : وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب ، لبعض الأسباب ، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله ، حقت عليه الهجرة ، ثم قال رحمه الله : قال في التهذيب : وعن القاسم بن إبراهيم : إذا ظهر الفسق في دار ، ولا يمكنه الأمر بالمعروف ، فالهجرة واجبة ، وهذا بناء على أن الدور ثلاث : دار إسلام ، ودار فسق ، ودار حرب ، وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم وابن أبي النجم في كتاب " الهجرة والدور " عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي عليّ .
وذهب الأخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق ، واعلم أن من حُمِل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة ، وقد قال الراضيّ بالله : إن من سكن دار الحرب مستحلاً ، كَفَرَ ، لأن ذلك رد لصريح القرآن ، واحتج بهذه .
وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد عن القاسم والهادي والراضي بالله : التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم .
وفي ( مذهب الراضي بالله ) يكفر إذا جاورهم سنة .
قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى ، حاكياً عن الراضي بالله : إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل ؛ لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه ، الحكم بالتكفير محتمل هنا ، ثم قال : وإنما استثنى تعالى الولدان ، وإن كانوا غير داخلين في التكليف ، بياناً لعدم حيلتهم ، والهجرة إنما تجب على من له حيلة . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : الهجرة الترك ، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره ، وفي الشرع : ترك ما نهى الله عنه ، وقد وقعت في الإسلام على وجهين :
الأولى : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن ، كما في هجرتي الحبشية وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وذلك بعد أن استقر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالمدينة ، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين ، وكانت الهجرة ، إذ ذاك ، تختص بالانتقال إلى المدينة ، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص ، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر ، لمن قدر عليه ، باقياً . انتهى .
وقد أفصح ابن عمر بالمراد ، فيما ، فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ : انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار ، أي : ما دام في الدنيا دار كفر .
فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه ، وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، أخرجها مجد الدين بن تيمية في " منتقى الأخبار " في ترجمة ( باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها ) ثم قال : عن سَمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ >
، رواه أبو داود .
وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل ، فبلغ النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : < أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين > ، قالوا : يا رسول الله ! لم ؟ قال : < لا تراءى ناراهما > ، رواه أبو داود والترمذيّ .
وعن معاوية قال : سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها > ، رواه أحمد وأبو داود .
وعن عبد الله بن السَّعدِي أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو > ، رواه أحمد والنسائي ، عن ابن عباس عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية > ، رواه الجماعة إلا ابن ماجة .
وعن عائشة ، وسئلت عن الهجرة ، فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخالفة أن يفتن ، فأما اليوم مفقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ، رواه البخاريّ .
وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : هذا مجالد ، جاء يبايعك على الهجرة فقال : لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد ، متفق عليه ، ولما تضمنت ترجمة المجد ، رحمه الله ، شقين ، أورد لكلٍ أحاديث ، فمن قوله : لا هجرة بعد الفتح . . . . إلخ ، جميعه للشق الثاني ، وهو قوله : وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها ، إشارة للجمع بين هذه الأحاديث ، وهو ظاهر ، ثم رغب تعالى في المهاجرة بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يجدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الموْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } [ 100 ]
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعته .
{ يجدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً } أي : طريقاً يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه .
{ كَثِيراً وَسَعَةً } أي : في الرزق ، أو في إظهار الدين ، أو في الصدر ، لتبدل الخوف بالأمن .
{ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } بمكة : { مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ } إلى طاعته ، أو إلى مكان أمر الله .
{ وَ } إلى : { رَسُولِهِ } بالمدينة : { ثُمّ يُدْرِكْهُ الموْتُ } أي : في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد .
{ فَقَدْ وَقَعَ } أي : ثبت : { أَجْرُهُ عَلى اللّهِ } أي : فلا يخاف فوات أجره الكامل ، لأنه نوى مع الشروع في العمل ، ولا تقصير منه في عدم إتمامه .
{ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج ، ويرحمه بإكمال ثواب هجرته .
تنبيهات :
الأول : فيما روي في نزول الآية ، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال : خرج ضَمْرَة بن جُنْدب من بيته مهاجراً ، فقال لأهله : احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فنزل الوحي : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } الآية .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضَمْرَة الزرقيّ ، الذي كان مصاب البصر ، وكان بمكة ، فلما نزلت : { إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فقال : إني لغني وإني لذو حيلة ، فتجهز يريد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأدركه الموت بالتنعيم ، فنزلت هذه الآية : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } إلى آخرها .
وأخرج ابن جرير نحو ذلك من طرق ، عن سعيد بن جرير وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم ، وسمي في بعضها ضَمْرَة بن العيص ، أو العيص بن ضَمْرَة ، وفي بعضها جُنْدب بن ضَمْرَة الجندعي ، وفي بعضها الضمري ، وفي بعضها رجل من بني ضَمْرَة ، وفي بعضها رجل من خزاعة ، وفي بعضها رجل من بني ليث ، وفي بعضها من بني كنانة ، وفي بعضها من بني بكر .
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ؛ أن جندع بن ضَمْرَة الضمري كان بمكة ، فمرض ، فقال لبنيه : أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها ، فقالوا : إلى أين ؟ فأومأ بيده نحو المدينة ، يريد الهجرة ، فخرجوا به ، فلما بلغوا أضاة بني غفار ، مات ، فأنزل الله فيه : { وَمَن يَخْرُجْ } الآية .
وأخرج الأموي في " مغازيه " عن عبد الملك بن عمير قال : لما بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أراد أن يأتيه ، فأبى قومه أن يَدَعوه ، قال : فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب له رجلان ، فأتيا النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك : من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ قال : < أنا محمد بن عبد الله ، وأنا عبد الله ورسوله ، ثم تلا عليهم : { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ } [ النحل : من الآية 90 ] الآية > ، فأتيا أكثم فقالا له ذلك ، قال : أي : قوم ! إنه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً ، فركب بعيره متوجهاً إلى المدينة ، فمات في الطريق ، فنزلت فيه : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } الآية ، قال السيوطيّ : مرسل ، إسناده ضعيف .
وأخرج أبو حاتم في كتاب " المعمرين " من طريقين من ابن عباس ، أنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : نزلت في أكثم بن صيفي ، قيل : فأين الليثي ؟ قال : هذا قبل الليثي بزمان ، وهي خاصة عامة .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن منده والباوردي في ( الصحابة ) عن هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة ، فنهشته حية في الطريق فمات ، فنزلت فيه : { وَمَن يَخْرُجْ } الآية .
قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنظر قدومه وأنا بأرض الحبشة ، فما أحزنني شيء حَزْن وفاته حين بلغتني ، لأن قلَّ أحدٌ هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله ، أو ذوي رحمه ، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا الأثر غريب جداً ، فإن هذه القصة مكية ، ونزول الآية مدني ، فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره ، وإن لم يكن ذلك سبب النزول ، والله أعلم .
الثاني : ثمرة الآية ، أن من خرج للهجرة ، ومات في الطريق فقد وجب أجره على الله ، قال الحاكم : لكن اختلف العلماء ، فقيل : أجر قصده ، وقيل : أجر عمله دون أجر الهجرة ، وقيل : بل له أجر المهاجرة ، وهو ظاهر في سبب نزول الآية .
قال الحاكم : وقد استدل بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق قال : وهو بعيد ، لأن المراد بالآية أجر الثواب .
قال الزمخشريّ ، حكاية عن المفسرين : إن كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد ، أو فراراً إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة ، أو زهداً في الدنيا ، وابتغاء رزق طيب ، فهي هجرة إلى الله ورسوله ، وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله .
ووقع في كلام الزمخشريّ على الآية السابقة هذا الدعاء ، وهو : اللهم ! إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني ، فاجعلها سبباً في خاتمة الخبر ، ودرك المرجو من فضلك ، والمبتغى من رحمتك ، وصِلْ جواري لك بعكوفي عند بيتك ، بجوارك في دار كرامتك ، يا واسع المغفرة .
وكلامه ، رحمة الله ، بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله .
وقد ذكر البخاريّ ومسلم حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانسد عليهم بصخرة ، وصوبهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وقد دعا كل واحد منهم بصالح عمله ، وانفرجت عنهم الصخرة .
وقد اقتضت الآية لزوم الهجرة ولو ببذل مال كالحج ، وفيما سبق من حديث الذي حمل من مكة وقد قال : احملوني فإني لست من المستضعفين - إشارة إلى أنها تجب الهجرة إذا تمكن من الركوب ولو مضطجعاً في المحمل ، لأنه حمل على سرير ، وقد ذكر المتأخرون ( في الحج ) أن الصحيح الذي يلزمه أن يمكنه الثبات على المحمل ، قاعداً لا مضطجعاً ، لأن أحداً لا يعجز عن ذلك ، فيحتمل أن يسوى بين المسألتين ، وأنه يجب الحج ولو مضطجعاً ، وأنهما لا يجبان مع الاضطجاع ، وفعل ضَمْرَة على سبيل الشذوذ ، ويحتمل أن يفرق بينهما وتجعل الهجرة أغلظ ، لأن فعل المحظور ، وهو الإقامة ، أغلظ من ترك الواجب ، وهذا يحتاج إلى تحقيق ، كذا في تفسير بعض الزيدية .
الثالث : روي في معنى هذه الآية أحاديث وافرة ، منها ما في الصحيحين والسنن والمسانيد : عن عُمَر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : < إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ > .
قال ابن كثير : وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال .
وَمِنْهُ الْحَدِيث الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُل الَّذِي قَتَلَ تِسْعَة وَتِسْعِينَ نَفْساً ، ثُمَّ أَكْمَلَ بِذَلِكَ الْعَابِد الْمِائَة ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِماً : هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة ؟ فَقَالَ لَهُ : وَمَنْ يَحُول بَيْنك وَبَيْن التَّوْبَة ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّل مِنْ بَلَده إِلَى بَلَد أُخْرَى يَعْبُد اللَّه فِيهِ فَلَمَّا اِرْتَحَلَ مِنْ بَلَده مُهَاجِراً إِلَى الْبَلَد الْأُخْرَى أَدْرَكَهُ الْمَوْت فِي أَثْنَاء الطَّرِيق .
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وَمَلَائِكَة الْعَذَاب ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ : إِنَّهُ جَاءَ تَائِباً ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ : إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْد ، فَأُمِرُوا أَنْ يَقِيسُوا مَا بَيْن الْأَرْضَيْنِ ، فَإِلَى أَيّهمَا كَانَ أَقْرَب فَهُوَ مِنْهَا ، فَأَمَرَ اللَّه هَذِهِ أَنْ تَقْتَرِب مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ أَنْ تَبْعُد ، فَوَجَدُوهُ أَقْرَب إِلَى الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة .
وَفِي رِوَايَة : أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ الْمَوْت نَأىَ بِصَدْرِهِ إِلَى الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا .
وَرَوَى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَتِيك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : < مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ عَزَّ وَجَلَّ ] ، فَخَرَّ عَنْ دَابَّته فَمَاتَ ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه ، أَوْ مَاتَ حَتْف أَنْفه فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّا مّبِيناً } [ 101 ]
وقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } أي : سافرتم : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي : إثم .
{ أَن تَقْصُرُواْ } أي : تنقصواً شيئاً : { مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ } أي : يقاتلكم .
{ الّذِينَ كَفَرُواْ } في الصلاة : { إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّا مّبِيناً } ظاهر العداوة ، فلا يراعون حرمة الصلاة لعدواتهم .
تنبيه : في مسائل تتعلق بالآية :
الأولى : ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها تشريع صلاة السفر ، وإن معنى قوله تعالى : { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } هو قصر الكمية ، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية ، قالوا : وحكمها لمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقاً .
روى الترمذيّ والنسائي وابن أبي شيبة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة لَا يَخَاف إِلَّا رَبّ الْعَالَمِينَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
وروى البخاريّ وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال : صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَن مَا كَانَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ .
وروى البخاريّ والبقية عن أنس قال : خرجنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت : أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال : أقمنا بها عشراً .
وحينئذ فقوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ } خرج مخرج الغالب ، حال نزول الآية إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون لا إلى غزو عام ، أو سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله ، والمنطوق ، إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً } [ النور : من الآية 33 ] وكقوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } [ النساء : 23 ] الآية
قالوا : ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال : سألت عُمَر بن الخطاب ، قلت له : قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : < صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ > .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أَبِي حَنْظَلَة الْحَذَّاء قال : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ صَلَاة السَّفَر فَقَالَ : رَكْعَتَانِ ، فقلت : أَيْنَ قَوْله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَنَحْنُ آمِنُونَ فَقَالَ : سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وروى اِبْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الْوَدَّاك قَالَ : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَر ؟ فَقَالَ : هِيَ رُخْصَة نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاء فَإِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوهَا .
قالوا : فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات ، وإن ذلك كان مفهوماً عندهم عن معنى الآية ، قالوا : ومما يدل على أن لفظ ( القصر ) كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات ، ولهذا المعنى ، لما صلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الظهر ركعتين ، قال له ذو اليدين : < أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ >
هذا ، وذهب كثير من السلف ، منهم مجاهد والضحاك والسديّ ، إلى أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف ، وأن المعنيّ بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية ، لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان ، فهي تمام غير قصر ، كما قاله عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، قالوا : ولهذا قال تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } وقال تعالى بعدها : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ } الآية ، فبين المقصود من القصر ههنا ، وذكر صفته وكيفيته ، ولهذا لما عقد البخاريّ ( كتاب صلاة الخوف ) صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إ } إلى قوله : { أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الراجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .
وقال أسباط عن السدي ، في هذه الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير ، لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة .
وقال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } يوم كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه بعسفان ، والمشركون بضجنان فتوافقوا ، فصلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً ، فهمّ بهم المشركون أن يُغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، روى ذلك أبن أبي حاتم .
ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضاً ، فإنه قال ، بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب ، ثم روي عن أمية أنه قال لعبد الله بن عُمَر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر : فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يعمل عملاً عملنا به ، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع ، لا بنص القرآن ، وأصرح من هذا ما رواه أيضاً عن سِمَاك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر في صلاة المخافة ، فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة .
هذا ما نقله ابن كثير ، وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة ؛ أن الآية واردة في صلاة الخوف ، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة ، بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتم بركعة ، ويصلي منفرداً في ركعة . انتهى .
قال العلامة أبو السعود : إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته ، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات ، وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر ، فكل ما ورد عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من القصر في حال الأمن ، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف ، وبالضرب في المدة المعينة - بيان لإجمال الكتاب .
المسألة الثانية : إذا حمل القصر على قصر العدد ، وأن الرباعية تكون ركعتين ، فما حكم هذا القصر ؟ قلنا : في هذا مذاهب أربعة :
الأول : أن القصر رخصة والإتمام أفضل .
الثاني : أنه حَتْمٌ .
الثالثة : أنه سنة غير حتم .
الرابع : أنه مخير كما يخير في الكفارات ، وأنهما ، أعني القصر والإتمام واجبان .
وهناك بيان متعلق هذه المذاهب :
تعلق أهل القوم الأول بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز ، لا فيما هو فرض ، نحو : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } [ البقرة : من الآية 230 ] و : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاء } [ البقرة : من الآية 236 ] : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : من الآية 229 ] ، إن قيل : قد يستعمل ذلك في الواجب مثل : { فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطّوّفَ بِهِمَا } [ البقرة : من الآية 158 ] ، أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز .
ومن جهة السنة ، ما روي عَنْ عَائِشَةَ قالت : [ أَنَّهَا ] اعْتَمَرَتْ مَعَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ ، قَلَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! قَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ وَصُمْتُ وَأَفْطَرْتَ . فَقَالَ : < أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ > . وَمَا عَابَ عَلَيَّ .
وكان عثمان يقصر ويتم .
ومن جهة المعنى ، أو المعقول والمفهوم من لفظ ( القصر ) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر ، كما خص له في الإفطار ، وفي الحديث : < تلك صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ > .
تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا : حملنا لفظ الجناح على الفرض ، وإن كان مجازاً ، لما روي عن ابن عباس قال : فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين .
وعن عمر : صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان نبيكم ، وكانت صلاة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في أسفاره ركعتين ، وأقام بمكة ثمانية عشر يوماً يقصر ويقول : < أَتِمُّوا ، يا أَهْلُ مَكَّةَ ! فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ > .
وعن الشعبي : من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم .
وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى ، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود ، وقال : صليتُ خلف رسول لله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ركعتين ، وخلف أبا بكر ركعتين ، منفصلتين ، فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار ، منها أنه قد تأهل ، وقيل : أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة ، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص ، فيكون قولنا : قصرت الصلاة ، مجازاً ، لأنها تامة إذا نقص من الأربع ، ويقولون : هذه الأخبار تعرض ما يفهم من معقولية التسهيل ، ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات ، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين ، فكان واجباً مخيراً ، ومن قال : إنه سنة فلأن المشهور عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في القصر في الأسفار ، كذا في تفسير بعض الزيدية .
أقول : حديث عائشة المذكور ، رواه النسائي والدارقطني والبيهقيّ ، واختلف قول الدارقطني فيه ، فقال في " السنن " : إسناده حسن ، وقال في " العلل " : المرسل أشبه ، وقال ابن حزم : هذا حديث لا خير فيه ، وطعن فيه ، وقال ابن النحوي " في البدر المنير " : في متن هذا الحديث نكارة ، وهو كون عائشة خرجت مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في عَمْرة رمضان ، والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة ، وأطال في ذلك .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وكان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقصر الرباعية ، فيصليها ركعتين من حين خرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة ، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة ، وأما حديث عائشة أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم فلا يصح ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
وقد روي ( كان يقصر وتتم ) الأول بالياء آخر الحروف ، والثاني بالتاء المثناة من فوق ، وكذلك ( يفطر وتصوم ) أي : تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين .
قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل : ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وجميع أصحابه ، فتصلي خلاف صلاتهم ، كيف ؟ والصحيح عنها ؛ أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى المدينة زيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فكيف يظن بها ، مع ذلك ، أن تصلي بخلاف صلاة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمسلمين معه ؟
ثم قال ابن القيم : قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال ابن عباس وغيره : إنها تأولت كما تأول عثمان ، وإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر دائماً ، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثاً وقال : فكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقصر وتتم هي ، فغلط في بعض الرواة فقال : كان يقصر ويتم ، أي : هو ، والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه ، فقيل : ظننت أن القصر مشروط بالخوف والسفر ، فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر ، وهذا التأويل غير صحيح ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سافر آمناً ، وكان يقصر الصلاة ، والآية قد أشكلت على عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - وغيره ، فسأل عنها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأجابه بالشفاء ، وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة ، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد ، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف ، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم ، أو رفع له ، وقد يقال : إن الآية اقتضت قصراً يتناول الأركان بالتخفيف ، وقصر العدد بنقصان ركعتين ، وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض والخوف ، فإذا وجد الأمران ، أبيح القصر ، فيصلون صلاة تامة كاملة ، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده ، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد ، وهذا نوع من قصر وليس بالقصر المطلق ، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة ، باعتبار نقصان العدد ، وقد تسمى تامة ، باعتبار إتمام أركانها ، وأنها لم تدخل في قصر الآية ، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين ، والثاني : يدل عليه كلام الصحابة ، كعائشة وابن عباس وغيرهما .
قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فهذا يدل على أن صلاة السفر عدها غير مقصورة من أربع ، وإنما هي مفروضة كذلك ، وأن فرض المسلم ركعتان .
وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، متفق على حديث عائشة ، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس .
وقال عُمَر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وقد خاب من افترى ، وهذا ثابت عن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وهو الذي سأل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : ما بالنا نقصر وقد أمنّا ؟ فقال له رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته > ، ولا تناقض بين حديثيه ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ، ودينه اليسر السمح ، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد ، كما فهمه كثير من الناس ، فقال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ، وعلى هذا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح ، منفي عنه الجناح ، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم ، وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يواظب في سفره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف ، كما سنذكره هناك ، وتبين ما فيه إن شاء الله تعالى ، وقال أنس : خرجت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة ، وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، متفق عليه .
ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، صليت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان متفق عليه ، ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما ، بلى الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهداه من مداومة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وخلفائه على ركعتين .
وفي صحيح البخاريّ عن ابن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : صحبت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فكان في السفر لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان ( يعني في صدر خلافة عثمان ) ، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته ، وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه ، وقد خرج لفعله تأويلات :
أحدها : أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة ، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع ، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فكانوا حديثي عهد بالإسلام ، والعهد بالصلاة قريب ، ومع هذا فلم يربع بهم النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
الثاني : أنه كان إماماً للناس ، والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته .
فكأنه وطنه : ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كان هو أولى بذلك ، وكان هو الإمام المطلق ولم يربّع .
التأويل الثالث : أن منى كانت قد بنيت وصارة قرية كثر فيها المساكن في عهده ، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بل كانت فضاء ، ولهذا قيل له : يا رسول الله ! ألا تبني لك بمنى بيتاً يظلك من الحر ؟ فقال : < لا ، منى مناخ من سبق > ، فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر ، ورد هذا التأويل بأن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أقام بمكة عشراً يقصر الصلاة .
التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثاً ، وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً > ، فسماه مقيماً ، والمقيم غير مسافر ، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ، ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر ، وقد أقام صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بمكة عشراً يقصر الصلاة ، وأقام بمنى بعد نسكه ، أيام الجمار الثلاث ، يقصر الصلاة .
التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى ، واتخاذها دار الخلافة ، فلهذا أتم ، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة ، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى ، فإن عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - من المهاجرين الأولين ، وقد منع صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه ، ورخص له ثلاثة أيام فقط ، فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من ذلك ، وإنما رخص فيها ثلاثاً ، وذلك لأنهم تركوها لله ، وما ترك الله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع ، ولهذا منع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من شراء المتصدق لصدقته ، وقال لعمر : لا تشترها ولا تعد في صدقتك ، فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن .
التأويل السادس : أنه كان قد تأهل بمنى ، والمسافر إذا قام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة ، أتم ، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فروى عِكْرِمَة عن إبراهيم الأزديّ عن أبي ذياب عن أبيه قال : صلى عثمان بأهل منى أربعاً وقال : يا أيها الناس ! لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم > رواه الإمام أحمد في " مسنده " وعبد الله بن الزبير الحميدي في " مسنده " أيضا ، وقد أعله البيهقيّ بانقطاعه وتضعيف عِكْرِمَة .
قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاريّ ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد ، وابن عباس قبله ، أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما ، وهذا أحسن من اعتذر به عن عثمان ، وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين ، فحيث نزلت فكان وطنها ، وهو أيضاً اعتذار ضعف ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أبو المؤمنين ، وأمومة أزواجه فرع على أبوته ، ولم يكن يتم لهذا السبب ، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعاً ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ؟ فقالت : يا ابن أختي ! لا يشق عليّ .
قال الشافعيّ رحمه الله : لو كان فرض المسافر ركعتين ، لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود ، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم ، وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعله رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أتم وقصر ، ثم روي عن إبراهيم عن محمد عن طلحة بن عُمَر عن عطاء بن أبي رَبَاح عن عائشة قالت : كل ذلك فعل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قصر الصلاة في السفر ، وأتم .
قال البيهقيّ : وكذلك رواه المغيرة عن زياد عن عطاء ، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحازمي عن الدارقطني عن المحامليّ : حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عُمَر بن سعيد عن عطاء ، عن عائشة ، أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم ، قال الدارقطني : وهذا إسناد صحيح ، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري : أنا أبو نعيم ، حدثنا العلاء بن زهير ، حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة ، أنها اعتمرت مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ! قصرتَ وأتممتُ وصمتُ وأفطرتَ ، قال : < أحسنت ، يا عائشة ! > .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله ؟ وتخالف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه ؟
قال الزهريّ لعروة ، ( لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ) : فما شأنها ؟ كانت تتم الصلاة ، فقالت : تأولت كما تأول عثمان ، فإذا كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد حسن فعلها وأقرها ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر ، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فإنها أتمت ، كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلاً ، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم ، مع مخالفة غيره له ، والله أعلم .
وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عُمَر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر في القرآن ، فقال له ابن عمر : يا أخي ! إن الله بعث محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولا نعلم شيئاً ، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يفعل ، وقد قال أنس : خرجنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة ، وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وهذه كلها أحاديث صحيحة . انتهى كلام ابن القيم .
قال الإمام الشوكاني في " نيل الأوطار " : وقد استدل ، بحديثي عائشة ، القائلون بأن القصر رخصة ، ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه ، لما تقدم من أن لفظ ( تتم وتصوم ) بالفوقانية ، لأن فعلها ، على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لا حجة فيه ، فكيف إذا كان معارضاً للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة ؟ وأما الحديث الأول ، فلو كان صحيحاً ، لكان حجة ، لقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الجواب عنها : < أحسنت > ، ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة ، وهذا بعد تسليم أنه حسن ، كما قال الدارقطني ، فكيف ؟ وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة ، فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض . انتهى .
المسألة الثالثة : استدل بعموم الآية من جوّز القصر في كل سفر طويلاً أو قصيراً ، ووجهه أن قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } يصدق على كل ضرب ، ولكنه خرج الضرب أي : المشي لغير السفر ، لما كان يقع منه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ، ولا يقصر ، ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء ، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفراً لغة وشرعاً ، ومن خرج من بلده قاصداً إلى محل ، يعد في ميسره إليه مسافراً ، قصر الصلاة ، وإن كان ذلك المحل دون البريد ، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك ، بحجة نيرة ، وغاية ما جاؤوا به حديث : < لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم > .
وفي رواية : < يوماً وليلة > .
وفي رواية : < بريداً > .
وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه ، والاحتجاج به مجرد تخمين ، وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي قال : سألت أنساً عن قصر الصلاة ؟ فقال : كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ، صلى ركعتين ، والشك من شعبة ، أخرجه مسلم وغيره .
فإن قلت : محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم ، هو كونه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سمى ذلك سفراً ، قلت : تسميته سفراً لا تنافي تسميته ما دونه سفراً ، فقد سمى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مسافة الثلاث سفراً ، كما سمى مسافة البريد سفراً ، في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية .
وتسمية البريد سفراً لا ينافي تسمية ما دونه سفراً ، فإن قلت : أخرج الدارقطني والبيهقيّ والطبراني من حديث ابن عباس أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يا أهل مكة ! لا تقصروا في أقل من أربعة برد > ، من مكة إلى عسفان - قلت : هو ضعيف لا تقوم به الحجة ، فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر ، وهو متروك ، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها ، والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعاً أو لغة ، كذا في " الروضة الندية " .
وفي " المصباح " : سفر الرجل سفراً مثل طلب ، خرج للارتحال .
وفي " القاموس " : قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار : ذوو سفَر ، لضدّ الحضر .
هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة .
ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملاً بَيِّن كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها ، ويكتفي فيما عداها ببيان السنة ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّواْ فَلْيُصَلّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَميلُونَ عَلَيْكُم ميلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مّن مّطَرٍ أَوْ كُنتُم مّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } [ 102 ]
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي : مع أصحابك شهيداً وأنتم تخافون العدو .
{ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ } أي : أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي ، لوفور أجرها ، بتحمل مشاقها .
{ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ } في الصلاة ، أي : بعد أن جعلتم طائفتين ، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم ، وإنما لم يصرح به لظهوره .
{ وَلْيَأْخُذُواْ } أي : الطائفة التي قامت معك : { أَسْلِحَتَهُمْ } معهم لأنه أقرب للاحتياط .
{ فَإِذَا سَجَدُواْ } أي : القائمون معك ، سجدتي الركعة الأولى وأتموا الركعة ، فارقوك وأتموا صلاتهم ، وتقوم إلى الثانية منتظراً ، فإذا فرغوا .
{ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أي : فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة .
{ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّواْ } وهي الطائفة الواقعة تجاه العدو .
{ فَلْيُصَلّواْ } ركعتهم الأولى : { مَعَكَ } وأنت في الثانية ، فإذا جلست منتظراً ، قاموا إلى ثانيتهم وأتمنوها ثم جلسوا ليسلموا معك ، ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين اكتفاء ببيانه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لهم ، كما يأتي .
{ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ } أي : تيقظهم ، لأن العدو يتوهمون في الأولى كون المسلمين قائمين في الحرب ، فإذا قاموا إلى الثانية ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم ، فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال : وليأخذوا حذرهم وجعله كالآلة ، فأمر بأخذه وعطف عليه .
{ وَأَسْلِحَتَهُمْ } قال الواحدي : فيه رصخة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة ، قال أبو السعود : وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر ، لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها ، ومئنّة لهجوم العدو ، كما ينطق به قوله تعالى : { وَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ } أي : تمنوا .
{ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ } فتضعونها : { وَأَمْتِعَتِكُمْ } أي : حوائجكم التي بها بلاغكم .
{ فَيَميلُونَ عَلَيْكُم ميلَةً وَاحِدَةً } أي : يحملون حملة واحدة فيقتلوكم ، فهذا علة الأمر بأخذ السلاح ، والأمر بذلك للوجوب ، لقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : لا حرج ولا إثم عليكم .
{ إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مّن مّطَرٍ } يثقل معه حمل السلاح .
{ أَوْ كُنتُم مّرْضَى } يثقل عليكم حمله : { أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } أخرج البخاريّ عن ابن عباس قال : نزلت : { إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مّن مّطَرٍ أَوْ كُنتُم مّرْضَى } في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً ، ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط ، فقيل : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } لئلا يهجم عليكم العدو غيلة .
{ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } أي : يهانون به ، ويقال : شديداً ، قال أبو السعود : هذا تعليل الأمر بأخذ الحذر ، أي : أعد لهم عذاباّ مهيناً ، بأن يخذلهم وينصركم عليهم ، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم ، وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدو موهماً لتوقع غلبته واعتزامه ، نفي ذلك الإبهام بأنه الله تعالى ينصرهم ويهين عدوهم لتقوى قلوبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المؤْمِنِينَ كِتَاباً مّوْقُوتاً } [ 103 ]
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ } أي : أتممتم : { الصّلاَةَ } أي : صلاة الخوف ، على ما فصّل .
{ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } أي : فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال ، فإن ما أنتم عليه من الخوف واحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه ، قاله الرازيّ .
وقال ابن كثير : أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بغد غيرها ، ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد غيرها كما قال تعالى ( في الأشهر الأحرم ) : { فَلاَ تَظْلمواْ فِيهِنّ أَنفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] ، وإن كان هذا منهياً عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها .
{ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } أي : سكنت قلوبكم بالأمن : { فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ } أي : على الحالة التي كنتم تعرفونها ، فلا تغيرا شيئاً من هئياتها : { إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المؤْمِنِينَ كِتَاباً مّوْقُوتاً } أي : فرضاً موقتاً ، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها .
فصل
في أحكام تتعلق بهذه الآية :
الأول : في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها ، وأنه لا يجب قضاؤها ، وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر .
الثاني : تَعَلَّقَ بظاهر قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } من لم ير صلاة الخوف بعد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زاعماً أنها خاصة بعهده صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لاشتراطه كونه فيهم ، ولا يخفى أن الأئمة بعده نوّابه قوّام بما كان يقوم به ، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما في قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ، وقد قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي > .
وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم ، وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم ، عن سعيد بن العاص أنه قال ( في غزوة ومعه حذيفة ) : أيكم شهد مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا ، فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح ثم قال : إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال ، فصلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدو ثم انصرف هؤلاء ، فقاموا مقام أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم عليهم ، وكانت الغزوة بطبرستان ، قال بعضهم : وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، فلم ينكره أحد ، فحل محلّ الإجماع .
وروى أبو داود أن عبد الرحمن بن سمرة صلى ، بكابل ، صلاة الخوف .
الثالث : روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود والنسائي وغيرهم ( في نزول الآية عن ابن عباس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ) قال : كنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ } فحضرت الصلاة ، فأمرهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأخذ السلاح ، فصفنا خلفه صفين ، ثم ركع فركعنا جميعاً ، ثم رفع فرفعنا جميعاً ، ثم سجد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا ، جلس الآخرون ، ثم سلم عليهم .
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن هشام ، مثل هذا ، عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، إلا أنه قال : نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين .
وروى عبد الرزاق وابن المنذر وابن جريج عن ابن أبي نَجِيْح قال : قال مجاهد ( في قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } ) : نزلت يوم كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا ، فصلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ، ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعهم ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم ، فأنزل الله عليهم : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ } فصلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعاً فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا ، حتى قام النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والصف الأول ، ثم كبر بهم وركعوا جميعاً ، فقدموا الصف الآخر واستأخروا ، فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة ، وقصر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلاة العصر ركعتين ، وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعاً ، واشتراكهم في الحراسة ، ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود ، فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى ، ثم تسجد وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة ، وتأخرت المتقدمة ، ( فإن قلت ) : لا نطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها ، وذلك لأن قيل في الآية : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّواْ } الآية ، وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعاً معه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الصلاة ، وإنما ينطبق ما فيهم على ما رواه الشيخان عن اِبْن عُمَر رضي الله عنهما قَالَ : [ صَلَّى ] رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاة الْخَوْف بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة ، وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى مُوَاجِهَة الْعَدُوّ ، ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَقَامُوا مَقَام أَصْحَابهمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوّ ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَة ثُمَّ سَلَّمَ [ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَة وَهَؤُلَاءِ رَكْعَة .
وما روياه عن صالح بن خَوّات عمن صلى مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم ذات الرقاع ؛ أن الطائفة صف معه وطائفة وجاه العدو ، فقضى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً ، فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، فأتموا لأنفسهم فسلم بهم .
( قلت ) : بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال ، وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : نزل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بين ضجنان وعسفان فقال المشركون : لِهَؤُلاَء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة ، وإن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأمره أن يقسم أصحابه ، شطرين ، فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، فتكون لهم ركعة وللنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ركعتان ، أخرجه أصحاب السنن .
ثم رأيت القرطبيّ بحث في " تفسيره " نحو ما سبق لي حيث قال : وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد ، لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين ، ثم قال ( بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور ) قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات ، فلعله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلى بهم صلاة أخرى مفترقين . انتهى .
الرابع : ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة ، لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية ، وقد روى النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلى بذي قَرَد فصف الناس خلفه صفين : صفاً خلفه وصفاً موازي العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة .
وكذا روى أبو داود والنسائي أيضاً عن حذيفة أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا .
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فرض الله الصلاة على نبيكم صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، في الحضر ، أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف ، الاقتصار على ركعة لكل طائفة .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف ، يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما ، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ، ومنهم من قيّد بشدة الخوف .
وقال الجمهور : قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد ، وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة من الإمام وليس فيها نفي الثانية ، ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : ( ولم يقضوا ركعة ) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني : ( وفي الخوف ركعة ) وأما تأويلهم قوله : ( لم يقضوا ) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن - بعيد جداً ، كذا في " نيل الأوطار " نعم .
وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه : ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : ثم سلم ، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ذم ذهبوا ، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ، وبالتحقيق ، كل ما روي هو من صورها الجائزة ، ولما ذكر الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " هديه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في أدائها ، قال في آخر صورة : وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئاً ، وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئاً ، فيكون له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ركعتان ، ولهم ركعة ركعة ، وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها .
قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز . انتهى .
وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صوبها ، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالاً وركباناً ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة ، ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل .
قال المنذري : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد ، وإليه ذهب طاوس والضحاك ، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نُصَيْر المروزي أنه يرى ردّ الصبح إلى ركعة في الخوف ، وإليه ذهب ابن حزم أيضاً ، وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماءً ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ، لأنها ذكر الله ، وقال آخرون : يكفي تكبيرة واحدة ، فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه ، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عُمَر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي ، ورواه ابن جرير ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهر في الاجتزاء والسدي بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال : فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في " سننه " عن إسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه ، فالله أعلم ، ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم الأحزاب الظهر والعصر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء ، وكما قال بعدها ، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : < لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة > ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلا تعجيل المسير ، ولم يرد منا تأخير صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يعنف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أحداً من الفريقين ، فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة ، اليهود .
وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعيّ رحمه الله وأهل السنن ، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاريّ في " صحيحه " حيث قال ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو ) وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماءً ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا ، وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت عند مناهضة حصن تُستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدوا على الصلاة ، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار ، فصلينا ونحن مع أبي موسى ، ففُتِحَ لنا ، وقال أنس : وما يسرني ، بتلك الصلاة ، الدنيا وما فيها . انتهى .
ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم .
ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالباً ، وكان ذلك في إمارة عُمَر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم ، قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي ، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد ، كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم .
وقال البخاريّ وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى ، وما قدم إلا في خيبر ، والله اعلم .
الحكم الخامس : استدل بقوله تعالى : { طَآئِفَةٌ } على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد ، لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة به في ذلك .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : الطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد ، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف ، جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد ، ثم يصلي الآخر ، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة .
السادس : استدل بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها ، لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها ، ولو صلى كل امرئ منفرداً لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك ، أفاده الحافظ ابن حجر في " الفتح " .
قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك .
السابع : قال بعض المفسرين : اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } فقيل : هم الطائفة الذين يواجهون العدو ، وهذا ظاهر ، وقيل : بل هم الطائفة المصلون ، وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك ، وقيل : للطائفتين ، وهو قول القاسم . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : والظاهر أن المخاطب يأخذ الأسلحة المصلون ، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس ، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه ، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك ، أما المصلون فيهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة ، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة ، لضرورة الخوف وخشية الغرة ، وأيضاً فصنيع الآية يعطي ذلك ، لأنه قال : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ } وعقل ذلك بقوله : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } فالظاهر رجوع الضمير إليهم ، وحيث يعاد إلى غي المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم ، بدلالة قوة الكلام عليهم ، وإن لم يذكروا ، وناقش الناصر أيضاً الزمخشريّ في جعله المارد بقوله تعالى : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ } غير المصلين ، فقال : الظاهر أن معنى السجود ههنا الصلاة ، وقد عبر عنها بالسجود كثيراً ، والمراد : فإذا صلت الطائفة ، ( أي : أتمت صلاتها ) فليكونوا من ورائكم . انتهى .
الثامن : قال أبو عليّ الجرجاني صاحب النظم : وله تعالى : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } يدل على أنه كان يجوز للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً ، غير غافل من كيد العدو ، والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر ، لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة ، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم ، فلا جرم ، أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدو ، وطائفة مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مستقبل القبلة ، وأما حين كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعسفان وببطن نخل ، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين ، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة ، والمسلمين كانوا مستقبلين لها ، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة ، فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود ، فلا جرم ، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم ، فلما فرغوا من السجود ، وقاموا ، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا ، وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني ، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } يدل على جواز كل هذه الوجوه ، والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه ، أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكراراً محضاً من غير فائدة ، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن ، وإنه غير جائز ، نقله الرازيّ .
وقال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في أيام مختلفة وأشكال متباينة ، يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة ، فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى . انتهى .
وأنواعها مبينة في شروح السنة ، ثم حثهم تعالى على الجهاد بقوله : ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...