روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 15.و16. محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

 

15. مجلد 15.محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قةله تعالى :
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبَراهِيْمَ وَإسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ أُوْلِى الأيْدِى والأبْصَارِ } [ 45 ] .
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبَراهِيْمَ وَإسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ أُوْلِى الأيْدِى والأبْصَارِ } أي : ذوي القوة في العبادة ، والأفكار في معرفة الله تعالى . قال القاشاني : أي : العمل والعلم ، لنسبة الأول إلى الأيدي ، والثاني إلى البصر والنظر ، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية .
قال الشهاب : الأيدي ، مجاز عن القوة ، مجاز مرسل . والأبصار : جمع بصر بمعنى بصيرة ، وهو مجاز أيضاً ، لكنه مشهور فيه ، وإذا أريد بـ : الأيدي الأعمال ، فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب . والأبصار : بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليهما من المعارف كالأول أيضاً . وعلى الوجهين ، فيه تعريض بأن من ليس كذلك ، كان لا جارحة له ولا بصر . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } [ 46 ] .
{ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم } أي : صفيناهم عن شعوب صفات النفوس ، وكدورة حظوظها [ في المطبوع : حظوظا ] ، وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } أي : الباقية والمقر الأصلي ، أي : استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم العلم القدس ، وإعراضهم عن معدن الرجس ، مستشرقين لأنوارنا ، لا التفات لهم إلى الدنيا ، وظلماتها أصلاً .
لطيفة :
قال السمين : قرأ نافع وهشام : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } بالإضافة ، وفيها أوجه : أحدها - أن يكون أضاف خالصة إلى ذكرى للبيان ؛ لأن الخالصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى . كما قوله : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] ، لأن الشهاب يكون قبساً وغيره .
الثاني - أن الخالصة مصدر بمعنى إخلاص ، فيكون مصدراً مضافاً لمفعوله ، والفاعل محذوف ، أي : بأن أخلصوا ذكر الدار ، وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا ، وقد جاء المصدر على فاعلة كالعاقبة ، أو يكون المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدار ، وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة ، وفيها أوجه :
أحدها - أنها مصدر بمعنى الإخلاص ، فيكون : { ذِكْرَى } منصوباً به ، وأن يكون بمعنى الخلوص ، فيكون : { ذِكْرَى } مرفوعاً به ، والمصدر يعمل منوناً كما يعمل مضافاً ، أو يكون : خالصة ، اسم فاعل على بابه . و : { ذِكْرَى } : بدل ، أو بيان لها ، أو منصوب بإضمار : أعني ، أو هو مرفوع على إضمار مبتدأ ، و : { الدَّاْرِ } يجوز أن يكون مفعولاً به بـ : { ذِكْرَى } وأن يكون ظرفاً إما على الاتساع ، وإما على إسقاط الخافض . وخالصة : إن كانت صفة ، فهي صفة لمحذوف ؛ أي : بسبب خصلة خالصة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ } [ 47 ، 48 ] .
{ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ } أي : المختارين من أبناء جنسهم لقربنا : { الْأَخْيَارِ } أي : المنزهين عن شوائب الشرور ، على أنه جمع : خير ، مقابل شر ، الذي هو أفعل تفضيل . أو هو جمع : خيّر ، المشدد ، أو المخفف منه
{ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ } أي : بالنبوة والرسالة ، للهداية والإصلاح . واليسع : خليفة إلياس وكان خادمه ، ويقال له بالعبرانية : اليشاع ، كما يسمى إلياس فيها : إيليا ، وفي التوراة نبأ طويل عن اليسع ، ونبوته ، ومعجزاته ، صلوات الله عليه . وتقدم علم أنباء هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، في سورة الأنبياء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ } [ 49 ، 50 ] .
{ هَذَا ذِكْرٌ } أي : شرف لهم . والذكر : يتجوز به عنه . قال الشهاب : لأن الشرف يلزمه الشهرة ، والذكر بين الناس ، فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم . فيكون المعنى : أي : في ذكر قصصهم وتنويه الله بهم شرف لهم . واختار الزمخشري أن المعنى : هذا نوع من الذكر وهو القرآن ؛ أي : فالتنوين للتنويع . والمراد بالذكر القرآن . فذكره إنما هو للانتقال من نوع الكلام إلى آخر .
قال الزمخشري : لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه ، وهو باب من أبواب التنزيل, ونوع من أنواعه ، وأراد أن يذكر على عقبه باباً آخر ، وهو ذكر الجنة وأهلها ، قال : { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : إقامة وخلود : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ } أي : متى جاءوها يرونها في انتظارهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } [ 51 ] .
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا } أي : على الأرائك : { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } أي : مهما طلبوا وجدوا ، وأحضر كما أرادوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ } [ 52 ] .
{ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، أو يمنعهن طرف الأزواج أن تنظر للغير ، لشدة الحسن . وهو أبلغ . أو بمعنى حور الطرف جمع أحور ، والثوب المقصور يشبه بالحواري في بياضه ونصاعته : { أَتْرَابٌ } أي : متساوية في السن والرتب ، لا عجوز بينهن ، جمع ترب ، بكسر فسكون ، وهو من يولد معه في وقت واحد ، كأنهما وقعا على التراب في زمان واحد . فـ : ترب فعل بمعنى مفاعل ومتارب . وكمثل بمعنى ، مماثل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } [ 53 ] .
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : لوقت جزائه . واللام تعليلية . فإن ما وعده لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة ، وهي تظهر بالحساب وتقع بعده . فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد عليه ، فالنسبة لليوم والحساب مجازية . ولو جعلت اللام بمعنى بعد كما في : كتب لخمس ، سلم مما ذكر . أفاده الشهاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } [ 54 ] .
{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } أي : انقطاع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 55 ، 56 ] .
{ هَذَا } أي : باب في وصف الجنة وأهلها ، فهو مبتدأ خبر مقدر ، أو الأمر هذا ، فهو خبر لمحذوف ، أو مفعول لمحذوف : { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : الفراش ، مستعار من فراش النائم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } [ 57 ] .
{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } وهو ما يغسق من صديد أهل النار ؛ أي : يسيل . وجملة : { فَلْيَذُوقُوهُ } معترضة بين المبتدأ وخبره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ 58 ] .
{ وَآخَرُ } أي : ومذوق ، أو عذاب آخر : { مِن شَكْلِهِ } أي : هذا المذوق ، أو العذاب في الشدة والهوان : { أَزْوَاجٌ } أي : أجناس وأصناف . ثم بين ما يقال للرؤساء الطاغين ، إذا أدخلوا النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } [ 59 ] .
{ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أي : هذا جمع من أتباعكم ، وأشباهكم ، أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة ، مقتحم معكم في مضايق المذلة ، ومداخل الهوان . والاقتحام ركوب الشدة ، والدخول فيها . وقوله : { لَا مَرْحَباً بِهِمْ } أي : دعاء من الرؤساء على أتباعهم . أو صفة لـ : فوج . أو حال ؛ أي : مقولاً فيهم : { لَا مَرْحَباً بِهِمْ } أي : ما أتوا ربهم رحباً وسعة ، لشدة عذابهم ، وكونهم في الضيق والضنك ، واستيحاش بعضهم من بعض ؛ لقبح المناظر وسوء المخابر : { إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } أي : داخلوها بأعمالهم مثلنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ 60 ] .
{ قَالُوا } أي : التباع للرؤساء : { بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ } أي : بل أنتم أحق بما قلتم ، لتضاعف عذابكم بضلالكم ، وإضلالكم : { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } أي : قدمتم العذاب بإضلالنا وإغوائنا .
قال القاشاني : وهذه المقاولات قد تكون بلسان المقال ، وقد تكون بلسان الحال ، أي : لأن الوضع لا يختص بالحقيقة ، إلا أن الأظهر الأول ، ويؤيده قوله تعالى بعدُ : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } : { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } أي : المستقر جهنم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } [ 61 ] .
{ قَالُوا } أي : الأتباع أيضاً : { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } كقوله تعالى : { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } [ الأحزاب : 68 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ } [ 62 ] .
{ وَقَالُوا } أي : الطاغون ، أو الأتباع : { مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ } يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ، ويسخرون بهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } [ 63 ] .
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لـ : رجالاً . وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم ، وتأنيب لها في الاستسخار منهم . وقوله تعالى : { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } أي : مالت عنهم كبراً ، وتنحّت عنهم أنفة . والمعنى أي : الفعلين فعلنا بهم ، السخرية منهم أم الإزراء بهم ، على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم ، تحسراً وندامة على ما فعلوا ، وعلى ما حاق بهم وحدهم من سوء العذاب ، وقيل : أم ، بمعنى بل ؛ أي : بل زاغت عنهم أبصارنا لخفاء مكانهم علينا في النار ؛ كأنهم يسلّون أنفسهم بالمحال ، يقولون : أو لعلهم معنا في جهنم ، ولكن لم يقع بصرنا عليهم ، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات ، وهو قوله عز وجل : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 44 ] ، إلى قوله : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } [ الأعراف : 49 ] ، الآية . وقيل : أم بمعنى بل أيضاً ، أي : بل زاغت عنهم أبصارنا لكونها في دار أخرى وهي دار النعيم . و^رئ سُخْريّاً بضم السين ، وكسرها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } [ 64 ] .
{ إِنَّ ذَلِكَ } أي : الذي حكي عنهم : { لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } أي : لواقع وثابت . و : { تَخَاصُمُ } بدل من حق ، أو خبر لمحذوف . وقرئ بالنصب على البدل من : { ذَلِكَ } قال الزمخشري : فإن قلت : لم سمي ذلك تخاصماً ؟ قلت : شبه تقاولهم ، وما يجري بينهم من السؤال والجواب ، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك ، ولأن قول الرؤساء : { لا مَرْحَبَاً بِهِمْ } وقول أتباعهم : { بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ } من باب الخصومة . فسمي التقاول كله تخاصماً ؛ لأجل اشتماله على ذلك . انتهى .
فكتب الناصر عليه : هذا يحقق ما تقدم من أن قوله : { لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ } من قول المتكبرين الكفار . وقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ } من قول التباع . فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين . فيتحقق التخاصم . خلافاً لمن قال أن الأول من كلام خزنة جهنم , والثاني من كلام الأتباع ؛ فأنه على هذا التقدير ، إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين . فالتفسير الأول أمكن وأثبت . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 65 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ } أي : رسول مخوّف : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ } أي : بلا ولد ، ولا شريك : { الْقَهَّارُ } أي : الغالب على خلقه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ 66 ] .
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : من الخلق والعجائب : { الْعَزِيزُ } أي : الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة : { الْغَفَّارُ } أي : لمن تاب وأناب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } [ 67 ] .
{ قُلْ هُوَ } أي : الذي أنذرتكم به من التوحيد ، ومن البعثة به : { نَبَأٌ عَظِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ 68 ] .
{ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } أي : لتمادي غفلتكم ، فإن العاقل لا يعرض عن مثله ، كيف ، وقد قامت عليه الحجج الواضحة ؟ أما على التوحيد ، فما مرّ من آثار قدرته وصنعه البديع . أما على بعثته صلى الله عليه وسلم به ، به فقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ 69 ] .
{ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي : فإن إخباره عن محاورة الملائكة ، وما جرى بينهم ، على ما ورد في الكتب المتقدمة ، من غير سماع ومطالعة كتاب ، لا يتصور إلا بالوحي .
قال القاشاني : وفرق بين اختصام الملأ الأعلى ، واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } وفي اختصام الملأ الأعلى : { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبداً ، وهذا عارضيّ نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام ، الذي هو فوق كمالاتهم ، وانتهى إلى الوفاق عند قولهم : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] ، وقوله تعالى : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ البقرة 33 ] ، على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة . انتهى .
وبالجملة ، فالاختصام المذكور في الآية ، هو المشار إليه في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، قال الرازي : وهو أحسن ما قيل فيه .
ثم قال : ولو قيل : كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى ؟ قلنا : لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب ، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة ، والمشابهة علة لجواز المجاز ، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه . انتهى .
وملخصه : أن : { يَخْتَصِمُونَ } استعارة تبعية لـ : يتقاولون . وقيل : معنى الآية ، نفي علم الغيب عنه صلّى الله عليه وسلم ، ورد اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم ، كقوله تعالى : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } [ الأنعام 50 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ الملك : 26 ] ، ولذا قال بعد :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 70 ] .
{ إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وقرئ : { إِنَّما } بالكسر على الحكاية .
تنبيهات :
الأول - قال الرازي : واعلم أن قوله : { أنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } ترغيب في النظر والاستدلال ، ومنع من التقليد ؛ لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية ، فإن بتقدير أن يكون الْإِنْسَاْن فيها على الحق ، يفوز بأعظم أبواب السعادة ، وبتقدير أن يكون الْإِنْسَاْن فيها على الباطل ، وقع في أعظم أبواب الشقاوة . فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية ، وصريح العقل يوجب على الْإِنْسَاْن أن يأتي فيها بالاحتياط التام ، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة .
الثاني - قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه السلام مع الملائكة . وقيل : مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم ، كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض . حكاه الكرماني في " عجائبه " .
وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه السلام ، وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه . وإن قوله تعالى بعد : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } [ البقرة : 30 ] ، تفسير له . ولم أره مأثوراً عن أحد . بل المأثور عن ابن عباس ، وغيره ما تقدم ، من أنه في شأن آدم والملائكة ، وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي ، بتقدير : ما كان لي من علم لولا الوحي . ولا تنس القول الآخر ، والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف . والله أعلم .
وقد جاء ذكر تخاصم الملأ الأعلى في حديث الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه قال : احتبس علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح ، حتى كدنا أن نتراءى قرن الشمس . فخرج صلّى الله عليه وسلم سريعاً ، فثوب بالصلاة ، فصلى ، وتجوز في صلاته . فلما سلم قال صلّى الله عليه وسلم : < كما أنتم > . ثم أقبل إلينا فقال : < إني قمت من الليل فصليت ما قدّر لي ، فنعست في صلاتي حتى استيقظت ، فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة . فقال : يا محمد ! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، يا رب ! أعادها ثلاثاً . فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري . فتجلى لي كل شيء وعرفت . فقال : يا محمد ! فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات . قال : وما الكفارات ؟ قلت : نقل الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس في المساجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء عند الكريهات . قال : وما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام ، ولين الكلام ، والصلاة والناس نيام . قال : سل . قلت : اللهم ! إني أسألك فعل الخيرات ,وترك المنكرات , وحب المساكين, وأن تغفر لي وترحمني , وإذا أردت فتنة بقوم ، فتوفني غير مفتون , وأسألك حبك , وحب من يحبك , وحب عمل يقربني إلى حبك > . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إنها حق فادرسوها وتعلموها > .
قال ابن كثير : هذا حديث المنام المشهور . ومن جعله يقظة فقد غلط ، وهو في السنن من طرق ، وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به ، وقال : حسن صحيح .
ثم قال ابن كثير : وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن ، فإن هذا قد فسر ، وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا . انتهى . يعني قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ 71 ، 72 ] .
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } أي : فخروا له ساجدين تعظيماً وتكريماً ، إذا عدلت خلقته ، وأحييته بنفخ الروح فيه . فإذا : بدل من إذا الأولى مفصل لما أجمل قبلها من الاختصام ، وهذا ما رآه الزمخشري وتابعه ابن كثير . وقدّر أبو البقاء : اذكر ، وهو الأظهر عندي ، ويعضده القول الثاني في الآية المتقدمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } [ 73 ، 74 ] .
: { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ } أي : تعظم : { وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } أي : باستكباره أمر الله تعالى ، واستكباره عن طاعته

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } [ 75 ] .
{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أي : بنفسي من غير توسط ، كأب وأم : { أَسْتَكْبَرْتَ } أي : أعرض لك التكبر ، والاستنكاف : { أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } أي : عليه زائداً في المرتبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ 76 ] .
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } يعني أن الروح الحيواني الناري أشرف من المادة الكثيفة البدنية ، وعاب عنه ما تضمنته من الحكمة الإلهية ، واللطيفة الربانية حتى تمسك بالقياس ، وعصى الله تعالى في السجود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ 77 ] .
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } أي : من الجنة أو السماء : { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي : مطرود من الرحمة ، ومحل الكرامة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [ 78 ] .
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } قال القاشاني : الرجيم واللعين من بعُد عن الحضرة القدسية ، المنزهة عن المواد الرجسية ، بالانغماس في الغواشي الطبيعية ، والاحتجاب بالكوائن الهيولانية . ولهذا وقت اللعن بيوم الدين ، وحدد نهايته به ؛ لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده ، وحينئذ لا يبقى تسلطه على الْإِنْسَاْن . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ 79 - 83 ] .
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } وهو القيامة الكبرى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية ، وصفى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ 84 ] .
{ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } جملة معترضة ، للتأكيد ؛ أي : ولا أقول إلا الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ 85 ، 86 ] .
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : تبعك في التعزز ، والاستكبار ، والإباء عن الحق ، والمحاجة في الباطل : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : على القرآن ، أو الوحي . قال القاشاني : أي : لا غرض لي في ذلك . فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات ، غير معلومة بالغرض : { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } قال الزمخشري : أي : المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعاً ، ولا مدعياً ما ليس عندي ، حتى أنتحل النبوة ، وأدعي القرآن .
تنبيه :
في الآية ذم التكليف . وقد روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : يا أيها الناس ! من علم شيئاً فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم . فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم . فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلّى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ 87 ، 88 ] .
{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي : عظة وتذكير لهم . وهذا كقوله : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقوله سبحانه : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] : { ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } أي : عند ظهور الإسلام ، وانتشاره ، ودخول الناس فيه أفواجاً أفواجاً ، من صحة خبره ، وإنه الحق والصدق . وهذا من أجلّ معجزات القرآن ؛ لأنه من الغيوب التي ظهر مصداقها ؛ إذ كان زمن الإخبار به زمن قلة من المؤمنين ، وخوف من المشركين ، فلم يمض ردح من الزمن حتى أبدل الله قلتهم كثرة ، وضعفهم قوة ، وخوفهم أمناً ، وكمونهم ظهوراً وانتشاراً . فصدق الله العظيم ، وصدق نبيه الكريم ، وحقت كلمة الله على الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .

(/)


سورة الزمر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ 1 ] .
{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } أي : هذا تنزيل ، أو تنزيله كائن من الله .
وقرئ : { تَنزِيلُ } بالنصب على إضمار فعل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } [ 2 ] .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } أي : عن شعوب الشرك والرياء ، بإمحاض التوحيد ، وتصفية السر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ 3 ] .
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي : الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة ؛ لانفراده بالألوهية : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي : بالمحبة ؛ للتقرب والتوسل بهم إلى الله تعالى : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : يقولون ذلك احتجاجاً على ضلالهم : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : عند حشر معبوداتهم معهم ، فيقرن كلاً منهم مع من يتولاه ، من عابد ومعبود ، ويدخل المبطل النار مع المبطلين ، كما يدخل المحق الجنة مع المحقين : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } لا يوصله إلى النجاة ، ومقر الأبرار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 4 ] . : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي : نزهه عن المماثلة ، والمجانسة ، واصطفاء الولد ؛ لكون الوحدة لازمة لذاته ، وقهره بوحدانيته لغيره ، فلا تماثل في الوجود ، فكيف في الوجوب ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ 5 - 6 ] .
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } أي : بإذهاب أحدهما ، وتغشية الآخر مكانه ، كإنما ألبسه ولفّ عليه : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } وهو منتهى دوره ، أو منقطع حركته : { أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا } أي : من نفسها ونوعها : { زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي : ذكراً وأنثى ، من الإبل والبقر والضأن والمعز : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ } أي : متقلبين في أطوار الخلقة : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } يعني البطن ، والرحم ، والمشيمة : { ذَلِكُمُ } أي : الخالق لصوركم . المكوّر أي : المصرف بقدرته ، المسخر بسلطانه ، المنشي للكثرة من نفس واحدة بحكمته ، المنزل للنعم بنعمته : { اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : عن عبادته إلى عبادة غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 7 ] .
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ } أي : عن إيمانكم : { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي : لأنه سبب هلاكهم : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي : وإن تستعملوا ما أنعم به عليكم فيما خلق له ، يقبله منكم ؛ لأنه دينه ، ويثيبكم ثواباً حسناً لطاعتكم .
تنبيه :
في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } على أنه تعالى لا يرضى الكفر والمعاصي ، وعلى أن الرضا غير الإرادة . وهو أحد قولي أهل السنة . والقول الثاني وحكاه الآمدي عن الجمهور ، أن الرضا والإرادة سيان ، وحملوا العبادَ في الآية على المخلصين { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تحمل حاملة حمل أخرى ، أي : ما عليها من الذنوب ، أو لا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى ، بل كل مأخوذ بذنبه : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ } أي : بعد الموت : { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما في القلوب من الخير والشر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَاْن ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ 8 - 9 ] .
{ وَإِذَا مَسَّ } أي : أصاب : { الْإِنْسَاْن ضُرٌّ } أي : شدة وبلاء : { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي : ابتهل إليه برفع الشدة والبلاء عنه ، مقبلاً إليه بالدعاء والتضرع : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } أي : أعطاه : { نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل النعمة . وقيل : نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ، ويبتهل إليه . فـ : ما بمعنى من ، أقيمت مقامها لقصد الدعاء الوصفي ، ولِمَا في ما ، من الإبهام والتفخيم { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي : يصد الناس عن دينه وطاعته : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ } أي : عش به : { قَلِيلاً } أي : يسيراً في الدنيا .
{ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً } أي : متعبداً في ساعاته يقطعها في السجود والقيام : { يَحْذَرُ الْآخِرَةَ } أي : عقابها : { وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي : جنته ورضوانه ، أي : أهذا أفضل أم ذاك الكافر الجاحد الناسي لربه ؟ : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } أي : توحيده ، وأمره ، ونهيه في الثواب والطاعة : { وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي : لا يستويان .
تنبيهات :
الأول - في الآية استحباب قيام الليل . قال ابن عباس : آناء الليل : جوف الليل . وقال الحسن : ساعاته أوله ، ووسطه ، وآخره .
الثاني - في قوله تعالى : { يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } ردّ على من ذم العبادة خوفاً من النار ، أو رجاءً الجنة . وقال صلّى الله عليه وسلم < حولها ندندن > .
الثالث - في قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي } الآية مدح العلم ، ورفعة قدره ، وذم الجهل ، ونقصه . وقد يستدل به على أن الجاهل لا يكافئ العالمة ، كما أنه لا يكافئ بنت العالم ، أفاده في " الإكليل " .
وفي الآية أيضاً إشعار بأن الذين يعلمون هم العاملون بعلمهم ؛ إذ عبر عنهم أولا بـ : القانت ، ثم نفى المساواة بينه وبين غيره ، ليكون تأكيداً له ، وتصريحاً بأن غير العالم كأن ليس بعالم .
قال القاشاني : وإنما كان المطيع هو العالم ، لأن العلم هو الذي رسخ في القلب ، وتأصل بعروقه في النفس ، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته ، بل سيط باللحم والدم ، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه ، وأما المرتسم في حيز التخيل ، بحيث يمكن ذهول النفس عنه ، وعن مقتضاه ، فليس بعلم . إنما هو أمر تصوري وتخيل عارض لا يلبث ، بل يزول سريعاً ، لا يغذو القلب ، ولا يسمن ، ولا يغني من جوع : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ } أي : يتعظ بهذا الذكر : { أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } أي : العقول الصافية عن قشر التخيل والوهم ، لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر ، وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 10 ] .
{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أي : للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا ، مثوبة حسنة في الآخرة ، لا يكتنه كنهها : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } أي : بلاده كثيرة . فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه ، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه . قال الشهاب : وجه إفادة هذا التركيب هذه المعاني الكثيرة ، أوضحه شراح الكشاف بأن قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا } مستأنف لتعليل الأمر بالتقوى, ولذا قيد بالظرف ؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة ، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات . وعقّب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان ، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان ، فكان حثّاً على اغتنام فرصة الأعمار ، وترك ما يعوق من حب الديار ، والهجرة فيما اتسع من الأقطار ، كما قيل :
~إِذَاْ كَاْنَ أَصْلِيْ مِنْ تُرَاْبٍ فَكُلُّهَا بِلَاْدِيْ وَكُلُّ الْعَاْلِمِيْنَ أَقَاْرِبِي
انتهى { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ } أي : على مشاق الطاعة من احتمال البلاء ، ومهاجرة الأوطان لها : { أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير مكيال ؛ تمثيل للكثرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } [ 11 ] .
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } أي : عن الالتفات إلى غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [ 12 ] .
{ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } أي : وأمرت بذلك ، لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ؛ لأن إخلاصه صلّى الله عليه وسلم أتم من إخلاص كل مخلص . وعلى هذا ، فالأولية في الشرف والرتبة ، أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من أمته . فالأولية زمانية على ظاهرها . ويجوز أن تجعل اللام مزيدة . كما في : أردت لأن أفعل . فيكون أمراً بالتقدم في الإخلاص .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } [13 - 14 ] .
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } أي : بترك الإخلاص له : { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ } أي : أخصه بالعبادة : { مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } عن شوب الغير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ 15 ] .
{ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : أهلكوا أنفسكم بالضلال ، وأهليهم بالإضلال ، وخسروا أنفسهم بالهلاك وأهليهم به أيضاً ، إن كانوا مثلهم ، أو بفقدهم فقداً لا اجتماع بعده ، إن كانوا من أهل الجنة : { أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } [ 16 ] .
{ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أي : أطباق من النار : { ذَلِكَ } أي : العذاب المتوعد به : { يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } أي : بعدم التعرض لما يوجب السخط . قال الزمخشري : وهذه عظة من الله تعالى ، ونصيحة بالغة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَاد ِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ } [ 17 - 19 ] .
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } يعني الأوثان . وفعلوت للمبالغة : { وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى } أي : بالثواب : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي : أيثاراً للأفضل واهتماماً بالأكمل . قال الزمخشري : أراد أن يكونوا نقاداً في الدين ، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك ، وأقواها عند السبر ، وأبينها دليلاً وأمارة ، وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل :
~وَلَاْ تَكُنْ مِثْلَ عِيْرٍ قِيْدَ فَانْقَاْدَا
يريد المقلد . انتهى ويدخل تحته أيضاً إيثار الأفضل من كل نوعين ، اعتراضاً ، كالواجب مع الندب ، والعفو مع القصاص ، والإخفاء مع الإبداء في الصدقة ، وهكذا : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ } أي : أفأنت تنقذه منها ؟ أي : لا يمكن إنقاذه أصلاً

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ 20 - 21 ] .
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ } أي : يتم جفافه : { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي : فتاتاً : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } أي : لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد من صانع حكيم ، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير ، لا عن تعطيل وإهمال . ويجوز أن يكون مثلاً للدنيا كقوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ يونس : 24 ] ، { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الكهف : 45 ] ، أفاده الزمخشري .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ 22 ] .
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ } أي : وسعه لتسليم الوجه إليه وحه ، ولقبول دينه ، وشرعه بلطفه ، وعنايته ، وإمداده سبحانه : { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } أي : على بينة ومعرفة ، واهتداء إلى الحق ، واستعارة النور للهدى والعرفان ، شهيرة ، كاستعارة الظلمة لضد ذلك . وخبر من محذوف دلّ عليه قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } أي : من قبول ذكره لشدة ميلها إلى اللذات البدنية ، وإعراضها عن الكمالات القدسية ، أو من أجل ذكره ؛ فـ : من للتعليل والسببية . . وفيها معنى الابتداء لنشئها عنه . قال الشهاب : إذا قيل : قسا منه ، فالمراد أنه سبب لقسوة نشأت منه . وإذا قيل : قسا عنه ، فالمعنى أن قسوته جعلته متباعداً عن قبوله ، وبهما ورد استعماله . وقد قرئ بـ : عن ، في الشواذ . لكن الأول أبلغ ؛ لأن قسوة القلب تقتضي عدم ذكر الله ، وهو معناه إذا تعدى بـ : عن . وذكره تعالى مما يلين القلوب . فكونه سبباً للقسوة ، يدل على شدة الكفر الذي جعل سبب الرقة ، سبباً لقسوته : { أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : عن طريق الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ 23 ] .
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } أي : يشبه بعضه بعضاً . في الصحة ، والإحكام ، والبناء على الحق ، والصدق ، ومنفعة الخلق ، ووجوه الإعجاز : { مَّثَانِيَ } جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر ، لما ثنى من قصصه ، وأنبائه ، وأحكامه ، وأوامره ، ونواهيه ، ووعده ، ووعيده ، ومواعظه : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } تمثيل لإفراط خشيتهم ، أو حقيقة لتأثرهم عند سماع آياته ، وحكمه ، ووعيده ، بما يرد على قلوبهم منها : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : بالانقياد ، والطاعة ، والسكينة لأمره : { ذَلِكَ } أي : الكتاب ، أو الكائن من الخشية والرجاء : { هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ } أي : من زاغ قلبه : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ 24 ] .
{ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : فمن يجعل وجهه وقاية لشدة العذاب ذلك اليوم ، أي : قائماً مقامها في أنه أول ما يمسه المؤلم له ؛ لأن ما يتقى به هو اليدان ، وهما مغلولتان . ولو لم تغلا كان يدفع بهما عن الوجه ؛ لأنه أعز أعضائه . وقل : الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به ؛ لأن الوجه لا يتقى به . وخبر من محذوف كنظائره . أي : كمن أمن العذاب : { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي : وباله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } [ 25 ] .
{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } أي : لا يحتسبون أن الشر يأتيهم منها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [26 - 27 ] .
{ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : الذل والصغار : { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي : بيّنا لهم في هذا القرآن ، الذي هو دليل في نفسه من إعجازه ، من كل مثل يحتاج إليه . من يستدل بنظره على حقيته وأحقيته : { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : به ما يهمهم من أمور دينهم ، وما يصلحهم من شؤون سعادتهم . فيفسروا المعقول بالمحسوس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 28 ] .
{ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي : مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف : { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : العذاب ، والخزي يوم الجزاء ، بالاتقاء من الأفعال القبيحة ، والأخلاق الرديئة ، والاعتقادات الفاسدة . ومن أجل تلك الأمثال . ما مثل به ليتقي من أعظم المخوفات ، وهو الشرك ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ 29 ] .
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً } أي : للمشرك والموحد رجلين مملوكين : { رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ } أي : سيئو الأخلاق ، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة ، لا يزال متحيراً متوزع القلب ، لا يدري أيهم يُرضي بخدمته ، وعلى أيهم يعتمد في حاجته : { وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } أي : خلص ملكه له ، لا يتجه إلى إلا جهته ، ولا يسير إلا لخدمته ، فهمّه واحد ، وقلبه مجتمع : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي : صفةً وحالاً . أي : في حسن الحال وراحة البال ؟ كلا . وهكذا حال من يثبت آلهة شتى ، لا يزال متحيراً خائفاً لا يدري أيهم يعبد ، وعلى ربوبية أيهم يعتمد . وحال من لم يعبد إلا إلهاً واحداً ، فهمّه واحد ، ومقصده واحد ، ناعم البال ، خافض العيش والحال . والقصد أن توحيد المعبود فيه توحيد الوجهة ، ودرء الفرقة . كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] { الْحَمْدُ لِلَّهِ } قال أبو السعود : تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض ، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى . وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته . أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل ، أن لهم المثل الأعلى , وللمشركين مثل السوء . صنع جميل ولطف تام منه عز وجل ، مستوجب لحمده وعبادته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [ 30 ] .
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة . وقرئ : مائت ومائتون . وقيل : كانوا يتربصون برسول الله صلّى الله عليه وسلم موته . أي : إنكم جميعاً بصدد الموت .
وقوله تعالى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونٍَ } إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان أن أكثر الناس ، وهم المشركون ، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره ، فيبقون في ورطة الشرك والضلال ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ 31 ] .
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ } أي : مالك أموركم : { تَخْتَصِمُونَ } أي : فتحتج أنت عليهم بأنك بلّغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات ، واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد ، وهم قد لجّوا في المكابرة والعناد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ 32 ] .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ } أي : افترى عليه بنسبة الشريك والولد : { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ } أي : بالأمر الذي هو عين الحق : { إِذْ جَاءهُ } أي : حضر عنده دليله وبرهانه ، فرفضه ورده على قائله ، أي : لا أحد من المتخاصمين أظلم ممن حاله ذلك ؛ لأنه أظلم من كل ظالم : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } أي : لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه ، وسارعوا إلى التكذيب بالحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ 33 ] .
{ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } أي : جاء بدليل التوحيد ، وآمن به فلم يعتد بشبهة تقابله ، يعني النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومن تبعه : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } أي : الموصوفون بالتقوى التي هي أجل الرغائب . ولذا كان جزاؤهم أن يقيهم الله ما يكرهون ، كما قال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ } [ 34 - 37 ] .
{ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } أي : الذين أحسنوا أعمالهم وأصلحوها : { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } أي : نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يعصمه من كل سوء ، ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } يعني الأوثان التي عبدوها من دونه تعالى ، وهذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما قالت له قريش : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ، ويصيبك مضرتها لعيبك إياها . كما قال قوم هود : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [ هود : 54 ] .
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ } أي : من غفل عن كفايته تعالى ، وعصمته له عليه الصلاة والسلام ، وخوفه بما لا ينفع ، ولا يضر أصلاً : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } أي : يصرفه عن مقصده ، أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه ؛ إذ لا راد لفضله ، ولا معقب لحكمه : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ } أي : ينتقم من أعدائه لأوليائه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ 38 ] .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } لما تقرر في الفِطَر والعقول من استيقان ذلك ، ولوضوح الدليل عليه : { قُلْ } أي : تبكيتاً لهم : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } أي : نفعه وخيره ، كلا ، فإنها لا تضر ولا تنفع : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } أي : في جميع أمورهم ، لا على غيره ، لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [ 39 - 40 ] .
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : حالتكم التي أنتم عليها ، من العداوة ، ومناصبة الحق : { إِنِّي عَامِلٌ } أي : على مكانتي ، فحذف للاختصار ، والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة ، بنصر الله عز وجل وتأييده . ولذلك توعدهم بكونه منصوراً عليهم في الدارين ، بقوله تعالى : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي : دائم ، وقد أخزاهم الله يوم بدر : { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [ طه : 127 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ 41 ] .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ } أي : لأجلهم ، ولأجل حاجتهم إليه ، وافتقارهم إلى بيان مراشدهم : { فَمَنِ اهْتَدَى } أي : بدلائله : { فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي : لتجبرهم على الهدى ؛ إذ ما عليك إلا البلاغ : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ الحجر : 94 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 42 ] . : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } أي : مفارقتها ، بإبطال تصرفها فيها بالكلية : { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } أي : ويتوفى التي لم يحن موتها في منامها ، بإبطال تصرفها بالحواس الظاهرة : { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } أي : فلا يردها إلى بدنها إلى يوم القيامة : { وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : وهو نوم آخر ، أو موت : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فيما ذكر من التوفي على الوجهين : { لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في كيفية تعلقها بالأبدان ، وتوفيها عنها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ 43 - 45 ] .
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } أي : هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما ، إلا أن يكون المشفوع له مرتضى ، والشفيع مأذوناً له ، وكلاهما مفقود ها هنا : { لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } أي : دون آلهتهم : { اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } أي : فرادى ، أو مع ذكر الله تعالى : { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : يفرحون بذلك ؛ لفرط افتتانهم بها ، ونسيانهم حق الله تعالى . ولقد بولغ في الأمرين حيث بيّن الغاية فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً حتى ينقبض أديم وجهه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 46 ] .
{ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : التجئ إلى الله بالدعاء بأسمائه الحسنى ، وقل : أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم . والمقصود بيان حالهم ، ووعيدهم ، وتسلية حبيبه الأكرم ، وأن جدّه وسعيه معلوم مشكور عنده تعالى ، وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى ، والدعاء بأسمائه الحسنى ، والاستعانة بالتضرع ، والابتهال على دفع كيد العدو .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } [ 47 - 48 ] .
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } أي : نزل بهم جزاؤه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَاْن ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 49 - 50 ] .
{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَاْن ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أي : مني بوجوه الكسب والتحصيل : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي : ابتلاء له ، أيشكر تلك النعمة ، فيصرفها فيما خلقت له ، فيسعد . أو يكفرها فيشقى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : كما قال قارون : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [ القصص : 78 ] : { فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : فما دفع عنهم ما كسبوه بذلك العلم من متاع الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 51 - 52 ] .
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : بأن الكل منه سبحانه ، ومن آياته في ذلك - كما قال المهايمي - أنه تعالى قوي بذاته ، له تقويه من يشاء ، وتضعيف من يشاء . ومنها أنه فيّاض بذاته لا يتوقف فيضه على الشفعاء . ومنها أنه فاعل بذاته لا يتوقف فعله على سبب وواسطة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } [ 53 - 56 ] .
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ } أي : جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر : { لَا تَقْنَطُوا } قرئ بفتح النون وكسرها : { مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } أي : لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف : { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } أي : لمن تاب وآمن ؛ فإن الإسلام يجب ما قبله : { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } أي : توبوا إليه : { وَأَسْلِمُوا لَهُ } أي : استسلموا وانقادوا له ، وذلك بعبادته وحده ، وطاعته وحده ، بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ } أي : قصرت : { فِي جَنبِ اللَّهِ } أي : في جانب أمره ونهيه ، إذ لم أتبع أحسن ما أنزل : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } أي : المستهزئين بمن يتبع الأحسن . و : { أن تَقُولَ } مفعول له بتقدير مضاف ؛ أي : فتداركوا كراهة أن تقول ، أو تعليل لفعل يدل عليه ما قبله ، أي : أنذركم وآمركم باتباع أحسن القول كراهة . وتفصيله في " شروح الكشاف " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ 57 ] .
{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي } أي : للإسلام : { لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أي : من هذا الكفر ؛ أي : تقول هذا النوع من التحسر ، والتعلل بما لا يجدي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 58 ] .
{ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } أي : رجعة إلى الدنيا : { فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي في الإيمان والعمل الصالح . ثم رد تعالى على تلك النفوس بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [ 59 - 60 ] .
{ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ } أي : بنسبة ما يستحيل عليه من الولد والشريك ، وتجويز ما يمتنع عليه من رضاه بما هم عليه ، وأمره لهم ، وغير ذلك من إفكهم : { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } أي : لما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم ، فالسواد حقيقي ، أو لما لحقهم من الكآبة ، ويظهر عليهم من آثار الهيئات الظلمانية ، ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم ، فالسواد مجاز بالاستعارة : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } أي : عن الإيمان والهدى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون َ *اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ 61 - 62 ] .
{ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ } أي : بفوزهم ، وفلاحهم لإتيانهم بأسباب الفوز ، من الاعتقادات المبنية على الدلائل ، والأعمال الصالحة : { لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : يتولى التصرف فيه كيف شاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } [ 63 - 66 ] .
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : هو وحده يملك أمرها ، وخزائن غيوبها وأبواب خيرها وبركتها : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } أي : خصه بالعبادة : { وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } أي : الصارفين ما أنعم به عليهم ، إلى ما خلق لأجله .
قيل : كان الظاهر : لو أشركت ؛ لأن أن ، تقتضي احتمال الوقوع . وهو هنا مقطوع بعدمه . فالجواب : أن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض . والمحالات يصح فرضها لأغراض . والمراد به تهييج الرسل ، وإقناط الكفرة ، والإيذان بغاية قبح الإشراك ، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره ، فكيف بمن عداه ؟ .
وإطلاق الإحباط هنا يستدل به من ذهب إلى أن الردة مبطلة للعمل مطلقا ، كالحنفية . وغيرهم يرى الإحباط مقيداً بالاستمرار عليه إلى الموت ، وأنه هو المحيط في الحقيقة ، وأنه إنما ترك التقييد به اعتماداً على التصريح به في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } [ البقرة : 217 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 67 ] .
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : ما قدروا عظمته تعالى حق عظمته ، ولا عرفوا جلاله حق معرفته ؛ حيث جعلوا له شركاء ، ووصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة ، مع أن عظمته وكمال قدرته تتحير فيها الأوهام ، فإن تبديل الأرض غير الأرض ، وطي السماوات كطي السجل ، أهون شيء عليه .
وفي القبضة واليمين ، مذهبان معروفان :
مذهب السلف ، وهو إثبات ذلك من غير تكييف له ، ولا تشبيه ، ولا تحريف ، ولا تبديل ، ولا تغيير ، ولا إزالة للفظ الكريم عما تعرفه العرب ، وتضعه عليه بتأويل ، يجرون على الظاهر ، ويكلون علمه إليه تعالى ، ويقرون بأن تأويله : أي : ما يؤول إليه من حقيقته ، لا يعلمه إلا الله ، وهكذا قولهم في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ، ووردت بها الأخبار الصحاح .
المذهب الثاني - القول بأن ذلك من المجاز المعروف نظيره في كلام العرب ، وإن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة . ثم من ذاهب إلى أن المجاز في المفردات, استعيرت القبضة للملك ، أو التصرف واليمين للقدرة ، وذاهب إلى أنه في المركب ، بتمثيل حال عظمته ونفاذ قدرته ، بحال من يكون له قبضة فيها الأرض ، ويمين بها تطوى السماوات ، وهذا ما عول عليه الزمخشري وبسطه أحس بسط .
ثم أشار إلى أن من عظيم قدرته تعالى ، أنه جعل النفخ في الصور سبب موت الكل تارة ، وحياتهم أخرى ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ 68 ] .
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ } أي : هلك : { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ } أي : من خواص الملائكة ، أو من الشهداء ، روي ذلك عن بعض التابعين . وقال قتادة : قد استثنى الله ، والله أعلم ، إلى ما صار ثُنْيَتُه . وهذا هو الوجه ؛ إذ لا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أي : وقوف ، يقلبون أبصارهم دهشاً وحيرةً ، أو ينتظرون ما يحل بهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [ 69 ] .
{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } أي : لأنه يتجلى لهم سبحانه لإقامة العدل والجزاء
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : عرض كتب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته . أو : { الْكِتَابُ } مجاز عن الحساب وما يترتب عليه من الجزاء ، ووضعه ترشيح له . والمراد بوضعه الشروع فيه ، أو هو تمثيل . وجوهٌ نقلها الشهاب : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء } أي : الذين يشهدون للأمم وعليهم ، من الحفظة والأخيار المطلعين على أحوالهم ؛ أي : أحضروا للشهادة لهم ، أو عليهم لاطّلاعهم على أحوالهم ، وجوّز إرادة المستشهدين في سبيل الله تعالى ، تنويهاً بشأنهم ، وترفيعاً لقدرهم ، بضمهم إلى النبيين في الموقف . ولا يبعد : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أي : فتوزن أعمالهم بميزان العدل ، ويوفّون جزاء أعمالهم ، لا ينقص منها شيء ، كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ 70 - 73 ] .
{ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً } أي : أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض ، على تفاوت ضلالهم وغيهم ، رعاية للعدل في التقديم والتأخير : { حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي : ليدخلوها ، ولكل فريق باب
{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } أي : الموكلون بتعذيبهم : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } أي : من جنسكم تعرفون صدقهم وأمانتهم : { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : وقتكم أو يوم القيامة ، حرصاً على صلاحكم وهدايتكم : { قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ } أي : وجبت : { كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : حكمه عليهم بالشقاوة ، وأنهم من أهل النار : { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ } أي : مساق إعزاز وتشريف ، للإسراع بهم إلى دار الكرامة : { زُمَراً } أي : متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل : { حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي : من دنس المعاصي ، وطهرتم من خبث الخطايا
{ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } قال السمين : في جواب : { إِذَا } ثلاثة أوجه :
أحدها - قوله : { وَفُتِحَتْ } والواو زائدة . وهو رأي الكوفيين والأخفش ، وإنما جيء هنا الواو دون التي قبلها ؛ لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ، ثم تغلق عليه ، فناسب ذلك عدم الواو فيها ، بخلاف أبواب السرور والفرح ، فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها .
والثاني - أن الجواب قوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } على زيادة الواو أيضاً .
الثالث - أن الجواب محذوف . قال الزمخشري : وحقه أن يقدر بعد خالدين : أي لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه . والتقدير : اطمأنوا . وقدّره المبرد : سعدوا . وعلى هذين الوجهين ، فتكون الجملة من قوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } في محل نصب على الحال ، والواو واو الحال ؛ أي : جاءوها مفتحة أبوابها ؛ كما صرح بمفتحة حالاً من : { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } وهو قول المبرد والفارسي وجماعة ، وزعم بعضهم أن هذه الواو تسمى واو الثمانية ؛ لأن أبواب الجنة ثمانية ، وردّه في " المغني " بأنه لو كان لواو الثمانية حقيقة ، لم تكن الآية منها ؛ إذ ليس فيها ذكر عدد البتة ، وإنما فيها ذكر الأبواب ، وهي جمع يدل على عدد خاص . ثم الواو ليست داخلة عليه ، بل على جملةٍ هو فيها . انتهى .
أي وهي - على قول مثبتها - الداخلة على لفظ الثمانية على سرد العدد ، ذهاباً إلى أن بعض العرب إذا عدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية . إيذاناً بأن السبعة عدد تام ، وأن ما بعده عدد مستأنف ، فأشبهت واو الاستئناف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 74 - 75 ] .
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي : بإيصالنا إلى ما وعدنا ، وأنبأنا عنه على ألسنة رسله : { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ } أي : أرض الآخرة . شبه نيلهم بأعمالهم لها ، بإرثهم من آبائهم ؛ فكأن الأعمال آباؤهم ، كما قيل :
~وَأَبِيْ الْإِسْلَاْمُ لَاْ أَبَ لِيْ سِوَاْهُ
وكما يقال : الصدق يورث النجاة { نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء } أي : يتبوأ كل من جنته الواسعة ، أي : مكان أراده : { فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } أي : الذين عملوا بما عملوا : { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } أي : الملائكة السماوية حافين في جنة الفردوس حول عرش الرحمن ، محدقين به . وتقدم في تفسير آية : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] في الأعراف ، كلام في حملة العرش ، فتذكره : { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم } أي : بين الخلائق : { بِالْحَقِّ } أي : بالعدل : { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : على ما قضى بينهم بالحق ، وأنزل كلاً منزلته التي هي حقه . والقائل : إما الحق جل جلاله ، أو الملائكة الحافون ، أو المؤمنون ممن قضي بينهم ، أو الكل ، فله الحمد عز وجل .
عن قتادة قال : افتتح الله أول الخلق بـ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } فقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وختم بالحمد فقال : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

(/)


سورة غافر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 1 - 2 ] .
{ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الكلام في مفتتح هذه السورة ، وتاليه ، كالذي سلف في [ الم السجدة ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } [ 3 ، 4 ] .
{ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ } أي : المن والفضل : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والجزاء : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ما يخاصم في حجج الله ، وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها ، إلا الذين جحدوا توحيده ، قال الزمخشري : سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر . والمراد الجدال بالباطل ، من الطعن فيها ، والقصد إلى إدحاض الحق ، وإطفاء نور الله . وقد دل على ذلك قوله : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [ غافر : 5 ] .
فأما الجدال فيها ، لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقارحة أهل العلم في استنباط معانيها ، ورد أهل الزيغ بها وعنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله . وقوله صلّى الله عليه وسلم < جدال في القرآن كفر > وإيراده منكراً ، تمييز منه بين جدال وجدال . انتهى : { فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } أي : للتجارات ، وتمتعهم بالتجوال والترداد ، فمآلهم إلى الزوال والنفاد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ 5 ] . : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ } أي : الذين تحزبوا على الرسل ، وناصبوهم : { مِن بَعْدِهِمْ } أي : من بعد سماع أخباهم ، ومشاهدة أثارهم : { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : ليتمكنوا منه , ومن الإيقاع به , وإصابته بما أرادوا من تعذيب , أو قتل ، من الأخذ بمعنى الأسر ، والأخيذ الأسير : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ } أي : قابلو حجج الرسل بالباطل من جدالهم : { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي : ليزيلوا به الأمر الثابت بالحجة الصحيحة ، لكنه لا يندحض وإن كثرت الشبه ؛ لما أنه الثابت في نفسه المتقرر بذاته : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : العذاب الدنيوي المعروف أخباره ، المشهود آثاره : { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : في الدار ، فيعتبر به عقاب تلك الدار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } [ 6 ] .
{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } قال ابن جرير : أي : وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها ، التي قصصت عليك ، يا محمد ، قصصها ، وحل بها عقابي . كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك ، الذين يجادلون في آيات الله ؛ لأنهم أصحاب النار .
ثم نوه بالمؤمنين ، وبما أعدّ لهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } [ 7 - 10 ] .
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } أي : من الملائكة . وقد سبق في تفسير آية : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، في الأعراف ، كلام في حملة العرش ، فراجعه : { وَمَنْ حَوْلَهُ } يعني الملائكة المقرّبين : { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : ويقرون بأنه لا إله لهم سواه ، ويشهدون بذلك لا يستكبرون عن عبادته . وفائدة التصريح بإيمانهم مع جلائه ، وهو إظهار فضيلة الإيمان ، وإبراز شرف أهله ، والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين ؛ حسبما ينطق به قوله تعالى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها ، وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة .
وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى في موقع القبول : { رَبَّنَا } أي : يقولون ربنا : { وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي : شملت رحمتك ، وأحاط بالكل علمك : { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي : صراطك المستقيم بمتابعة نبيك في الأقوال ، والأعمال ، والأحوال : { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : عمل صالحاً منهم ، ليتم سرورهم بهم : { إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } أي : عقوبتها وجزاءها : { وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : لبغضه الشديد لكم ، أعظم من بغض بعضكم لبعض ، وتبرؤ كل من الآخر ، ولعنه حين تعذبون ، كما قال تعالى : { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] ، أو أعظم من مقتكم أنفسكم وذواتكم ، فقد يمقتون أنفسهم حين تظهر لهم هيئاتها المظلمة ، وصفاتها المؤلمة ، وسواد الوجه الموحش ، وقبح المنظر المنفر : { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } أي : تدعون على ألسنة الرسل عليهم السلام ، إلى الإيمان به سبحانه ، فتكفرون كبراً وعتوّاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ 11 ] .
{ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } أي : أنشأتنا أمواتاً مرتين ، وأحييتنا في النشأتين كما قال تعالى : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، قال قتادة : كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة . فهما حياتان وموتتان : { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } أي : فأقررنا بما علمنا من الذنوب في الدنيا ، وذلك عند وقوع العقاب المرتب عليها ، وامتناع المحيص عنه : { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } أي : فهل إلى خروجنا من النار ، من سبيل ، لنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل . قال الزمخشري : وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط . وإنما يقولون ذلك تعللاً وتحيراً . ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك . وهو قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ } [ 12 ، 13 ] .
{ ذَلِكُم } أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وأن لا سبيل إلى خروج قط : { بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } أي : بسبب إنكاركم أن الألوهية له خالصة ، وقولكم : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] ، وإيمانكم بالشرك : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } أي : فالقضاء له وحده لا للغير . فلا سبيل إلى النجاة لعلوّه وكبريائه ، فلا يمكن لأحد [ في المطبوع : أحداً ] ردّ حكمته وعقابه : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : من الريح ، والسحاب ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، ونحوها : { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقاً } أي : مطراً . وإفراده بالذكر من بين الآيات ، لعظم نفعه ، وتسبب حياة كل شيء عنه : { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ } أي : وما يتعظ بآياته تعالى ، إلا من يرجع إليه بالتوبة والإنابة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } [ 14 ، 15 ] .
{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : فاعبدوه مخلصين له الدين ، عن شوب الشرك
{ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } أي : غاظهم ذلك : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } أي : رفيع درجات عرشه كقوله : { ذِي الْمَعَارِجِ } [ المعارج : 3 ] ، وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش . وهي دليل على عزته وملكوته ، أو هو عبارة عن رفعة شأنه ، وعلو سلطانه ، وكمالاته ، غير المتناهية : { ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ } أي : الوحي والعلم اللدني الذي تحيا به القلوب الميتة : { مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : أهل عنايته الأزلية ، واختصاصه للرسالة والنبوة : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } أي : يوم القيامة الكبرى ، الذي يتلاقى فيه العبد بربه ليحاسبه على أعماله ، أو العباد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ِ *الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 16 ، 17 ] .
{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } أي : من قبورهم ، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل ، أو بناء
{ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } أي : من أعمالهم ، وأعيانهم ، وأحوالهم . وقوله : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ينادي به الحق سبحانه ، عند فناء الكل ، أو وقت التلاقي ، والبروز ، فيجيب هو وحده : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ } أي : المتفرد بالملك : { الْقَهَّارِ } أي : الذي قهر بالغلبة كل ما سواه : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : بإيصال ما يستحق كل منهم إليه ، من تبعات سيئاته ، وثمرات حسناته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ 18 ] .
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ } أي : الواقعة القريبة : { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } أي : من أهواله ترتفع القلوب عن مقارّها ، فتصير لدى الحلوق : { كَاظِمِينَ } أي : ممتلئين غمّا ، بما أفرطوا من الظلم : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } أي : قريب يهتمّ لشأنهم ، فيخفف عنهم غمومهم : { وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي : من يشفع في تخفيفها عنهم ؛ إذ لا تقبل شفاعة فيهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [ 19 - 25 ] . : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } أي : نظراتها الخائنة ، وهي الممتدة إلى ما لا يحل : { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } أي : تكنّه من الضمائر والأسرار : { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } أي : بالعدل : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } أي : لأنهم لا يقدرون على شيء : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ } يعني حصونهم وقصورهم وعددهم : { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ } أي : بآيات نبوته : { مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ } أي : قالوا أعيدوا عليهم القتل ، كالذي كان أولاً ، واستبقوا نسائهم للخدمة : { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } أي : وما مكرهم في دفع ما أراد الله من ظهور دينه ، إلا في ضياع ؛ إذ هو كالغثاء الذي يقذفه تيار الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } [ 26 ] .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } أي : ما أنتم عليه من عبادة الأصنام : { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } أي : فساد مملكتي ؛ إذ يتفق الكل على متابعته ، وإجراء أحكامه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } [ 27 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : التجأت إليه وتوكلت عليه ، فهو ناصر دينه ، ومعزّ أهله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [ 28 ] .
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } أي : من فرعون وملئه : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } أي : من عذاب الدنيا إن تعرضتم له . وقد أشار الزمخشري إلى ما في طي هذا القول من اللطائف والأسرار ، بما ملخصه : إن هذا المؤمن استدرجهم في الإيمان باستشهاده على صدق موسى ، بإحضاره عليه السلام من عند مَن تنسب إليه الربوبية ، بينات عدة لا بينة واحدة ، وأتى بها معرفة ، معناه البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك ، ليلين بذلك جماحهم ، ويكسر من سورتهم .
ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم ، فقال : لا يخلو من أن يكون صادقاً أو كاذباً . فإن يك كاذباً فضرر كذبه عائد عليه . أو صادقاً فيصبكم ، إن تعرضتم له ، بعضُ الذي يعدكم . وإنما ذكر بعض ، في تقدير أنه نبي صادق ، والنبي صادق في جميع ما يَعِدُ به ، لأنه سلك معهم طريق المناصحة لهم والمداراة ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم ، وأدخل في تصديقهم له ، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه صحته ، وذلك أنه حين فرضه صادقاً ، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يَعِدُ . ولكنه أردفه : { يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، ليريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه ، وأثنى عليه ، فضلاً عن أن يكون متعصباً له ، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل .
قال الناصر : ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا ، قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 26 - 27 ] ، فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف ، وإن كان الصادق هو يوسف ، دونها ، لرفع التهمة وإبعاد الظن ، وإدلالاً بأن الحق معه ، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة . وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة ، ما في قصة يوسف مع أخيه ؛ إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه . انتهى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } قال الزمخشري : يحتمل أنه إن كان مسرفاً كذاباً ، خذله الله وأهلكه ، ولم يستقم له أمر ، فتتخلصون منه ، وأنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله للنبوة ، ولما عضده بالبينات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [ 29 ] . : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } أي : عالين وقاهرين ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم بأنفسكم ، ولا تعرضونا لعذابه تعالى : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } أي : ما أشير عليكم إلا ما أستصوبه من قتله ؛ إذ البأس السماوي من أجل قتله ، أمر متوهم . فإتباعه غلط : { وَمَا أَهْدِيكُمْ } أي : بإراءة رأي قتله : { إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } وهو دفع تبدل دينكم ، وإظهار الفساد في الأرض ، بإظهار أحكامه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } [ 30 ، 31 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم } أي : من قتله : { مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } أي : الطوائف الهالكة بالتكذيب : { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ } أي : جزائهم من الغرق : { وَعَادٍ } أي : من الريح العقيم : { وَثَمُودَ } أي : الصيحة : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } أي : من الأمم المكذبة ، مما يدل على أن الهلاك سنة مستمرة لأهل التكذيب ؛ إذ لم يكن لهم ذنب آخر يوجبه : { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } أي : فلا يعاقبهم بغير ذنب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } [ 32 ] .
{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } يعني يوم القيامة ، أي : عذابه . سمي بذلك لما جاء في حديث < أن الأرض إذا زلزلت ، وانشقت من قطر إلى قطر ، وماجت وارتجت ، فنظر الناس إلى ذلك ، ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضاً > أي : من هول فزع النفخة . وقال قتادة : ينادي كل قوم بأعمالهم ؛ ينادي أهل الجنة أهلَ الجنة وأهل النار أهلَ النار . وقيل لمناداة أهل الجنة أهل النار : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ } [ الأعراف : 44 ] ، ومناداة أهل النار أهل الجنة : { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الأعراف : 50 ] ، واختار البغوي وغيره أنه سُمّي لمجموع ذلك ؛ أي : لوقوع الكل فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ 33 ] .
{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي : ذاهبين فراراً من الفزع الأكبر : { كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّك َيَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 11 - 12 ] { مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : من عذابه ، من مانع ، لتقرر الحجة عليكم : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ } أي : بزيغه عن صراط ربه : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : من حجة ، ولا مرشد إلى النجاة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } [ 34 ] .
{ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : من قبل مجيء موسى بالحجج البينة والبراهين النيرة ، على وجوب عبادته تعالى وحده . كقوله : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] ، { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ } أي : مع ظهور استقامته الكافية في الدلالة على صحة ما جاءكم به ، فلم يزل يقررها : { حَتَّى إِذَا هَلَكَ } أي : مات : { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } أي : يقرر حججه . فقطعتم من عند أنفسكم ، بعدم إرسال الله الرسول ، مع الشك في إرسال من أعطاه البيانات ، من فرط ضلالكم : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } أي : في التشكيك عند ظهور البراهين القطيعة : { مُّرْتَابٌ } أي : شاك مع ظهور لوائح اليقين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [ 35 ] .
{ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ } أي : برهان : { أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } أي : بطر للحق ، لا يقبل الحجة ، جبار في المجادلة ، ألدّ فيصدر عنه أمثال ما ذكر ، من الإسراف ، والارتياب ، والمجادلة في الباطل لطمس بصيرته ، فلا يكاد يظهر له الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [ 36 ، 37 ] .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً } أي : قصراً عالياً ظاهراً لكل أحد : { لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } أي : طرقها : { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } أي : لأسأله عن إرساله ، أو لأقف على كنهه : { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً } قال ابن جرير : أي : لأظن موسى كاذباً فيما يقول ويدعي ، من أن له في السماء ربّاً أرسله إلينا : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } أي : سبيل الرشاد لما طبع على قلبه ، من كبره ، وتجّبره ، وإسرافه ، وإرتيابه : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } أي : خسار وهلاك ، لذهاب نفقته على الصرح سدى ، وعدم نيله ، مما أراده من الاطلاع ، شيئاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } [ 38 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } أي : طريق الصواب الذي ترشدون إذا أخذتم فيه ، واستكملتموه . ثم أشار إلى تفصيل ما أجمله بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } [ 39 ] .
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي : تمتع يسير ، لسرعة زوالها : { وَإِنَّ الْآخِرَةَ } التي يوصل إليها سبيلي : { هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } أي : الاستقرار ، والخلود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 40 ] .
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير تقدير ، وموازنة بالعمل . بل أضعافاً مضاعفة . قال الزمخشري : قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } واقع في مقابلة : { إِلَّا مِثْلَهَا } يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق ، فأما جزاء العمل الصالح فبغيره تقدير وحساب ، بل ما شئت من الزيادة والكثرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ } [ 41 ، 42 ] . : { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي : بوجوده علم ؛ إذ لا وجود له : { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ } أي : الغالب الذي يقهر من عصاه : { الْغَفَّارِ } أي : الذي يستر ظلمات نفوس من أطاعه ، بأنواره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ 43 ، 44 ] .
{ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ } أي : الذي تدعوني إلى عبادته ، ليس له دعوة في الدنيا لدفع الشدائد ، والأمراض ونحوها ، ولا في الآخرة لدفع أهوالها ، على ما قاله المهايمي . أو لا دعوة له في الدارين لعدمه بنفسه ، واستحالة وجوده فيهما ، على ما قاله القاشاني . وقال الشهاب : عدم الدعوة عبارة عن جماديتها ، وأنها غير مستحقة لذلك .
وسياق : { لَا جَرَمَ } عند البصريين أن يكدن لا ردّاً لما دعاه إليه قومه و : { جَرَمَ } بمعنى كسب ؛ أي : وكسب دعاؤهم إليه بطلان دعوته ؛ أي : ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، ويجوز أن يكون : { لَا جَرَمَ } نظير لابد من الجرم وهو القطع . فكما أنك تقول : لابد لك أن تفعل . والبد من التبديد الذي هو التفريق ، ومعناه لا مفارقة لك من فعل كذا ، فكذلك [ في المطبوع : فكذالك ] : { لَا جَرَمَ } معناه لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام . بل هي باطلة أبداً . هذا ما يستفاد من " الكشاف " .
وفي " الصحاح " : قال الفراء : { لَا جَرَمَ } كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا محالة ، ولا بد فجرت على ذلك ، وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم ، وصارت بمنزلة حقا ، فلذلك يجاب عنها باللام . ألا تراهم يقولون : لا جرم لآتيناك . وقد حقق الكلام فيها ابن هشام في " المغني " في بحث ، والجلال في " همع الهوامع " أثناء بحث إن والقسم ، فنظرهما { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ } أي : في الضلالة ، والطغيان ، وسفك الدماء : { هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } أي : في النصح عند معاينة الأهوال ، وما يحيق بكم : { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } أي : وأسلم أمري إليه ، وأجعله له ، وأتوكل عليه ، فإنه الكافي من توكل عليه : { إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : فيعلم المطيع منهم ، والعاصي ، ومن يستحق المثوبة والعقوبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } [ 45 ] .
{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } أي : فرفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعون ، بإيمانه وتصديق رسوله موسى ، مكروه ما كان فرعون ينال به أهل الخلاف عليه ، من العذاب والبلاء ، فنجاه منه : { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ } أي : بفرعون ، وقومه : { سُوءُ الْعَذَابِ } يعني الغرق ، أو النار . وعلى الأول ، فقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا لـ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } [ 46 - 48 ] .
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } جملة مستأنفة مبنية لكيفية نزول العذاب بهم ، على أن : { النَّارُ } مبتدأ ، وجملة : { يُعْرَضُونَ } خبره . وعلى الثاني ، فالنار خبر لمحذوف ، وهو خبر العذاب السيء ، أو هي بدل من : { سُوءُ الْعَذَابِ } . والمراد عرض أرواحهم عليها دائماً . واكتفى بالطرفين المحيطين - الغدو والعشي - عن الجميع ، وبه يستدل على عذاب القبر والبرزخ . وقاناه الله تعالى ، بمنه .
قال السيوطي : وفي " العجائب " للكرماني ، في الآية أدل دليل على عذاب القبر ؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه ؛ يعني قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } أي : هذا العرض ما دامت الدنيا ، فإذا قامت الساعة يقال لهم : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وهو عذاب جهنم ؛ لأنه جزاء شدة كفرهم : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } أي : يتخاصمون فيها ، الأتباع والمتبوعون : { فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً } أي : أتباعاً كالمكرهين : { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } أي : نحن وأنتم . فكيف نغني عنكم ؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا : { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } أي : بأن أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ولا معقب لحكمه . أو بأن قدّر عذاباً لكل منا لا يدفع عنه ، ولا يتحمله عنه غيره ، قال الشهاب : وهذا أنسب بما قبله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ } [ 49 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } أي : لما أيسوا من التخفيف عند المحاجّة : { ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ } أي : يدفع عنا يوماً من أيام العذاب ، أو ألَمَ يوم ، وشدته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [ 50 ] .
{ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ } أي : المتكاثرة على صدقهم ، المنذرة بهذه الشدة : { قَالُوا بَلَى } أي : جاءوا بها , وأخبروا مع البينات : { قَالُوا فَادْعُوا } أي : إن كان ينفعكم ، وهيهات : { وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } أي : في ضياع لا يجاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ 51 ] .
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } أي : لننصرهم في الدارين ، أما في الدنيا ، فبإهلاك عدوهم واستئصاله عاجلاً ، أو بإظفارهم بعدوّهم وإظهارهم عليه ، وجعل الدولة لهم , والعافية لأتباعهم , وأما في الآخرة ، فبالنعيم الأبدي ، والحبور السرمدي . و : { الْأَشْهَادُ } جمع شاهد ، وهم من يشهد على تبليغ الرسل وتكذيبهم ظلماً , أو جمع شهيد ، كأشراف وشريف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ 52 ] .
{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } قال ابن جرير : ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم ، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل ؛ وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا ، وتابع عليهم الحجج فيها ، فلا حجة لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب ؛ بأن يقولوا : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، ولذا كانت لهم اللعنة ، وهي البعد من رحمة الله , وشر ما في الدار الآخرة من العذاب الأليم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } [ 53 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } أي : ما يهتدي به , فكذب به فرعون ، وقومه كما كذبت قريش : { وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } أي : وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ 54 ] .
{ هُدًى } أي : بياناً لأمر دينهم ، وما ألزمناهم من شرائعها : { وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي : لذوي الحجى ، والعقول منهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ 55 ] .
{ فَاصْبِرْ } أي : إذا تلوت ما قصصناه عليك للناس ، فاصبر على أذى المشركين ، واصدع بما تؤمر : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : بنصرك على من خالف ، لا خلف له وهو منجزه ، واذكر نبأ موسى وفرعون : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } أي : سله غفرانه ، وعفوه : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } كقوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ ق : 39 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ 56 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي : يدفعون الحق بالباطل ، ويردّون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة ، بلا برهان ولا حجة من الله : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ } أي : إلا تكبّر عن الحق ، وتعظم عن التفكر ، وغمط لمن جاءهم به ، حسداً منهم على الفضل الذي آتاك الله ، والكرامة التي أكرمك بها من النبوة : { مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } قال ابن جرير : أي : الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بمدركيه ولا نائليه . لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وليس بالأمر الذي يدرك بالأماني . وقد قيل : إن معناه إن في صدورهم إلا عظمة ، ما هم ببالغي تلك العظمة ، لأن الله مذلّهم : { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } قال ابن جرير : أي : فاستجر بالله يا محمد ، من شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ، ومن الكبر أن يعرض في قلبك منه شيء : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي : لما يقولون ، وبما يعملون ، فسيجازيهم .
تنبيه :
قال كعب ، وأبو العالية : نزلت هذه الآية في اليهود ، وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم ، وأنهم يملكون به الأرض . فأمر صلى الله عليه وسلم أن يستعذ بالله من فتنته . قال ابن كثير : وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد . وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم ، ولم يذكره ابن جرير ، على ولعه بالغريب والضعيف .
وفي " الإكليل " : ليس في القرآن الإشارة إلى الدجال إلا في هذه الآية ، أي : على صحة هذه الرواية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 57 ] .
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } أي : لإنشائهما ، وابتداعهما من غير شيء ، أعظم من خلق البشر : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : لا ينظرون ، ولا يتأملون لغلبة الجهل عليهم ؛ ولذا يجعلون إعادة الشيء أعظم من خلقه عن عدم ، مع أنه أهون وأيسر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } [ 58 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } أي : ما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً ، وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها ، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما شاء ، ويؤمن به - والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره . وذلك مثل المؤمن الذي يرى بعينيه حجج الله فيتفكر فيها ، ويتعظ ، ويعلم ما دلت من توحيد صانعه ، وعظيم سلطانه : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : ولا يستوي أيضاً المؤمنون بالله ورسوله ، المطيعون لربهم : { وَلَا الْمُسِيءُ } وهو الكافر بربه ، العاصي له ، المخالف أمره : { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } أي : حججه تعالى . فيعتبرون ويتعظون ؛ أي : لو تذكّروا آياته واعتبروا بها ، لعرفوا خطأ ما هم مقيمون عليه ، من إنكار البعث ، ومن قبح الشرك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } [ 59 ] .
{ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا } أي : فأيقنوا بمجيئها ، وأنكم مبعوثون ، ومجازون بأعمالكم ، فتوبوا : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بمجيئها ؛ يعني المشركين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ 60 ] .
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أي : اعبدوني أُثبْكم . قال الزمخشري : والدعاء بمعنى العبادة ، كثير في القرآن ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أي : صاغرين أذلاء . قال الشهاب : إطلاق الدعاء على العبادة مجاز ، لتضمن العبادة له ، لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق ، وجعل الإثابة لترتبها عليها استجابة ، مجازاً ، أو مشاكلة . وإنما أوّل به لأن ما بعده يدل عليه . والمقام يناسبه الأمر بالعبادة . وقد جوّز أن يراد بالدعاء ، والاستجابة ظاهرهما ، ويراد بالعبادة الدعاء مجازاً ؛ لأنه باب من العبادة عظيم ، وفرد من أفرادها فخيم . قال الشهاب : ولو قيل لا حاجة إلى التجوّز ، لأن الإضافة المراد بها العهد هنا ، فيفيد ما ذكر من غير تجوّز - لكان أحسن . انتهى .
وعلى الوجه الثاني - وهو أن المراد بالدعاء السؤال - اقتصر كثير من المفسرين . قال المهايمي : { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } لأن الدعاء من العبد غاية في التذلل لربه ، وهو محبوب لربه . فإذا أتى العبد بمحبوب الرب عظمه بالاستجابة ، وإذا لم يستجب له في الدنيا عوضه في الآخرة ، ولحبه التذلل أمر العباد بالعبادة ، فإن استكبروا كان لهم غاية الإذلال . وقال القاشاني : الآية في دعاء الحال ؛ لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعو به خير له أم لا ، دعاء المحجوبين ، وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة ، فهو دعاء الحال بأن يهيئ العبد استعداده لقبول ما يطلبه ، ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء . كمن طلب المغفرة ، فتاب إلى الله ، وأناب بالزهد والطاعة . انتهى .
وتقدم في آية : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، فوائد تناسب هذا المقام ، فلتراجع . ثم أشار تعالى إلى أنه كيف لا يلزم العباد عبادته ، وقد أنعم عليهم بما يقضي شكره بالعبادة ، مما أجلاه منافع الليل والنهار ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 61 ، 62 ] .
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي : الله الذي لا تصلح الألوهية إلا له ، ولا تنبغي عبادة غيره ، هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، فتستردوا بالراحة فيه ، ما فاتكم من القوى في العمل بالنهار : { وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي : أن يبصر فيه ، أو به لتتحركوا لتحصيل الأكساب الدينية والدنيوية ، فقد تفضل الله عليكم بهما وبما فيهما
{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي : ليشكروه بعبادته : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : عن طاعته إلى إثبات الشريك وعبادته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ 63 ] .
{ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : من الأمم المتقدمة الهالكة ؛ أي : فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم ، وركبتم محجتهم في الضلال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ 64 ] .
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً } أي : تستقرون عليها وتسكنون فوقها : { وَالسَّمَاء بِنَاء } أي : مبنية مرفوعة فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم ، وقوام دنياكم . وقد فسر البناء بالقبة المضروبة ؛ لأن العرب تسمّي المضارب أبنية .
فهو تشبيه بليغ ، وهو إشارة إلى كرويتها [ في المطبوع : كريتها ] . قال الشهاب : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : يجعل كل عضو في مكان يليق به ، ليتم الانتفاع بها ، فتستدلوا بذلك على كمال حكمته : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : لذيذات المطاعم ، والمشارب لتشكروه وحده : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي لا تصلح الربوبية إلا له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 65 ] .
{ هُوَ الْحَيُّ } أي : الذي لا يموت ، الدائم الحياة ، وكل شي سواه فمنقطع الحياة غير دائمها : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : مفردين له الطاعة ، لا تشركوا في عبادته شيئاً : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الثناء والشكر لله ، مالك جميع أجناس الخلق ، لا للأوثان التي لا تملك شيئاً ، ولا تقدر على ضرر ولا نفع .
قال ابن جرير : وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال : { لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } أن يتبع ذلك : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } تأولاً منهم هذه الآية ، بأنها أمر من الله بِقِيلِ ذلك . ثم أسنده عن ابن عباس ، وابن جبير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 66 ] .
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } أي : من الآلهة والأوثان : { لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي } أي : الآيات الواضحات من عنده ، على وجوب وحدته ، وتفرده بالعبادة : { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : لأخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
} [ 67 ] .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } أي : مما يرجع إليه . أو خلق أباكم آدم منه : { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي : يبقيكم لتبلغوا أشدكم ، فتتكامل قواكم : { ثُمَّ لِتَكُونُوا } أي : إذا تناهى شبابكم ، وتمام خلقكم : { شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ } أي : من قبل أن يصير شيخاً : { وَلِتَبْلُغُوا } أي : ونفعل ذلك لتبلغوا : { أَجَلاً مُّسَمًّى } أي : ميقاتاً محدوداً لحياتكم ، وهو وقت الموت ، أو لجزائكم وهو يوم القيامة : { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : ولكي تعقلوا حجج الله عليكم بذلك ، وتتدبروا آياته ، فتعرفوا بها أنه لا إله غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 68 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي : يكونه من غير كلفة ولا معاناة ، وقد تقدم في [ سورة ] البقرة الكلام على هذه الآية مطولاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُون َ *الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ لْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [ 69 - 72 ] .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } أي : عن الرشد إلى الغي : { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ } أي : بكتاب الله ، وهو القرآن : { وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ } أي : الماء الحار . قال المهايمي : لدفعهم برد اليقين من دلائل الكتاب ، والسنة : { ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } أي : يحرقون . قال المهايمي : لإحراقهم الأدلة العقلية والنقلية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } [ 73 ، 74 ] .
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } أي : غابوا فلم نعرف مكانهم ، وهذا قبل أن يقرنوا معهم ، أو ضلالهم استعارة لعدم نفعها لها . فحضورهم كالعدم : { بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي : ما كنا مشركين . وكذبوا لحيرتهم واضطرابهم . أو بمعنى : تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئاً . قال القاشاني : لاطلاعهم على أن ما عبدوه ، وضيعوا أعمارهم في عبادته ، ليس بشيء ، فضلاً عن إغنائه عنهم شيئاً : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } أي : أهل الكفر به ، عنه وعن رحمته ، فلا يخفف عنهم العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ 75 ] .
{ ذَلِكُم } أي : العذاب : { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } أي : بسبب فرحكم في الدنيا ، بغير ما أذن الله لكم به ، من الباطل والمعاصي ، وبمرحكم فيها . والمرح هو الأشر ، والبطر ، والخيلاء . وبين الفرح والمرح تجنيس بديع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [ 76 ] .
{ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي : منزل المتعظمين عن الإيمان والتوحيد ، جهنم .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ 77 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [ 77 ] .
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : فاصبر على جدال هؤلاء المتكبرين في آيات الله ، وعلى تكذيبهم ، فإن وعد الله إياك بالظفر عليهم ، حق ثابت : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } أي : من العذاب والنقمة : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } أي : قبل أن يحل بهم ما يحل : { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي : فنحكم بينهم بالحق ، وهو الخلود في النار ، لمناسبة نفوسهم الكدرة الظلمانية ، البعيدة عن الحق ، واستحكام ملكات رذائلهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } [ 78 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي : لتقف على ما وفينا لهم من وعد النصر إياهم في الدنيا : { وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } أي : لمكان الطول ، مع أن في نبئهم ما يشاكل نبأ المذكورين ، والشيء يعتبر بشكله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : بأمره . وهذا رد لمقترحهم وتعنتهم في طلب ما قص عنهم من آية : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآية ، بأن الإتيان بذلك مرده مشيئة الله تعالى وإرادته به ، وقد شاء أن تكون الآية العظمى تنزيله ، الأكبر من كل آية ، والأعظم من كل خارقة . فهو خير الآيات ، وأحسنها ، وأقوم المعجزات ، وأمتنها . كما قال تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } [ العنكبوت : 51 ] ، { فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ } أي : عند عدم الإيمان بالآية المقترحة ، بعد إتيانها : { قُضِيَ بِالْحَقِّ } أي : من المؤاخذة ، بعد تقرير الحجة المقترحة لهم : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } أي : في دعواهم الشريك ، وافترائهم الكذب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 79 - 82 ] .
{ اللَّهُ } أي : الذي لا تصلح الألوهية إلا له : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ } أي : مسخرة : { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } من الجلود ، والأوبار ، والأصواف : { وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } أي : بالمسافرة عليها : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ } أي : في طريق البحر : { تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : دلائله الدالة على فرط رحمته ، وكمال قدرته : { فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ } أي : من الحصون ، والقصور ، والمباني ، والعَدد ، والعُدد : { فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : مما لا يدفع به العذاب الأرضي ، ولا السماوي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [ 83 - 85 ] .
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } أي : الخالي عن نور الهداية والوحي ، ورضوا بها عن قبول هداية الرسل ، ومعارفهم ، واستهزأوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به ، في جنب ما عندهم من العلم الوهمي : { وَحَاقَ بِهِم } أي : من عذاب الله : { مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } أي : جزاؤه : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } أي : مضت في خلقه ، أن لا يقبل توبة , ولا إيماناً في تلك الحال : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } أي : وهلك ، عند مجيء بأسه تعالى ، الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم ، ففاتتهم سعادة الأبد ، والعيش الرغد .
نسأله تعالى المعافاة من غضبه وعقابه ، والموافاة مع زمرة أحبابه . آمين .

(/)


سورة فصلت
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ 1 ، 2 ] .
{ حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال أبو السعود : إن جعل : { حم } اسماً للسورة ، فهو إما خبر مبتدأ محذوف ، وهو الأظهر ، أو مبتدأ خبره : { تَنزِيلٌ } وهو على الأول خبر بعد خبر . وخبر لمبتدأ محذوف ، إن جعل مسروداً على نمط التعديد . وقوله تعالى : { مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } متعلق به ، مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية ، بالفخامة الإضافية . أو خبر آخر . أو : { تَنزِيلٌ } مبتدأ لتخصصه بالصفة ، خبره : [ : { كِتَاْبٌ فُصِّلَتْ } ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 3 ] .
{ كِتَابٌ } وهو على الوجوه الأول بدل منه ، أو خبر آخر ، أو خبر لمحذوف . ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم ، للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية ، واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : بُيِّنت بالاشتمال على جميع المطالب الدينية ، مع الدلائل العقلية : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي : بلسان عربي يتيسر فيه من جميع الفوائد ما لا يتيسر في غيره . وانتصاب : { قُرْآناً } على المدح ، أو الحالية من : { كِتَابٌ } لتخصصه بالصفة ، أو من : { آيَاتُهُ } : { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : مقداره ومعانيه ، أو لأهل العلم ، والنظر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } [ 4 ] .
{ بَشِيراً } أي : للعاملين به ، الناظرين فيه ، والمستخرجين منه ، بالنعيم المقيم : { وَنَذِيراً } أي : للمعرضين عنه بخلود الأبد في نار جهنم : { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } أي : أكثر هؤلاء القوم ، الذين أنزل هذا القرآن بشيراً ونذيراً لهم ، فلم يتدبروه : { فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } أي : لا يصنعون له ، عتوّاً واستكباراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ 5 ] .
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } أي : أغطية متكاثفة ، لا يصل إليها شيء مما تدعونا إليه ، من التوحيد وتصديق ما في هذا القرآن من الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد : { وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ } أي : صمم ، لا نسمع ذلك ، استثقالاً له وكراهية : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } أي : فلا تواصل ولا تلاقي على ما ندعي إليه : { فَاعْمَلْ } أي : على ما تدعو إليه ، وانصب له : { إِنَّنَا عَامِلُونَ } أي : على ما ألفينا عليه آباءنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين َ *الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [6 - 8 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } أي : بالتوحيد ، وإخلاص العبادة ، من غير انحراف إلى الباطل ، والسبل المتفرقة : { وَاسْتَغْفِرُوهُ } أي : بالتوبة من الشرك : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : لا يزكون أنفسهم . بطاعة الله ، أو لا ينفقون من أموالهم زكاتها . وهذا ما رجحه ابن جرير ، ذهاباً إلى أن ذلك هو الأشر من معنى الزكاة . لاسيما مع ضميمة الإيتاء .
وفيه إشارة إلى أن من أخص صفات الكفار هو منع الزكاة ، ليحذر المؤمنون من ارتكابه . وعن قتادة : إن الزكاة قنطرة الإسلام . فمن قطعها نجا ، ومن تخلف عنها هلك . قال ابن جرير : وقد كان أهل الردة بعد نبي الله ، قالوا : أما الصلاة فنصلي . وأما الزكاة ، فو الله ! لا تُغصَب أموالنا . قال فقال أبو بكر : والله ! لا أفرق بين شيء جمع الله بينه . والله ! لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله ، لقاتلناهم عليه : { وَهُم بِالْآخِرَةِ } أي : بإحيائهم بعد مماتهم للمجازاة : { هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : عليهم ، أو غير منقوص ، أو غير منقطع ، أو غير محسوب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ } [ 9 ، 10 ] .
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } أي : في مقدارهما . وعلمهم بصلة الموصول ، أما لما تلقوه خلفاً عن سلف ، فاستفاض بينهم . أو لما سمعوه من الكتب السافلة ، كالتوراة ، فأذعنت بذلك نفوسهم ، حتى صار معهوداً لها : { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } أي : أكفاء : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] : { ذَلِكَ } أي : الذي خلق الأرض في يومين : { رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } أي : أكثر خيرها : { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ } أي : مستوية بالامتزاج والاعتدال ، للطالبين للأقوات والمعايش ؛ أي : قدرها لهم ، أو لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض ، وجعل فيها الرواسي والبركة ، وتقدير الأقوات . فحدّه ، كما أخبر تعالى ، وأنه أربعة أيام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ 11 ] .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } أي : قصد إلى إيجادهما . وثم ، للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه ، واختلافهما في الجهة والجوهر ، لا للتراخي في الزمان ؛ إذ لازمان هناك . قاله القاشاني .
وقال ابن جرير : أي : ثم ارتفع إلى السماء ، أي : بلا تكليف ولا تمثيل : { وَهِيَ دُخَانٌ } قال القاشاني : أي : جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية . وقال القاضي : دخان أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها ، أو الأجزاء المصغرة التي ركبت منها ، وأصله للرازي حيث قال : لما خلق تعالى الأجزاء التي لا تتجزأ ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء ، كانت مظلمة عديمة النور ، ثم لما ركبها وجعلها سماوات ، وكواكب ، وشمساً ، وقمراً ، وأحدث صفة الضوء فيها ، فحينئذ صارت مستنيرة . فثبت أن تلك الأجزاء ، حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات ، والشمس ، والقمر, كانت مظلمة . فصح تسميتها بالدخان ؛ لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة ، غير متواصلة ، عديمة النور . ثم قال : فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان . والله أعلم بحقيقة الحال . انتهى .
وقال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية : { وَهِيَ دُخَانٌ } : أي : ذرات ، أي : غازات أي : سديم . ثم تجاذبت كما يجتمع السحاب فصارت كتلة واحدة . مصداقاً لقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] . أي : كتلة واحدة ، فدارت ثم تقطعت ، وتفصلت بالقوة الدافعة ، فتكونت الأرض والسماوات ، تصديقاً لقوله تعالى : { فَفَتَقْنَاهُمَا } أي : فصلناهما ، فصارتا كرات من الماء في يومين ، أي : ألفي سنة . لقوله تعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] ، وفي هذا الوقت كان عرشه على الماء . أي : كان ملكه وسلطانه على الماء ، والله أعلم . انتهى والله أعلم .
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } قال القاشاني : أي : تعلق أمره وإرادته بإيجادهما ، فوجدتا في الحال معاً . كالمأمور المطيع ، إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله . وهو من باب التمثيل ؛ إذ لا قول ثمة . انتهى .
وقال ابن جرير : أي : قال الله جل ثناؤه للسماء والأرض : جيئا بما خلقت فيكما . أما أنت يا سماء ، فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس ، والقمر ، والنجوم . وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار ، والثمار ، والنبات ، وتشققي عن الأنهار : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي : جئنا بما أحدثت فينا من خلقك ، مستجيبين لأمرك ، لا نعصي أمرك . انتهى . يعني أن إثبات المقاولة مع السماء والأرض من المجاز . إما بالاستعارة المكنية . كما تقول : نطقت الحال . فتجعل الحال كإنسان يتكلم في الدلالة ، ثم يتخيل له النطق الذي هو لازم المشبه به ، وينسب إليه . وإما بالاستعارة التمثيلية بأن شبه فيه حالة السماء والأرض التي بينهما وبين خالقهما ، في إرادة تكوينهما وإيجادهما ، بحالة أمير ذي جبروت له نفاذ في سلطانه ، وإطاعة من تحت تصرفه من غير تردد .
وقد رد غير واحد قول من ذهب إلى أن في الجمادات تمييزاً ونطقاً على ظاهر أمثال هذه النصوص ، منهم ابن حزم . قال في " الفِصل " : وأما قوله تعالى : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن ، إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر ، والحلق ، والحنك ، واللسان ، والشفتين ، والأضراس ، بهواء يصل إلى آذان السامع ، فيفهم به مرادات القائل . فإذ لا شك في هذا ، فلكل من لا لسان له ، ولا شفتين ، ولا أضراس ، ولا حنك ، ولا حلق ، فلا يكون منه القول المعهود منا . هذا مما لا يشك فيه ذو عقل . فإذا هذا هكذا كما قلنا بالعيان ، فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته ، فإنه ليس هو القول المعهود عندنا . لكنه معنى آخر . فإذ هذا كما ذكرنا ، فبالضرورة صح أن معنى قوله تعالى : { أَتَيْنَا طَائِعِينَ } إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل وتصريفه لهما . انتهى .
وكذا الحال في : { أَتَيْنَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } فإنهما لما نزلا . . . وهما من الجمادات - منزلة العقلاء ، إذ أُمرا وخوطبا على طريق المكنية ، أو التمثيلية ، أثبت لهما ما هو من صفات العقلاء من الطوع والكره ترشيحاً . وهما مؤولان بـ : طائع وكاره . لأن المصدر لا يقع حالاً بدون ذلك ، ويجوز كونهما مفعولاً مطلقاً . وإنما قال : { طَائِعِينَ } بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء الذكور . وكان مقتضى الظاهر طائعات ، أو طائعتين نظراً إلى الخطاب ، والإجابة ، والوصف بالطوع ، والكره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 12 ] .
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أي : أحكمهن بإزالة رخاوة الدخان . قال المهايمي ولم يجعل لمادتها يوماً ؛ لأنها كمادة الأرض . فدخلت في يومها : { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا } أي : ما أمر به فيها ، ودبره من الملائكة ، والخلق الذي فيها ، وما لا يعلم : { وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } فإنها كالسقف المرفوع المزين بمصابيح معلقة به ، ما يدعو إلى الاستدلال بها على قدرة صانعها وحكمته : { وَحِفْظاً } أي : من الشياطين أن تسترق أخبارها : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ 13 ] .
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا } أي : عن هذا الاستدلال ، وعن الإيمان بهذا العزيز الغالب على كل شيء ، الذي اقتضى علمه ترتيب بعض الأمور : { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } لأنكم مثلهما في العناد ، ومثل عاد في الاستكبار ، ومثل ثمود في استحباب العمى على الهدى . قال ابن جرير : قد بينا فيما مضى أن معنى الصاعقة كل ما أفسده الشيء ، وغيّره عن هيئته . وقيل في هذا الموضوع : عني بها وقعة من الله وعذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ } [ 14 - 16 ] .
{ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } قال الزمخشري : أي : أتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم ، وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو ، والإعراض كما حكى الله تعالى عن الشيطان : { لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [ الأعراف : 17 ] ، يعني لآتينهم من كل جهة ، ولأعلمن فيهم كل حيلة ، وتقول : استدرت بفلان من كل جانب ، فلم يكن لي فيه حيلة .
وحاصله جعل الجهتين كناية عن جميع الجهات ، علي ما عرف في مثله . والمراد بإتيانهم من جميع الجهات ، بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ، ويحتمل أن المعنى : جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي ، وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل ، وما سيجري عليهم . فالمراد بما بين أيديهم الزمن الماضي ، وبما خلفهم المستقبل . ويجوز فيه العكس ، كما ذكر في آية الكرسي : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا } أي : إرسال رسول : { لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً } أي : من السماء بما تدعوننا إليه : { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي : من عبادة الله وحده : { كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } أي : حتى نخاف عذابه ، لو تركنا عبادته ، أو عبدنا معه غيره .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي : فيجب أن يحذر عقابه ويتقى عذابه : { وَكَانُوا بِآيَاتِنَا } أي : التي هي أقوى الدلائل : { يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } أي : لعتوهم بالقوة : { رِيحاً صَرْصَراً } أي : شديدة الصوت في هبوبها : { فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } أي : مشؤومات عليهم : { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ } أي : في الأخرى ، كما لم ينصروا في الدنيا . تنبيه :
قال الرازي : استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحساً وبعضهاً قد يكون سعداً ؛ لأن النحس يقابله السعد ، والكدر يقابله الصافي . ثم أطال الرازي في الجواب والإيراد . ولا يخفى أن السعد والنحس إنما هو أمر إضافي لا ذاتي . وإلا لكان اليوم الذي يراه المنجمون نحساً ، مشؤوم الطالع على كل ما أشرقت عليه الشمس ، وكذا ما يرونه سعداً ، والواقع بخلاف ذلك ؛ إذ اليوم النحس عند زيد ، قد يكون سعداً عند بكر . بل الساعة بل الدقيقة . فأين تلك الدعوى ؟ والقرآن أتى على أسلوب العرب البديع . ومن لطائفهم تسمية وقت الشدة ، والبؤس بالنحس ، ومقابلها بالسعد . فالنحس نحس على صاحبه ، والسعد سعد على صاحبه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 17 ] .
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أي : بيّنّا لهم سبيل الحق ، وطريق الرشد ، ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة ، وأمرناهم أن يقتفوا الهدى : { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : من الآثام ، بكفرهم بالله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ 18 ] .
{ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } أي : يخشون ربهم ، ويخافون ، وعيده . وذلك بالإيمان به وحده وتصديق رسله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ 19 ] .
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يوم يجمع ، لمزيد الفضيحة ، بين الأولين والآخرين ، أعداء الله المشركون والجاحدون ، إلى النار فيجيء أولهم على أخرهم ، ليتم إلزام الحجة عليهم بين جميعهم ، فلا يبقى لهم مقال لهم لأنهم لا يزالون يجادلون عن أنفسهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
} [ 20 ] .
{ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا } أي : فبالغوا في إنكار المخالفة : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ } أي : بأنهم سمعوا الحجج فأعرضوا عنها ، وسمعوا الشبه فاتبعوها ، وسمعوا الفواحش فاستحسنوها : { وَأَبْصَارُهُمْ } أي : بأنهم رأوا الآيات فلم يعتبروها ، ورأوا القبائح فاختاروها : { وَجُلُودُهُمْ } أي : بأنهم باشروا المعاصي ، فوصل أثرها إلى القوة اللامسة منهم ، فيشهد كل عضو وجزء : { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 21 ] .
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ } أي : المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر : { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } أي : بما يوجب إيلامكم : { قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ } أي : بهذه الشهادة : { الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أنطق كل شيء من الحيوان . فهو من العام الذي خصه العقل ، كقوله تعالى : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] ، أي : كل شيء من المقدورات . هذا ، على أن النطق على ظاهره وحقيقته .
وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا ، بتغير أشكالها ونحوه . مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك ؛ لارتفاع الغطاء في الآخرة . فالنطق مجاز عن الدلالة . قال القاشاني : معنى : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ } أي : غيرت صور أعضائهم ، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها ، وبدلت جلودهم ، وأبشارهم فتنطق بلسان الحال ، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون ، ولنطقها بهذا اللسان قالت : { أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } إذ لا يخلو شيء ما من النطق ، ولكن الغافلين لا يفهمون . انتهى .
لكن قال الرازي : تفسير هذه الشهادة ، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء ، دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، عدول عن الحقيقة إلى المجاز . والأصل عدمه .
ثم قال : وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطاً للحياة ، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة . فالله تعالى قادر على خلق العقل ، والقدرة ، والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء . والله أعلم . تنبيه :
قال الرازي : نقل عن ابن عباس أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، وإنه من باب الكنايات كما قال : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } [ البقرة : 235 ] وأراد النكاح . وقال : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } [ النساء : 43 ] و [ المائدة : 6 ] ، والمراد قضاء الحاجة . فتكون الآية وعيداً شديداً في الزنى . انتهى .
وقد أشار الإمام ابن الأثير في " المثل السائر " إلى ترجيح هذا المعنى . حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين ، يدل عليهما لفظ واحد ، يكون حقيقة في أحدهما ، مجازاً في الآخر ، وعبارته : الجلود ههنا تفسر حقيقة ومجازاً . أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقاً ، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة ، وهذا هو المانع البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة ، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه .
وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز ، عن غير الجانب البلاغي . ويقال : ما بيان هذا الترجيح ؟ فيقال : طريقة لفظ الجلود عام ، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقاً ، أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة ، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق ، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة ، شهادة باطلة ؛ إذ هي شهادة غير شاهد . والشهادة هنا يراد بها الإقرار . فتقول اليد : أنا فعلت كذا وكذا . وتقول الرجل : أنا مشيت إلى كذا وكذا . وكذلك الجوارح الباقية تنطق مُقرّة بأعمالها . فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح . وإذا أريد به الجوارح ، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض .
فإن أريد به الكل ، دخل تحته السمع والبصر ، ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة . وإن أريد به البعض ، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح ؛ لأمرين :
أحدهما - أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج . فكان حمل الجلد عليه أولى ، ليستكمل ذكر الجميع .
الآخر - إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج ، فكنى عنه بالجلد ؛ لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته .
فإن قيل : إن تخصيص السمع والبصر بالذكر ، من باب التفصيل ، كقوله تعالى : { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] . والنخل والرمان من الفاكهة . قلت في الجواب : هذا القول عليك لا لك ؛ لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيلٍ لهما في الشكل ، أو في الطعم ، والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة ، إنما هي تعظيم لأمر المعصية . وغير السمع والبصر أعظم في المعصية ؛ لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة ، أو في سماع صوت مزمار ، أو وتر ، أو ما جرى هذا المجرى . ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم : وكلتا المعصيتين لا حدّ فيها . وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر ، فأعظم ؛ لأن معصية اليد توجب القطع ، ومعصية الفرج توجب جلد مائة ، أو الرجم . وهذا أعظم . فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر ، وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه ، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة . انتهى كلام ابن الأثير .
وناقشه ابن أبي الحديد في " الفلك الدائر " بما محصله : أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين ، إذا كان بين لفظتي الجلد ، والفرج ، أو معناهما مناسبة ، ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج . فعبر عن الكل بالبعض ، وهو بعيد جداً . انتهى .
وأقول : مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى ؛ وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة ، ولا يخفى أن أهمها بالعناية , وأولاها بالإرادة هو الفرج ؛ لأن معصيتها تربى على الجميع ، وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العام على فرده الأهم . كقصرهم : { سَبِيْل اللَّهِ } على الجهاد ، مع أن : { سَبِيْل اللَّهِ } يصدق على كل ما فيه خير وقربة ، ونفع ومعونة ، على الطاعة ، إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق . فذكر الجهاد لا ينفي غيره . وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير . فإنها من فوائده الجليلة ، وينحل بها إشكالات ليست بالقليلة . والله الموفق .
وقوله تعالى : { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إما من تمام كلام الجلود ، أو مستأنف من كلامه تعالى : وعلى كل ، فهو مقرر لما قبله ، بأن القادر على الخلق أول مرة ، قادر على إنطاق كل شيء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ 22 ] .
{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ } أي : وما كنتم تستترون عند فعلكم الفواحش والمنكرات ، مخالفة أو كراهة أن يشهد عليكم ما ذكر . أي : ليس استتارهم للخوف مما ذكر ، بل من الناس . فـ : { أنَ يَشْهَدَ } مفعول له ، بتقدير مضاف ، أو من أن يشهد ، أو عن أن يشهد ، أو أنه ضمن معنى الظن ، فهو في محل نصب . وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق ، أنه لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب ، كما قال أبو نواس :
~إِذَاْ مَاْ خَلَوْتَ الدَّهْرِ يَوْماً ، فَلَاْ تَقُلْ خَلَوْتُ . وَلَكِنْ قُلْ : عَلَيَّ رَقِيْبٌ
~وَلَاْ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاْعَةً وَلَاْ أَنَّ مَاْ يَخْفَىْ عَلَيْكَ ، يَغِيْبُ
{ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } أي : ما ظننتم أن الله يعلم فينطق الجوارح ، ولكن ظننتم أنه لا يعلم كثيراً ، وهو ما علمتم خفية ، فما استترتم عنها واجترأتم على المعاصي . وإذا كان : { أنَ يَشْهَدَ } مفعولاً له ، فالمعنى ما استترتم بالحجب ، لخيفة أن تشهد عليكم الجوارح ، فلذا ما استترتم عنها ، لكن لأجل ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً ، فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق ، لا عن الخالق ، ولا عما تنطق به الجوارح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ } [ 23 ] .
{ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي : أهلككم بالجراءة على مخالفته في الدنيا ، ومجادلته في القيامة : { فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ } أي : لأعمال النجاة ، والدرجات في الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } [ 24 ] .
{ فَإِن يَصْبِرُوا } أي : على النار : { فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي : منزل ومسكن : { وَإِن يَسْتَعْتِبُوا } أي : يسألوا العتبى ، وهي الرجعة إلى الذين يحبون : { فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } أي : المجابين إليه ، فلا يخفف عنهم العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ 25 ، 26 ] .
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } أي : بعثنا لهم نظراء من الشياطين اقترنوا بهم : { فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : حسّنوا لهم أعمالهم كلها ، الحاضرة والمستقبلة . فالطرفان كناية عن الجميع ، أو ما بين أيديهم من جرائم الدنيا ، وما خلفهم من التكذيب بالمعاد . قال الشهاب : وتفسير أمور الدنيا بما بين أيديهم ، لحضورها عندهم ، كالشيء الذي بين يديك تقلّبه كيف تشاء ، والآخرة بما خلفهم ، لعدم مشاهدتها ، كالشيء الذي خلفك ، أو لكونها ستلحق بهم ، وقد يعكس فيجعل ما بين أيديهم الآخرة ؛ لأنها مستقبلة ، وما خلفهم الدنيا لمضيّها وتركها كما مرّ قريباً .
وقال القاشاني في تفسير الآية : أي : قدرنا لهم أخداناً وأقراناً من شياطين الإنس أو الجن ، من الوهم والتخيل ، لتباعدهم من الملأ الأعلى ، ومخالفتهم بالذات للنفوس القدسية والأنوار الملكوتية ، بانغماسهم في المواد الهيولانية . واحتجابهم بالصفات النفسانية ، وانجذابهم إلى الأهواء البدنية والشهوات الطبيعية . فناسبوا النفوس الأرضية الخبيثة والكدرة المظلمة . وخالفوا الجواهر القدسية . فجعلت الشياطين أقرانهم وحجبوا عن نور الملكوت : { فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي : ما بحضرتهم من اللذات البهيمية والسبعية ، والشهوات الطبيعية في : { وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : من الآمال والأماني التي لا يدركونها : { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : في القضاء الإلهي . بالشقاء الأبدي : { فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم } من المكذبين بأنبيائهم ، الضالين المضلين : { مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ستروا زينة أدلة القرآن عن أتباعهم ، الذين زينوا لهم شبهاتهم الواهية : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ } أي : إذا قرأه ، ولا تصغوا له ، كيلا يؤثر عليكم وعظه : { وَالْغَوْا فِيهِ } أي : ائتوا باللغو عند قراءته ، ليختلط . فلا يمكنه القراءة . والمراد باللغو ما لا أصل له ، أو ما لا معنى له : { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } أي : تصدّون من أراد استماعه ، عن استماعه ، فلا يسمعه . وإذا لم يسمعه ، ولم يفهمه ، لم يتبعه . فتغلبون بكيدكم هذا حججه ، التي يغلب بها عقولكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ 27 ، 28 ] .
{ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ } أي : المكث الأبدي . وفي النظم الكريم من البديع ، التجريد ، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة ، آخر مثله ، مبالغة فيها ؛ لأنها نفسها دار الخلد . ويجعله للظرفية الحقيقية ، تكلف لا داعي له . مع أن المذكور أبلغ . قال الشهاب : { جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } أي : ينكرون أو يلغون . وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } [ 29 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي : ندوسهما انتقاماً منهما : { لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } قال القاشاني : أي : حنق المحجوبون واغتاظوا على من أضلهم من الفريقين ، عند وقوع العذاب . وتمنوا أن يكونوا في أشد من عذابهم وأسفل من دركاتهم ، لما لقوا من الهوان ، وألم النيران ، وعذاب الحرمان ، والخسران ، بسببهم ، وأرادوا أن يشفوا صدورهم برؤيتهم في أسوأ أحوالهم ، وأنزل مراتبهم . كما ترى من وقع في البلية ، بسبب رفيق أشار إليه بما أوقعه فيها ، يتحرد عليه ويتغيظ ، ويكاد أن يقع فيه ، مع غيبته ويتحرق . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ 30 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : وحدوه بنفي غيره ، وعرفوه بالإيقان حق معرفته : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي : في أخلاقهم ، وعقائدهم ، وأعمالهم . وذلك بالسلوك في طريقه تعالى ، والثبات على صراطه ، مخلصين لأعمالهم ، عاملين لوجهه ، غير ملتفتين بها إلى غيره : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ } أي : في الدنيا ، بإلهامهم ، أو عند الموت ، أو حين البعث
{ أَلَّا تَخَافُوا } أي : ما تقدمون عليه بعد مماتكم : { وَلَا تَحْزَنُوا } أي : على ما خلفتم من دنياكم ، من أهل وولد . فإنا نخلفكم في ذلك كله ، أو من الفزع الأكبر ، وهوله ، فإنكم آمنون لآية : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ } [ الأنبياء : 103 ] ، والتنزيل يفسر بعضه بعضاً ، أو الآيتان في مقامين ، وبشارتين ، وفضله تعالى أوسع ، وجوده أعم وأشمل .
قال القاشاني : وإنما تنزلت الملائكة عليهم للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي ، والإيمان اليقيني ، والعمل الثابت على منهاج الحق والاستقامة في الطريقة إليه . غير ناكثين في عزيمة ، ولا منحرفين عن وجهة ، ولا زائغين في عمل . كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين ، بالجواهر المظلمة , والأعمال الخبيثة . فتنزلت عليهم . انتهى . وقوله تعالى : { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي : في الدنيا ، حال الإيمان بالغيب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } [ 31 ، 32 ] .
{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } أي : أحباؤكم في الدارين ، للتناسب بيننا وبينكم . كما أن الشياطين أولياء الكافرين ، لما بينهم من الجنسية ، والمشاركة في الظلمة والكدورة . قال ابن كثير : أي : تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار : نحن كنا قرناءكم في الحياة الدنيا ، نسددكم ، ونوفقكم ، ونحفظكم بأمر الله . وكذلك نكون معكم في الآخرة ، نؤنس منكم الوحشة في القبور ، وعند النفخة في الصور ، ونؤمنكم يوم البعث والنشور ، ونجاوزكم الصراط المستقيم ، ونوصلكم إلى جنات النعيم .
و قال الرازي : معنى كونهم أولياء للمؤمنين ، أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية ، بالإلهامات ، والمكاشفات اليقينية ، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح ، بإلقاء الوساوس فيها ، وتخييل الأباطيل إليها ، وبالجملة ، فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة ، حاصل من جهات كثيرة معلومة ، لأرباب المكاشفات والمشاهدات . فهم يقولون : كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا ، فهي تكون باقية في الآخرة . فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال . بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى . وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة ، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس ، والقطرة بالنسبة إلى البحر ، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة . كما قال صلى الله عليه وسلم : < لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات . فإذا زالت العلائق الجسمانية ، والتدبيرات البدنية ، فقد زال الغطاء والوطاء ، فيتصل الأثر بالمؤثر ، والقطرة بالبحر ، والشعلة بالشمس > . انتهى .
وهو مشرب صوفيّ ومنزع فلسفيّ ، فيه شية من الرقة : { وَلَكُمْ فِيهَا } أي : في الآخرة : { مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ } أي : من الروح ، والريحان ، والنعيم المقيم : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي : تتمنون : { نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } أي : إكراماً معداً لكم ، من غفور لذنوبكم ، ورحيم بتفضله وتطوله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 33 ] .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : لا أحد أحسن مقالاً ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى ، وكان من الصالحين المؤتمرين ، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد .
لطائف :
الأولى - قال القاشاني : وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل ؛ لكونه أشرف المراتب ، ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي ، وإلا لما صحت الدعوة . انتهى .
الثانية - في الآية إشارة إلى ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن المشركين ، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل ، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم . وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ ، والدعوة ، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات ، فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق . وثمة وجه آخر . وهو أن مراتب السعادات اثنان : كامل وأكمل . أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته . فإذا فرغ من هذه الدرجة ، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين .
فقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : 30 ] و [ الأحقاف : 13 ] ، إشارة إلى المرتبة الأولى . وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها . فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة ، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية ، وهي الانتقال بتكميل الناقصين ، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق ، وهو المراد من قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً } الآية .
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ، ونصيباً وافياً من العلوم الإلهية ، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن ، أفاده الرازي .
الثالثة - يدخل في الآية كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق المشروعة ، وسبيل من السبل المأثورة ؛ لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية ، ثم ما انتهج منهجها في الصدع بالحق ، وإيثاره على الخلق .
الرابعة - في الآية دليل على وجوب الدعوة إلى الله تعالى - على ما قرره الرازي - لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال ، وكل ما كان أحسن الأعمال ، فهو واجب .
الخامسة - احتج من جوز قول : أنا مسلم . بدون تعليق على المشيئة بهذه الآية . وقال : إطلاقها يدل على أن ذلك هو الأولى ، والمسألة معروفة بسطها الغزالي في " الأحياء " .
وللإمام ابن حزم في " الفِصل " تحقيق لطيف لا بأس بإيراده . قال رحمه الله : اختلف الناس في قول المسلم : أنا مؤمن . فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ، ومن بعده من الفقهاء ، أنه كره ذلك . وكان يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . وقال بعضهم : آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله . وكانوا يقولون : من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة .
ثم قال ابن حزم : والقول عندنا في هذه المسألة ، أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه . فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما أتى به عليه السلام ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك . كما أمر تعالى ، إذا قال تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] ولا نعمة أوكد ، ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام . فواجب عليه أن يقول : أنا مسلم قطعاً عند الله تعالى ، وفي وقتي هذا . ولا فرق بين قوله : أنا مؤمن مسلم . وبين قوله : أنا أسود وأنا أبيض .
وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها . وليس هذا من باب الامتداح ، والتعجب في شيء ؛ لأنه فرض عليه أن يحص دمه بشهادة التوحيد . قال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] ، وقول ابن مسعود عندنا صحيح ؛ لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات ، فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن ، على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات . وهذا صحيح . ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء : إني مؤمن . بمعنى مصدق . كيف ؟ وهو يقول : قل آمنت بالله ورسله . أي : صدقت . وأما من قال فقل إنك في الجنة ، فالجواب أننا نقول : إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك . وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن ، والسنة ، والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة ، إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن من مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ، ولا ندري ماذا نكسب غداً ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ 34 ] .
{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ } أي : لكون الأولى من مقام العقل تجرّ صاحبها إلى الجنة ومصاحبة الملائكة . والثانية من مقام النفس تجر صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : ادفع السيئة حيث اعترضتك ، بالتي هي أحسن منها ، وهي الحسنة . على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقاً ، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات . وإنما عدل من مقتضى الظاهر وهو : ادفع بالحسنة ، إلى الأبلغ - لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه . وهذا الكلام أبلغ في الحمل والحث على ما ذكر ؛ لأنه يومئ إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه .
قال القاشاني : أي : إذا أمكنك دفع السيئة من عدوك بالحسنة ، التي هي أحسن فلا تدفعها بالحسنة التي دونها ، فكيف بالسيئة ؟ فإن السيئة لا تندفع بالسيئة ، بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب . فإن قابلتها بمثلها كنت منحطاً إلى مقام النفس ، متبعاً للشيطان ، سالكاً طريق النار ، ملقياً لصاحبك في الأوزار ، وجاعلاً له ولنفسك من جملة الأشرار ، متسبباً لازدياد الشر ، معرضاً عن الخير . وإن دفعتها بالحسنة ، سكّنت شرارته ، وأزلت عداوته ، وتثبت في مقام القلب على الخير ، وهديت إلى الجنة ، وطردت الشيطان ، وأرضيت الرحمن ، وانخرطت في سلك الملكوت ، ومحوت ذنب صاحبك بالندامة ، ثم أشار تعالى إلى علة الأمر ، وثمرته بقوله : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ } أي : صديق أو قريب : { حَمِيمٌ } أي : شديد الولاء . وأصل الحميم الماء الشديد حرارته . كنى به عن الولي المخلص في وده ، لما يجد في نفسه من حرارة الحب ، والشوق ، والاهتمام نحو مواليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ 35 ] .
{ وَمَا يُلَقَّاهَا } أي : هذه الخصلة الشريفة ، والفضيلة العظيمة ، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان : { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على تجرع الشدائد ، أو على طاعته تعالى ، وأمره ، تخلقاً بالعلم والعفو : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : من الخير وكمال النفس ، ومن الله تعالى بالتخلق بأخلاقه ، ومن الثواب وكمال العقل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 36 ] .
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : وإما يلقين الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس ، إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة ، والانتقام منه ، فاستجر بالله واعتصم من خطواته ، بالرجوع إلى جنابه تعالى ، واللجأ إلى حضرته ، من شره ووسوسته ونزغه . قال ابن كثير : قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف ، وهو قوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 199 - 200 ] ، وفي سورة المؤمنون ، وهو قوله سبحانه : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينَ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 96 - 98 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ 37 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ } أي : حججه تعالى على خلقه ، ودلالته على وحدانيته وعظيم سلطانه
{ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ } أي : اختلافهما ، ومعاقبة كل واحد منها صاحبه : { وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } أي : نورهما وإشراقهما وتقدير منازلهما ، واختلاف سيرهما في سمائهما ، لبقاء صلاح الكون : { لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ } لأنهما مسخران بتسخير خالق قادر عليهم ، فهما مخلوقان : { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : تفرّدونه بالعبادة . فإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة ، ولا تشركوا في طاعته أحداً ؛ لأنها لا تنبغي لأحد سواه . تنبيه :
استدل بالآية الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " على صلاة الكسوف . قال : لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرها ، وأخذ من ذلك تفضيلها على صلاة الاستسقاء ، لكونها في القرآن ، بخلافها . كذا في " الإكليل " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } [ 38 ] .
{ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا } أي : عن عبادته كبراً وعتواً : { فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } أي : من الملائكة
{ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } أي : لا يملّون عبادته ، لأنها قرة أعينهم ، وحياة أنفسهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [ 39 - 41 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } أي : ساكنة لا حركة لعشب فيها ، ولا نبات ، ولا زرع : { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي : اهتزت بالنبات وتحركت بزينته ، وربت بارتفاعه على سطحها ، أي : صارت ربوة مرتفعة : { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا } أي : هذه الأرض الدارسة ، فأخرج منها النبات ، وجعلها تهتز بالزرع من بعد يبسها : { لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } أي : يميلون عن حججنا وأدلتنا ، ويزيغون عنها تكذيباً لها ، وجحوداً لها : { لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } أي : لإحاطة علمه بهم ، وكونه بالمرصاد لهم ، فسيجزيهم .
تنبيه :
شملت الآية من بضع الكلام في الآيات على غير مواضعه ، كما فسّرها ابن عباس . قال في " الإكليل " : ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ ، كما يفعله الباطنية ، والاتحادية ، والملاحدة ، وغلاة المتصوفة : { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ } أي : بهذا القرآن : { لَمَّا جَاءهُمْ } أي : فهم هالكون . فالخبر محذوف ، أو الجملة بدل من جملة : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي : منبع محمي عن التغيير والتبديل ، وعن محاكاته بنظير .

(/)


{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ 42 ] .
{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } أي لا يتطرق إليه البطلان من جهة من الجهات .
قال القاشاني : لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكاما في كونه حقا وصدقا . ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله, ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق, كما قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الحجر : 9 ) , وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته . فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين . هذا على أن ما بين يديه وما خلفه, كناية عن جميع الجهات . كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله . أو المعنى : لا يتطرق إليه باطل في كل ما أخبر عنه من الأخبار الماضية والآتية . والماضية ما بين يديه, والآتية ما خلفه . أو العكس كما مر { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } قال ابن جرير : أي هو تنزيل من عند ذي حكمة, بتدبير عباده وصرفهم فيما فيه مصالحهم, محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( 43 ) } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ 43 ] .
{ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } أي : ما يقول لك كفار قومك ، إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم ، من الكلمات المؤذية ، والمطاعن في الكتب المنزلة ؛ أي : فاصبر كما صبروا : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } أي : لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم ، بالصفح عنهم : { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي : لمن أصرّ على كفره وذنوبه ، ومات قبل التوبة منها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ 44 ] .
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : بينت أدلته وما فيه ، بلسان نعرفه لنفهم ما فيه . قال الزمخشري : كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم ؟ فقيل : لو كان كما يقترحون ، لم يتركوا الاعتراض والتعنت ، وقالوا : لولا فصلت آياته ؟ أي : بينت ولخصت بلسان نفقهه : { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } الهمزة همزة الإنكار ، يعني : لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي ورسول عربي ؟ أو مرسل إليه عربي ؟ والمعنى : إن آيات الله على أي : طريقة جاءتهم ، وجحدوا فيها متعنتاً ؛ لأن القوم غير طالبين للحق ، وإنما يتعبون أهواءهم . انتهى .
قال الشهاب : والأعجمي أصله أعجم ، ومعناه من لا يفهم كلامه للكنة ، أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة . كما في أحمري . ويطلق على كلامه مجازاً . لكنه اشتهر حتى ألحق بالحقيقة . وأما العجمي فالمنسوب إلى العجم . وهم مَن عدا العرب ، وقد يخص بأهل فارس ، ولغتهم العجمية أيضاً . فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص وجهي . انتهى .
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء } أي : وهو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق ، وتبصّرهم بالمعرفة ، وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل . كالنفاق والشك ، أي : تبصّرهم بطريق النظر والعمل ، فتعلمهم وتزكيهم : { وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يسمعونه ولا يفهمونه . بل يشتبه عليهم لاستيلاء الغفلة عليهم ، وسد الغشاوات الطبيعية طرق أسماع قلوبهم وأبصارها ، فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا : { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي : مثلهم في عدم قبولهم الحق ، واستماعهم له ، مثل من يُصيّح به من مسافة شاطة ، لا يسمع من مثلها الصوت ، فلا يسمع النداء . وذلك لبعدهم عن منبع النور الذي [ في المطبوع : الى ] يدرك به الحق ويرى . وانهماكهم في ظلمات الهيولى .
قال الشهاب : وجعل النداء من مكان بعيد ، تمثيلاً لعدم فهمهم وانتفاعهم بما دُعُوا له . يقال : أنت تنادى من مكان بعيد ، أي : لا تفهم ما أقول . وقيل : إنه على حقيقته ، وإنهم يوم القيامة ينادون كذلك ، تفضيحاً لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ 45 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } قال ابن جرير : أي : فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود . وقال ابن كثير : أي : كذب وأوذي ، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } وهي العدة بالقيامة ، وفصل الخصومة حينئذ ؛ أي : لولا أنه تعالى قدر الجزاء في الآخرة : { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : بتعجيل العذاب : { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف : 58 ] ، { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] ، { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي : موقع للريب والاضطراب لأنفسهم وأتباعهم ، لعمى بصائرهم وتبلد عقولهم ، وإلا فالحق أجلى من أن يخفى . وقال ابن كثير : أي : وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم ، لما قالوا . بل كانوا شاكّين فيما قالوه ، غير محققين لشيء كانوا فيه ، هكذا وجّهه ابن جرير . وهو محتمل . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 46 ] .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } أي : من عمل بطاعة الله ، فائتمرَ لأمره ، وانتهى عما نهان ، فلنفسه نفعه ؛ لأنه يجازى عليه جزاءه الحسن : { وَمَنْ أَسَاء } أي : عمل السيء وعصى
{ فَعَلَيْهَا } ضره ؛ لأنه جنى على نفسه بذلك ، ما أكسبها سخط الله تعالى والعقاب الأليم و : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : لا يعاقب أحداً إلا بذنبه ، ولا يعذب أحداً إلا بقيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ 47 ] .
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : لا يعلمها إلا هو . أو المعنى : إذا سئل عنها يقال : الله عالم بها : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا } أي : أوعيتها : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } أي : مقروناً بعلمه . قال الزمخشري : يعلم عدد أيام الحمل وساعاته ، وأحواله من الخداج ، والتمام ، والذكورة ، والأنوثة ، والحسن ، والقبح ، وغير ذلك : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي } أي : الذين كنتم تشركونهم في عبادتي : { قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي : أعلمناك ما منا من يشهد لهم بالشركة ويقرّ بها الآن . فـ : { شَهِيدٍ } فعيل من الشهادة ، ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم ، أو هو منهم إنكار لعبادتها ، فيكون كذباً ، كقولهم : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } [ 48 ] .
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } أي : يعبدون من الأوثان ، فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئاً : { وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } أي : وأيقنوا يومئذ مالهم من ملجأ يلجأون إليه من عذاب الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَاْن مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ } [ 49 ] .
{ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَاْن مِن دُعَاء الْخَيْرِ } أي : لا يمل من مسألته ربه بالخير ، كالمال وصحة الجسم : { وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ } أي : الضرّ في نفسه من سقم أو جهد في معيشته : { فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ } أي : من روح الله ورحمته ، ومن أن يكشف ما نزل به . قال الزمخشري : بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير . والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ 50 ] .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ } أي : بتفريجها عنه : { لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } أي : حقي نلته بعملي ، لا بفضل من الله ، جحداً للمنعم : { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى } أي : للحالة الحسنى من الكرامة ، حرصاً ورجماً بالغيب ، وتلاعباً بما شاء الهوى : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا } أي : فلنخبرن هؤلاء المتمنين على الله الأباطيل ، بحقيقة أعمالهم ، ولنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها : { وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وهو تخليدهم في النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَاْن أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [ 51 ] .
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَاْن أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ } أي : إذا كشفنا ما به من ضر ، ورزقناه غنى ، وصحة ، وسعة ، أعرض عما دعي إليه من الطاعة ، وتكبر وشمخ بأنفه عن الإجابة { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } أي : كثير ، يديم تضرعه ، ويستغرق في الابتهال أنفاسه . وقد استعير العرض لكثرة الدعاء . كما يستعار له الطول أيضاً . فيقال : أطال فلان الدعاء ، إذا أكثر . وكذلك أعرض دعاءه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ 52 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ } أي : القرآن : { مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ } أي : من غير نظر ، واتباع دليل : { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : من أضل منكم ، فوضع الموصول موضع الصلة ، شرحاً لحالهم وتعليلاً لمزيد ضلالهم ، والشقاق الخلاف ، لكون المخالف في شق ، وجانب ممن خالفه . قال الشهاب : الآية رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين ، وختم السورة بما يلفت لفت بدئها ، وهو من الكلام المنصف ، وفيه حث على التأمل ، واستدراج للإقرار ، مع ما فيه من سحر البيان . وحديث الساعة وقع في البين تتميماً للوعيد ، وتنبيهاً على ما هم عليه من الضلال البعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ 53 ] .
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ } يعني وقائع النبي صلى الله عليه وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها ، وظهوره على الناس تصديقاً للوعد : { وَفِي أَنفُسِهِمْ } أي : من غلبتهم وقهرهم وكسر شوكتهم ، وكما وقع في بدر وفتح مكة : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أي : أن هذا القرآن ، بوعده ووعيده ، هو الحق الثابت ؛ إذ [ في المطبوع : إذا ] لا برهان بعد عيان ، فقد نصر الله رسوله وصحبه ، وخذل الباطل وحزبه : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : لا يخفى عليه شيءٌ ما ، مما يفعله خلقه ، وهو مجازيهم عليه ، ففيه وعد ، ووعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [ 54 ] .
{ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ } أي : في شك عظيم من البعث بعد الممات ، ومعادهم إلى ربهم : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } أي : فلا يخرج عن إحاطته شيء : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم

(/)


سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ح م *عسق } [ 1 ، 2 ] .
{ حم عسق } قد روي بعض المفسرين ها هنا ، في تفسير : { حم عسق } آثاراً واهية جداً لا يعول عليها . بل هي ، كما قال ابن كثير : منكرة ، وقد قدمنا أن الصواب أن هذه الحروف ، أوائل السور الكريمة ، أسماء لها . و : { حم عسق } اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما ، وعُدَّا آيتين . وقيل اسم واحد ، والفصل ليناسب سائر الحواميم ، فيكون آية واحدة . وهو الوجه عندي لاشتهارها بهما معاً . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 3 ] .
{ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كلام مستأنف ، وارد التحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد ، والإرشاد إلى الحق . أو أن إيحاءها مثل إيحائها ، بعد تنويهها بذكر اسمها ، والتنبيه على فخامة شأنها . والكاف في حيز النصب على أنه مفعول لـ : { يُوْحِي } على الأول , وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له على الثاني , وذَلِكَ - على الأول - إشارة إلى ما فيها ، وعلى الثاني إلى إيحائها ، وما فيه من معنى البعد ، للإيذان بعلوّ رتبة المشار إليه ، وبعد منزلته في الفضل ؛ أي :
مثل ما في هذه السورة من المعاني ، أوحى إليك في سائر السور ، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم . على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد ، والإرشاد إلى الحق ، وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد . أو مثل إيحائها ، أوحى إليك عند إيحاء سائر السور . وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم . لا إيحاءً مغايراً له . كما في قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ } [ النساء : 163 ] الآية . على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك . وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية, للإيذان باستمرار الوحي ، وأن إيحاء مثله عادته . وفي جعل مضمون السورة أو إيحاءها مشبهاً به ، من تفخيمها ما لا يخفى . وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة . وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل . مع ما فيه من التشويق . وقرئ : { يُوْحَى } على البناء للمفعول ، على أن : { كَذَلِكَ } مبتدأ : { وَيُوْحَى } خبره المسند إلى ضميره ، أو مصدره و : { يُوْحِي } مسند إلى : { إِلَيْكَ } . و : { اللّهُ } مرتفع بما دل عليه : { يُوْحِي } كأنه قيل : من يوحي ؟ فقيل : الله .
{ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } صفتان له ، أو مبتدأ ، كما في قراءة : { نُوْحِي } ، والعزيز وما بعده خبران له ، أو العزيز الحكيم صفتان له . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ 4 ] .
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } خبران له . وعلى الوجوه السابقة ، استئناف مقرر لعزته وحكمته . أفاده أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ 5 ، 6 ] .
{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي : يتشققن لتأثرهن من تجليات عظمته ، ويتلاشين من علو قهره وسلطته [ في المطبوع : سلطنته ] ، يدل عليه مجيئه بعد : { الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } أو من دعائهم له ولداً ، كما في سورة مريم : { وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ } أي : يسألون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين به : { أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء } أي : شركاء وأنداداً : { اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي : رقيب على أفعالهم يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي : بموكل لحفظ أعمالهم ، وإنما أنت منذر : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [ 7 ] . : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } أي : أهلها ، وهي مكة : { وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : من العرب وسائر الناس : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } أي : يوم القيامة الذي تكون فيه الفضيحة أعظم ؛ لأنه يجمع فيه الخلائق : { لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } أي : منهم فريق في الجنة ، وهم الذين آمنوا بالله ، واتبعوا ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفريق في السعير ، أي : النار الموقدة المسعورة على أهلها ، وهم الذين كفروا بالله ، وخالفوا ما جاءهم به رسوله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [ 8 ] .
{ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : أهل دين واحد وملة واحدة : { وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ } أي : ولكن لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة ، لمنافاة ذلك ما يقتضيه حكمة خلق الْإِنْسَاْن من تنوع أفراده المستلزم اختلاف أميالهم ومشاربهم ؛ ولذا شاء ما اقتضاه خلقهم واستعدادهم . فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون . فأدخل من شاء في رحمته وهم المؤمنون ، وفي عذابه ، الكافرين .
قال أبو السعود : ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين ، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله : { وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } أي : والكافرون بالله مالهم من وليّ يتولاهم يوم القيامة ، ولا نُصَيْر ينصرهم من عقاب الله فينقذهم من عذابه ، لأنه يدخلهم في قهره . وتوصيفهم بالظالمين ، إشارة إلى عدل المؤمنين في باب الاعتقادات ، والأخلاق ، والأعمال ، والأفعال ، وأنه تعالى يواليهم ، وينصرهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ 9 ، 10 ] .
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي : يتولونهم ، مع أنه لا ولاية لهم في الحقيقة ؛ إذ لا قدرة ولا قوة : { فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ } أي : هو الذي يجب أن يتولى وحده ، ويعتقد أنه المولى والسيد دون غيره ، لتوليه سبحانه كل شيء ، وسلطانه وحكمه . والفاء جواب شرط مقدر . كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه : إن أرادوا ولياً بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا ولي سواه : { وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو المحي القادر ، فكيف تستقيم ولاية غيره ؟ , وقوله : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } تمهيد لما يأتي بعد ، من الأمر بإقامة الدين وعدم التفريق فيه ، الذي هو وصية الله تعالى لأنبيائه ، وشرعته لخلقه ، وتنبيه على أن خلاف من خالف من المشركين والكافرين ، إنما مردّه إلى الله تعالى ، وحكمه ، وقضائه ، أنه لا دين إلا دينه ، ولا عبادة إلا عبادته ، ولا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه, والقصد الرد على مشركي مكة وأمثالهم ، في تشريعهم ما لم يأذن به الله ، وتحكيمهم إتباع الآباء وأفانين الأهواء . فإن السورة مكية ، ومع ذلك ، فتدل الآية على أن ما اختلف فيه المختلفون وتنازعوا في شيء من الخصومات ، يجب أن يكون التحاكم فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يوثر على حكومته حكومة غيره . كقوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] ، وتدل أيضاً على الرجوع إلى المحكم من كتاب الله ، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا اختلفوا في تأويل آية واشتبه عليهم . وعلى تفويض مالم تصل إلي دركه العقول ، إلى الله تعالى ، بأن يقال : الله أعلم . كما في قوله : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] .
وقوله : { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبّي } بتقدير قل ، أو هو حكاية لقوله صلى الله عليه وسلم . أي : الذي هذه الصفات صفاته ، ربي لا آلهتكم التي تدعون من دونه ، التي لا تقدر على شيء : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : في أموري كلها : { وَإلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في المعاد ، أو من الذنوب ، أو في الأمور المعضلة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى:
{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [11]
{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي من جنسهم { أَزْوَاجًا } أي نساء { وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي أصنافاً مختلفة,أو ذكوراً وإناثاً ,{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }أي يكثركم من ( الذرء ) وهو البث. يقال : ذرأ الله الخلق ,بثهم كثرهم,و فسر ب( يخلقكم ) ,و ضمير ( فيه ) للبطن أو الرحم. و قال الزمخشري : أي في هذا التدبير ,وهو أن جعل للناس و الأنعام أزواجاً,حتى كان بين ذكورهم و إناثهم التوالد و التناسل, و الضمير في ( يذرؤكم ) يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل, فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ و هلا قيل:يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنع و المعدن للبث والتكثير. انتهى.
و قيل ( في ) مستعارة للسببية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }, قال ابن جرير: فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس مثله شيء, و تكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى.
و بقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة, أي ليس كصفته صفة, و رابع - وهو ما عول عليه المحققون - أن المراد من ( مثله ) ذاته,كما في قولهم : مثلك لا يبخل,على قصد المبالغة في نفيه عنه, فإنه إذا نفي عمن يناسبه, كان نفيه عنه أولى, ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه. و وجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة, وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشُّمنِّيّ , وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه, لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم, كما يقال: ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم, والأخ لازمه, لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد, فنُفِي هذا اللازم, و المراد نفي ملزومه, أي ليس لزيد أخ. إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ, هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل, و المراد نفي مثله تعالى - إذ لو كان له مثل, لكان هو تعالى مثل مثله, لتحقق المماثلة من الجانبين.
فلا يصح نفي مثله (أي نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة، فأطلق نفي مثل المثل، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل: طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولًا أنها تقتضى إثباته. ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات، وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال، ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى، ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازمًا لحقيقة الآية قطعًا بل هو محتمل فقط، كما تحتمل نفيه وإن كان الأول أقرب، لكن عارضه في خصوص هذه المادة أنه لو كان له مثل الخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال فافهم ذلك.
وقال العصام: هذا - أي كون الآية من باب الكناية - وجه تلقاه الفحول بالقبول، ورجحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح، وعدم الزيادة أحق بالترجيح، وفيه بحث، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل؛ لأن الشيء ليس مثل مثله، بل المثل المشارك للشيء في صفة، مع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل، والمثل بمنزله الملحق به المتقارب منه . انتهى.
ورده السيلكوتي فقال: ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه، فتوهم محض، لأن المماثلة هي ا لشركة في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة، صرح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى. ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام، وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: في الآية رد على المشبهة، وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم، ولا عرض ولا لون ولا حال في مكان ولا زمان. انتهى.
وكان حقه أن يتم الاستنباط، فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة، فكذا تتمتها وهو قوله تعالى (وهو السميع البصير) رد على المعطلة، ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف، فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه، وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل، فمثلوا أولًا وعطلوا آخرًا، فهذا تشبيه وتمثيل منهم، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل، بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة، فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تشبيه، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) قال الحافظ ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. انتهى.
قال الذهبي: صدق الله، فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم، كما نقل عن جماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: لها كرب؟ قالوا: لا، قيل: لها رطب؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة. قلت: كذلك هؤلاء النفاة، قالوا: إلهنا الله تعالى؛ وهو لا في زمان، ولا في مكان، ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا، وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد، الذي كلم موسى تكليما ، واتخذ إبراهيم خليلا، ويرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال الذهبي رحمه الله أيضا: مقال متأخري المتكلمين، أن الله تعالى ليس في السماء، ولا على العرش ولا على السموات ولا في الأرض، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم، وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم، قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعًا للنصوص ولا نقول بقولكم، فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم، تعالى الله جل جلاله عن العدم، بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف، انتهى.
وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، والنفي كقوله (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس شيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) إلى قوله (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) فنفي السنة النوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم، وكذلك قوله (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته، وكذلك قوله (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض، وكذلك قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء دل عل كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا، وإنما المدح في كونه لا محاط به، وإن رئي ، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته، ما يكون مدحا وصفة كمال، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا، هو مما لم يصف الله به نفسه، الذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا، بل ولا موجودا، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل ا لعالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم، وكذلك كونه لا يتكلم أولا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص، فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له، ومن قال إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم، فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة، وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس، فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها ، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي، وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها، صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه.

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [ 12 ، 13 ] .
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أي : يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه ، ويقتّر على آخرين : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الشورى : 3 ] ، ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك ، وهو ما شرعه له ولهم من الاتفاق على عبادته وحده لا شريك له كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وفي الحديث : < نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد > . يعني : عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم . كقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] . وتخصيص هؤلاء الخمسة ، وهم أولو العزم عليهم السلام ، بالذكر ، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة . ولاستمالة قلوب الكفرة ، لاتفاق الكل على نبوة بعضهم . وابتدأ بنوح عليه السلام لأنه أول الرسل . والمعنى : شرع لكم من الدين ما وصى به جميع الأنبياء من عهد نوح عليه السلام إلى زمن نبينا عليه الصلاة السلام . والتعبير بالتوصية فيهم والوحي له ، للإشارة إلى أن شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الكاملة . ولذا عبر فيه بـ : الذي ، التي هي أصل الموصولات . وأضافه إليه بضمير العظمة ، تخصيصاً له ولشريعته بالتشريف وعظم الشأن وكمال الاعتناء . وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زماناً : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : من إخلاص العبادة لله وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الأوثان : { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء } وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه : { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } أي : يوفق للعمل لطاعته وإتباع رسله ، من يُقبل إلى طاعته ، ويتوب من معاصيه . ثم أشار إلى أهل الكتاب ، إثر بيان حال المشركين ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ 14 ] .
{ وَمَا تَفَرَّقُوا } أي : في دينهم وصاروا شيعاً : { إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } أي : الدلائل الصحيحة ، والبراهين اليقينية على حقية ما لديهم : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : ظلماً ، وتعدياً ، وطلباً للرئاسة : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو تأخير العذاب إلى يوم القيامة : { لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : باستئصالهم ، لاستيجاب جناياتهم لذلك : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } وهم أهل مكة الذين مَنَّ الله عليهم بالكتاب العزيز : { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي : موقع لأتباعهم في الشك ، لكثرة ما يبثونه من الوساوس الصادة عن سبيل الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ 15 ] .
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي : فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب ، فادع الناس كافة إلى إقامة الدين لمقاومة الباطل ودحره ، وهتك وساوسه : { وَاسْتَقِمْ } أي : على الدعوة إليه ، والصدع به : { كَمَا أُمِرْتَ } أي : أوحي إليك : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ } أي : أي : كتاب كان ، لا كالذين آمنوا ببعض ، وكفروا بعض . وفيه تحقيق للحق ، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول ، وتأليف لقلوب أهل الكتابين ، وتعريض بهم . أفاده أبو السعود { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي : لأسوي بينكم في دعوة واحدة ، كما قال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عِمْرَان : 64 ] . ثم أشار إلى أن ما وراء الأمر المذكور ، والتبليغ به من الحساب ، فهو إليه تعالى . فقال : { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي : لا خصومة ولا محاجة بعد هذا ؛ لأن الحق قد ظهر ، ولم يبق للمحاجة حاجة ، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة . والحجة في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج . كما ذكره الراغب . وتكون بمعنى الدليل . والمراد هو الأول دون الثاني . وهو ظاهر : { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } أي : يوم القيامة ، فيقضي بالحق فيما اختلفنا : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيْرُ } أي : المعاد والرجع للجزاء .
تنبيهان :
الأول - تفسير العدل بما ذكرناه ، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام لاسيما والسورة مكية ، ولم يكن مظهره صلوات الله عليه بها فصل الخصومات والقضاء في الحكومات . نعم من ذهب إلى ذلك فإنما وقف مع عمومها . ومنه قول قتادة : أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعدل حتى مات . والعدل ميزان الله في الأرض ، به يأخذ للمظلوم من الظالم ، وللضعيف من الشديد ، وبالعدل يصدق الله الصادق ، ويكذب الكذاب ، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه .
الثاني - قال ابن كثير : اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات . كل منها منفصلة عن التي قبلها . حكم برأسها . قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي . فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ 16 ] .
{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ } أي : يخاصمون في دينه الذي ابتعث به خاتم أنبيائه, وهم الذين أورثوا الكتاب ، المذكورون قبلُ ، ليصدوا عن الهدى طمعاً في عود الجاهلية : { مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } أي : استجاب له الناس ؛ أي : بالاستسلام والانقياد لدينه حسبما قادهم إليه العقل السليم ، والنظر الصحيح ، وسيرة الداعي ، وهديه ، وحسن دعوته ، وتصديق الكتب المنزلة له ، وسلامة الفطرة : { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي : زائلة لأنها في باطل . والباطل لا بقاء له مع قوة الحق : { عِندَ رَبِّهِمْ } أي : في حكمه وقضائه وتقديره . قال أبو السعود : وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة ، مجاراة معهم على زعمهم الباطل : { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } أي : عظيم ، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره : { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } وهو عذاب النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } [ 17 ] .
{ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : متلبساً به في أحكامه وأخباره : { وَالْمِيزَانَ } أي : وأنزل الميزان ، وهو العدل الذي يوزن به الحقوق ، ويسوى به الخلاف : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } قال أبو السعود : أي : شيء قريب ، أو قريب مجيئها ، أو الساعة بمعنى البعث . والمعنى أنها على جناح الإتيان . فاتبع الكتاب ، واعمل به ، وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ، ويوفى جزاؤها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } [ 18 ] .
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون منها . قال ابن جرير : لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } أي : المتحقق وجوده لا محالة : { أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } أي : لإنكارهم عدل الله ، وحكمته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ 19 ، 20 ] .
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } أي : يلطف بهم في تدبير إيصال ما يفتقرون من خير الدين والدنيا : { يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } .
قال الزمخشري : سمي ما يعلمه العامل مما يبتغي به الفائدة والزكاء ، حرثاً على المجاز - أي : بتشبيهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ، ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة . وفرق بين عمل العاملين بأن من عمل للآخرة ، وفق في عمله وضوعفت حسناته . ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئاً منها ، لا ما يريده ويبتغيه ، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه ، وما له نصيب قط في الآخرة ، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له ، واصلٌ إليه لا محالة - للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله ، وفوزه في المآب . انتهى .
وهذه الآية كآية : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ } [ الإسراء : 18 ] ، الخ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ 21 - 23 ] .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } أم : منقطعة ، فيها معنى بل والهمزة ، ولا بد من سبق كلام ، خبراً أو إنشاء ، يضرب عنه ويقرر ما بعده . وما سبق قوله : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] ، الخ فهو معطوف عليه ، وما بينهما من تتمة الأول . والمراد بشركائهم ، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه ، وإما أوثانهم ، وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة . وعلى الثاني ، فإسناد الشرع إليها ، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به ، أو لأنها على صورة المشّرع الذي سن هذه الضلال لهم ، ويجوز كون الاستفهام المقدر حينئذ للإنكار . أي : ليس لهم شرع ولا شارع . كما في قوله : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] ، { وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ } أي : القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا . أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبيّن في الآخرة . فالفصل بمعنى البيان : { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين ، بتعجيل العذاب للكافرين : { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ } أي : يوم البعث : { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا } أي : من السيئات : { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي : نازل بهم لا محالة : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به ، والنصيحة التي أنصحكم ، ثواباً ، وجزاءً ، وعوضاً من أموالكم تعطونيه : { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم ، وتصلوا الرحم التي بيننا ، ولا يكن غيركم ، يا معشر قريش ، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم .
قال الشهاب : المودة مصدر مقدر بـ : أن الفعل . والقربى مصدر كالقرابة . وفي للسببية . وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة . والخطاب ، إما لقريش أو لجميع العرب ، لأنهم أقرباء في الجملة . انتهى . والاستثناء منقطع . ومعناه نفي الأجر أصلاً ؛ لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم ؛ لكونها سبب نجاتهم . فلا تصلح أن تكون أجراً له . وقيل : المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم . وقيل القربى التقرب إلى الله تعالى . أي : إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه . والمعنى الأول هو الذي عول عليه الأئمة . ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه ، غيره . ففي البخاري عنه أنه سئل عن قوله تعالى : { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال سعيد بن جبير : القربى آل محمد . فقال ابن عباس : عجلت . إن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة .
قال ابن كثير : انفرد به البخاري - أي : عن مسلم - ورواه الإمام أحمد . وهكذا روى الشعبي ، والضحاك ، وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي ، ويوسف بن مِهْرَان ، وغير واحد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، مثله . وبه قال مجاهد ، وعكرمة وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم . وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي ، لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم > . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجراً ، إلا أن تودوا الله تعالى ، وأن تقربوا إليه بطاعته > . وهكذا روي عن قتادة ، والحسن البصري مثله .
وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار ، فإسناده ضعيف . على أن السورة مكية . وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة . وكذا ما رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : < فاطمة وولدها - رضي الله عنهم - > فإن في إسناده مبهماً لا يعرف ، عن شيخ شيعي ، وهو حسين الأشقر ، فلا يقبل خبره في هذا المحل ، وذكر نزول الآية في المدينة بعيد . فإنها مكية . ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية . فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر السنة الثانية من الهجرة .
والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ، كما رواه عنه البخاري . ولا ننكر الوصاة بأهل البيت , والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم ، وإكرامهم . فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ، فخراً ، وحسباً ، ونسباً . ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية . كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه ، وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين ، وقد ثبت في " الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : < إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي . وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض > . وروى الإمام أحمد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا ، لقونا بوجوه لا نعرفها . قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال : < والذي نفسي بيده ! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله > . هذا ملخص ما أورده ابن كثير رحمه الله تعالى ، وسبقه في الإيساع في ذلك تقي الدين ابن تيمية في " منهاج السنة " من أوجه عديدة .
قال في الوجه الثالث : إن هذه الآية في سورة الشورى . وهي مكية باتفاق أهل السنة . بل جميع آل حم مكيات . وكذلك آل طس . ومن المعلوم أن علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر . والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة . والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة . فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق .
ثم قال : الوجه الرابع - إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك . فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت ، بعد علي ، يقول : ليس معناها مودة ذوي القربى . ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب , ويا معشر قريش عليه أجراً ، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم . فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولاً ، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه .
الوجه الخامس - أنه قال : { لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى . فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [ الأنفال : 41 ] ، وقال : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [ الحشر : 7 ] ، وكذلك قوله : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } [ الإسراء : 26 ] ، وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } [ البقرة : 177 ] ، وهكذا في غير موضع . فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذوي قربى الْإِنْسَاْن ، إنما قيل فيها : ذوي القربى . لم يقل : في القربى . فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم ، دل على أنه لم يرد ذوي القربى .
الوجه السادس - أنه لو أريد المودة لهم لقال : المودة لذوي القربى ، ولم يقل في القربى ، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره : أسألك المودة في فلان ، ولا في قربى فلان . ولكن أسألك المودة لفلان ، والمحبة لفلان . فلما قال المودة في القربى ، علم أنه ليس المراد لذوي القربى .
الوجه السابع - أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجراً البتة . بل أجره على الله كما قال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } [ الطور : 40 ] و [ القلم : 46 ] وقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } [ سبأ : 47 ] ، ولكن الاستثناء هنا منقطع ، كما قال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] ، ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة . لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية ، ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم . بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات . وفي " الصحيح " عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال < أذكركم الله في أهل بيتي > وفي " السنن " عنه أنه قال < والذي نفسي بيده ! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي > فمن جعل محبة أهل بيته أجراً له يوفيه إياه ، فقد أخطأ خطأً عظيماً . ولو كان أجراً له [ لم ] نُثَب عليه نحن ؛ لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة . فهل يقول مسلم مثل هذا ؟ .
الوجه الثامن - إن القربى معرفة باللام . فلا بد أن يكون معروفاً عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم : { لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرٍ } وقد ذكر أنها لما نزلت ، لم يكن قد خلق الحسن والحسين ، ولا تزوج علي بفاطمة . فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها ، يمتنع أن تكون هذه . بخلاف القربى التي بينه وبينهم ، فإنها معروفة عندهم ، كما تقول : لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا . وكما تقول : لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم . ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر . انتهى
{ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } أي : يكتسب طاعة : { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنَاً } أي : بمضاعفته : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي : لمن تاب وأناب : { شَكُورٌ } لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 24 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : بدعوى النبوة والوحي : { فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } قال ابن كثير : أي : لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون ، يختم على قلبك ، أي : يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن . كقوله جل جلاله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] ، أي : لانتقمنا منه أشد الانتقام ، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه . انتهى .
وهذا تفسير بالأشباه ، والنظائر من الآيات ، يؤثره كثير من الأئمة ، ما وجد إليه سبيلاً . فإن التنزيل يفسر بعضه بعضاً ، ومآل الآية على هذا المعنى ، كما أوضحه أبو السعود ، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا ، ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى ، لمنعه من ذلك قطعاً ، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه ، ولم ينطق بحرف من حروفه . وحيث لم يكن الأمر كذلك . بل تواتر الوحي حيناً فحيناً ، تبين أنه من عند الله تعالى .
وقال الزمخشري : فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم ، حتى تفتري عليه الكذب ؛ فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله ، إلا من كان في مثل حالهم . وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وإنه في البعد مثل الشرك بالله ، والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم . ومثل هذا أن يخوّن بعض الأمناء فيقول : لعل الله خذلني . لعل الله أعمى قلبي . وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب ، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه رُكب من تخوينه أمر عظيم . انتهى .
قال الشهاب : فمعناه إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم . فهو تسلية له صلوات الله عليه ، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه ، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه ، فاستحق غضب ربه ، ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر ؛ ولذا أتى بأن ، في موضع لو ، إرخاءً للعنان ، وتلميحاً للبرهان . على أنه لا يتصور وصفه بما ذكروه . فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه ، وحاصله أنهم ، اجترؤوا على هذا المحال ؛ لأنه مطبوعون على الضلال . انتهى : { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لو كان مفترى لمحقه ؛ إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه .
فليس : يمح ، مجزوماً بالعطف على الجزاء ، بل معطوف على مجموع الجملة ، والكلام السابق ، ولذا أعيد لفظ الجلالة ، ورفع يحق . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن ، وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم . إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [ 25 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } أي : يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته ، من بعد كفره : { وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } أي : معاصيه التي تاب منها : { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } أي : من خير ، أو شر ، وهو مجازيكم عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [ 26 ، 27 ] .
{ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : يستجيب لهم . فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] ، أي : يثيبهم على طاعتهم : { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } أي : على ثوابهم ، منةً منه وطولاً : { وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } أي : تجاوزوا الحدّ الذي حدّه لهم إلى غيره ، بركوبهم ما حظره عليهم ؛ لأن الغنى مبطرةً مأشرة : { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6 - 7 ] ، { وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء } أي : ولكن ينزل من رزقه ما يشاؤه بقدرٍ ، لكفايتهم : { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } قال الزمخشري : أي : يعرف ما يؤول إليه أحوالهم ، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم ، وأقرب إلى جمع شملهم ، فيُفقر ويُغني ، ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط ، كما توجبه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعاً لبلغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ 28 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } أي : بركات الغيث ، ومنافعه ، وآثاره من الخصب ، والرخاء : { وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } أي : الذي يتولى الخلق بإحسانه ، والمحمود على أياديه عندهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } [ 29 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ } أي : حشرهم يوم القيامة : { إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } أي : متمكن منه ، لا يتعذر عليه وإن تفرقت أوصالهم .
تنبيه :
ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية ، والعوالم العلْوية إلى معنى آخر في هذه الآية . وعبارته : يفهم من الآية أن الله تعالى خلق السماوات دواب ، ويستدل من قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ النور : 45 ] ، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون ، بل حيوانات كحيوانات الأرض ، ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالْإِنْسَاْن ، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السماوات نباتات ، وأشجار ، وبحار ، وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد .
ثم قال : لعمري ، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة ، لآية لأهل هذا العصر وأيّة آية ، آية لأهل العلم ، والفلسفة الذين يبذلون الأموال ، والأرواح بلا حد ، ولا حساب ، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات ، ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة ، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية . وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي ، إن الأرض أصغر من الشمس ، وأنها تدور حولها ، وإن الكواكب السيارات كريّات ، وإن النجوم الثوابت شموس ، ولها سيارات تدور حولها ، ولما ثبت لديهم جميعاً وجود الماء والهواء ، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات ، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض .
وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا ، وليس ذلك بالمستحيل فنّاً . ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى : { وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكراً ، إذا لم يجتمعا جسماً . فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن . وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية ، الضاربون صفحاً عن العلوم الإسلامية ، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان . وقال أيضاً : لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين ، أولاً وبالذات . لكن ، تمهيداً لهذا السبيل ، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية ، وصرف بصائر الناس إلى التفكير في خلق السماوات والأرض ، وما هن عليه من الإبداع ، فوجه أبصارهم إلى التأمل في خلق الْإِنْسَاْن , وما عليه من التركيب العجيب ، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية .
فالمفسرون رحمهم الله ، لما فسروا هذه الآيات ، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية ، ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان ، لاسيما علم الفلك . فهم معذورون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحيّر عقول فلاسفة هذا العصر ، المتضلعين بالعلوم العقلية . لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها ، بل أوّلوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية . انتهى كلامه .
وقال عالم فلكي أيضاً : يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه ، ويكون كل كوكب منها أرضاً بالنسبة لحيواناته ، وباقي الكواكب سماوات بالنسبة لها .
قال : والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح ؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } ويقول : { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ,

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [ 30 ] .
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : فبسبب معاصيكم ، وما اجترمتم من الآثام : { وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } أي : من الذنوب فلا يعاقب عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [ 31 ] .
{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } أي : بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم ؛ لأنكم في قبضة تصرّفه : { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } أي : إذا أراد عذابكم . فاتقوه واخشوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ 32 ، 33 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ } أي : السفن الجارية : { فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } أي : الجبال : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ } أي : فيبقين ثوابت على ظهر البحر : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في جري هذه الجواري في البحر ، بتسخير الله تعالى الريح لجريها : { لَآيَاتٍ } أي : لعبرة ، وعظة ، وحجة بينة على القدرة الأزلية : { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : لكل مؤمن . وإنما آثر وصفيه المذكورين ، تذكيراً بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر ؛ إذ لا يكمل الإيمان بدونهما . والإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } [ 34 ، 35 ] .
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ } أي : أو يهلكهن بالغرق : { بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } وقوله تعالى : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ } أي : يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ 36 ، 38 ] .
{ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ } أي : مما زين للناس حبه من الشهوات : { فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : فهو متاع لكم ، تتمتعون به في الدنيا ، وليس من الآخرة : { وَمَا عِندَ اللَّهِ } أي : من ثوابه الأخروي : { خَيْرٌ وَأَبْقَى } وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه : { لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : في أمورهم ، وقيامهم بأسبابهم : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } أي : يصفحون عمن أساء إليهم : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أي حينما دعاهم إلى توحيده ، والبراءة من عبادة غيره : { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } أي : لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه ، وذلك من فرط تدبّرهم وتيقظهم ، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابّهم في الله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي : فيؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها ، من زكاة ونفقة . وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } [ 39 ] .
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي : بالعدالة . احترازاً عن الذلة والانظلام ، لكونهم في مقام الاستقامة ، قائمين بالحق والعدل الذي ظلّه في نفوسهم . قال القاشاني . وقال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره ، المنتصر منه بعد بغيه عليه . فقال بعضهم : هو المشرك إذا بغى على المسلم . وقال آخرون : بل هو كل باغٍ بغى فحمد المنتصر منه . وإليه ذهب السدي حيث قال : ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا .
قال ابن جرير : وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب ؛ لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى . بل حمد كل منتصر بحقٍّ ممن بغى عليه . . فإن قال قائل : وما في الانتصار من المدح ؟ قيل : إن في إقامة الظالم على سبيل الحق ، وعقوبته بما هو له أهل ، تقويماً له . وفي ذلك أعظم المدح . انتهى . وكذا قال الزمخشري . فإن قلت : أهم محمودون في الانتصار ؟ قلت : نعم ؛ لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل ، إن كان وليّ دم ، أو ردّ على سفيه محاماة على عرضه وردعاً له ، فهو مطيع ، وكل مطيع محمود . قال النَّخَعِي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق .
ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 40 - 42 ] .
{ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } أي : وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها ؛ إذ النقصان حيف والزيادة ظلم . ثم بين تعالى أن العفو أولى ، فقال : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } أي : بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء : { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي : ثوابه عليه . وفي إبهامه ، ما يدل على عظمه ؛ حيث جعل حقاً على العظيم الكريم : { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي : البادئين بالسيئة ، والمعتدين في الانتقام : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي : بعد ما ظُلِم . فالمصدر مضاف لمفعوله ، أو هو مصدر المبني للمفعول : { فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ } أي : للمعاقب ، ولا للعاتب والعائب ؛ لأنهم انتصروا منهم بحق . ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه ، ولم يتعد ولم يظلم ، فكيف يكون عليه سبيل ؟ : { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } أي : يبدءوهم بالظلم والإضرار ، أو يعتدون في الانتقام : { وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : يتكبرون فيها ويفسدون : { أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بسبب ظلمهم ، وبغيهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ 43 ] .
{ وَلَمَن صَبَرَ } أي : على الأذى : { وَغَفَرَ } أي : لمن ظلمه ، ولم ينتصر : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أي : التي ندب الله عباده ، وعزم عليهم العمل بها .
تنبيه :
نقل السيوطي في " الإكليل " عن الكيا الهراسي أنه قال : قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه ، وظاهر هذه الآية : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أن الانتصار أفضل . قال : وهو محمول على من تعدى وأصرّ ؛ لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين ، وآيات العفو فيمن ندم وأقلع . انتهى .
وعجيب فهمه الأفضلية من الآية ، فإنها لا تدل عليه ، عبارة ولا إشارة ؛ فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار . وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا ، ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة ، ثم بين أن العفو أولى ، وهو الذي انتهى إليه الكلام ، وتم به السياق . وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى ؛ وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات ، والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل ، ودفع الظلم عن النفس والصغار ، ورفع الأحقاد والأضغان ، وأما العفو والصفح ، فذاك من فروع علم الأخلاق ، وتهذيب النفوس ؛ لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق ، رغبة في تزكية النفس وهضماً لها وحرصاً على خير الأمرين ، وأوفر الأجرين ، وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية ، وتوسطها بين الاقتصاص البتة ، والعفو كلياً ؛ لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطاً وتفريطاً ، والدين دين الفطرة ، وهي تتقاضى القصاص بالمثل ، وتراه حقاً لها بجبلتها ، والقضاء الأدبي ، والوازع الرحماني يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت ، ويبرهن لها أمثليته ، مما لا يبعد إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها ، أن تؤثره ولا تؤثر عليه كيف ؟ وقد دل قوله تعالى : { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } كما قال الزمخشري ، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء ، خصوصاً في حال الحرد والتهاب الحمية . فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ 44 ] .
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } أي : ومن خذله عن الرشاد ، فليس له من ولي يليه ، فيهديه لسبيل الصواب ، ويسدده من بعد إضلال الله إياه : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } أي : رجعة إلى الدنيا . وذلك استعتاب منهم في غير وقته .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيل ٍ *اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } [ 45 - 47 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [ 45 - 47 ] .
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي : النار : { خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } أي : من طرف قد خفي من ذله وصغاره : { وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : بالتعريض للعذاب المخلد ، وتفويت النعيم المؤبد : { أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم } أي : أجيبوا أيها الناس داعي الله ، وآمنوا به : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } أي : لا يرده الله بعد ما حكم به فـ : من ، صلة مرد ، أو هي صلة يأتي ؛ أي : من قبل أن يأتي يوم الله لا يمكن رده : { مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } أي إنكار لما اقترفتموه ؛ لأنه محصي عليكم ، أو نكير ينكر على الله في مؤاخذتكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَاْن مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَاْن كَفُورٌ } [ 48 ] .
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : رقبياً تفظ عليهم أعمالهم ، وتحصيها : { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } أي : إبلاغهم ما أرسلت به ، فإذا فعلت فقد قضيت ما عليك : { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَاْن مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَاْن كَفُورٌ } أي : جحودٌ نعم ربه ، فلا يذكر إلا البؤس والبلاء ، ولا يتفكر إلا فيما أنزل به من الفساد والشقاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ 49 ، 50 ] .
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } أي : إنه تعالى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة ، وتقديم الإناث ، إما لأنها أكثر لتكثير النسل ، أو لتطييب قلوب آبائهن ، تنبيهاً بأنهن سبب لتكثير مخلوقاته ، فلا يجوز الحزن من ولادتهن وكراهيتهن ، كما يشاهد من بعض الجهلة . وقال الثعالبي : إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن ، ومن يمن المرأة تبكيرها بأنثى .
قال الشهاب : والضمير في : { يُزَوِّجُهُمْ } للأولاد ، وما بعده حال منه ، أو مفعول ثان إن ضمن معنى التصيير ، يعني يجعل أولاد من يشاء ذكوراً وإناثاً مزدوجين ؛ كما يفرد بعضهم بالذكور وبعضهم بالإناث ، ويجعل بعضهم لا أولاد له أصلاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ 51 ] .
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً } أي : إلهاماً وقذفاً في القلب منه ، بلا واسطة : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } أي : يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه ، كما كلم موسى عليه السلام : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي : من الملائكة كجبريل : { فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } أي : فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ، ما يشاء إيحاءه ، من أمر ونهي ، وغير ذلك ، على سبيل الإلقاء ، والنفث في الروع ، والإلهام ، أو الهتاف ، أو المنام : { إِنَّهُ عَلِيٌّ } أي : من أن يواجه ، ويخاطب . بل يفنى ويتلاشى من يواجهه ، لعلوّه من أن يبقى معه غيره ، أو يحتمل شيء حضوره . قال القاشاني .
وقال المهايمي : أي : لا يبلغ البشر حد مكالمته شفاهاً ، ولا يحتمل سماع كلامه مع رؤيته . انتهى { حَكِيمٌ } أي : يدبر بالحكمة وجوه التكليم ، ليظهر علمه في تفصيل المظاهر ، ويكمل به عباده ، ويهتدوا إليه ليعرفوه . وقال المهايمي : أي : حكيم في تبليغ كلامه العلي إلى البشر الضعيف .
تنبيه :
في " الإكليل " : استدلت بالآية ، عائشة رضي الله عنها ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه . واستدل مالك بقوله : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } على أن من حلف لا يكلم زيداً ، فأرسل إليه رسولاً أو كتاباً ، أنه يحنث . لأنه تعالى استثناه من الكلام ، فدل على أنه منه . انتهى . وفيه بعد ؛ إذ لا يقال لمن ألهمه الله ، إنه كلمه إلا مجازاً ، فلا يكون الاستثناء متصلاً . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } [ 52 ، 53 ] .
{ وَكَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة : { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } أي : وحياً من أمرنا . وسماه روحاً لأنه تحيا به القلوب الميتة . قال الشهاب : فهو استعارة أو مجاز مرسل ، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة . وقيل : هو جبريل .
و : { أَوْحَيْنَا } مضمن معنى أرسلنا . والمعنى : أرسلناه إليك بالوحي : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ } أي : الروح ، أو الكتاب ، أو الإيمان : { نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } أي : بالتوفيق للقبول ، والنظر فيه : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } أي : خلقاً وملكاً : { أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } أي : في الآخرة ، فيقضي بينهم بالعدل ؛ إذ لا حاكم سواه ، فيجازي كلّاً بما يستحقه من ثواب ، أو عقاب . نسأله تعالى أن يحسن لنا المآب . إنه الكريم الوهاب .

(/)


سورة الزخرف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [ 1 - 3 ]
أي معانيه و مواعظه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ 4 ] .
{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ } أي : رفيع القدر ، بحيث لا رفعة وراءها : { حَكِيمٌ } أي : ذو الحكمة الجامعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } [ 5 ] .
{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } أي : أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم . وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف ، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير ، بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط . ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة . قاله القاشاني .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } [ 6 - 8 ] .
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : قوة : { وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } أي : سلف في القرآن في غير موضع منه ، ذكر قصتهم وحالهم في تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم ؛ أي : فليتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم ُ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 9 ، 10 ] .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي : مهاداً تستقرون عليها : { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي : طرقاً تتطرقونها من بلدة إلى بلدة ، لمعايشكم ومتاجركم : { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ 11 ] .
{ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ } أي : بمقدار الحاجة إليه . فلم يجعله طوفاناً يهلك ، ولا رذاذاً لا ينبت ، بل غيثاً مغيثاً : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي : أحيينا به بلدة ميتاً من النبات ، قد درست من الجدب ، وعفت من القحط : { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي : من بعد فنائكم ، ومصيركم بالأرض .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ 12 - 14 ] .
{ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي : خلق كل شيء فزوّجه ، فجعل منه الذكر والأنثى : { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } أي : من السفن والبهائم ما تركبونه : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي : مطيقين : { وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } أي : لصائرون إليه ، وراجعون بعد مماتنا .
تنبيه :
في " الإكليل " : في الآية استحباب هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة ، وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته ، أو دابته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَاْن لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } [ 15 ] .
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } أي : جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيباً ، وذلك قولهم للملائكة : هم بنات الله . قال القاشاني : أي : اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومبدعهما وفاطرهما . وقد جسموه وجزأوه بإثبات الولد له ، الذي هو بعض من الوالد ، مماثل له في النوع ، لكونهم ظاهريين جسمانيين ، لا يتجاوزون عن رتبة الحس والخيال ، ولا يتجردون عن ملابس الجسمانيات ، فيدركون الحقائق المجردة ، والذوات المقدسة ، فضلاً عن ذات الله تعالى . فكل ما تصوروا وتخيلوا ، كان شيئاً جسمانياً . ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة ، والبعث ، والنشور ، وكل ما يتعلق بالمعاد ؛ إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا ، وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية ، أمور المعاش . فلا مناسبة أصلاً بين ذواتهم وذوات الأنبياء ، إلا في ظاهر البشرية . فلا حاجة إلى ما وراءها . انتهى : { إِنَّ الْإِنْسَاْن لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } أي : لجحودٌ نعم ربه ، التي أنعمها عليه ، يبين كفرانه لمن تدبر حاله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ } [ 16 ] .
{ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ } أي : بل اتخذ . والهمزة للإنكار تجهيلاً لهم ، وتعجيباً من شأنهم ، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءاً ، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين وهو الإناث دون الذكور . على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث ، وأمقتهم لهن ، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن ، كأنه قيل : هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة ، فرضاً وتمثيلاً ، أما تستحيون من الشطط في القسمة ، ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما ، ترك له شرهما وأدناهما ؟ قاله الزمخشري .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ 17 ] .
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً } أي : من البنات : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي : من الكآبة ، والغم ، والحزن : { وَهُوَ كَظِيمٌ } أي : مملوء قلبه من الكرب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [ 18 ] .
{ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أي : تربى في الزينة ، يعني النبات : { وَهُوَ فِي الْخِصَامِ } أي : في المجادلة : { غَيْرُ مُبِينٍ } أي : لمن خاصمه ببرهان ، وحجة ، لعجزه وضعفه . والمعنى : أو من كان كذلك جعلتموه جزءاً لله من خلقه ، وزعمتم أنه نصيب منهم ؟ .
تنبيه :
قال الكيا الهراسي : في دليل على إباحة الحلي للنساء . وسئل أبو العالية من الذهب للنساء ، فلم ير به بأساً ، وتلا هذه الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [ 19 ] .
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } أي : جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده ، يسبحونه ، ويقدسونه ، إناثاً . فقالوا : هم بنات الله . جهلاً منهم بحق الله سبحانه ، وجراءةً منهم على قيل الكذب .
قال القاشاني : لما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها ، إما باعتبار اللفظ وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية ، مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية - توهموا أنوثتها في الحقيقة ، التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصامها بالله . فجعلوها بنات . وقلما يعتقدها العامي إلا صوراً إنسية لطيفة في غاية الحسن . انتهى .
{ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } أي : أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم ؟ وهو تجهيل لهم ، وتهكم بهم : { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ } أي : على الملائكة بما هم مبرءون عنه : { وَيُسْأَلُونَ } أي : عنها يوم القيامة ، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها ، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً ، وفيه من الوعيد ما فيه ؛ لأن كتابتها ، والسؤال عنها ، يقتضي العقاب والمجازاة عليها ، وهو المراد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [ 20 ، 21 ] .
هذا بيان لضلال لهم آخر، في جدلهم و خصامهم و تعنتهم . و قد استدل المعتزلة بظاهر الآية في أنه تعالى لا يشاء الشرور و المعاصي . و أهل السنة تأوّلوا الآية بما يلاقي العقد الصحيح . وهو عموم مشيئته تعالى لكل شيء ، الناطق به غير ما آية . و لما كانت هذه الآية و أخواتها من معارك الأنظار قديماً و حديثاً ، آثرت أن أنقل هنا ما لمحققي المفسرين ، جرياً على قاعدتنا في التقاط نفائس ما للمتقدم ، وتحلية مصنفاتنا بها ، فنقول : قال القاشاني : لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى ،افترضوه و جعلوه ذريعة في الإنكار . و قالوا ذلك لا عن علم و إيقان ، بل على سبيل العناد و الإفحام . و لهذا ردهم الله تعالى بقوله ( ما لهم بذلك من علم ) إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين ، لا ينسبون التأثير إلا إلى الله . فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره . إذ لا يرون حينئذٍ لغيره نفعاً ولا ضراً ( إن هم إلا يخرصون ) لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل ، حين عظموهم و خافوهم و خافوهم و خوّفوا أنبياءهم من بطشهم ، كما قال قوم هود ( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) و لما خوفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم ، أجاب بقوله ( وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ) إلى قوله ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ) انتهى .
و في البيضاوي و حواشيه : إن هذا القول استدلال منهم على امتناع النهي عن عبادة غيره تعالى أو على حسنها . يعنون أن عبادتهم الملائكة بمشيئته تعالى . فيكون مأموراً بها أو حسنة . و يمتنع كونها منهياً عنها أو قبيحة . و هذا الاستدلال باطل . لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن ، لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض / حسناً كان أو قبيحاً . و لذلك جهلهم في استدلالهم هذا . و الحاصل أن الإنكار متوجه إلى جعلهم ذلك دليلاً على امتناع النهي عن عبادتهم ، أو على حسنها : لا إلى هذا القول ، فإنه كلمة حق أريد به باطل . انتهى .
و قال الناصر في ( الانتصاف ) : نحن معاشر أهل السنة نقول : إن كل شيء بمشيئته تعالى ، حتى الضلالة و الهدى ، اتباعاً لدليل العقل ، و تصديقاً لنص النقل . في أمثال قوله تعالى ( يُضِلُّ مَن يَشآءُ و يَهْدي مَن يَشَآءُ ) و آية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيداً ، ولا تفيده إلا تصويباً و تسديداً . فنقول : إذا قال الكافر ( لو شاء الله ما كفرتُ ) فهذه كلمة حق أراد بها باطلاً ، أما كونها كلمة حق ، فلما مهّدناه . وأما كونها أراد بها باطلاً ، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله ، توهماً أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضلّ ، أن لا يعاقبه على ذلك. لأنه فعل مقتضى مشيئته.
ثمّ قال : فإذا وضح ما قلناه ، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه. لأنهم توهموا أنها حجة على الله . فدحض الله حجتهم ، وأكذب أمنيتهم ، و بين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب و تخرص محض ، فقال ( مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون ) و ( إِنْ هُمْ إِلَّّا يَظُنُّون ) و قد أفصحت أخت هذه الآية عن هذا التقدير . و ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل ، و الإشراك بالله ، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم ( لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا ) فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال ، بحال أوائلهم. ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلّب و خيال مكذب، فقال ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون ) ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله, أثبت تعالى الحجة له عليهم بقولهم ( فلله الحجة البالغة ) ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلاّ في احتجاجهم على الله بذلك . لا لأن المقالة في نفسها كذب. فقال ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) وهو معنى قولهم ( لو شاء الله ما أشركنا ) من حيث أن (لو) مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة. فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم. ولو شاء هدايتهم لما ضلوا, فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، و النور اللائح و المنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء, مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم, هو أنه تعالى جعل للعبد تأتياً و تيسراً للهداية و غيرها، من الأفعال الكسبية, حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف لأنها اختيارية يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية فهذه الآية أقامت الحجة ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة المحجة ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة فلا جرم أن أفهامهم تبددت وأفكارهم تبدلت فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا وأرشدهم إلى الطريق الوسطى فانتهجوا سبل السلام وساروا ورائد التوفيق لهم إمام مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة لكنها قدرة تقارن بلا تأثير وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير فهذا هو التحقيق والله ولي التوفيق. انتهى.
وقد سبق في آية الأنعام نقول عن الأئمة في الآية مسهبة: فراجعها إن شئت . وقوله تعالى ( أم ءاتيناهم كتابا من قبله ) أي من قبل هذا القرآن ( فهم به مستمسكون ) أي يعملون به ويدينون بما فيه ويحتجون به عليك نظير قوله تعالى في الآية الأخرى ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ) يعني بالعلم كتابا موحى في ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [ 22 ] .
{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } أي : لا حجة لهم إلا تقليد آبائهم ، الجهلة مثلهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ 23 ] .
{ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } أي : كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد ، فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله .
قال القاضي : وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم ، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم ، وأن مقلديهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور فيه . وتخصيص المترفين ، إشعار بأن النعم ، وحب البطالة ، صرفهم عن النظر إلى التقليد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [ 24 ] .
{ قَالَ } وقرئ قل : { أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } أي : جاحدون منكرون ، وإن كان أهدى ، إقناطاً للنذير من أن ينظروا ، أو يتفكروا فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ 25 ] .
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي : بعذاب الاستئصال : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي : آخر أمرهم ، مما أصبح مثلاً وعبرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ } [ 26 ] .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } قال القاضي : أي : اذكر وقت قوله هذا ، ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل ، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد ، فإنه أشرف آبائهم : { لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ } أي : بريء من عبادتكم أو معبودكم . و : { بَرَاء } بفتح الباء الموحدة كما هو قراءة العامة ، مصدر كالطلاق والعتاق ، أريد به معنى الوصف مبالغة . فلذا أطلق على الواحد وغيره . وقرئ بضم الباء وهو اسم مفرد صفة مبالغة ، كطوال وكرام ، بضم الطاء والكاف . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ 27 ] .
{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } استثناء منقطع أو متصل ، على أن ما يعم أولي الأمر وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، أو إلا بمعنى غير صفة لـ : ما ؛ أي : إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ؛ أي : خلقني : { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } أي : للدين الحق ، واتباع سبيل الرشد . والسين إما للتأكيد ، ويؤيده آية الشعراء : { يَهْدِينِ } بدونها . والقصة واحدة ، والمضارع في الموضوعين للاستمرار ، وإما للتسويف والاستقبال ، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولاً ، فيتغاير ما في الآيتين من الحكاية أو المحكي ، بناء على تكرر قصته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 28 ] .
{ وَجَعَلَهَا } أي : شهادة التوحيد : { كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي : موصي بها ، موروثة متداولة محفوظة . كقوله تعالى : { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [ البقرة : 132 ] ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : لكي يرجعوا إلى عبادته ، ويلجأوا إلى توحيده في سائر شؤونهم ، أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } [ 29 ] .
{ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء } يعني أهل مكة : { وَآبَاءهُمْ } أي : من قبلهم بالحياة ، فلم أعاجلهم على كفرهم : { حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ } أي : دعوة التوحيد ، أو القرآن : { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } أي : ظاهر الرسالة بالآيات ، والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } [ 30 ] .
{ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } أي : جاحدون ، فازدادوا في ضلالهم ، لضمهم إلى شركهم ، معاندة الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ 31 ] .
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ } أي : من إحداهما ، مكة والطائف ، فالتعريف للعهد : { عَظِيمٍ } أي : بالجاه والمال ؛ فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم ، قال القاضي : ولم يعلموا أنها رتبة روحانية ، تستدعي عظيم النفس ، بالتحلّي بالفضائل ، والكمالات القدسية ، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ 32 ] .
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } إنكار ، فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم فيما لا يتولّاه إلا هو تعالى . والمراد بالرحمة النبوة : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : فجعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ } أي : بالغنى : { فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم } يعني الغني : { بَعْضاً } يعني الفقير : { سُخْرِيّاً } أي : مسخراً في العمل ، وما به قوام المعايش ، والوصول إلى النافع ، لا لكمالٍ في الموسّع عليه ، ولا لنقص في المقتّر عليه بل لحاجة التضامّ والتآلف ، التي بها ينتظم شملهم . وأما النفحات الربانية ، والعلوم اللدنية ، فليست مما يستدعي سعة ويساراً ؛ لأنها اختصاص إلهي ، وفيض رحماني ، يمنّ به على أنفس مستعدّيه ، وأرواح قابليه .
والسّخريّ : بالضم منسوب إلى السخرة بوزن غرفة ، وهي الاستخدام والقهر على العمل { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } يعني أن النبوّة خير مما يجمعون من الحطام الفاني ؛ أي : والعظيم من أعاطيها وحازها ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لا من حاز الكثير من الشهوات المحبوبة .
ثم أشار تعالى إلى حقارة الدنيا عنده ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [ 33 - 35 ] .
{ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : متفقة على الكفر بالله تعالى ؛ أي : لولا كراهة ذلك : { لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ } أي : لتكثير النعم عليه ، مع كفره بالمنعم فيزداد عذاباً : { لِبُيُوتِهِمْ } بدل من : { لِمَن } { سُقُفاً } بفتح السين وسكون القاف ، وبضمهما [ في المطبوع : بعضمهما ] ، جمعاً : { مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي : مصاعد من فضة : { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي : يرتقون : { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً } أي : من فضة : { وَسُرُراً } أي : من فضة : { عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ وَزُخْرُفاً } أي : ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً ، أي : زينة من ذهب وجواهر فوق الفضة ، ثم أشار إلى أن لا دلالة في ذلك على فضيلتهم بقوله : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : وما كل هذه الأشياء التي ذكرت ، من السقف من الفضة ، والمعارج ، والأبواب ، والسرر من الفضة ، الزخرف ، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا : { وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي : وزين الدار الآخرة ، وبهاؤها عند ربك للمتقين ، أي : الذين اتقوا الله فخافوا عقابه ، فجدّوا في طاعته وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم . قال المهايمي : يعني لا خصوصية في ذلك المتاع ، بحيث يدل عدمه على عدم منصب النبوة ، وإنما الذي يدل عدمه على عدم النبوة ، التقوى . فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه ، سواء كانت عنده أم لا ، وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار ؛ لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق ، بحيث يصير صاحبها أعشى . انتهى .
تنبيه :
ما قدمناه من أن معنى : { وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } على تقدير : لولا كراهة ذلك . وإن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر ، أي : أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور - هو ما ذكره المفسرون . فورد عليه أنه حين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها ، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام ؟ فأجيب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضاً ، لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا . والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين فكانت الحكمة فيما دبر حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء ، وغلب الفقر على الغنى ، هذا ما قاله الزمخشري .
وعندي أن لا حاجة لتقدير الكراهة ، وأن معنى الآية غير ما ذكروه ، وذلك أن المعنى : لولا أن يكونوا خلقوا ليكونوا أمة واحدة ، للترافد ، والتعاون ، والتضام ، وما به قوام حياتهم كالجسم الواحد ، لجعلنا للناس ما ذكر من الزين والحلي لدخوله تحت القدرة الكاملة ، إلا أن ذلك مبطل للحكمة ومخرب لنظام الوجود ، وإنما عبّر عن الناس بمن يكفر بالرحمن ، رعاية للأكثر وهم الكفار ؛ فإنهم الذين طبقوا ظهر الأرض ، وملأوا وجهها ، وحطّاً لقدر الدنيا وتصغيراً لشأنها ، بأن تؤتى لمن هو الأدنى منزلة ، والأخس قدراً .
و خلاصة المعنى : أن خلقهم أمة واحدة مدنيين بالطبع ، مانع من بسط الدنيا عليهم جميعهم . وهذا هو معنى لولا المطرد ، أن ما بعدها أبداً مانع من جوابها ؛ ولذلك يقولون : حرف امتناع لوجود .
فليس المعنى على ما ذكروه أبدا كما يظهر واضحاً لمن أمعن النظر . وبالجملة ، فالآية هذه تتمة لما قبلها ، في جواب أولئك الظانين ، أن العظمة الدنيوية تستتبع النبوة . فبين تعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى ، وهي التسخير . وفي الثانية حقارة الدنيا عنده ، وأنه لولا التسخير لآتاها أحط الخلق وأبعدهم منه ، مبالغة في الإعلام بضعتها ، وهذا مصداق ما ورد من أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن ما عنده خير وأبقى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ 36 ] .
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } أي : يعرض عنه ، فلم يخف سطوته ، ولم يخش عقابه : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أي : نجعل له شيطاناً يغويه ، ويضله عن السبيل القويم دائماً ، لمقارنته له . قال القاشاني : قرىء : يعشَُ ، بضم الشين ، وفتحها ، والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العَشى لعارض أو متعمداً ، من غير آفة في بصره . وعَشِي إذا إيف بصره . فعلى الأول معناه : ومن كان له استعداد صافٍ وفطرةٍ سليمة لإدراك ذكر الرحمن ، أي : القرآن النازل من عنده وفهم معناه . وعلم كونه حقاً ، فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغي وحسد ، أولم يفهمه ولم يعلم حقيقته ، لاحتجابه بالغواشي الطبيعية ، واشتغاله باللذات ، الحسية عنه ، أو لاغترازه بدينه وما هو عليه من اعتقاده ، ومذهبه الباطل .
{ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } جنياً فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات ، وحرص عليه من الزخارف ، أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه ، أو إنسياً يغويه ، ويشاركه في أمره ، ويجانسه في طريقه ، ويبعده عن الحق . وعلى الثاني معناه . ومن إيف استعداده في الأصل ، وشقي في الأزل بمعنى القلب عن إدراك حقائق الذكر ، وقصّر عن فهم معناه : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } من نفسه أو جنسه ، يقارنه في ضلالته وغوايته . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ 37 ] .
{ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } قال ابن جرير : أي : وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله ، عن سبيل الحق ، فيزينون لهم الضلالة ، ويكرهون لهم الإيمان بالله ، والعمل بطاعته { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي : يظن هؤلاء المشركون بالله ، بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه ، أنهم على الصواب والهدى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ 38 ] .
{ حَتَّى إِذَا جَاءنَا } أي : العاشي : { قَالَ } أي : لشيطانه : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ } أي بعد المشرق من المغرب . فغلب المشرق على المغرب ، ثم ثنى . وقيل المراد مشرقا [ في المطبوع : مشرقاً ] الصيف والشتاء . والتقدير من المغربين ، فاختصر { فَبِئْسَ الْقَرِينُ } قال القاشاني : أي : حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله ، والعذاب المستحق لمذهبه ودينه ، تمنى غاية البعد بينه ، وبين شيطانه الذي أضله عن الحق ، وزين له ما وقع بسببه في العذاب ، واستوحش من قرينه واستذامه ، لعدم الوصلة الطبيعية ، أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [ 39 ] .
{ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } قال القاشاني : أي : لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب ، إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا ، وتبين عاقبته ، وكشف عن حاله ؛ لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه ، أو ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته وإيلامه ؛ أي : كما ينفع الواقعين في أمر صعب ، معاونتهم في تحمل أعبائه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 40 ] .
{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم . وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده تعالى . وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال ؛ لأنه لا أجمع من ذلك لشرح حالهم ، ولا أبلغ منه ؛ إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه ، كالأصم ، وإبصار آيات الله والاعتبار بها ، كالأعمى . وقصدَ السبيل الأمم ، كالضال الحائر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } [ 41 ] .
{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } أي : نقبضك قبل أن نظهرك عليهم : { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أي : بالعذاب الأخروي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ } [ 42 ] .
{ أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ } وهذا كقوله تعالى : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] ، وفي تعبيره بالوعد ، وهو لا يخلف الميعاد ، إشارة إلى أنه هو الواقع . وهكذا كان ؛ إذ لم يفلت أحد من صناديدهم ، إلا من تحصّن بالإيمان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 43 ] .
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يعني دين الله الذي أمر به وهو الإسلام ؛ فإنه كامل الاستقامة من كل وجه . قال الشهاب : هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وأمر لأمته أو له ، بالدوام على التمسك . والفاء في جواب شرط مقدّر . أي : إذا كان أحد هذين واقعاً لا محالة ، فاستمسك به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [ 44 ] .
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي : وإن الذي أوحي إليك لشرف لك ولقزمك من قريش ؛ لما خصهم به من نزوله بلسانهم . أو المراد بقومه ، أتباعه ؛ أي : تنويه بقدرك وبقدر أمتك ، لما أعطاه لهم بسببه من العلوم ، والمزايا ، والخصائص ، والشرائع الملائمة لسائر الأحوال ، والأزمان ، وجوز أن يراد بالذكر الموعظة : { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } أي : عما عملتم فيه ، من ائتماركم بأوامره ، وانتهائكم عن نواهيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ 45 ] .
{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } أي : هل حكمنا بعبادة الأوثان ؟ وهل جاءت في ملة من مللهم ؟ قال القاضي : والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد ، والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه ، فيكذب ويعادى له . انتهى .
والذين أمر بمسألتهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، هم مؤمنو أهل الكتابين : التوراة ، والإنجيل . فالكلام بتقدير مضاف ؛ أي : أممهم المؤمنين ، أو يجعل سؤالهم بمنزلة سؤال أنبيائهم ؛ لأنهم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 46 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا } أي : المصدقة له : { إِلَى فِرْعَوْنَ } لينهاه عن الاستعباد : { وَمَلَئِهِ } أي : لينهاهم عن التعبّد له : { فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : فأبان أنه لا يستحق العبادة غيره تعالى ، وأن ليس لأحد سواه استعباد ، لأنها حق الربوبية المطلقة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } [ 47 ] .
{ فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } فلما أتاهم بالحجج على التوحيد والبراءة من الشرك ؛ إذا فرعون وقومه يضحكون ؛ أي : كما أن قومك ، مما جئتهم به من الآيات والعبر ، يسخرون . وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، عما كان يلقى من مشركي قومه ، وإعلام منه له أن قومه من أهل الشرك ، لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله ، وندب منه نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الاستنان بهم بالصبر عليهم ، بسنن أولي العزم من الرسل . وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك . كسنته في المتمردين عليهم قبله ، وإظفاره بهم ، وإعلائه أمره . كالذي فعل بموسى عليه السلام ، وقومه الذين آمنوا به . من إظهارهم على فرعون وملئه . أفاده ابن جرير .
ثم أشار إلى أن موجب الهزء لم يكن إلا لعناد ، لا لقصورها ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [ 48 - 50 ] .
{ وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أي : السابقة عليها : { وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ } أي : الدنيوي كالسنين ، مما يلجئ إلى الرجوع ، ولا أقل من رجائه : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : من أنه لا يعذّب من آمن بك ليكشف عنا العذاب : { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } أي : بما تزعم أنه الهداية : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي : العهد الذي عاهدوا عليه ، ويتمادون في غيهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ 51 - 53 ] .
{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } يعني أنهار النيل : { أَفَلَا تُبْصِرُونَ } أي : ما أنا فيه من النعيم والخير ، وما فيه موسى من الفقر : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } أي : ضعيف لا شيء له من الملك ، والأموال : { وَلَا يَكَادُ يُبِينُ } أي : الكلام ، لمخالفة اللغة العبرانية اللغة القبطية : { فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } أي : يعينونه ويصدقونه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ 54 ، 55 ] .
{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ } أي : فاستفزهم بهذه المغالطات ، وحملهم على أن يخفّوا له ويصدقوه : { فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا } أي : أغضبونا بطاعة عدونا وقبول مغالطاته بلا دليل ، وتكذيب موسى وآياته ، وندائه بالساحر ، ونكث العهود : { انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال ، الأجيال الطوال ، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ * وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ 56 ، 58 ] .
{ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } أي : حجة للهالكين بعدهم : { وَمَثَلاً } أي : عبرة : { لِلْآخِرِينَ } أي : الناجين : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } أي : في كونه كآدم ، كما أشارت له آية : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، والمعنى : لما بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة ، عبادته كفر ، ودعاؤه شرك ، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ } أي : من مثله المضروب ووصفه المبين : { يَصِدُّونَ } أي : يعرضون ، ولا يعون : { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم ، زعماً منهم أنهم بنات الله تعالى ، كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة . أي : أنهم خير من عيسى وأفضل ، لأنهم من الملأ الأعلى والنوع الأسمى ، فإذا جازت عبادة المفضول وهو عيسى ، فبالأولى عبادة الأفضل وهم الملائكة . كأنهم يقرون على شركهم أصولاً صحيحة ، ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة ، وغفلوا ، لجهلهم ، عن بطلان المقيس والمقيس عليه ، وأن البرهان الصادع قام على بطلان عبادة غيره تعالى ، وعلى استحالة التوالد في ذاته العلية .
وإذا اتضح الهدى فما وراءه إلا الضلال ، والمشاغبة بالجدال . كما قال تعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً } أي : ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة ، لا عن اعتقاد ، لظهور بطلانه : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } أي : شديد والخصومة بالباطل تمويهاً وتلبيساً . وفي الحديث < ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل > وما ذكرناه في تفسير هذه الآية ، هو الجلي الواضح ، لدلالة السياق والسباق فقابل بينه وبين ما حكاه الغير وأنصف .
ثم جلى شأن عيسى عليه السلام ، بما يرفع كل لبس ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ 59 ] .
{ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } أي : بالنبوة والرسالة : { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : آية لهم وحجة عليهم ، بما ظهر على يديه ، مما أيّد نبوته ، ورسالته ، وصدق دعواه .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [ 60 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [ 60 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم } أي : بدلكم : { مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أي : يكونون مكانكم . إيعاد لهم بأنهم في قبضة المشيئة في إهلاكهم ، وإبدال من هو خير منهم . كما في قوله تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، وقيل معنى : { لَجَعَلْنَا مِنكُم } لولدنا منكم ملائكة ، كما ولدنا عيسى من غير أب ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة . واللفظ الكريم يحتمله ، إلا أن الأظهر هو الأول ، لما جرت به عادة التنزيل ، من خواتم أمثال ما تقدم ، بنظائر هذا الوعيد ، والله أعلم .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 61 ، 62 ]
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } الضمير إما للقرآن كما ذهب إليه قوم ، أي : وإن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وهن أهوالها ، وفي جعله عين العلم ، مبالغة . والعلم بمعنى العلامة . وقيل الضمير لعيسى عليه السلام . أي : إن ظهوره من أشراط الساعة . ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا . وقال يعضهم : معناه أن عيسى سبب للعلم بها . فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث . فالآية مجاز مرسل علاقته المسببية ؛ إذ أطلق المسبب وهو العلم ، وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته . كقولك : أمطرت السماء نباتاً ؛ أي : مطراً يتسبب عنه النبات .
وقرئ : { وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ } بفتحتين . أي : أنه كالجبل الذي يهتدي به إلى معرفة الطريق ونحوه ؛ فبعيسى عليه السلام يهتدي إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها . انتهى . وهو جيد : { فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ } أي : اتبعوا هداي ، أو شرعي ، أو رسولي ، أو هو أمر للرسول أن يقوله : { هَذَا } أي : القرآن ، أو ما أدعوكم إليه : { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : عن الاتباع : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ 63 ، 64 ] .
{ وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي من أحكام التوراة وغيرها . كاختلاف اليهود في القيامة ، لعدم صراحتها في كتبهم . وقد جاء في نحوها آية : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عِمْرَان : 50 ] ، وقد وضع عن اليهود شيئاً من إصْر التوراة ، وأغلال الناموس ، كما فعل في يوم السبت ، خففت شدّة حكمه .
قال يعض المحققين : وإنما لم يقل : ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه ؛ لأنه لم يفعل ذلك . بل ترك بيان كثير من الأشياء ، كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للفارقليط - محمد صلى الله عليه وسلم - الذي يأتي بعده ، لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه . كما قال هو نفسه في : إنجيل يوحنا ، في الإصحاح السادس عشر ، وخصوصاً إذا تعرض للطعن في كتبهم ، وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم ، ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه ، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون ، فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن ، وهي التي بعث من أجلها .
وأما قول الله تعالى عن لسانه : { وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } [ آل عِمْرَان : 50 ] ، فالمراد بمثل هذا التعبير ، أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه ، وبه صحت وصدقت . وكلمة التوراة ، تطلق على كتاب العهد القديم ؛ فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل . ولولاه لما صدقت تلك النبوات ؛ فإنها لا تنطبق إلا عليه . وليس المراد أن عيسى يقرّ كل ما في التوراة ، كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية . وإلا لما قال بعدها مباشرة : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عِمْرَان : 50 ] ، فكيف يقرّها وهو قد جاء ناسخاً لبعض ما فيها ؟ فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون ، ويفسرون ما لا يفهمون . انتهى كلامه . وهو وجيه جداً .
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } قال ابن جرير : أي : إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له ، ربي وربكم جميعاً . فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئاً . فإنه لا يصح ولا ينبغي أن يعبد شيء سواه
{ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي : هذا الذي أمرتكم به ، من اتقاء الله وطاعتي ، وإفراد الله بالألوهية ، هو الطريق القويم . وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام ، فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله . ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ 65 ] .
{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ } أي : الفرق المتحزبة اختلافاً نشأ : { مِن بَيْنِهِمْ } أي : لا من قوله تعالى ، ولا من قول عيسى . بل ظلماً وعناداً : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي : مؤلم من شدة الأهوال ، وكثرة الفضائح ، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون َ *الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ 66 ، 67 ] .
{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي : قريش : { إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ } أي : المتخالون على المعاصي والفساد ، والصد عن الحق يوم القيامة : { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : معاد ، يتبرأ كل من صاحبه : { إِلَّا الْمُتَّقِينَ } أي : المتصادقين في طاعة الله ومحبته . قال القاشاني : الخلة إما أن تكون خيرية ، أوْ لا . والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ومحبته . وغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي .
والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل ، التي قال فيها < فما تعارف منها ائتلف > فهم إذا برزوا في هذه النشأة ، وتوجهوا إلى الحق ، وتجددوا عن مواد الرجس ، فلما تلاقوا تعارفوا ، وإذا تعارفوا تحابوا ، لتجانسهم الأصلي ، وتوافقهم في الوجهة والطريقة ، وتشابههم في السيرة والغريزة ، وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية ، التي هي سبب العداوة . وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه . والتذ بلقائه ، وتصفى بصفائه ، وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة . فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبداً كمحبة الأنبياء ، والأصفياء ، والأولياء ، والشهداء .
والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف ، والأخلاق ، والسير الفاضلة ، ونشأته الاعتقادات ، والأعمال الصالحة . كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم ، ومحبة العرفاء والأولياء إياهم . ومحبة الأنبياء أممهم .
والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية ، والأعراض الجزئية . كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة ، ومحبة الفجار ، والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات ، واستلاب الأموال .
والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش ، وتيسير المصالح الدنيوية ، كمحبة التجار والصناع ، ومحبة المحسَن إليه للمحسِن . فكل ما استند إلى غرض فانٍ ، وسبب زائل ، زال بزواله ، وانقلب عند فقدانه عداوة . لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه ، من اللذة المعهودة ، والنفع المألوف ، وامتناعه لزوال سببه ، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين ، أطلق الكلام ، وقال : { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } لانقطاع أسباب الوصلة بينهم ، وانتفاء الآلات البدنية عنهم ، وامتناع حصول اللذة الحسية ، والنفع الجسماني ، وانقلابهما حسرات وآلاماً وضرراً وخسراناً . قد زالت اللذات والشهوات ، وبقيت العقوبات والتبعات ، فكل يمقت صاحبه ويبغضه ؛ لأنه يرى ما به من العذاب ، منه وبسببه .
ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم ، كما لقال : { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } [ ص : 24 ] ، { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] ، ولعمري ، إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر . وهم الكاملون في التقوى ، البالغون إلى نهايتها ، الفائزون بجميع مراتبها . ويليهم القسم الثاني ، وكلا القسمين ، لاشتراكهما في طلب مرضاة الله ، وطلب ثوابه ، واجتناب سخطه ، وعقابه ، نسبهم سبحانه إلى نفسه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [ 68 ] .
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } أي : لأمنهم من العذاب : { وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أي : على فوات لذات الدنيا ؛ لكونهم على ألذّ منها وأبهج ، وأحسن حالاً وأجمل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } [ 69 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا } أي : صدقوا بكتاب الله ورسله ، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم : { وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } أي : أهل خضوع لله بقلوبهم ، وقبول منهم لما جاءتهم به رسولهم عن ربهم ، على دين إبراهيم عليه السلام ، حنفاء ، لا يهود ، ولا نصارى ، ولا أهل أوثان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ 70 ] .
{ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } أي : تسرون سروراً يظهر حباره ، أي : أثره على وجوهكم ، كقوله تعالى : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } [ المطففين : 24 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ÷وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 71 ، 72 ] .
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } الصحاف جمع صفحة ، وهي آنية الأكل . والأكواب جمع كوب ، وهو ما يشرب منه كالكوز ، إلا أن الكوب ما لا عروة له . قال الشهاب : العروة ما يمسك منه ويسمى أذاناً . ولذا قال من ألغز فيه :
~وَذِيْ أُذُنٍ بِلَاْ سَمْعٍ لَهُ قَلْبٌ بِلَاْ قَلْبِ
~إِذَا اسْتَوْلَىْ عَلَىْ صَبٍّ فَقُلْ مَاْ شِئْتَ فِي الصَّبِّ
ومن اللطائف هنا ما قيل : إنه لما كانت أواني المأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة ، جمع الأول جمع كثرة ، والثاني جمع قلة { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } أي : بمشاهدته : { وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : من الخيرات ، والأعمال الصالحات . وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة ، من الجنة ونعيمها الباقي لهم ، بما يخلفه المرء لورّاثه من الأملاك ، والأرزاق . ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث ، على صيغة اسم الفاعل ، فهو استعارة تبعية ، أو تمثيلية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ 73 ] .
{ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : ما اشتهيتم ، ومن إما ابتدائية أو تبعيضية ، ورجح بدلالته على كثرة النعم ، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة ، وأنها مزينة بالثمار أبداً ، موقرة بها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ 74 ، 75 ] .
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ } أي : الذين اجترموا الكفر ، والمعاصي في الدنيا : { فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أي : لا يخفف ولا ينقص : { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : مستسلمون يائسون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [ 76 ] .
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي : بهذا العذاب : { وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } أي : بكفرهم الله ، وجحودهم توحيده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ 77 ، 78 ] .
{ وَنَادَوْا } أي : بعد إدخالهم جهنم : { يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي : ليمتنا . أي : سله أن يفعل بنا ذلك . تمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس ، لشدة التألم بالعذاب الجسماني { قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } أي : لابثون : { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي : لا تقبلونه وتنفرون منه ، وعبّر بالأكثر ؛ لأن من الأتباع من يكفر تقليداً .
لطيفة :
قال القاشاني : سمي خازن النار مالكاً لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها . لقوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 37 - 39 ] كما سمي خازن الجنة رضواناً لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ، ورضوا عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } [ 79 ] .
{ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي : أم أبرم مشركو مكة أمراً فأحكموه ، يكيدون به الحق الذي جاءهم ، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم ، من النكال . كقوله تعالى : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ } [ الطور : 42 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ 80 ] .
{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } أي : ما أخفوه من تناجيهم بما يمكرون ، فلا نجازيهم عليه لخفائه علينا : { بَلَى } أي : نسمعهما ونطلّع عليهما : { وَرُسُلُنَا } يعني الحفظة : { لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي : ما تكلّموا به ولفظوا من قول ، ثم أشار إلى ردّ إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى ، ختماً للسورة مما بدئت به ، المسمى عند البديعيين : رد العجز على الصدر . فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [ 81 ] .
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي : لذلك الولد . والأولية بالنسبة إلى المخاطبين ، لا لمن تقدّمهم . قال الشهاب : ولو أبقى على إطلاقه ، على أن المراد إظهار الرغبة والمسارعة ، جاز . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ 82 ] .
{ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } على نفي التالي . وهو عبادة الولد ؛ أي : أوحّده وأنزّهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلاً لشيء ، لكونه ربّاً خالقاً للأجسام كلها ، فلا يكون من جنسها ، فيفيد انتقاء الولد على الطريق البرهاني . وأما دلالته على الثاني ، فإذا جعل قوله : { سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ } الخ من كلام الله تعالى ، لا من كلام الرسول ؛ أي : نزّه رب السماوات عما يصفونه ، فيكون نفياً للمتقدم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال ، والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم ، أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق . كما قال في استبعاد الرؤية : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } [ 83 ] .
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا } أي : في باطلهم : { وَيَلْعَبُوا } أي : في دنياهم : { حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } قال ابن جرير : وذلك يوم يُصليهم الله بفريتهم عليه جهنم ، وهو يوم القيامة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [ 84 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } أي : المعبود فيهما بلا شريك : { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } أي : في تدبير خلقه ، وتسخيرهم لما يشاء بمصالحهم .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 85 ، 86 ] { وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } أي : الشفاعة لهم عند الله ، كما زعموا أن أندادهم شفعاء : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : من آمن بالله ، وأقر بتوحيده ، وهم يعلمون حقيقة توحيده ؛ أي : وحّدوه ، وأخلصوا له على علم منهم ويقين ، كقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] . قال ابن كثير : هذا استثناء منقطع ، أي : لكن من شهد بالحق على بصيرة ، وعلم ، فإنه تنفع شفاعته عنده ، بإذنه له .
تنبيه :
قال الشهاب : استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الشهادة لا تكون إلا عن علم ، وأنها تجوز وإن لم يشهد .
وفي " الإكليل " قال إلكيا : يدل قوله تعالى : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } على معنيين : أحدهما - أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم ، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة . والثاني - أن شرط الشهادات في الحقوق وغيرها ، أن يكون الشاهد عالماً بها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [ 85 - 86 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 87 ] .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } أي : خلقنا لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره : { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ } [ 88 ] .
{ وَقِيلِهِ } أي : قيل محمد صلوات الله عليه ، شاكياً إلى ربه تبارك وتعالى ، قومه الذين كذبوه وما يتلقى منهم : { يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء } أي : الذين أمرتني بإنذارهم ، وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك : { قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ } أي : بالتوحيد ، والرسالة ، واليوم الآخر . كقوله تعالى : { وقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 89 ] .
{ فَاصْفَحْ } أي : أعرض : { عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ } أي : لكم ، أو عليكم ، أو أمري سلام ؛ أي : متاركة فهو سلام متاركة لا تحية .
وقال الرازي : احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر . ثم قال : إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قوله : سلام . وأن يقال للمؤمن : سلام عليكم . والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكفار .
وفيه نظر ؛ لأنه جمود على الظاهر البحت هنا ، والغفلة عن نظائره . من نحو قول إبراهيم عليه السلام لأبيه : { سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } [ مريم : 47 ] ، وآية : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] ، على أن الأكثر على أن الخبر هنا محذوف ، أي : عليكم والمقدر كالمذكور ، والمحذوف لعلة كالثابت ، فالصواب أن السلام للمتاركة . والله أعلم : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : حقية ما أرست به, بسموّ الحق ، وزهوق الباطل
تنبيه :
قرىء : { وقيلَه } بالنصب عطفاً على ، سرّهم ونجواهم . وضعّف بوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، بما لا يحسن اعتراضاً ، أو على محل الساعة ؛ لأنه في محل نصب ؛ لأنه مصدر مضاف لمفعوله ، أو بإضمار فعله ؛ أي : وقال قيله .
وقرىء بالجر عطفاً على الساعة ، أو الواو للقسم ، والجواب محذوف ؛ أي : لأفعلن بهم ما أريد ، أو مذكور وهو قوله : { إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ } .
وقرىء بالرفع عطفاً على علم الساعة ، بتقدير مضاف ؛ أي : وعندهم علم قيله ، أو مرفوع بالابتداء ، وجملة يا رب الخ هو الخبر . أو الخبر محذوف ؛ أي : وقيله كيت وكيت ، مسموع أو متقبل . وفي " الحواشي " مجازيات جدلية ، فازدد بمراجعتها علماً .
بسم الله الرحمن الرحيم....

(/)


سورة الدخان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } [ 1 - 3 ]
يعني ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم . و كانت في رمضان . كما قال سبحانه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) قال ابن كثير : و من قال إنها ليلة النصف من شعبان ، فقد أبعد النجعة . فإن نص القرآن أنها في رمضان. و ما روي من الآ ثار في فضلها ، فمثله لا تعارض به النصوص . هذا على فرض صحتها . وإلا فهي ما بين مرسل و ضعيف. و البركة اليمن . ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة و أيمنها على العالمين ، بتنزيل ما فيه الحكمة و الهدى ، و النجاة من الضلال و الردى. قال القاشاني : ووصفها بالمباركة ،لظهور الرحمة و البركة ،و الهداية و العدالة في العالم بسببها . و ازدياد رتبته صلى الله عليه و سلّم و كماله بها . كما سماها ( ليلة القدر ) لأن قدره و كماله إنما ظهر بها .{ إنّا كنّا منذرين } أي من خالف مقتضى الحكمة و قوة الدلائل ، و اختار المذام و تذلل للهوى و لم يكتف بهداية الله ، و لم يقت روحه بقوت معارفه ، وذلك لتقوم حجة الله على عباده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ 4 ] .
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي : يفضل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة ، على وجه متين محمود عند الكمل تقتات به أرواحهم ، وترحم به نفوسهم . وقوله تعالى :
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 5 ، 6 ] .
{ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا } نصب على الاختصاص ؛ أي : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا على مقتضى حكمنا . وهو بيان لفخامته الإضافية ، بعد بيان فخامته الذاتية : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي : مرسلين إلى الناس رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب ، والحكمة ، رحمة منه تعالى بهم ، لمسيس الحاجة إليه كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، وجوز كون رحمة علة للإنزال . أي : رحمة تامة كاملة على العالمين بإنزاله ، لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية ، وصلاح معاشهم ومعادهم ، وظهور الخير ، والكمال ، والبركة ، والرشاد فيهم بسببه .
والوجه هو الأول ، وهو كونه غاية للإرسال ؛ لإفصاح تلك الآية عنه : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } أي : لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها : { الْعَلِيمُ } أي : بمقادير قابلياتها ، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال ، قاله المهايمي . وقال القاشاني : أي : السميع لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم ، العليم : أي : بعقائدهم الباطلة ، وآرائهم الفاسدة ، وأمورهم المختلفة ، ومعايشهم غير المنتظمة . فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين ، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا ، المرشد إلى الصواب فيهما ، بتوضيح الصراط المستقيم ، وتحقيق التوحيد بالبرهان ، وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } [ 7 - 9 ] .
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } قال أبو مسلم : أي : إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه ، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا ، كقولهم : فلان منجد متْهم ؛ أي : يريد نجداً وتهامة . وقيل : معناه إن كنتم موقنين بما تقرون به ، من أنه رب الجميع ، وخالقه : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } أي : بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته ؛ لأن الإيقان يستتبع قبول البرهان ، وإنما هو قول ممزوج بلعب ، لغشيان أدخنة أهوية نفوسهم ، بصائر قلوبهم وأرواحهم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } [ 10 - 12 ] .
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل ، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه . وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه :
الأول - قال بعضهم : كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسنين يوسف ، فأخذوا بالمجاعة . قالوا : وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع ، من الظلمة كهيئة الدخان ، روى ابن جرير عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً وهو مضطجع بيننا . فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن : إن قاصاً عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام ، فقال :
يا أيها الناس ! اتقوا الله . فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم , ومن لا يعلم فليقل : الله أعلم ؛ فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم . وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم ؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال : < اللهم سبعاً كسبع يوسف > . فأخذتهم سنة حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود ، والميتة ، والجيف . ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً ، من الجوع .
فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال : يا محمد ! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم . . . . قال عز وجل : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ، إلى قوله : { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } [ الدخان : 15 ] ، قال : فكشف عنهم : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } [ الدخان : 16 ] ، فالبطشة يوم بدر . وقد مضت آية الروم ، وآية الدخان ، والبطشة واللزام .
قال ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " ، ورواه الإمام أحمد في " مسنده " وهو عند الترمذي والنسائي في " تفسيرهما " ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة ، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعةٌ من السلف كمجاهد ، وأبي العالية ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والضحاك ، وعطية العوفي ، وهو اختيار ابن جرير . قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة . لقول ابن مسعود : ثم عادوا . ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر . وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضراً ذلك . فلذلك قال :
~وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَاْمُ بِوَجْهِهِ
لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة ، فإن لم يحمل على التعدد ، وإلا فهو مشكل جداً . والله المستعان . انتهى .
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين :
أحدهما - أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ، ويرتفع الغبار الكثير ، ويظلم الهواء . وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة : الغبراء .
ثانيهما - أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان ، فيقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان . والسبب فيه أن الْإِنْسَاْن إذا اشتد خوفه أو ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان . انتهى .
و قال الشهاب : الظاهر أن هذه التسمية استعارة ؛ لأن الدخان مما يتأذى به ، فأطلق على كل مؤذٍ يشبهه ، أو على ما يلزمه ، ولذا قيل :
~تُرِيْدُ مُهَذَّباً لَاْ عَيْبَ فِيْهِ وَهَلْ عَوْدٌ يَفُوْحُ بِلَاْ دُخَاْنِ
الوجه الثاني في الآية - أنه دخان يظهر في العالم ، وهو إحدى علامات القيامة ، ولم يأت بعد ، وهو آت وهو قول حذيفة . ويروى عن عليّ وابن عباس وجمع من التابعين . قال الرازي : واحتج القائلون بهذا القول بوجوه :
الأول - أن قوله : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ } يقتضي وجود دخان تأتي به السماء . وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع ، فذاك ليس بدخان أتت به السماء . فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه ، عدولاً عن الظاهر ، لا لدليل منفصل ، وإنه لا يجوز .
الثاني - أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً ، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم ، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً .
والثالث - أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس . وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم ، والحالة التي ذكرتموها لا تغشي الناس إلا على سبيل المجاز . وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل .
الرابع - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدّه الدخان من الآيات المنتظرة . أما القائلون بالقول الأول ، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز ، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع ، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل ، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً . فإن قالوا : الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } وهذا ، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة ، استقام . فإنه نقل أن التقحط لما اشتد ، بمكة مشى إليه أبو سفيان , وناشده بالله وبالرحم ، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية ، أن يؤمنوا به . فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم .
أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة ، لم يصح ذلك ؛ لأن عند ظهور علامات القيامة . لا يمكنهم أن يقولوا : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } ولم يصح أيضاً أن يقال لهم : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } والجواب : لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة ، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف ، فتحدث هذه الحالة . ثم إن الناس يخافون جداً فيتضرعون . فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق ، وإذا كان هذا محتملاً ، فقد سقط ما قالوه ، والله أعلم . انتهى كلام الرازي .
وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني ، ذهاباً إلى ما صح عن ابن عباس ، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين ، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح , والحسان وغيرهما ، التي أوردوها ، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة ، على أن الدخان من الآيات المنتظرة . مع أنه ظاهر القرآن ، قال الله تبارك وتعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } أي : بين واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه ، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد . وهكذا قوله تعالى : { يَغْشَى النَّاسَ } أي : يتغشاهم ويعمهم . ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه : { يَغْشَى النَّاسَ } وقوله تعالى : { هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً . كقوله عز وجل : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 13 - 14 ] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك .
وقوله سبحانه وتعالى : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي : يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه ، سائلين رفعه , وكشفه عنهم ، كقوله جلت عظمته : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 27 ] ، وكذا قوله جل وعلا : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] . وهكذا قال جل جلاله .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } [ 13 ، 14 ] .
{ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي : كيف لهم بالتذكر ، وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة . ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه . بل كذبوه وقالوا معلّم مجنون . وهذا كقوله جلت عظمته : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَاْن وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 23 ] الآية . وكقوله عز وجل : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } [ سبأ : 51 ] . إلى آخر السورة . وقوله تعالى :
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } [ 15 ] .
{ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } يحتمل معنيين :
أحدهما - أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ، ورجعناكم إلى الدار الدنيا ، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب . كقوله تعالى : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ المؤمنون : 75 ] ، وكقوله جلت عظمته : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] .
والثاني - أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ، ووصوله إليكم ، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم . كقوله تعالى : { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] . ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم . بل كانوا قد انعقد سببه عليهم ، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى ، إخباراً عن شعيب عليه السلام ، أنه قال لقومه حين قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا } [ الأعراف : 88 - 89 ] . وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم . وقال قتادة : { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } إلى عذاب الله . وقوله عز وجل :
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } [ 16 ] .
{ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } فسرّ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر . وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما ، من رواية العوفي عنه . وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه ، وجماعة عنه ، وهو محتمل . والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً .
قال ابن جرير : حدثني يعقوب . حدثنا ابن علية . حدثنا خالد الحذاء عن عِكْرِمَة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال ابن مسعود رضي الله عنه : البطشة الكبرى يوم بدر . وأنا أقول هي يوم القيامة . وهذا إسناد صحيح عنه . وبه يقول الحسن البصري ، وعكرمة في أصح الروايتين عنه . والله أعلم . انتهى كلام ابن كثير .
فصل :
وممن رجح الوجه الأول ، وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازاً ، بذكر المسّبب وإرادة السبب . أو بالاستعارة ، العلامة أبو السعود حيث قال : والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعاً . فإن قوله تعالى : { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى } الخ ، ردّ لكلامهم ، واستدعائهم الكشف ، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان ، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية ، أي : كيف يتذكرون ؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم ؟ : { وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ } أي : والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر ، وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها . حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، وبيّن لهم مناهج الحق ، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ، تخرّ لها صم الجبال .
{ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ } عن ذلك الرسول وهو هو ، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ، ولم يقتنعوا بالتولي : { وَقَالُوا } في حقه : { مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ } أي : قالوا تارة : يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف . وأخرى مجنون ، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا . فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير ؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف ، وإذا شبع طغى .
وقوله تعالى : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } جواب من جهته تعالى عن قولهم : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } بطريق الالتفات ، لمزيد التوبيخ والتهديد ، وما بينهما اعتراض . أي : [ في المطبوع : ألى ] : إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً . إنكم تعودون إثر ذلك إلى [ في المطبوع : إى ] ما كنتم عليه من العتو ، والإصرار على الكفر ، وتنسون هذه الحالة ، وفائدة التقييد بقوله : { قَلِيلاً } الدلالة على زيادة خبثهم ؛ لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف ، كانوا بعده أسرع إلى العود . وصيغة الفاعل في الفعلين ، للدلالة على تحققهما لا محالة ، ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى ، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتوّ والعناد . انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة .
فصل :
وأما الوجه الثالث في الآية ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي . حدثنا جعفر بن مسافر . حدثنا يحيى بن حسان . حدثنا ابن مهيعة . حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } قال : كان يوم فتح مكة . قال ابن كثير : وهذا القول غيب جداً . بل منكر . انتهى .
أي لأنه لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ، ترجمان القرآن ، أو غيره من الصحب ، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له ، وصدقها عليه ، لاسيما ، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة : { فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } مما هو وعد بظهوره عليهم ، وكان ذلك يوم الفتح . وحينئذ ، فمعنى قوله تعالى : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ } أي : ما ينزل بهم يومئذ ، برفع القتل والأسر عنهم . ومعنى : { عَائِدُونَ } أي : إلى لقاء الله ومجازاته .
فصل :
يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة ، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب ، عليهم الرضوان ، اهتماماً في معناها ، وعناية في البحث عن المراد منها . حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه ، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر . على ما أسند عنهم من طرق ، ولعمر الحق ! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية . وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار . وسبب الاختلاف هو إيجاز [ في المطبوع : إيجار ] الأسلوب الكريم ، وإيثاره من الألفاظ أرقها ، وأوجزها . مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازاً أخرى . هذا أولاً .
وثانياً ، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات ، كان ذلك مما يقرب بينهما ، ويدعوا إلى اتحاد المراد منهما . لما تقرر من شرح السنة للكتاب ، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة . فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية ، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده . وأما من فتح للتدبر باباً ، ومهد للنظر مجالاً ، وأرى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها ، وأنها أعم وأشمل ، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه . فذاك وسّع للسالك المسالك ، وفتح للمريد المدارك ، ورقاه من حظيره النقل إلى فضاء العقل . ولكلٍّ وجهة .
إذا علمت ذلك ، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش ، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازاً في بعض مفرداتها ، وحقيقة في بقيتها وفي وقوع مصداقها ، في رأيه . ومن فسرها بالدخان المنتظر ، المروي من أشراط الساعة ، وقف مع المروي ورأى أنه تفسيرها ؛ لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود ؛ لأنه الأقرب خطوراً والأسبق حضوراً ، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح ، رأى أنها من بليغ المجاوز وبديع الكناية في ذلك ، وأن الوعد بالارتقاب . كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية ، مراداً به الفتح . كآية : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ } [ السجدة : 28 - 30 ] .
فهذا وأمثاله يبين مآخذ الأئمة ، ومداركهم في التأويل . وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر . ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازي المتقدم ، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به ، أن لا منتدح ، بعد ، عنه . مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز . بل وقوّته هنا ؛ لأن المقام مقام إنذار ، وإيعاد ، والذوق أكبر حاكم وإليه مرد البلاغة . ولا يلزم المتأول نكرانه للدخان المنتظر كما قد يتوهم . بل يتعرف بأنه آية آتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية ، وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظي اتحاد المتلو والمروي .
وبالجملة ، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة . وسببه تحقق مصداق الجميع . وأما تعيين واحد منها للمراد ، فصعب جداً فيما أراه ، لاسيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها . هذا ما نقوله الآن . والله العلم . وقوله تعالى :
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } [ 17 ] .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي : ابتلينا ، قبل هؤلاء المشركين ، قوم فرعون ، بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا . فاختاروا الكفر على الإيمان : { وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } أي : على الله والمؤمنين ، أو في نفسه . فعلى الأول كريم بمعنى مكرم أي : معظَّم . وعلى الثاني ، من الكرم بمعنى الاتصاف بالخصال الحميدة ، حسباً ونسباً .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } [ 18 ] .
{ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ } أي : أرسلوا معي بني إسرائيل ، لأسير بهم إلى بلادنا الأولى ، وأطلقوهم من أسركم وحبسكم ؛ فإنهم قوم أحرار ، أبوا - للضيم - هذه الديار : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي : على وحيه ورسالته ، التي حمّلنيها إليكم ؛ لأنذركم بأسه إن عصيتم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ 19 ] .
{ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ } أي : بإنكار ربوبيته ، ودعوى الربوبية لأنفسكم ، وتكذيب رسوله ، وغضب عباده : { إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : حجة واضحة على ربوبية الله ، ونفي ربوبيتكم ، وعلى رسالتي ، وعلى أن بني إسرائيل عباده الخاصة .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } [ 20 ] .
{ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } أي : اعتصمت به من رجمكم ؛ يعني القتل ، فعصمني ، فلا ينالني منك مكروه ، مع أنه لا يعصم من افترى عليه ، وقصد بهذه الجملة ، إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطراب فيه الأفئدة ، وتزلّ الأقدام ، خوفاً ورعباً ، وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله وتأييده .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [ 21 ] .
{ وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي : فكونوا بمعزل عني . فلست بموالٍ منكم أحداً .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } [ 22 ] .
{ فَدَعَا رَبَّهُ } أي : لما تابوا عن إجابته : { أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } أي : مشركون مفسدون .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } [ 23 ] .
{ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً } أي : فأجاب دعاءه ، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلاً : { إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } أي : إن فرعون ، وقومه من القبط متبعوكم ، إذا شخصتم عن بلدهم ، وأرضهم ليرجعوكم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ 24 ، 25 ] .
{ وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً } أي : فإذا قطعت البحر أنت وأصحابك ، فاتركه ساكناً على حاله التي كان عليها حين دخلته ، ولا تضربه بعصاك ليدخله القبط فيغرقوا : { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا } أي : بعد هلاكهم بالغرق : { مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي : بساتين وعيون يسقى منها ، ويتنعم بالنظر فيها ، هذا في التفكة والتنزه .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ 26 ] .
{ وَزُرُوعٍ } أي : قائمة مزارعهم للقوت : { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } أي : محافل مزينة ، ومنازل مزخرفة .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } [ 27 ] .
{ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } أي : متنعمين من نساء ، وأموال ، وحشم ، وما لا يحصى من المشتهيات .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ 28 ] .
{ كَذَلِكَ } أي : أخرجناهم مثل هذا الإخراج . فالكاف ، أو الجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك . أو هو خبر محذوف ؛ أي : الأمر كذلك . والمراد به التأكيد والتقرير
{ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } يعني من خلفهم بعد مهلكهم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } [ 29 ] .
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ } قال الزمخشري : إذا مات رجل خطير ، قالت العرب في تعظيم مهلكه : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . قال جرير :
~تَبْكِيْ عَلَيْكَ نُجُوْمُ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
وقالت الخارجية :
~أَيَاْ شَجَرَ الْخَاْبُوْرِ مَاْ لَكَ مُوْرِقاً كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَىْ ابْنِ طَرِيْفِ
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل . مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه ، من بكاء مصلى المؤمن ، وآثاره في الأرض ، ومصاعد عمله ، ومهابط رزقه في السماء : تمثيل . ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ } فيه تهكم بهم وبحالهم ، المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض ، وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين . يعني : فما بكى عليهم أهل السماء ، وأهل الأرض : { وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } أي : مؤخّرين بالعقوبة . بل عجلوا بها ، زيادة سخط عليهم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [ 30 ] .
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ } يعني استعباد فرعون ، وقتله أبناءهم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ } [ 31 ] .
{ مِن فِرْعَوْنَ } بدل من العذاب ، على حذف مضاف ، أو جعله عذاباً مبالغةً لإفراطه في التعذيب ، أو حال من المهين ، بمعنى واقعاً من جهته : { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } أي : متكبراً على الناس : { مِّنَ الْمُسْرِفِينَ } أي : المتجاوزين الحدّ ، في العتو والشر .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 32 ] .
{ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : فضلناهم لأجل علمٍ معهم ، على عالمي زمانهم . أو عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ } [ 33 ] .
{ وَآتَيْنَاهُم } أي : زيادة على اختبارهم ، وتفضيلهم : { مِّنَ الْآيَاتِ } أي : المعجزات والكرامات : { مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ } أي : نعمة ظاهرة ؛ لأنهم حجة واضحة على أعدائهم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } [ 34 ، 35 ] .
{ إِنَّ هَؤُلَاء } أي : مشركي قريش : { لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى } أي : المتعقبة للحياة ، كأنهم أرادوا إلا موتتنا هذه . وليس القصد إلى إثبات ثانية . قال الإسنوي في " التمهيد " : الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان ، وقد لا يكون . كما تقول : هذا أول ما اكتسبته . فقد تكتسب بعده شيئاً ، وقد لا تكتسب . كذا ذكره جماعة ، منهم الواحدي في تفسيره ، والزجاج . ومن فروع المسألة ، ما لو قال : إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق ، تطلق إذا ولدته ، وإن لم تلد غيره ، بالاتفاق . قال أبو علي : اتفقوا على أن ليس من شرط كونه أولاً ، أن يكون بعده آخر . وإنما الشرط أن لا تقدم عليه غيره . انتهى .
وما ذكر أظهر مما للزمخشري هنا : { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي : مبعوثين .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 36 ] .
{ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في بعثنا بعد بلائنا في قبورنا . قال ابن كثير : وهذه حجة باطلة ، وشبهة فاسدة . فإن المعاد إنما هو يوم القيامة ، لا في دار الدنيا . بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها ، يعيد الله العالمين خلقاً جديداً ، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً ، ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يردّ ، كما حلّ بأشباههم من المشركين ، بقوله سبحانه :
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [ 37 ] .
{ أَهُمْ خَيْرٌ } أي : في القوة والمنعة : { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } أي : أهلكناهم بجرمهم ، وهو كفرهم وفسادهم . وهم ما هم . فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم ؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ . أهلكهم الله عز وجل وفرقهم في البلاد شذر مذر . كما تقدم في سورة سبأ . قال ابن كثير : وقد كانوا عرباً من قحطان . كما أن هؤلاء عرب من عدنان ، وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً . كما يقال : كسرى ، لمن ملك الفرس . وقيصر ، لمن ملك الروم . وفرعون ، لمن ملك مصر كافراً . والنجاشي ، لمن ملك الحبشة ، وغير ذلك من أعلام الأجناس .
لكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن ، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند ، واشتد ملكه ، وعظم سلطانه وجيشه ، واتسعت مملكته ، وبلاده ، وكثرت رعاياه ، وهو الذي مصّر الحيرة ، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية ، وذلك في أيام الجاهلية ، فأراد قتال أهلها فمانعوه ، وقاتلوه بالنهار, وجعلوا يقْرُونَه بالليل . فاستحيا منه وكف عنهم ، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود ، كانا قد نصحاه , وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة . فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان . فرجع عنها ، وأخذهما معه إلى بلاد اليمن . فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة . فنهياه عن ذلك أيضاً . وأخبراه بعظمة هذا البيت ، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وأنه سيكون له شأن عظيماً على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان ، فعظمها وطاف بها , وكساها المُلاء والوصائل والحبر . ثم كرّ راجعاً إلى اليمن ، ودعا أهلها إلى التهود معه . وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام ، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام . فتهود معه عامة أهل اليمن .
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه " السيرة " . وترجمة الحافظ ابن عساكر في " تاريخه " ترجمة حافلة ، وذكر أنه ملك دمشق . وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه . قال ابن كثير : وكأنه ، والله أعلم . كان كافراً ثم أسلم ، وتابع دين الكليم على يدي من كان أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام ، وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه المُلاء ، والوصائل من الحرير والحبر ، ونحر عنده ستة آلاف بدنة ، وعظمه وأكرمه ، ثم عاد إلى اليمن ، وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة ، عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن عباس ، رضي الله عنهم ، وكعب الأحبار ، وإليه المرجع في ذلك كله ، وإلى عبد الله بن سلام أيضاً , وهو أثبت وأكبر وأعلم . وكذا روى قصته وهبه بن منبه ، ومحمد بن إسحاق في " السيرة " كما هو مشهور فيها . وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ، ترجمة تبع هذا ، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل ؛ فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه , ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام ، فعاقبهم الله تعالى ، كما ذكره في سورة سبأ .
وتبع هذا هو تبع الأوسط . واسمه أسعد أبو كرب . ولم يكن في حمير أطول مدة منه . وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة ، وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة ، أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد ، قال في ذلك شعراً ، واستودعه عند أهل المدينة . فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف ، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره ، وهو :
~شَهِدْتُ عَلَىْ أَحْمَدَ أَنَّهُ رَسُوْلٌ مِنَ اللَّهِ بَاْرِي النَّسَمْ
~فَلَوْ مُدَّ عُمْرِيْ إِلَىْ عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزِيْراً لَهُ وَابْنُ عَمْ
~وَجَاْهَدْتُ بِالسَّيْفِ أَعْدَاْءَهُ وَفَرَّجْتُ عَنْ صَدْرِهِ كُلَّ غَمْ
ثم ساق ابن كثير آثاراً في النهي عن سبه , وبالجملة فإن قصته المذكورة , والمروي في شأنه ، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح ، إلا إن ذلك مما يتحمل التوسع فيه ، لكونه نبأ محضاً مجرداً عن حكم شرعي . نعم ، لا يشك أن قريشاً كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ، ما فيه أكبر موعظة لها ، ولذا طوى نبأه ، إحالة على ما تعرفه من أمره ، وما تسمر به من شأنه . وما القصد إلا العظة والاعتبار ، لا قصّ ذلك خبراً من الأخبار ، وسمراً من الأسمار ، كما هو السر في أمثال نبئه . وبالله التوفيق .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ 38 ، 39 ] .
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : الاستدلال على خالقهما ، لعبادته وطاعته : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أي : حكمة خلقها ، فيعرضون عنه .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 40 - 42 ] .
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } أي : فصل الله بين الخلائق وقضاءه عليهم ، ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شر : { مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } أي : عليه إثابة ، أو تحمل عقاب : { وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ } أي : بأن وفّقه للإيمان ، والعمل الصالح : { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } أي : الغالب في انتقامه من أعدائه : { الرَّحِيمُ } أي : بأوليائه ، وأهل طاعته .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ } [ 43 ] .
{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ } أي : التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ طَعَامُ الْأَثِيمِ } [ 44 ] .
{ طَعَامُ الْأَثِيمِ } أي : الفاجر الكثير الآثام .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ 45 ، 46 ] .
{ كَالْمُهْلِ } وهو دردي الزيت ، أي : عكره في قعره : { يَغْلِي فِي الْبُطُونِ } أي : يضطرب فيها من شدة الحرارة فيقلق القلوب ويحرقها . وقوله : { كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } أي : الماء الحار الذي انتهى غليانه . وقوله : { فِي الْبُطُونِ } كقوله : { نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 6 - 7 ] ، وهذه الآية كآية الصافات : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } [ الصافات : 62 - 67 ] ,
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ } [ 47 ] .
{ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } أي : ادفعوه بعنف : { إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ } أي : وسطها ، ومعظمها .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } [ 48 ] .
{ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } أي : لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ 49 ] .
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } أي : يقال له ذلك ، على سبيل الهزؤ والتهكم ، فيتم له ، مع العذاب الأول - وهو الحسى - العذابُ العقلي .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ } [ 50 ] .
{ إِنَّ هَذَا } أي : العذاب أو الأمر : { مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ } أي : تشكّون ، مع ظهور دلائله ، أو تتمارون وتتلاحقون .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } [ 51 ] .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } أي : يأمن صاحبه من الخوف والفزغ .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ 52 ، 53 ] .
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } أي : ما رقّ من الحرير وكثف : { مُّتَقَابِلِينَ } أي : في مجالسهم ، أو أماكنهم ؛ لحسن ترتيب الغرف ، وتصفيف منازلهم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } [ 54 ] .
{ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي : قرنّاهم بما فيه قرة أعينهم ، واستئناس قلوبهم ، لوصولهم بمحبوبهم ، وحصولهم على كمال مرادهم .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ 55 ] .
{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } أي : يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ، آمنين من كل ضرر .
....

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } [ 56 - 59 ] .
{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } قال ابن جرير : أي : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة ، الموت بعد الموتة الأولى ، التي ذاقوها في الدنيا .
وكان بعض أهل العربية يوجه : { إِلَّا } هنا بمعنى سوى ؛ أي : سوى الموتة الأولى . انتهى .
يعني أن الاستثناء منقطع ، أي : لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } أي : سهلناه حيث أنزلناه بلغتك ، وهو فذلكة للسورة : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : يتعظون بعبره وعظاته وحججه ، فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق : { فَارْتَقِبْ } أي : ما يحل بهم من زهوق باطلهم : { إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } أي : منتظرون عند أنفسهم غلبتك ، أو هو قولهم : { نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُوْنِ } وهذا وعد له صلى الله عليه وسلم بالنصرة والفتح عليهم , وتسلية ووعيد لهم . وقد أنجز الله وعده ، كما قال سبحانه : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .
....

(/)


سورة الجاثية
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ 1 ، 2 ] .
{ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } قال المهايمي : فعزته تقتضي إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم ، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها . وأنواع السعادات ، وحدة النظر ، والحكمة تقتضي محو الشبه وإزالة النقائص وإحراق الشقاوة وتمهيد الفكر . وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته ، لتكميل القوة النظرية والعملية ، ليتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية ، من الإيمان ، والإيقان ، والعقل ، وذلك بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ، ورفع الشبه ؛ فمنها آيات الأجسام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 3 - 5 ] .
{ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ } أي : مطر . سمي رزقاً لأنه سببه : { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : عن الله ، ما وعظهم به ودعائهم إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } [ 6 ] .
{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ } أي : الدالة على كمال قدرته ، وحكمته ، وإرادته : { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } أي : بعد آياته ، ودلائله الباهرة ، وتقديم اسم الله للمبالغة ، والتعظيم ، كما في قولك : أعجبني زيد ، وكرمه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ 7 ] .
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ } أي : كذاب يتكلم في حق الله ، وصفاته على خلاف الدليل : { أَثِيمٍ } أي : بترك الاستدلال ، لاسيما إذا لم يترك عن غفلة ، بل مع كونه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيم ٌ *اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 8 - 12 ] .
{ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ } أي : لا بالإخبار عنها بالغيب ، بل : { تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ } أي : على إنكارها : { مُسْتَكْبِراً } أي : عن قبولها ، لا يتأثر بها أصلاً : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً } استهانة بها : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } أي : من بعد انقضاء آجالهم ، عذابها : { وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا } أي : من الأموال ، والأولاد : { شَيْئاً } أي : من عذاب الله : { وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء } يعني آلهتهم التي عبدوها ، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر ، واتخذوهم نصراء في الدنيا : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا } أي : القرآن : { هُدًى } أي : بيان ودليل على الحق ، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه ، وعمل بما فيه .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } أي : بتسخيره : { وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } أي : بإستفادة علم ، وتجارة ، وأمتعة غريبة ، وجهاد ، وهداية ، وغوص فيه ؛ لاستخراج لآليه ، وصيد منه : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمة هذا التسخير ، فتعبدوه وحده ، وتصرفوا ما أنعم به عليكم ، إلى ما خلقتم له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 13 ] .
{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في آيات الله وحججه وأدلته ، فيعتبرون بها ويتفكرون . قال المهايمي : منها أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده ، وجعل البعض سبب البعض ، دليل حكمته ، وجعل الكل مسخراً للإنسان ، دليل كمال جوده . فمن أنكر هذه الآيات ، ولم يشكر هذه النعم ، استوجب أعظم ، وجوه الانتقام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 14 ] .
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا } أي : صدّقوا بالله ، واتبعوك : { يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ } أي : لا يخافون بأس الله ، ونقمه ، ووقائعه بأعدائه : { لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : من علمهم . ومنه العفو ، والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش . وقد روي أنها نزلت في عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد شتمه رجل من غفار ، فهمّ أن يبطش به ، فتكون الآية مدنية . قيل : يؤيده ما أورد على كونها مكية . من أن من أسلم بها كانوا مقهورين فلا يمكنهم الانتصار منهم ، والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح ، وأجيب بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله بقلبه ، ليثاب عليه . مع أن دوام عجز كل أحد منهم غير معلوم . فالصواب أن الآية مكية كالسورة . ومعنى نزولها في عمر - إن صح - صدقها على قضيته ، والاستشهاد بها لسماحه . كما حققنا المراد من النزول ، غير ما مرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ 15 ] .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } أي : لكونه افتكّها من العذاب : { وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } أي : أساء عمله بمعصية ربه ، فعلى نفسه جنى ؛ لأنه أوبقها بذلك : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي : تصيرون . فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 16 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } أي : التوراة : { وَالْحُكْمَ } أي : الفهم بالكتاب والعلم بالسنن التي تنزل بالكتاب : { وَالنُّبُوَّةَ } أي : جعلنا منهم أنبياء ، ورسلاً إلى الخلق : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني المنّ ، والسلوى : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : عالمي أهل زمانهم ، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم . كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 17 ] .
{ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ } أي : حججاً وبراهين ، وأدلة قاطعات ، تأبى الاختلاف ، ولكن أبوا إلا الاختلاف : { فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : ظلماً وتعدياً منهم ، لطلب الحظوظ العاجلة : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : بالمؤاخذة ، والمجازاة . قال ابن كثير : وهذا فيه تحذير لهذه الأمة ، أن تسلك مسلكهم ، وأن تقصد منهجهم ؛ ولهذا قال جل وعلا :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ 18 ] .
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ } أي : على طريقة ، وسنة ، ومنهاج من أمر الدين ، الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا : { فَاتَّبِعْهَا } أي : تلك الشريعة الثابتة بالدلائل ، والحجج : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } يعني المشركين ، وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ 19 ] .
{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً } أي : لن يدفعوا عنك من غضبه ، وعقابه شيئاً ما { وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : أعوان ، وأنصار على المؤمنين ، وأهل الطاعة ، أو في التخزب والتقوى ، ولكن ماذا تغنيهم ولايتهم لبعضهم ، وقد تخلت عناية الله ونصرته عنهم ؟ : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } أي : من اتقاه بعبادته وحده ، وخشيته بكفايته من بغى عليه ، وكاده بسوء . والأظهر تفسير الآية بآية : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ * أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ 20 - 21 ] .
{ هَذَا } أي : القرآن : { بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } أي : يبصرون به الحق من الباطل ، ويعرفون به سبيل الرشاد . قال الزمخشري : جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع ، بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحاً وحياة ، أي : فهو تشبيه بليغ : { وَهُدًى } أي : من الضلالة : { وَرَحْمَةٌ } أي : من العذاب لمن آمن وأيقن : { لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ } أي : يطلبون اليقين : { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أي : اكتسبوا سيئات الأعمال : { أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي : من عدم التفاوت .
قال الزمخشري : والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ، وأن يستووا مماتاً ، لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على ركوب المعاصي ، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة ، والوصول إلى ثواب الله ورضوانه ، وأولئك على اليأس من رحمة الله ، والوصول إلى هول ما أعدّ لهم . انتهى .
وزد عليه : حيث عاش هؤلاء على الهدى ، والعلم بالله ، وسنن الرشاد ، وطمأنينة القلب ، وأولئك على الضلال ، والجهل ، والعبث بالفساد ، واضطراب القلب ، وضيق الصدر ، بعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [ طه : 124 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [ 22 ] .
{ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة والصواب . قال ابن جرير : أي : للعدل والحق ، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله ، من التسوية بين الأبرار والفجار ؛ لأنه خلاف العدل والإنصاف : { وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } قال الزمخشري : معطوف على بالحق ؛ لأن فيه معنى التعليل ، أو على معلل محذوف ، تقديره ، خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته ، ولتجزى كل نفس : { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أي : في جزاء أعمالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ 23 ، 24 ] .
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى ، فكأنه يعبده ، فجعله إلهاً تشبيه بيلغٍ أو استعارة . قال القاشاني : الإله المعبود ، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلهاً ؛ إذ كل ما يعبده الْإِنْسَاْن بمحبته وطاعته ، فهو إلهه لو كان حجراً ! : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } أي : عالماً بحاله ، من زوال استعداده ، وانقلاب وجهه ، إلى الجهة السفلية ، أو مع كون ذلك العابد للهوى عالماً بعلم ما يجب عليه فعله في الدين ، على تقدير أن يكون : { عَلَىْ عِلْمٍ } حالاً من الضمير المفعول في : { أَضَلَّهُ اللَّهُ } لا من الفاعل ، وحينئذ يكون الإخلال لمحالفته علمه بالعمل ، وتختلف القدم عن النظر ؛ لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى ، أو على علم منه غير نافع ؛ لكونه من باب الفضول ، ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } أي : بالطرد من باب الهدى ، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه ، لمكان الرين ، وغلظ الحجاب ، فلا يعقل منه شيئاً : { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : عن رؤية حجج الله ، وآياته : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ } أي : فمن يوقفه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه : { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } أي : ما الحياة ، أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها : { نَمُوتُ } أي : بالموت البدني الطبيعي { وَنَحْيَا } أي : الحياة لجسمانية الحسية ، لا موت ولا حياة غيرهما : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } أي : مرّ الليالي ، والأيام ، وطول العمر : { وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } أي : وما يقولون ذلك عن علم ، ولكن عن ظن ، وتخمين . و : { ذلك } إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر ، أو إلى إنكار البعث ، أو إلى كليهما . قال الزمخشري : كانوا يزعمون أن مرور الأيام ، والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت ، وقبضه الأرواح بأمر الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة وحدث إلى الدهر والزمان , وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم < لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر > أي : فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر . انتهى .
وقال الخطابي ، معناه أنا صاحب الدهر , ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر . فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور ، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها . وإنما الدهر زمان جعل ظرفاً لمواقع الأمور . وكان عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا : بؤساً للدهر ، وتباً للدهر . انتهى .
قال ابن كثير : وقد غلط ابن حزم . ومن نحا نحوه من الظاهرية ، في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى ؛ أخذاً من هذا الحديث . انتهى .
تنبيه :
في هذه الآية رد على الدهرية ، وهم المعطلة بأن متمسكهم ظن وتخمين . لم يشم رائحة اليقين . وما هذا سبيله ، فباب القبول في وجهه مسدود : { إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] .
قال الشهرستاني في معطلة العرب : فصنف منهم أنكروا الخالق ، والبعث ، والإعادة ، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المنفي . وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } . إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي ، وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها .
فالجامع هو الطبع ، والمهلك هو الدهر : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } . فاستدل عليهم بضرورات فكرية ، وآيات فطرية ، في كم آية وسورة فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ الأعراف : 184 ] { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الأعراف : 185 ] . وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ } [ النحل : 48 ] ، وقال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] . فثبتت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق . فإنه قادر على الكمال ، إبداءً وإعادةً . انتهى . ولي في الرد على الدهريين ، وهم الماديون والطبيعيون ، كتاب وسمته " دلائل التوحيد " فليرجع إليه المريد ، فليس وراءه ، بحمده تعالى ، من مزيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 25 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي : بأن الله باعث خلقه يوم القيامة : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : انشروهم أحياء ، حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا ، وإطلاق الحجة على ذلك ، إما حقيقة بناء على زعمهم ، فإنهم ساقوه مساق الحجة ، أو هو مجاز تهكماً بهم . كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة . بمعنى أن لا حجة لهم البتة ، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 26 ] .
{ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : قل لهم في جواب قولهم : { وَمَا يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ } : قل الله يحييكم ثم يميتكم ، لا الدهر . لما عرف من وجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود ، هو سبب الأسباب ، ومصدر الكائنات ، أو قل لهم - في جواب إنكارهم البعث - : بأن من قدر على الإبداء ، قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة ، على ما مرّ مراراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } [ 27 ] .
{ وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ } أي : فلا مالك غيره ، ولا معبود سواه : { وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } أي : الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم ، وهم عَبْدة غيره تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [ 28 - 31 ] .
{ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : باركة ، مستوفرة على الركب لا حراك بها . شأن الخائف المنتظر لما يكره وذلك عن السحاب أو في الموقف الأول ، وقت البعث قبل الجزاء : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : اللوح الذي أثبت فيه أعمالهم ، ويعطى بيمين من كان سعيداً ، وشمال من كان شقياً { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ } أي : يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان ، وإنما أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه تعالى ، لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } أي : نستكتب الملائكة : { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني : { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } أي : في جنته : { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : فيقال لهم : { أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : بكسب الآثام ، والكفر بالله ، وعدم التصديق بمعاده ، ولا الإيمان بثواب وعقاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ 32 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } أي : أي : شيء هي ؟ أي : لا نستيقن بها : { إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي : إنها كائنة وآتية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ 33 - 35 ] .
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } أي : قبائح أعمالهم ، أو عقوبات أعمالهم السيئات : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } يعني الجزاء : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : نترككم في العذاب ترك ما يُنسى ، كما تركتم التأهب له . فـ : { نَنْسَاكُمْ } استعارة أو مجاز مرسل : { وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة وزعمتم أن لا حياة سواها : { فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي : من النار : { وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي : يرضوه ، من الإعتاب ، وهو إزالة العتب . كناية عن الإرضاء ، أو : لا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة ، فما بعد الموت مستعتب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 36 ، 37 ] .
{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ } أي : الثناء الكامل . قال ابن جرير : أي : فلله الحمد على نعمه ، وأياديه عند خلقه ، فإياه فاحمدوا أيها الناس ، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه ، دون ما تعبدون من دونه ، من آلهة ووثن : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : الاستعلاء ، ونهاية الرفع والكبر على كل شيء ، وغاية العلو ، والعظمة باستغنائه عنه ، وافتقاره إليه : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : القوي القاهر لكل شيء : { الْحَكِيمُ } قال القاشاني : أي : المرتب لاستعداد كل شيء ، بلطف تدبيره ، المهيّء لقبوله ، لما أراد منه من صفاته ، بدقيق صنعته ، وخفي حكمته : { لا إله إلا هو رب العالمين } .
وافق الفراغ من تفسير هذه السورة قبيل ظهر الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة عام 1326 بمنزلنا بدمشق الشام . بقلم جامعه جمال الدين القاسمي .

(/)


سورة الأحقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } [ 1 - 3 ] .
{ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : الحكمة ولإقامة العدل في الخلق { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : وبتقدير أجل معين لكل منها ، يفنيه إذا هو بلغه ، وهو يوم القيامة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا } أي : من هول ذلك اليوم : { مُعْرِضُونَ } أي : لا يؤمنون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 4 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } أي : من الأوثان التي تعبدونها { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } أي : أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضيّ بالاستقلال ، أو شيء سماوي بالشركة ، حتى تستحق العبادة { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا } تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي ، بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي . أي : ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد ، وإبطال الشرك ، دالّ على صحة دينكم { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أي : أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين ، شاهدة باستحقاقهم للعبادة { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم ، فإنها لا تكاد تصح ، ما لم يقم عليها برهان عقلي ، أو سلطان نقلي . وحيث لم يقم عليها شيء منهما ، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل ، تبين بطلانها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [ 5 ] .
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ } أي : دعاءه لعجزه عنها : { إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } أي : لأنهم إما جمادات ، وإما مسخّرون مشغولون بأحوالهم . والغفلة : مجاز عن عدم الفائدة فيها ، أو هو تغليب لمن يتصور منه الغفلة على غيره .
لطيفة :
قال الناصر : في قوله : { إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ } نكتة حسنة . وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ، ومن شأن الغاية انتهاء المغيّا عندها ، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية ؛ لأنهم في القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم . فالوجه - والله أعلم - أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها ، وإن وافق ما قبلها ، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني ، حتى كأن الحالتين ، وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما ، كالشيء وضده ، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة ، لا تزيد على عدم الاستجابة . والحالة الثانية التي في القيامة ، زادت على عدم الاستجابة بالعداوة ، وبالكفر بعبادتهم إياهم . فهو من وادي ما تقدم آنفاً في سورة الزخرف في قوله : { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } [ الزخرف : 29 - 30 ] انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ 6 ] .
{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ } أي : جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب : { كَانُوا } أي : آلهتهم : { لَهُمْ أَعْدَاء } أي : لتبرئهم منهم . قال الشهاب : أعداء استعارة ، أو مجاز مرسل للضارّ { وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } قال ابن جرير : أي : وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا ، بعبادتهم جاحدين ؛ لأنهم يقولون يوم القيامة : ما أمرناهم بعبادتنا ، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا ، تبرّأنا إليك منهم ، يا ربنا ! أي : فالتكذيب بلسان المقال ، قصداً إلى بيان أن معبودهم في الحقيقة الشياطين ، وأهواؤهم . و قال القاشاني : كانوا أعداء ، لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم ، لا تكون إلا لغرض نفسانيّ . وكذا استعباد الموالي لخدمهم ، فإذا ارتفعت الأغراض ، وزالت العلل والأسباب ، كانوا لهم أعداء ، وأنكروا عبادتهم ، ويقولن : ما خدمتمونا ، ولكن خدمتم أنفسكم . كما قيل في تفسير قوله : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ الزخرف : 67 ] انتهى .
وقيل : الضمير في : { كَانُوا } في الموضعين ، للعابدين ، لئلا يلزم التفكيك . وفيه نظر : لأنه اختلاف المتبادر من السياق ؛ إذ هو لبيان حال الآلهة معهم ، لا عكسه ، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم . وتسميته كفراً ، خلاف الظاهر أيضاً . وقد أوضح ذلك آية : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] . والقرآن يفسر بعضه بعضاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 7 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : بادهوه بالجحود أول ما سمعوه , من غير إجالة فكر , ولا إعمال رؤية . واللام في : { لِلْحَقِّ } لام الأجل متعلقة بـ : { قَاْلَ } وقيل : بمعنى الباء متعلقة بـ : { كَفَرُوا } وعُدّي الكفر باللام حملاً على نقيضه ، وهو الإيمان ؛ فإنه يُعدى بها نحو : { أَنُؤْمِنُ لَكَ } [ الشعراء : 111 ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ 8 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } أي : لا تقدرون أن تدفعوا عني سوءاً ، إن أصابني به . وأم - على ما قالوا - منقطعة مقدرة بـ : بل ، الإضرابية وهمزة الاستفهام ، المتجوز به عن الإنكار والتعجيب ، ووجه كون الافتراء أشنع من السحر ، حتى أضرب عنه ، أن الكذب خصوصاً على الله متفق على قبحه ، حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر ، فإنه ، وإن قبح ، فليس بهذه المرتبة ، حتى تكاد تعد معرفته من السمات المرغوبة . وقال الناصر : هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفاً في بابها ، فإنه انتقال إلى موافق ، لكنه أزيد من الأول ، فنزل لزيادته عليه ، مع ما تقدمه مما ينقص عنه ، منزلة المتنافيين ، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر ، وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات ، أشدّ وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر . فأضرب عن ذلك الأول إلى ما ذكر ما هو أغرب منه . انتهى .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تخوضون في حقه من أنه سحر أو أفك : { كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته ، وصدق مواعيده : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : لمن راجع منكم الكفر ، وتاب ، وآمن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 9 ] .
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ } أي : ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه . قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم ، فلم تستنكرون بعثتي ، وتستبعدون رسالتي ، كقوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } [ آل عِمْرَان : 144 ] ، والبدع : كالبديع ، بمعنى الجديد المبتدأ . قال ابن جرير : ومن البدع قول عديّ بن زيد :
~فَلَاْ أَنَاْ بِدْعٌ مِنْ حَوَاْدِثَ تَعْتَرِيْ رِجَاْلاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَىْ وَأَسْعُدِ
ومن البديع قول الأحوص :
~فَخَرَتْ فَانْتَمَتْ فَقُلْتُ : ذَرِيْنِيْ لَيْسَ جَهْلٌ أُتِيْتِهِ بِبِدِيْعِ
{ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } قال أبو السعود : أي : أي : شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان ، من أفعاله تعالى ، وماذا يقدّر لنا من قضاياه . وعن الحسن رضي الله عنه : ما أدري ما يصير إليه أمري ، وأمركم في الدنيا . وقيل : يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة . والأظهر أن ما عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع في الآخرة ، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة ، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين . انتهى .
وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن . وهو ما عول عليه ابن جرير . قال ابن كثير : بل لا يجوز غيره . كيف ؟ وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة ، هو ومن اتبعه بإحسان . وأما في الدنيا ، فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره ، وأمر مشركي قريش ، أيؤمنون ، أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أم العلاء ، وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : طار لنا في السكنى ، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ، عثمان بن مظعون رضي الله عنه ، فاشتكى عثمان عندنا ، فمرضناه . حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : رحمة الله عليك ، أبا السائب ! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير . والله ! ما أدري - وأنا رسول الله - ما يفعل بي ! > قالت : فقلت : والله ! لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك . فنمت ، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ذاك عمله > فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له : < ما أدري - وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به > . وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ، بدليل قولها : فأحزنني ذلك . وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة ، إلا الذي نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة ، وابن سلام ، والعميصاء ، وبلال ، وسراقة ، وعبد الله بن عَمْرو بن حرام ، والدجابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر ، وابن رواحة ، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم . انتهى كلام ابن كثير .
و قال المهايمي : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } أي : فيما لو يوح إليّ . والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي . ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذباً من عندي .
{ إِنْ أَتَّبِعُ } أي : في تقرير الأمور الغيبية : { إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : منذر عقاب الله على كفركم به ، أَبَان لكم إنذاره ، وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم ، وسعادتكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 10 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } أي : القرآن منزلاً من لدنه ، عليّ . لا سحراً ، ولا مفترى كما تزعمون : { وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : من الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة : { عَلَى مِثْلِهِ } أي : مثل القرآن ، وهو ما في التوراة من الأحكام المصدقة للقرآن من الإيمان بالله وحده ، وهو ما يتبعه ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 196 ] ، وقوله : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [ الأعلى : 18 - 19 ] ، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى . أو على مثل شهادة القرآن ، فجعل شهادته على أنه من عند الله ، شهادة على مثل شهادة القرآن ؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله ، أو المثل صلة والفاء ، في قوله تعالى : { فَآمَنَ } للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن ، لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق : { وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أي : عن الإيمان به بعد هذه الشهادة .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } استئناف مشعر بأن كفرهم ، لضلالهم المسبب عن ظلمهم ، ودليل على الجواب المحذوف . مثل : أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ . أو فَمَنَ أَضَل ُّمِنْكُمْ . وذلك عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعاً ، فيكون كقوله في الآية الأخرى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 52 ] .
قال أبو السعود : ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم ، فإن تركه تعالى لهدايتهم ، لظلمهم .
تنبيه :
روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام ، فتكون الآية مدنية مستثناة من السورة ، كما ذكره الكواشي ؛ لأن إسلامه كان بالمدينة . وأجيب : بأن لا حاجة للاستثناء ، وأن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع ، كقوله : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ } [ الأعراف : 48 ] . ويرشحه أن : { شَهِدَ } معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً ، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها ، ويكون تفسيره به بياناً للواقع ، لا على أنه مراد بخصوصه منها . هذا ما حققوه . ويقرب مما نذكره كثيراً من المراد من سبب النزول في مثل هذا ، وأنه استشهاد على ما يتناوله اللفظ الكريم .
ثم أشار إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل والمؤمنين به ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ 11 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ } أي : الإيمان ، أو ما أتى به الرسول : { خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي : لو كان من عند الله لكنا أولى به ، كسائر الخيرات من المال ، والجاه .
قال ابن كثير : يعنون بلالاً ، وعماراً ، وصهيباً ، وخباباً رضي الله عنهم ، وأشباههم ، وأضرابهم من المستضعفين ، والعبيد ، والإماء ، وما ذاك إلّا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة ، وله بهم عناية . وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً ، وأخطأوا خطأً بيّناً ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } [ الأنعام : 53 ] أي : يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ، ولهذا قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل ، وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم : هو بدعة ؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه ؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها . انتهى { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } أي : بالقرآن : { فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي : كذب قديم ، كما قالوا : { أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } . قال ابن كثير : فيتنقصون القرآن وأهله ، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بطر الحق وغمط الناس > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } [ 12 ] .
{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً } أي : قدوة يؤتم به في دين الله ، وشرائعه ، ورحمة لمن آمن به ، وعمل بما فيه { وَهَذَا } أي : الذي يقولون فيه ما يقولون : { كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ } أي : لكتاب موسى من غير تعلم من أنزل عليه إياه : { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } أي : بيّناً واضحاً , وفي تقييد الكتاب بذلك ، مع أن عربيته أمر معلوم الدلالة ، على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها ، وهي غير عربية . ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تعالى { لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 13 - 14 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : لا غيره { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي : على العمل الصالح . قال القاضي : أي : جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم ، والاستقامة في الأمور ، التي هي منتهى العمل . و : { ثُمَّ } للدلالة على تأخير رتبة العمل ، وتوقف اعتباره على التوحيد : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : من هول يوم القيامة : { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : لا يحزنهم الفزع الأكبر { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 15 ] .
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } وقرئ : { حُسْناً } ، وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور ، في قوله تعالى : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } [ الأحقاف : 17 ] الآية .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي : ذات كره ، أو حملاً ذا كره ، وهو المشقة { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ } أي : حمله جنيناً في بطنها ، وفطامه من الرضاع : { ثَلَاثُونَ شَهْراً } أي : تمضي عليها بمعاناة المشاق ، ومقاساة الشدائد لأجله ، مما يوجب للأم مزيد العناية ، وأكيد الرعاية ، لا يقال : بقي ثلاثة أشهر ، لأن أمد الرضاع حولان ، لأنا نقول : إن الحولين أمد من أراد تمام الأجل ، وإلا فأصله أقل منهما ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، ولئن سلم أنهما أمدها ، فيكون في الآية الاكتفاء بالعقود ، وحذف الكسور ، جرياً على عرفهم في ذلك ، كما ذكروه في حديث أنس في وفاته صلى الله عليه وسلم على رأس ستين سنة ، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين ، كما بين في شرح الشمائل . قالوا : إن الراوي للأولى اقتصر فيها على العقود , وترك الكسور ، وسرّ ذلك هو القصد إلى ذكر المهم ، وما يكتفي به فيما سيق له الكلام ، لا ضبط الحساب ، وتدقيق الأعداد .
قال ابن كثير : وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح ، ووافقه عليه عثمان ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : استحكم قوته ، وعقله : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني : { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي : بالهداية للتوحيد ، والعمل بطاعتك ، وغير ذلك { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي : واجعل الصلاح سارياً في ذريتي ، راسخاً فيهم : { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } أي : من ذنوبي التي سلفت مني : { وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ 16 ] .
{ أُوْلَئِكَ } أي : الموصوفون بالتوبة والاستقامة : { الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } أي : من الصالحات فنجازيهم عليها : { وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } أي : فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم : { فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي : معدودين في زمرتهم ثواباً ومقاماً .
قال الشهاب : والظاهر أنه من قبيل : { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] ليدل على المبالغة بعلوّ منزلتهم فيها ؛ إذ قولك : فلان من العلماء . أبلغ من قولك : عالم . ولم يبينوه ههنا ، ومن لم يتبنه لهذا قال في بمعنى مع . انتهى .
{ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } أي : وعدهم تعالى هذا الوعد ، وعدَ الحق في الدنيا ، وهو موفيه لهم في الآخرة ، كما قال : { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .
ثم بين تعالى نعت من عصى ما وصى به من الإحسان لوالديه ، من كل ولد عاق كافر ، وما له في مآله ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [ 17 ] .
{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } أي : حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة : { أُفٍّ لَّكُمَا } أي : من هذه الدعوة : { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي : أبعث من قبري بعد فنائي : { وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي } أي : هلكت ولم يرجع أحد منهم : { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي : يطلبان الغياث بالله منه . والمراد إنكار قوله ، واستعظامه ، كأنهما لجأا إلى الله في دفعه ، كما يقال : العياذ بالله ! أو المعنى : يطلبان أن يغيثه الله بالتوفيق ، حتى يرجع عما هو عليه : { وَيْلَكَ آمِنْ } أي : صدق بوعد الله ، وأقرّ أنك مبعوث بعد موتك . و : { وَيْلَكَ } في الأصل معناه الدعاء بالهلاك ، فأقيم مقام الحث على فعلٍ أو تركٍ ، للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك ، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه ، وأخذ ما ينجعه : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : إن وعده تعالى لخلقه ، بأنه يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب ، لمجازاتهم بأعمالهم ، حق لا شك فيه : { فَيَقُولُ } أي : مجيباً لوالديه ، ورادّاً عليهما نصيحتهما ، وتكذيباً بوعد الله : { مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : أباطيلهم التي كتبوها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [ 18 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : الإلهي ، وهو العذاب : { فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ } أي : الذين كذبوا رسل الله ، وعتوا عن أمره : { إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي : ببيعهم الهدى بالضلال ، والباقي بالفاني .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [ 19 ] .
{ وَلِكُلٍّ } أي : من الفريقين : { دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } أي : مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيء : { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } أي : جزاءها : { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أي : ينقص ثواب ، ولا زيادة عقاب .
تنبيه :
روى ابن جرير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر الصديق . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، قال لأبويه - وهما أبو بكر وأم رومان ، وكانا قد أسلما ، وأبى هو أن يسلم ، فكانا يأمرانه بالإسلام ، فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول : فأين فلان ، وأين فلان ؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات . فأسلم بعد ، فحسن إسلامه - فنزلت توبته في هذه الآية : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } .
قال الحافظ ابن حجر : لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته ، أصح إسناداً وأولى بالقبول ؛ وذلك ما رواه البخاري ، والإسماعيلي ، والنسائي ، وأبو يعلى أن مروان كان عاملاً على المدينة ، فأراد معاوية أن يستخلف يزيد ، فكتب إلى مروان بذلك ، فجمع مروان الناس فخطبهم ، فذكر يزيد ، ودعا إلى بيعته وقال : إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً ، وإن يستخلفه ، فقد استخلف أبو بكر وعمر . فقال عبد الرحمن : ما هي إلا هرقلية ! فقال مروان : سنة أبي بكر وعمر . فقال عبد الرحمن : هرقلية ! إن أبا بكر ، والله ! ما جعلها في أحد من ولده ، ولا في أهل بيته ، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده ! فقال مروان : خذوه . فدخل بيت عائشة ، فلم يقدروا عليه . فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي } فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا سيئاً من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري . ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله لعن أبا مروان ، ومروانُ في صلبه .
ومما يؤيده أن : { الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } هم المخلدون في النار في علم الله تعالى ، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين ، وسرواتهم ، وحاول بعضهم عدم التنافي بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه ، ثم يسلم بعد ذلك . ومعلوم أن الإسلام يجبّ ما قبله ، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمصرّين عليه الذين لم يقلعوا ، لكثرة ما ورد في العفو عن التائبين ، وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى ، وكلها تنعى على من كان مشركاً آنئذٍ ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم ، أو أن فيها ما يحط من أقدارهم ، ويجعلها مغمزاً لهم ، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا الشغب ، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة ، وقالةٍ يلوكها الرعاع ، وهم الذين يهمه أمرهم . ويرحم الله عبد الرحمن ! فقد شفى الغلة ، وصدع بالحق ، في حين أن لا ظهير له ، ولا نُصَيْر - والله أعلم - .
قال ابن قتيبة في " المعارف " : أربعة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسق : أبو قحافة ، وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابنه محمد بن عبد الرحمن .
وقال أيضاً : قيل : كان عبد الرحمن من أفضل قريش ، ويكنى أبا محمد ، وله عقب بالمدينة ، وليسوا بالكثير ، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبلٍ يقرب من مكة ، فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه . انتهى .
وفي دمشق في مقبرة باب الفراديس ، المسماة بالدحداح ، مزار يقال إنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، نسب إليه زوراً . وما أكثر المزَوّرات في المزارات ، كما يعلمه من دقّق في الوفيات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } [ 20 ] .
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ } أي : يقال لهم أذهبتم : { طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } عطف تفسير لقوله : { أَذْهَبْتُمْ } أي : فما بقي لكم من اللذائذ شيء لاستيفائكم إياها : { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أي : الهوان : { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : بغير ما أباح لكم وأذن : { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي : عن طاعته ، فأبعدكم عن كرامته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 21 ] .
{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } يعني هوداً : { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ } جمع حقف ، وهو الرمل المستطيل المرتفع . قال قتادة ذكر لنا أن عاداً كانوا حيّاً باليمن ، أهل رمل ، مشرفين على البحر { وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي : وقد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده ، متفقين على : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي : لا تشركوا مع الله شيئاً في عبادتكم إياه . وقال كل واحد منهم عليه السلام : { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : من عبادة غير الله : { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : بمقدار هتكهم ، عذاب الله بالشرك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } [ 22 ، 23 ] .
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } أي : لتصرفنا : { عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أي : من العذاب على عبادتنا إياها : { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في وعدك أنه آت لا محالة { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ } أي : إني ، وإن علمت إتيانه قطعاً ، فلا أعلم وقت مجيئه ؛ لأن العلم بوقته عنده تعالى ، فيأتيكم به في وقته الذي قدره له : { وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } . قال الطبري : أي : مواضع حظوظ أنفسكم ، فلا تعرفون ما عليها من المضرة بعبادتكم غير الله ، وفي استعجال عذابه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [ 24 ، 25 ] .
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي : فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه ، فرأوه عارضاً في ناحية من نواحي السماء ، متجهاً نحو مزارعهم : { قَالُوا هَذَا عَارِضٌ } أي : سحاب عارض : { مُّمْطِرُنَا } أي : بغيث نحيا به : { بَلْ هُوَ } أي : قال هود بل هو : { مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ } أي : من العذاب : { رِيحٌ } أي : هي ريح ، أو بدل من ما , : { فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ } أي : تهلك : { كُلَّ شَيْءٍ } أي : من أموالهم وأنفسهم : { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : إذنه الذي لا يعارض ، فلم تدفع عنهم آلهتهم ، بل دمّرتهم : { فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } أي : بيوتهم . ثم أشار إلى أن هذا لا يقتصر على عاد ، بل ينتظر لمن كان على شاكلتهم من أهل مكة ، وغيرها ، بقوله : { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي : الكافرين إذا تمادوا في غيّهم ، وطغوا على ربهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } [ 26 ] .
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي : مكنّا عاداً ، وآتيناهم من كثرة الأموال وقوة الأجسام ، فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا ، على أن : إن شرطية محذوفة الجواب . والتقدير : ولقد مكناهم في الذي ، أو في شيء ، إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر . وقيل : هي صلة كما في قوله :
~يُرَجَّى الْمَرْءُ مَاْ إِنْ لَاْ يَرَاْهُ وَيَعْرِضُ دُوْنَ أَدْنَاْهُ الْخُطُوْبُ
قال الزمخشري : والوجه هو الأول . ولقد جاء عليه في غير آية في القرآن : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً } [ مريم : 74 ] ، { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً } [ غافر : 82 ] وهو أبلغ في التوبيخ ، وأدخل في الحث على الاعتبار .
قال الناصر : واختص بهذه الطائفة قوله تعالى : { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] ، وقوله : { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ } [ الأنعام : 6 ] أي : والأصل توافق المعاني في الآي الواردة في نبأ واحد . على ما فيه أيضاً من سلامة الحذف ، والزيادة .
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } قال الطبري : أي : جعلنا لهم سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم ، وأبصاراً يبصرون بها حجج الله ، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم ، وينفعهم { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ } أي : لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له ، بل في خلافه : { إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } أي : من العذاب .
قال الطبري : وهذا وعيد من الله عز وجل ثناؤه ، لقريش . يقول لهم : فاحذروا أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله ، وتكذيبكم رسله ، ما حلّ بعاد ، وبادروا بالتوبة قبل النقمة .
لطيفة :
قال الشهاب : أفرد السمع في النظم ، وجمع غيره ، لاتحاد المدرك به ، وهو الأصوات ، وتعددت مدركات غيره ، ولأنه في الأصل مصدر ، وأيضاً مسموعهم من الرسل متحد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 27 ] .
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم } أي : ما حول قريتكم يا أهل مكة : { مِّنَ الْقُرَى } أي : كجحر ثمود ، وأرض سدوم ، ومأرب ونحوها ، فأنذرنا أهلها بالمثلات ، وخربنا ديارها ، فجعلناها خاوية على عروشها : { وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ } أي : وعظناهم بأنواع العظات ، وبيّنا لهم ضروباً من الحجج : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن الكفر بالله ورسله . قال الطبري : وفي الكلام متروك ، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه ، وهو : فأبوا إلا الإقامة على كفرهم ، والتمادي على غيّهم ، فأهلكناهم ، فلم ينصرهم منا ناصر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [ 28 ] .
{ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً } أي : فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم ، أوثانهم التي اتخذوا عبادتها قرباناً يتقربون بها ، فيما زعموا ، إلى ربهم إذ جاءهم بأسنا ، فتنقذهم من عذابنا ، إن كانت تشفع لهم عند ربهم ، كما قالوا : { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] .
{ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أي : غابوا عن نصرهم ، وامتنع أن يستمدوا بهم ، امتناع الاستمداد بالضالّ ففي : { ضَلُّوا } استعارة تبعية : { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي : ضياع آلهتهم عنهم ، وامتناع نصرهم إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة { وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : وإثر افترائهم في أنها شفعاؤهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 29 - 32 ] .
{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ } أي : أملناهم إليك ، وأقبلنا بهم نحوك : { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا } أي : ليتم التدبر والتفكر : { فَلَمَّا قُضِيَ } أي : فرغ من قراءته ، كمل تأثيرهم به ، فأرادوا التأثير به ، لذلك : { وَلَّوْا } أي : رجعوا : { إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أي : عما هم فيه من الضلال { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى } أي : المتفق على تعظيم كتابه . أي : وقد علمنا صدقه لكونه : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من هذه الكتب كلها ، وقد فُضّل عليها إذ : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي : معرفة الحقائق : { وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : لا عوج فيه ، وهو الإسلام .
قال ابن كثير : أي : يهدي إلى الحق في الاعتقاد والأخبار ، وإلى طريق مستقيم في الأعمال . فإن القرآن مشتمل على شيئين : خبر وطلب . فخبره صدق ، وطلبه عدل ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [ التوبة : 33 ] ، فالهدى هو العلم النافع . ودين الحق هو العمل الصالح . وهكذا قالت الجن : يهدي إلى الحق في الاعتقادات ، وإلى طريق مستقيم ، أي : في العمليات { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } أي : رسول الله محمداً إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله { وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ } أي : بمعجز ربّه ، بهربه إذا أراد تعالى عقوبته ؛ لأنه في قبضته وسلطانه ، أنّى اتجه { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء } أي : نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه { أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي : أخذ على غير استقامة .
تنبيهات :
الأول - روى الإمام مسلم عن علقمة قال : سألت ابن مسعود رضي الله عنه : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير ، اغتيل ! قال : فبتنا بشرّ ليلة بات فيها قوم . فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حِراء . قال : فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : < أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن > قال : فانطلق بنا ، فأرانا آثارهم .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الجن يستمعون الوحي ، فيسمعون الكلمة ، فيزيدون فيها عشراً . فيكون ما سمعوا حقاً ، وما زادوا باطلاً . وكانت النجوم لا يُرمى بها قبل ذلك . فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب ، فشكوا ذلك إلى إبليس ، فقال : ما هذا إلا من أمر قد حدث . فبثّ جنوده ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي بين جبلي نخلة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض . ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما . وهكذا قال الحسن البصري : إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم .
وذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، ودعائه إياهم إلى الله عز وجل ، وإبائهم عليه ، فذكر القصة بطولها ، ثم قال : فلما انصرف عنهم ، بات بنخلة ، فقرأ تلك الليلة من القرآن ، فاستمعته الجن من أهل نصيبين . قال ابن كثير : وهذا صحيح ، ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة . فيه نظر ؛ فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء ، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور . وخرُوجُه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه ، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين ، كما قرره ابن إسحاق وغيره .
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا ، فأنزل الله عز وجل عليه : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ } الآية . قال ابن كثير : فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استمعوا قراءته ، ثم رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً : قوماً بعد قوم ، وفوجاً بعد فوج . فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن معن بن عبد الرحمن قال : سمعت أبي يقول : سألت مسروقاً : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - أنه آذنته بهم شجرة ، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ، ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما ، ويحتمل أن يكون في الأولى ، ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة ، أي : أعلمته باجتماعهم ، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات ، والله أعلم .
قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ، ولم يرهم ، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن ، فقرأ ، عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله عز وجل - كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه - .
ثم قال ابن كثير : وأما ابن مسعود رضي الله عنه ، فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن ، ودعائه إياهم ، وإنما كان بعيداً منه ، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ، ومع هذا ، لم يشهد حال المخاطبة . هذه طريقة البيهقي . وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم ، لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ولا غيره ، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام مسلم ، ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى - والله أعلم - كما روى ابن أبي حاتم في تفسير : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ } من حديث ابن جريح قال : قال عبد العزيز بن عُمَر : أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة ، فجن نصيبين .
وتأول البيهقي قوله : فبتنا بشرّ ليلة . على غير ابن مسعود ، ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، وهو محتمل ، على بُعدٍ ، وبالجملة ، فقد روي ما يدل على تكرار ذلك . وقد روي عن ابن عباس غير ما روي عنه أولاً من وجه جيد عن ابن جرير في هذه الآية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم ، فهذا يدلّ على أنه قد روى القصتين . وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كانوا أكثر الجن عدداً , وأشرفهم نسباً . وعن ابن مسعود أنهم كانوا تسعة . ويروى أنهم كانوا خمسة عشر ، وروي ستين ، وروي ثلاثمائة . وعن عِكْرِمَة أنهم كانوا اثني عشر ألفاً . قال ابن كثير : فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم . ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري في " صحيحه " أن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه لشيء قط يقول : إني لأظنه هكذا ، إلا كان كما يظن . بينما عُمَر بن الخطاب جالس ، إذ مر به رجل جميل فقال : لقد أخطأ ظني ، أو إن هذا على دينه في الجاهلية ، أو لقد كان كاهنهم . عليّ الرجل . فدعي له ، فقال له ذلك ، فقال : ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم . قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني !
قال : كنت كاهنهم في الجاهلية . قال : فما أعجب ما جاءتك به جنيتك ؟ قال : بينا أنا يوماً في السوق ، جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت : ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ؟ قال عمر : صدق ! بينما أنا نائم عند آلهتهم ، إذ جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به صارخ ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه ، يقول : يا جليح ! أمر نَجِيْح ، رجل فصيح ، يقول : لا إله إلا الله . قال فوثب القوم . فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا . ثم نادى : يا جليح ! أمر نَجِيْح ، رجل فصيح ، يقول : لا إله إلا الله . فقمت ، فما نشبنا أن قيل : هذا نبي - هذا سياق البخاري - وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه .
ثم قال : وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح . وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه . وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه - والله أعلم - .
وهذا الرجل هو سواد بن قارب . قال البيهقي : وسواد بن قارب يشبه أن يكون هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح . ثم روى بسنده عن البراء قال : بينما عُمَر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : أيها الناس ! أفيكم سواد بن قارب ؟ قال ، فلم يجبه أحد تلك السنة . فلما كانت السنة المقبلة قال أيها الناي ! أفيكم سواد بن قارب ؟ قال ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! وما سواد بن قارب ؟ قال ، فقال له عمر : إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً ! قال : فبينما نحن كذلك ، إذ طلع سواد بن قارب . قال ، فقال له عمر : يا سواد ! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان ؟ . قال سواد : فإني كنت نازلاً بالهند ، وكان لي رَئِيٌّ من الجن . قال : فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ [ في المطبوع : إذا ] جاءني في منامي ذلك ، قال : قم فافهم ، واعقل إن كنت تعقل ! قد بعث رسول من لؤي بن غالب ، ثم أنشأ يقول :
~عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَحْسَاْسِهَاْ وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَحْلَاْسِهَاْ
~تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ مَاْ خيِّرُ الْجِنَّ كَأَنْجَاْسِهَاْ
~فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ رَاْسِهَاْ
قال : ثم أنبهني فأفزعني وقال : يا سواد بن قارب ! إن الله عزّ وجل بعث نبياً ، فانهض إليه تهتد وترشد . فلما كان من الليلة الثانية ، أتاني فأنبهني ، ثم أنشأ يقول :
~عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَاْ وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَقتَاْبِهَاْ
~تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ وَلَيْسَ قُدْمَاْهَاْ كَأَذْنَاْبِهَاْ
~فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ قَاْبِهَاْ
فلما كان في الليلة الثالثة ، أتاني فأنبهني ، ثم قال :
~عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَخْبَاْرِهَاْ وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَكْوَاْرِهَاْ
~تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ وَلَيْسَ ذَوُو الشَّرِّ كَأَخْيَاْرِهَاْ
~فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ مَاْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّاْرِهَاْ
قال : فلما سمعه تكرر ليلة بعد ليلة ، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله . قال : فانطلقت إلى رحلي ، فشددته على راحلتي ، فما حللت نسعة ، ولا عقدت أخرى ، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بالمدينة - يعني مكة - والناس عليه كعرف الفرس ، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال : < مرحباً بك يا سواد بن قارب ، قد علمنا ما جاء بك > . قال : قلت : يا رسول الله ! قد قلت شعراً ، فاسمعه مني ! قال صلى الله عليه وسلم : < قل يا سواد > ، فقلت :
~أَتَاْنِيْ رَئِيِّيْ بَعْدَ لَيْلٍ وَهَجْعَةٍ وَلَمْ يَكُ فِيْمَا قَدْ بَلَوْتُ بِكَاْذِبِ
~ثَلَاْثَ لَيَاْلٍ ، قَوْلَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ : أَتَاْكَ رَسَوْلٌ مِنْ لُؤَيَّ بْنِ غَاْلِبِ
~فَشَمَّرْتُ عَنْ سَاْقِيْ الْإِزْاَرِ وَوَسَّطَتْ بِي الدِّعْلِبُ الْوَجْنَاْءُ بَيْنَ السَّبَاْسِبِ
~فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَاْ رَبَّ غَيْرَهُ وَأَنَّكَ مَأْمُوْنٌ عَلَىْ كُلِّ غَاْئِبِ
~وَأَنَّكَ أَدْنَى الْمُرْسَلِيْنَ وَسِيْلَةً إِلَىْ اللَّهِ ، يَا ابْنَ الْأَكْرَمِيْنَ الْأَطَاْيِبِ
~فَمُرْنَاْ بِمَاْ يَأْتِيْكَ يَاْ خَيْرَ مُرْسَلٍ وَإِنْ كَاْنَ فِيْمَاْ جَاْءَ شَيْبَ الذَّوَاْئِبِ
~وَكُنْ لِيْ شَفِيْعاً يَوْمَ لَاْ ذُوْ شَفَاْعَةٍِ سِوَاْكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوَاْدِ بْنِ قَاْرِبِ قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال لي : أفلحت يا سواد ! فقال له عمر رضي الله عنه : هل يأتيك رئيك الآن ؟ فقال : منذ قرأت القرآن لم يأتني ، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن . ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين . انتهى كلام ابن كثير .
وقد ساقه الإمام المارودي في " أعلام النبوة " مع نظائر له ، في الباب السادس عشر ، في هتوف الجن ، ثم قال : ولئن كانت هذه الهتوف أخبارَ آحاد ، عمن لا يرى شخصه ، ولا يحج قوله ، فخروجه عن العادة نذير ، وتأثيره في النفوس بشير ، وقد قبلها السامعون . وقبول الأخبار يؤكد صحتها ، ويؤيد حجتها . فإن قيل : إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة ، جاز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة ، فعنه جوابان :
أحدهما : أن دلائل النبوة غيرها ، وإنما هي من البشائر بها ، وفرق بين الدلالة والبشارة إخباراً .
والثاني : أن الكهانة عن مغيّب ، والبشارة عن معين ، فالعيان معلوم ، والغائب موهوم . انتهى .
التنبيه الثاني :
قال المارودي : في صرف الجن المذكور في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } [ الأحقاف : 29 ] ، وجهان :
أحدهما - أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء ، برجوم الشهب ، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما هذا الحادث في السماء ، إلا لحادثٌ في الأرض ، وتخيلوا به تجديد النبوة ، فجابوا الأرض ، حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن مكة عامداً إلى عكاظ ، وهو يصلي الفجر ، فاستمعوا القرآن ، ورأوه كيف يصلي ، ويقتدي به أصحابه ، فعلموا أنه لهذا الحادث ، صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهاب . وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه .
أقول : وعليه فتكون إلى - في إليك - بمعنى لام التعليل . وذُكر في " المغني " أنها تأتي مرادفة اللام ، نحو : { وَالأَمْرُ إلَيْكِ } [ النمل : 33 ] . وفيه تكلف وبعدٌ ؛ لنبوّه عما يقتضيه سياق بقية الآية .
ثم قال المارودي : وحكى عِكْرِمَة أن السورة التي كان يقرؤها : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] . أقول : سيأتي مرفوعاً عن جابر أنها سورة الرحمن .
ثم قال المارودي :
والوجه الثاني - أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق ، هداية من الله تعالى ، حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة ، فنزل عليه جبريل بهذه الآية ، وأخبره بوفود الجن ، وأمره بالخروج إليهم ، فخرج ومعه ابن مسعود ، حتى جاء الحجون . قال ابن مسعود : فخط عليّ خطّاً وقال : لا تجاوزه .
فعلى الوجه الأول ، لم يعلم بهم حتى أتوه . وعلى الوجه الثاني ، أعلمه جبريل قبل إتيانهم . واختلف أهل العلم في رؤيته لهم ، وقراءته عليهم . فحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرهم ، ولم يقرأ عليهم ، وإنما سمعوا قراءته حين مرّوا به مصلياً . وحكى ابن مسعود أنه رآهم . وقرأ عليهم القرآن .
أقول : تقدم لابن كثير ما فيه كفاية - .
ثم قال المارودي : وفي قوله : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } [ الأحقاف : 29 ] وجهان :
أحدهما - فلما حضروا قراءته القرآن ، قالوا : أنصتوا لسماعه .
والوجه الثاني : فلما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أنصتوا لسماع قوله . انتهى .
قال ابن كثير : وهذا - أي : قولهم أنصتوا - أدب منهم . وقد روى البيهقي عن جابر قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : < مالي أراكم سكوتاً ؟ لَلْجِن كانوا أحسن منكم رداً ؛ ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 42 ] ، إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد > ورواه الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم عن زهير .
الثالث - دل قوله تعالى : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } [ الأحقاف : 31 ] ، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عام الرسالة إلى الإنس والجن .
قال ابن كثير : لأنه دعا الجن إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ، وتكليفهم ، ووعدهم ، ووعيدهم ، وهي سورة الرحمن ، ولهذا قال : { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } [ الأحقاف : 32 ] . قال المارودي : لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولاً من الإنس ، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم ، فجوزه قوم لقول الله تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ، ومنع آخرون منه . وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس ، وحملوا قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } على الذين لما سمعوا القرآن ، ولّوا إلى قومهم منذرين . انتهى .
أقول : ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلاً في آية : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ } [ يس : 14 ] .
الرابع - استدل بقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ؛ إذ لو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا ، لأوشك أن يذكروه .
قال المارودي : فأما كفارهم فيدخلون النار ، وأما مؤمنوهم ، فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثواباً على إيمانهم . فقال الضحاك : ومن جوز أن يكون رسلهم منهم ، يدخلون الجنة . وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصاً منها ، ثم يقال : لهم : كونوا تراباً كالبهائم . انتهى .
والحق - كما قال ابن كثير - أن مؤمنهم كمؤمن الإنس ، يدخلون الجنة ، كما هو مذهب جماعة من السلف . وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 56 ] ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله جل وعلا : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 46 - 47 ] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة . وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القوليّ أبلغ من الإنس ، فقالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد . فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم .
وأيضاً ، فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار ، وهو مقام عدل ، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة ، وهو مقام فضل ، بطريق الأولى والأحرى ، ومما يدل أيضاً على عموم ذلك قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] ، وما أشبه ذلك من الآيات . وما ذكروه ههنا من الجزاء على الإيمان ، من تكفير الذنوب ، والإجارة من العذاب الأليم ، هو يستلزم دخول الجنة ؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار . فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة ، ولم يرد معنا نص صريح , ولا ظاهر عن الشارع ، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة ، وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم . وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } [ نوح : 4 ] ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة ، فكذلك هؤلاء . وقد حكي فيهم أقوال غريبة . فعن عُمَر بن عبد العزيز أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة ، وإنما يكونون في ربضها ، وحولها ، وفي أرجائها .
ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ، ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا ، ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح ، والتحميد ، والتقديس ، عوضاً عن الطعام والشراب ، كالملائكة ؛ لأنهم من جنسهم ، وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها . انتهى .
الخامس - قيل : سر التبعيض في قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } أن من العذاب ما لا يغفر بالإيمان ، كذنوب المظالم ، أي : حقوق العباد . وفيه نظر ؛ لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة ، وسفك الدماء المحقونة ، ثم حسن إسلامه ، جبّ الإسلام عنه إثم ما تقدم ، بلا إشكال . ويقال : إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة ، والسر فيه أن مقام الكافر قبض لا بسط ، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن - أفاده الناصر - .
السادس - قال ابن كثير : جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب ، ولهذا نجع في كثير منهم ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً وفوداً ، كما تقدم بيانه .
السابع - قال المارردي : الجن من العالم الناطق المميز ، يأكلون ، ويتناكحون ، ويتناسلون ، ويموتون ، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار ، وإن تميزوا بأفعالٍ وآثارٍ ، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء ، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية ، وما تخيلوه من آثارهم الخفية .
و قال القاشاني : الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر ، سماها حكماء الفرس : الصور المعلقة . ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية ، ومشاركتها الإنس في ذلك ، سمّيا ثقلين . وكما أمكن الناس التهدي بالقرآن أمكنهم ، وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع ، وأوضح من أن يقبل التأويل . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 33 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } أي : بإعادة الروح إلى الجسد ، بعد مفارقتها إياه ، وإخراجهم من قبورهم كهيئتهم قبل وفاتهم . وفي ابن جرير بحث نحوي في دخول الباء في : { بِقَادِرٍ } بديع . ويذكر في مباحث زيادة الباء ، في مطولات العربية .
{ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : من إعادة المعدوم ، ولو فني الجسد وغيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } [ 34 ، 35 ] .
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا } أي : على الإحياء إحياء : { بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ } أي : على تبليغ الرسالة وتكذيبهم وإيذائهم : { كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } أي : أولو الثبات والجد منهم ، فإنك منهم . والعزم - في اللغة - كالعزيمة ، ما عقدت قلبك عليه من أمر . والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه . فالمراد به هنا المجتهدون ، المجدّون ، أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم ، وقدره وقضاه عليهم . ومطلق الجد ، والجهد ، والصبر موجود في جميع الرسل ، بل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكثير من الأولياء . فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل ، وأن من بيانية لا تبعيضية ، فكل رسول من أولي العزم ، فإن أريد به معنى مخصوص ببعضهم ، فلا بد من بيانه ليظهر وجه التخصيص . ومنشأ الاختلاف في عددهم إلى أقوال :
أحدها - أنهم جميع الرسل . والثاني - أنهم أربعة : نوح وإبراهيم وموسى ومحمد . والثالث - أنهم خمسة بزيادة عيسى ، كما قيل :
~أُوْلِي الْعَزْمِ نُوْحٌ وَالْخَلِيْلُ الْمُمَجَّدُ وَمَوْسَىْ وَعِيْسَىْ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدُ
والرابع - أنهم ستة ، بزيادة هارون أو داود . والخامس - أنهم سبعة بزيادة آدم . والسادس - أنهم تسعة ، بزيادة إسحاق ، ويعقوب ، ويوسف . وقد يزاد وينقص .
وتوجيه التخصيص أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق ، وذبه عن حريم التوحيد ، وحمى الشريعة ، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية ، وأموره الخارجية ، كمبارزة كل أهل عصره ، كما كان لنوح ، أو لملك جبار في عصره ، وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية ، كنمروذ إبراهيم ، وجالوت داود ، وفرعون موسى ، ولكل موسى فرعون ، ولكل محمد أبو جهل . وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة قدسية ، ونفس ربانية ، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام . ومن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص ، وهذا مما كشف بركاتهم سره - أفاده الشهاب - .
{ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي : ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم ، فإن ذلك نازل بهم لا محالة ، وإن اشتد عليك الأمر من جهتهم { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } أي : من عذاب الله ، ونكاله ، وخزيه الذي ينزل بهم في الدنيا ، أو في الآخرة : { لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً } : { مِّن نَّهَارٍ } أي : لأنه ينسيهم شدة ما ينزل بهم من عذابه ، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا ، ومبلغ ما فيها مكثوا .
وقوله تعالى : { بَلَاغٌ } قال ابن جرير : فيه وجهان :
أحدهما - أن يكون معناه : لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، ذلك لبث بلاغ ، بمعنى : ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم ، ثم حذف : ذلك لبث ، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها .
والآخر - أن يكون معناه : هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية ، إن فكروا واعتبروا ، فتذكروا . انتهى .
وأشار المهايمي إلى معنى آخر فقال : ليس من حق الرسل الاستعجال ، بل حقهم بلاغ .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } أي : بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل ، والحكمة : { إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الذين خالفوا أمره ، وخرجوا من طاعته ، نعوذ بالله من غضبه ، وأليم عقابه .

(/)


سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ 1 ] .
{ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : جحدوا توحيد الله ، وعبدوا غيره : { وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي : أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية ، ولنبيه بالرسالة . أو صدوا غيرهم عن ذلك { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : جعلها على غير هدى ورشاد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [ 2 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : الطاعات فيما بينهم وبين ربهم . وقوله : { وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } أي : بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم . وإنما خصه بالذكر ، مع دخوله فيما قبله ، تعظيماً لشأنه وتعليماً ؛ لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به ؛ إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه ، لإفراده بالذكر . وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله : { وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أي : الثابت بالواقع ، ونفس الأمر { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ، ما كان منهم من الكفر والمعاصي ، لرجوعهم عنها وتوبتهم : { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : حالهم وشأنهم ، وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق .
قال الشهاب : البال يكون بمعنى الحال والشأن ، وقد يخص بالشأن العظيم ، كقوله صلى الله عليه وسلم < كل أمر ذي بال > . ويكون بمعنى الخاطر القلبيّ ، ويتجوز به عن القلب ، ولو فسر به هنا كان حسناً أيضاً . وقد فسره السفاقسي بالفكر ؛ لأنه إذا صلح قلبه وفكره ، صلحت عقيدته وأعماله . و قال ابن جرير : البال كالمصدر ، مثل الشأن ، لا يعرف منه فعل ، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر ، فإذا جمعوه قالوا : بالات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } [ 3 ] .
{ ذَلِكَ } أي : المذكور من فعله تعالى بالفريقين ما فعله كائن : { بِأَنَّ الَّذِينَ } أي : بسبب أن الذين : { كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي : يشبه لهم الأشباه ، فليحق بكل قوم من الأمثال أشكالاً .
قال الزمخشري : فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين . أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ 4 ] .
{ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد ، الصادّين عن منهج الرشاد ، وبعثاً على الصدق في قتالهم ، كسحاً لعقبة باطلهم ، عملاً بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان ، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان ، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة . ولذا قال أبو السعود : الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها ؛ فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم ، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم ، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام ؛ أي : فإذا كان الأمر كما ذكر ، فإذا لقيتموهم في المحاربة ، فضرب الرقاب . وأصله : فأضربوا الرقاب ضرباً . فحذف الفعل ، وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول . وفيه اختصار وتأكيد بليغ . والتعبير به عن القتل ، تصوير له بأشنع صورة ، وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي : غلبتموهم ، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى : { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } بفتح الواو ، وقرئ بكسرها . وهو ما يوثق به ، أي : يربط ويشد ، كالقيد والحبل . أي : فأمسكوهم به كيلاً يقتلوكم فيهربوا منكم : { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } أي : فإما تمنون بعد ذلك عليهم ، فتطلقونهم بغير عوض ، لزوال سبعيّتهم ، وإما تفدون فداءً ، فتطلقونهم بعوض مال ، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون ، أو يتخلص أسيرهم .
قال المهايمي : ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } [ الأنفال : 67 ] ، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال ، ولم يذكر الاسترقاق ؛ لأنه في معنى استدامة الأسر ، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية ، ولا تزالوا كذلك : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : إلى انقضاء الحرب . والأوزار : كالأحمال وزناً ومعنى ، استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها ، استعارة تصريحية أو مكنية ، بتشبيهها بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره ، وأثبت له ذلك تخييلاً ، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى :
~وَأَعْدَدْتَ لِلْحَرْبِ أَوْزَاْرَهَاْ رِمَاْحاً طِوَاْلاً وَخَيْلَاً ذُكُوْرًا
وقيل : أوزارها آثامها . يعني : حتى يترك أهل الحرب - وهم المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا .
تنبيهات :
الأول - قال في " الإكليل " : في الآية بيان كيفية الجهاد .
الثاني - للسلف قولان في أن الآية : منسوخة ، أو محكمة .
فروي عن ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، قالوا : فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم .
وروي عن ابن عمر ، وعطاء ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، أن الآية محكمة ليست منسوخة ، وأنه لا يجوز قتل الأسير ، وإنما له المن أو الفداء .
ووجه من ذهب إلى الأول تعارض الآيتين عنده بادئ بدء ، فلم يبق إلا القول بإحداهما وهي المطلقة .
ومدرك الثاني أن الأمر بقتلهم المجمل في آيات ، محمول على المفصل في مثل هذه الآية ، أي : إن القتل عند اللقاء ، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير ، إلا أن تبدو مصلحة في القتل ، فتلك من باب آخر .
وثم قول ثالث : وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام ، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل ، لعلمه من آيات أخر ، لاسيما ومرجع الأمر إلى المصلحة . وهذا القول هو الذي أختاره ، وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ ، فالأول هو المرجح . وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الإحكام ، لما قدمناه في مقدمة التفسير ، من تغاير اصطلاح السلف ، والأصوليين في النسخ .
ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك ، وعبارته :
والصواب من القول عندنا في ذلك ، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة . وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر ، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن ، والفداء ، والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكوراً في هذه الآية ، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، الآية . بل ذلك كذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيراً في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضاً ، ويفادي ببعض ، ويمن على بعض ، مثل يوم بدر : قتل عقبة بن أبي معيط ، وقد أتي به أسيراً . وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلماً ، وهو على فدائهم والمن عليهم قادر ، وفادى بجماعة ، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر ، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي ، وهو أسير في يده . ولم يزل ذلك ثابتاً من سيره في أهل الحرب ، من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائماً ذلك فيهم . وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المن والفداء في الأسارى ، فخص ذكرهما فيها ، لأن الأمر بقتلهم والأذن منه بذلك ، قد كان تقدم في سائر أي : تنزيله مكرراً ، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء ، ما له فيهم مع القتل . انتهى كلام ابن جرير .
الثالث - من فوائد الآية أيضاً جواز تخلية سبيل المشركين ، إذا ضعفت شوكتهم ، وأمنت مفسدتهم ، لأن ذلك من لوازم المن ، وقبول الفداء ، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل ، ينافيه نص هذه الآية ، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون ، فتفهّم . وبالجملة ، فالذي عول عليه الأئمة المحققون رضي الله عنهم ، أن الأمير يخيّر ، بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في الأسراء المقاتلين ، بين قتال واسترقاق ، ومنّ وفداء . ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين ؛ لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر ، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ ، كوليّ اليتيم ، لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى . فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين ، فقتله أصلح . ومنهم الضعيف ذو المال الكثير ، ففداؤه أصلح ، ومنهم حسن الرأي في المسلمين ، يرجى إسلامه ، فالمنّ عليه أولى ، ومن ينتفع بخدمته ، ويؤمن شرّه ، استرقاقه أصلح - كما في " شرح الإقناع " .
الرابع - تسن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال لمن بلغته الدعوة ، قطعاً لحجته . ويحرم القتال قبلها لمن لم تبلغه الدعوة ، لحديث بريدة بن الحصيب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش ، أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ، وبمن معه من المسلمين . وقال : < إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث ، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم : ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن هم أبوا فادعهم إعطاء الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم > رواه مسلم .
وقيد الإمام ابن القيم وجوب الدعوة واستحبابها ، بما قصدهم المسلمون . أما إذا كان الكفار قاصدين المسلمين بالقتال ، فللمسلمين قتالهم من غير دعوة ، دفعاً عن نفوسهم ، وحريمهم ، وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ، لأنه أعرف بحال الناس ، وبحال العدو ، ونكايتهم ، وقربهم ، وبعده - كما في " شرح الإقناع " - .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } خبر لمحذوف . أي : الأمر ذلك . أو مفعول لمقدر : { وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : لنتقم منهم بعقوبة عاجلة ، وكفاكم ذلك كله { وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } أي : ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين فيثيبهم ، ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق { وَالَّذِينَ قُتِلُوا } أي : استشهدوا . وقرئ : قَاْتِلُوْا : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ 5 ، 6 ] .
{ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي : بيّنها لهم في كثير من آياته ، تعريفاً يشوق كل مؤمن أن يسعى لها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ 7 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } أي : الظفر والتمكين في الأرض ، وإرث ديار العدو .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ 8 - 9 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [ 8 - 9 ] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ } أي : خزياً وشقاءً . وأصله من السقوط على الوجه ، كالكبِّ { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : جعلها على غير هدى واستقامة { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ } أي : من الحق ، وشايعوا ما ألفوه من الباطل { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } كعبادتهم لأوثانهم ، حيث لم تنفعهم ، بل أوبقهم بها فأصلاهم سعيراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ 10 ] .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المكذّبة رسلها ، الرادة نصائحها { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : ما اختص بهم ، وكان لهم ، يقال : دمّره بمعنى أهلكه ، ودمّره عليه : أهلك ما يختص به من المال والنفس . فالثاني أبلغ ، لما فيه من العموم ، لجعل مفعوله نسياً منسياً ، فيتناول نفسه ، وكل ما يختص به . والإتيان بـ : على ؛ لتضمنه معنى أطبق عليه ، أي : أوقعه عليهم محيطاً بهم ، أو هجم الهلاك عليهم { وَلِلْكَافِرِينَ } يعني المكذّبين رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَمْثَالُهَا } أي : أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [ 11 ، 12 ] .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } أي : لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب ، إذا حاق بهم { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ } أي : غير مفكّرين في المعاد ، ولا معتبرين بسنة الله ، كغفلة الأنعام عن النحر والذبح ، فلا هم لهم إلا الاعتلاف دون غيره { وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي : مأواهم بعد مماتهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ * أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } [ 13 ، 14 ] .
{ وَكَأَيِّن } أي : وكم : { مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } يعني مكة ، على حذف مضاف : { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي : على برهان ، وحجة ، وبيان من أمر ربه ، والعلم بوحدانيته ، فهو يعبده على بصيرة منه { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } أي : فأراه إياه الشيطان حسناً ، فهو مقيم عليه { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } [ 15 ] .
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ } أي : متغيّر الريح : { وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي : من القذى ، وما يوجد من عسل الدنيا : { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } أي : من فرط حرارته .
لطيفة :
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ } مبتدأ خبره : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ } بتقدير حرف إنكار ومضاف ؛ أي : أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد . أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد . فلفظ الآية ، وإن كان في صورة الإثبات ، هو في معنى الإنكار والنفي ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، وانسحاب حكمه عليه ، وهو قوله : { أَفَمَن كَانَ } الخ ، وليس في اللفظ قرينة على هذا ، وإنما هو من السياق ، وإن فيه جزالة المعنى ، وثم أعاريب أخر ، هذا أمتنها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } [ 16 ] .
{ وَمِنْهُم } أي : ومن هؤلاء الكفار : { مَّن } أي : كافر منافق : { يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } أي : من الصحابة ، استهزاء بما سمعوه من المتلو ، وتهاوناً به : { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أي : الساعة . هل فيه هدى ؟ فإن بينوه لم يستفيدوا منه شيئاً { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : فلا يدخلها الهدى لإبائهم عنه : { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } أي : آرائهم ، لا ما يدعوا إليه البرهان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ 17 ] .
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا } أي : بإتباع الحق ، والمشي مع الحجة : { زَادَهُمْ هُدًى } أي : بياناً لحقيقة ما جاءهم : { وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } أي : أعانهم عليها . أو آتاهم جزاء تقواهم ، أو بين لهم ما يتقون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } [ 18 ] .
{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } قال ابن كثير : أي : أمارات اقترابها ، كقوله تبارك وتعالى : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ } [ النجم : 56 - 57 ] ، وكقوله جلت عظمته : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] ، وقوله سبحانه وتعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، وقوله جل وعلا : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] . فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ، لأنه خاتم الرسل ، الذي أكمل الله تعالى به الدين ، وأقام به الحجة على العالمين . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها ، وأبان عن ذلك وأوضحه ، بما لم يؤته نبيّ قبله ، كما هو مبسوط في موضعه .
وقال الحسن البصري : بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ، وهو كما قال ، ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبيّ التوبة ، ونبيّ الملحمة ، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه ، والعاقب الذي ليس بعده نبي .
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا - بالوسطى ، والتي تليها - : < بعثت أنا والساعة كهاتين > .
{ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي : ذكرى ما قد ضيعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة . يعني : أن ليس ذلك بوقت ينفعهم فيه التذكر والندم ؛ لأنه وقت مجازاة ، لا وقت استعتاب واستعمال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } [ 19 ] .
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } قال ابن جرير : أي : فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهية ويجوز لك وللخلق عبادته ، إلا الله الذي هو خالق الخلق ، ومالك كل شيء . يدين له بالربوبية كل ما دونه . والفاء فصيحة في جواب شرط معلوم ، مما مر من أول السورة إلى هنا ، من حال الفريقين .
قال السيوطي : وقد استدل بالآية من قال بوجوب النظر ، وإبطال التقليد في العقائد ، ومن قال بأن أول الواجبات ، المعرفةُ قبل الإقرار .
{ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } قال ابن جرير : أي : وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها ، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء . قال الشهاب : وإنما أعيد الجار ؛ لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ذنوبهم معاص كبائر وصغائر ، وذنبه ترك الأولى .
وقال السيوطي : استدل بالآية من أجاز الصغائر على الأنبياء . انتهى .
والمسألة مبسوطة بأقوالها ، وما لها وما عليها في " الفصل " لابن حزم ، فارجع إليه .
وفي " الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي هزلي ، وجدي ، وخطاياي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي > .
وفي " الصحيح " أنه كان يقول في آخر الصلاة : < اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني . أنت إلهي لا إله إلا أنت > .
وفي " الصحيح " أنه قال : < يا أيها الناس ! توبوا إلى ربكم ، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة > .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي : متصرفكم فيما تتصرفون فيه ، وإقامتكم على ما تقيمون عليه من الأقوال والأعمال ، فيجازيكم عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } [ 20 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي : تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } أي : مبيّنة لا تقبل نسخاً ولا تأويلاً { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } أي الأمر بقتال المشركين : { رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك في الدين ، وضعف في اليقين : { يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : من فزعهم ، ورعبهم ، وجبنهم من لقاء الأعداء . شبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره : { فَأَوْلَى لَهُمْ } قال الشهاب : اختلف فيه ، بعد الاتفاق على أن المراد به التهديد ، والوعيد ، على أقوال :
فذهب الأصمعي إلى أنه فعل ماض بمعنى قارب . وقيل : قرّب بالتشديد ، ففاعله ضمير يرجع لما علم منه ، أي : قارب هلاكهم . والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي ، بمعنى القرب . وقال أبو علي : إنه اسم تفضيل من الويل . والأصل أويل ، فقلب ، فوزنه أفلع . وردّ بأن الويل غير متصرف ، وأن القلب خلاف الأصل ، وفيه نظر . وقد قيل : إنه فَعلى ، من آل يؤول . وقال الرضي : إنه علم للوعيد ، وهو مبتدأ ، ولهم خبره . وقد سمع فيه أولاة بتاء تأنيث . وهو كما قيل ، يدل على أنه ليس بأفعل تفضيل ، ولا أفعل فُعلى ، وأنه علم وليس بفعل ، بل مثل أرمل وأرملة ، إذا سمي بهما ، فلذا لم ينصرف . ولا اسم فعل ؛ لأنه سمع فيه أولاةٌ معرباً مرفوعاً ، ولو كان اسم فعل بني . وفيه أن لا مانع من كون أولاة ، لفظا آخر بمعناه ، فلا يرد شيء منه عليهم أصلاً ، كما جاء أول أفعل تفضيل ، واسم ظرف كـ : قبل ، وسمع فيه أولة - كما نقله أبو حيان - فلا يرد النقص به كما لا يخفى . انتهى .
قال السمين : إذا قلنا باسميته . ففيه أوجه :
أحدهما - أنه مبتدأ ، ولهم خبره ، تقديره : فالهلاك لهم .
والثاني - أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : العقاب أو الهلاك أولى لهم ، أي : أقرب وأدنى ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء . أي : أولى وأحق لهم .
الثالث - أنه مبتدأ ، ولهم متعلق به ، واللام بمعنى الباء ، وطاعة خبره ، والتقدير : فأولى بهم طاعة دون غيرها ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } [ 21 ] .
{ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } فيه أوجه :
أحدها - أنه خبر أولى على ما تقدم .
الثاني - أنها صفة السورة . أي : فإذا أنزلت سورة محكمة طاعة ، أي : ذات طاعة ، أو مطاعة . ذكره مكيّ ، وأبو البقاء . وفيه بعد ، لكثرة الفواصل .
الثالث - أنها مبتدأ ، وقول عطف عليها ، والخبر محذوف . تقديره : أمثل بكم من غيرهما . وقدّره مكيّ : منا طاعة ، فقدّره مقدماً . الرابع - أن يكون خبر مبتدأ محذوف . أي : أمرنا طاعة .
الخامس - أن لهم : خبر مقدم ، وطاعة : مبتدأ مؤخر . والوقف والابتداء يعرفان مما قدمته ، فتأمل - أفاده السمين - .
{ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ } أي : جد الحال ، وحضر القتال : قال أبو السعود : أسند العزم ، وهو الجد إلى الأمر ، وهو لأصحابه ، مجازاً . كما في قوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] ، وعامل الظرف محذوف . أي : خالفوا وتخلفوا . وقيل ناقضوا . وقيل : كرهوا . وقيل : هو قوله تعالى : { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } على طريقة قولك : إذا حضرني طعام ، فلو جئتني لأطعمتك . أي : فلو صدقوه تعالى فيمل قالوه من الكلام المنبئ عن الحرص على الجهاد ، بالجري على موجبه : { لَكَانَ } أي : الصدق : { خَيْراً لَّهُمْ } أي : في عاجل دنياهم ، وآجل معادهم . قيل : فلو صدقوه في الإيمان ، وواطأت قلوبهم في ذلك ألسنتهم . وأيّاً ما كان ، فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض ، وهم المخاطبون بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ 22 ] .
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ } أي : أعرضتم عن تنزيل الله تعالى ، وفارقتم أحكام كتابه ، وما جاء به رسوله : { أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } أي : بالتغاور والتناهب : { وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } أي : تعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرق ، بعد ما جمعكم الله بالإسلام ، وألف به بين قلوبكم ، وأمركم بالإصلاح في الأرض ، وصلة الأرحام . وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال ، وبذل الأموال . وقد ساق ابن كثير هنا من الأحاديث في صلة الرحم لباب اللباب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ 23 ] .
{ أُوْلَئِكَ } إشارة إلى المذكورين : { الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ } أي : عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم : { وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } أي : لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس ، والآفاق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ 24 ] .
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } قال ابن جرير : أي : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في أي : القرآن الذي أنزله على نبيه عليه السلام ، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله ، فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } أي : فلا يصل إليها ذكر ، ولا ينكشف لها أمر . وتنكير القلوب للإشعار بفرط جهالتها ونُكرها ، كأنها مبهمة منكورة . والأقفال مجاز عما يمنع الوصول . وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميز لها عما عداها ، وللإشارة إلى أنها لا تشبه الأقفال المعروفة ؛ إذ لا يمكن فتحها أبداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } [ 25 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم } أي : عادوا لما كانوا عليه من الكفر : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } أي : الحق بواضح الحجة : { الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } أي : زين لهم ارتدادهم وحملهم عليه : { وَأَمْلَى لَهُمْ } أي : ومدّ لهم في الآمال والأماني ، أو أمهلهم الله تعالى ، فمد في آجالهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة . والمعنى : الشيطان سول لهم ، والله أملى لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } [ 26 ] .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم : { قَالُوا } أي : المنافقون : { لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ } أي : لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ } أي : بعض أموركم ، أو ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد ، والتظاهر على الرسول ، أو الخروج معهم إن أخرجوا ، كما أوضح ذلك قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] ، وهم بنو قريظة ، والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادّونهم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } أي : إخفاءهم لما يقولونه لليهود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ 27 ، 28 ] .
{ فَكَيْفَ } أي : يفعلون ويدفعون ضرر الردة عليهم : { إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } أي : التي ولوها عن الله إلى أعدائه : { وَأَدْبَارَهُمْ } أي : التي ولوها عن الأعداء إلى الله { ذَلِكَ } أي : التوفي الهائل : { بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } أي : من إطاعة أعدائه { وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } أي : في معاداتهم ، فأدى بهم إلى الردة : { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } أي : التي كانت تفيدهم النجاة من ذلك الضرب ، ومن الفضائح الدنيوية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } [ 29 ] .
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي : نفاق تفرع منه أضغان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين : { أَن لَّن يُخْرِجَ } أي : يظهر : { اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } أي : أحقادهم لرسوله وللمؤمنين ، فتبقى أمورهم مستورة . والمعنى : أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ 30 ، 31 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ } أي : لعرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية : { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أي : بعلامتهم التي نسمهم بها : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } أي : أسلوبه وما يرمون من غير إيضاح به .
قال في " الإكليل " : استدل بالآية من جعل التعريض بالقذف موجباً للحد .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } أي : فيجازيكم بحسب قصدكم { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } أي : أهل المجاهدة في سبيل الله ، والصبر على المشاق : { وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } أي : أفانين أقوالكم ، وضروب بياناتكم ، وأعمال قوة ألسنتكم في نشر الحق ، والصدع به ، والدأب عليه ، هل هو متمحض لذلك ، أم فيه ما فيه من المحاباة خيفة لوم اللائم .
قال القاشاني : علم الله تعالى قسمان : سابقٌ على معلوماته إجمالاً في لوح القضاء ، وتفصيلاً في لوح القدر ، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية ، والنفوس السماوية الجزئية . فمعنى : { حَتَّى نَعْلَمَ } حتى يظهر علمنا التفصيليّ في المظاهر الملكوتية والإنسية ، التي يثبت بها الجزاء - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } [ 32 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } أي : فتذهب سدى ، لا تثمر لهم نفعاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ 33 ، 34 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } أي : لكن يعذبهم ويعاقبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [ 35 ] .
{ فَلَا تَهِنُوا } أي : فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد الذين اعتدوا عليكم ، وصدوا عن سبيل الله { وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ } أي : الصلح والمسالمة : { وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ } أي : الأغلبون ، فإن كسح الضلال من طريق الحق لا منتدح عنه ، ما تيسرت أسبابه ، وقهرت أربابه : { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } أي : بنصره ما تمسكتم بحبله : { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي : لن ينقصكم ثوابها ويضيعها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } [ 36 ] .
{ إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي : فلا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك الجهاد : { وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } أي : ثواب إيمانكم وتقواكم : { وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } أي : لأنه غني عنكم ، وإنما يريد منكم التوحيد ، ونبذ الأوثان ، والطاعة لما أمر به ونهى عنه .
قال بعض المفسرين : أي : لا يسألكم جميع أموالكم ، بل يقتصر منكم على جزء يسير ، كربع العشر وعشره . إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للمعلوم ، وهو معطوف على الجزاء . والمعنى : إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع ، أي : لا يأخذه منكم ، كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم . ولا يخفى حسن مقابلته لقوله : { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } أي : يعطكم كل الأجور ، ويسألكم بعض المال - هذا ما قاله الشهاب - .
والظاهر أن المراد بيان غناه تعالى عن عباده ، وأن طلب إنفاق الأموال منهم ، لعود نفعه إليهم لا إليه ، لاستغنائه المطلق ، فإن في الصدقات دفع أحقاد صدور الفقراء عنهم ، وفي بذله للجهاد دفع غائلة الشرور والفساد ، وكله مما يعود ثمرته عليهم .
ثم أشار تعالى إلى حكمته ، ورحمته في عدم سؤاله إنفاق أموالهم كلها ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ 37 ] .
{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا } أي : فيجهدكم بالمسألة ، ويلح عليكم بطلبها منكم ، تبخلوا بها وتمنعوها ، ضنّاً منكم بها ، ولكنه علم ذلك منكم ، ومن ضيق أنفسكم ، فلم يسألكموها .
قال الزمخشري : الإحفاء المبالغة ، وبلوغ الغاية في كل شيء . يقال : أحفاه في المسألة ، إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه ، إذا استأصله .
{ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } أي : أحقادكم ، وكراهتكم لدينٍ يذهب بأموالكم . وضمير يخرج لله تعالى ، ويعضده القراءة بنون العظمة . أو للبخل لأنه سبب الأضغان . وقرئ يخرج من الخروج ، بالياء والتاء ، مسنداً إلى الأضغان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ 38 ] .
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : في جهاد أعدائه ، ونصرة دينه : { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } أي : بالنفقة فيه { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي : يمسكه عنها ، لأنه يحرمها الأجر ، ويكسبها الوزر : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ } أي : عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه . ولهذا قال سبحانه : { وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء } أي : بالذات إليه . فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم ، لا ينفكون عنه ، أي : وإذا كان كذلك ، فإنما حضكم في النفقة في سبيله ليكسبكم بذلك ، الجزيلَ من ثوابه . وليعلم أن سبيل الله يشمل كل ما فيه نفع وخير ، وفائدة ، وقربة ، ومثوبة . وإنما اقتصر المفسرون على الجهاد لأنه فرده الأشهر ، وجزئيه الأهم ، وقت نزول الآيات ، وإلا فلا ينحصر فيه .
{ وَإِن تَتَوَلَّوْا } أي : عما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم : { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أي : يهلككم ثم يأتي بقوم آخرين غيركم ، بدلاً منكم ، يؤمنون به ، ويعملون بشرائعه .
{ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } أي : لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله ، ولا يضيعون شيئاً من حدود دينهم ، ولكنهم يقومون بذلك كله ، على ما يؤمرون به .
بسم الله الرحمن الرحيم

(/)


سورة الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ 1 ] .
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال الرازي : في الفتح وجوه :
أحدها - فتح مكة ، وهو ظاهر .
وثانيها - فتح الروم وغيرها .
وثالثها - المراد من الفتح ، صلح الحديبية .
ورابعها - فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان .
وخامسها - المراد منه الحكم ، كقوله : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 89 ] ، وقوله : { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } [ سبأ : 26 ] . انتهى .
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها ، مما يصدق عليها الفتح الرباني ، وجميعها مما تحقق مصداقه . إلا أن سبب نزول الآية ، الذي حفظ الثقات زمنه ، يبين المراد من الفتح بياناً لا خلاف معه ، وهو أنه الوجه الثالث المذكور .
قال الإمام ابن كثير : نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ، ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك ، على تكرّهٍ من جماعة من الصحابة ، منهم عُمَر بن الخطاب ، رضي الله عنهم كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى . فلما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أُحصر ورجع ، أنزل الله عز وجل هذه السورة ، فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحاً ، باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية . وعن جابر رضي الله عنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية . روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتحَ مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ، يوم الحديبية .
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : < لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض > ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم - أخرجاه في " الصحيحين " من رواية قتادة به - .
وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس ، ينفرون الأباعر . فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نرجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
قال ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي : رسول الله ! أو فتح هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أي : والذي نفس محمد بيده ! إنه لفتح . ورواه أبو داود في الجهاد .
ثم قال ابن كثير : فالمراد بقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } - أي : بيناً ظاهراً - هو صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وأمِن الناس ، واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان . انتهى .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ، ما مثاله :
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم ، أمن الناس به ، وكلّم بعضهم بعضاً ، وناظره في الإسلام ، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه ، والدعوة إليه ، والمناظرة عليه ، ودخل بسببه بشرٌ كثيرٌ في الإسلام ؛ ولهذا سماه الله فتحاً في قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } نزلت في الحديبية ، فقال عمر : يا رسول الله ! أو فنح هو ؟ قال : نعم . وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحاً قريباً . وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها, المنبئة لها وعليها ، كما قدم بين يدي قصة المسيح ، وخلقه من غير أب ، قصة زكريا ، وخلق الولد له ، مع كونه كبيراً ، لا يولد لمثله . وكما قدم بين يدي نسخ القبلة ، قصة البيت ، وبنائه ، وتعظيمه ، والتنويه به ، وذكر بانيه ، وتعظيمه ومدحه . ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ ، وحكمته المقتضية له ، وقدرته الشاملة له . وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل ، وبشارات الكهان به ، وغير ذلك . وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة . وكذلك الهجرة ، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد . ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر ، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب . انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ 2 ] .
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ } قال أبو السعود : غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى ، بمكابدة مشاقّ الحروف ، واقتحام موارد الخطوب { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } أي : جميع ما فرط منك ، من ترك الأولى . وتسميته ذنباً ، بالنظر إلى منصبه الجليل .
قال ابن كثير : هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره ، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وهذا فيه تشريف عظيم لرسول اله صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبرّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ، ولا من الآخرين . وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة . ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله ، وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه ، قال حين بركت به الناقة : حبسها حابس الفيل . ثم قال صلى الله عليه وسلم : < والذي نفسي بيده ! لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها ، فلما أطاع الله في ذلك ، وأجاب إلى الصلح ، قال الله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الآيات > .
وقوله تعالى : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : بإظهاره إياك على عدوّك ، ورفعه ذكرك { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي : ويرشدك طريقاً من الدين لا عوج فيه . قال أبو السعود : أصل الاستقامة ، وإن كانت حاصلة قبل الفتح ، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق ، واستقامة مناهجه ، ما لم يكن حاصلاً قبل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } [ 3 ] .
{ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } أي : قوياً منيعاً ، لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، للبأس الذي يؤيدك الله به ، والظفر الذي يمدك به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 4 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : السكون ، والطمأنينة إلى الإيمان ، والحق { لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } أي : يقيناً منضماً إلى يقينهم .
قال القاشاني : السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن . وهو من مبادئ عين اليقين ، بعد علم اليقين ، كأنه وجدانٌ يقينيّ معه لذة وسرور .
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : في تقديره وتدبيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } [ 5 ] .
واللام في قوله تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } متعلق بمحذوف ، نحو : أمر بالجهاد ليُدخل . . . الخ . أو دبّر ما دبّر مما ذكر لذلك ، أو متعلق بـ : { فَتَحْنَا } على تعلق الأول به مطلقاً ، وهذا مقيداً ، أو بقوله : { لِيَزْدَادُواْ } { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ 6 ] .
{ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } أي : ظن الأمر السوء ، وهو أن لا ينصر تعالى رسوله والمؤمنين : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } أي : بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع ، كالقتل ، والإهانة ، والإذلال . وقرئ : { دَاْئِرَةُ السُّوْءِ } بالضم , وهما لغتان من ساء كالكُره والكَره : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : بالقهر ، والحجب : { وَلَعَنَهُمْ } أي : بالطرد ، والإبعاد في الآخرة : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 7 ] .
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } قيل في سر التكرير : إنه ذكر سابقاً على أن المراد به أنه المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته ، فلذلك ذيله بقوله : { عَلِيماً حَكِيماً } ، وهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم ، فلذا ذيله بقوله : { عَزِيزاً حَكِيماً } فلا تكرار . وقيل : إن الجنود جنود رحمة ، وجنود عذاب ، وأن المراد هنا الثاني ، ولذا تعرّض لوصف العزة . وقال القاشاني : كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين ، بعكس ما فعل بالمؤمنين . وبدّل : { عَلِيماً } بقوله : { عَزِيزاً } ليفيد معنى القهر والقمع ؛ لأن العلم من باب اللطف ، والعزة من باب القهر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ 8 ] .
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي : على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه : { وَمُبَشِّراً } أي : لمن استجاب لك بالجنة : { وَنَذِيراً } أي : لمن خالفك بالنار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ 9 ] .
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ } أي : تؤيدوا دينه ، وتقرّوه : { وَتُوَقِّرُوهُ } أي : تعظّموه : { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : غدوة وعشياً - على ظاهره - أو دائماً ، بجعل طرفي النهار كناية عن الجميع ، كما يقال : شرقاً وغرباً ، لجميع الدنيا . والضمائر كلها - على ما ذكرنا - لله ، وجوّز إعادة الأولين للرسول ، والأخير لله إلا أن فيه تفكيكاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ 10 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ } أي : على قتال قريش تحت الشجرة ، وأن لا يفرّوا عند لقاء العدو ، ولا يولوهم الأدبار { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } أي : لأن عقد الميثاق مع رسول الله ، كعقده مع الله ، من غير تفاوت ؛ لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى ، ونواهيه { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } تأكيد لما قبله . أي : أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم ، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم . وقال القاشاني : أي : قدرته البارزة في يد الرسول ، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم ، فيضرهم عند النكث ، وينفعهم عند الوفاء .
{ فَمَن نَّكَثَ } أي : نقض عهده : { فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : لعود ضرر ذلك عليه خاصة { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } وهو الجنة .
تنبيه :
هذه البيعة هي بيعة الرضوان . وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية . وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفاً وأربعمائة ، وقيل : وثلاثمائة ، وقيل : خمسمائة . والأول أصح - على ما قاله ابن كثير - وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة . ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها ، لزم إيرادها مفصلة .
قال ابن إسحاق : خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة معتمراً ، لا يريد حرباً . واستنفر العرب ، ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت . فأبطأ عليه كثير من الأعراب . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ، ومعظماً له .
وقال الإمام ابن القيم : قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة . وكان معه ألف وخمسمائة . هكذا في " الصحيحين " عن جابر . وفيهما عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفاً وثلاثمائة . وعن جابر فيهما : كانوا ألفاً وأربعمائة - والقلب إلى هذا أميل - وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع . ثم لما كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي ، وأشعر ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عيناً له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريباً من عسفان ، أتاه عينه فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت .
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : < أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله ؟ أم ترون أن نؤم البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ > [ وفي المطبوع : وإن نجوا يكن عنق ] قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ! إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد . ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < فروحوا إذن > . فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن خالد بن الوليد بالغميم ، في خيل قريش ، فخذوا ذات اليمين > فو الله ! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة [ في المطبوع : بعترة ] الجيش . فانطلق يركض نذيراً لقريش . وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم ، بركت راحلته . فقال الناس : حَلْ حَلْ ، فألحّت : فقاوا : خلأت القصواء ! خلأت القصواء ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلُق ، ولكن حبسها حابس الفيل ! ثم قال : والذي نفسي بيده ! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها > .
ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس نبرضاً ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فانتزع سهماً من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه . قال : فو الله ! ما زال يجيش لهم بالريّ ، حتى صدروا عنه . وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه ، فدعا عُمَر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ! ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش وقال : < أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً ، وادعهم إلى الإسلام . - وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم - ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهرٌ دينه بمكة ، حتى لا يستخفي فيها بالإيمان > .
فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله والإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً . فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك . وقام إليه أَبَان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه . فحمل عثمانَ على الفرس وأجاره ، وأردفه أَبَان حتى جاء مكة . وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون ! > فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله ، وقد خلص ؟ قال : < ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معاً > واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل . فدعا إلى البيعة ، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال : < هذه عن عثمان > .
ولما تمت البيعة رجع عثمان . فقال المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ؟ فقال : بئس ما ظننتم بي ! والذي نفسي بيده ! لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها ، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ! فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله ! وأحسننا ظنّاً . وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم ، إلا الجد [ في المطبوع : الحر ] بن قيس ، وكان مَعْقِل بن يسار آخذاً بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم .
فبينا هم كذلك إذ جاء بديل [ بن ] ورقاء الخُزَاعِي في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم : فإن شاؤوا أماددهم ويخلّوا بيني وبين الناس . وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا . وإن أبوا إلا القتال ، فو الذي نفسي بيده ! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره > .
قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشاً فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال سمعته يقول كذا وكذا . فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، ودعوني آته . فقالوا : ائته . فأتاه ، فجعل يكلمه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل . فقال له عروة عند ذلك : أي : محمد ! أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح [ في المطبوع : اجناح ] أهله قبلك ؟ وإن تكن أخرى ، فو الله إني لأرى وجوهاً ، وأرى أوشاباً من الناس ، خليقاً أن يفروا ويدعوك ! فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن نفر عنه وندعه ! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده ! لولا يد كانت لك عندي لم أَجزك بها ، لأجبتك ! وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته . والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، وعليه المغفر . فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة . فقال : أي : غدر ! أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية . فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء > .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فو الله ! ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له . فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي : قوم ! لقد وفدت على الملوك : على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً . والله ! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له . وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له > فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت . فقام مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : < هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر > فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينا هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عَمْرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قد سهل لكم من أمركم > فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً . فدعا الكاتب ، فقال : < اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم > . فقال سهيل : أما الرحمن فو الله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < اكتب : باسمك اللهم > . ثم قال : < اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله > فقال سهيل : فو الله ! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < إني رسول الله وإن كذبتموني ! اكتب : محمد بن عبد الله > . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به > فقال سهيل : والله ! لا تتحدث العرب أننا أُخذنا ضغطةً ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته إلينا . فقال المسلمون سبحانه الله ! كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلماً ؟ !
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين . فقال سهيل : هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < إنا لم نقض الكتاب بعد > فقال : فو الله ! إذن لا أصالحك على شيء أبداً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < فأجزه لي > [ في المطبوع : فأجره ] قال : ما أنا بمجيزه [ في المطبوع : بمجيره ] لك ، قال : < بلى ، فافعل > . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : قد أجزناه لك . فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ، ألا ترون ما لقيت - وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله - .
قال عمر ابن الخطاب : والله ! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ! ألست نبي الله ؟ قال : < بلى ! > قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : < بلى ! > فقلت : على ما نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : < إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه > . قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : < بلى ! أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ > قلت : لا ! قال : < فإنك آتيه ، وتطوف به ! > قال فأتيت أبو بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله ! إنه لعلى الحق . قال عمر فعملت لذلك أعمالاً .
فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < قوموا وانحروا ثم احلقوا > . فوالله ! ما قام منهم رجل حتي قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ! أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بُدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك . فقام فخرج فلم يلكم أحداً منهم ، حتى فعل ذلك ؛ نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه . فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً .
ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ، حتى بلغ : { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك . فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية . ثم رجع إلى المدينة ، وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } الآيات . فقال لعمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ قال : < نعم ! > فقال الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله ! فمالنا ! فأنزلنا الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الفتح : 4 ] ، الآية .
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير - رجل من قريش - مسلماً ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا : العهد الذي جعلت لنا ! فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيداً ، فاستله الآخر ، فقال : أجل ! والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت . فقال أبو بصير أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد ، وفرّ الآخر يعدو ، حتى بلغ المدينة ، فدخل المسجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : < لقد رأى هذا زعراً > . فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قُتل والله ! صاحبي ، وإني لمقتول . وجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله ! قد أوفى الله ذمتك ، وقد رددتني إليهم ، فأنجاني الله منهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد > .
فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة . فوالله ! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم . وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فأنزل الله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } [ الفتح : 24 ] الآية .
وجرى الصلح بين المسلمين ، وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين ، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض ، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك ، حتى إذا كان العام المقبل ، قدمها ، وخلّوا بينه وبين مكة ، فأقام بها ثلاثاً ، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب ، والسيوف في القرب ، وأن من أتانا من أصحابكم لم نرده عليك ، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا ، وأن بيننا وبينك عيبةً مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال . فقالوا : يا رسول الله ! نعطيهم هذا ؟ فقال : من أتاهم منا ، فأبعده الله ، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم ، جعل الله له فرجاً ومخرجاً .
هذا ولنظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في " زاد المعاد " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 11 ] .
{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } قال مجاهد : هم أعراب المدينة ، كجهينة ومزينة ، استتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه إلى مكة ، فقالوا : نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه ، فقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم . فاعتلوا بالشغل . أي : سيقولون لك إذا عاتبتهم على التخلف عنك : شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا ، وإصلاح معايشنا ، والخوف على أهلنا من الضيعة ، فاستغفر لنا ربنا .
وقوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } تكذيب لهم في اعتذارهم ، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله ، والنفاق . وكذا طلبهم للاستغفار أيضاً ، ليس بصادر عن حقيقة ؛ لأنه بغير توبة منهم ، ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف . وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به ، ما لم يكن مترجماً عن الاعتقاد الحق .
{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أي : لا أحد يمنعه تعالى من ذلك ؛ لأنه لا يغالبه غالب . إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم ، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم ، ولذا هددهم بقوله سبحانه : { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي : فيجازيكم عليه .
لطيفة :
قال الناصر : لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف . وكان الأصل - والله أعلم - : فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرد بكم ضراً ، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً ؛ لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر . وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطرداً ، كقوله : { فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } [ المائدة : 17 ] ، { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] ، { فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } [ الأحقاف : 8 ] . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الحديث : < إني لا أملك لكم شيئاً > - يخاطب عشيرته - وأمثاله كثيرة .
وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه ، وليس كذلك حرمان المنفعة ، فإنه ضرر عائد عليه ، لا له . فإذا ظهر ذلك ، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه ، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير وشر ، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة ، وخص عبارة دفع الضر ؛ لأنه هو المتوقع لهؤلاء ؛ إذ الآية في سياق التهديد ، أو الوعيد الشديد . وهي نظير قوله : { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [ الأحزاب : 17 ] ، فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة . فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً * وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً } [ 12 ، 13 ] .
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ } أي : اعتقدتم أنه لن يرجع : { الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أي : بل تستأصلهم قريش { وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : حسّن الشيطان ذلك وصححه ، حتى حبب لكم التخلف { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ } وهو عدم نصر الرسول ، وعدم رجوعهم من سفرهم هذا { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } هالكين ، مستوجبين لسخط الله ، أو فاسدين في أعمالكم ونياتكم { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً } أي : من النار تستعر [ في المطبوع : تسعتر ] عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 14 ] .
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } قال ابن جرير : هذا من الله جل ثناؤه حثٌّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على التوبة ، والمراجعة إلى أمر الله ، في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . يقول لهم : بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يغفر للتائبين ؛ لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ، ومعاصيهم من عباده ، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ 15 ] .
{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ } أي : بعذر الاشتغال بأموالهم ، وأهليهم بعد طلبهم الاستغفار لهم : { إِذَا انطَلَقْتُمْ } أي : قصدتم السير : { إِلَى مَغَانِمَ } أي : أماكنها . قال ابن جرير : وذلك ما كان الله وعد [ في المطبوع : وعد الله ] أهل الحديبية من غنائم خيبر : { ذَرُونَا } أي : اتركونا في الانطلاق إليها : { نَتَّبِعْكُمْ } أي : نشهد معكم قتال أهلها : { يُرِيدُونَ } أي : بعد ظهور كذبهم في الاعتذار ، وطلب الاستغفار : { أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } قال ابن جرير : أي : وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم ، ووعدهم ذلك عوضاً من غنائم أهل مكة ؛ إذ انصرفوا عنهم [ في المطبوع : عنها ] على صلح ، ولم يصيبوا منهم شيئاً .
وقال آخرون : بل عنى بقوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } إرادتهم الخروج مع نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة . وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة : { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] ، والأكثرون على الأول . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست ، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم ، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ، ففتحها وغنم أموالاً كثيرة ، فخصها بهم .
قال الشراح : وكان ذلك بوحي . ثم كانت غزوة تبوك بعد فتح خيبر ، وبعد فتح مكة أيضاً . وفي منصرفه من تبوك نزل قوله تعالى : { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } [ التوبة : 83 ] الآية . فكيف يحمل على ما كان في غزوة الحديبية ، وقد نزل بعدها بكثير ؟ - والله أعلم - { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } أي : إلى خيبر إذا أردنا السير إليها . وهو نفي في معنى النهي . قال الشهاب : فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي ، وهو أبلغ .
{ كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } قال ابن جرير : أي : من قبل مرجعنا إليكم . إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها ، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر ، لأن غنيمتها لغيركم : { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } أي : أن نصيب معكم مغنماً إن نحن شهدنا معكم ، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم . قال الشهاب : وهو إضراب عن كونه بحكم الله . أي : بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسداً .
{ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ } أي : عن الله تعالى ما لهم وما عليهم من أمر الدين : { إِلَّا قَلِيلاً } أي : فهماً قليلاً ، وهو ما كان في أمور الدنيا ، كقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الروم : 7 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 16 ] .
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ } أي : عن المسير معك : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : يفوق قتال من أقاتلهم ، بحيث لا دخل للصلح والأمن فيه ، بل : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أي : يدخلون في الدنيا من غير حرب ولا قتال . وقرئ شاذاً : { أو يسلموا } بمعنى إلا أن يسلموا ، أو حتى يسلموا { فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً } يعني الغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة : { وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ } أي : عن الحديبية : { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي : لتضاعف جرمكم .
ثم خص من هذا الوعيد أصحاب الأعذار ، وإن حدثت بعد التخلف الأول ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } [ 17 ] .
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ } قال المهايمي : وإن أمكنه القتال بإحساس صوت مشي العدو ، ومشي فرسه ، لكن يصعب عليه حفظ نفسه عنه { وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ } أي : وإن أمكنه القتال قاعداً ، لكن لا يمكنه الكرّ والفرّ ، ولا يقوى قوة القائم : { وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي : فإنه وإن أمكنه الإبصار والقيام ، فلا قوة له في دفع العدو ، فضلاً عن الغلبة عليه .
ثم أشار تعالى إلى أن هؤلاء ، وإن فاتهم الجهاد ، لا ينقص ثوابهم إذا أطاعوا الله ورسوله ، بقوله سبحانه : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ } أي عن إطاعتهما ، وإن كان أعمىً ، أو أعرجاً [ في المطبوع : أعرج ] ، أو مريضاً : { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } أي : بالمذلة دنيا ، والنار أخرى .
تنبيه :
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم أولو بأس شديد - على أقوال :
أحدها - أنهم هوزان .
الثاني - ثقيف ، وكلاهما غزاه النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث - بنو حنيفة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب ، وغزاهم أبو بكر رضي الله عنه .
الرابع - أهل فارس والروم ، الذين غزاهم عمر رضي الله عنه .
ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية ، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة . ولو عد من الأوجه كفار مكة ، لم يبعد ، بل عندي هو الأقرب ، لأن السين للاستقبال القريب ؛ فإن هذه السورة نزلت عِدةً بفتح مكة ، منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم ، التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد ، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو يسلموا ، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } [ 18 ] .
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفرّوا ، ولا يولوهم الدبر ، تحت شجرة هناك .
وقد أجمع الرواة في " الصحاح " على أن الشجرة لم تُعْلمْ بعد . ففي " الصحيحين " من حديث أبي عوانة عن طارق ، عن سعيد بن المسيب قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال : فانطلقنا من قابل حاجّين ، فخفي علينا مكانها ، وإن كانت بينت لكم ، فأنتم أعلم . وفيهما أيضاً عن سفيان قال : إنهم اختلفوا في موضعها .
وروى ابن جرير عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : كان جدي يقال له حَزْن ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، فأتيناها من قابل ، فعمّيت علينا .
ثم قال ابن جرير : وزعموا أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول : هنا ، وبعضهم يقول : ها هنا ! فلما كثر اختلافهم قال : سيروا ، هذا التكلّف ، فذهبت الشجرة ، وكانت سمرة ، إما ذهب بها سيل ، وإما شيء سوى ذلك . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة ، فيصلّون عندها ، فتوعدهم ، ثم أمر بقطعها ، فقطعت ! .
ولا ينافي ما تقدم ، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها ، أو توهّموها ، فاتخذوها مسجداً ، ومكاناً مقدساً ، فقطعها عمر حالتئذ ، صوناً لعقيدتهم من الشرك ، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد ، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها ، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها ، وإجلال مثال أصحابها .
وقال في " الفتح " أيضاً في شرح ابن عمر ، وقوله : رجعنا من العام المقبل ، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها . كانت رحمة من الله ، ما مثاله :
وقد وافق المسيب بن حَزْن ، والد سعيد ، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة . والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتنان ، لما وقع تحتها من الخير ، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها ، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر ، كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها . وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله " كانت رحمة من الله . أي : كان خفاؤها عليهم ، بعد ذلك ، رحمة من الله تعالى . انتهى .
وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان ، سميت لهذه الآية ، وتقدمت قصتها مفصلة .
{ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد : { فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } أي : في الصبر والطمأنينة والوقار { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } قال ابن جرير : أي : وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة ، بقتالهم أهلها { فَتْحاً قَرِيباً } ، وذلك - فيما قيل - فتح خيبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 19 ] .
{ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } وهي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عَقَّار وأموال ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي : ذا عزة في انتقامه من أعدائه ، وحكمه في تدبير خلقه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ 20 ] .
{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني غنائم خيبر . وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت ، إلى قيام الساعة . وقيل : المعجلة هي صلح الحديبية . والصواب هو الأول ، كما قاله ابن جرير ؛ لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة ، ولم يفتحوا فتحاً أقرب من بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية إليها ، من فتح خيبر وغنائمها { وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ } أي : أيدي أهل خيبر ، فانتصرتم عليهم ، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية . واختار ابن جرير الأول . قال : لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } الآية . أي : والتأسيس خير من التأكيد . ولك أن تقول : لا مانع من التأكيد ، لاسيما في مقام التذكير بالنعم ، والتنويه بشأنها . وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى ، والتبيين لمطلقها - والله أعلم - { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي : ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين ، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم ، والفتح لهم { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي : ويزيدكم بصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } [ 21 ] .
{ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } معطوف على : { هَذِهِ } أي : فيجّعل لكم هذه المغانم ، ومغانم أخرى ، وهي مغانم هوزان في غزوة حنين ، لأنه قال : { لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها . وقال الحسن : هي فارس والروم . قال القرطبي : وكونها معجلة ، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر ، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية .
وعن قتادة : هي مكة . قال ابن جرير : وهذا القول الذي قاله قتادة ، أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل . وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها ، ومعقول أنه لا يقال لقوم ، لم يقدروا على هذه المدينة ، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم . فأما وهم لم يرموها فتتعذر عليهم ، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان معلوماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه ، خيبرَ لحربٍ ، ولا وجّه إليها لقتال أهلها جيشاً ولا سرية ، علم أن المعنى بقوله : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } غيرها ، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت ، فكانت مكة وأهلها كذلك ، وأخبر الله تعالى نبيه والمؤمنين ، أنه أحاط بها وبأهلها ، وأنه فاتحها عليهم . انتهى .
وقال القرطبي : معنى : { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } أي : أعدها لكم ، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه ، فهو محصور لا يفوت . فأنتم ، وإن لم تقدروا عليها في الحال ، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم . وقيل : { أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } علم أنها ستكون لكم ، كما قال : { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءً عِلْماً } . وقيل : حفظها الله عليكم ، ليكون فتحها لكم . انتهى .
وقد جوز في : { أُخْرَى } أن تكون معطوفة على : { مَغَانِمَ } المنصوب بـ : { وَعَدَكُمْ } وأن تكون مرفوعة بالابتداء و : { لَمْ يَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } صفتها و : { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } خبر . وأوجه أخر .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي : لا يبعد عليه إذا شاءه .
ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر ، والنصر المستمر ، لصدق إيمانهم ، [ و ] إخلاصهم في ثباتهم ، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ 22 ، 23 ] .
{ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ } أي : بعد هذا الفتح ، والنصر المعجل : { الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ } أي ولوهم أعجازهم في الحرب ، فعل المنهزم من قرنه في الحرب { ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً } أي : من يواليهم على حربكم ، وينصرهم عليكم { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } أي : مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } أي : تغييراً .
قال ابن جرير : بل ذلك دائم . للإحسان جزاؤه من الإحسان ، وللإساءة ، والكفر العقاب ، والنكال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } [ 24 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي : قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة ، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، إشارة إلى منة الصلح ونعمته في الحديبية ، وأن ذلك عناية منه تعالى بما حفظ من أنفسهم وأموالهم ، ولطف بهم يومئذ لما ادخر لهم بعده .
وقد ذهب بعضهم إلى أنه عنى بهذا الكف ، ما كان يوم الفتح ، ونظر فيه بأن السورة نزلت قبله .
وقال ابن إسحاق : حدثني من لاأتهم عن عِكْرِمَة مولى ابن عباس أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أخذاً ، فأخذوا أخذاً . فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم . وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل . قال ابن إسحاق : ففي ذلك قال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } الآية .
وروى ابن جرير عن مجاهد قال : أقبل معتمراً نبي الله صلى الله عليه وسلم . فأخذ أصحابه ناساً من أهل الحرم غافلين ، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم . فذلك الإظفار ببطن مكة .
قال قتادة : بطن مكة ، الحديبية .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } أي : فيجازيكم عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 25 ] .
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : هؤلاء المشركون من قريش ، هم الذين جحدوا توحيد الله : { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ } أي : وصدوا الهدي أيضاً ، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم : { مَعْكُوفاً } أي : محبوساً . قال السمين : يقال : عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها . وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه ، وأثبتها ابن سيده ، والأزهري وغيرهما ، وهو ظاهر القرآن ، لبناء اسم المفعول منه . انتهى .
وقوله تعالى : { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } قال ابن جرير : أي : محل نحره . وذلك دخول الحرم ، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك ، سبعين بدنة .
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي ، الحرم .
{ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } أي : موجودون بمكة مع الكفار : { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } أي : بصفة الإيمان وهم بمكة ، حبسهم المشركون بها عنكم ، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم { أَن تَطَؤُوهُمْ } أي : تقتلوهم مع الكفار ، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح . قال السمين : { أَن تَطَؤُوهُمْ } يجوز أن يكون بدلاً من رجال ونساء ، غلب الذكور ، وأن يكون بدلاً من مفعول : { تَعْلَمُوهُمْ } . فالتقدير على الأول : ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين . وتقدير الثاني : لم تعلموا وطأهم ، والخبر محذوف تقديره : ولولا رجال ونساء موجودون ، أو بالحضرة . انتهى .
{ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ } أي : إثم وغرامة . من عرّه إذا عراه ما يكرهه . وقوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من الضمير المرفوع في : { تَطَؤَوهُمْ } أي : تطؤوهم غير عالمين بهم . وفي جواب : { لَوْلاَ } أقوال :
أحدها - أنه محذوف لدلالة الكلام عليه . والمعنى : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين ، وأنتم غير عارفين بهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، لما كف أيديكم عنهم ، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم .
والثاني - أنه مذكور ، وهو : { لَعَذَّبْنَا } وجواب لو هو المحذوف . فحذف من الأول لدلالة الثاني ، ومن الثاني لدلالة الأول .
والثالث -أن قوله : { لَعَذَّبْنَا } جوابهما معاً ، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك .
وذكر الزمخشري قريباً من هذا فإنه قال : ويجوز أن يكون : { لَوْ تَزَيَّلُوا } كالتكرير لـ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمرجعهما لمعنى واحد ، ويكون : { لَعَذَّبْنَا } هو الجواب . ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد ، قال : لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني - أفاده السمين - .
وأجاب الناصر بقوله : وإنما كان مرجعهما ههنا واحدا ، وإن كانت لولا تدل على امتناع لوجود ، ولو تدل على امتناع لامتناع . وبين هذين تناف ظاهر ؛ لأن لولا ههنا دخل على وجود ، ولو دخلت على قوله : { تَزَيَّلُوا } وهو راجع إلى عدم وجودهم . وامتناع عدم الوجود وجود . فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه . قال : وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني ، ويسميه تطرية . وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام ، وبعد عهد أوله ، واحتيج إلى رد الآخر على الأول ، فمرة يطري بلفظه ، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤادّه وقد تقدمت لهما أمثال .
تنبيه :
فسر ابن إسحاق المعرة بالدية ، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك . وهو مذهب الشافعي . وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك ، ومنهم ابن جرير ، حيث قال : المعرة هي كفارة قتل الخطأ ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك ، ومن لم يطق فصيام شهرين . قال : وإنما اخترت هذا القول ، دون القول الذي قاله ابن إسحاق ، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب - إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يكن قاتِله علم إيمانه - الكفارةَ دون الدية فقال : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لم يوجب على قاتله خطأ ديته ، فلذلك قلنا : عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة . انتهى .
{ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف ، كأنه قيل عقيبه : لكن كفها عنهم ، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم ، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة . وقد جوّز أن يكون : { مَن يَشَاءُ } عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين ، وعليه اقتصر ابن جرير ، قال : أي : ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء ، قبل أن تدخلوها . وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل ، وترتيب التعذيب عليه ، يأباه .
{ لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي : لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين ، والنساء المؤمنات ، الذين لم تعلموهم منهم : { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي : بالقتل ، أو الأسر ، أو نوع آخر من العذاب الآجل .
تنبيه :
قال إلكيا الهراسي : في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار ، إذا كان فيهم أسرى من المسلمين ، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها ، والكفار إذا تترسوا بهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 26 ] .
{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } قال ابن جرير : وذلك حين جعل سهيل بن عَمْرو في قلبه الحمية ، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، وأن يكتب فيه : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك . والعامل في الظرف إما لعذبنا ، أو صدوكم ، أو اذكر مقدراً ، فيكون مفعولاً به . والحمية الأنفة ، وهي الاستكبار والاستنكاف ، مصدر من حمى من كذا حمية .
وقوله تعالى : { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } عطف على منويّ . أي : فهم المسلمون أن يأبوا ذلك ، ويقاتلوا عليهم ، فأنزل الله سكينته على رسوله ، وعلى المؤمنين . يعني : الوقار والتثبيت ، حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل ، وعلى ما تقدم .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } أي : اختارها لهم ، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم ، وأمرهم بها . : { وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا } قال أبو السعود : أي : متصفين بمزيد استحقاق لها . على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً . وقيل : أحق بها من الكفار { وَأَهْلَهَا } أي : المستأهل لها { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } . قال أبو السعود : أي : فيعلم حق كل شيء ، فيسوقه إلى مستحقه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [ 27 ] .
{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } .
قال ابن جرير : أي : لقد صدق الله رسوله محمداً رؤياه التي أرها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين ، لا يخافون أهل الشرك ، مقصراً بعضهم رأسه ، ومحلقاً بعضهم . ثم روي عن مجاهد أنه قال : أُري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين ، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية : أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
وعن ابن زيد قال : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين ، فلما نزل بالحديبية ، ولم يدخل ذلك العام ، طعن المنافقون في ذلك فقالوا : أين رؤياه ؟ فقال الله : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ } الآية ، إني لم أُره يدخلها هذا العام ، وليكونن ذلك . و : { الرُّؤْيَا } منصوب بنزع الخافض ، أي : صدقه في رؤياه . أي : حقق صدقها عنده ، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يجعلها أضغاث أحلام . أو منصوب على أنه مفعول ثان ، وهو ما قاله الكرماني ، وعبارته : كذب ، يتعدى إلى مفعولين ، يقال : كذبني الحديث ، وكذا صدق ، كما في الآية . وهو غريب لتعدي المثقل لواحد ، والمخفف لمفعولين .
وقوله : { بِالْحَقِ } حال من الرؤيا ؛ أي : متلبسة بالحق ، ليست من قبيل أضغاث الأحلام .
وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ } جواب قسم محذوف ؛ أي : والله ! لتدخلن .
وقوله : { إن شَاءَ اللَّهُ } تعليق للعدة بالمشيئة ، لتعليم العباد ، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل ، فهو في معنى : ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم . أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا ، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه .
وقوله : { مُحَلّقِينَ } حال مقدرة ، لأن الدخول في حال الإحرام ، لا في حال الحلق والتقصير . وفي الكلام تقدير ، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل . والمعنى : محلقاً بعضكم ، ومقصراً آخرون . والقرينة عليه : أنه لا يجتمع الحلق والتقصير ، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم .
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < رحم الله المحلقين ! > قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : < رحم الله المحلقين ؟ > قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : < رحم الله المحلقين ! > قالوا : والمقصرين يا رسول الله ! قال : < والمقصرين ! >
وقوله تعالى : { لاَ تَخَافُونَ } حال مؤكدة لقوله : { ءَامِنِينَ } أو مؤسسة ، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال ، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول . ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد ، لا يخافون من أحد .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا كان في عَمْرة القضاء ، في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة ، رجع إلى المدينة ، فأقام بها ذا الحجة ومحرم ، وخرج في صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه ، بعضها عنوة ، وبعضها صلحاً ، وهي إقليم عظيم ، كثير النخل والزروع ، فاستخدم من فيها من اليهود عليها ، على الشطر ، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم ، إلا الذين قدموا من الحبشة : جعفر بن أبي طالب ، وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري ، وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم يغب منهم أحد .
قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سِمَاك بن خرشة ، كما هو مقرر في موضعه . ثم رجع المدينة ، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع ، خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً ، هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، ساق معه الهدي . قيل : كان ستين بدنة . فلبى ، وسار وأصحابه يلبون ، قريباً من مر الظهران ، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه ، من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران ، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي ، والنبل ، والرماح إلى بطن يأجج ، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها ، كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق ، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال : يا محمد ! ما عرفناك تنقض العهد ! فقال صلى الله عليه وسلم : < وما ذاك ؟ > قال : دخلت علينا بالسلاح ، القسي والرماح ! فقال صلى الله عليه وسلم : < لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى يأجج ؟ > فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء . وخرجت رؤوس الكفار من مكة ، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أصحابه رضي الله عنهم [ في المطبوع : عنه ] ، غيظاً وحنقاً . وأما بقية أهل مكة من الرجال ، والنساء ، والولدان فجلسوا في الطرق ، وعلى البيوت ، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام ، وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء ، التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول :
~بِاسْمِ الَّذِيْ لَاْ دِيْنَ إِلّاْ دِيْنُهُ بِاسْمِ الَّذِيْ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُهُ
~خَلُّوْا بَنِي الْكُفَّاْرِ عَنْ سَبِيْلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَىْ تَأْوِيْلِهِ
~كَمَاْ ضَرَبْنَاْكُمْ عَلَىْ تَنْزِيْلِهِ ضَرْباً يُزِيْلُ الْهَاْمَ عَنْ مَقِيْلِهِ
~وَيُذْهِلُ الْخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِيْ تَنْزِيْلِهِ
~فِيْ صُحُفٍ تُتْلَىْ عَلَىْ رَسُوْلِهِ بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِيْ سَبِيْلِهِ
~يَاْ رَبِّ ! إِنِّيْ مُؤْمِنٌ بِقِيْلِهِ
وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته ، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول : ما يتباعثون من العجف ؟ فقال أصحابه : لو انتحرنا ، من ظهرنا ، فأكلنا من لحمه ، وحسونا من مرقه ، وأصبحنا غداً حين ندخل على القوم ، وبنا جمامة . قال صلى الله عليه وسلم : < لا تفعلوا ، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم > فجمعوا له ، وبسطوا الأنطاع ، فأكلوا حتى تولوا ، وحثا كل واحد منهم في جرابه . ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد ، وقعدت قريش نحو الحِجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه ، ثم قال : < لا يرى القوم فيكم غميزة > فاستلم الركن ، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود ، فقالت قريش : ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء ؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف ، فكانت سنّة .
قال أبو الطفيل : فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع . وروى أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها سوءاً ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها شراً ، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرملوا الأشواط الثلاثة ، ليرى المشركون جلدهم . قال ، فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين ، حيث لا يراهم المشركون . وفي رواية : ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم .
وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب ، فليراجعها من أحب الزيادة .
وقوله تعالى : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } أي : من الخيرة ، والمصلحة في صرفكم عن مكة ، ودخولكم إليها ، عامكم ذلك .
قال ابن جرير : وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال ، والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل ، فأصابهم منهم معرة بغير علم ، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك . وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي : قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم : { فَتْحاً قَرِيباً } يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش ، أو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين ، إلى أن يتيسر الفتح الموعود . وإلى الأول ذهب الزهري ، قال : يعني صلح الحديبية . وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، وضعت الحرب ، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضاً ، فالتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام ، يعقل شيئاً ، إلا دخل فيه . فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر . ووافقه مجاهد ، وإلى الثاني ذهب ابن زيد .
قال ابن جرير : والصواب أن يعم فيقال : جعل الله من دون ذلك كليهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } [ 28 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } أي : البيان الواضح : { وَدِينِ الْحَقِّ } أي : الإسلام . وقال المهايمي : { بِالْهُدَى } أي : الدلائل القطعية : { وَدِينِ الْحَقِّ } أي : الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة .
وقال ابن كثير : أي : بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، فإن الشريعة تشتمل على شيئين : علم وعمل . فالعلم الشرعي صحيح ، والعمل الشرعي مقبول ، فإخباراتها حق ، وإنشاءاتها عدل { لِيُظْهِرَهُ } أي : ليعليه : { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } قال ابن جرير : أي : ليبطل به الملل كلها ، حتى لا يكون دين سواه . وذلك حين ينزل عيسى ابن مريم ، فيقتل الدجال ، فحينئذ تبطل الأديان كلها ، غير دين الله الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويظهر الإسلام على الأديان كلها . انتهى .
وقال ابن تيمية : قد أظهره الله علماً ، وحجةً ، وبياناً على كل دين ، كما أظهره قوة ونصراً وتأييداً ، وقد امتلأت الأرض منه ، ومن أمته في مشارق الأرض ، ومغاربها ، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله ، كما زال ملك اليهود ، وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض ، وأوسطها . انتهى .
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } أي : على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان ، أو الفتح أو المغانم كائن . قال الحسن : شهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله .
قال ابن جرير : وهذا إعلام من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه أن الله فاتح عليهم مكة ، وغيرها من البلدان ، مسلّيهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن ، بانصرافهم عن مكة قبل دخولها ، وقبل طوافهم بالبيت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ 29 ] .
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : أصحابه : { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } أي : لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم ، الصادّين عن سبيل الله ، وعندهم تراحم فيها بينهم ، كقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] .
لطائف :
الأولى - جوز في : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } أن يكونا مبتدأ وخبراً ، وأن يكون : { رَّسُولُ اللَّهِ } صفة ، أو عطف بيان ، أو بدلاً { وَالَّذِينَ مَعَهُ } عطف عليه . وخبرهما : { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ } .
الثانية - قال الشهاب : قوله تعالى : { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } تكميل ، لو لم يذكر لربما توهم أنهم لاعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال ، وعلى كل أحد . فلما قيل : { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } اندفع ذلك التوهم ، فهو تكميل واحتراس ، كما في الآية المتقدمة ، فإنه لما قيل : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر ، وأنهم موصوفون بالذل دائماً ، وعند كل أحد ، فدفع بقوله : { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهو كقوله :
~حَلِيْمٌ إِذَاْ مَا الْحُلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ عَلَىْ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَدُوِّ مَهِيْبُ
الثالثة - قال المهايمي : تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه ، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية ! بتبعية اعتدال المفكرة والشهوية ؛ إذ هم أشداء على الكفار ، لرسوخهم في صحة الاعتقاد ، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده ، رحماء بينهم ، لعدم ميلهم إلى الشهوات . هذا باعتبار الأخلاق ، وأما باعتبار الأعمال ، فأنت : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } قال ابن كثير : وصفهم بكثرة العمل ، وكثرة الصلاة ، وهي خير الأعمال . ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب ، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل ، وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم ! وهو أكبر من الأولى ، كما قال جل وعلا : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] انتهى .
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } مبتدأ وخبر ، أي : علامتهم كائنة فيها . وقوله تعالى : { مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } بيان للسيما ، كأنه قيل : سيماهم التي هي أثر السجود ، أو حال من المستكن في وجوههم .
قال الشهاب : وهي على ما قبله خبر مبتدأ تقديره : هي من أثر السجود . انتهى . وهل الوجوه مجاز عن الذوات ، أو حقيقة ؟ في معناها تأويلان للسلف ، فعن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } يعني السمت الحسن . وقال مجاهد وغير واحد ، يعني الخشوع والتواضع . وقال منصور لمجاهد : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال مجاهد ، ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون .
وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار . وقد رفعه ابن ماجه . والصحيح أنه موقوف . وقال بعضهم : عن للحسنة لنوراً في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس . وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه .
وروى الطبراني مرفوعا : < ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر > وإسناده واه ؛ لأن فيه العرزمي [ في المطبوع : العزرمي ] وهو متروك .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائناً ما كان > .
وأخرج أيضاً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الهدى الصالح ، والسمت الصالح والاقتصاد ، جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة > . ورواه أبو داود أيضاً .
والتأويل الثاني في الآية ، أن ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض ، أو ندى الطهور . روي ذلك عن ابن جبير وعكرمة . وقد كان ذلك في العهد النبوي ، حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباؤه .
وكل من المعنيين من سيماهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } أي : الوصف : { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } أي : صفتهم العجيبة فيها : { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي : فراخه ، أو سنبله ، أو نباته : { فَآزَرَهُ } أي : قواه : { فَاسْتَغْلَظَ } أي : فغلظ الزرع واشتد . فالسين للمبالغة في الغلظ ، أو صار من الدقة إلى الغلظ : { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } أي : استقام على قصبه . والسوق جمع ساق : { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : يعجب هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه ، وحسن نباته ، وبلوغه وانتهائه ، الذين زرعوه . وقوله تعالى : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم ، كأنه قيل : إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار .
لطائف :
الأولى : يجوز في قوله تعالى : { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ } وجهان :
أحدهما - أنه مبتدأ ، وخبره : { كَزَرْعٍ } فيوقف على قوله : { فِي التَّوْرَاةِ } فهما مثلان ، وإليه ذهب ابن عباس .
والثاني - أنه معطوف على : { مَثَلُهُمْ } الأول ، فيكون مثلاً واحداً في الكتابين ، ويوقف حينئذ على : { فِي الْإِنجِيلِ } ، وإليه نحا مجاهد والفراء ، ويكون قوله : { كَزَرْعٍ } في هذا فيه أوجه :
أحدهما - أنه خبر مبتدأ مضمر . أي : مثلهم كزرع ، فسر به المثل المذكور في الإنجيل .
الثاني - أنه حال من الضمير في : { مَثَلُهُمْ } أي : مماثلين زرعاً هذه صفته .
الثالث - أنه نعت مصدر محذوف ، أي : تمثيلاً كزرع - ذكره أبو البقاء - .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون : { ذَلِكَ } إشارة مبهمة أوضحت بقوله : { كَزَرْعٍ } كقوله : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ } [ الحجر : 66 ] ، - أفاده السمين - .
الثانية - قال السمين : الضمير المستتر في : { فَآزَرَهُ } للزرع ، والبارز للشطء . وعكس النسفي ، فجعل المستتر للشط ، والبارز للزرع . أي : فقوي الشطء بكثافة الزرع وكثافته كثرة فروعه وأوراقه . قال الجمل : وما صنعه النسفي أنسب ؛ فإن العادة أن الأصل يتقوى بفروعه ، فهي تعينه وتقويه .
الثالثة - قال السمين : { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } حال . أي : حال كونه معجباً ، وهنا تمّ المثل .
الرابعة - قال الزمخشري : هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام ، وترقّيه في الزيادة ، إلى أن قوي واستحكم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ، ثم قوّاه الله بمن آمن معه ، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع . وهذا ما قاله البغوي من أن الزرع : محمد ، والشطء : أصحابه والمؤمنون ، فجعلا التمثيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته .
وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط . وعبارته : وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة ، قلّوا في بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، فترقّى أمرهم ، بحيث أعجب الناس .
قال الشهاب : ولكل وجهة .
الخامسة - قال ابن كثير : من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه ، في رواية عنه ، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم . قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة ، فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك - انتهى كلام ابن كثير - .
ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ، كما بسط في كتاب العقائد ، وأوضحه النووي في " شرح مقدمة مسلم " ، وقبله الإمام الغزالي في كتابه " فيصل التفرقة " . وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتفكير والزندقة . وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك ، كما يمر كثير منهم بقارئ التاريخ . على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان ، مأجور غير مأزور ، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها ، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل " جمع الجوامع " . نعم ، إن التطرف والغلوّ في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين . وإذا اشتد البياض صار برصاً .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : صدقوا الله ورسوله : { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } أي : عفواً عما مضى من ذنوبهم ، وسيء أعمالهم بحسنها { وَأَجْراً عَظِيماً } أي : ثواباً جزيلاً ، وهو الجنة .
بسم الله الرحمن الرحيم==

16. مجلد 16. : محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

سورة الحجرات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال ابن جرير : أي : يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، ونبوة نبي صلى الله عليه وسلم ، لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله ، وأمر رسوله . محكي عن العرب : فلان يقدم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل الأمر والنهي دونه . انتهى .
و : { تُقَدِّمُوا } إما متعد حذف مفعوله ، لأنه أريد به العموم ، أو أنه نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول ، كما تقول : فلان يعطي ويمنع ، أو هو لازم ، فإن قدم ، يرد بمعنى تقدم كبيّن ، فإنه متعد ، ويكون لازماً بمعنى تبين .
وفي هذه الجملة تجوزان :
أحدهما - في بين اليدين ، فإن حقيقته ما بين العضوين ، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال ، قريباً منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما . فهو من المجاز المرسل ، ثم استعيرت الجملة استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ، ومتابعة لمن يلزم متابعته ، تصويراً لهجنته وشناعته ، بصورة المحسوس ، كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره ، فنقلت العبارة الأولى ، بما فيها من المجاز ، إلى ما ذكر ، على ما عرف أمثاله - هذا محصل ما في " الكشاف " و " شروحه " .
قال ابن كثير : معنى الآية : لا تسرعوا في الأشياء قبله ، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب حديث معاذ رضي الله عنه . قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : < بم تحكم ؟ > قال : بكتاب الله تعالى . قال صلى الله عليه وسلم : < فإن لم تجد ؟ > قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال صلى الله عليه وسلم : < فإن لم تجد ؟ > قال رضي الله عنه : أجتهد رأيي ! فضرب في صدره وقال : < الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله > . وقد رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . والغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما ، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله . انتهى .
وقد جوز أن يكون المراد : بين يدي رسول الله ، وذكر الله ؛ لبيان قوة اختصاصه به تعالى ، ومنزلته منه ، تمهيداً وتوطئة لما بعده . وقد أيد هذا ، بأن مساق الكلام لإجلاله صلى الله عليه وسلم .
تنبيه :
قال ابن جرير : بضم التاء من قوله : { لَا تُقَدِّمُوا } قرأ قراءة الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القراء عليها . وقد حكى عن العرب : قدّمت في كذا وتقدمت في كذا . فعلى هذه اللغة لو كان قيل : لا تَقدموا ، بفتح التاء ، كان جائزاً . انتهى . وبه قرأ يعقوب فيما نقل عنه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في التقديم أو مخالفة الحكم . والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم ، بمنزلة قولك للمقارف بعض الدلائل : لا تفعل هذا ، وتحفظ مما يلصق العار بك . فتنهاه أولاً عن عين ما قارفه ، ثم تعمّ وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه ، لم يرتكب تلك الغفلة ، وكل ما يضرب في طريقها ، ويتعلق بسببها - أشار له الزمخشري - .
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فحقيق أن يتقى ويراقب .
تنبيه :
في " الإكليل " : قال إلكيا الهراسي : قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح . وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي ، دونه . ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء . وربما احتج به نفاة القياس ، وهو باطل منهم . ويحتج به في تقديم النص على القياس . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ 2 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } أي : إذا نطق ونطقتهم ، فلتكن أصولتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته ، ليكون عالياً لكلامكم ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته ، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير : { وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي : بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين ، القريب من الهمس ، الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم . وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه ، أي : لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً : يا محمد ! يا محمد ! بل يا نبي الله ! يا رسول الله ! ونظر فيه شراح " الكشاف " بأن ذكر الجهر حينئذ لا يظهر له وجه ، إذ الظاهر أن يقال : لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض ، كما مر في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [ النور : 63 ] . انتهى .
ولك أن تقول : إنما أفرغ هذا المعنى المروي عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جرياً على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل ، وألطفها في ذلك ، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب وقد قال : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } أي : مخافة أن تحبط أعمالكم ، برفع صوتكم فوق صوته ، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم : { وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } أي : لا تعلمون ، ولا تدرون بحبوطها .
تنبيه :
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة الأعمال ، لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها . ولما كان عند أهل السنة ، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة ، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف ، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط ، أو هي للتعريض بالمنافقين المقاصدين بالجهر والرفع الاستهانة ، فإن فعلهم محبط قطعاً .
وقال الناصر : المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق . ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام . والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق . فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام ، سواء وجد هذا المعنى أو لا ، حماية للذريعة ، وحسماً للمادة . ثم لما كان هذا المنهي عنه - وهو رفع الصوت - منقسماً إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولاً ، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر ، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً ، وخوّف أن يقع فيما هو محبط للعمل ، وهو البالغ حد الإيذاء ، إذ لا دليل ظاهر يميزه . وإن كان ، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان ، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } . وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة ، لم يكن لقوله : { وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } موقع ؛ إذ الأمر بيْن أن يكون رفع الصوت مؤذياً ، فيكون كفراً محبطاً قطعاً ، وبين أن يكون غير مؤذٍ ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعاً . فعلى كلا حاليه ، الإحباط به محقق ، إذن فلا موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور ، مع أن الشعور ثابت مطلقاً - والله أعلم - .
ثم قال : وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين ، كلتاهما صحيحة :
إحداهما - أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء ، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن ، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه . فكيف برتبة النبوة ، وما تستحقه من الإجلال والإعظام .
المقدمة الأخرى - أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر . وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا - يعني المالكية - وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً ، ولا تقبل توبته ، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر ، والله الموفق . انتهى .
ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه ، فكل موضع نص فيه على الإحباط وجب قبوله بدون تأويل ، وامتنع القياس عليه ، لأنه مقام توعد وخسران ، ولا مجال للرأي في مثل ذلك . هذا ما أعقده وأراه . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 3 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ } أي : يبالغون في خفضها : { عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } قال ابن جرير : أي : اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني لاتقائه بأداء طاعته ، واجتناب معاصيه ، كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخلص جيدها ، ويبطل خبثها : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : ثواب جزيل ، وهو الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ 4 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ } أي : يدعونك : { مِن وَرَاء } أي : خارج : { الْحُجُرَاتِ } أي : عند كونك فيها ، استعجالاً لخروجك إليهم ، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال : { أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } إذ لا يفعله محتشم ، ولا يفعل لمحتشم ، فلا يراعون حرمة أنفسهم ، ولا حرمتك ، ونسب إلى الأكثر ، لأنه قد يتبع عاقل جماعة الجهال ، موافقة لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 5 ] .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي : لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه ، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه . وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة ، مع اتصافهم بالصبر ، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن تاب من معصية الله ، بندائك كذلك ، وراجع أمر الله فيه ، وفي غيره .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي ، فيما أورده غير واحد .
روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن الأقرع بن حابس ؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! يا محمد ! - وفي رواية : يا رسول الله ! - فلم يجبه . فقال : يا رسول الله ! إن حمدي لزين ، وإن ذمّي لشين ، فقال : < ذاك الله عز وجل > .
وروى ابن إسحاق ، في ذكر سنة تسع ، وهي المسماة سنة الوفود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ، فكان منهم وفد بني تميم . فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته : أن أخرج إلينا يا محمد ! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم . ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولاً ثم قال : وفيهم نزل من القرآن : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } .
الثاني - : { الْحُجُرَاتِ } بضمتين ، وبفتح الجيم ، وبسكونها . وقرئ بهن جميعاً : جمع حجرة . وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها . فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة .
قال الزمخشري : والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت لكل واحدة منهن حجرة . ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات ، متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه ، وبعض من وراء تلك ، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة ، فنادوه من ورائها . وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها . ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكمان حرمته . والفعل - وإن كان مسنداً إلى جميعهم - فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين ، فكأنهم نولوه جميعاً .
الثالث - قال الزمخشري : ورود الآية على النمط الذي وردت عليه ، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله .
منها - مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به ، بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه .
ومنها - لفظ : { الْحُجُرَاتِ } وإيقاعها ، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه .
ومنها - المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم .
ومنها - التعريف باللام دون الإضافة .
ومنها - أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم ، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجزهم ، وسوء أدبهم ، وهلم جرا . . . من أول السورة إلى آخر هذه الآية . فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله ، متقدمة على الأمور كلها ، من غير حصر ولا تقييد . ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر ، كأن الأول بساط الثاني ، ووطاء لذكره . ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك ، فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله . ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم ، وهجنته أتم ، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدراً ، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه ، وجسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً . ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب ، وتقتبس محاسن الآداب ، كما يحكى عن أبي عبيد - ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى - أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط ، حتى يخرج في وقت خروجه . انتهى .
الرابع - قال ابن كثير : قال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم ، كما كان يكره في حياته ؛ لأنه محترم حياً ، وفي قبره صلى الله عليه وسلم . وقد روينا عن أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فحصبهما . ثم ناداهما فقال : من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف . قال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً . انتهى .
الخامس - روى البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن مَعْبَد ، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ! فقال عمر : ما أردت خلافك ! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما . فنزل في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } حتى انقضت الآية .
وفي رواية : فأنزل الله في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُم } الآية .
قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . وقد انفرد بهاتين الرايتين البخاري دون ومسلم .
قال الحافظ ابن حجر : وقد استشكل ذلك ! قال ابن عطية : الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب .
قال ابن حجر : قلت : لا يعارض ذلك هذا الحديث ، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة : { لَا تُقَدِّمُوا } ولكن لما اتصل بها قوله : { لَا تَرْفَعُواْ } تمسك عمر منها بخفض صوته . وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم ، والذين يختص بهم ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ } انتهى .
وتقدم لنا مراراً الجواب عن أمثاله ، بأن قولهم : نزلت الآية في كذا ، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية ، لا أنه سبب لنزولها .
قال الإمام ابن تيمية : قولهم نزلت هذه الآية في كذا ، يراد به تارة سبب النزول ، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية ، وإن لم يكن السبب . كما تقول : عنى بهذه الآية كذا . انتهى .
وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول ، فاحفظه ، فإنه من المضنون به على غير أهله . ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري ، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب . وبعضها الآخر ، في قصة واحدة . وبالله التوفيق . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ 6 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } أي : فاستظهروا صدقه من كذبه ، بطريق آخر كراهة : { أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ } أي : قوماً براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها ، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم : { فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } أي : فتندموا على إصابتكم إياها بالجناية التي تصيبونهم بها ، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق . وقد روي ذلك من طرق . ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق ، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا عيسى بن دينار ، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخُزَاعِي رضي الله عنه يقول : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه ، وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة ، فأقررت بها وقلت : يا رسول الله ! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ، وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وأرسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة .
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول ، فلم يأته ، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله ، فدعا بسروات قومه ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقّت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة ، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة . فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرِقَ ، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن الحارث منعني الزكاة ، وأراد قتلي . فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث .
فأقبل الحارث بأصحابه ، حتى إذا استقبل البعث ، وفصل من المدينة ، لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث ! فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك . قال : ولِمَ ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منتعته الزكاة ، وأردت قتله ! قال : لا ، والذي بعث محمداً بالحق ، ما رأيته بتة ، ولا أتاني . فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < منعت الزكاة ، وأردت قتل رسولي ؟ ! > قال : لا ، والذي بعثك بالحق ! ما رأيته بتة ! ولا أتاني ! وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله . فنزلت الحجرات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } إلى قوله : { حَكِيمٌ } .
وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم ، فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة - : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم ، وأمره أن يتثبّت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلاً ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم . فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه . فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . قال قتادة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < التثبت من الله ، والعجلة من الشيطان > . وكذا ذكر غير واحد من السلف ، منهم ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل ، وغيرهم في هذه الآية ، أنها نزلت في الوليد بن عقبة - والله أعلم - انتهى .
قال ابن قتيبة في " المعارف " : الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عَمْرو بن أمية ابن عبد شمس ، وهو أخو عثمان لأمه أروى بنت كريز . أسلم يوم فتح مكة ، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً إلى بني المصطلق ، فأتاه فقال : منعوني الصدقة ! وكان كاذباً . فأنزل الله هذه الآية . وولّاه عمر على صدقات بني تغلب ، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بأهلها صلاة الفجر ، وهو سكران ، أربعاً ، وقال : أزيدكم ؟ ! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان ، فعزله وحدّه . ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي ، فخرج إلى الرقة فنزلها ، واعتزل علياً ومعاوية . ومات بناحية الرقة .
الثاني - في " الإكليل " : في الآية رد خبر الفاسق ، واشتراط العدالة في المخبر ، راوياً كان ، أو شاهداً ، أو مفتياً . ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل . قال ابن كثير : ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال ، لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون ، لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال .
الثالث - في قوله تعالى : { فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } فائدتان :
إحداهما - تقرير التحذير وتأكيده . ووجهه هو أنه تعالى لما قال : { أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ } قال بعده : وليس ذلك مما لا يلتفت إليه ، ولا يجوز للعاقل أن يقول : هب أني أصبت قوماً ، فماذا علي ؟ بل عليكم منه الهم الدائم ، والحزن المقيم . ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه .
والثانية - مدح المؤمنين : أي : لستم قال المهايمي : إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها ، بل تصبحون نادمين عليها - أفاده الرازي - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } [ 7 ] .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم : واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله أن فيكم رسول الله ، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل ، وتفتروا الكذب ، فإن الله يخبره أخباركم ، ويعرفه أنباءكم ، ويقوّمه على الصواب في أموره .
{ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } قال الطبري : أي : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمل في الأمور بآرائكم ، ويقبل منكم ما تقولون له ، فيطيعكم ، لنالكم عنت - يعني الشدة والمشقة - في كثير من الأمور ، بطاعته إياكم ، لو أطاعكم ، لأنه كان يخطئ في أفعاله ، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق ، أنهم قد ارتدوا ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين ، فغزاهم فقتل منهم ، وأصاب من دمائهم وأموالهم ، كان قد قتل وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله ، وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قومٍ مسلمين ، فنالكم من الله بذلك عنت . والعنت : المشقة ، أو الهلاك ، أو الإثم ، أو الفساد .
تنبيه :
أن بما في حيزها سادة مسدّ مفعولي : { اعْلَمُوا } باعتبار ما قيد به من الحال ، وهو قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } الخ ، فإنه حال من الضمير المجرور في : { فِيكُمْ } المستتر فيه . والمعنى : أنه فيكم كائناً على حالة يجب تغييرها ، أو كائنين على حالة كذلك ، وهي أنكم تودّون أن يتبعكم في كثير من الحوادث ، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل والهلاك . وفيه إيذان بأن بعضهم زين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقع في بني المصطلق ، وأنه لم يطع رأيهم هذا . ويجوز أن يكون : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } مستأنفاً . إلا أن الزمخشري منع هذا الاحتمال ، قال : لأدائه إلى تنافر النظم ، لأنه لو اعتبر : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } الخ كلاماً برأسه ، لم يأخذ الكلام بحجز بعض ، لأنه لا فائدة حينئذ في قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } إذا قطع عما بعده . وأجيب بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرّطون فيما يجب له من التعظيم ، وفي أن شأنهم أن يتبعوه ، ولا يتبعوا آراءهم ، حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم ، فوضح جواز الاستئناف ، والوقف على : { رَسُولَ اللَّهِ } .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله وتأتمّوا به ، فيقيكم الله بذلك من العنت فيما لو استتبعتم رأي رسول الله لرأيكم : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ } أي : بالله : { وَالْفُسُوقَ } يعني الكذب : { وَالْعِصْيَانَ } أي : مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتضييع ما أمر الله به . : { أُوْلَئِكَ } أي : المصوفون بمحبة الإيمان ، وتزينه في قلوبهم ، كراهتهم المعاصي : { هُمُ الرَّاشِدُونَ } أي : السالكون طريق الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 8 ] .
{ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } أي : إحساناً منه ، ونعمة أنعمها عليكم . قال القاشاني : كان فضلاً بعنايته بهم في الأزل ، المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد . ونعمة بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية ، وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم ، حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية . وهو تعليل لـ : حبّب ، وكرّه ، وما بينهما اعتراض ، أو نصب بفعل مضمر ، أي : جرى ذلك فضلاً ، أو يبتغون فضلاً { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : ذو علم بالمحسن ، والمسيء ، وحكمة في تدبير خلقه ، وتصريفهم فيما شاء من قضائه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ 9 ] .
{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } أي : تقاتلوا : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } قال ابن جرير : أي : بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه ، لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل .
{ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } أي : فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله ، له وعليه ، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } أي : تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله : { حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه : { فَإِن فَاءتْ } أي : رجعت الباغية ، بعد قتالكم إياهم ، إلى الرضا بحكم الله في كتابه : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } أي : بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه : { وَأَقْسِطُوا } أي : اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : فيجازيهم أحسن الجزاء .
تنبيهات :
الأول - قال القاشاني : الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا ، والركون إلى الهوى ، والانجذاب إلى الجهة السفلية ، والتوجه إلى المطالب الجزئية . والإصلاح إنما يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة ، التي هي ظل الوحدة . فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما ، على تقدير بغيهما . والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما ، حتى ترجع . لكون الباغية مضادة للحق ، دافعة له .
وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي ، لا بالسيوف ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح . روي ذلك من طريق عديدة ، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقياً .
ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة ، والقتال بمعنى الدفع مجازاً . قال - فيما رواه الطبريّ عنه - : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعوهم إلى الحكم ، فيأبون أن يجيبوا ، فأنزل الله : { وَإِن طَائِفَتَانِ } إلى قوله : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الآية . يقول : ادفعوا إلى الحكم ، فكان قتالهم الدفع . انتهى . ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما . وقد قال اللغويون : ليس كل قتال قتلاً . وقد يفضي الخصام إلى القتل ، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم ، لتكون الفائدة أشمل - والله أعلم - .
الثاني - في " الإكليل " : في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي ، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم ، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل ، لقوله : { حَتَّى تَفِيءَ } . انتهى .
وقد روى سعيد عن مروان قال : صرخ صارخ لعليّ يوم الجمل : لا يقتل مدبر ، ولا يذفف على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن .
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم ، وأنه لا يغنم لهم مال ، ولا تسبى لهم ذرية ، لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم . وعصمة الأموال تابعة لدينهم ، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم . ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال . ومن قتل من أهل البغي غسل ، وكفن ، وصُلي عيه ، فإن قتل العادل كان شهيداً ، فلا يغسل ، ولا يصلى عليه ، لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به ، كشهيد معركة الكفار . وأن أظهر قوم رأي الخوارج . مثل تكفير من ارتكب كبيرة ، وترك الجماعة ، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم ، ولم يجتمعوا لحرب ، لم يتعرّض لهم . وإن جنوا جناية وأتوا حداً ، أقامه عليهم .
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية ، أو طلب رئاسة ، فهما ظالمتان ؛ لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى ، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلف على الأخرى .
هذه شذرة مما جاء في " الإقناع " ، و " شرحه " وتفصيله ثمة .
الثالث - قال في " شرح الإقناع " : في الآية فوائد : منها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان ، وأنه أوجب قتالهم ، وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم . وإجازة كل من منع حقّاً عليه . والأحاديث بذلك مشهورة : منها ما روى عُبَاْدَة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في المنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله . متفق عليه . وأجمع الصحابة على قتالهم ، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة ، وعلياً قاتل أهل الجمل ، وأهل صفّين . انتهى .
وتدل الآية أيضاً على وجوب معاونة من بغى عليه ، لقوله : { فَقَاتِلُواْ } ، وعلى وجوب تقديم النصح ، لقوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ، وعلى السعي في المصالحة ، وذلك ظاهر .
الرابع - وجه الجمع في : { اقْتَتَلُواْ } ، مع أنه قد يقال : مقتضى الظاهر : اقتتلتا ، هو الحمل على المعنى دون اللفظ ؛ لأن الطائفين في معنى القوم والناس . والنكتة في اعتبار المعنى أولاً . واللفظ ثانياً عكس المشهور في الاستعمال ، ما قيل إنهم أولاً في حال القتال مختلطون مجتمعون ، فلذا جمع أولاً ضميرهم ، وفي حال الإصلاح متميزون متفارقون ، فلذا ثنى الضمير ثانياً وسرّ قرْن الإصلاح الثاني بالعدل ، دون الأول ، لأن الثاني لوقوعه بعد المقاتلة مظنة للتحامل عليهم بالإساءة ، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم .
الخامس - أقسط الرباعي همزته للسلب . أي : أزيلوا الجور ، واعدلوا . بخلاف قسط الثلاثي ، فمعناه جار . قال تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] ، وهذا هو المشهور - خلافاً للزجاج - في جعلهما سواء - أفاده الكرخي - . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 10 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } استئناف مقرر لما من الأمر بالإصلاح ، فإن من لوازم الأخوة أن يصطلحوا .
قال الشهاب : وتسمية المشاركة في الإيمان أُخوة تشبيه بليغ ، أو استعارة شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد ؛ لأن كلّاً منهما أصل للبقاء ، إذ التوالد منشأ الحياة ، والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان .
{ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } أي : إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله ، وحكم رسوله .
قال القاشاني : بيّن تعالى أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل ، يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين ، للمناسبة الأصلية ، والقرابة الفطرية ، التي تزيد على القرابة الصورية ، والنسبة الولادية ، بما لا يقاس ، لإقضائه المحبة القلبية ، لا المحبة النفسانية ، المسببة عن التناسب في اللحمة . فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة ، وأحد خصالها ، إذ لو لم يعدوا عن الفطرة ، ولم يتكدروا بغواشي النشأة ، لم يتقاتلوا ، ولم يتخالفوا . فوجب على أهل الصفاء ، بمقتضى الرحمة ، والرأفة ، والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية ، الإصلاح بينهما ، وإعادتهما إلى الصفاء . انتهى .
تنبيه :
وضع الظاهر موضع المضمر مضافاً إلى المأمورين ، للمبالغة في التقرير والتخصيص . وتخصيص الاثنين بالذكر دون الجمع ، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان . فإذا لزمت المصالحة بين الأقل ، كانت بين الأكثر ألزم ، لأن الفساد في شقاق الجمع ، أكثر منه في شقاق الاثنين - أفاده القاضي والزمخشري - .
وفي معنى الآية أحاديث كثيرة : كحديث < المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه > . وحديث < والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه > . وحديث < مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر > . وحديث < المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً > وشبّك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم - وكلها في " الصحاح " - .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : خافوا مخالفة حكمه ، والإهمال فيه ، ليرحمكم فيفصح عن سالف آثامكم ، ويثيبك رضوانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 11 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ } أي : لا يهزأ رجال من رجال ، فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منهم : { عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } أي : الساخرات .
قال أبو السعود : فإن مناط الخيرية في الفريقين ، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال والأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالباً . بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب ، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد ، فلعله أجمع منه ، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى ، والاستهانة بمن عظمه الله تعالى . ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغنيّ للفقير . وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة ، فيسخر به من أجلها .
قال الطبري : والصواب أن يقال إن الله عمّ ، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض ، جميع معاني السخرية . فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن ، لا لفقره ، ولا لذنب ركبه ، ولا لغير ذلك . وقد عد الغزالي في " الإحياء " السخرية من آفات اللسان ، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميماً للفائدة ، قال رحمه الله :
الآفة الحادية عشرة - السخرية والاستهزاء : وهذا محرم مهما كان مؤذياً ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ } الآية . ومعنى السخرية : الاستهانة ، والتحقير ، والتنبيه على العيوب ، والنقائص ، على وجه يُضحك منه . وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول ، وقد يكون بالإشارة والإيماء ، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة ، وفيه معنى الغيبة .
وقالت عائشة رضي الله عنها : حاكيت ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : < والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ، ولي كذا وكذا > .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] ، إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن ، والكبيرة القهقهة بذلك .
وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر . وقال معاذ بن جبل : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < من عير أخاه بذنب قد تاب منه ، لم يمت حتى يعمله > .
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير ، والضحك عليه ، والاستهانة به ، والاستصغار له . وعليه نبه قوله تعالى : { عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ } . أي : لا تستحقروه استصغاراً ، فلعله خير منك . وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به . فأما من جعل نفسه مسخرة ، وربما فرح من أن يسخر به ، كانت السخرية في حقه من جملة المزح . ومنه ما يذم وما يمدح . وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به ، لما فيه من التحقير والتهاون ، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم ، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة ، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته ، إذا كان قصيراً أو ناقصاً ، لعيب من العيوب ، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها . انتهى .
لطيفة :
قال أبو السعود : القوم مختص بالرجال ، لأنهم القُوّام على النساء ، والأحسن المهمات ، وهو في الأصل إما جمع قائم كصوْم ، وزوْر ، في جميع صائم ، وزائر . أو مصدر نعت به فشاع في الجمع . وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون ، فإما للتغليب ، أو لأنهن توابع . واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع . والتنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض ، لما أنها مما يجري بين بعض وبعض .
{ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } أي : لا يعيب بعضكم على بعض ، ولا يطعن .
قال الشهاب : ضمير : { تَلْمِزُوا } للجمع بتقدير مضاف فيه . و : { أَنفُسَكُمْ } عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين ، وهم المؤمنون ، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم ، كما في قوله : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ، وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ، فأطلق الأنفس على الجنس استعارة . ففي اللفظ الكريم تجوز ، وتقدير مضاف . والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين ، وهو مغاير لما قبله ، وإن كان مخصوصاً بالمؤمنين أيضاً بحسب المفهوم ، لتغاير الطعن والسخرية ، فلا يقال إن الأول مغن عنه ، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته ، وهذا ذكره بما يكره مطلقاً . أو هو تعميم بعد التخصيص ، كما يعطف العام على الخاص ، لإفادة الشمول . وقيل : إنه من عطف العلة على المعلول ، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية ، كالإشارة . أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة . انتهى . وقيل : معنى الآية : لا تفعلوا ما تلمزون به ، فإن من فعل ما استحق به اللمز ، فقد لمز نفسه .
قال الشهاب : فـ : { أَنْفُسَكُمْ } على ظاهره ، والتجوز في قوله : { تَلْمِزُوا } . فهو مجاز ذكر فيه المسبب ، وأريد السبب . والمراد : لا ترتكبوا أمراً تعابون به ، وضعف بأنه بعيد من السياق ، وغير مناسب لقوله : { وَلَا تَنَابَزُوا } ، كما في " الكشف " ، وكونه من التجوز في الإسناد ، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب ، تكلف ظاهر ، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق ، لا يدفع كونه مخالفاً للظاهر . وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم ، بالطعن على غيركم ، كما في الحديث < من الكبائر أن يشتم الرجل والديه > ، إذ فُسر بأنه إذا شتم والدي غيره ، شتم الغيرُ والديه أيضاً .
{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } أي : ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبزَ بها الملقب فقد روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية ، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد , وأبو داود . وفسره بعض السلف بقول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق ! وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام ، وبالفسوق بعد التوبة . والآية - كما قال ابن جرير - : تشمل ذلك كله قال : لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة .
{ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } قال الزمخشري : { الاسم } ههنا يعني الذكر . من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته . وحقيقته ما سماه ذكره ، وارتفع بين الناس . ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره ؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر ، أن يذكروا بالفسق . وفي قوله : { بَعْدَ الْإِيمَانِ } ثلاثة أوجه :
أحدهما - استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة ، الصبوة .
والثاني - أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودي ! يا فاسق ! فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر ، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه . والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز .
والثالث - أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة ، الفلاحة بعد التجارة . انتهى .
واختار ابن جرير الثالث ، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن ، كما أنه غير كافر ، فهو في منزلة بين المنزلتين ، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد ، فإن التلقيب [ في المطبوع : التقليب ] بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان ، فإن شعار الجاهلية . وعبارته : يقول تعالى ذكره : ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق : { بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا ، إن فعلتموه ، أن تسموا فساقاً ، بئس الاسم الفسوق . وترك ذكر ما وصفنا من الكلام ، اكتفاء بدلالة قوله : { بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ } عليه . ثم ضعف القول الثاني وقال : وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام ، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية, فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه ، أو يقبح ركوبه ما ركب مما نهي عنه ، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه من قبل توبته ، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح ، فيختم آخرها بالوعيد عليه ، أو القبيح . انتهى .
{ وَمَن لَّمْ يَتُبْ } أي : من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو سخريته منه : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ 12 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ } أي : كونوا على جانب منه . وذلك بأن تظنوا بالناس سوءاً ؛ فإن الظان غير محقق . وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه ، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه ، أو صرف الذهن فيه ، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن . قال تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } [ النور : 12 ] . نعم ! من أظهر فسقه ، وهتك ستره ، فقد أباح عرضه للناس . ومنه ما روي : من ألقى جلباب الحياء ، فلا غيبة له . ولذا قال الزمخشري : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة ، وسبب ظاهر ، كان حراماً واجب الاجتناب . وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد من الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنّ الفساد والخيانة به محرم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب ، والمجاهرة بالخبائث .
{ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ } وهو ظن المؤمن الشر ، لا الخير : { إِثْمٌ } أي : مكسب للعقاب ، لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه .
قال حجة الإسلام الغزالي في " الإحياء " في بيان تحريم الغيبة بالقلب : اعلم أن سوء الظن حرام ، مثل سوء القول . فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير ، فليس لك أن تحدث نفسك ، وتسيء الظن بأخيك . قال : ولست أعني به إلا عقد القلب ، وحكمه على غيره بسوء الظن . فأما الخواطر وحديث النفس ، فهو معفو عنه ، بل الشك أيضاً معفو عنه . ولكن المنهي عنه أن يظن . والظن عبارة عما تركن إليه النفس ، ويميل إليه القلب . فقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } . قال : وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب ، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشفت لك بعيان لا يقبل التأويل . فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته . وما لم تشاهده بعينيك ، ولم تسمعه بأذنك ، ثم وقع في قلبك ، فإنما الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذّبه فإن أفسق الفساق . إلى أن قال : فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة ، أو بينة عادلة . انتهى .
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس ، فإن القلب لا يقنع بالظن ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس ، ذكر سبحانه النهي عنه ، إثر سوء الظن لذلك ، فقال تعالى : { وَلَا تَجَسَّسُوا } قال ابن جرير : أي : لا يتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما تعلمونه من سرائره .
يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه ، وبحث عنه ، كتلمس . قال الشهاب : الجس بالجيم كاللمس ، فيه معنى الطلب ؛ لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه ، فأريد به ما يلزمه ، واستعمل التفعل للمبالغة فيه .
قال الغزالي : ومعنى التجسس أن لا يترك عَبَّاد الله تحت ستر الله ، فيتوصل إلى الاطلاع ، وهتك الستر ، حتى ينكشف له ما هو كان مستوراً عنه ، كان أسلم لقلبه ودينه .
وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، منها حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن ، فقال : < يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يخلص الإيمان في قلبه ! لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ، ولو في جوف بيته > .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : < لا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عَبَّاد الله إخوانا > . وروى أبو داود أن ابن مسعود رضي الله عنه أتى برجل ، فقيل له : هذا فلان ، تقطر لحيته خمراً ! فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به - والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته : الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
وروى أبو داود عن معاوية قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم > . فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية من رسول الله ، نفعه الله بها .
وروى الإمام أحمد عن دجين ، كاتب عقبة ، قال : لعقبة : إنا لنا جيراناً يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ليأخذونهم ! قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم ! قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشُّرط فتأخذهم ! فقال له عقبة : لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موؤودة من قبرها > ! .
وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم > . قال الأوزاعي : ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون .
{ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي : لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ، ما يكره المقول فيه ذلك ، أن يقال له في وجهه . يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ، إذا ذكره بسوء في غيبته { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } ؟ أي : فلو عرض عليكم ، نفرت عنه نفوسكم ، وكرهتموه . فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة . وفيه استعارة تمثيلية ، مثل اغتياب الْإِنْسَاْن لآخر بأكل لحم الأخ ميتاً .
لطائف :
الأولى - قال الزمخشري : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } الخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى : منها - الاستفهام الذي معناه التقرير ، وهو يفيد المبالغة من حيث إنه لا يقع في كلام مسلم عند كل سامع ، حقيقة أو دعاء . ومنها - جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . ومنها - إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك .
ومنها - أن لم يقتصر تمثيل الاغتاب بأكل لحم الْإِنْسَاْن ، حتى جعل الْإِنْسَاْن أخاً .
ومنها - أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ ، حتى جعل ميتاً . انتهى .
وقال ابن الأثير في " المثل السائر " في بحث الكناية : فمن ذلك قوله تعالى : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } الخ فإنه كنى عن الغيبة بأكل لحم الْإِنْسَاْن لحم إنسان آخر مثله ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتاً ، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له ، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله .
فأما جعل الغيبة كأكل لحم الْإِنْسَاْن لحم إنسان آخر مثله ، فشديد المناسبة جداً ، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس ، وتمزيق أعراضهم . وتمزيق العرض مماثل لأكل الْإِنْسَاْن لحم من يغتابه ، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة . وأما جعله كلحم الأخ فلِما في الغيبة من الكراهة ، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها ، آمران بتركها ، والبعد عنها . ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته .
ومن المعلوم أن لحم الْإِنْسَاْن مستكره عند إنسان آخر ، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه . فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة . وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة ، والشهوة لها ، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهاً ، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها ، وجدتها مناسبة لما قصدت له . انتهى .
الثانية - الفاء في قوله تعالى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } فصيحة في جواب شرط مقدّر . والمعنى : إن صح ذلك ، أو عرض عليكم هذا ، فقد كرهتموه ، فما ذكر جواب للشرط ، وهو ماض فيقدر معه قد ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي ، كما في قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } [ الفرقان : 19 ] ، وضمير : { فَكَرِهْتُمُوهُ } للأكل ، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه . والمعنى : فاكرهوه كراهيتهم لذلك الأكل . وعبر عنه بالماضي للمبالغة ، فإذا أول بما ذكر يكون إنشائياً غير محتاج لتقدير قد - أفاده الشهاب - .
الثالثة - قال ابن الفَرَس : يستدل بالآية على أن لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة ، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان . فدل على أنه في التحريم فوقها . ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه " بالإحياء " للغزالي ، فإنه جمع فأوعى .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء ، والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي { إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } أي : يقبل توبة التائبين إليه ، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم .
ثم نبه تعالى ، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض ، على تساويهم في البشرية ، كما قال ابن كثير ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ 13 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } أي : من آدم وحواء ، أو من ماء ذكر من الرجال ، وماء أنثى من النساء . أي : من أب وأم ، فما منكم أحد إلا هو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر ، سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر ، والتفاضل في النسب .
{ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } قال ابن جرير : وجعلناكم متناسبين ، فبعضكم يناسب بعضاً نسباً بعيداً ، وبعضكم يناسب بعضاً نسباً قريباً . ليعرف بعضكم بعضاً في قرب القرابة منه وبعده ، لا لفضيلة لكم في ذلك ، وقربة تقربكم إلى الله ، بل كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي : أشدكم اتقاء له ، وخشية بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، لا أعظمكم بيتاً ، ولا أكثركم عشيرة .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي : بظواهركم وبواطنكم ، وبالأتقى والأكرم ، وغير ذلك ، لا تخفى عليه خافية .
تنبيهات :
الأول - حكى الثعالبي في " فقه اللغة " في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبي عن أبيه : أن الشَّعب بفتح الشين ، أكبر من القبيلة ، ثم القبيلة ، ثم العِمارة ، بكسر العين ، ثم البطن ، ثم الفخذ . وعن غيره : الشَّعب ، ثم القبيلة ، ثم الفصيلة ، ثم العشيْرة ، ثم الذرية ، ثم العترة ، ثم الأسرة . انتهى . وقال الشيخ ابن بري : الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو : الشَّعب ، ثم القبيلة ، ثم العِمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، قال أبو أسامة : هذه الطبقات على ترتيب خلق الْإِنْسَاْن ، فالشعب أعظمها ، مشتق من شعب الرأس ، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها ، ثم العمارة وهي الصدر ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة وهي الساق . وزاد بعضهم العشيرة فقال :
~أَقْصِدُ الشَّعْبَ فَهُوَ أَكْثَرُ حَيٍّ عَدَداً فِيْ الحِوَاْءِ ثُمَّ الْقَبِيْلَهْ
~ثُمَّ يَتْلُوْهَا الْعِمَاْرَةُ ثُمَّ الْـ بَطْنُ وَالْفَخْذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيْلَهْ
~ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا الْعَشِيْرَةُ لَكِنْ هِيَ فِيْ جَنْبِ مَاْ ذَكَرْنَاْ قَلِيْلَهْ
فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عِمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة . وسميت الشعوب ؛ لأن القبائل تشعبت منها . والشعوب : جمع شعب ، بفتح الشين .
قال أبو عبيد البكري في " شرح نوادر أبي علي القالي " : كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح ، وفي الجبل بالكسر ، إلا بندار فإنه رواه عن أبي عبيدة بالعكس . نقله الزبيدي في " تاج العروس " .
الثاني - في الآية الاعتناء بالأنساب ، وأنها شرعت للتعارف ، وذم التفاخر بها ، وأن التقي غير النسيب ، يقدم على النسيب غير التقي ، فيقدم الأروع في الإمامة على النسيب [ وهو على ] غيرهما .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال : سألت مالكاً عن نكاح الموالي العربية فقال : حلال ، ثم تلا هذه الآية ، فلم يشترط في الكفاءة الحرية - نقله في " الإكليل " .
و قال ابن كثير : استدل بالآية ، من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ، ولا يشترط سوى الدين .
الثالث - أفاد قوله تعالى : { لَتِتَعَاَرَفُواْ } حصر حكمة جعلهم شعوباً وقبائل فيه . أي : إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً ، فتصلوا الأرحام ، وتبينوا الأنساب ، والتوارث ، لا للتفاخر بالآباء والقبائل .
قال الشهاب : الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر ، والسكوت في معرض البيان . وقال القاشاني : معنى قوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } لا كرامة بالنسب ، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى . والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب ، لا للتفاخر ، فإنه من الرذائل . والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى . ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة ، كان صاحبها أكرم عند الله ، وأجل قدراً . فالمتقي عن المناهي الشرعية ، التي هي الذنوب ، في عرف ظاهر الشرع ، أكرم من الفاجر ، وعن الرذائل الخلقية كالجهل ، والبخل ، والشره ، والحرص ، والجبن ، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها . انتهى .
الرابع - روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي : الناس أكرم ؟ قال : < أكرمهم عند الله أتقاهم > . قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : < فأكرم الناس يوسف نبي الله , ابن نبي الله , ابن نبي الله , ابن خليل الله > . قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : < فعن معادن العرب تسألوني ؟ > قالوا : نعم . قال : < فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا > .
وروى مسلم عنه أيضاً : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم > .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : < انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود ، إلا أن تفضله بتقوى الله > .
وروى البراز في مسنده عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان > .
وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : < أيها الناس ! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها . فالناس رجلان : رجل برٌّ تقيّ كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر يتقى ، هين على الله تعالى . إن الله عز وجل يقول : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } الآية > . وبقيت أحاديث أخر ساقها ابن كثير ، فانظرها .
وروى الطبري عن عطاء قال : قال ابن عباس : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وقال الناس : أكرمكم أعظمكم بيتاً . قال عطاء : نسيت الثالثة .
ولما كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب ، والإنكار على مساوئ أخلاقهم ، ثم تأثرها من المناهي عن المنكرات التي تكثر فيه ، ما كانوا فيها هم المقصود أولاً وبالذات ، ثم غيرهم ثانياً ، وبالعرض ختمها بتعريف أن من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي ، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان ، ثم بيان من المؤمن حقاً ، ليفقهوا أن الأمر ليس كما يزعمون ، فقال سبحانه وتعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 14 ] .
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ } أي : المحدث عنهم في أول السورة : { آمَنَّا } أي : بالله ورسوله ، فنحن مؤمنون ، زعماً أن التلفظ بمادة الإيمان هو عنوان كل مكرمة وإحسان { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } أي : لستم مؤمنين ، وإن أخبرتم عنه ، لأن الإيمان قول وعمل { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : انقدنا ودخلنا في السلم خوف السباء والقتل : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : لأنه لو حل الإيمان في القلوب لتأثر منه البدن ، وظهر عليه مصداقه من الأعمال الصالحة ، والبعد من ركوب المناهي ، فإن لكل حق حقيقة ، ولكل دعوى شاهد .
فإن قيل : في قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } بعد قوله : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } شبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة ؟ والجواب : إن فائدة قوله : { لَّمْ تُؤْمِنُوا } تكذيب دعواهم ، وقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في : { قُولُوا } . وما في : { لَمَّا } من معنى التوقع ، دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد ، فلا تكرار . هذا ما أشار له الزمخشري ، واختار كون الجملة حالاً ، لا مستأنفة ، إخباراً منه تعالى ، فإنه غير مفيد لما ذكر .
تنبيهات :
الأول - قال في " الإكليل " : استدل بالآية من لم ير الإيمان والإسلام مترادفين , بل بينهما عموم وخصوص مطلق ، لأن الإسلام الانقياد للعمل ظاهراً ، والإيمان تصديق القلب كما قال : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } . انتهى .
وهذا الاستدلال في غاية الضعف ؛ لأن ترادفهما شرعاً لا يمنع من إطلاقهما بمعناهما اللغوي في بعض المواضع . وإبانة ذلك موكولة إلى القرائن ، وهي جلية ، كما هنا . وإلا فآية : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ } [ آل عِمْرَان : 19 ] ، أكبر مناد على اتحادهما . ومن اللطائف أن يقال في الإيمان والإسلام ما قالوه في الفقير والمسكين ، إذا اجتمعا افترقاً وإذا افترقا اجتمعا . والإيمان والإسلام ، وأمثالهما ألفاظ شرعية محضة ، ولم يطلقها الشرع إلا على القول والعمل ، كما أوضح ذلك الإمام ابن حزم في " الفصل " فانظره .
الثاني - قال في " الإكليل " : في الآية رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان هو الإقرار باللسان ، دون عقد القلب ، وهو ظاهر . وقد استوفى الرد عليهم كغيرهم ، الإمام ابن حزم في " الفصل " ، فراجعه .
الثالث - قيل ، مقتضى الظاهر أن يقول : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا . أو : لم تؤمنوا ولكن أسلمتم . فعدل عنه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم ، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً . وقيل : إنه من الاحتباك ، وأصله : لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ، ولكن أسلمتم ، فقلوا أسلمنا ، فخذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر . والأول أبغ لأنهم ادعوا الإيمان فنفي عنهم ، ثم استدرك عليه فقال : دعوا ادعاء الإيمان ، وادّعوا الإسلام ، فإنه الذي ينبغي أن يصدر عنكم على ما فيه ، فنفى الإيمان ، وأثبت لهم قول الإسلام دون الاتصاف به ، وهو أبلغ مما ذكر من الاحتباك ، مع سلامته من الخذف بلا قرينة - هذا ما في القاضي وحواشيه .
{ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فتأمروا لأوامرهما ، وتنهوا عما نهياكم عنه . والخطاب لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا : { لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي : لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئاً ، ولا ينقصكم من ثوابها .
قال الزمخشري : يقال : ألته السلطان حقه أشد الألت . وهي لغة غطفان ، ولغة أسد ، وأهل الحجاز - لاته ليتاً - وحكى الأصمعي عن أم هشام السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ، ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات . وقرئ باللغتين : { لاَيَلِتْكُمْ } ولا يألتكم . ونحوه في المعنى : { فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] . : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن أطاعه ، وتاب إليه من سالف ذنوبه ، فأنيبوا إليه أيها الأعراب ، وتوبوا من النفاق ، واعقدوا قلوبكم على الإيمان ، والعمل بمقتضياته ، يغفر لكم ويرحمكم .
ثم بين تعالى الإيمان ، وما به يكون المؤمن مؤمناً ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ 15 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } أي : لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ، ونبوة نبيه ، وألزموا نفوسهم طاعة الله ، وطاعة رسوله ، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم ، وبذل مهجهم في جهادهم ، على ما أمرهم الله به من جهادهم ، وذلك سبيله ، لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى - قال ابن جرير : وقدّمنا مراراً أن قصر سبيل الله على غزو الكفار المعتدين ، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها ، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها ، لأنها في سبيل وجهته .
قال الشهاب : وقدم الأموال ، لحرص الْإِنْسَاْن عليها ، فإن ماله شقيق روحه . و : { جَاهَدُواْ } بمعنى : بذلوا الجهد . أو مفعوله مقدر ، أي : العدو ، أو النفس والهوى .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي : الذين صدقوا في ادعاء الإيمان ، لظهور أثر الصدق على جوارحهم ، وتصديق أفعالهم وأقوالهم . وفيه تعريضٌ يُكذِّب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحضر . أي : هم الصادقون ، لا هؤلاء ، أو إيمانهم إيمان صدق ، وجد .
تنبيهات :
الأول - قال في " الإكليل " : في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان . وقدمنا أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف ، وليرجع في ذلك ما بسطه ابن حازم رحمه الله في " الفِصل " .
الثاني - قال القاشاني : في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } الآية إشارة إلى الإيمان المعتبر الحقيقي ، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه ، لا الذي يكون على سبيل الخطرات ، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم ، ونورتها بأنوارها ، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح ، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها ، والتسخر لهيأتها ، وذلك معنى قوله : { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بعد نفي الارتياب عنهم ، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ ، وأثره في الظاهر . انتهى .
الثالث - قال في " الكشاف " : فإن قلت : ما معنى ثم ههنا ، وهي للترخي . وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان ، لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة ، والطمأنينة التي حقيقتها التيقن ، وانتقاء الريب ؟ قلت : الجواب على طريقتين :
أحدهما - أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان ، أو بعض المضلين ، بعد ثلج الصدر ، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه . أو نظر هو نظراً غير سديد يسقط به على الشك ، ثم يستمر على ذلك ، راكبا رأسه ، لا يطلب له مخرجاً . فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات . ونظيره قوله : { ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } .
والثاني - أن الإيقان وزوال الريب ، لما كان ملاك الإيمان ، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه . وعطف على الإيمان بكلمة التراخي ، إشعاراً باستقراره في الأزمة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً . انتهى .
يعني : أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد ، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولاً لم تحدث لهم ريبة ، فالتراخي زماني لا رتبي على ما مر في قوله : { ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } . أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيهاً على أصالته في الإيمان ، حتى كأنه شيء آخر . فثم دلالة على استمراره قديماً وحديثاً .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 16 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [ 16 ] .
{ قُلْ } أي : لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم : { ءَامَنَّا } { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } أي : أتخبرونه بقولكم : { ءَامَنَّا } ، بطاعتكم إياه لتكونوا مع المؤمنين عنده ، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه ، من التعليم ، بمعنى الإعلام والإخبار ، فلذا تعدى للثاني بالباء . وقيل : تعدى بها لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور . وفيه تجهيل لهم وتوبيخ . أي : لأن قولهم : { ءَامَنَّا } إن كان إخباراً للخلق فلا دليل على صدقه ، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له ، لأنهم كيف يعلّمونه ، وهو العالم بكل شيء ، كما قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال ابن جرير : هذا ما تقدم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا , ويقولوا غير الذي هم عليه من دينهم . يقول : الله محيط بكل شيء عالم به ، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم ، فينالكم عقوبته ، فإنه لا يخفى عليه شيء .
ثم أشار إلى نوع آخر من جفائهم ، مختوماً بتوعدهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 17 ] .
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } أي : انقادوا وكثّروا سواد أتباعك { قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم } أي : بإسلامكم ، إذ لا ثمرة منه إلي : { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } [ الإسراء : 15 ] ، { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في قولكم : { ءَامَنَّا } لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون ، لاطلاعه على الغيوب ، كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 18 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال ابن جرير يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب ، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه ، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده ، فلا تعلّمونا دينكم ، وضمائر صدوركم ، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض .
تنبيهات :
الأول - روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! أسلمنا وقاتلتك العرب ، ولم نقاتلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم > - ونزلت هذه الآية - .
وقال ابن زيد : هذه الآيات نزلت في الأعراب . ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب ، غير المعنيّين أولها ، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته ، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة - والله أعلم .
الثاني - في قوله تعالى : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } الآية ، ملاحظة المنة لله ، والفضل في الهداية ، والقيام بواجب شكرها ، والاعتراف بها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين : < يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلّالاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي ، وكنتم عالة فأغناكم الله بي > ؟ - كلما قال شيئاً ، قالوا : الله ورسوله أمَنّ .
وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له ، بعد الثناء على الله تعالى : وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم ، والفوز العظيم ، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم ، والمورد الوخيم ، فكان آخرهم في الدنيا عصراً ، وأولهم يوم الدين ذكراً ، وأرجحهم عند الله ميزاناً ، وأوضحهم حجة وبرهاناً ، وأبعدهم في الفضل غاية ، وأبهرهم معجزة وآية ، محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً ، الذي اتخذه صفياً وحبيباً ، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً ، على حين ذهاب منهم مع الشيطان ، وصدوف عن الرحمن ، وتقطيع للأرحام ، وسفك للدماء الحرام ، واقتراف للجرائم ، واستحلال للمآثم .
أنوفهم في المعاصي حمية ، ونفوسهم في غير ذلك ذات الله أبيّة ، يدعون معه الشركاء ، ويضيفون إليه الأكفاء ، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا يغني عنهم شيئاً . فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان ، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن ، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً ، وبالعنف لما وجد أنصاراً وجنوداً . لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه ، ولا رسماً إلا أزاله وعفّاه ، ولا حجة مموّهة إلا كشفها ودحضها ، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها حتى ضرب الحق بجرانه ، وصدع ببنيانه ، وسطع بمصباحه ، ونصع بأوضاحه ، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار ، وعلّاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار ، واتصل حبلها بعد البتات ، والتألم شملها بعد الشتات ، واجتمعت بعد الفرقة ، وتواعدت بعد الفتنة ، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية ، رائحة غادية ، منجزة عدته ، رافعة درجته .
الثالث - قال الرازي : هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق . وهي إما مع الله تعالى ، أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو مع غيرهما من أبناء الجنس . وهم على صنفين ؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين ، وداخلين في رتبة الطاعة ، أو خارجاً عنها ، وهو الفاسق . والداخل في طائفتهم ، السالك لطريقتهم ، إما أن يكون حاضراً عندهم ، أو غائباً عنهم ، فهذه خمسة أقسام :
أحدها - يتعلق بجانب الله .
وثانيها - بجانب الرسول .
وثالثها - بجانب الفسّاق .
ورابعها - بالمؤمن الحاضر .
وخامسها - بالمؤمن الغائب .
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات : { يَا أَيَّهَا الَّّذيِنَ ءَامَنُواْ } ، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة .
فقال أولاً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله ، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله .
وقال ثانياً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ، لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ثالثاً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } ، لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم ، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم ، وبيّن ذلك عند تفسير قوله : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } .
وقال رابعاً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } وقال : { وَلا تَنَابَزُوا } لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم ، والإزراء بحالهم ومنصبهم .
وقال خامساً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } وقال : { وَلا تَجَسَّسُوا } وقال : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته ، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى . وهو في غاية الحسن من الترتيب .
فإن قيل : لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة . الابتداء بالله ، ورسوله ، ثم بالمؤمن الحاضر ، ثم بالمؤمن الغائب ، ثم الفاسق ؟ .
نقول : قدم الله ما هو الأهم على ما دونه ، فذكر جانب الله ، ثم جانب الرسول ، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق ، والاعتماد عليه ، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور . وأما المؤمن الحاضر ، أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتال . ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق ، آية الاقتتال فقال : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } ؟ انتهى .

(/)


سورة ق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } [ 1 ]
هو حرف من حروف التهجي المفتتَح بها أوائل السور ، مثل : { ص } و { ن } ، و { الم } ، و { حم } ، ونحوها . علم على السورة ، على الصحيح من أقوال ، كما تقدم مراراً .
تنبيه :
قال ابن كثير : روي عن بعض السلف أنهم قالوا : { ق } جبل محيط بجميع الأرض يقال له : جبل قاف .
وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بني إِسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ؛ لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يُصَدّق ولا يكذب . وعندي أن هذا وأمثاله من اختلاق بعض زنادقتهم يلبِّسون على الناس أمر دينهم ، كما افتُريَ في هذه الأمة - مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها - أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمَّة بني إِسرائيل ، مع طول المدى ، وقلة الحفّاظ والنقاد فيهم ، وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته ؟ ! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : < وحدثوا عن بني إِسرائيل ولا حرج > فيما قد يجوِّزه العقل ، فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه البطلان ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل .
وقد أكثر كثير من السلف المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنَّة .
ثم ردّ ابن كثير - رحمه الله - ما قيل من أن المراد من : قضي الأمر والله ! كقول الشاعر :
~ قلت لها قفي فقالت قاف
أي : إني واقفة ، بأن في هذا نظراً ؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ . انتهى .
{ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } أي : ذي المجد والشرف على غيره من الكتب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ 2 ]
{ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي : لأنْ جاءهم منذر من جنسهم ، لا من جنس الملَك ، أو من جلدتهم ، وهو كما قال أبو السعود : إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف ، كأنه قيل : والقرآن المجيد أنزلناه إليك ؛ لتنذر به الناس ، حسبما ورد في صدر سورة الأعراف ، كأنه قيل بعد ذلك : لم يؤمنوا به ، جعلوا كلاً من المنذر والمنذر به عُرضة للنكير والتعجب ، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول ، وأقربه إلى التلقي بالقبول .
وقيل : التقدير : والقرآن المجيد إنك لمنذر . ثم قيل بعده : إنهم شكوا فيه ، ثم أضرب عنه . وقيل : بل عجبوا ، أي : لم يكتفوا بالشك والرد ، بل جزموا بالخلاف ، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة . وقيل : هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد ، كأنه قيل : ليس سبب اقتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له ، ولكن لجهلهم .
{ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } تفسير لتعجبهم ، وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار ، مع زيادة تفصيل لمحل التعجب . وهذا إِشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذراً بالقرآن . وإضمارهم أولاً للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم ، وإظهارهم ثانياً للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه ، أو عطف لتعجبهم من البعث ، على تعجبهم من البعثة . على أن هذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ 3 ] .
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } تقرير للتعجيب وتأكيد للإنكار . والعامل في إذا مضمر غنيّ عن البيان ؛ لغاية شهرته ، مع دلالة ما بعده عليه ، أي : أحين نموت ونصير تراباً نرجع ، كما ينطق به النذير والمنذر به . مع كمال التباين بيننا وبين الحياة, حينئذٍ .
ذلك إشارة إلى محل النزاع { رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي : عن الأوهام أو العادة أو الإمكان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ 4 ]
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ } أي : ما تأكل من أجسامهم بعد مماتهم . وهو ردٌّ لاستبعادهم ، وإزاحة له . فإن من عمّ علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقِص الأرض من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم ، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا ! وقيل : المعنى ما يموت فيدفن في الأرض منهم .
{ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } قال أبو السعود : أي : حافظ لتفاصيل الأشياء كله ، أو محفوظ من التغير . والمراد : إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها ، بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء . أو تأكيد لعلمه تعالى بها ، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ 5 ]
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ } وهو القرآن { لَمَّا جَاءهُمْ } أي : من غير تأمُّل وتفكُّر .
قال الزمخشري : إضراب أتبع الإضراب الأول ؛ للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق ، الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات ، في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر . وكونه أفظع ؛ للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه .
{ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي : مضطرب ، يعني اختلاف مقالتهم فيه من ادعاء أنه شعر أو سحر ونحوه ؛ تعنتاً وكبراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ 6 ]
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوا } أي : هؤلاء المكذبون بالبعث ، المنكرون قُدرَتنا على إحياءهم بعد فنائهم ، { إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا } أي : رفعناها بغير عمد { وَزَيَّنَّاهَا } أي : بالنجوم { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } قال ابن جرير : يعني ومالها من صُدوع وفروق ، كقوله تعالى :
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك 3 - 4 ] أي : كليل عن أن ترى عيباً أو نقصاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ 7 ]
{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي : بسطناها .
{ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت ، حفظاً لها من الاضطراب ؛ لقوة الجيشان في جوفها ، { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف { بَهِيجٍ } أي : حسن المنظر ، يُبتهَج به لحُسنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ 8 ]
{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي : لتبصر وتذكِّر كلَّ عبد منيب راجع إلى ربِّه ، مفكّر في بدائع صنعه .
و { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى } منصوبات بالفعل الأخير على أنهما مفعولان له ، وإن كانتا علتين للأفعال المذكورة معنى . أو بفعل مقدر ، أي : فعلنا ما فعلنا تبصيراً وتذكيراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } [ 9-11 ]
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء } أي : المُزن { مَاء مُّبَارَكاً } أي : كثير المنافع ، { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } أي : أشجاراً ذوات أثمار ، { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } أي : الزرع المحصود من البُر والشعير وسائر أنواع الحبوب . وتخصيص إنبات حبه بالذكر ، لأنه المقصود بالذات .
{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } أي : وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النخلَ طوالاً ، أو حوامل ، من أبسقت الشاةُ ، إذا حملت ، فيكون من : أفعل فهو فاعل ، والقياس : مفعل ، فهو من النوادر كالطوائح واللواقح ، في أخوات لها شاذة ؛ وإفرادها بالذكر مع دخولها في { جَنَّاتٍ } لبيان فضلها بكثرة منافعها . وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل .
{ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } أي : متراكم بعضه فوق بعض .
{ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ } أي : لرزقهم ، قال أبو السعود : علة لقوله تعالى : { فَأَنبَتْنَا } وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير, تنبيهٌ على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار ، أهم من تمتعه به من حيث الرزق . وقيل : { رِزْقاً } مصدر من معنى { أَنبَتْنَا } لأن الإنبات رزق . { وَأَحْيَيْنَا بِهِ } أي : بذلك الماء { بَلْدَةً مَّيْتاً } أي : أرضاً جدبة ، فأنبتت أنواع النبات والأزهار
{ كَذَلِكَ الْخُرُوجَ } أي : خروجهم أحياء من القبور . شبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى بإخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها ، فـ { كَذَلِكَ } خبر { الْخُرُوجَ } ، أو مبتدأ ، فالكاف بمعنى مثل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ 12 -14 ] .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أي : قبل قريش { قَوْمِ نُوحٍ } قال أبو السعود : استئناف وارد لتقرير حقيقة البعث ، ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم السلام عليها ، وتعذيب منكريها .
{ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } وهو بئر كانوا عنده . يقال : إنهم قوم شعيب عليه السلام . ويقال غير ذلك ، كما تقدم في سورة الفرقان .
{ وَثَمُودَ } وهم اللذين جادلوا صالحاً ، وقتلوا الناقة .
{ وَعَادٍ } وهم اللذين جادلوا هوداً في أصنامهم .
{ وَفِرْعَوْنَ } وهو الذي جادل موسى فيما أُرسل به . قال الرازي : ولم يقل : وقوم فرعون ؛ لأن فرعون كان هو المغترّ المستخف بقومه والمستبد بأمره .
{ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } وهم اللذين جادلوه في إتيان الرجال .
{ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ } أي : الغيضة من الشجر ، المجادلون شعيباً في الكيل والوزن .
{ وَقَوْمُ تُبَّعٍ } قال المهايمي : المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدِّين . ومضى الكلام على ذلك في الحِجر والدخان .
{ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } أي : كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم ، ومن كذب رسولاً فكأنما كذب جميع الرسل ، كقوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 105 ] وإنما جاءهم رسول واحد ، فهم في نفس الأمر ، لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم ، أفاده ابن كثير ، وهو توجيه لجمع الرسل . وإفراد ضمير { كَذَّبَ } مراعاة للفظ { كَذَّبَ } فإنه مفرد وإن كان جمعاً معنى . { فَحَقَّ وَعِيدِ } أي : فوجب لهم الوعيد الذي وعد به مَنْ كفر ، وهو العذاب والنقمة . قال ابن جرير :
إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل ؛ ترهيباً منه بذلك مشركي قريش ، وإعلاماً منه لهم أنهم إن
لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنه مُحِلٌ بهم من العذاب مثل الذي أحلَّ بهم . أي : فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه ، وتهديد لهم .

(/)


القول في تأويل لقوله تعالى :
{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ 15 ]
{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } أي : أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة ؟ ! فالهمزة للإنكار . قال الشهاب : العي هنا بمعنى العجز ، لا التعب . قال الكسائي : تقول : أعييت من التعب ، و عييت من انقطاع الحيلة ، والعجز عن الأمر . وهذا هو المعروف والأفصح ، وإن لم يفرق بينهما كثير .
{ والخلق الأول } والخلق الأول هو الإبداء على ما ذكر ، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض ؛ لأن خلق الْإِنْسَاْن متأخر عنه ، ويدل له آية : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } [ الأحقاف : 33 ] الآية .
وقوله { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } عطف على مقدر ، يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم معترفون بالخلق الأول ، فلا وجه لإنكارهم للثاني ، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس ؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرَّق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية ، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية .
لطيفة :
قال الناصر : في الآية أسئلة ثلاث : لِمَ عَرَّف الخلق الأول ، ونكَّر اللبس ، والخلق الجديد ؟
فاعلم : أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه ، ومنه تعريف الذكور في قوله { وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] ، ولهذا المقصد عرَّف الخلق الأول ؛ لأن الغرض جعله دليلاً على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى ، أي : إذا لم يعيَ تعالى بالخلق الأول - على عظمته - فالخلق الآخر أولى أن لا يَعيىَ به . فهذا سر تعريف الخلق الأول .
وأما التنكير فأمره منقسم : فمرَّةً يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام ، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة . ومرةً يقصد به التقليل من المنكَّر والوضع منه ، وعلى الأول : { سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 85 ] ، وقوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] و [ الحجرات : 3 ] ، و { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } [ الطور : 17 ] ، وهو أكثر من أن يحصى . والثاني : هو الأصل في التنكير ، فلا يحتاج إلى تمثيله ، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم ، كأنه قال : في لبس أي : ليس . وتنكير الخلق الجديد ؛ للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول . ويحتمل أن يكون للتفخيم ، كأنه أمرٌ أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبساً عليه ، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ 16 ] .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي : تحدِّث به نفسه ، وهوما يخطر بالبال . وقوله تعالى { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة ، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام ؛ إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه .
قال الشهاب : تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم ، لتنزّهه عن القرب المكاني ، إما تمثيلاً ، وإما إطلاق السبب وإرادة المسبب ؛ لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة . والمعنى : أنه تعالى أعلم بأحواله - خفيّها وظاهرها - من كل عالم . وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد ؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية ، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج ؛ وخص هذا لأن به حياته ، وهو بحيث يشاهده كل أحد . والحبل : العرق ؛ شبه بواحد الحبال ؛ فإضافته للبيان أو لامية ، من إضافة العام للخاص . فإن أبقى الحبل على حقيقته ، فإضافته كلجَيْن الماء .
تنبيه :
تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم بجعل { نَحْنُ } كناية عن الملائكة ، وعبارته : يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه . قال : ومن تأوله على العلم ، فإنما فرَّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإجماع ، تعالى اللهُ وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه ؛ فإنه يقلُّ : وأنا أقرب إليه ، وإنما قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } كما قال في المحتضر : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 85 ] ، يعني : ملائكته . وكما قال تبارك وتعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن ، بإذن الله عز وجل . وكذلك الملائكة أقربُ إلى الإنسان من حبل الوريد ، بإقدار الله جلَّ وعَلا لهم على ذلك . فللملَك لمَّةٌ من الإنسان كما أن للشيطان لمَّة ؛ ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم .
ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره بما ورد في الآية بعدها . والوجه الأول أدق وأقرب ، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم ، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ ما لا يخفى حسنه .
وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط ، بل له ولِما تقدم أولاً ، كما أن إيثار : نحن على : أنا لا يحسم ما نفاه ؛ لاحتمال إرادة التعظيم بـ : نحن ، كما هو شائع ، فلا يتم له ذلك . نعم ! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك ؛ لأنه بأمره تعالى وبإذنه ، ولكن لا ضرورة تدعو إليه ، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة . وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد مَن قال في تفسير الآية- كالقاشاني - ما مثاله : وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه ؛ لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ ، ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك ، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره ، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود ، من حيث هو وجود ، ولولاه لكان عدماً صِرفاً ولا شيئاً محضاً . انتهى كلام القاشاني ، ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف ؛ لأن لهؤلاء اصطلاحاً معروفاً ، وهم أوَّلُ من يتبرَّأ من الحلول والاتحاد ، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما في كتاب " دلائل التوحيد " الذي طبع بحمد الله من أمد قريب ، فارجع إليه واستغفر لمصنِّفه .
أقول : رأيت ابن كثير بعدُ ، مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية ، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه " شرح حديث النزول " : ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاً ، بل قُربُه الذي في القرآن خاصٌّ لا عام ، كقوله تعالى :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] فهو سبحانه قريب ممن دعاه ، وكذلك ما في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعريّ ، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال : < أيها الناس ! اربَعوا على أنفسكم ؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ، وإنما تدعون سميعاً قريباً ، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدِكم من عُنقِ راحلتِه > . فقال : < إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم > لم يقل : إنه قريب إلى كل موجود . وكذلك قول صالح عليه السلام { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ هود : 61 ] ، ومعلوم أن قوله : { قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } مقرون بالتوبة والاستغفار . أراد به قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه ، كما أنه رحيم ودود . وقد قرن القريب بالمجيب ، ومعلوم أنه لا يقال : مجيب لكل موجود ، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه ، فكذلك قربُه سبحانه وتعالى ، وأسماء الله المطلقة- كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب - لا يجب أن تتعلَّق بكل موجود ، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه ، واسمه العليم لمَّا كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلَّق بكل شيء .
وأما قوله تعالى :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } فالمراد به قربه إليه بالملائكة ، وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف ، قالوا : ملك الموت أدنى إليه من أهله ، ولكن لا تبصرون الملائكة . وقد قال طائفة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } بالعلم ، وقال بعضهم : بالعلم والقدرة والرؤية . وهذه الأقوال ضعيفة ، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عامٍّ من كل موجود ؛ حتى يحتاجوا أن يقولوا : بالعلم والقدرة ، ولكن بعض الناس لمَّا ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء ، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء ، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية . وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في الآية { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] : هو معهم بعلمه مع علوِّه على عرشه . وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين ، لم يخالفهم فيه أحد .
ثم قال : ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال : هو فوق عرشه ، وهو قريب من كل شيء ، بل قال :
{ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] ، وقال :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] .
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! أقريب ربُّنا فنناجيه ، أم بعيدٌ فنناديه ؟ < فسكت النبي صلى الله عليه وسلم > ، فأنزل الله تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } الآية . ولا يقال في هذا : قريب بعلمه وقدرته ، فإنه عالم بكل شيء ، قادر على كل شيء ، وهم لم يشكّوا في ذلك ولم يسألوا عنه ، وإنما عن قُربِه إلى مَن يدعوه ويناجيه ، فأخبر أنه قريب مجيب .
وطائفة من أهل السنة تفسر القُرْب في الآية والحديث بالعلم ؛ لكونه هو المقصود ، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده ، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول بإنه قريب من كل شيء ، بمعنى العلم والقدرة ، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف ، لكن لم يقل أحد منهم : إن نفس ذاته قريب من كل موجود ، وهذا المعنى يقرُّ به جميع المسلمين ، من يقول : إنه فوق العرش ، ومن يقول : إنه ليس فوق العرش .
ثم قال : وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارىء جلَّ وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت . ولمَّا ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسَّروا ذلك بالعلم والقدرة ، كما في لفظ المعية . ولا حاجة إلى هذا ، فإن المراد بقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أي : بملائكتنا ، في الآيتين ، وهذا بخلاف المعية ، فإنه لم يقل : ونحن معه ، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد ، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا ، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض ، وهو نفسه الذي استوى على العرش ؛ فلا يجعل لفظ مثل لفظ ، مع تفريق القرآن بينهما .
ثم قال : وقوله تعالى :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } لا يجوز أن يراد به مجرد العلم ، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال : إنه أقرب إليه من غيره ، بمجرد علمه به ، ولا بمجرد قدرته عليه . ثم إنه سبحانه عالم بما يُسَرُّ من القول وما يجهر به ، وعالم بأعماله ، فلا معنى لتخصيصه حبلَ الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه ؛ فإن حبل الوريد قريب إلى القلب ، ليس قريباً إلى قوله الظاهر ، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه . قال تعالى :
{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياقُ الآية ، فإنه قال :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فأخبر أنه يعلم وَسواسَ نفسه .
ثم قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } فأثبت العلم ، وأثبت القرب ، وجعلهما شيئين ، فلا يجعل أحدهما هو الآخر ، وقيد القرب بقوله { إِذْ يَتَلَقَّى } الآية .
وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذاتِ الربِّ من حبل الوريد ، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله ، فهذا في غاية الضعف ؛ وذلك أن الذين يقولون : إنه في كل مكان ، وإنه قريب من كل شيء بذاته ، لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء ، ولا يمكن مسلماً أن يقول : إن الله قريب من الميت دون أهله ، ولا : إنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء . وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم ، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان ، وهو في أهل الميت ، كما هو في الميت ، فكيف يكون { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } إذا كان معه ومعهم على وجه واحد ؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه ، وسياق الآيتين يدل على أن المراد هو الملائكة ! ، فإنه قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى } [ 16 - 17 ] الآيتين . فقيَّد القرب بهذا الزمان ، وهو زمان تلقي المتلقيين ، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان ، كما قال :
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } [ ق : 18 ] الآية . ومعلوم أنه لو كان قرب ذاتٍ لم يخصَّ ذلك بهذا الحال ، ولم يكن لذكر القعيدين : الرقيب والعتيد معنى مناسب . وكذلك قوله في الآية الأخرى : { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 83 - 85 ] ، فإن هذا إما يقال : إذا كان هناك من يجوِّز أن يبصر في بعض الأحوال ، لكن نحن لا نبصره ، والرب تعالى في هذا الحال لا يراه الملائكةُ ولا البشر . وأيضاً فإنه قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال . وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل : هي في مكان ، أو قيل : قريبة من كل موجود ، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال ، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء ، ولا يجوز أن يراد قرب الربّ الخاص ، كما في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبَده ، وهذا المحتضر قد يكون كافراً وفاجراً ، أو مؤمناً ومقرباً ؛ ولهذا قال تعالى :
{ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [ الواقعة : 88 - 94 ] . ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصُّه الربُّ بقُرب منه دون من حوله ، وقد يكون حوله قوم مؤمنون ، وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر ، كما قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] ، وقال تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] ، وقال :
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] ، وقال تعالى :
{ حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] ، وقال تعالى :
{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] .
ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وهذا كقوله سبحانه :
{ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 3 ] ، وقال تعالى :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [ يوسف : 3 ] ، وقال :
{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 17 - 19 ] ، فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه دلَّ على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة ؛ فإن صيغة : نحن يقولها المتبوع المطاع المعظَّم الذي له جنود يتبعون أمره ، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم ، وهو خالقهم وربُّهم ؛ فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه ، وملائكته تعلم ؛ فكان لفظ : نحن هنا هو المناسب ، وكذلك قوله : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فإنه سبحانه يعلم ذلك ، وملائكته يعلمون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إذا هَمَّ العبدُ بحسَنةٍ كُتبت له حسنة ، فإن عمِلها كتبت له عشرُ حسنات ، وإذا هَمَّ بسيِّئةٍ لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، وإن تركها لله كتبت له حسنة > . فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة ، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به .
ثم قال : وقوله : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ، يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك يعلمون ما توسوس به للعبد نفسُه ، كما قال : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، فهو يسمع ، ومن يشاء من ملائكته .
وأما الكتابة فرسله يكتبون كما قال هاهنا :
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] ، وقال تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] ، وأخبر بالكتابة : نحن ؛ لأن جنده يكتبون بأمره ، وفصَّل في تلك الآية بين السماع والكتابة ؛ لأنه يسمع بنفسه .
وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره ، والملائكة يكتبون ، فقوله :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } مثل قوله :
{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره ، كما كانوا كاتبين عمله بأمره ، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة ، كتكليمه عبده بتوسط الرسل ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } [ الشورى : 51 ] ، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل ، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار ، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة . انتهى كلامه رحمه الله .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ 17 ] .
{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } أي : ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به . فـ : إذْ ظرف لأقرب ، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين ، فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما ، لكنه لحكمة اقتضته ، وهي إلزام الحُجَّة في الأخرى ، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى .
وقال القاشاني : بيَّن تعالى بهذه الآية أقربيَّته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : هو مع كل شيء لا بمقارنة ؛ إذ الشيء به ذلك الشيء ، وبدونه ليس شيئاً حتى يقارنه . أي : يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين ، مع كونه أقرب إليه منهما . وإنما تلقيهما للحجة عليه ، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية ، للجزاء .
ثم قال : والمتلقي القاعد عن اليمين ، وهو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة ؛ وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة ، وهي جهة النفس التي تلي الحق . والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية ، والآراء الشيطانية والوهمية ، والأقوال الخبيثة الفاسدة ؛ وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة ، وهي التي تلي البدن ، ولأن الفطرة الإنسانية خيِّرة بالذات ، لكونها من عالم الأنوار ، مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات . والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته ، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال ، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال ، وإن صدرت منه سيئة منع صاحبَ الشمال من كتابتها في الحال انتظاراً للتسبيح ، أي : التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية ، بالرجوع إلى مقره الأصليّ وسنخه الحقيقيّ وحاله الغريزي ؛ لينمحي أثر ذلك الأمر العارضيّ بالنور الأصليّ والاستغفار ، أي : التنوُّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية ، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كما روي < أن كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار : دعهُ سبعَ ساعات ، لعلَّه يسبِّح أو يستغفر > . انتهى .
وقد كثر في كلام القاشاني رحمه الله تأويل المَلَك بالقوة الحاثة على الخير ، والشيطان بالمغوية على الشر . وسبقه إليه الحكماء ، قال بعض الحكماء : هذا الشيء الذي أودِع فينا ونسميه قوة وفكراً ، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كُنهه ، وروحٌ لا تُكتنه حقيقتها ، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكاً ويسمي أسبابه ملائكة ، أو ما شاء من الأسماء ، فإن التسمية لا حجْر فيها على الناس ، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة ، والسلطان النافذ والعلم الواسع ؟ .
وقد سبق الغزاليُّ إلى هذا المعنى وعبَّر عنه بالسبب ، وقال : إنه يسمَّى ملَكا ، فإنه في شرح عجائب القلب من كتاب " الإحياء " بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم ، قال : وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان : فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً . . . إلخ . والبحث كله غُرر ، تجدر مراجعته .
لطيفة :
{ قَعِيدٌ } كجليس بمعنى مجالس ، لفظاً ومعنى ؛ وإنما أفرِد رعايةً للفواصل ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كقوله :
~فإني وقيّارٌ بها لغريبُ
وقيل : يطلق فعيل للواحد والمتعدد ، كقوله :
{ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] ، وضعف بأنه ليس على إطلاقه ، بل إذا كان فعيل بمعنى مفعول بشروطه ، وهذا بمعنى فاعل ، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ 18 ] .
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ } أي : ملك يرقِب عمله ، { عَتِيدٌ } أي : حاضر . ولمَّا ذكر استبعادهم للبعث وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه ، أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب ، ونبَّه على اقترابه بلفظ الماضي ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ 19 ] .
{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } أي : شدَّتُه المحيِّرة الشاغلة للحواس ، المذهلة للعقل { بِالْحَقِّ } أي : بالموعود الحق والأمرِ المحقَّق ، وهو الموت ؛ فالباء للملابسة . أو بالموعود الحق من أمر الآخرة ، والثواب والعقاب الذي غفل عنه ، فالباء للتعدية ، أي : أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر ، وهي أحوالها الباطنة ، وأظهرتها عليه .
قال الشهاب : السكرة استعيرت للشدة ، ووجه الشبه بينهما أن كلاً منهما مذهِب للعقل ، فالاستعارة تصريحية تحقيقية . ويجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية . وإثبات السكرة لها تخييل .
{ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي : تَفرّ . والجملة على تقدير القول ، أي : يقال له وقت الموت : ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك ، فلم ينفعك الهرب والفرار .
وهل المشار إليه بذلك ، الحق أو الموت ؟ قال الطيبي : إن اتصل قوله :
{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } إلخ ، بقوله : { فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } وما معه ، فالمشار إليه بذلك الحق ، والخطاب للفاجر ، أي : جاءك أيها الفاجر الحقُّ الذي أنكرته ، وإن اتصل بقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ } إلخ ، فالمشار إليه الموت ، والالتفات لا يفارق الوجهين ، والثاني هو المناسب ، لقوله :
{ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } بعده ، وتفصيله { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } [ ق : 24 ] ، { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ ق : 31 ] انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [ 20 -21 ] .
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } يعني : نفخة البعث { ذَلِكَ } أي : النفخ { يَوْمُ الْوَعِيدِ } أي : وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدّم من الأعمال وما أخَّر .
{ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } قال ابن جرير : أي : سائق يسوقها إلى الله ، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر . وهل هما ملكان ، أو ملك جامع للوصفين ، أو الأول ملك ، والثاني الإنسان نفسه يشهد على نفسه ، أو سائق من أعمالها ، إلى مكان جزائها ، وشهيد من أجزائها ؟ أقوال : وقال القاشاني : أي : سائق من عمله ، وشهيد من عمله ؛ لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره ، وما اختاره بعمله . والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء وحكمه بملائمته له ، سواء كان أمراً سفلياً جسمانياً بعثه عليه هواه وأغراه عليه وهمُه وقوَّاه ، أو أمراً عُلوياً روحانياً بعثه عليه عقله ومحبَّتُه الروحانية وحرَّضه عليه قلبُه وفطرته الأصلية . فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه ، وشاهده بالميل الغالب عليه ، والحبُّ الراسخ فيه
والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه ، وينطق عليه كتابه بالحق ، وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ 22 ] .
{ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } في المخاطب بهذا ، أقوالُ ثلاثة :
أحدها : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، أتى بهذه الجملة معترضة في خلال النبأ الأُخروي ، تنويهاً بمِنَّة الإعلام بذلك ، والتعريف به ، ثم شدة نفوذ البصر به والوقوف على غوامضه بعد خلوِّ الذهن عنه رأساً . والمعنى : لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك ؛ فبصرك اليوم حديدٌ نافذ قوي ، ترَى مالا يَرون ، وتعلم مالا يعلمون . ومثله آية { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] .
وثانيها : أنه الكافر ، وأن الكلام على تقدير القول ، أي : يقال له : لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال ، فكشفنا عنك غطاءك بأن جلينا لك ذلك ، وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته ، فزالت الغفلة عنك . ومثله عن الكفار آية : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وآية : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [ السجدة : 12 ] .
وثالثها : أنه الإنسان مطلَقاً ، لقوله : { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ } ، والمقصود أنه كشف الغطاء عن البَرَََِّ والفاجر ، ورأى كل ما يصير إليه .
وعوَّل ابن جرير في الأولوية على الثالث .
قال الزمخشري : جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى بها جسده كله ، أو غشاوة غطى بها عينيه ، فهو لا يبصر شيئاً ، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها ، فيبصر ما لم يبصره من الحق .
وقال القاشاني في تأويل الآية : { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا } لاحتجابك بالحس والمحسوسات وذهولك عنه ؛ لاشتغالك بالظاهر عن الباطن { فَكَشَفْنَا عَنكَ } بالموت { غِطَاءكَ } المادي الجسماني الذي احتجبت به { فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي : إدراكك لما ذهلتَ عنه ولم تصدِّق بوجوده ، قويّ تعاينه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ 23 ]
{ وَقَالَ قَرِينُهُ } أي : قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد ، وهو إما الملك الموكل عليه في الدنيا لكتابة أعماله ، وهو الرقيب المتقدِّم ، أو الشيطان الذي قيِّض له مقارناً يغويه ، وهو الأظهر - كما اعتمده الزمخشري - لآية : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ، ويشهد له قوله تعالى : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } [ ق : 27 ] ، { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي : هذا شيء لدي حاضر معدٌّ محفوظ .
والإشارة على الأول لما في صحفه ، وعلى الثاني للشخص نفسه ، أي : هذا ما لدي عتيد لجهنم هيَّأته بإغوائي لها .
وقال القاشاني :
{ وَقَالَ قَرِينُهُ } أي : من شيطان الوهْم الذي غرَّه بالظواهر وحجبَهُ عن البواطن : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } مهيَّأ لجهنم ، أي : ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية ، وأنه ملَكه واستعبده في طلب اللذات البدنية ، حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } [ 24 ]
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد ، على أنهما ملكان ، لا ملك جامع للوصفين ، أو لملكين من خزنة النار ، أو لواحد ؛ وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل ، وتكريره على أنه أصله : ألق ، ألقِ ، ثم حذف الفعل الثاني ، وأبقى ضميره مع الفعل الأول ، فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر ، أو الألف بدل من نون التوكيد ؛ لأنها تبدل ألفاً في الوقف ، فأجرى الوصل مجراه ، أوجه ذكروها .
وقال ابن جرير : أخرج الأمر للقرين - وهو بلفظ واحد - مَخرَجَ خطاب الاثنين . وفي ذلك وجهان من التأويل :
أحدهما : أن يكون القرين بمعنى الاثنين ، كالرسول ، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع . فرد قوله : { أَلْقِيَا } إلى المعنى .
والثاني : أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول ، وهي : إن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين ، فتقول للرجل : ويلك ! ارحلاها ، وازجُراها ، كما قال :
~فقلتُ لصاحبي لا تحْبِسِانا بِنَزْعِ أصولِهِ واجتْرَّ شيحا
وقال أبو ثروان :
~فإن تزجراني يا ابن عفانَ أنْزَجِرْ وإن تَدَعَاني أَحْمِ عِرضاً مُمنَّعَا
وسبب ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان ، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة ؛ فجرى كلام الواحد على صاحبيه . ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلاً : يا صاحبَي ، ياخليليّ . انتهى .
والكَفَََّّار المبالِغ في جحده وحدانيةَ الله تعالى وما جاء به رسوله صلوات الله عليه .
والعنيد المعانِد للحق وسبيل الهدى ، لا يسمع دليلاً في مقابلة كفره ، وقد زاد على العناد بوصف :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } [ 25 ]
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي : الكليّ ، وهو الإسلام ، أو المال . واستصوب ابن جرير أنه هنا كل حق وجب لله أو لآدمي في ماله ، لأنه لم يخصص منه شيء ؛ فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه { مُعْتَدِ } أي : متجاوز الحدَّ في الاعتداء على الناس بالبَذاء والفُحش في المنطق ، وبيده بالسطوة والبطش ظلماً ، كما قال قتادة : معتدٍ في منطقه وسيرته وأمره .
{ مُرِيبٍ } أي : شاكّ في الحق ، أو ُموقع صاحبه في الرَّيب مع كثرة الدلائل .
وقال القاشاني : الخطاب في { أَلْقِيَا } للسائق والشهيد الذيْن يُوبقانه ويُلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهِب مَهواة الهيولي الجسمانية ، وغيَابةِ جُبِّ الطبيعة الظلمانية في نيران الحرمان . أو لمالك . والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل ، كأنما قال : ألق ، ألق ، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية . ويقوّي الأول : أنه عدد الرذائل الموبقة التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم ، ووقوعهم في نيران الجحيم ، وبيَّن أنها من باب العلم والعمل . والكفران ومنع الخير كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية ، لانهماكها في لذاتها ، واستعمالها نِعَم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها ، ومن حقها أن تذكِّره وتبعث على شكره ، ومكالبتها عليها لفرط ولوعها بها ؛ فتمنعها عن مستحقِّيها . وذكرهما على بناء المبالغة ؛ ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه وغلبتِهما عليه ، وتعمقِه فيهما الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة . والعنود والاعتداء كلاهما من إفراط القوة الغضبية ، واستيلائها لفرط الشيطنة ، والخروج عن حد العدالة . والأربعة من باب فساد العمل . والريب والشرك كلاهما من نقصان القوة النطقية ، وسقوطها عن الفطرة بتفريطها في جنب الله ، وتصورها عن حد القوة العاقلة ؛ وذلك من باب فساد العلم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } [ 26 ] .
{ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } أي : عبَد معه معبوداً آخر من خلقه { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } أي : عذاب جهنم .
لطيفة :
الموصول إما مبتدأ مضمَّن معنى الشرط ، وخبره { فَأَلْقِيَاهُ } أو مفعول لمضمر يفسره { فَأَلْقِيَاهُ } أو بدل من { كُلَّ كَفَّارٍ } فيكون { فَأَلْقِيَاهُ } تكريراً للتوكيد . قيل على الأخير : إنه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن بين المؤكَّد والمؤكِّد شدة اتصال تمنع من العطف . وأجيب : بأنه من باب : وحقك ثم حقك ، نزّل التغاير بين المؤكَّد والمؤكد والمفسِر والمفسَر ، منزلةَ َالتغاير بين الذاتين بوجه خطابي . ولو جعل { الْعَذَابَ الشَّدِيدَ } نوعاً من عذاب جهنم ومن أهواله ، على أنه من باب { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] كان حسناً .
قال الشهاب بعد نقله ما ذكر : قال ابن مالك في " التسهيل " : فصلُ الجملتين في التأكيد بـ : ثم ، إن أمن اللبس ، أجود من وصلهما ، وذكر بعض النحاة الفاء . وذكر الزمخشري في الجاثية الواوَ أيضاً ، واتفق النحاة على أنه تأكيد اصطلاحيّ ، وكلام أهل المعاني في إطلاق منعه غير سديد . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } [ 27 ] .
{ قَالَ قَرِينُهُ } أي : قرين هذا الإنسان الكفَّار المنَّاع للخير ، وهو شيطانه الذي كان موكلاً به في الدنيا ، متبرئاَ منه { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } أي : بالإرابة ومنع الإسلام وجعلِ إله آخر معك { وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } أي : في طريق جائر عن سبيل الهدى ، جوراً بعيداً بنفسه .
قال القاشاني : وقول الشيطان : { مَا أَطْغَيْتُهُ } إلخ كقوله : { إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم } [ إبراهيم : 22 ] ، لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد ، بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية ، والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية ، لم يقبل وسوسة الشيطان ، وقبل إلهام الملك ؛ فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب من نور الفطرة ، واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة . انتهى .
وقال ابن جرير : وإنما أخبر تعالى عن قول قرين الكافر له يوم القيامة ، إعلاماً منه عباده ، تبرُّأ بعضهم من بعض يوم القيامة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } [ 28 ]
{ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } أي : لا تختصموا اليوم في دار الجزاء وموقف الحساب ؛ فلا فائدة في اختصامكم ، وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي في كتبي ، وعلى ألسن رسلي .
قال القاشاني : النهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاءه ، بل عدم فائدته, والاستماع إليه . كأنه قيل : لا اختصام مسموع عندي ، وقد ثبت وصحَّ تقديم الوعيد ، حيث أمكن انتفاعكم به ؛ لسلامة الآلات وبقاء الاستعداد ، فلم تنتفعوا به ولم ترفعوا لذلك رأساً ، حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم ، ورانت على قلوبكم ، وتحقق الحجاب ، وحقّ القول بالعذاب . انتهى .
وعن ابن عباس : أنهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجتهم وردَّ عليهم قولهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 29 ]
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } قال ابن جرير : ما يغيَّر القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله :
{ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها .
{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : فلا أعذب أحداً بذنب غيره ، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه .
وقال القاشاني :
{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ } حيث وهبت الاستعداد ، وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه ، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه ، وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة ، واستبدال ما يفنى بما يبقى .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته ؛ إذ لا مانع منها . وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز .
قال القاشاني : هذه المقاولات كلها معنوية ، مثلت على سبيل التخييل والتصوير ، لاستحكام المعنى في القلب ، عند ارتسام مثاله في الخيال ، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه ، عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه : الوهمية والعقلية ، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه : كالغضبية والشهوية مثلا ؛ ولهذا قال :
{ لَا تَخْتَصِمُوا } ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية ، كان أصل التخاصم بينهما ، وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر ، لتوقع نفع أولذة ، يتوقفان ما دام مطلوبهما حاصلاً ، فإذا حرما أوقعا بسعيهما في خسران وعذاب ، تدارءا ، أو نسب كلٌّ منهما التسبب في ذلك إلى الآخر ، لاحتجابهما عن التوحيد ، وتبرؤ كل منهما عن ذنبه لمحبَّة نفسه ؛ ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبي عليه السلام : ورأيت أهل النار يتعاورون . و < صوب عليه السلام قوله > . انتهى .
الثاني : إن قلت : لم طرحت الواو من جملة { قَالَ قَرِينُهُ } وذكرت في الأولى ؟ قلت : لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول ، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون .
فإن قلت : أين المقاولة ؟ قلت : لما قال قرينة : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } وتبعه قوله : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } وتلاه : { لَا تَخْتَصِمُوا } علم أن ثَمَّ مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق كأنه لما قال القرين : هذا ما لدي عتيد ، قال الكافر : رب هو أطغاني ، فلما قال الكافر ذلك ، قال القرين : ما أطغيته ، فلما حكى قول القرين والكافر كأن قائلاً يقول : فماذا قال الله تعالى ؟ فقيل : { قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } وذكر الواو في الجملة الأولى لأنها أول المقاولة ، ولا بد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين ، وقول قرينه ما قاله له ، هذا ملخص ما في" الكشاف " .
الثالث : جوز قوله تعالى :
{ بِالْوَعِيدِ } أن تكون الباء زائدة في المفعول ، وأن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول ، والباء للملابسة ، أو المعية ، والمعنى : قدمت هذا القول موعداً لكم به ، أو حال كون القول ملتبساً بالوعيد ، أو من { لَا تَخْتَصِمُوا } على تأويل تقديم الوعيد بالعلم به ، أي : لا تختصموا عالمين به ؛ وذلك لتصح الحالية ، ويكون بينها وبين عاملها مقارنة على اصطلاحهم .
الرابع : دل قوله تعالى :
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى ، كما لا إخلاف في ميعاد الله . وهذا يرد على المرجئة حيث قالوا : ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف لا يحقق الله شيئاً منه ، وقالوا : الكريم إذا وعد أنجز ووفَّى ، وإذا أوعد أخلف وعفا ، أفاده الرازي .
ووجه الاستدلال أنه لو صح ما ذكروه للزم تبديل قوله تعالى ، والخلف في إخباره - تقدس عن ذلك - مع أن طبيعة الذنب تقتضي العقوبة ، إلا أن يتاب منه ، أو يشاء تعالى العفو عنه .
الخامس : ذكروا في سر المبالغة في { بِظَلاَّمٍ } وجوهاً :
منها : أن فّعالاً قد ورد بمعنى فاعل ، فهذا منه .
ومنها : اعتبار كثرة الخلق .
ومنها : أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم ، إن عظيماً فعظيم وإن قليلاً فقليل ، فما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه ، قدس ذاته عما يتوهم مخذول ، والعياذ بالله ، أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ 30 ]
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } قال ابن جرير : فيه لأهل التأويل قولان :
الأول : أن معناه : ما من مزيد . فعن مجاهد قال : وعدها الله ليملأنها فقال : هلا وفَّيتك ؟ قالت : وهل من مسلك ؟ ! .
الثاني : معناه : زدني .
أي : فالاستفهام على الأول إنكاري ّ ، معناه النفي ، وأيد بآية { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] و [ السجدة : 13 ] ، والقرآن يفسر بعضُه بعضاًَ وعلى الثاني تقريريّ ، دلالة على سعتها . بحيث يدخلها من يدخلها ، وفيها فراغ وخلوّ ، كأنه يطلب الزيادة .
فإن قيل : الوجه الثاني - وهو كونها فيها فراغ - منافٍ لصريح النظم من قوله { لأملأن جهنم } الآية ، قلت : لا منافاة بينهما كما توهم ؛ لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن سكنها ، وإن كان فيها فراغ كبير ، كما يقال : إن البلدة ممتلئة بأهلها ، ليس فيها دار خالية ، مع ما بينها من الأبنية والأفضية . أو هذا باعتبار حالين ، فالفراغ في أول دخول أهلها فيها ، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ .
تنبيه :
ذهب جماعة إلى أن المقاولة في الآية مجاز على طريق الاستعارة التمثيلية ، وأن جهنم لشدة توقدها وزفيرها وتهافت الكفرة والعُصاة وقذفهم فيها ، كأنها طالبة للزيادة . وآخرون إلى أن ذلك حقيقة .
قال الناصرفي " الانتصاف " : إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة ، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه . وكيف نفرض ، وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك ؟ منها هذا ، ومنها < لجاج الجنة والنار > ، ومنها < اشتكاؤها إلى ربها ، فأذن لها في نَفَسين > . وهذه وإن لم تكن نصوصاً ، فظواهر يجب حملها على حقائقها ، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ، ما لم يمنع مانع ، ولا مانع هاهنا ، فإن القدرة صالحة والعقل يجوِّز ، والظواهر قاضية بوقوع ما جوَّزه العقل . وقد وقع مثل هذا قطعاً في الدنيا ، < كتسليم الشجر ، وتسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه > . ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة ، لا تسع الخرْق وضلَّ كثير من الخلق عن الحق . وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها ، فإن العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق . انتهى .
قال الشهاب : وهو كلام حسن ، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا . انتهى .
ولا تنس ما قلناه مراراً من أن اللغة لا تنحصر في الحقيقة ، وأن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة ، كما أوضحه السيوطي في " المزهر " والجرجاني في " أسرار البلاغة " . وفي شواهد العرب الكثيرة ما يؤيد المجاز ، ولا محذور فيه ، عدا عن كونه أبلغ ، كما قرروه . وبالجملة فالنظم الكريم يحتملها - والله أعلم - .
و { يَوْمَ } منصوب بـ : { ظَلاَّمٍ } أو بمضمر ، نحو : اذكر وأنذر . و المزيد إما مصدر كالمَحيد ، أو اسم مفعول كالمبيع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ 31 ]
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ } أي : قرِّبت ، أودنيت ، { لِّلْمُتَّقِينَ } أي : للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : مكاناً غير بعيد ، فهو صفة للظرف قام مقامه ، أو حال من الجنة . وتذكيره لأنه صفة مذكر ، أي : شيئاً غير بعيد ، أو تأويل الجنة بالبستان ، أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث ، فعومل معاملته وأجري مجراه . وعلى كلٍّ فهو للتأكيد ، ودفع التجوز ، فلا يقال بعد ذكر كونها قربت : لا يحتاج إلى كونها غير بعيدة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } [ 32 ]
{ هَذَا } أي : الثواب أو الإزلاف { مَا تُوعَدُونَ } أيها المتقون { لِكُلِّ أَوَّابٍ } أي : راجع عن معصية الله إلى طاعته ، تائب من ذنوبه { حَفِيظً } أي : حافظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه .
وقال القاشاني : أي : محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي ، كي لا يتكدر بظلمة النفس و { لِكُلِّ } بدل من { لِّلْمُتَّقِينَ } بإعادة الجار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ 33 ]
{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ } أي : خاف الله في سرِّه . وقال القاشاني : أي : من اتصف بالخشية وصارت الخشية مقامه . و { مَنْ } بدل بعد بدل ، أو خبر لمحذوف ، أي : هم من خشي . أو مبتدأ خبره ما بعده بتأويل : يقال لهم ادخلوها . . . . إلخ .
{ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي : جاء ربَّه تائب من ذنوبه ، راجع مما يكرهه تعالى إلى ما يرضيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ 34 - 35 ]
{ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } أي : يقال لهم : ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهمِّ والحزن والخوف .
{ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا } أي : مما تشتهيه نفوسهم وتلذّه أعينهم { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } أي : ممَّا لا يخطر على بالهم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } [ 36 ]
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم } أي : قبل هؤلاء المشركين من قريش { مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : قوة ، كعاد وفرعون وثمود { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ } أي : فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها . قال امرؤ القيس :
~لقد نقَّبتُ في الآفاق حتى رَضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ
{ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي : هل كان لهم - بتنقيبهم في البلاد - بطشاً عن الهلاك الذي وُعِدوا به لتكذيبهم الحق . والضمير على هذا في { نَقَّبُوا } للقرن الذين هم أشد بطشاً ، وجوز عوده لهؤلاء المشركين ، أي : ساروا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم ؟ .
قال ابن جرير : وقرأت القراء قوله { فَنَقَّبُوا } بالتشديد وفتح القاف ، على وجه الخبر عنهم . وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ : فنقِبوا بكسر القاف ، على وجه التهديد والوعيد ، أي : طوِّفوا في البلاد وترددوا فيها ، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ 37 ]
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في إهلاك القرون التي أُهلِكت من قبل قريش { لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي : لتذكرة يتذكر بها من كان له عقل من هذه الأمة ، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم ، خوفاً من أن يحلَّ بهم مثل الذي حلَّ بهم من العذاب .
{ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } أي : أصغى للأخبار - عن هذه القرون التي أهلِكت - بسمعه .
{ وَهُوَ شَهِيدٌ } أي : حاضر القلب متفهم لما يخبر به عنهم ، غير غافل ولا ساهٍ . على أن { شَهِيدٌ } من الشهود ، وهو الحضور ، والمراد : المتفطن ؛ لأن غير المتفطن كالغائب ، فهو استعارة أو مجاز مرسل . أو { شَهِيدٌ } بمعنى شاهد ، وفيه مضاف مقدر ، أي : شاهد ذهنه . أو هو من الشهادة ، والمراد : شاهد بصدقه ، أي : مصدق له ، لأنه المؤمن الذي ينتفع به . وهو كناية عن المؤمن ، نقله الشهاب .
لطيفة :
قيل : أو ، لتقسيم المتذكر إلى تالٍ وسامع ، أو إلى فقيه ومتعلم ، أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده ، وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكلِّيته ، وأزال الموانع بأسرها . وفي تنكير القلب وإبهامه ، تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر ، كلا قلب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ 38 ]
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } أي : إعياء .
قال قتادة : كذَّب الله ُاليهودَ وأهل الفِرى على الله ، وذلك أنهم قالوا : إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع ، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ 39 - 40 ]
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } يعني : المشركين من إنكار البعث والتوحيد والنبوة { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } أي : أعقاب الصلوات . والمراد بالتسبيح إما ظاهره ، وهو قرين التحميد . أو هو الصلاة ، من إطلاق الجزء ، أو اللازم على الكل ، أو الملزوم . فالصلاة قبل الطلوع ، الصبح . وقبل الغروب ، الظهر والعصر . ومن الليل ، العشاآن والتهجد . وأدبار السجود . النوافل بعد المكتوبات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } [ 41 - 42 ]
{ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي : استمع ، أي : لِما أخبرك به من أهوال القيامة ، يوم ينادي مناديها من كل مكان قريب ، بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء .
قال القاضي : ولعله في الإعادة نظير كن في الإبداء ، أي : فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ، وإن لم يكن نداء وصوت .
وفي ورود الأمر مطلقاً ، ثم تبيينه بما بعده ، تهويلٌ وتعظيم للمخبر به ، لِما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتفخيم لشأن المحدَّث عنه .
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ } أي : صيحة البعث من القبور ، والحشر للجزاء { بِالْحَقِّ } قال ابن جرير : يعني بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب .
{ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } أي : من القبور .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } [ 43 ]
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } أي : في الدنيا بإفاضة نور الحياة أو قطعه { وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } أي : مصير الجميع يوم القيامة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ 44 ]
{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً } أي : فيخرجون منها مسرعين { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي : ذلك الإخراج لهم جمع في موقف الحساب علينا سهلٌ بلا كلفة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ 45 ]
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يعني : مشركي مكة ، من فِريتهم على الله ورسوله ، وإنكارهم قدرته تعالى على البعث . وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لهم .
{ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } أي : بمسلَّط ومسيطر تقهرهم على الإيمان { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } أي : بل إنما بعثت مذكراً ومبلغاً ، فذكر بما أنزل إليك من يخاف الوعيد الذي أوعِد به من عصى وطغى ، فإنه ينتفع به .
ومن دعاء قتادة : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعدك ، يا بارّ يا رحيم .

(/)


سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ 1 ]
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } يعني : الرياح التي تذرو البخارات ذرواً ، أي : نوعاً من الذرو ليعقدها سُحباً . أو النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد ، مجازاً شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح . أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم ، وهو استعارة أيضاً شبهت الأشياء المعدة للبروز من كمون العدم ، بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها .
{ وَالذَّارِيَاتِ } اسم فاعل ذرا المعتل بمعنى فرّق وبدَّد ما رفعه عن مكانه . ويقال : أذرى أيضاً . وأما ذرَأ المهموز فبمعنى أنشأ وأوجد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً } [ 2 ]
{ فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً } أي : السُّحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار . كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :
~وأسلمتُ نفسي لمن أسْلَمَتْ لهُ المزنُ تحمل عذْباً زُلالا
أو الرياح الحاملة للسحاب ، أو النساء الحوامل ، أو أسباب ذلك .
والوِقر بسكر الواو ، كالحِمل وزناً ومعنى . وقرئ بفتح الواو على أنه مصدر سمي به المحمول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ 3 - 4 ]
{ فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً } أي : السُّفن الجارية في البحر سهلاً ، أو الرياح الجارية في مهابِّها ، أو الكواكب التي تجري في منازلها . و { يُسْراً } صفة مصدر محذوف ، أو جرياً ذا يُسرٍ .
{ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } أي : الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة ، أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف الرياح .
تنبيهات :
الأول : ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أموراً متباينة ، وأن تكون أمراً له أربعة اعتبارات . والأول هو المأثور عن علي رضي الله عنه : أن الذاريات هي الرياح ، والحاملات هي السحاب ، والجاريات هي السفن ، والمقسمات هي الملائكة . واختار بعضهم في الجاريات أنها الكواكب ؛ ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى
، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والملائكة فوق الجميع ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية .
واستظهر الرازي أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح ، وأطال في ذلك .
واللفظ متسع بجوهره للكل ، والله أعلم .
الثاني : فائدة الفاء إن قيل : إنها صفات للرياح ، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود ؛ فإن الذاريات تنشئ السحاب ، فتقسم الأمطار على الأقطار . وإن قيل : إنها أمور أربعة ، فالفاء للترتيب الذكريّ أو الرتبيّ .
الثالث : ذكر الرازي في الحكمة في القسم وجوهاً :
أحدها : أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي صلى الله عليه وسلم غالباً في إقامة الدليل ، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة ، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله ، وأنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال . كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليلَ ولم يبقِ له حجة ، يقول : إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل ، وعجزي عن ذلك . وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي ، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين ، فيقول : واللهِ إن الأمر كما أقول ، ولا أجادلك بالباطل . وذلك لأنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر ، فإذا تمّ الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول ، إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل ، فلا يبقى إلا السكوت ، أو التمسك بالإيمان ، وترك إقامة البرهان .
ثانيها : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تدع الديارَ بلاقعَ . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم < أكثر من الأيمان بكل شريف > ، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتاً . وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذباً ، وإلا لأصابه شؤم الأيمان ، ولناله المكروه في بعض الأزمان .
ثالثها : أن الأيمان التي أقسم الله تعالى بها كلُّها دلائل أخرجها في صورة الأيمان ، مثاله قول القائل لمنعمه : وحق نعمتِك الكثيرة إني لا أزال أشكرك . فيذكر النعم ، وهي سبب مفيد لدوام الشكر ، ويسلك مسلك كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة .
فإن قيل : فلِمَ أخرجها مخرج الأيمان ؟ نقول : لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم ، فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر ؛ فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين ، حيث أقبل القول على سماعه ، فخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ 5 - 6 ]
وقوله تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم ، و ما موصولة ومصدرية . والموعود هو قيام الساعة ، وبعث الموتى من قبورهم . و صادق بمعنى صدْق ؛ فوضع الاسم مكان المصدر ، أو هو من باب : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] .
{ وَإِنَّ الدِّينَ } أي : الجزاء على الأعمال إنْ خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر { لَوَاقِعٌ } أي : لحاصل . قال قتادة : وذلك يوم القيامة ، يوم يَدين اللهُ العباد بأعمالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ 7 - 9 ]
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ } أي : الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب . و { الْحُبُكِ } أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء ، إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشَّعر : آثار تثنّيه وتكسّره . والحُبُك بضمتين جمع حِباك ، كمثال ومثل وكتاب وكتب ، أو حبيكة كطريقة وطرق . قال زهير يصف غديراً :
~مُكللٌ بأصولِ الَّنجمِ تَنْسِجُهُ ريحٌ خَريقٌ لضاحي مَائهِ حُبُكُ
ويقال : ما أملح حباك هذه الحمامة ! وهو الخط الأسود على جناحها .
وعن الحسن : { ذَاتِ الْحُبُكِ } أي : النجوم قال : حُبِكَت بالخَلْق الحسن : حبكت بالنجوم ؛ وذلك لأنها تزين السماء ، كما يزين الثوب الموشَّى تحبيكه ، فشبهت النجوم بطرائق الوشي مجازاً بالاستعارة .
وقال بعض علماء الفلك : الحبك جمع حبيكة ، بمعنى محبوكة ، أي : مربوطة . فمعنى : { ذَاتِ الْحُبُكِ } ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية ، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة ؛ فالآية الشريفة نصٌّ على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الإفرنج أنهم مكتشفوها ؛ وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العلمية . انتهى .
{ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } أي : متخالف متناقض . قال ابن زيد : يتخرَّصون يقولون : هذا سحر ، ويقولون : { إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [ الأنعام : 25 ]
{ يُؤْفَكُ } أي : يصرف { عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي : صرف عن الحق الصريح الصَّرف التام ؛ إذ لا صرف أشد منه .
وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه ، هو تشبيه أقوالهم في اختلافها ، وتنافي أغراضها بالطرائق للسماوات في تباعدها ، واختلاف غاياتها .
ثم أشار أنهم لم يؤفكوا لإتباعهم الدلائل ، بل لأخذهم بالخرص والتخمين ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُتِلَ الْخَرَّاصُون َ *الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } [ 10 - 13 ]
{ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } أي : لُعِن الآخذون بالتخمين ، مع ترك دلائل اليقين .
{ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي : في جهل يَغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة وترك الشبهات الواهية { سَاهُونَ } أي : غافلون عما أتاهم وعما نزل إليهم ، بالانهماك في اللذات البدنية ، واستئثار الحظوظ العاجلة .
{ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } أي : متى يوم الجزاء ، ويوم يدين اللهُ العباد بأعمالهم .
{ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } أي : يحرقون ، وأصل الفتنة إذابة الجوهر ليظهر غشه ، ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه .
قال القاضي : جواب للسؤال ، أي : يقع يوم هم على النار يفتنون ، أو هو يوم هم . . . إلخ ، وفتح { يَوْمَ } لإضافته إلى غير متمكن ، ويدل عليه أنه قرئ بالرفع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ 14 ]
{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } أي : مقولاً لهم : ذوقوا عذابكم الذي طلبتموهُ ، بل الذي استعجلتموهُ قبل وقته ، كما قال :
{ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } أي : حصوله في الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ٍ *آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [ 15 - 19 ]
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } أي : الذين اتقوا الله بطاعته واجتنابِ معاصيه في الدنيا ، وبتجنب القول بالخَرص والتخمين في الأمور الاعتقادية { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ٍ *آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } قال ابن جرير : أي : عاملين ما أمرهم به ربهم ، مؤدين فرائضه . وقال غيرهُ : أي : قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخرويّ ، راضين به .
وهذا هو الوجه . ولذا قال ابن كثير : والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ؛ لأن قوله تبارك وتعالى { آخِذِينَ } حال من قوله { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } فالمتقون حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربُّهم ، أي : من النعيم والسرور والغبطة .
ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله :
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ } يعني : في الدنيا { مُحْسِنِينَ } أي : قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم ، كما بينه بقوله سبحانه :
{ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي : كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ؛ لتقوى نفوسُهم على عبادته تعالى بنشاط .
روى ابن جرير عن أنس في الآية : أنهم كانوا يصلّون ما بين هاتين الصلاتين ما بين المغرب والعشاء . وعن محمد بن عليّ : كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة .
وعن مطرِّف : قلَّ ليلة أتت عليهم إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها .
وعن الحسن قال : لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل .
وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال : لست من أهل هذه الآية .
وعن الضحاك : أن الوقف على قوله تعالى :
{ كَانُوا قَلِيلاً } أي : أن المحسنين كانوا قليلاً ، ثم ابتدئ فقيل : { مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } و { مَا } نافية أي : لا يهجعون .
قال ابن كثير : هذا القول فيه بعد وتعسُّف .
لطيفة :
في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم وترك الاستراحة ، وذلك ذكر القليل . والليل الذي هو وقت النوم ، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم ، وزيادة ما ؛ لأنها تدل على القلة .
وبالجملة ففي الآية استحباب قيام الليل ، وذمُّ نومه كله ، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة .
{ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال القاضي : أي : أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائمَ .
قال الرازي : في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ؛ فيستغفرون من التقصير ، وهذا سيرة الكريم : يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقلُّهُ ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمنّ به . وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه تعالى لمَّا بيَّن أنهم يهجعون قليلاً ، والهجوع مقتضى الطبع ، قال :
{ يَسْتَغْفِرُونَ } أي : من ذلك القدر من النوم القليل . وفيه لطيفة أخرى نبينها في جواب سؤال : وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر ، وما قال : كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون ، فما الحكمة فيه ؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد ، لا الهجوع ؟ نقول : إشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار ، في وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار .
ثم قال : والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم : ربنا اغفر لنا . وطلب المغفرة بالفعل أي : بالأسحار ، يأتون بفعل آخر طلباً للغفران ، وهو الصلاة . والأول أظهر ، والثاني عند المفسرين أشهر . انتهى . ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها ، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات ، وسرُّ التعبير عن الصلاة بالاستغفار الإشارةُ إلى أنه ركنها المهم في التهجد ، بل وفي غيره ، فيكون من إطلاق الجزء على الكل ، وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها ، كالركوع والسجود بين السجدتين وآخر الصلاة ، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن - و < كان صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد > لذلك .
لطيفة :
قال الزمخشريّ في " أساس البلاغة " : إنما سمي السَّحر استعارة ؛ لأنه وقت إدبار الليل وإقبال النهار ، فهو متنفس الصبح . انتهى .
{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أي : الفقير المتعفف الذي يُظَن غنياً ، فيحرم الصدقة .
قال قتادة : هذان فقيرا أهل الإسلام : سائل يسأل في كفِّه ، وفقير متعفف ، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم .
وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم : < ليس المسكين الذي تردُّّهُ اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيه ، ولا يُفطن له فيتصدق عليه > .
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < للسائل حق وإن جاء على فرس > . ورواه أبو داود وأسنده عن عليّ كرم الله وجههُ .
ويدخل في { الْمَحْرُومِ } كلُّ من لا مال له ، ومَن هلك ماله بآفة ، ومن حرِم الرزق واحتاج ، إلا أن أهم أفراده المتعفِّف ؛ ولذا عوّل عليه الأكثر .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : في أموالهم حق سوى الزكاة يَصِلون بها رحماً ، أو يُقرون بها ضيفاً ، أو يَحملون بها كَلاًّ .
ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات ؛ لكثرة الآيات الواضحة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [ 20 ]
{ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } أي : عِبَر وعِظات لأهل اليقين ، وهم الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس ويَنثلج له الصدر ، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النبات والحيوانات ، والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار عِبَراً وآيات عظاماً ، وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته ، جلَّ جلالُه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [ 21 ]
{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } أي : في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، واختلاف ألسنتها وألوانها ، وما جبلت عليه من القوى والإرادات ، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام ، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها في المحل المفتقر إليه ، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ، ولا لسان بليغ .
أنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه " التفكير والاعتبار " لشيخه أبي جعفر القرشيّ :
~وإذا نظرتَ تريدُ معتَبَراً فانظر إليك ففيك معتبرُ
~أنت الذي تُمسي وتُصبِحُ في الـ دنيا وكلُُّ أموره عِبَرُ
~أنت المصرَّف كان في صغر ثم استقلّ بشخصك الكبَرُ
~أنت الذي تنعاهُ خلقتهُ ينعاهُ منهُ الشَّعرُ والبَشَرُ
~أنت الذي تعطَى وتسلَب لا ينجيه من أن يُسلَب الحَذَرُ
~أنت الذي لا شيء منهُ له وأحقُّ منه بما له القَدَرُ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ 22 ]
{ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } يعني بـ { السَّمَاء } المزن ، وبالرزق المطر ، فإنه سبب الأقوات . والمراد بـ { مَا تُوعَدُونَ } العذاب السماويّ ؛ لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها ، والخطاب لمشركي مكة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ 23 ]
{ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ } أي : الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } أي : مثل نطقكم ، والضمير في { إِنَّهُ } عائد لِما ذكر من أمر الآيات والرزق ، أو أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو إلى { مَا تُوعَدُونَ } ، ويؤيد الأخير ما تأثره من أنباء وعيد المكذبين ، وبدأ منها بنبأ قوم لوط ، لأن قراهم واقعة في ممرهم إلى فلسطين
للاتجار ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [ 24 - 30 ]
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } يعني : الملائكة الذين دخلوا عليه في صورة ضيف . قال الزمخشريّ : فيه تفخيم للحديث ، وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما عرفه بالوحي . وإكرامهم أن إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجَّل لهم القِرى ، أو أنهم في أنفسهم مكرمون .
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ } أي : سلام عليكم { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي : أنتم قوم لا أعرفكم . وهو كالسؤال منه عن أحوالهم ليعرفهم ؛ فإن قولك لمن لقيتهُ : أنا لا أعرفك ! في قوة قولك : عرِّف لي نفسك وصِفْها .
{ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ } أي : ذهب إليهم خفية من ضيوفه . ومن أدب المضيف أن يخفي أمرهُ ، وأن يبادر بالقِرى من غير أن يشعر به الضيف ؛ حذراً من أن يكفّه ويعذرهُ ، قاله الزمخشريّ ، وأيده الناصر بما حكى عن أبي عبيد : أنه لا يقال : راغ ، إلا إذا ذهب على خفية ، وأنه يقال : روَّغ اللقمة إذا غمسها فرويت سمناً ، قال الناصر : وهو من هذا المعنى ؛ لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى . ومن مقلوباته : غور الأرض والجرح ، وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى . انتهى .
{ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي : قد أنضجه شيّاً .
{ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أي : بأن وضعهُ بين أيديهم { قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ } أي : منه . قال القاضي : وهو مشعر بكونه حَنيذاً . والهمزة فيه للعرض ، والحثّ على الأكل على طريقة الأدب إن قاله أول ما وضعه ، وللإنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم .
{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أي : أضمرها لظنِّه أنهم أرادوا به سوءاً { قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } أي : يبلغ ويكمل علمه .
{ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } أي : صيحة { فَصَكَّتْ } أي : لطمت { وَجْهِهَا } أي : تعجباً على عادة النساء في كل غريب عندهن { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي : عاقر ليس لي ولد .
{ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ } أي : مثل الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك ، فإنما نخبرك عن الله ؛ فاقبلي قوله ، ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة ولا الجهل بعدم قبولك للولادة { إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ 31 - 37 ]
{ قَالُ } أي : إبراهيم لضيفه { فَمَا خَطْبُكُمْ } أي : أمركم وشأنكم { أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي : مؤاخذتهم ؛ { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } أي : رجماً على فعلهم الفاحشة .
{ مُسَوَّمَةِ } أي : مرسلة ، أو معلّمة { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي : المتعدّين حدود الله ، الكافرين به .
{ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا } أي : في تلك القرية { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بإيحاء الخروج إليهم على لسان الملائكة ، وهم لوط وابنتاه عليهم السلام .
{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } يعني بيت قوم لوط عليه السلام .
{ وَتَرَكْنَا فِيهَا } أي : في تلك القرية { آيَةٍ } أي : علامة تدل على إهلاكهم الدنيويّ الدال على الأخرويّ { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } أي : في الآخرة ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ 38 - 40 ]
{ وَفِي مُوسَى } عطف على { فِيهَا } بإعادة الجار ؛ لأن المعطوف عليه ضمير مجرور ، أي : وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه آيةً وحجّةً تبين لمن رآها حقيقة دعواه .
{ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : ببرهان ظاهر .
{ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } أي : فأعرض عن الإيمان . والركن : جانب الشيء . فرُكنه جانب بدنه ، فالتولي به كناية عن الإعراض . والباء للتعدية ، لأن معناه ثنى عِطفَه ، أو للملابسة ، أو الركن فيه بمعنى الجيش ؛ لأنه يركن إليه ويتقوى به ، والباء للمصاحبة أو للملابسة .
{ وَقَالَ سَاحِرٌ } أي : هو ساحر .
{ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } أي : فأغرقناهم في البحر { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي : آت بما يلام عليه من الكفر والعناد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [ 41 - 42 ]
{ وَفِي عَادٍ } أي : وتركنا في عاد - قومِ هود عليه السلام- آية { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } أي : التي لا خير فيها من إنشاء المطر ، أو إلقاح الشجر . وهي ريح الهلاك .
{ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } أي : الشيء الهالك . وأصل الرميم : البالي المفتت من عَظم أو نبات أو غير ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ } [ 43 - 45 ]
{ وَفِي ثَمُودَ } أي : وتركنا في ثمود قومِ صالح عليه السلام { إِذْ قِيلَ لَهُمُ } أي : بعد عَقرهم الناقة { تَمَتَّعُوْا } أي : في داركم { حَتَّى حِينٍ } يعني : ثلاثة أيام ، كما بينته الآية الأخرى .
{ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي : فاستكبروا عن امتثاله { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ } يعني العذاب الحالّ بهم ، المعهود { وَهُمْ يَنظُرُونَ } أي : إليها ، فإنها نزلت بهم نهاراً .
{ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ } أي : نهوض ، فضلاً عن دفاع عذاب الله { وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ } أي : ممتنعين من العذاب ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } [ 46 ]
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } قرئ بالجر عطفاً على { وَفِي ثَمُودَ } أو المجروراتِ قبل . وبالنصب مفعولاً لمضمر دل عليه السياق والسباق ، أي : وأهلكنا قوم نوح ، أو عطفاً على مفعول { فَأَخَذْنَاهُ } أو على محل { وَفِي مُوسَى } { مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } أي : مخالفين أمر الله ، خارجين عن طاعته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [ 47 - 48 ]
{ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أي : رفعناها بقوة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أي : لقادرون على الإيساع ، كما أوسعنا بناءها .
{ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي : مهدناها ليتمتعوا بها { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } أي : لهم . وفي إيثار صيغة فاعل من : مهد على فرش ، إشارة إلى أن من المواد ما تختلف صيغته في النظم فعلاً واسماً ، فيكون في أحدهما أرقَّ وألطف وأفصح ، فيؤثر على غيره في ظرف ، ويؤثر عليه غيره في آخر ، والمرجع الذوق ، كما بسطه ابن خلدون وابن الأثير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 49 ]
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أي : ذكراً وأنثى ، أو نوعين متقابلين .
قال ابن كثير : جميع المخلوقات أزواج : سماء وأرض ، ليل ونهار ، شمس وقمر ، وبر وبحر ، وضياء وظلام ، وإيمان وكفر ، وحياة وموت ، وشقاء وسعادة ، وجنة ونار . حتى الحيوانات والنباتات . انتهى . وهو مأخوذ من كلام ابن جرير في تأييد تفسير مجاهد ، وعبارة ابن جرير :
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد : وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانياً له مخالفاً في معناه ، فكل واحد منهما زوج للآخر ، ولذلك قيل : خَلقَنَا زوجين ، وإنما نبَّه جلّ ثناؤه بذلك من قوله { خَلْقِهِ } على قدرته على خلق ما يشاء ، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه ، إذ كل ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداهُ ، كالنار التي شأنها التسخين ولا تصلح للتبريد ، وكالثلج الذي شأنه التبريد ولا يصلح للتسخين ، فلا يجوز أن يوصف بالكمال ، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة . انتهى .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قال ابن جرير : أي : لتَذَكّروا وتعتبروا بذلك ، فتعلموا أيها المشركون بالله أنَّ ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه ، وابتداع زوجين من كل شيء ، لا ما لا يقدر على ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 50 ]
{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ } أي : فِرّوا من عقابه إلى رحمته بالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته . قال الشهاب : الأمر بالفرار من العقاب ، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة ، لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة كأنه فرَّ لمأمنه ، فهو استعارة تمثيلية .
{ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : أنذركم عقابه وأخوِّفكم عذابه الذي أحلّه بهؤلاء الأمم الذين قصَّ عليكم قَصصهم ، والذي هو مذيقهم في الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 51 ]
{ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : قد أبان النذارة ، قال أبو السعود : وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى ، لكن لا بطريق التكرير - كما قيل - بل بالنهي عن سببه ، وإيجاب الفرار منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } [ 52- 54 ]
{ كَذَلِكَ } أي : كما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً { مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } يعني تقليداً لآبائهم واقتداء ً لآثارهم ، فمورد جهالتهم مؤتلف ، ومشروع تعنتهم متحد .
وقوله تعالى : { أَتَوَاصَوْا بِهِ } إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء ، فضلاً عن التفوه بها ، أي : أأوصى بهذا القول بعضُهم بعضاً حتى اتفقوا عليه .
وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك ، وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه من الطغيان الشامل للكل ، الدالّ على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم ، بمقتضى جِبلَّته الخبيثة ، لا بموجب وصية من قبلهم بذلك ، أفاده أبو السعود .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : أعرِض عن مقابلتهم بالأسوأ كقوله تعالى :
{ وَدَعْ أَذَاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ] ، وقولِه :
{ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } [ المزمل : 10 ] ، { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } أي : في إعراضهم ، إذ لست عليهم بجبار ولا مسيطر ، وما عليك من حسابهم من شيء .
تنبيه :
قول بعض المفسرين هنا- { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } : أي : فأعرض عن مجادلتهم ، بعد ما كررت عليهم الدعوة - بعيد عن المعنى بمراحل ؛ لأن مجادلتهم مما كان مأموراً بها على المدى ، لأنها العامل الأكبر لإظهار الحق ، كما قال تعالى :
{ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [ الفرقان : 52 ] .
وكذا قول البعض في قوله تعالى : { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } : أي : في إعراضك بعد ما بلغت ، فإنه منافٍ للأمر بالذكرى بعد . فالصواب ما ذكرناه في تفسير الآية ، لأنه المحاكي لنظائرها . وأعقد التفاسير ما كان بالأشباه والنظائر - كما قيل - وخير ما فسرته بالوارد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [ 55 ]
{ وَذَكِّرْ } أي : عِظهم { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : من قدر الله إيمانه ، أو الذين آمنوا فإنهم المقصودون من الخلق ، لا من سواهم ؛ إذ هم العابدون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ 56 ]
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } أي : لهذه الحكمة ، وهي عبادته تعالى بما أمر على لسان رسوله ؛ إذ لا يتمُّ صلاح ولا تنال سعادة في الدارين إلا بها . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ 57 - 58 ]
{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } بيان لعظمته عزّ وجلّ ، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم ، فإن عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة ، وبواسطة كاسب عبيدهم ، قدّر أرزاقهم والله تعالى لا يطلب من عباده رزقاً ولا إطعاماً ، بل هو الذي يرزقهم ، وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ } [ 59 ]
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد ، { ذَنُوباً } أي : نصيباً وافراً من العذاب { مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } أي : مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية . وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماءً ، أو القريبة من الامتلاء . وهي تذّكر وتؤنث ، فاستعيرت للنصيب مطلقاً ، شراً كالنصيب من العذاب في الآية ، أو خيراً كما في العطاء في قول عمرو بن شاس :
~وفي كل حيٍّ قد خبطتَ بنعمة فحُقَّ لشَأْسٍ من نَدَاكَ ذَنُوب
وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب ، فيعطى لهذا ذنوب ، ولآخر مثله .
{ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ } أي : لا يطلبوا مني أن أعجل به قبل أجله ، فإنه لا بد آتيهم ، ولكن في حينه المؤخر لحكمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } [ 60 ]
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } أي : أوعدوا فيه نزول العذاب بهم ، ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد . و اليوم إما يوم القيامة ، أو يوم بدر .
قال أبو السعود : والأول هو الأنسب بما في صدر السورة الكريمة الآتية .
والثاني هو الأوفق لما قبله ، من حيث إنهما من العذاب الدنيوّي ، والله أعلم .

(/)


سورة الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } [ 1 - 6 ].
{ وَالطُّورِ } أي : طور سِينين : جبل بِمَدْيَنَ ، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلامَ الله تعالى ، واندك بنور تجلِّيه تعالى .
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أي : مكتوب ، والمراد به القرآن ، أو ما يعمّ الكتب المنزلة .
{ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ } متعلق بـ : { مَّسْطُورٍ } أي : وكتاب سطّر في ورق منشور يُقرأ على الناس جهاراً ، و الرَّق الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه .
{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } أي : الذي يُعْمَر بكثرة غاشيته ، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمّار والطائفين والعاكفين والمجاورين . وروي أنه بيت في السماء بحيال الكعبة من الأرض ، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً . والأول أظهر ، لأنه يناسب ما جاء في سورة التين من عطف { الْبَلَدِ الْأَمِينِ } على { طُورِ سِينِينَ } والقرآن يفسر بعضه بعضاً ؛ لتشابه آياته وتماثلها كثيراً ، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب .
قال المهايميّ : أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي ؛ لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه ، ولأنه مظهر الوحي ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين ؛ ولأنه أجلّ الآيات وأكبرها ، كما دل عليه آية { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وآيات أخَر .
{ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } يعني السماء ؛ وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه .
{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } أي : المملوء ، أو الذي يوقد أي : يصير ناراً . كقوله { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [ التكوير : 6 ] . قال ابن جرير : والأول أولى ، أعني : أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض ؛ لأن الأغلب معاني السّجر الإيقاد أو الامتلاء ، فإذا كان البحر غير موقد اليوم ، ثبتت له الصفة الثانية وهو الامتلاء ، لأنه كل وقت ممتلئ ، ولا تنس ما قدمناه في أوائل الذاريات من أن هذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الإيمان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ *الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُون َ *اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 7 - 16 ]
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ } أي : يدفعه عن المكذبين فينقذهم منه إذا وقع .
{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً } أي : تضطرب
{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً } أي : تسير عن وجه الأرض فتصير هباءً منثوراً .
{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي : بالحق الجاحدين له .
{ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ } أي : من الاعتساف والاستهزاء { يَلْعَبُونَ } أي : بآيات الله ودلائله .
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } أي : يُدفعون إليها بعنف . يقال : دعَعْت في قفاه ، إذا دفعته فيه بإزعاج .
{ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك .
{ أَفَسِحْرٌ هَذَا } أي : الذي وردتموه الآن ، والفاء للسببية ؛ لتسبب هذا عما قالوه في الوحي { أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ } أي : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا . قال الزمخشريّ : يعني أم أنتم عمي عن المخبَر به ، كما كنتم عمياً عن الخبر ، وهذا تقريع وتهكم .
{ اصْلَوْهَا } أي : ذوقوا حرّ هذه النار { فَاصْبِرُواْ } أي : على ألمها { أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ } أي : الأمران : الصبر وعدمه سواء عليكم { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم ، وكفركم به .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ } إلخ ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزَع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير . فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } [ 17 - 20 ]
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : متلذِّذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة { وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } جمع عيناء وهي الواسعة العين ، في حسن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ 21 ]
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } أي : اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : في الجنات والنعيم ، والخطاب ، لما كان مع الصحابة رضي الله عنهم ، وهم واثقون بوعد الله ، تمم لهم البشارة بالموعود به ، بأنه ينال ذريتهم أيضاً ، إن اتبعوا آباءهم بإحسان ، هذا هو المراد من الآية . وأما من قال في معناها : إن المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به ، إن كانوا دونه في العمل ، فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً { وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } أي : وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئاً { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي : بما عمل من خير أو شر مرتهن به ، لا يؤاخَذ أحدٌ بذنب غيره ، وإنما يعاقب بذنب نفسه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [ 22 - 24 ]
{ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي : زدناهم وقتاً بعد وقت ، ما ذكر .
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي : يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها { لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ } أي : لا يتكلَّمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وباطله ، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله ، كما كان في الدنيا .
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي : مصون في كِنّ ، فهو أنقى له ، وأصفى لبياضه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [ 25 - 28 ]
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } أي : يتجاذبون أطراف الحديث المفضية إلى شكر المنعم ، والتحدث بالنعمة ، وذلك في مساءلة بعضهم بعضاً عما مضى لهم في الدنيا .
{ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي : خائفين من عذاب الله .
{ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } يعني : عذاب النار . وأصل { السَّمُومِ } الريح الحارة التي تدخل المسامّ ؛ فسميت بها نار جهنم لمشابهتها لها ، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى ، لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف .
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أي : نعبده مخلصين له الدين { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ } أي : المحسن بمن دعاه { الرَّحِيمِ } أي : لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ } [ 29 ]
{ فَذَكِّرْ } أي : من أرسلت إليهم وعِظهم { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ } أي : تتكهن فيما تدعوا إليه { وَلَا مَجْنُونٍ } أي : له رئيٌّ من الجن يخبر عنه قومه ما أخبر عنه ، كما يعتقده العرب في بعضهم ، ولكنك رسول الله حقاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } [ 30 - 31 ]
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } أي : حوادثَ الدهر أو الموت ؛ لأن { الْمَنُونِ } قد يراد به الدهر ، وريبه : صروفه . وقد يراد به الموت ، وريبه نزوله .
{ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } أي : حتى يأتي أمر الله فيكم . والأمر للتهكم بهم والتهديد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } [ 32 - 34 ]
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا } أي : عقولهم بهذا التناقض في القول ، { أَمْ } أي : بل { هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي : مجاوزون الحدَّ في العناد ، مع ظهور الحق .
{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي : اختلق هذا القرآن من عند نفسه ، { بَل لَّا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً ، فلذلك يرمونه بتلك الفِرى .
{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } أي : في الهداية بذاك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة ، كقوله { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } [ القصص : 49 ] ، { إِن كَانُوا صَادِقِينَ } أي : في زعمهم ، فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه ، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 35 - 43 ]
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } قال ابن جرير : أي : أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات ، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يفهمون لله حُجَّة ، ولا يعتبرون له بعبرة ولا يتعظون بموعظة . وقد قيل : إن معنى ذلك : أم خلقوا لغير شيء ، كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء ، بمعنى : لغير شيء { أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } أي : أنفسهم ، أو هذا الخلق ، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله ، ولا ينتهون عما نهاهم عنه ؛ لأن للخالق الأمر والنهي .
{ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ } أي : بوعيد الله ، وما أعدّ لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة ، فلذلك فعلوا ما فعلوا .
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ } أي : خزائن رزقه ، فهم لاستغنائهم معرضون { أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ } أي : الجبابرة المتسلِّطون .
{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } أي : مرتقى إلى السماء { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي : الوحي ، فيدَّعون أنهم سمعوا هنالك من الله أن الذي هم عليه حق .
{ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : بحجَّة واضحة تصدق دعواه .
{ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ } أي : حيث جعلوا - لسفاهة رأيهم - الملائكةَ إناثاً ، وأنها بناته تعالى ، مع أنه { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] .
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } أي : أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ } أي : من التزام غرامة { مُّثْقَلُونَ } أي : من أدائه ، حتى زهّدهم ذلك في إتباعك .
{ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي : منه ما شاؤوا ، وينبئون الناس عنه بما أرادوا .
{ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } أي : بالرسول وما جاء به { فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ } أي : الممكور بهم دونك ، فثق بالله وامض لِما أمرك به .
{ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ } أي : له العبادة على جميع خلقه { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزيهاً له عن شركهم ، وعبادتهم معه غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ 44 ]
{ وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } هذا جواب لمشركي قريش الذين كانوا يستعجلون العذاب ، ويقترحون الآيات كقولهم :
{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } إلى قوله { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [ الإسراء : 90 - 92 ] .
قال الزمخشريّ : يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم ، لو أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض ، يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } [ 45- 46 ]
{ فَذَرْهُمْ } أي : يخوضوا ويلعبوا ، ويلهِهم الأمل ، { حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } أي : يموتون .
{ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } أي : لا يدفع عنهم مكرُهم من عذاب الله شيئاً { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ 47 ]
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } أي : دون يوم القيامة ، وهو إما عذاب القبر, أو القحط ، أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم - أقوال للسلف - واللفظ صادق بالجميع { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : سنة الله في أمثالهم من الفجرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [ 48 ]
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : الذي حكم به عليك ، وامض لأمره ونهيه ، وبلِّغ رسالاته .
{ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } قال ابن جرير : أي : بمرأى منا ، نراك ونرى عملك ، ونحن نَحُوطك ونحفظك ، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين .
وقال الشهاب : يعني أن العين ، لما كان بها من الحفظ والحراسة استعيرت لذلك ، وللحافظ نفسه ، كما تسمى الربيئة عيناً ، وهو استعمال فصيح مشهور . ونكتة جمع العين هنا وإفرادها في قصة الكليم ، عدا عن أنه جمع هنا لما أضيف لضمير الجمع ، ووحد ثمة لإضافته لضمير الواحد ، هو المبالغة في الحفظ ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم ؛ لأن المقصود تصبير حبيبه على المكايد ومشاقّ التكاليف والطاعة ؛ فناسب الجمع ، لأنها أفعال كثيرة ، يحتاج كل منهما إلى حارس بل حراس . بخلاف ما ذكر هناك من كلاءة موسى عليه السلام { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي : من منامك .
وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من تعارَّ من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ثم قال : رب اغفر لي - أو قال : ثم دعا - استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ثم صلى ، قبلت صلاته > . وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السُّنن .
وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم قول : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله القدوس . و : لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم أستغفر لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهبْ لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
وقيل : حين تقوم إلى الصلاة ، روى مسلم في صحيحه عن عمر ، أنه كان يقول في : ابتداء الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ، و رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان < يقول ذلك > . وعن مجاهد : حين تقوم من كل مجلس . وكذا قال عطاء وأبو الأحوص .
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من جلس في مجلس ، فكثُر فيه لغطُه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك > . فقال رجل : يا رسول الله ! إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى ؟ ! قال : < كفارة لما يكون في المجلس > !
وقد أفرد الحافظ ابن كثير لهذا الحديث جزءاً على حِدة ، ذكر فيه طرقه وألفاظه وعلّله ، فرحمه الله .
ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق بالمواضع المذكورة كلها ، وتدلُّ الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها ؛ فإن السنة بيان للكتاب الكريم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [ 49 ]
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } أي : اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة بالليل ، كما قال تعالى :
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] .
وقد روي في أذكار الليل من التسابيح ما هو معروف في كتب الحديث . وقد جمعت ذلك معرىّ عن أسانيدها في كتابي " الأوراد المأثورة " .
{ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } أي : وسبحه وقت إدبارها ، وذلك بميلها إلى الغروب عن الأفق ، بانتشار ضوء الصبح ، وقد عنى ذلك إما فريضة الفجر أو نافلته ، أو ما يشملها . قال قتادة : كنا نحدَّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر . وقد ثبت في" الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : < لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل ، أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر > . وفي لفظ مسلم : < ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها > .
قال الزمخشريّ : وقرئ : وأدبار بالفتح ، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت .
تنبيه :
قال في " الإكليل " عن الكرمانيّ : إن بعض الفقهاء استدل به على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل لأن النجوم لا إدبار لها ، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون . انتهى .
وهو استدلال متين .

(/)


سورة النجم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ 1- 2 ]
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } أي : إذا غرب وغاب عن الأبصار ، أو انتثر يوم القيامة ، أو انقضّ .
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . والخطاب لقريش ، أي : ما حاد عن الحق ، ولا زال عنه .
{ وَمَا غَوَى } أي : ما صار غويّاً ، ولكنه على استقامة وسداد ورشد وهدى . وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغَيِّ . وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان { صَاحِبُكُمْ } للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم بمحاسن شؤونه المنيفة ؛ فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرح باسمه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ 3 - 4 ]
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي : وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه . وفيه تعريض بهم أيضاً { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } أي : ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه . وجملة { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } صفة مؤكدة لـ { وَحْيٌ } رافعة لاحتمال المجاز ، مفيدة للاستمرار التجدديّ .
والضمير للقرآن ، لفهمه من السياق ، ولأن كلام المنكرين كان في شأنه . وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به مطلقاً . واستدل على أن السنن القولية من الوحي ، وقوّاه بما في " مراسيل أبي داود" عن حسان بن عطية قال : كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة ، كما ينزل عليه بالقرآن ، ويعلمه إياها ، كما يعلمه القرآن ، واستدل أيضاً على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم . والصواب هو الأول ، أعني : كون مرجع الضمير للقرآن ، لما ذكرنا ، فإنه ردّ لقولهم { افْتَرَاهُ } [ يونس : 38 ] والقرينة من أكبر المخصصات . وجليّ أنه صلى الله عليه ، كثيراً ما يقول بالرأي في أمور الحرب ، وأمور أخرى ؛ فلا بد من التخصيص قطعا ، وبأنه لا قوة في المراسيل ، لما تقرر في الأصول . وبأن الآية لا تدل على منع الاجتهاد المذكور ، ولو أعيد الضمير لما ينطق مطلقاً ؛ لأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً ، لا نطقاً عن الهوى ؛ لأنه بمنزلة أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : متى ما ظننت كذا فهو حكمي ، أي : كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي ، فيكون وحياً حقيقة ، لاندراجه تحت الإذن المذكور ، لأنه من أفراده . فما قيل عليه من أن الوحي الكلام الخفيّ المدرك بسرعة ، فلا يندرج فيه الحكم الاجتهاديّ إلا بعموم المجاز ، مع أنه يأباه قوله :
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ االنجم : 5 ] غير وارد عليه ، بعدما عرفت من تقريره - نقله في " العناية " عن "الكشف " وتفصيل المسألة في مطولات الأصول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ 5 ]
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } أي : علم محمد صلى الله عليه وسلم ملَكٌ شديد قواه ، يعني جبريل عليه السلام . كما قال :
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } [ التكوير : 19 - 20 ] ، و { الْقُوَى } جمع قوة ، بضم القاف . ومن العرب من يكسرها كالرِّشا بكسر الراء في جمع رشوة بضمها والحِبا في جمع حُبوة ، نقله ابن جرير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } [ 6 - 7 ]
{ ذُو مِرَّةٍ } بكسر الميم ، أي : متابة وإحكام في علمه ، لا يمكن تغيّره ونسيانه . والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي :
{ ذُو مِرَّةٍ } من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله .
{ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } قال الزمخشريّ : فاستقام على صورة نفسه الحقيقة ، دون الصورة التي كان يتمثل بها ، كلما هبط بالوحي . وكان ينزل في صورة دحية . فالفاء - كما قال شراحه - سببية ، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق . أو عاطفة على { عَلَّمَهُ } أي : علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية .
وقيل : استوى بمعنى استولى بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور ، حكاه القاضي .
قال الشهاب : الأفق الناحية ، وجمعه آفاق . والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، لا مصطلح أهل الهيئة . انتهى .
وقال ابن كثير : وقوله تعالى :
{ فَاسْتَوَى } يعني جبريل عليه السلام ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس { وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى ، قاله عكرمة وغير واحد .
ثم قال ابن كثير : وقد قال ابن جرير هاهنا قولاً لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد ، وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى ، أي : هذا الشديد القوي وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ، أي : استويا جميعاً بالأفق الأعلى ، وذلك ليلة الإسراء ، كذا قال ، ولم يوافقه أحد على ذلك ، ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية وهو كقوله :
{ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا } [ النمل : 67 ] ، فعطف بالآباء على المكنيّ في { كُنَّا } من غير إظهار نحن ، فكذلك قوله :
{ فَاسْتَوَى وَهُوَ } قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :
~ألَم تَر أن النَّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ ولا يستوي والخِرْوعُ الْمُتَقَصِّفُ
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة ، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ ، ثم فترة الوحي فترة < ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مراراًً ليتردى من رؤوس الجبال > ، فكلما همَّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : يا محمد ! أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه . وكلما طال عليه الأمر ، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، قد سدّ عظم خلقه الأفق ، فاقترب منه ، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة الملَك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قدره ، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه . انتهى .
أقول : قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية ، وعبارته :
{ فَاسْتَوَى } فاستقام على صورته الذاتية ، والنبيّ بالأفق الأعلى ، لأنه حين كَوْن النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته ، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب ، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبيّ ، وكان من أحسن الناس صورة ، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر ، لم يفهم القلب كلامه ، ولم ير صورته . وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرتين : عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي ، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي . انتهى .
وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته :
{ فَاسْتَوَى وَهُوَ } أي : صاحبكم عند استواء نفسه ، صار بالأفق الأعلى الروحانيّ . انتهى .
وكذا الفخر الرازيّ وعبارته :
المشهور أن { هُوَ } ضمير جبريل ، وتقديره استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ ، فسدّ المشرق لعظمته ، والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، معناه : استوى بمكان ، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان .
فإن قيل : كيف يجوز هذا والله تعالى يقول :
{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] ، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين ؟ نقول : وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا هاهنا ، أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق المبين . يقول القائل : رأيت الهلال ، فيقال له : أين رأيته ؟ فيقول : فوق السطح ، أي : إن الرائي فوق السطح ، لا المرئي . و { الْمُبِينِ } هو الفارق ، من أبان الْإِنْسَاْن ، أي : هو بالأفق الفارق بين درجة الْإِنْسَاْن ، ومنزلة الملك ، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى وبلغ الغاية وصار نبياً ، كما صار بعض الأنبياء نبياً يأتيه الوحي في نومه وعلى هيئته ، وهو واصل إلى الأفق الأعلى ، والأفق الفارق بين المنزلتين . فإن قيل : ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه ، فإن قوله :
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } إلى غير ذلك ، وقوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته ؟ نقول : سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه ، عند ذكر تفسيره .
فإن قيل : الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته ، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته ، فسدّ المشرق ؟ فنقول : نحن ما قلنا : إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية ، حتى يلزم محالفة الحديث ، وإنما نقول : إن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين ، وبسط جناحيه ، وقد ستر الجانب الشرقي وسدَّه ، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك . انتهى كلام الرازي .
وفي القرطبيّ حكاية أقوال أخر ، وعبارته :
{ فَاسْتَوَى } أي : ارتفع جبريل وعلا إلى مكانة في السماء ، بعد أن علّم محمداً صلى الله عليه وسلم ، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير .
وقيل :
{ فَاسْتَوَى } أي : قام وظهر في صورته التي خُلِق عليها .
وقول ثالث : إن معنى { فَاسْتَوَى } أي : استوى القرآن في صدره . وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام .
الثاني : في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه .
وقول رابع : إن معنى { فَاسْتَوَى } فاعتدل ، يعني محمداً في قوّته ، والثاني في رسالته ، ذكره الماورديّ .
وعلى الأول يكون تمام الكلام { ذُو مِرَّةٍ } ، وعلى الثاني { شَدِيدُ الْقُوَى }
وقول خامس : إن معناه فارتفع ، وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : أنه جبريل ارتفع إلى مكانه ، على ما ذكرناه آنفاً .
الثاني : أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج .
وقول سادس :
{ فَاسْتَوَى } يعني الله عز وجل ، أي : استوى على العرش ، على قول الحسين . انتهى .
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية ، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها ، وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ 8 - 9 ]
{ ثم دنا } أي : ثم بعد استوائه اقترب جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم { فتدلى } أي : إليه .
قال ابن جرير : هذا من المؤخر الذي معناه التقديم ، وإنما هو ثم تدلى فدنا ، ولكنه حسن تقديم قوله : { دنا } إذ كان الدنو يدل على التدلي ، والتدلي على الدنو . كما يقال : زارني فلان فأحسن إليّ فزارني .
وقال الشهاب : التدلي مجاز عن التعلق بالنبيّ بعد الدنو منه ، لا بمعنى التنزل من علوّ ، كما هو المشهور . أو هو دنوّ بحالة التعلق ، فلا قلب ولا تأويل بـ : أراد الدنو ، كما في" الإيضاح " .
{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي : كان مسافة ما بينهما مقدار قوسين . أي : بقدرهما إذا مُدّا أو أقرب . أو الضمير لجبريل ، أي : كأنه قربه قدر ذلك .
قال الشهاب : وقاب قوسين وقيبه : ما بين الوتر ومقبضه ، والمراد به المقدار ، فإنه يقدّر بالقوس ، كالذراع .
وقد قيل : إنه مقلوب ، أي : قابى قوس ، ولا حاجة إليه ؛ فإن هذا إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله ، إذا تحالفوا أخرجوا قوسين ، ويلصقون إحداهما بالأخرى ، فيكون القاب ملاصقاً للآخر ، حتى كأنهما ذوا قاب واحد ، ثم ينزعانهما معاً ويرميان بهما سهماً واحداً ، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهما رضا الآخر ، وسخطه سخطه ، لا يمكن خلافه ، كذا قال مجاهد ، وارتضاه عامة المفسرين . انتهى .
قال السمين : وقوله تعالى :
{ أَوْ أَدْنَى } كقوله :
{ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] ، لأن المعنى : فكان بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي ، أي : لتقارب ما بينهما ، يشك الرائي في ذلك . فهو تمثيل لشدة القرب ، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بأنه في رأي العين ، ورأى الواقف عليه ، كما مر في { أَوْ يَزِيدُونَ } فإن المعنى : إذا رآهم الرائي يقول : هم مائة ألف أو يزيدون .
وقيل : أو بمعنى بل ، أي : بل أدنى .
و { أَدْنَى } أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف . أي : أو أدنى من قاب قوسين . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ 10 ]
{ فَأَوْحَى } أي : جبريل { إِلَى عَبْدِهِ } أي : عبد الله تعالى ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس ، وغاية ظهوره ، أو : فأوحى الله عز وجل ، بواسطة جبريل الذي تدلى إليه { مَا أَوْحَى } أي : مما أمره به . وفيه تفخيم للموحى به ؛ إذ الإبهام يفيد التعظيم ، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [ 11 ]
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } أي : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه . يعني : أنه رآه بعينه وتيقنه بقلب ، لاولم يشك في أن ما رآه حق وصدق ، وقرئ : { مَا كَذَبَ } بالتشديد ، أي : صدقه ولم يشك أنه ملَك رباني ، لا خيال شيطاني ، كما قال : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [ التكوير : 25 ] . وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة ، كما تقدم النقل عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } [ 12 ]
{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } أي : أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك والمنزل عليه .
قال القاشانيّ : أي : أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره ، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه ؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه ، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات ، فحيث لا تصور ، فلا مخاصمة حقيقية . انتهى . وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام ، لا يمكن لغيرهم اكتناهها ، وإنما عليهم الإيمان بها والإذعان لها ، لقيام الدليل عليها . وبالجملة فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئيّ ، لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات ، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ 13 - 18 ]
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } أي : مرّة أخرى من النزول ، وتأكيد الخبر عن الرؤية الثانية هذه ، لنفي الريبة والشك عنها أيضاً ، وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه .
{ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } أي : موضع الانتهاء . فـ { الْمُنْتَهَى } : اسم مكان ، أو مصدر ميميّ . وقد جاء في الصحيح أنها < شجرة نبق في السماء السابعة ، إليها ينتهي ما يعرج به من أمر الله من الأرض ، فيقبض منها ، وما يهبط به من فوقها ، فيقبض منها > .
قال القاضي : ولعلها شبهت بالسدرة ، وهي شجرة النبق ، لأنهم يجتمعون في ظلها ، يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله ، وهذه يجتمع عندها الملائكة ، فشبهت بها ، وسميت { سِدْرَةِ } لذلك . فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة ، لكن ورد في الحديث < أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هَجَر > ، فهي على هذا حقيقية ، وهو الأظهر ، قاله الشهاب .
{ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } أي : التي يأوي إليها أرواح المقرّبين .
{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قال القاشانيّ : أي : من جلال الله وعظمته . معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها ، وتهبط عليها ، وتحف من حولها .
{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ } أي : ما مال بصر رسول الله ، بل الله عليه وسلم عما رآه .
{ وَمَا طَغَى } أي : ما تجاوز مرئية المقصود له ، بل أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً لا شبهة فيه . وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم وتمكّنه ، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته .
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته . وفيه غاية التفخيم لمقامه ، وأنه من الآيات الكبر .
قال الناصر : ويحتمل أن تكون { الْكُبْرَى } صفة لآيات ، ويكون المرئيّ محذوفاً لتفخيم الأمر وتعظيمه ، كأنه قال : لَقَدْ رأى من آيات ربه الكبرى أموراً عظاماً لا يحيط بها الوصف . والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول .
تنبيهات :
الأول : قدمنا في تفسير قوله تعالى :
{ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة ، ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف ، كتوجيه ابن جرير والرازيّ ومن وافقهما ، وبعض أقوال حكاها القرطبيّ . والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير ، كما نقلناه عنه ، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك ، ونحن نقول في تأييده : إن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها . والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة ، فقد قال تعالى ثمة :
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير : 19 - 23 ] ، فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا ، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية ، وبيان دنوّ واقتراب لم يذكر في التكوير . وسر الزيادة هو ارتقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في معارج الكمالات وقتاً فوقتاً ، وسورة النجم مما نزل بعد التكوير ، كما حكاه في " الإتقان " عن ابن عباس وغير واحد من السلف ، فلذلك كان في النجم زيادة هذا التكريم والتفضيل . وحاصل المعنى : أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه ، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم ، جمّ المناقب ، لأنه شديد القوى ، ذو مرة ، رفيع المكانة بالأفق الأعلى . ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيّه تنزل من الأفق ودنا إليه ، وكان في غاية القرب منه ، والتمكن من رؤيته ، وتلقي الوحي عنه ، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه . وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه ، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة ، بل رآه نزلة ثانية ، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه ، وهو سدرة المنتهى . وبالجملة ، فتوافق هذه الآيات لآيات التكوير من تفسير بعضها بعضاً ، أمر لا خفاء به عند المتدبر ، وكله ردٌّ على المشركين المفترين ، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل ، وصدق ما يخبر به ، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه . فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة ، كما أشار له في آخر السورة .
هذا ملخص معنى الآيات ، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوّزه مادته . وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد والله الموفِّق .
الثاني : ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى :
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } إلخ إلى جبريل عليه السلام ، هو الذي عوّل عليه عامة المفسرين ، وقد أيدناه بما رأيت .
قال الإمام ابن تيمية : الدنوّ والتدلّي في سورة النجم هو دنوّ جبريل وتدلّيه - كما قالت عائشة وابن مسعود - والسياق يدل عليه ، فإنه قال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } وهو جبريل ، { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة ، أي : القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنا فتدلّى ، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى ، وهو الذي رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، رآه على صورته مرتين ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى . انتهى .
وروى البخاري في هذه الآيات عن ابن مسعود قال : < رأى جبريل له ستمائة جناح > .
وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم < رأى جبريل ، ولم يّره في صورته إلا مرتين ، مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في جياد مكان بمكة له ستمائة جناح ، قد سدّ الأفق > .
وأما ما وقع في حديث شريك في البخاريّ من قوله : < دنا الجبّار رب العزة فتدلّى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى > ، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك ، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره ، فهو دنو وتدلّ غير ما في سورة النجم ، نؤمن به ونفوض كيفيته إليه تعالى ، كسائر الصفات .
قال ابن كثير : قد تكلم كثير من الناس في رواية شريك ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر ، وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ، فإن كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، لا ليلة الإسراء . ولهذا قال بعده : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } ، فهذه هي ليلة الإسراء ، والأولى كانت في الأرض . انتهى .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ : وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل . وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل ، أصح .
قال العماد بن كثير : وهذا الذي قاله البيهقيّ رحمه الله في هذه المسألة ، هو الحق ، فإن أبا ذّر قال : يا رسول الله ! رأيت ربك ؟ قال : < نور أنّى أراه > . وفي رواية : < رأيت نوراً > أخرجه مسلم .
وقوله :
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } إنما هو جبريل عليه السلام ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة وعن ابن مسعود . وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذا بهذا . انتهى .
وقال شمس الدين بن القيم في " زاد المعاد " : اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده ، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقال : إن قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } إنما هو جبريل . وصحّ عن أبي ذرّ أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : < نور أنّى أراه > أي : حال بيني وبين رؤيته النور ، كما في لفظ آخر : < رأيت نوراً > .
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره .
قال الإمام ابن تيمية : وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضاً لهذا ، ولا قوله رآه بفؤاده . وقد صح عنه أنه قال : < رأيت ربي تبارك وتعالى > ، لكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه . وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال : نعم رآه حقاً ، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد . وأما قول ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين ، فإن كان استناده إلى قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } ثم قال :
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . انتهى .
وقال ابن كثير : أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < رأيت ربي عز وجل > فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصر من حديث المنام ، كما رواه الإمام أحمد أيضاً عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه ، يعني في النوم - فقال : يا محمد ! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال قلت : لا . فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثدييّ - أو قال نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض . ثم قال : يا محمد ! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال قلت : نعم ! يختصمون في الكفارات والدرجات . قال وما الكفارات ؟ قال : قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ! من فعل ذلك عاش بخير ، ومات بخير . وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه . وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة ، أن تقبضني إليك غير مفتون > .
قال : < والدرجات بذل الطعام ، وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام > .
ثم قال ابن كثير : وقوله تعالى :
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ، كقوله :
{ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [ طه : 23 ] ، أي : الدالة على قدرتنا وعظمتنا ، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة ، أن الرؤية تلك الليلة لم تقع ؛ لأنه قال :
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ولو كان رأى لأخبر بذلك ، ولقال ذلك للناس . انتهى .
الثالث : ذهب بعضهم إلى أن هذه السورة أنزلت لإثبات المعراج النبويّ ، أعني : عروجه صلى الله عليه وسلم ، وصعوده وارتقاءه إلى ما فوق السماوات السبع ، كما ذكر في أحاديث المعراج عند سدرة المنتهى فوق السماوات ، ومشاهدة جبريل على صورته .
قال القليوبيّ : لما كان الإسراء مقدماً في الوجود على المعراج ، لأنه كالوسيلة والبرهان ، إذ يلزم من التصديق بخوارق العادة فيه ، التصديق بالمعراج و ما فيه . وكان ما في المعراج من الخوارق أعظم وأكثر ، صدره الله تعالى بالقسم الدال على تأكيد ثبوته ، والرد على منكريه والطاعنين فيه ، واستطرد مع ذلك الرد على من نسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز عليه ، فقال : { وَالنَّجْمِ } إلخ انتهى .
ومما قدمنا يظهر أن نزول السورة لتأييد الرسالة النبوية ، وتحقيق الوحي ، بأنه تعليم ملك كريم ، مرئي للحضرة النبوية رؤية تدفع كل لبس ، لا لإثبات المعراج .
ثم من الغرائب أيضاً هنا ، قول بعضهم محاولاً سرّ إفراد الإسراء عن المعراج ، وذكر كلٍّ في سورة ، ما مثاله : إن الإسراء أنزل أولاً وحده ، حملاً للمشركين على تسليم ما وضح صدقه صلى الله عليه وسلم فيه ، توصلاً للتصديق بما وراءه فإنه صلى الله عليه وسلم أرشد أن يخبر المشركين أولاً بالإسراء إلى المسجد الأقصى ، لأن قريشاً تعرفه ، فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفون ، مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط ، فتقوم الحجة عليهم .
وكذلك وقع ، كما ذكر في الروايات . وعلى أثر هذا الإخبار أنزل بيان الإسراء ، ثم أُلهم صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بالمعراج إلى ملكوت السماوات ، ورؤية جبريل عليه السلام ، وأنزل الله تصديقه في سورة النجم . انتهى . فكل هذا مما لا سند له ، نعم ! روى البيهقيّ وابن أبي حاتم وابن جرير في حديث مطول ، أنه صلى الله عليه وسلم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب : < إني أتيت البارحة بيت المقدس ، وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا > إلا أن يقال : ليس هذا من مرويات الصحيحين ، ولا حجة في الأخبار إلا مرويّهما . وبالجملة ، فالمعوّل عليه هو أن المعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقاً ، وما ورد في هذه السورة وسورة التكوير ، فلا علاقة له بالمعراج ، وإنما هي رؤية النبي صلوات الله عليه لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما تقدم . وأما المعراج فإنما كان رؤيا منامية روحانية ؛ لصريح حديث البخاريّ في ذلك من طرقه التي عن أنس ومالك بن أبي صعصعة . قال بعضهم ولذلك لم يذكر في حديث المعراج ، بحسب رواية البخاريّ التي هي من أصح الروايات بالإجماع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سار أولاً إلى بيت المقدس ، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى ، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه ، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية ، بل المذكور أنه كان مصاحباً له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة ، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة ، هو غير ما ذكر في الحديث ، مما وقع مناماً في وقت آخر ، وإلا لذكرا معاً في سياق واحد ، إما في القرآن ، وإما في أصح الأحاديث ، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعوّل عليها ، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض . انتهى والله أعلم .
ثم قال تعالى منكراً على المشركين عبادتهم الأوثان ، واتخاذهم لها البيوت ، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [ 19 - 20 ]
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ } قال ابن كثير : هي صخرة بيضاء منقوشة ، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة ، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف ، هم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش . قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله ، فقالوا : { اللَّاتَ } يعنون مؤنثة من لفظه ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، كما قالوا : عمرو وعمرة .
وقال الزمخشري : هي فعلة من لوى ؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ، ويعكفون للعبادة ، أو يلتوون عليها ، أي : يطوفون .
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرؤوا : اللاتّ بتشديد التاء ، وفسروه بأنه كان رجلاً يلتّ للحجيج في الجاهلية السَّويق ، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه .
{ وَالْعُزَّى } وهي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، وهي بين مكة والطائف .
قال ابن جرير : اشتقوا اسمها من اسمه تعالى العزيز ، وقال الزمخشريّ : أصلها تأنيث الأعز .
{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد ، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظّمونها ، ويهلون منها للحج إلى الكعبة .
روى البخاريّ عن عائشة نحوه .
قال ابن جرير : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : اللات والعُزّى ومناة الثالثة ، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها . انتهى .
تنبيهات :
الأول : قال القاضي : مناة فعلة ، من مناه إذا قطعه ؛ فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين . ومنه سميت منى ؛ لأنه يمنى فيها القرابين ، أي : ينحر .
وقال الزمخشريّ : وكأنها سميت مناة ؛ لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها ، أي : تراق . وقرئ : { مناءة } مفعلة من النوء ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها .
فإن قيل : كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها ، معلوم غير محتاج للبيان .
وأجيب : بأنهما صفتان للتأكيد ، أو { الثَّالِثَةَ } للتأكيد ، و { الأُخْرَى } بيان لها ، لأنها مؤخرة رتبة عندهم ، عن اللات والعزى .
قال الناصر : { الأُخْرَى } ما يثبت آخراً ، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجوديّ ، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجوديّ إلى الاستعمال ، حيث يتقدم ذكر معاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصليّ ، بخلاف آخر و آخرة على وزن فاعل وفاعلة ، فإن إشعارها بالتأخير الوجوديّ ثابت لم يغير ، ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا : ربيع الآخَر ، على وزن الأفعل ، وجمادى الأخرى ، إلى ربيع الآخر على وزن فاعل ، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة ؛ لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجوديّ ، لأن الأفعل و الفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب للدلالة على غرضهم ، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما . وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدتهُ ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية . انتهى .
الثاني : قال ابن كثير : كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة ، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز ، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها .
قال ابن إسحاق في "السيرة" : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، لها سدنة وحجاب ويهدى لها كما يهدى للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها ، وهي تعرف فضل الكعبة عليها ، أنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده . فكانت لقريش ولبني كنانة العُزّى بنوسلم خالدسدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم . وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول :
~يا عُزَّ كفرانَكِ لا سُبْحانَكِ إِني رأيتُ اللهَ قد أَهَانكِ
روى النسائي عن أبي الطفيل قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى ، فأتاها خالد ، وكانت على ثلاث سمرات ، فقطع السمرات ، وهدم البيت الذي كان عليها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : < ارجع ، فإنك لم تصنع شيئاً > . فرجع خالد فلما أبصر السدنة وهم حجبتها ، أمعنوا في الحيل وهم يقولون : يا عزى ! يا عزى ! فأتاها خالد ، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : < تلك العزى > ! قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجابها بني معتب ، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها ، وجعلا مكانها مسجداً بالطائف .
قال ابن إسحاق : وكان مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر ، من ناحية المشلل بقديد ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان ، صخر بن حرب فهدمها . ويقال : عليّ بن أبي طالب . انتهى .
الثالث : قال ابن جرير : اختلف أهل العربية في وجه الوقف على { اللَّاتَ } و { مَنَاةَ } فكان بعض نحويّ البصرة يقول : إذا سكت قلت : اللات ، وكذلك : مناة ، تقول : منات . وقال : قال بعضهم : اللاتّ'فجعله من اللتّ الذي يلت . ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء ، يقولون : رأيت طلحة . وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء ، نحو نعمة ربك ، وشجرة . وكان بعض نحوييّ الكوفة يقف على اللات بالهاء ، وكان غيره منهم يقول : الاختيار في كل ما لم يضف ، أن يكون بالهاء { رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي
} [ الكهف : 98 ] ، { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ } [ المؤمنون : 20 ] ، وما كان مضافاً فجائز بالهاء والتاء ، فالتاء للإضافة ، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني . وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب ، وإن كان للأخرى وجه معروف . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ 21 - 22 ]
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى } قال الزمخشريّ : كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى ، مع وأدهم البنات ، فقيل لهم : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى } ويجوز أن يراد أن اللات والعزى ومنات إناث ، وقد جعلتموهن لله شركاء ، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث ، وتستنكفوا من أن يولدن لكم ، وينسبن إليكم ، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله ، وتسمونهن آلهة ؟ انتهى .
لطيفة :
قال الشهاب : قد مرّ مراراً الكلام في أرأيت وأنها بمعنى أخبرني ، وفي كيفية دلالتها على ذلك ، واختلاف النحاة في فعل الرؤية فيه ، هل هو بصري ؟ فتكون الجملة الاستفهامية بعدها مستأنفة لبيان المستخبر عنه . وهو الذي اختاره الرضيّ . أو علمية ، فتكون في محل المفعول الثاني ، فالرابط حينئذ أنها في تأويل : أهي بنات الله ؟
قال السمين : وكأن أصل التركيب : ألكم الذكر ، وله هن ، أي : تلك الأصنام . وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة .
وقوله تعالى :
{ تِلْكَ } إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية { إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } أي : جائرة ، غير مستوية ، ناقصة غير تامة ، لأنكم جعلتم لربكم من الولد والند ما تكرهون لأنفسكم ، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه .
قال ابن جرير : والعرب تقول : ضزْتُهُ حقّه بكسر الضاد ، وضُزته بضمها ، فأنا أضيزهُ وأضوزهُ ، وذلك إذا نقصته حقَهُ ومنعتهُ .
تنبيه :
قال السمين : قرأ ابن كثير : { ضئزى } بهمزة ساكنة ، والباقون بياء مكانها . وقرأ زيد بن علي : { ضَيزى } بفتح الضاد والياء ساكنة . فأما قراءة العامة فتحتمل أن تكون من ضازهُ يضيزه إذا ضامه وجار عليه ، فمعنى ضيزى جائرة . وعلى هذا فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون صفة على فُعلى بضم الفاء ، وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض .
فإن قيل : وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء ، ولم لا قيل فِعلى بالكسر ؟
فالجواب : أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فِعلى بكسر الفاء ، وإنما ورد بضمها ، نحو حبلى وأنثى ورُبّى وما أشبهه ، إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك . حكى ثعلب : مشية حيكى ، ورجل كيسى . وحكى غيره : امرأة عزهى وامرأة سعلى . وهذا لا ينقض على سيبويه ؛ لأنه يقول في حيكى وكيسى كقوله في ضيزى لتصح الياء ، وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة سعلاة .
والوجه الثاني : أن تكون مصدراً كذكرى . قال الكسائيّ : يقال ضاز يضيز ضيزى ، كذكر يذكر ذكرى . ويحتمل أن تكون من ضأزه بالهمز كقراءة ابن كثير ، إلا أنه خفف همزها ، وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدال مثل هذه الهمزة ياءً ، لكنها لغة التزمت ، فقرؤوا بها . ومعنى ضأزه يضأزه بالهمزة ، نقصه ظلماً وجوراً ، وهو قريب من الأول . و ضيزى في قراءة ابن كثير مصدر وصف به ، ولا يكون وصفاً أصلياً ؛ لما تقدم عن سيبويه .
فإن قيل : لم لا قيل في ضئزى بالكسر والهمز ، أن أصله ضيزى بالضم فكسرت الفاء ، لما قيل فيها مع الياء ؟
فالجواب : أنه لا موجب هنا للتغيير ، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنة وسمع منهم : ضؤزى بضم الضاد مع الواو والهمزة .
وأما قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدراً وصف به ، كدعوى ، وأن تكون صفة ككسرى وعطشى . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } [ 23 ]
{ إِنْ هِيَ } أي : الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لهم { إِلاَّ أَسْمَاء } أي : محضة ليس تحتها مما تنبئ هي عنه من معنى الألوهية ، شيء ما أصلاً . أي : ليس لها نصيب منها إلا إطلاق تلك الأسماء عليها .
قال الشهاب : والمراد لا نصيب لها أصلاً ، ولا وجه لتسميتها بذلك ، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة ، فهو من نفي الشيء بإثباته ، أو هو ادعاء محض لا طائل تحته .
{ سَمَّيْتُمُوهَا } أي : جعلتموها أسماء مع خلوها عن المسميات { أَنتُمْ وَآبَآؤكُم } أي : بمقتضى أهوائكم ، وتقليد التابع للمتبوع { مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي : برهان يتعلق به { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } أي : إلا توهم أن ما هم عليه حق { وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } أي : تشتهيه أنفسهم .
قال ابن جرير : لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله ، ولا عن رسول الله أخبرهم به ، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم ، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه { وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } أي : الدليل الواضح ، والبيان بالوحي ، أن عبادتها لا تنبغي وأنه لا تصلح العبادة إلا له تعالى وحده .
قال أبو السعود : والجملة حال من فاعل { يُتْبِعُونَ } أو اعتراض . وأيّاً ما كان ، ففيه تأكيد لبطلان إتباع الظن ، وهوى النفس ، وزيادة تقبيح لحالهم ، فإن اتباعهما من أي : شخص كان ، قبيح ، وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتب ، أقبح .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكليل " : استدل بقوله :
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء } إلخ على أن اللغات توقيفية ، ووجهه أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به ، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف ، لما صح هذا الذم ، لكون الكل اصطلاحاً منهم .
واستدل بقوله تعالى :
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } إلخ على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقاً ، أو إبطال القياس .
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال : احذروا هذا الرأي على الدِّين ، فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً لأن الله كان يريه ، وإنما هو منا تكلف وظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } [ 24 ]
{ أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } أي : ليس ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد ، وتعنته في دفاع اليقين بالظن ، وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيدهُ ولا مهيمن يَزَعُهُ . فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم ، كقوله :
{ ليْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } [ النساء : 123 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى } [ 25 ]
{ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى } أي : فمصير الأمر فيهما له تعالى ، لا للإنسان حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء ، كما قال :
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } [ المؤمنون : 71 ] ، ولذا أرسل له الرسل ، وأنزل الكتب ، قطعاً للمعاذير ، ونبهه بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } [ 26 ]
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } هذا توبيخ من الله تعالى لعبدة الأوثان ، بإقناطهم عما علّقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم ، بأن ملائكته الكرام لا يتفوهون بالشفاعة إلا من بعد إذنه ورضاه . فأنّى لهذه الطواغيت أن تفتات على هذا المقام ، ولها من الذلة والصغار ما يبعدها عنه بألف منزل .
ثم أشار إلى طغيان آخر للمشركين ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى } [ 27 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى } أي : تسمية الإناث ، وذلك أنهم كانوا يقولون : هم بنات الله . فالأنثى بمعنى الإناث ، لأنهم اسم جنس يتناول الكثير والقليل . وقيل : بمعنى الطائفة الأنثى . وقيل : منصوب بنزع الخافض على التشبيه ، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية . وقيل : أفرد لرعاية الفاصلة . وقيل : الملائكة في معنى استغراق المفرد ، أي : ليسمون كل واحد منهم بنتاً ، وهي تسمية الأنثى ، على وزن كسانا الأمير حلةً ، أي : كسا كلَّ واحد منا حُلة ، والإفراد لعدم اللبس .
قال أبو السعود : وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة ، إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة ، واستتباع العقوبة في الآخرة ، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأساً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ 28 - 29 ]
{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } أي : لا يفيد فائدته ، ولا يقوم مقامه ، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه ، إنما تدرك إدراكاً معتداً به ، إذا كان عن يقين ، لا عن ظن وتوهم .
{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها ، لقصر نظرهم على المحسوسات . والمراد من الإعراض هجرهم هجراً جميلاًً ، وترك إيذائهم . وقول الزمخشريّ : أي : أعرض عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله . . . إلخ لا يصح ؛ لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه ، لاسيما والدعوة للمعرضين ، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة لقوله تعالى :
{ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [ الفرقان : 52 ] ، وإنما معنى الآية : فاصفح عنهم ودع أذاهم ، في مقابلة ما يجهلون به عليك ، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } [ 30 ]
{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } يعني أمر الدنيا منتهى علمهم ، لا علم لهم فوقه . ومن كان هذا أقصى معارفه ، فما على داعيه إلا الصفح عنه ، والصبر على جهله .
و مبلغ اسم مكان مجازاً ، كأنه محل وقف فيه علمهم ادعاء - كما حققه الشهاب - والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا ، ثم علل الأمر بالإعراض بقوله سبحانه :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } أي : ولا بد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم ، فيجزي كلاً بما يقتضيه عمله ، وتقديم العلم بمن ضل ، لأنهم المقصودون من الخطاب ، والسياق فيهم . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ 31 ]
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } تنبيه على سعة ملكه ، وعظمة قدرته ، وأن ما فيهما من قبضته ، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجَرة ، كما قال :
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } أي : بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ثم بين صفات هؤلاء المحسنين ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ 32 ]
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ } يعني ما كبر الوعيد عليه من المناهي { وَالْفَوَاحِشَ } يعني ما فحش منها . والعطف إما من عطف أحد المترادفين أو الخاص على العام { إِلَّا اللَّمَمَ } أي : الصغائر من الذنوب . ومثّله أبو هريرة بالقُبلة والغمزة والنظرة ، فيما رواه ابن جرير ، وأصل معناه : ما قل قدره . ومنه : لمة الشعر ، لأنها دون الوفرة . وقيل : معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له . والاستثناء منقطع على ما ذكر . وقيل : اللمم بما دون الكبائر والفواحش ، فإنه عفو . وقيل : متصل ، والمراد مطلق الذنوب . وقيل : إنه لا استثناء فيه أصلاً . و { اللَّمَمَ } صفة بمعنى غير وتفصيله في " العناية " .
وحكى ابن جرير عن ابن عباس وغيره ، أن معنى { اللَّمَمَ } ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام ، وغفرها لهم حين أسلموا .
وعن ابن عباس أيضاً قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب ولا يعود . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
~ < إن تغفر اللهم تغفر جماً وأيّ عبد لك لا ألمّا >
وقال الحسن :
{ اللَّمَمَ } أن يقع الوقعة ثم ينتهي . وكل هذا يتناوله اللفظ الكريم والأقوى في معناه هو الأول ؛ ولذا استدل بالآية على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما قال تعالى :
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } قال ابن جرير : أي : واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ } قال ابن جرير : أي : أحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي : حيثما يصوركم في الأرحام { فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } أي : تشهدوا لها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي ، والمراد به الثناء تمدحاً أو رياءً { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } أي : بمن اتقاه فعمل بطاعته ، واجتنب معاصيه وأصلح ، وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] .
وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال : مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ويلك ! قطعت عنق صاحبك > مراراً < إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسب فلاناً ، والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحداً ، أحسبه : كذا وكذا إن كان يعلم ذلك > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى * أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } [ 33 - 35 ]
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى } أي : عن الذكر بعد إذ جاءه ، كما قال تعالى :
{ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ القيامة : 31 - 32 ] .
{ وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى } أي : قطع العطاء بخلاً وشحاً .
{ أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } أي : يراه حتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز ؟ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ 36 - 37 ]
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أي : بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه ، كما قال : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ 38 ]
{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها ، بل كل آثمة فإنَّ إثمها عليها .
قال القاشانيّ : لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب ، وكذلك الذنوب . وكذلك الثواب ، إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [ 39 ]
{ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } أي : إلا سعيه وكسبه .
تنبيهات :
الأول : قال ابن جرير : إنما عنى بقوله :
{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب يوم القيامة ! يقول : ألم يخبر قائل هذا القول ، وضامن هذا الضمان ، بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب : أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } أي : وأنه لا يجازى عامل إلا بعمله ، خيراً كان أو شراً . انتهى .
وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه ، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً . ومع ذلك فمفهومها الشموليّ جليّ .
الثاني : قال السيوطيّ في " الإكليل " : استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحيّ والميت . واستدل به الشافعيّ على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات . انتهى .
وقال ابن كثير : ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعيّ رحمه الله ومن تبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه . وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما .
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا مات الْإِنْسَاْن انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به > فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكدّه وعمله ، كما جاء في الحديث : < إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه > ، والصدقة الجارية - كالوقف ونحوه - هي من آثار عمله ووقفه ، وقد قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] . والعلم الذي نشره في الناس ، فاقتدى به الناس بعده ، هو أيضاً من سعيه وعمله .
وثبت في الصحيحين : < من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً > . انتهى .
الثالث : قال الرازيّ : المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة ، أو بيان كل عمل . نقول : المشهور أنها لكل عمل ، فالخير مثاب عليه ، والشر معاقب به ، والظاهر أنه لبيان الخيرات ، يدل عليه اللام في قوله تعالى : { لِلإِنسَانِ } فإن اللام لعود المنافع ، وعلى لعود المضار ، تقول : هذا له ، وهذا عليه ، ويشهد له ، ويشهد عليه ، في المنافع والمضار . وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل ، كجموع السلامة تذكّر ، إذا اجتمعت الإناث مع الذكور . وأيضاً يدل عليه قوله تعالى :
{ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى } و { الْأَوْفَى } لا يكون إلا في مقابلة الحسنة ، وأما في السيئة فالمثل أو دونه ، أو العفو بالكلية . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى } [ 40 - 41 ]
{ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } أي : يراه ، ويعرض عليه ، ويكشف له . من أرأيت الشيء ، أو يرى للخلق وللملائكة ؛ ففيه بشارة للمؤمن ، وإفراح له ، ونذارة للكافر ، وإرهاب له ، أو هو من رأى المجرد ، أي : يراه . كقوله تعالى :
{ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 105 ] ، { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى } أي : يجزى سعيه جزاءً وافراً لا يبخس منه شيئاً .
قال الشهاب : أصله يجزي الله الْإِنْسَاْن سعيه ، فـ { الْجَزَاء } منصوب بنزع الخافض ، و { سَعْيَهُ } هو المفعول الثاني ، وهو يتعدى له بنفسه ، نحو : جزاك الله خيرا . وجزاءه سعيه بمعنى جزائه بمثله أو هو مجاز . وقيل : المنصوب بنزع الخافض الضمير ، والتقدير : بسعيه أو على سعيه - كما في " الكشاف " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } [ 42 - 49 ]
{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } أي : انتهاء الخلق ، ورجوعهم لمجازاتهم . والمخاطب إما عام ، أي : أيها السامع أو العاقل ، ففيه وعد أو وعيد ، أو خاص بالنبي صلوات الله عليه ، ففيه تسلية عما كان يلاقيه من جفاء قومه وجهلهم .
ثم أشار إلى بعض آياته الدالة على انفراده بالألوهية ، بقوله تعالى :
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } أي : خلق قوتي الضحك والبكاء ، أو أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار ، أو من شاء من أهل الدنيا ، أو أعمّ .
قال الرازيّ : اختار هذين الوصفين لأنهما أمران لا يعللان ، فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الْإِنْسَاْن بهما سبباً ، وإذا لم يعلل بأمر ، فلا بد له من موجد ، وهو الله تعالى ، وأطال في ذلك وأطاب ، رحمه الله تعالى .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي : أمات من شاء من خلقه ، وأحيى من شاء ، قال : ابن جرير وعنى بقوله : { أَحْيَا } نفخ فيه الروح في النطفة الميتة ، فجعلها حية بتصييره الروح فيها .
{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } أي : ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم .
{ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى } أي : إعادة الخلق بعد مماتهم في نشأة أخرى لا تعلم ، كما قال :
{ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 61 ] ، وذلك للحساب والجزاء ، المترتب على أعمال الخير والشر ، بالمصير إلى الجنة أو النار .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي : أغنى من شاء بالمال . وأقناه أي : جعل له قنية ، وهو ما يدخره من أشرف أمواله { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } وهو نجم مضيء خلف الجوزاء ، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى } [ 50 - 56 ]
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى } يعني قوم هود . وسميت { الْأُولَى } لتقدمها في الزمان .
{ وَثَمُودَ } أي : قوم صالح { فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } أي : أشد في كفرهم { وَأَطْغَى } أي : أشد طغياناً وعصياناً من الذين أهلكوا بعدهم ، لتمردهم على الكفر ، وردّ دعوته في طول مدته بينهم ، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم السلام .
{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ } أي : قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها ، أي : انقلبت .
{ أَهْوَى } أي : أهواها على أهلها ودمّرها .
{ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } أي : من العذاب السماويّ الذي صب عليها .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ } أي : نعمائه .
{ تَتَمَارَى } أي : ترتاب وتشك وتجادل في أنها ليست من عنده ، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال الرسل ، وقهر أعدائهم .
{ هَذَا } أي : القرآن { نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى } أي : إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم . أو هذا الرسول نذير من جنس من تقدمه ، ليس بدعاً من الرسل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } [ 57 - 58 ]
{ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ } أي : قربت القيامة الموصوفة بالقرب . فاللام في { الْآزِفَةِ } للعهد وقيل : الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا ، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب .
قال الشهاب : وفيه نظر ، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه ، كما يدل على الافتعال في اقتربت .
{ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي : ليس لقيامها غير الله مبّين لوقتها ، كقوله :
{ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، و { كَاشِفَةٌ } صفة محذوف ، أي : نفس كاشفة ، أو حال كاشفة أو التاء للمبالغة . أو هو مصدر بني على التأنيث و { مِّن دُونِ اللّهِ } بمعنى غير الله ، أو إلا الله . وقيل : الكشف بمعنى الإزالة ، أي : ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت ، إلا هو تعالى ، من كشف الغماء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [ 59 - 62 ]
{ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ } يعني القرآن الذي قص ما تقدم ، وأنذر بما أخبر { تَعْجَبُونَ } أي : تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار ، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار ، كما قال : { وَتَضْحَكُونَ } أي : استهزاء { وَلَا تَبْكُونَ } أي : مما فيه من وعيد للعصاة ، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به ، المحدث عنهم في آية : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [ الإسراء : 109 ] { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أي : لاهون عما فيه من العبر ، معرضون عن آياته كبراً .
قال مجاهد : كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم غضاباً مبرطمين ، أي : شامخين .
وعن ابن عباس : هو الغناء : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا ، وهي لغة أهل اليمن . يقولون : اسمدْ لنا : تغنّ لنا . والمآل واالمشركين . تلفت العبارة عنه . ولا ريب أن كل ذلك مما كان يصدر عن المشركين .
قال في " الإكليل " : فيه استحباب البكاء عند القراءة ، وذم الضحك والغنا واللهو واللعب والغفلة ، كما فسر بالأربعة قوله : { سَامِدُونَ } وفسره السديّ بالاستكبار .
{ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } أي : واعبدوه دون من سواه من الأوثان ، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له ، فلا تجعلوا له شريكاً في عبادته .
وعن عبد الله بن مسعود قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة { وَالنَّجْمِ } < فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم > وسجد من خلفه . . . الحديث . وتقدم في أول السورة .
وروى الإمام أحمد عن المطّلب بن وداعة قال : < قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم ، فسجد > وسجد من عنده ، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد - ولم يكن أسلم يومئذ المطلب - فكان بعد ذلك لا يسمع أحداً قرأها إلا سجد معه . ورواه النساني .

(/)


سورة القمر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } [ 1 ]
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } أي : دنَت الساعة التي تقوم فيها القيامة . كما قال :
{ أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، وقال :
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ,
قال ابن جرير : وهذا من الله تعالى إنذاره لعباده بدنوِّ القيامة ، وقرب فناء الدنيا ، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة قبل هجومها عليهم ، وهم عنها في غفلة ساهون .
{ وَانشَقَّ الْقَمَرُ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } [ 2 ]
{ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } قال ابن جرير : كان ذلك - فيما ذكر - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة ؛ وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية ، فأراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر حجَّةً على صدق قوله وحقيقةِ نبوته ، فلما أراهم أعرضوا وكذبوا ، وقالوا : هذا سحر مستمر ، سحَرنا محمد . ثم روى ذلك عن أنس وابن مسعود وابن عباس ، وغير واحد من التابعين .
وقال القاضي عياض في " الشفا " : أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، وإعراض الكفرة عن آياته ، وأجمع المفسرون وأهل السنَّة على وقوعه ، ثم سرد الآثار في ذلك .
وزعم ابن كثير أن أحاديثه متواترةعامة ، إلا أن الشهاب نقل عن الإمام الخطابيّ أن معجزاته صلى الله عليه وسلم ، غير القرآن ، لم تتواتر . والحكمة فيه أنها لو تواترت كانت عامة ، والمعجزة إذا عمَّت أهلَك اللهُ مَن كذبها ، كما جرت به العادة الإلهية . والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة ، وأمَّن الله أمَّته من عذاب الاستئصال .
ثم قال : وسبب تعرضهم للتواتر طعن بعضِ الملاحدة بأن القمر يشاهده كل أحد ، فلو انقسم قطعتين تواتر وشاع في جميع الناس ، ولم يخف على أحد ، والطبائع حريصة على إشاعة ما لم يعهد مثله ، ولا أغرب من هذا . مع أن الملازمة غير لازمة ، لأنه في الليل ، وزمان الغفلة ، ولا يلزم امتداده ، ولا يرى إذ ذاك في جميع الآفاق ، لاختلاف المطالع . انتهى .
وقد ذكر ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " أن الذي طعن في تلك الآثار المروية عن ابن مسعود هو النظّام ، إلا أنه لم ينقل تأويله للآية على رأيه ، ولعله هو القول الثاني الذي حكاه الزمخشريّ والبيضاويُّ ، ورواه أبو السعود عن عثمان بن عطاء عن أبيه أن المعنى : وسينشق القمر ، يعني يوم القيامة وإذا انكدرت النجوم وانتثرت . والمراد بالآية إما القرآن أو ما يقترحونه لو أجيبوا إلى طلبه .
ومعنى { مُّسْتَمِرٌّ } دائم مطرد ، أو محكم قويّ ، من : مررت الحبل ، إذا أحكمتَ فتله . أو مارّ ذاهب لا يبقى ، تعليلاً لأنفسهم بالأماني الفارغة . أو منفور عنه لشدة مرارته مجازاً .
وجملة { وَإِن يَرَوْاْ } مستأنفة أو حالية .
قال الشهاب : ولو كانت هذه الجملة حالية - والمعنى : أن الساعة اقتربت ، وانشق القمر فيها دنا زمانه ، وظهرت آثاره ، والحال أنهم مصرون على العناد - كان منتظماً أتمَّ انتظام ، ولا ضير فيه سوى مخالفته للمنقول عن السلف في تفسيرها ، فتأمل . انتهى .
أقول : ولي هاهنا كلمة لا بدَّ من التنبيه عليها ، وهي : أن الرمي بالإلحاد لمنكرِ حديث غير مجمع على تواتره ، جنايةٌ كبرى وزلة عظمى ؛ فإن باب التكفير والتضليل ليس بالأمر القليل ، ولأجله صنف حجة الإسلام الغزالي كتابه " فيصل التفرقة " ودمَغ بحُججه أولئك المتعصبين الذين سهل عليهم الرمي لمن خالفهم بالزندقة ، ولعمرُ الحقِّ إن هذا مما فرّق الكلمة ، ونفَّر حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء ، حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجاً ، ومحيطه بعد مدَّه منحسراً ؛ إذ هجرت كتب الفِرَق الأخرى بل أحرقت ، وأهين من يتأثلها ، ورمي بالابتداع أو التزندق ، كما يمرُّ كثير من مثل هذا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال ، فلا جرم نسيت الأقوال الباقية ، وعدت من الشاذ غير المقبول . وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها فماذا يكون حالها ؟ وهذا ، كما لا يخفاك ، حيف على قواعد العلم وغلٌّ للأفكار ، نعم ! تفلَّت منهم علم الأصول ، فلم تزل الأقوال الغريبة تتراءى على صفحاته ، وإن كان مما يغمز كثير منها ، إلا أنها سارت تلجُّ آذانهم ، ويحتج بها عليهم ، وقد تنبه كثير من المحققين لما ذكرنا ، وأشاروا له في مواضع ، فقرروا في كتب العقائد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة .
وقال العلامة الفناريّ في " فصول البدائع " : ولا يضلَّل جاحدُ الآحاد .
وقال الإمام ابن تيمية : الصواب أن من رد الخبر الصحيح ، كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً ؛ فقد ردَّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث . انتهى .
وذكر الغزاليّ في " الإحياء " في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة ، أن من أركانها التخلي عن موانع الفهم . قال : فإن أكثر الناس مُنِعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم ، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن ، وحجُب الفهم أربعةٌ . إلى أن قال :
وثانيها : أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد ، وجمد عليه ، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة ، فهذا شخص قيَّده معتقده عن أن يجاوزه ، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده ، فصار نظره موقوفاً على مسموعه ، حمل عليه شيطان التقليد حملة ، وقال : كيف يخطر هذا ببالِك ، وهو خلاف معتقد آبائك ؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه ، ويحترز عن مثله . ثم قال : رابعها : أن يكون قرأ تفسيراً ظاهر ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، وأن من فسَّر القرآن برأيه فقد تبوَّأ مقعده من النار ، فهذا أيضاً من الحجب العظيمة . ثم قال :
وسنبين معنى التفسير بالرأي ، وأن ذلك لا يناقض قول عليّ رضي الله عنه : إلا أن يؤتي اللهُ عبداً فهماً في القرآن . وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول ، لما اختلف الناس فيه .
ثم ذكر بعدُ - عليه الرحمة - أن النهي عن التفسير بالرأي ينزل على أحد الوجهين :
أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، كالمحتج على تصحيح بدعة بتأويل يخترعه تلبيساً على خصمه ، وكالجاهل المقتحم يتأول ما شاء هواه .
وثانيهما : أن يتسارع إلى تأويل بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب التنزيل . انتهى .
ويأتي مثل البحث في كثير من المواضع التي فسرها بعض السلف بشيء ، أو روى فيها ما أنكره غيره لما قام لديه ، ولا ملام في معترك الأفهام ، وبالله التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } [ 3 ]
{ وَكَذَّبُوا } أي : بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } أي : ما زيَّن لهم من دفع الحق مما وجدوا عليه آبائهم { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي : كل أمر لابد أن يصير إلى غاية يستقرُّ عليها . تعريض بأن الرسول لا بد أن يستقر إلى غاية ، هي الظهور والنصرة ، وأمر مكذبيه إلى الخذلان والشقاوة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [ 4 - 5 ]
{ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء } أي : عن القرون الخالية ، والحقائق الكونية ، مما يستحيل أن يأتي به أميٌّ غيره صلوات الله عليه { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي : مرتدع عما هم مقيمون عليه من التكذيب والغفلة واللهو .
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي : بلغت غايتها من الإحكام والتنزه عن الخلل ، ومن الاشتمال على البراهين القاطعة والحجج الساطعة ، وهو بدل من : ما ، أو خبر محذوف ، أي : هو حكمة بالغة { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } جمع نذير . و ما نافية ، أو استفهامية ، أي : أي : غناء تغنى عن قوم آثروا الضلالة على الهدى ، فأعرضوا عنه ، وكذبوا به . وجوز أن تكون { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } جملة مستأنفة للتعجب من حالهم ، مع ما جاءهم مما يقود إلى الإيمان بادئ بدء . وهو ما يفهم من تأويل ابن كثير ، وعبارته :
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي : في هدايته تعالى لمن هداه ، وإضلالِه لمن أضله { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } يعني أي : شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه ، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله ؟ و هذه الآية كقوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ النحل : 9 ] ، وكذا قوله تعالى :
{ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ* م ُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ 6 - 8 ]
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فتول عنهم } أي : اصفح عن أذاهم ، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد ، كما قال :
{ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } أي : داعي الله إلى موقف القيامة ، وهو ملَك . أو الدعاء تمثيل للإعادة كالأمر في قوله { كُن فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] تمثيل للإبداء ، والداعي هو الله تعالى :
{ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي : فظيع تنكره النفوس ، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء .
{ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } أي : من الذل والصغار { يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ } أي : قبورهم { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي : في الكثرة والتموج والانتشار . الجراد مثل في الكثرة
{ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } أي : مسرعين مادّي أعناقهم إليه { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي : لشدة أهواله و { يَوْمَ يَدْعُ } ظرف لـ { يَقُولُ } وقيل : بمضمر ، وقيل : بـ { يَخْرُجُونَ } والأول أظهر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } [ 9 ]
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } أي : زجِر عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة ، كما يدل عليه صيغة : افتعل .
قال الناصر : وليس قوله { فَكَذَّبُوا } الثاني تكراراً ، لأن الأول مطلق ، والثاني مقيد . وهو كقوله في السورة { فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } [ القمر : 29 ] ، فإن تعاطيه هو نفس عقره ، ولكن ذكره من جهة عمومه ، ثم من ناحية خصوصه إسهاباً ، وهو بمثابة ذكره مرتين . وجواب آخر هنا وهو أن المكذب أولاً محذوف دلَّ عليه ذكر نوح ، فكأنه قال : كذبت قوم نوح نوحاً ، ثم جاء بتكذيبهم ثانياً مضافاً إلى قوله { عَبْدِنَا } فوصف نوحاً بخصوص العبودية ، وأضافه إليه إضافة تشريف ؛ فالتكذيب المخبر عنه ثانياً أبشع عليهم من المذكور أولاً ، لتلك اللمحة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } [ 10 ]
( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) أي : غلبني قومي تمرداً وعتواً فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس منهم ، فانتقِم منهم بعذاب ترسله عليهم .
ثم أشار إلى استجابته تعالى دعاءه : بالطوفان الذي هلكوا فيه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ 11 - 16 ]
{ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } أي : مندفق . وفيه استعارة تمثيلية ، بتشبيه تدفع المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء ، وشق لها أديم الخضراء .
{ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً } أي : وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر { فَالْتَقَى الْمَاء } أي : ماء السماء وماء الأرض { عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي : على حال قدره الله وقضاه ، وهو هلاك قوم نوح .
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } يعني السفينة . أقيمت صفاتها مقامها ، لتأديتها مؤداها ، وهو من بديع الكلام ، كما بسطه في " الكشاف " .
{ وَدُسُرٍ } جمع دِسار بكسر الدال ، أو دَسْر كسقف وسقف وهي أضلاعها ، أو حبالها التي تشد فيها أو مساميرها .
{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي : بمرأى منا . كناية عن حفظها بحفظه تعالى وعنايته . { جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي : كفَر به ، وهو الله تعالى ، أو نوح وما جاء به ، فهو من الكفر ضد الإيمان . أو هو نوح عليه السلام لأنه نعمة كفروها ، فهو معتد بنفسه ، استعير لنوح النعمة بطريق الكناية ، ونسب الكفران تخييلاً أو حقيقة .
{ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا } أي : قصة نوح { آيَةٍ } أي : جعلناها عبرة يُعتبر بها { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟ أي : معتبر ومتعظ . وأصله : مذتكر .
{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي : عذابي لهؤلاء الكفرة ، قومِ نوح ، وإنذاراتي بما أحللت بهم ، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 17 ]
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي : سهَّلناه للادكار والاتعاظ ، لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي : فيعتبر بما فيه ، ويثوب إلى رشده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 18 - 22 ]
{ كَذَّبَتْ عَادٌ } أي : نبيَّهم هوداً عليه السلام ، بمثل ما كذبت به قوم نوح { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } أي : شديد الهبوب ، لها صرير ، أو باردة ، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } أي : شرٍّ وشؤم عليهم { مُّسْتَمِرٌّ } أي : استمر عليهم ودام حتى أهلكهم ، أو شديد المرارة لعظم بلائه, { تَنزِعُ النَّاسَ } أي : تقلعهم عن أماكنهم .
{ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أي : أصول نخل منقلع من مغارسه . وأصل { مُّنقَعِرٍ } ما أخرج من القعر { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كرره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوهم ، أي : فكيف كان عذابي لقومه وإنذاري لهم على لسانه ؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 23 - 32 ]
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ } أي : بما أنذرهم به نبيُّهم صالح عليه السلام,
{ فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } أي : جنونٍ ، أو عناء . فهو اسم مفرد . وقيل : جمع سعير ، كأنهم عكسوا عليه ، فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على اتباعهم له .
قال الزمخشريّ قالوا : { أَبَشَراً } إنكاراً لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة . وقالوا { مِّنَّا } لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى . وقالوا { وَاحِداً } إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، أو أرادوا واحداً من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قولهم { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } يعنون : الوحي والنبوة ، أي : وفينا من هو أحق بها على زعمهم ، لكونه أعزُّ مالاً ونفراً { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي : متكبر ، حمله كبره على استتباعنا له .
{ سَيَعْلَمُونَ غَداً } أي : عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة { مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ } أي : المتكبر عن الحق ، البطر له .
{ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ } أي : آية وحجَّة لصالح على قومه امتحاناً لهم وابتلاء { فَارْتَقِبْهُمْ } أي : انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها { وَاصْطَبِرْ } أي : على دعوتهم .
{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء } أي : الذي يردونه لشرب مواشيهم { قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي : مقسوم بينهم ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي : يحضره صاحبه في نوبته . و الشرب النصيب من الماء .
ثم أشار تعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى } فتناول الناقة بيده { فَعَقَر } أي : فعقرها وقتلها .
{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } أي : كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها ، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء . وقرئ بفتح الظاء ، اسم مكان ، أي : كهشيم الحظيرة ، أو الشجر المتخذ لها . وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم ، وأنهم بادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية ، وخمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات بعد خضرة ورقه وحسن نباته .
قال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبس الشوك .
وعن سفيان : الهشيم ، إذا ضربت الحظيرة بالعصا ، تهشم ذاك الورق فيسقط, والعرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 33 - 40 ]
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } أي : ملَكاً يرميهم بالحصباء والحجارة ، أو ريحاً تحصبهم بالحجارة ، أي : ترميهم { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } أي : في سحر . أو الباء للملابسة ، أو المصاحبة وذلك أنه تعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل ، فنجوا مما أصاب قومهم . ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ، ولا رجل واحد ، حتى ولا امرأته ، وقد أصابها ما أصابهم ، وخرج نبي الله لوط عليه السلام وبنات له ، من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء .
{ نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا } أي : إنعاماً منها ، وهو علة لـ { نَجَّيْنَا } { كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } أي : فأطاع ربه ، وانتهى إلى أمره ونهيه . و الشكر : صرف العبد جميع ما أنعم عليه ، إلى ما خلق لأجله .
{ وَلَقَدْ أَنذَرَهُم } أي : لوط { بَطْشَتَنَا } أي : أخذتنا بالعذاب { فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ } أي : بإنذاراته ، تكذيباً له .
{ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } أي : طالبوه بإتيان الفاحشة معهم ، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مُرد حِسان ، محنة من الله بهم ، فأضافهم لوط عليه السلام ، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام ، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان ، فتلقاهم يناشدهم الله ألا يخزوه في ضيفه ، فأبوا عليه ، وجاؤوا ليدخلوا عليه ، فأعمى الله أبصارهم ، فلم يروهم ، كما قال : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } أي : يدوم بهم إلى النار .
{ ذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا } إلخ ؟ قلت : فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكاراً واتعاظاً ، وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظا ، إذا سمعوا الحث على ذلك ، والبعث عليه ، وأن يقرع لهم العصا مرات ، ويقعقع لهم الشن تارات ، لئلا يغلبهم السهو ، ولا تستولي عليهم الغفلة . وهكذا حكم التكرير كقوله { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] ، عند كل نعمة عدها في سورة الرَّحْمَنِ . وقوله { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] عند كل آية أوردها في سورة المرسلات . وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسه ، لتكون العبر حاضرة للقلوب ، مصورة للأذهان ، مذكورة غير منسية في كل أوان . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ 41 - 42 ]
{ وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ } يعني موسى وهارون ، وجمعها للتعظيم ، أو هو جمع نذير بمعنى الإنذار .
{ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا } يعني الآيات التسع ، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تعالى .
{ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ } أي : عاقبناهم عقوبة شديدٍ لا يغالب { مُقْتَدِرٍ } أي : عظيم القدرة لا يعجزه شيء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ 43 - 44 ]
{ أَكُفَّارُكُمْ } يا معشر قريش { خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } أي : الكفار المعدودين الذين حلت النقمة حتى يأمنوا جانبها { أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ } أي : براءة من عقابه تعالى ، وأمان منه ، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } أي : ممتنع لا يُرام ، أو منتصر ممن أراد حربنا وتفريق كلمتنا ، أو متناصر ، ينصر بعضنا بعضاً . فالافتعال بمعنى التفاعل ، كالاختصام بمعنى التخاصم . وإفراد { مُنتَصِرً } مراعاة للفظ { جَمِيع } لخفة الإفراد ، ولرعاية الفاصلة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [ 45 - 46 ]
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } يعني جمع كفار قريش { وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } أي : يولون أدبارهم المؤمنين بالله عند انهزامهم . وإفراد { الدُّبُرَ } لإرادة الجنس ، أو رعاية الفواصل ، ومشاكلة قرائنه . وقد وقع ذلك يوم بدر ، وهو من دلائل النبوة ؛ لأن الآية مكية ، ففيها إخبار عن الغيب ، وهو من معجزات القرآن .
{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } قال ابن جرير : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم ، بل الساعة موعدهم للبعث والعقاب .
{ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } أي : أعظم داهية ، وهي الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه . وأمرّ مذاقاً ، أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها ، إذا التقوا مع المؤمنين للقتال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [ 47 - 48 ]
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ } أي : عن الحق في الدنيا { وَسُعُرٍ } أي : نيران في الآخرة .
وقال القاشانيّ : أي : في ضلال عن طريق الحق ، لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم . و { سُعُرٍ } أي : جنون ووله ، لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم ، وحيرتها في الباطل .
{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } أي : يجرّون عليها .
{ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } أي : حرّها وألمها . والاستعارة في المس تحقيقية . أو في { سَقَرَ } مكنية ، وفي المسّ تخييلية . أو المس مجاز مرسل بعلاقة السببيّة للألم . واستعارة الذوق مشهورة ، واستعمال الذوق في المصائب بمنزلة الحقيقة . و { سَقَرَ } من أسماء جهنم ، أعاذنا الله منها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ 49 ]
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أي : بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة ، وترتب الأسباب على مسبباتها ، ومنه خلق دار العذاب ، لما كسبت الأيدي ، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى . وهذه الآية كآية { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] ، وآية { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَ ى *الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] ، أي : قدر قدراً ، وهدى الخلائق إليه . ولا مانع أن تكون هذه الآية وما بعدها إلفاتاً لعظمته تعالى ، وكبير قدرته ، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يعبد وحده ، ويرهب بأسه ، ويتقى بطشه ، لا سيما وقد صدَع الداعي بإنذاره ، ومن أنذر فقد أعذر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ 50 ]
{ وَمَا أَمْرُنَا } أي : الذي به الإيجاد { إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } أي : كلمة واحدة يكون بها كل شيء ، بمقتضى استعداده ، كلمح بالبصر في السرعة . قال القاشانيّ :
{ إِلَّا وَاحِدَةٌ } أي : تعلق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معيّن ، على وجه معلوم ، ثابت في لوح القدرة ، المسمّى في الشرع بـ : كن ، فيجب وجوده في ذلك الزمان ، على ذلك الوجه دفعة . انتهى .
وقيل : معنى الآية ، معنى قوله تعالى :
{ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [ النحل : 77 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 51 ]
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ } أي : أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة .
قال الشهاب : أصل معنى الأشياع جمع شيعة ، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع . ولما كانوا في الغالب من جنس واحد ، أريد به ما ذكر ، إما باستعماله في لازمه ، أو بطريق الاستعارة .
{ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي : متعظ بذلك ينزجر به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } [ 52 ]
{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } أي : الكتب التي أحصتها الحَفَظة عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } [ 53 ]
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } أي : من الأعمال { مُسْتَطَرٌ } أي : مسطور لا يمحى ولا ينسى ، كما قال تعالى :
{ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] ، وقوله سبحانه : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورً ا *اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13 - 14 ] .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < يا عائشة ! إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالباً > .
قال ابن كثير : ورواه النسائيّ وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدنيّ ، وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم . وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا ، من وجه آخر . ثم قال سعيد : فحدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي : ويحك يا سعيد ! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنباً فاستصغره ، فأتاه آت في منامه ، فقال له : يا سليمان !
~لا تحقِرَنَّ من الذُّنوبِ صَغيرا إنَّ الصغير غَداً يعودُ كبيراَ
~إنّ الصغيرَ ولَو تَقادَمَ عَهْدُهُ عند الإله مُسَطّرٌ تسطيراَ
~فازجُرْ هواك عَنِ الْبطالَة لا تكن صعبَ القياد وشَمِّرَنْ تَشْميرا
~إنّ المُحِبّ إذا أحبَّ إِلَهَهُ طارَ الفؤادُ وأُلْهِمَ التفكيرا
~فاسأل هِدايتك الإله فَتَتَّئدْ فكَفى بِرَبِّك هَادياً وَنصيِراً

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ 54 - 55 ]
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } أي : الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداءِ فرائضه ، واجتناب نواهيه ، { فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي : أنهار . واكتفى باسم الجنس المفرد لرعاية الفواصل . وقرئ بسكون الهاء ، وضم النون ، وقرئ بضمهما .
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } قال ابن جرير : أي : في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم .
وقال الزمخشريّ : في مكان مرضي . قال شراحه : فالصدق مجاز مرسل في لازمه ، أو استعارة . وقيل المراد صدق المبشِّر به ، وهو الله ورسوله . أو المراد أنه ناله مَن ناله بصدقه وتصديقه للرسل ، فالإضافة لأدنى ملابسة .
{ عِندَ مَلِيكٍ } بمعنى مالك . قال الشهاب : وليس إشباعاً ، بل هي صيغة مبالغة كالمقتدر { مُّقْتَدِرً } قال القاشانيّ : أي : يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته ، وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء .
قال الشهاب : في تنكير الأسمين الكريمين إشارة إلى أن ملكه وقدرته لا تدري الأفهام كنههما ، وأن قربهم منه بمنزلة من السعادة والكرامة ، بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ، مما يجل عن البيان وتكل دونه الأذهان .

(/)


سورة الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [ 1 - 2 ]
{ الرحمن علم القران } أي : بصّر به ما فيه رضاه ، وما فيه سخطه ، برحمته ليطاع باتباع ما يرضيه ، وعمل ما أمر به ، وباجتناب ما نهى عنه ، وأوعد عليه ، فينال جزيل ثوابه ، وينجى من أليم عقابه .
قال القاضي : لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية ، صدّرها بـ : { الرَّحْمَنِ } وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها ، وهو إنعامه بالقرآن ، وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين ، ومنشأ الشرع ، وأعظم الوحي ، وأعز الكتب ، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها ، مصدق لنفسه ، ومصداق لها .
ثم أتبعه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ الْإِنْسَاْن * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ 3 - 4 ]
{ خلق الْإِنْسَاْن علمه البيان } إيماء بأن خلق البشر ، وما تميز به عن سائر الحيوان من البيان - وهو التعبير عما في الضمير ، وإفهام الغير - لما أدركه لتلقي الوحي, وتعرف الحق ، وتعلم الشرع ، أي : فإذا كان خلقهم إنما هو في الحقيقة لذلك اقتضى اتصاله بالقرآن ، وتنزيله الذي هو منبعه ، وأساس بنيانه .
قال الزمخشريّ : وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر إحسانه ؟ وهذا - كما قال الشهاب - مصحح . والمرجح الإشارة إلى أن كلاً منها ربما مستقلة تقتضي الشكر ، ففيه إيماء إلى تقصيرهم في أدائه . ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبه ، ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة .
وقال الأصفهانيّ في " الذريعة " : لما كان النطق أشرف ما خص به الْإِنْسَاْن ، فإن صورته المعقولة التي بها باين سائر الحيوان ، قال عز وجل : { خلق الْإِنْسَاْن علمه البيان } ولم يقل : وعلمه ؛ إذ جعل قوله : { عَلِّمُهُ } تفسيراً لقوله : { خُلِقَ الْإِنْسَاْن } تنبيهاً أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعاً لكانت الْإِنْسَاْنية مرقفعة ، ولذلك قيل : ما الْإِنْسَاْن لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة . وقيل : المرء مخبوء تحت لسانه .
قال الشاعر :
~لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ فلم يبق إلا صورةُ اللحم والدّمِ
أي : إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو باللسان ، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد ، لم يبق إلا صورة اللحم والدم . فإذا كان الْإِنْسَاْن هو اللسان فلا شك أن من كان أكثر منه حظاً كان أكثر منه إنسانية . والصمت من حيث ما هو صمت مذموم ، فذلك من صفات الجمادات ، فضلاً عن الحيوانات . وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت ، وجعل لبعضها صوتاً بلا تركيب ، ومن مدح الصمت فاعتباراً بمن يسيء في الكلام ، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا ، فإذا ما اعتبرا بأنفسهما ، فمحال أن يقال في الصمت فضل ، فضلاً أن يخاير بينه وبين النطق . وسئل حكيم عن فضلهما فقال : الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق . وسئل آخر عن فضلهما فقال : الصمت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطأ . وعنه أخذ الشاعر :
~الصَّمتُ ألْيِقُ بالفَتى من منطقٍ في غَيْرِ حينِهْ
انتهى . وقد جوّز - كما حكاه الشهاب - أن يكون { الرَّحْمَنِ } خبر محذوف ، أي : الله الرحمن ، وما بعده مستأنف لتعديد نعمه . ثم قال : و { عَلَّمَ } من التعليم ، ومفعوله مقدر ، أي : علّم الْإِنْسَاْن ، لا جبريل أو محمداً عليهما الصلاة والسلام ، وليس من العلامة من غير تقدير ، كما قيل ، أي : جعله علامة وآية لمن اعتبر ، لبُعْدِهِ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } [ 5 - 7 ]
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي : يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما ، به تتسق أمور الكائنات السفلية ، وتختلف الفصول والأوقات ، ويعلم السنون والحساب .
{ وَالنَّجْمِ } أي : النبات الذي ينجم ، أي : يطلع من الأرض ولا ساق له .
{ وَالشَّجَرَ } أي : الذي له ساق { يَسْجُدَانِ } أي : ينقادان لله فيما يريد بهما طبعاً ، انقياد الساجد من المكلفين طوعاً . فهو استعارة مصرحة تبعيّة ، شبّه جريهما على مقتضى طبيعته ، بانقياد الساجد لخالقه والجملة - إن كانت خبراً عن الرحمن لعطفها على الخبر - فالرابط محذوف لوضوحه ، أي : بحسبانه ويسجدان له . أو مستأنفة ، فالقطع لأنها مسوقة لغرض آخر . وإدخال العاطف بينهما لما أن الشمس والقمر سماويّان ، والنجم والشجر أرضيّان ، فبينهما مناسبة بالتقابل ، وبانقياد الكل لإرادته .
{ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا } أي : خلقها مرفوعة .
{ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } أي : العدل بين خلقه في الأرض .
قال القاشانيّ : أي : خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن ، فإن العدالة هيئة نفسانية ، لولاها لما حصلت الفضيلة الْإِنْسَاْنية . ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن لما وجد ولم يبق . ولمّا استقام أمر الدين والدنيا بالعدل واستتبّ كمال النفس والبدن به ، بحيث لولاه لفسد أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها ، لشدّة العناية به ، وفرط الاهتمام بأمره . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [ 8 - 9 ]
{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } أي : بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال ، فيلزم الجور الموجب للفساد . و أنْ مصدرية على تقدير الجارّ ، أي : لئلا تطغوا فيه ، أو مفسرة لما في وضع الميزان من معنى القول ، لأنه بالوحي وإعلام الرسل .
{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } أي : الاستقامة في الطريقة ، وملازمة حدّ الفضيلة ، ونقطة الاعتدال في جميع الأمور ، وكل القوى .
{ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } قال القاشانيّ : أي : بالتفريط عن حدّ الفضيلة .
قال بعض الحكماء : العدل ميزان الله تعالى ، وضعه للخلق ، ونصبه للحق . انتهى .
وممن فسّر { الْمِيزَانَ } في الآية بالعدل مجاهد وتبعه ابن جرير وكذا ابن كثير ، ونظر لذلك بآية { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] ، وجوّز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما . ومنه قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيه وجوب العدل في الوزن ، وتحريم البخس فيه ، وعليه فوجه اتصال قوله : { وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } بما قبله ، هو أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار ، أراد وصف الأرض بما فيها ، مما يظهر به التفاوت ، ويعرف به المقدار ، ويسوّى به الحقوق والمواجب ، كذا ارتآه القاضي ، والله أعلم .
وفي الحقيقة ، الثاني من أفرد الأول ، وأخذ اللفظ عامّاً أولى وأفيد .
ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازيّ :
{ الْمِيزَانَ } ذكر ثلاث مرات ، كل مرة بمعنى ، فالأول : هو الآلة ، والثاني : للمفعول بمعنى المصدر ، والثالث : للمفعول . قال : وهو كالقرآن ، ذكر بمعنى المناسبة ، قوله تعالى :
{ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] ، وبمعنى المقروء في قوله : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة : 17 ] ، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } [ الرعد : 31 ] ، فكأنه آلة ومحل له ، وفي قوله تعالى :
{ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] . ثم قال : وبين القرآن والميزان مناسبة ، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب ، والميزان فيه من العدل مالا يوجد في غيره من الآلات . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 10 - 13 ]
{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ } أي : مهّدها للخلق { فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي : صنوف مما يتفكّه به { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ } أي : أوعية الطلع ، وهو الذي يطلع فيه العنقود ، ثم ينشقّ عن العقود فيكون بُسراً ثم رطباً ، ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه ، وإنمامختلفة بالذكر ، لما فيها من الفوائد العظيمة ، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها ، والانتفاع بجمّارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك ؛ فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة ، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار ، فلذا ذكر النخل باسمه ، وذكر الفاكهة دون أشجارها ، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها .
{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ } أي : وفيها الحبّ ، وهو حَبّ البُرّ والشعير ونحوهما { ذُو الْعَصْفِ } أي : الورق اليابس كالتبن { وَالرَّيْحَانُ } أي : الورق الأخضر ، تذكير بالنعمة به وبورقه في حاليته . هذا على قراءة : { الريحان } بالجرّ . وقرئ بالرفع ، وهو الزرع الأخضر مطلقاً ، سمي به تشبيهاً له بما فيه الروح ؛ لأن حياته النباتية في نضرة خضرته .
قال ابن عباس : الريحان خضر الزرع .
وقال القرطبيّ : الريحان ، إما فيعملان ، من روح ، فقلبت الواو ياء ، وأدغم ثم خفف ، أو فعلان ، قلبت واوه ياء للتخفيف ، أو للفرق بينه وبين الروحان ، وهو ما له روح .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال أبو السعود : الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى :
{ لِلْأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] ، وسينطلق به قوله تعالى :
{ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } [ الرحمن : 31 ] . والفاء لترتيب الإنكار ، والتوبيخ على فصل من فنون النعماء ، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتماً . والتعرّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير ، وتشديد التوبيخ . ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى كفرهم بها ، إما بإنكار كونه نعمة في نفسه ، كتعليم القرآن ، وما يستند إليه من النعم الدينية ، وإما بإنكار كونه من الله تعالى ، مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه ، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلالاً ، أو اشتراكاً صريحاً ، أو دلالة ، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها . والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب ، لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر ، شهادة منها بذلك ، فكفرهم تكذيب بها لا محالة ، أي : فإذا كان الأمر كما فصل ، فبأي فرد من أفراد آلاء مالِككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان ، مع أن كلاً منهما ناطق بالحق ، شاهد بالصدق . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 14 - 16 ]
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } قال أبو السعود : تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين . و الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة ، و الفخار الخزف . وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً . ثم حمأً مسنوناً ، ثم صلصالاً ، فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها ، وبين ما نطق به بأحد الآخرين .
{ وَخَلَقَ الْجَانَّ } أي : الجن ، أو أبا الجن ، { مِن مَّارِجٍ } أي : لهب صاف .
{ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النِّعَم ، ومما أظهره لكما بالقرآن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 17 - 18 ]
{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } أي : مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما ، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى ، كاختلاف الفصول ، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 19 - 21 ]
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } أي : أرسلهما ، من مرج فلان دابته ، إذا خلاّها وتركها . والمعنى : أرسل وأجرى البحر الملح ، والبحر العذب { يَلْتَقِيَانِ } أي : يتجاوران .
{ بَيْنَهُمَا بَرْزَخً } أي : حاجز من قدرة الله تعالى وبديع صنعه { لَّا يَبْغِيَانِ } أي : لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة ، وإبطال الخاصية .
قال الشهاب : يعني أنهما إذا دخل أحدهما في الآخر قد يجرى فيه فراسخ ولا يتلاشى ويضمحل ، حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه ، كما نشاهده .
وقيل : المراد بحرَي فارس والروم ، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط ، وبينهما برزخ من الأرض ، لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما ، وهو مروي عن قتادة والحسن ، قال الشهاب : لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى :
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ الفرقان : 53 ] الآية ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً .
واختار ابن جرير ما روي عن ابن عباس وغيره أنه عني به بحر السماء وبحر الأرض وذلك أن الله قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء ، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء . انتهى .
وفيه ما في الذي قبله من عدم موافقته لتلك الآية ، والأصل في الآي التشابه .
زاد ابن كثير : إن ما بين السماء والأرض لا يسمى برزخاً ، وحجراً محجوراً ؛ فالأولى هو الأول .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما في البحرين وخلقهما من الفوائد ، وقد أشار إلى بعضهما بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 22 - 23 ]
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } أي : كبار الدر وصغاره . أو المرجان : الخرز الأحمر المعروف . وإنما قيل : { مِنْهُمَا } مع أنه يخرج من أحدهما ، وهو الملح ، لأنه لامتزاجهما يكون خارجاً منهما حقيقة ، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما ، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم . قال الناصر : وهذا هو الصواب ، ومثله : { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وإنما أريد إحدى القريتين ، وكما يقال : هو من أهل مصر ، وإنما هو من محلة منها . انتهى .
قال الشهاب : ولا يخفى أن هذا - وإن اشتهر- خلاف الظاهر ؛ فإما أن يكون ضمير { مِنْهُمَا } لبحري فارس والروم ، أو يقال : معنى خروجه منهما ليس أنه متكون فيهما ، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار انصبّت إليها المياه العذبة . انتهى . والخطب سهل .
ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس ، لتحلّيهم بهما ، كما تشير له آية : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر : 12 ] ، قال سبحانه :
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 24 - 25 ]
وقوله تعالى : { وَلَهُ الْجَوَارِ } يعني السفن ، جمع جارية { الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } قرئ بكسر الشين ، بمعنى الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن ، وبفتحها بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر . و الأعلام جمع علَم ، وهو الجبل الطويل . ولما كانت من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع ، قال تعالى : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : نعمه التي أنعم بها في هذه الجواري . قال القاضيّ : أي : من خلق موادها ، والإرشاد إلى أخذها ، وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر خلقها وجمعها غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 26 - 28 ]
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } أي : مَن على ظهر الأرض هالك .
{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } أي : ذاته الكريمة { ذُو الْجَلَالِ } أي : العظمة والعلوّ والكبرياء { وَالْإِكْرَامِ } أي : التفضل العام ، وهذه الآية كآية { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .
ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل ، وينقلب الأول بالثواب ، ويبوء الآخر بالعقاب ، وذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين ، قال سبحانه : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
وقد أشار الرازيّ إلى ما في قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } من الفوائد ، بقوله : فيه فوائد :
منها : الحث على العبادة ، وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة .
ومنها : المنع من الوثوق بما يكون للمرء ، فلا يقول - إذا كان في نعمة - : إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله ، معتمداً على ماله وملكه .
ومنها : الأمر بالصبر إن كان في ضر ، فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب ، والضرر زائل .
ومنها : ترك اتخاذ الغير معبوداً ، والزجر عن الاغترار بالقرب من المملوك ، وترك التقرب إلى الله تعالى ؛ فإن أمرهم إلى الزوال قريب .
ومنها : حسن التوحيد ، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً ، لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن ٍ *فباي الاء ربكما تكذبان } [ 29 - 30 ]
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : يدعونه ويرغبون إليه ، ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي ، وغناه المطلق .
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } أي : كل وقت يحدث أموراً ، ويجدِّد أحوالاً . قال مجاهد : يعطي سائلاً ، ويفك عانياً ، ويجيب داعياً ، ويشفي سقيماً .
وروى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية . فقيل : يا رسول الله ! وما ذاك الشأن ؟ قال : < يغفر ذنباً ، ويفرِّج كرباً ، ويرفع أقواماً ، ويضع آخرين > .
وقال القاشانيّ : المراد يسأله كلُّ شيء ، فغاب العقلاء ، وأتى بلفظ : { مَن } أي : كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائماً { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده ، فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار ، يفيضها عليه مع حصول الاستعداد ، ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل ، ولوث العقائد الفاسدة ، والخبائث ، للشرور والمكاره ، وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال : يفيضها عليه مع حصول الاستعداد . انتهى .
وقد أخذ الآية عامة من حيث السائلون خاصة بلسان الاستعداد وغيره - كابن كثير والقاضي - رآها خاصة بمن يعقل ، عامة بلسان الحال أو المقال . والأقرب هو ما يتبادر بادئ بدء إلى الفهم ، وهو ما ذكرناه أولاً { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما يسعف به سؤالكما ، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 31 - 32 ]
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } قال القرطبيّ : يقال : فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً ، وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي : بذلته . والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه ، وإنما المعنى : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، فهو وعيد لهم وتهديد ، كقول القائل لمن يريد تهديده : إذاً أتفرغ لك ، أي : أقصدك .
وقال الزجّاج : الفراغ في اللغة على ضربين : أحدهما الفراغ من الشغل ، والآخر القصد للشيء . والإقبال عليه ، كما هنا ، وهو تهديد ووعيد ، تقول : قد فرغت مما كنت فيه ، أي : قد زال شغلي به . وتقول : سأفرغ لفلان ، أي : سأجعله قصدي . فهو على سبيل التمثيل ، شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة ، من الأخذ في الجزاء ، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين ، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي ، والإماتة والإحياء ، والمنع والإعطاء ، وأنه لا يشغله شأن ، بحال مَن إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر ، إذا فرغ من ذلك الشغل ، شرع في آخر . وجازت الاستعارة التصريحية أيضاً . وقد ألم به صاحب " المفتاح " حيث قال : الفراغ الخلاص عن المهام ؛ والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن ، وقع مستعاراً للأخذ في الجزاء وحده .
لطيفة :
ترسم { أَيُّهَا } بغير ألف ، وأما في النطق فقرأ أبو عمرو الكسائي : { أَيُّهَا } بالألف في الوقف ، ووقف الباقون على الرسم { أَيُّهَا } بتسكين الهاء ، وفي الوصل قرأ ابن عامر { أيهُ } برفع الهاء ، والباقون بنصبها .
و { الثَّقَلَانِ } تثنية ثَقَل بفتحتين ، فَعَل بمعنى مفعل ، لأنهما أثقلا الأرض ، أو بمعنى مفعول ، لأنهما أُثقلا بالتكاليف . وقال الحسن : لثقلهما بالذنوب .
والخطاب في { لَكُمْ } قيل للمجرمين ، لكن يأباه قوله :
{ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } نعم ! المقصود بالتهديد هم ، ولا مانع من تهديد الجميع بقوله ، أفاده الشهاب ، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت ، بل هو حامل للوعد أيضاً ، لأن المعنى : سنفرغ لحسابكم ، فنثيب أهل الطاعة ، ونعاقب العصاة ، وهو جليّ ؛ ولذا اعتد ذلك نعمة عليهم بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : من ثوابه أهل الطاعة ، وعقابه أهل معصيته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 33 - 34 ]
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم ، أي : بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم { فَانفُذُوا } أي : فجوزوا واخرجوا { لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } أي : بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ونحوه : { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء } [ العنكبوت : 22 ] ، ويقال : معنى الآية : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان ، يعني البينة من الله تعالى . والأول أظهر ، لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مُجاز للعباد ، عقبه بقوله : { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } إلخ ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه ، إذا أراده .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن جرير : أي : من التسوية بين جميعكم ، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم .
وقال القاضي : أي : من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 35 - 36 ]
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ } أي : من لهب { مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } أي : صُفر مذاب يصبّ على رؤوسهم { فَلَا تَنتَصِرَانِ } أي : تمتنعان وتنقذان منه . يعني : إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول ، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم .
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها ، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة ، وعبارته :
هذا في مقام الحشر ، والملائكة محدقة بالخلائق ، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان ، أي : بأمر الله { يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ] ، وقال تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس : 27 ] ، ولهذا قال تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ } والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة ، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا . انتهى .
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك الإمامُ ابن القيم رحمه الله ، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه " طريق الهجرتين " في تفسير هذه الآية ، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا } ما مثاله :
وفي الآية تقرير آخر ، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة ، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض ، وأحاط سرادق النار بالآفاق ، فهرب الخلائق ، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً ، كما قال تعالى : { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } [ غافر : 32 - 33 ] ، قال مجاهد : فارّين غير معجزين . وقال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار ندُّوا هرباً ، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله : { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } [ الحاقة : 17 ] ، وقوله :
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } [ الرحمن : 33 ] الآية . وهذا القول أظهر - والله أعلم - فإذا بدت الخلائق ولّوا مدبرين ، يقال لهم :
{ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم ، فافعلوا . وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول ، فإن قبلها { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } الآية ، وهذا في الآخرة ، وبعدها { فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء } [ الرحمن : 37 ] الآية ، وهذا في الآخرة وأيضاً فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن فإنه أتى به بصيغة العموم ، وهي قوله : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه ، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر . وقال تعالى : { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } ولم يقل : إن استطعتما ، لإرادة الجماعة ، كما في آية أخرى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } [ الأنعام : 13 ] ، وقال :
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } ، ولم يقل : يرسل عليكم ، لإرادة الصنفين ، أي : لا يختص به صنف عن صنف ، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً . وهذا ، وإن كان مراداً بقوله :
{ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } [ الرحمن : 33 ] ، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن ، أي : من استطاع منكم . وحسَّنَ الخطاب بالتثنية في قوله : { عَلَيْكُمَا } أمر آخر ، وهو موافقة رؤوس الآي ، فاتصلت التثنية بالتثنية . وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما ، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما - والله أعلم - انتهى كلام ابن القيم .
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة ، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده ، لأنه ليس من نظائره . فالوجه ما ذكرناه .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال القاضي : فإن التهديد لطف ، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار ، من عداد الآلاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 37 - 38 ]
{ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء } أي : انفطرت فاختلّ نظامها العلوي { فَكَانَتْ وَرْدَةً } أي : كلون الورد الأحمر { كَالدِّهَانِ } أي : كالدهن الذي هو الزيت ، كما قال :
{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ } [ المعارج : 8 ] ، وهو ردي الزيت ، يعني في لونه الكدر وذوبانه ، لصيرورتها إلى الفناء والزوال .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما يحلّه بكم بعد ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 39 - 40 ]
{ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ } أي : لا يفتح له باب المعذرة ، كقوله { وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ، ففي السؤال مجاز عن نفي سماع الاعتذار ؛ فهو من باب نفي السبب لانتفاء المسبب . وأخذ كثير السؤال على حقيقته ، وحاولوا الجمع بينه وبين ما قد ينافيه .
قال القاشانيّ : وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ، ونظائره ففي موطن آخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم ، وقد يكون بعده .
وكذا قال ابن كثير : إن هذه الآية كقوله تعالى :
{ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 - 36 ] ، فهذا حال ، وثَمّ حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم ، قال تعالى :
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] ، وفي الآية تأويل آخر ، قال مجاهد : لا يسأل الملائكة عن المجرم ، يعرفون بسيماهم .
وقال الإمام ابن القيم في " طريق الهجرتين " : اختلف في هذا السؤال المنفي ، فقيل : هو وقت البعث والمصير إلى الموقف ، لا يسألون حينئذ ، ويسألون بعد إطالة الوقوف ، واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم ، ويريحهم من مقامهم ذلك . وقيل : المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار ، لا سؤال المحاسبة والمجازاة ، أي : قد علم الله ذنوبهم ، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها ، وإنما يحاسبهم عليها . انتهى .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن جرير : أي : من عدله فيكم أنه لم يعاقب منكم إلا مجرماً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 41 - 45 ]
{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي : بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة ، وقيل : بسواد الوجوه ، وزرقة العيون { فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ } أي : فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم ، فتسحبهم إلى جهنم ، وتقذفهم فيها . والباء للآلة ، كأخذت بالخطام ، أو للتعدية . و الناصية مقدم الرأس .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن جرير : أي : من تعريفه ملائكته ، أهل الإجرام من أهل الطاعة منكم ، حتى خصوا بالإذلال والإهانة ، المجرمين دون غيرهم .
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ } أي : ماء حار { آنٍ } أي : انتهى حره ، واشتد غليانه . وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنَى ، ومنه قوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] ، يعني إدراكه وبلوغه { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : من عقوبته أهل الكفر به ، وتكريمه أهل الإيمان به .
ثم تأثر ما عدد عليهم من الآلاء الدينية ، والدنيوية بتعداد ما أفاض عليهم في الآخرة ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 46 - 59 ]
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أي : قيامه عند ربه للحساب ، فأطاعه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ؛ فإضافته للرب لأنه عنده ، فهو كقول العرب : ناقة رقود الحلب ، أي : رقود عند الحلب ، أو موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب ، فإضافته للرب لامية لاختصاص الملك يومئذ به تعالى . أو هو كناية عن خوف الربِّ وإثبات خوفه له بطريق برهاني بليغ ؛ لأن من حصل له الخوف من مكان أحد ، يهابه وإن لم يكن فيه ، فخوفه منه بالطريق الأولى ، وهذا كما يقول المترسلون : المقام العالي ، والمجلس السامي { جَنَّتَانِ } أي : جنة لمن أطاع من الإنس ، وجنة لمن أطاع من الجن . أو هو كناية عن مضاعفة الثواب ، وإيثار التثنية للفاصلة, { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : بإثابته المحسن ما وصف .
{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } أي : أنواع من الأشجار والثمار ، جمع فن بمعنى النوع ، أو أغصان لينة ، جمع فنن وهو ما دقَّ ولان من الغصن .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } وهو ما غلظ من الديباج ، نبه على شرف الظهارة ، بشرف البطانة ، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى .
قال ابن مسعود : هذه البطائن ، فكيف لو رأيتم الظواهر ؟ !
{ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أي : وثمرهما المجنيّ داني القطوف { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : منكسرات الجفن ، خافضات النظر ، غير متطلعات لما بعد ، ولا ناظرات لغير زوجها . أو معناه : إن طرف النظر لا يتجاوزها ، كقول المتنبي :
~وخصرٍ تثبتُ الأبصارُ فيه كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقا
فالمراد : قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز لغيرهن . أو المعنى : شديدات بياض الطرف ، كما يقال : أحور الطرف وحوراؤه ، من قولهم : ثوب مقصور وحوّاري .
وجليّ أن المعاني هاهنا لا تتزاحم لتحقق مصداقها كلها { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } أي : لم يمسهن . وأصله خروج الدم ، ولذلك يقال للحيض : طمث ، ثم أطلق على جِماع الأبكار ، لما فيه من خروج الدم ، ثم عمّ كل جماع . وقد يقال : إن التعبير به للإشارة إلى أنها توجد بكراً كلما جومعت . ويستدل بالآية على أن الجن يطمثن ويدخلن الجنة .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } أي : في الحسن والبهجة ، أو في حمرة الوجنة والوجه ، أدباً وحياءً { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ 60 - 78 ]
{ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ } أي : في العمل { إِلَّا الْإِحْسَانُ } أي : في الثواب ، وهو الجنة { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا } أي : دون تينك الجنتين المنوّه بهما { جَنَّتَانِ } أي : بستانان آخران ، إشارة إلى وفرة الجنان واتصالها وسعة امتداد الطرف في مناظرها .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ } أي : خضراوان من الري ، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة . أو من كثرة أشجارها الممتدة لا إلى نهاية .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } أي : فوّارتان بالماء .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وإنما أفردهما بالذكر بياناً لفضلهما ، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } جمع خيّرة بالتشديد ، إلا أنه خفف . وقد قرئ على الأصل ، أي : فاضلات الأخلاق . وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده { حِسَاْن } أي : حسان الوجوه .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } الحور : جمع حوراء ، وهي البيضاء النقية ، ومعنى { مَّقْصُورَاتٌ } قصرن أنفسهنّ على منازلهنّ ، لا يهمهنّ إلا زينتهنّ ولهوهنّ . وفيه المعاني المتقدمة أيضاً . و { الْخِيَامِ } قال ابن جرير : يعني بها البيوت . وقد يسمّي العرب هوادج النساء خياماً ، ثم أنشد له .
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } يعني بهنّ حور الجنتين اللتين من دون الأوليين . أو تكرير لما سبق للتنويه بهذا الوصف ، وكونه في مقدمة المشتهيات ، وطليعة الملذات :
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ } أي : سرر أو مساند أو وسائد { خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ } أي : طنافس وبُسط { حِسَاْن } أي : جياد . والصفة كاشفة ، ولذا قال ابن جبير : العبقريّ عتاق الزرابي ، أي : جيادها .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : من إكرامه أهل طاعته منكما هذا الإكرام { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } أي : ذي العظمة والكبرياء ، والتفضل بالآلاء ، و الاسم هنا كناية عن الذات العليّة ، لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معها ، كآية : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] ، وآية { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ الملك : 1 ] ، ونحوهما . وسر إيثار الاسم للتنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى ، لاستحالة اكتناه الذات المقدسة . فما عرف الله إلا الله . هذا هو التحقيق .
وقيل : لفظ اسم مقحم ، كقوله :
~إلى الحولِ ثم اسمُ السلام عليكما
وذهب ابن حزم إلى بقاء الاسم على حقيقته . وردّ من استدلّ بأن الاسم هو المسمى بما مثاله : لاحجة فيما احتجوا به . أما قول الله عز وجل : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فحقّ . ومعنى { تَبَارَكَ } تفاعل من البركة ، والبركة واجبة لاسم الله عزّ وجلّ الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء ، ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرمه ، فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى ، وله الإكرام من الله تعالى ومنا ، حينما كان من قرطاس ، أو في شيء منقوش فيه ، أو مذكور بالألسنة . ومن لم يجلّ اسم الله عزّ وجلّ كذلك ولا أكرمه ، فهو كافر بلا شك ؛ فالآية على ظاهرها دون تأويل ، فبطل تعلقهم بها . انتهى كلامه رحمه الله .
فائدة :
فيما قاله الأئمة في سر تكرير : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال السيوطيّ في " الإتقان " في بحث التكرير :
قد يكون التكرير غيرَ تأكيد صناعة ، وإن كان مفيداً للتأكيد معنى ، ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين ، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده .
ثم قال : وجعل منه قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } فإنهما ، وإن تكررت نيفاً وثلاثين مرة ، فكل واحدة تتعلق بما قبلها ، ولذلك زادت على ثلاثة ، ولو كان الجميع عائداً إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة ، لأن التأكيد لا يزيد عليها ، قاله ابن عبد السلام وغيره ، انتهى .
وفي " عروس الأفراح " : فإن قلت : إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظٌ كلٌ أريد به غير ما أريد به الآخر ؟ .
قلت : إذا قلنا : العبرة بعموم اللفظ ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ، ولكن كرر ليكونّ نصاً فيما يليه ، ظاهراً في غيره .
فإن قلت : يلزم التأكيد ؟
قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة ؛ لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع . أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة ، فلا يمتنع . انتهى .
وقال العز بن عبد السلام في آخر كتابه " الإشارة إلى الإيجاز " وأما قوله :
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه ، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة ، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم ، وبالثانية ما تقدمها ، وبالثالثة ما تقدم على الأولى ، والثانية والرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة ، وهكذا إلى آخر السورة .
فإن قيل : كيف يكون قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } نعمة ، وقوله : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } نعمة ، وكذلك قوله :
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ } وقوله :
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } وقوله :
{ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } ؟
قلنا : هذه كلها نعم جِسَام ؛ لأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم ، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان ، فإن من حذّر من طريق الردى ، وبيّن ما فيها من الأذى ، وحث على طريق السلامة ، الموصلة إلى المثوبة والكرامة ، كان منعماً غاية الإنعام ، ومحسناً غاية الإحسان . ومثل ذلك قوله : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ } [ يس : 52 ] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط ، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام . وأما قوله :
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ، فإنه تذكير بالموت والفناء ، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء ، وفي الإعراض عن دار الفناء . انتهى .
وقال البغويّ : كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة ، وتأكيداً للتذكير بها ، ثم عدد على الخلق آلاءه ، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ، ليفهمهم النعم ويقررهم بها ، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي ، وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ، أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب . انتهى .
وقال السيد مرتضى في " الدرر والغرر " : التكرار في سورة الرحمن ، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة ، فكلما ذكر نعمة أنعم بها ، وبّخ على التكذيب ، كما يقول الرجل لغيره : ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا ؟ فيحسن فيه التكرير ، لاختلاف ما يقرر به ، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم ، كقول مهلهل يرثي كليباً :
~على أن ليس عدلاً من كُلَيبٍ إذا ما ضِيمَ جيرانُ المُجيرِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا رجف العِضاهُ من الدَّبورِ

~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا خَرَجَتْ مُخَبَّأةُ الخُدُورِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا ما أُعْلِنَتْ نَجْوى الأمُورِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا خيفَ المَخُوفُ من الثُغُورِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ غداة تَلاتِلِ الأمرِ الكبيرِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا ما خارَ جارُ المستجيرِ
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ، هو من لطائف العرب ، فاعرفه .
وقال شيخ الإسلام في " متشابه القرآن " : ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة ، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، بعدد أبواب جهنم ، وحسن ذكر الآلاء عقبها ؛ لأن من جملة الآلاء : رفع البلاء ، وتأخير العقاب . وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها ، بعدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين ، أخذاً من قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة . انتهى .
اللهم زدنا اطلاعاً على لطائف قرآنك الكريم ، وغوصاً على لآلئ فرقانك العظيم .

(/)


سورة الواقعة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } [ 1 - 3 ]
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } أي : نزلت وجاءت . و { الْوَاقِعَةُ } علم بالغلبة على القيامة ، أو منقول سميت بذلك لتحقق وقوعها ، وكأنه قيل : إذا وقعت التي لا بد من وقوعها ، واختيار { إذَا } مع صيغة المضي ، للدلالة على ما ذكر .
{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي : كذب وتكذيب . وقد جاء المصدر على زنة فاعلة كالعاقبة ، والعافية . واللام للاختصاص . أو المعنى : ليس حين وقعتها نفس كاذبة ، أي : تكذب على الله ، أو تكذب في نفيها . واللام للتوقيت .
قال الشهاب : و { الْوَاقِعَةُ } السقطة القوية ، وشاعت في وقوع الأمر العظيم ، وقد تخص بالحرب ، ولذا عبر بها هنا .
{ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي : تخفض الأشقياء إلى الدركات ، وترفع السعداء إلى الدرجات . وقيل ، الجملة مقررة لعظمة الواقعة على طريق الكناية ؛ لأن من شأن الوقائع العظام أنها تخفض قوماً وترفع آخرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } [ 4 -6 ]
{ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً } أي : زلزلت زلزالاً شديداً .
{ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً } أي : فتّتت ، أو سيقت وأذهبت ، كقوله : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } [ النبأ : 20 ] { فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } أي : متفرقاً . قال قتادة : الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر . وقال غيره : هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ 7 - 12 ]
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً } أي : أصنافاً ثَلَاثَةً .
{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة ، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها . وإطلاق { الْمَيْمَنَةِ } و { الْمَشْأَمَةِ } اللتين هما الجهتان المعروفتان على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس ، وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس ، أصله من تيمُّنِ العرب باليمين ، وتشاؤمهم بالشمال ، كما في السانح والبارح ، وقولهم للرفيع : هو منى باليمين ، و للوضيع : هو منى بالشمال ، تجوزاً به ، أو كناية به عما ذكر .
وقيل : الميمنة والمشأمة بمعنى اليمين والشؤم ، فليس بمعنى الجهة ، بل بمعنى البركة وضدها ، لما عاد عليهم من أنفسهم وأفعالهم . و في جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقّي أحوالهما في الخير والشر ، تعجُّباً منه .
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أي : الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة ، بعد ظهور الحق ، وأوذوا لأجله ، وصبروا على ما أصابهم ، وكانوا الدعاة إليه .
فإن قيل : لم خولف بين المذكورين في السابقين ، وفي أصحاب اليمين ، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين ؟
فنقول : التعظيم المؤدي بقوله : { السَّابِقُونَ } أبلغ من قرينه ، وذلك أن مؤدى هذا أن أمر السابقين ، وعظمة شأنه ، مسابق . كاد يخفى . وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور . وأما المذكور في قوله : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق ، ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله : { أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف ، وبين الإخبار عنه بقوله :
{ الْمُقَرَّبُونَ } معرفاً بالألف واللام العهدية ؟ وليس مثل هذا مذكوراً في بسط حال أصحاب اليمين ، فإنه مصدر بقوله :
{ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } ٍ أفاده الناصر .
و { السَّابِقُونَ } الثاني إما خبر ، أي : الذين عرفت حالهم واشتهرت أوصافهم على حدّ : وشعري شعري ، أو تأكيد ، والخبر قوله :
{ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } أي : الذين يقربهم الله منه بإعلاء منازلهم { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } [ 13- 14 ]
{ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ } أي : هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا ، لرسوخ إيمانهم وظهور أثره في أعمالهم من العمل الصالح ، والدعوة إلى الله ، والصبر على الجهاد في سبيله ، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهم .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } أي : الذين جاؤوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها الغيَر ، وتبرّجت الدنيا لخطَّابها ، ونسي معها سر البعثة ، وحكمة الدعوة ؛ فما أقلّ الماشين على قّدّم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابه ! لا جَرمَ أنهم وقتئذ الغُرَباء ، لقّلتهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

(/)


{ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } [ 15 -26 ]
{ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } أي : مصفوفة ، أو مشبكة بالدرِّ والياقوت أو الذهب . و الوَضْنُ التشبيك والنسج .
{ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } أي : بوجوههم ، متساوين في الرتب ، لا حجاب بينهم أصلاً .
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أي : للخدمة { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي : مبْقَونَ على سنّ واحدة لا يموتون .
{ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } أي : حال الشرب . والكوب إناء لاعروة ولا خرطوم له ، والإبريق : إناء له ذلك .
{ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي : خمر جارية .
ثم أشار إلى أنها لَذّة كلها ، لا ألم معها ولا خمار { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي : لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار ، كخمور الدنيا ، والصداع : وجع الرأس . وقرئ بالتشديد من التفعل ، أي : لا يتفرقون { وَلَا يُنزِفُونَ } بكسر الزاي وفتحها أي : لا تذهب عقولهم بسكرها .
{ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي : يختارون ويرتضون ، وأصله أخذ الخيار والخير .
قال ابن كثير : وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر لها ، ثم استشهد له بحديث عكراش لما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثريد ، وأقبل عكراش يخبط بيدهْ في جوانبه فقبض النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال : < يا عكراش ! كل من موضع واحد ، فإنه طعام واحد > . ثم أتي بطبق فيه تمر أو رطب ، فجعل عكراش يأكلْ من بين يديه ، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال : < يا عكراش ! كلْ من حيث شئت ، فإنه لون واحد > رواه الترمذي واستغربه .
{ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي : يتمنون { وَحُورٌ عِينٌ } أي : وأزواج بيض واسعة الأعين . عطف على { وِلْدَانِ } أو مبتدأ محذوف الخبر . أي : وفيها . أو ولهم حور . وقرئ بالجرّ عطف على { بِأَكْوَابٍ } قال الشهاب : وحينئذ إما أن يقال :
{ يَطُوْفُ } بمعنى ينعمون مجازاً أو كناية . على حد قوله :
~وزَجّجْنَ الحَوَاجِبَ والْعُيُونا
أو يبقى على حقيقته ، وظاهره وأن الولدان تطوف عليهم بالحور أيضاً ، لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح ، كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضونهم عليهم . وإلى هذا ذهب أبو عمرو وقطرب وجوّز جعله من الجر الجواري . قيل : والفصل يأباُه ويضعفه . وأما عطفه على { جَنَّاتٍ } بتقدير مضاف أي : هم في جنات .
ومصاحبة حور فقال أبو حيّان : هو فهم أعجمي ، فيه بُعد وتفكيك للكلام المرتبط ، وهو ظاهر . ومن عصّبهُ فقد تعصّب .
{ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } أي : صفاؤهن كصفاء الدّرّ في الأصداف الذي لا تمسّه الأيدي وأصل { الْمَكْنُونِ } الذي صين في كنّ .
{ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الصالحات .
{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي : هذياناً وكلاماً غير مفيد ، باطلاً من القول .
{ وَلَا تَأْثِيماً } أي : ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها .
{ إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } قال القاشاني : أي : قولاً هو سلام في نفسه منزّه عن النقائص ، مبرأ عن الفضول والزوائد ، أو قولاً يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص ، ويوجب سروره وكرامته ، ويبين كماله وبهجته ، لكون كلامهم كله معارف وحقائق ، وتحايا ولطائف ، على اختلاف وجهي الإعراب ، أي : من كون { سَلاَماً } بدلاً من { قِيلاً } أو مفعوله . والتكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم وكثرته ، لأن المراد : سلاماً بعد سلاماً ، كقرأت النحو باباً باباً ، فيدلّ على تكرّره وكثرته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* ل َّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَابًا* ل ِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } [ 27 - 40 ]
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ } أي : أي : شيء هم ! أي : هم شرفاء ، عظماء كرماء ، يتعجب من أوصافهم في السعادة .
{ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } أي : لا شوك له ، أو موقَر بالثمار .
{ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } يعني شجر الموز الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه . قال مجاهد : كانوا يعجبون بوجّ من طلحه وسدره . وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها .
{ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } أي : ممتد منبسط لا يتقلّص .
{ وَمَاء مَّسْكُوبٍ } أي : مصبوب دائم الجريان .
{ وفاكهة كثيرة لا مقطوعة } أي : لا تنقطع عنهم متى أرادوها ، لكونها غير متناهية ، { وَلَا مَمْنُوعَةٍ } أي : لا تمنع عن طالبها . والقصد مباينتها لفاكهة الدنيا ، فإنها تنقطع أحياناً ، كفاكهة الصيف في الشتاء ، وتمتنع أحياناً لعزتها أو جدبها .
{ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي : مرتفعة في منازلها ، أو على الأرائك للرقود والمضاجعة . وقد يؤيده تأثره بوصف من يضاجعهن فيها . وهو قوله تعالى : { إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء } أي : بديعاً فائق الوصف . فالضمير يعود على ما فهم من السياق والسباق . وقيل : قد يكنى عن الحور بالفرش ، كما يكنى عنهن باللباس ، فالضمير المذكور على طريق الاستخدام ، إذ عاد إلى الفرش بمعنى النساء ، بعد إرادة معناها المعروف منها . وقيل : على طريق الحقيقة ، أي : مرفوعة على الأرائك . كآية { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ } [ يس : 56 ] .
{ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } أي : لم يطمثن .
{ عُرُباً } جمع عروب ، وهي المتحببة إلى زوجها المحبوبة لتبعلها { أَتْرَاباً } أي : على سن واحدة .
{ لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ } ، متعلق بـ أنشأنا ، أو جعلنا ، أو صفة لـ { أَبْكَاراً } أو خبر لمحذوف ، مثل هن .
{ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } أي : جماعة وأمّة من المتقدمين في الإيمان ، وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة . والكثرة ظاهرة لوفرة أصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقي ، كما بينا أولاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ* ل َّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ } [ 41 - 48 ]
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ } أي : حر نار ينفذ في المسامّ .
{ وَحَمِيمٍ } أي : ماء متناهي الحرارة .
{ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي : من دخان أسود ، طبق أهويتهم المردية ، وعقائدهم الفاسدة ، وهيئات نفوسهم المسودة ، بالصفات المظلمة ، والهيئات السود الرديئة .
{ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ } أي : ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح ، ونفع من يأوي إليه بالراحة ، بل له إيذاء وإيلام وضرّ ، بإيصال التعب واللهب والكرب .
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي : منهمكين في اللذات والشهوات ، منغمسين في الأمور الطبيعية ، والغواشي البدنية ، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة ، والتبعات المهلكة .
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } أي : الذنب العظيم من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة ، التي استحقوا بها العذاب المخلد ، والعقاب المؤبد . وفسرهُ السبكي بالقسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى :
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] ، قال الشهاب : وهو تفسير حسن ، لأن الحنث ، وإن فسر بالذنب مطلقاً أو الذنب العظيم ، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم ، ولذا تأثره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث بقوله : { وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } [ 49 - 56 ]
{ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي : معين عنده تعالى ، وهو يوم القيامة .
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ } أي : الجاهلون المصرُّون على جهالاتهم ، والجاحدون للبعث .
{ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } وهو من أخبث شجر البادية في المرارة ، وبشاعة المنظر ، ونتن الريح .
{ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } أي : من ثمراتها الوبيئة البشعة المرقة .
{ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ } أي : الماء الذي انتهى حرهُ وغليانهُ . قال الزمخشري : وأنث ضمير الشجر على المعنى ، وذّكره على اللفظ في قوله : { مِنْهَا } و { عَلَيْهِ }
{ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } أي : الإبل التي بها الهيام ، وهو داء لا ريّ معه ، لشدة الشغف والكلب بها .
{ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } أي : جزاؤهم في الآخرة ، وفيه مبالغة بديعة ، لأن النزل ما يعدّ للقادم عاجلاً إذا نزلْ ، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة ، فلما جعل هذا ، مع أنه أمر مهول ، كالنزل ، دلّ على أن بعده ما لا يطيق البيان شرحه ، وجعله نزلاً مع أنه ما يكرم به النازل متهكماً ، كما في قوله :
~وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافَنا جعلنا القَنَا والمرْهَفَاتِ لهُ نُزْلاً

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } [ 57 - 62 ]
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } أي : معشر قريش والمكذبين بالبعث ، فأوجدناكم بشراً ، ولم تكونوا شيئا { فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } أي : بالخلق ، وهم وإن كانوا مقرين به لقوله :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار ؛ لأنه إذا لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة ، لا يعد تصديقاً ، أو المعنى : فلولا تصدقون البعث ، فإن من قدر على الإبداء ، قدر على الإعادة .
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ } أي : ما تقذفونه في الرحم من النطف .
{ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } أي : بجعله بشراً سويّاً .
{ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } أي : بإفاضة الصورة الْإِنْسَاْنية عليه .
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ } أي : كتبنا على كل نفس ذوقه ، أي : ومن سبيله ذلك فشأنه أن يرهب من نزوله ، ويتأهب لما يخوّف به من بعده ، والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة ، فلا يغترون بالإمهال ، بدليل ما قدره عليهم من الموت . وفي قوله تعالى :
{ بَيْنَكُم } زيادة تنبيه ، كأنه بين ظهرانيهم ، ثم أكد ما قرره بقوله تعالى :
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : بمغلوبين .
{ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } أي : بعد مهلككم ، فنجيء بآخرين من جنسكم { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } من صور وأشكال أخرى ، فكيف نعجز عن إعادتكم ؟
قال الشهاب : والظاهر أن قوله :
{ وَنُنشِئَكُمْ } المراد به إذا بدلناكم بغيركم ، لا في الدار الآخرة ، كما توهم ، وهذا كقوله تعالى :
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] ، { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى } أي : أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، { فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } أي : فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة ، وهي البداءة قادر على النشأة الأخرى ، وهي الإعادة ، وأنها أهون عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ 63 - 67 ]
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } أي : ما تحرثون الأرض لأجله ، وهو الحب . و الحرث : شق الأرض للزراعة ، وإثارتها ، وإلقاء البذر فيها .
{ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } أي : تنبتونه { أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } أي : المنبتون ، وعن بعض السلف أنه كان إذا قرأ هذه الآية وأمثالها يقول : بل أنت يل ربّ ! { لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أي : أيبسناه قبل استوائه واستحصاده . وأصل الحطام ما تحطم وتفتت لشدة يبسه .
{ فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } أي : تعجبون من هلاكه ويبسه بعد خضرته . أو تندمون على اجتهادكم فيه الذي ضاع وخسر . أو تفكهون على ما أصبتم لأجله من المعاصي ، فتتحدثون فيه . و التفكه : التنقل بصنوف الفاكهة ، وقد استعير للتنقل بالحديث ، لأنه ذو شجون .
وقوله تعالى : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } مقول قول مقدّر ، هو حال ، أي : قائلين ، أو يقولون : إنا لمغرمون ، أي : ملزمون غرامة ما أنفقن ، أو مهلكون لهلاك رزقنا . من الغرام بمعنى الهلاك قال :
~إن يعذِّب يكن غراماً و إن يعط جزيلاً فإنه لا يُبالي
{ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : حرمنا رزقنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } [ 68 - 70 ]
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ } يعني العذب الصالح للشرب .
{ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } أي : السحاب المعبر عنه بالسماء في غير ما آية { أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ } أي : لكم إلى قرار الأرض ، ومسلكوه ينابيع فيها .
{ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } أي : ملحاً لا يصلح لشرب ولا زرع { فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } أي : نعمة الله عليكم في جعله عذباً فراتاً ، لشربكم وزرعكم ، وصلاح معايشكم ومنافعكم .
لطيفة :
قال الإمام ابن الأثير في " المثل السائر " في النوع الحادي عشر من المقالة الثانية ، في بحث ورود لام التوكيد في الكلام ، وأنها لا تجيء إلا لضرب من المبالغة ، في سر مجيء اللام في قوله تعالى : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } دون قوله : { جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } ما مثاله :
أدخلت اللام في آية المطعوم ، دون آية المشروب ، وإنما جاءت كذلك ؛ لأن جعل الماء العذب ملحاً أسهل إمكاناً في العرب والعادة ، والموجود من الماء الملح ، أكثر من الماء العذب ، وكثيراً ما إذا جرت المياهُ العذبة على الأراضي المتغيرة التربة ، أحالتها إلى الملوحة ؛ فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحاً إلى زيادة تأكيد ؛ فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق . وأم المطعوم فإنه جعله حطاماً من الأشياء الخارجة عن المعتاد ، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد ؛ فلذلك قرن بلام التأكيد ، زيادة في تحقيق أمره ، وتقرير إيجاده . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ 71 - 74 ]
{ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } أي : تقدحون ، أي : تستخرجونها من الزند ، وهو العود الذي تقدح منه .
{ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ } أي : بل نحن جعلناها مودعة في موضع . وللعرب شجرتان : إحداهما المرخ ، والأخرى العفار ، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فَحُك أحدهما بالآخر ، تباين من بينهما شرر النار . وقد تقدم بيانه في آخر سورة يس .
{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } أي : جعلنا نار الزناد تبصرة في أمر البعث ؛ لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها ، قادر على إعادة ما تفرقت مواده ، أو تذكيراً لنار جهنم { وَمَتَاعاً } أي : منفعة { لِّلْمُقْوِينَ } أي : المسافرين الذين ينزلون القواء ، وهي القفر . يقال : أقوى إذا نزل القواء ، كأصحر إذا دخل الصحراء ، فإن الإفعال يكون للدخول في معنى مصدر مجرده . وعن مجاهد : المقوين المستمتعين ، المسافر والحاضر .
وعن ابن زيد : هم الجائعون ، تقول العرب : أقويت منه كذا وكذا ، أي : ما أكلت منه . وأقوت الدار : خلت من ساكنيها وانتفاعهم بها ، لأنهم يطبخون بها . ولشدة احتياجهم له ، خصوا بالذكر مع انتفاع غيرهم بها .
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي : سبِّح اسمه ، قال الزمخشري : بأن تقول : سبحان الله ، إما تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ، ويكفرون نعمته ، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة ، وإما شكراً لله على النعم التي عدها ونبه عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* ل َّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [ 75 - 79 ]
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } أي : منازل الكواكب ومركزها البهيجة في السماء . أو بمساقطها ومغاربها ، وهي أوقات غيبتها عن الحواس ، أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة . و { لا } في { لَا أُقْسِمُ } إما مزيدة للتأكيد . وتقوية الكلام ، وقد عهدت زيادتها في كلامهم ، كما أوضحه في " فقه اللغة " وإما لا أقسم بتمامها صيغة من صيغ القسم ، على ما ارتضاه بعض المحققين .
{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي : لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة .
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي : له كرم وشرف وقدر رفيع لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام ، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام .
{ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي : محفوظ مصون ، لا يتغير ولا يتبدل . أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه ، كغيره من الكتب ، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله ، كما قال : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } اعلم أن في الآية أقوالاً عديدة مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة ، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقى ، أو المصحف ، وأن { الْمُطَهَّرُونَ } هم الملائكة ، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث ؛ وذلك لاتساع ألفاظهما الكريمة ، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز ، وهاك ملخص ذلك ولبابه :
فأما أكثر المفسرين ، فعلى أنه عني بالآية الملائكة . فنفي مسّه كناية عن لازمه ، وهو نفي الاطلاع عليه ، وعلى ما فيه . والمراد بـ المطهرين حينئذ إما جنس الملائكة ، أو من نزل به وهو روح القدس . وطهارتهم نقاء ذواتهم عن كدورات الأجسام ، ودنس الهيولى ، أو عن المخالفة والعصيان .
وقال ابن زيد : زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } كما قال :
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210 - 212 ] . انتهى . قال ابن كثير : وهذا القول قول جيد .
وقال الفرّاء : لا يجد طعمه ولا نفعه إلا من آمن به . ومثله قول محمد بن الفضل : لا يقرؤه إلا الموحدون .
فنفي مسّه كناية عن ترك تقبّله ، والاهتداء به ، والعناية به ، فإن مسّ الشيء سبب حب الملموس ، وأثر الإقبال عليه ، ورائد الانصياع له ، والطهارة حينئذ هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق ، والملكات الرديئة ، والغرائز الفاسدة .
وقال آخرون : عني بـ المطهرين المتطهرون من الجنابة والحدث ، قالوا : ولفظ الآية خبر ، ومعناها النهي ، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه ، ولازم من لوازمه ، لشرفه وعظم شأنه .
قالوا : والمراد بـ الكتاب المصحف ، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في" موطئه" عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : < أن لا يمس القرآن إلا طاهر > . وبما روى الدارقطني في قصة إسلام عمر ، أن أخته قالت له قبل أن يسلم : إنه رجس و { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } إلا أن فيهما مقالاً بيَّنه الحافظ ابن حجر في " تلخيص الحبير " وأشار له ابن كثير أيضاً . ومع ذلك فالدلالة ليست قطعية ، وقد أوضح ذلك الشوكاني في " نيل الأوطار " وعبارته :
الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن ، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ، ومن ليس على بدنه نجاسة . ويدل لإطلاقه على الأول قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : < المؤمن لا ينجس > . وعلى الثاني : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } [ المائدة : 6 ] ، وعلى الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين : < دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين > ، وعلى الرابع : الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهراً . وقد ورد إطلاق ذلك في كثير . فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه ، حمله عليه هنا . والمسألة مدونة في الأصول ، وفيها مذاهب ، والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها ، فلا يعمل به حتى يبين . وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف ، وخالف في ذلك داود ، واستدل المانعون للجنب بقوله تعالى : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعاً إلى القرآن ، والظاهر رجوعه إلى الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، لأنه الأقرب . و { الْمُطَهَّرُونَ } الملائكة . ولو سلم عدم الظهور ، فلا أقل من الاحتمال ، فيمتنع العمل بأحد الأمرين ، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية . ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين ، لكانت دلالته على المطلوب ، وهو منع الجنب من مسه ، غير مسلمة ؛ لأن المطهر من ليس بنجس ، والمؤمن ليس بنجس دائماً ، لحديث : < المؤمن لا ينجس > وهو متفق عليه ؛ فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية ، بل تعين حمله على من ليس بمشرك ، كما في قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } لهذا الحديث ، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ . ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثاً أكبر أو أصغر ، فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملاً في معانيه ، فلا يعين حتى يبين ، وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره لحديث < المؤمن لا ينجس > ، ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته ، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحاً بلا مرجح ، وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه ، وفيه الخلاف ، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال في جميع معانيه ، لما صح ، لوجود المانع ، وهو حديث : < المؤمن لا ينجس > . واستدلوا أيضاً بحديث عمرو بن حزم المتقدم ، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج ؛ لأنه من صحيفة غير مسموعة ، وفي رجال إسناده خلاف شديد ، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج ، لعاد البحث السابق في لفظ طاهر ، وقد عرفته .
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير : إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر ، لا يصح حقيقة ولا مجازاً ولا لغة ً . صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه . فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائماً ، فلا يتناوله الحديث ، سواء كان جنباً أو حائضاً أو محدثاً ، أو على بدنه نجاسة . فإن قلت : إذا تم ما تريد من حمل الطاهرعلى من ليس بمشرك ، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم : < أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين . و { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء } إلى قوله { مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] > ، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم ؟
قلت : أجعله خاصة بمثل الآية والآيتين ، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار لمصلحة ، كدعائه إلى الإسلام . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ، ككتب التفسير ، فلا تخصص به الآية والحديث . إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك . وقد عرفت الخلاف في الجنب . وأما المحدث حدثاً أصغر ، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بسلف ، والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف . وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى : لا يجوز واستدلوا بما سلف ، وقد سلف ما فيه . انتهى كلام الشوكانيّ .
تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون :
قال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين " في مباحث أمثال القرآن الكريم ، ما مثاله : الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ، ولا يقصّر بها ، ويعطي اللفظ حقه ، والمعنى مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه ، وأخبر أنهم أهل العلم ، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني ، والعلل ونسبة بعضها إلى بعض ، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره ، ويلغى ما لا يصح ، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط .
قال الجوهري : الاستنباط كالاستخراج . ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط ؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط ، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ، ومقاصد المتكلم . والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه ، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقة ومعناه يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه ، ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين . ومن هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد سئل : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه ! ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه ، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب ، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ، ومراد المتكلم بكلامه ، ومعرفة حدود كلامه ، بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد . وأنت إذا تأملت قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* ل َّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن جاء من عند الله ، وأن الذي جاء به روح مطهرة ، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل . ووجدت الآية أخت قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [ الشعراء : 210 - 211 ] ، ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر ، ووجدتها دالة أيضاً بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به ، كما فهمه البخاري من الآية ، فقال في صحيحه في باب : { قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا } [ آل عمران : 93 ] ، { لاَ يَمَسُّهُ } لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن ، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] ، وتجد تحته أيضاً لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي ، إلا القلوب الطاهرة ، وإن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه ، مصروفة عنه ، فتأمل هذا السبب القريب ، وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية ، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه ، فهذا من الفهم الذي أشار إليه عليّ رضي الله عنه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ 80 - 82 ]
{ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي رباهم بالكمالات ، وهداهم إليها بتنزيلها منه .
{ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني القرآن الذي قص عليكم فخامة شأنه ، وعظمة مقداره { أَنتُم مُّدْهِنُونَ } قال ابن جرير : أي : تلينون القول للمكذبين ، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر . وأصل الادهان - كما قال الشهاب - جعل الأديم ونحوه مدهوناً بشيء من الدهن ، ولما كان ذلك مليناً له محسوساً ، أريد به اللين المعنويّ ، على أنه تجوز به عن مطلق اللين ، أو استعير لهُ ؛ ولذا سميت المداراة والملاينة مداهنة . وهذا مجاز معروف ، ولشهرته صار حقيقة عرفيه ، فلذا تجوز به هنا عن التهاون أيضاً ؛ لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه .
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي : شكر رزقكم إياه تكذيبكم به ، كفراً لنعمته ، وجحداً لمنته .
قال ابن جرير : أي : وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب ، وذلك كقول القائل للآخر :
~ جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ
بمعنى جعلت شكر إحساني أو ثواب إحساني إليك ، إساءة منك إليّ .
وقد ذكر عن الهيثم بن عديّ : أن من لغة أزدشنوءة : ما رزق فلان ، بمعنى ما شكر . انتهى .
وقد حمل بعضهم الرزق هنا على النعمة مطلقاً ، والأظهر أنه نعمة القرآن ، للسياق .
وقال القاشانيّ : أي : وتجعلون قُوتَكُمُ القلبيّ ورزقكم الحقيقيّ ، تكذيبه ، لاحتجابكم بعلومكم ، وإنكاركم ما ليس من جنسه ، كإنكار رجل جاهل ما يخالف اعتقاده كأن علمه نفس تكذيبه . أو رزقكم الصوريّ ، أي : لمداومتكم على التكذيب ، كأنكم تجعلون التكذيب غذاءكم ، كما تقول للمواظب على الكذب : الكذب غذاؤه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } [ 83 - 85 ]
{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ } أي : النفس ، لدلالة الكلام عليها { الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } أي : حالة نزعه ، أو تنتظرون لفظة النفس الأخير . والخطاب لمن حول المحتضر : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } قال جمهور السلف : يعني ملك الموت أدنى إليه من أهله ، ولكن لا تبصرون الملائكة . أو لا تدركون كنه ، وترجيحيه . وبعضهم فسَّر القرب بالعلم والقدرة . وتقدم بسط الأقوال ، وترجيح الأول في تفسير آية : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، في سورة ق ، فارجع إليه فإنه مهم .
وهذه الجملة معترضة ، أو حالية كالتي قبلها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ 86 - 96 ]
{ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي : غير مجزيين يوم القيامة . أو مملوكين مقهورين . من دانه أذله واستعبده { تَرْجِعُونَهَا } أي : تردون النفس إلى مقرِّها عند بلوغها الحلقوم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أنكم غير مسوسين ، مربوبين مقهورين .
يعني : أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر الربوبية ، وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشد الكراهية ، وهو الموت { فَأَمَّا إِن كَانَ } أي : الميت { مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : السابقين من الأصناف الثلاثة المذكورة في أول السورة .
{ فَرَوْحٌ } أي : فله راحة { وَرَيْحَانٌ } أي : رزق طيب ، أو شجر ناضر يتفيأ ظلاله { وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } أي : يتنعم فيها مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين .
{ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } قال ابن كثير : أي : تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم : سلام لك ، أي : لا بأس عليك أنت في سلامة ، أنت من أصحاب اليمين .
وقال قتادة وابن زيد : سلم من عذاب الله ، وسلّمت عليه ملائكة الله ، كما قال عكرمة : تسلم عليه الملائكة ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين . وهذا معنى حسن . ويكون ذلك كقول الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } الآيات [ فصلت : 30 ] . انتهى .
وقال الرازيّ : في السلام وجوه :
أولها : يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين كما قال تعالى من قبل :
{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } [ الواقعة : 25 ] .
ثانيها : { فَسَلَامٌ لَّكَ } أي : سلامة لك من أمرٍ خاف قلبك منه ، فإنه في أعلى المراتب ، وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه ، إذا كان يخدم عند كريم : كن فارغاً من جانب ولدك ، فإنه في راحة . ثالثها : أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم ، كما يقال : فلان ناهيك به ، وحسبك أنه فلان . إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد الفضل . انتهى .
ثم قال الرازيّ :
والخطاب بقوله :
{ لَكَ } يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ فيه وجه ، وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها ؛ فسلام لك يا محمد منهم ، فإنهم في سلامة وعافية ، لا يهمك أمرهم ، أو فسلام لك يا محمد منهم ، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم دليل العظمة ، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم . انتهى .
{ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ } أي : بآيات الله { الضَّالِّينَ } أي : الجائرين عن سبيله .
{ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي : ماء انتهى حره ، فهو شرابه .
{ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي : إحراق بالنار .
{ إِنَّ هَذَا } أي : المذكور من أحوال الفرق الثلاثة وعواقبهم { لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } أي : حقيقة الأمر ، وجلية الحال ، لا لبس فيه ولا ارتياب . والإضافة إما من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : الحق اليقين : كما يقال : دار الآخرة ، أو بالعكس ، أي : اليقين الحق . أو من إضافة العام للخاص ، أي : كعلم الأمر اليقين . فالإضافة حينئذ لامية ، أو بمعنى من .
تنبيه :
في " الإكليل " : استدل بالآيات هذه على أن الروح بعد مفارقة البدن منعّمة أو معذّبة ، وعلى أن مقر أرواح المؤمنين في الجنة ، وأرواح الكافرين في النار .
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي : نزهه عما يصفونه به من الأباطيل ، وما يتفوهون به من الأضاليل ، قولاً وعملاً .

(/)


سورة الحديد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سبح لله ما فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 1 ]
{ سبح لله ما فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : أظهر كل موجود تنزيهه عن الشريك والولد ، وكل مالا يليق به ، وآذن بانفراده في ألوهيته ، وتدبيره وعلمه وقدرته ؛ فإن من شاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على حال من الترتيب والإحكام ، وربط الأسباب بالمسببات ، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تنتهي غاياته ، فبالضرورة يقضي بأن هذا الترتيب المحكَم هو أثرُ خالق واحد ، مدبر لنظامه ، مريد لسيره في سننه ، كما بسطناه في " دلائل التوحيد " .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : القويّ الذي يقهر كل ما في السماوات والأرض { الْحَكِيمُ } أي : الذي رتب نظام كل موجود على ترتيب حكمي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 2 ]
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : سلطانهما ، ونفوذ الأمر فيهما { يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : يوجد ما يشاء من الحيوان والنبات كيفما شاء ، ويميته بعد بلوغه أجله فيفنيه { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : تام القدرة ، فلا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماته وغيرهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 3 ]
{ هُوَ الْأَوَّلُ } أي : السابق على كل موجود ، من حيث إنه موجده ومحدثه { وَالآخِرَ } أي : الباقي بعد فناء كل شيء { وَالظَّاهِرُ } أي : وجوده بالأدلة الدالة عليه . وقال ابن جرير : أي : الظاهر على كل شيء من دونه ، وهو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه { وَالْبَاطِنُ } أي : باحتجابه بذاته وماهيته ، أو العالم بباطن كل شيء . قال ابن جرير : أي : الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه ، كما قال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : تام العلم ، فلا يخفى عليه شيء .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم : < اللهم ربَّ السماوات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدَّين وأغننا من الفقر > رواه مسلم وغيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 4 ]
{ هُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال القاشانيّ : أي : من الأيام الإلهية ، وقيل المعهودة ، والله أعلم .
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قال ابن جرير : أي : هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين ، فدبّرهن وما فيهن ، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } أي : من خلقه ، كالأموات والبذور والحيوانات { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي : كالزروع { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء } أي : من الأمطار والثلوج والبرَد والأقدار والأحكام { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : من الملائكة والأعمال وغيرها { وهو معكم اينما كنتم } قال ابن جرير : أي : وهو شاهد لكم ، أينما كنتم ، يعلَمكُم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم ، وهو على عرشه فوق سماواته السبع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " شرح حديث النزول " : لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة ، في آيتيهما ، ثبت تفسيره عن السلف بالعلم ، وقالوا : هو معهم بعلمه . وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره ، أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولم يخالفهم أحد يعتدّ بقوله ، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم . قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية : هو على العرش وعلمه معهم ، وهكذا عمن ذكر معه . وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في " الرد على الجهمية " . ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في هاتين الآيتين ، وجاء خاصاً كما في قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وقوله :
{ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، وقوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء ، لكان التعميم يناقض التخصيص ، فإنه قد علم أن قوله :
{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } أراد به تخصيصه وأبا بكر ، دون عدوهّم من الكفار . وكذلك قوله { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } خصهم بذلك دون الظالمين والفجار . وأيضاً فلفظ المعية ، ليست في لغة العرب ، ولا شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى ، كما في قوله :
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [ الفتح : 29 ] ، وقوله : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 146 ] ، وقوله :
{ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] وقوله : { وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ } [ الأنفال : 75 ] ، ومثل هذا كثير . وأيضاً فامتنع أن يكون قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق . وأيضاً فإنه افتتح الآية بالعلم ، وختمها بالعلم ، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به . وقد بُسِط الكلام عليه في موضع آخر ، وبيّن أن لفظ المعية في اللغة ، وإن اقتضى المصاحبة والمقاربة ، فهو إذا كان مع العباد ، لم يناف ذلك علوَّه على عرشه ، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه ، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان ، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد . انتهى .
وقال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب " ذم التأويل " :
فإن قيل : فقد تأولتم آيات وأخباراً ، فقلتم في قوله تعالى :
{ وهو معكم اينما كنتم } أي : بالعلم ، ونحو هذا من الآيات والأخبار ، فيلزمكم ما لزمنا ؟
قلنا : نحن لم نتأول شيئاً ، وحملُ هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره ، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ ، بدليل أنه المتبادر إلى الإفهام منها . وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه ، حقيقة كان أو مجازاً ، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية ، المجاز دون الحقيقة ، كاسم الرواية والظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية ، فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة ، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلاً يحتاج إلى دليل ، وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعيّ وحقيقة لغوية ، كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج ، إنما ظاهرها العرف الشرعيّ دون الحقيقة اللغوية . وإذا تقرر هذا فالمتبادر إلى الفهم من قولهم : إن الله معك ، أي : بالحفظ والكلاءة ؛ ولذلك قال تعالى فيما أخبر عن نبيّه { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، وقال لموسى : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص ؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم ، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ، ولا علة له ؛ فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه ، فلم يكن تأويلاً ، ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه ، وإنما السلف رحمة الله عليهم ، الذين ثبت صوابهم ، ووجب اتباعهم ، هم الذين تأوَّلوه ، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله :
{ وَهُوَ مَعَكُمْ } : أي : علمه ، ثم قد ثبت بكتاب الله ، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف ، أن الله تعالى في السماء على عرشه ، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها ، وهو قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [ المجادلة : 7 ] ، ثم قال في آخرها : { أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فبدأها بالعلم ، وختمها به ، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم ، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه ، وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم ، فقد اتفق فيها هذه القرائن ، ودلالة الأخبار على معناها ، ومقالة السلف وتأويلهم ؛ فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف ؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى ، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى ، ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء ، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى . انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله .
{ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فيجازيكم عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 5 - 6 ]
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } أي : أمور جميع خلقه ، فيقضي بينهم بحكمه .
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : يدخل ما نقص من ساعات أحدهما فيجعله زيادة في الآخر بحكمته وتقديره { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بضمائر صدور عباده ، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } [ 7 ]
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي : آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم ، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي موّلكم إياه ، وجعلكم مستخلفين فيه ، بتمكينكم وإقداركم على التصرف فيه بحكم الشرع ؛ إذ الأموال كلها لله ، واختصاص نسبة التصرف إنما هو بحكمه في شريعته ، أفاده القاشانيّ .
وقال الشهاب : الخلافة إمّا عمّن له التصرف الحقيقيّ ، وهو الله تعالى ، وهو المناسب لقوله : { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أو عمّن تصرّف فيها قبلهم ممن كانت في أيديهم فانتقلت لهم . وعلى كلٍّ ففيه حث على الإنفاق وتهوين له ، أما على الأول فظاهر ؛ لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره ، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره . وعلى الثاني أيضاً ، لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله ، علم أنه لا يدوم له أيضاً ، فيسهل عليه الإخراج .
~وما المالُ والأهلونَ إلا ودائعُ ولا بدَّ يوماً أن تُردَ الودائع
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } القول في تأويل قوله تعالى :

(/)


{ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 8 ]
{ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } أي : وما يصدّكم عنه ، وقد ظهرت دواعيه, اتضحت سبله لذويه كما قال { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } أي : يدعوكم من طريق النظر والتفكر إلى الإيمان بالذي ربَّاكم بنعمه ، وصرّفكم بآلائه ، فوجب عليكم شكره .
{ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } أي : بالإيمان ، إذ ركّب فيكم العقول ، ونصب الأدلّة . ومكّنكم من النظر ، بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نُبهتم ، وقد حصل ذلك بتذكير الرسول ، فما عليكم إلا أن تأخذوا في سبيله .
{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال القاشانيّ : أي : إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ 9 ]
{ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : حُجَجاً واضحات ، وبراهين قاطعات
{ لِيُخْرِجَكُم } أي : الله ، أو عبده بآياته { مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } أي : من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادّة ، إلى نور الهدى واليقين ، الذي تشعر به النفوس ، وتطمئن به القلوب . { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }
أي في إنزاله الكتب ، وإرساله الرسل لهدايتكم ، إزاحة للعلل ، وإزالة للشبهة .
ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله ، والترغيب فيه ، والحث عليه ، أكثر من ذكره في ضروب من البيان ، وفنون من الإحكام ، ولذا قال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 10 ]
{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : يرث كل شيء فيهما ، ولا يبقى لأحد مال . وإذا كان كذلك ، فما أجدر أن ينفق المرء في حياته ، ويتخذه ذخراً يجده بعد مماته .
قال الشهاب : هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق ، لأنه قرنه بالإيمان أولاً لما أمرهم به ، ثم وبخهم على ترك الإيمان ، مع سطوع براهينه ، وعلى ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم ، مع أنهم على شرف الموت ، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوه ، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه ، أعم من الجهاد وغيره . وقصر بعضهم إياه على الجهاد ، لأنه فرده الأكمل ، وجزؤه الأفضل ، من باب قصر العامّ على أهم أفراده وأشملها ، لا سيما وسبب النزول كان لذلك .
{ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : من قبل فتح مكة ، أو صلح الحديبية ، وقاتل لتعلو كلمة الحق . ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام ، وعزة أهله . فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين ، على أنه أشير إليه بقوله مستأنفاً عنهم زيادة في التنويه بهم : { أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا } أي : لعظم موقع نصرة الرسول ، صلوات الله عليه ، بالنفس ، وإنفاق المال في تلك الحال ، وفي المسلمين قلة ، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد ؛ فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد ، بخلاف ما بعد الفتح ، فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً ، والكفر ضعيفاً ، ويدل عليه قوله تعالى :
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ } [ التوبة : 100 ] ، وقوله عليه السلام : < لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه > . وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم أفاده الرازيّ .
وفي " الإكليل " : في الآية دليل على أن للصحابة مراتب ، وأن الفضل للسابق ، وعلى تنزيل الناس منازلهم ، وعلى أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين ، لأن الأجر على قدر النصب . انتهى .
{ وَكُلّاً } أي : وكل واحد من الفريقين { وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } أي : المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، لا الأولين فقط ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء .
قال ابن كثير : وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب آخر ، فيمدح الأول دون الآخر ، فيتوهم متوهم ذمه ، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه ، مع تفضيل الأول عليه .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : من النفقة في سبيله ، وجهاد أعدائه ، وغير ذلك فيجازيكم على جميع ذلك .
قال ابن كثير : ولخبرته تعالى ، فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل, ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول ، وإخلاصه التامّ ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق ، وفي الحديث : < سبق درهم مائة ألف > ولا شك عند أهل الإيمان أن الصدِّيق أبا بكر رضي الله عنه له الحظّ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء ، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزّ وجلّ ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [ 11 ]
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً } قال أبو السعود : ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله ، بعد الأمر به ، والتوبيخ على تركه ، وبيان درجات المنفقين ، أي : من ذا الذي ينفق ماله في سبيله تعالى رجاء أن يعوضه ، فإنه كمن يقرضه ، وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه ، وتحري أكرم المال ، والإنفاق وأفضل الجهات له . فالقرض مجاز عن حسن إنفاقه مخلصاً في أفضل جهات الإنفاق ؛ وذلك إما بالتجوز في الفعل ، فيكون استعارة تبعية تصريحية ، أو في مجموع الجملة ، فيكون استعارة تمثيلية ، وقد زعم بعضهم أنها مقصورة على النفقة في القتال ، وآخرون على نفقة العيال . قال ابن كثير : والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنيّة خالصة ، وعزيمة صادقة ، دخل في عموم هذه الآية .
وهو جليّ ، وقد أسلفنا بيانه مراراً .
وقوله تعالى :
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أي : يعطيه ثوابه أضعافاً مضاعفة ، { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي : جزاء شريف جميل . والجملة حالية ، أو معطوفة مشيرة إلى أن الأجر كما زاد كَمُّهُّ ، راد كَيْفُهُ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 12 ]
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } أي : لكونهم على الصراط المستقيم ، متوجهين إليه تعالى . و النور إما حقيقيّ حسيّ, على ما روي عن ابن مسعود : أن نورهم على قدر أعمالهم ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، فدون ذلك . قيل : وإنما خصصت تلك الجهات ؛ لأن منها أخذت صحف الأعمال ، فجعل الله معها نوراً يعرف به أنهم من أصحاب اليمين ، وإما مجازيّ معنوي مراد به ما يكون سبباً للنجاة ، واختاره ابن جرير ، وأيده بقوله : لو عنى بذلك النور الضوء المعروف ، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان ، دون الشمائل ، لأن ضياء المؤمنين الذين يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم ، وفي تخصيص الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم ، دون الشمائل ، ما يدل على أنه معنيّ به غير الضياء وإن كانوا لا يخلون من الضياء ؛ فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : وكلاً وعد الله الحسنى يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم تَطَايرُ . ويعني بقوله : { يَسْعَى } يمضي والباء في قوله :
{ وَبِأَيْمَانِهِم } بمعنى في ، وكان بعض نحويي البصرة يقول : الباء في قوله :
{ وَبِأَيْمَانِهِم } بمعنى على أيمانهم ، وقوله :
{ يَوْمَ تَرَى } من صلة وَعَدَ . انتهى .
{ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } أي : يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة : بشراكم ، أي : المبشَّر به جنات أو بشراكم دخول جنات . وقد قيل : إن البشارة تكون بالأعيان فلا حاجة لتقدير مضاف تصحيحاً للحمل .
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [ 13 ]
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي : نصب منه ، يقال : اقتبس ، أي : أخذ قبساً ، وهو الشعلة . و { انظُرُونَا } بمعنى انظروا إلينا ، على الحذف والإيصال ؛ لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية ، يتعدى بـ إلى ، فإن أريد التأمل تعدى بـ في . وقولهم ذلك إما حينما يساق المؤمنون إلى الجنة زمراً ، والمنافقون في العرصات شاخصون إليهم ، أو حينما يشرفون من الغرف على المنافقين ، وهم في ضوضائهم وجلبتهم في جهنم ، كقوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } [ الأعراف : 50 ] الآية .
وقيل :
{ انظُرُونَا } بمعنى انتظرونا ، وهو الذي عول عليه ابن جرير . والمراد حينئذ من الانتظار للاقتباس ، هو رجاء شفاعتهم لهم ، أو دخولهم الجنة معهم طمعاً في غير مطمع ، يقولون لهم ذلك حينما يسرع بهم إلى الجنة .
{ قِيلَ } أي : قالت الملائكة أو المؤمنون : { ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً } قال الزمخشري : طردٌ لهم ، وتهكم بهم ، أي : ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك ، فمن ثم يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه ، وهو الإيمان . أو ارجعوا خائبين ، وتنحوا عنا فالتمسوا نوراً آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو تخييب وإقناط لهم . وكلامه يدل على حمل النور على حقيقته ، ولا مانع من أنه كنى به عن الإيمان والعمل الصالح ، أي : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا إيماناً وعملاً طيباً يهديكم إلى النجاة ، كما أن النور يهدي في الظلمات ، على طريق الاستعارة . والأمر للتخسير والتنديم . وهذا مع ما ذكره الزمخشري رحمه الله ، وجه رابع .
ونقل الرازيّ عن أبي مسلم ، أن المراد من قول المؤمنين : { ارْجِعُوا } منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه : وراءك أوسع لك . قال الرازيّ : فعلى هذا القول ، المقصود من قوله : { ارْجِعُوا } أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ، لأنه أمر لهم بالرجوع . انتهى ، وهذا وجه خامس .
ثم أشار إلى امتياز الفريقين في المنازل وتباينهما فيها ، بقوله سبحانه :
{ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } أي : بين المؤمنين والمنافقين بحائط متين يحجزهم عن أنوار المؤمنين ، لتتم ظلمتهم { لَهُ } أي : لذلك السور { بَابَ } أي : لأهل الجنة يدخلون منه ، ويرى به المنافقون المؤمنين ليكلموهم { بَاطِنَهُ } وهو الجانب الذي يلي المؤمنين { فِيهِ الرَّحْمَةُ } يعني : الجنة وما فيها من رضوان الله والنعيم المقيم { وَظَاهِرُهُ } وهو الذي يلي المنافقين { مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } أي : من عنده ، ومن جهته الظلمة والنار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 14 - 15 ]
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يريدون موافقتهم في الظاهر { قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : محنتموها بالنفاق وأهلكتموها { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي : بالمؤمنين الدوائر ، ليظهر الكفر فتظهروا ما في أنفسكم { وَارْتَبْتُمْ } أي : في توحيد الله ونبوة نبيّه ، أو في البعث بعد الموت ، أو في قوله { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] و [ الفتح : 28 ] ، ووعده بنصر المؤمنين ، أو في جميع ذلك .
{ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ } أي : طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار ، أو قولهم : { سَيُغْفَرُ لَنَا }
{ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ } يعني : الموت ، أو مصداق وعده بنصرة رسوله وإظهار دينه ، أو عذاب النار { وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان ، فأطمعكم بالنجاة والفوز والغلبة . وقرئ : { الغرور } بالضم .
{ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين بعد أن ميز بينهم ، أي : فاليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به ، بدلاً من عذابكم ، وعوضاً من عقابكم { وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني المجاهرين بالكفر من المحادّين لله ولرسوله { مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ } أي : أولى بكم ، أو تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : النار .
ثم نعى عليهم رخاوة عقدهم فيما ندبوا إليه من التصدق في سبيل الله ، بأن ذلك من أثر قلة العناية بالخضوع لذكره وتنزيله ، تعريضاً بالمنافقين ، وسوقاً للمؤمنين إلى الكمال ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ 16 ]
{ أَلَمْ يَأْنِ } أي : لم يحن ، من : أنى الأمر يأنى ، إذا جاء إناه ، أي : وقته { لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } أي : أن تلين وترقّ وتخلص قلوبهم لذكر اسمه الكريم وما يوجبه من الوجَل منه والخشية ، أو لذكر وعده ووعيده { وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } يعني القرآن الذي لو أنزل على جبل لتصدع . قال أبو السعود : ومعنى الخشوع له ، الانقياد التامّ لأوامره ونواهيه ، والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في سبيل الله تعالى . وقد قيل : إن عطفه على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر ، وأن ذكر الله ككلام الله ، بمعنى القرآن ، وكذا ما نزل من الحق ، فالعطف لتغاير العنوانين ، فإنه ذكر وموعظة ، كما أنه حق نازل { وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ } أي : الأجل والإمهال والاستدراج { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : لزوال الخشية والروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن دينهم ، نابذون لما في كتابهم .
تنبيه :
قال ابن كثير : في الآية نهي للمؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى ، فإنهم لما تطاول عليهم الأمد ، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة ، والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، فقست قلوبهم ، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ؛ ولهذا نهى المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية ، ونظير الآية قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] ، و [ المائدة : 13 ] ، إلى آخرها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 17 ]
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : فهو محييكم بعد مماتكم ومحاسبكم ، فلا منتدح لكم عن الجزاء ، أي : فاحذروا مغبة القسوة والفسق .
{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } أي : الحجج وضروب الأمثال { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : لتثوبوا إلى عقولكم ومراشدكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ 18 - 19 ]
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } أي : المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ واَلشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه ، وشهادتهم بحقية جميع ذلك . وقد جوز في { اَلشُّهَدَاء } وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على ما قبله ، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء ، وهو الظاهر ، لأن الأصل الوصل لا التفكيك .
والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } ، و { الشُّهَدَاء } حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم ، أو الذين قتلوا في سبيل الله . واختار الوجه الثاني ابن جرير ، قال : لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد ، لا بمعنى غيره ، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه ، فيكون ذلك وجهاً ، وإن كان فيه بعض البعد ، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله : { وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ } إذن والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، أو أهلكوا في سبيله ، عند ربهم ، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم . انتهى .
ثم رأيت لابن القيم في " طريق الهجرتين " بسطاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية ، ننقله لنفاسته ، قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم :
الطبقة الرابعة : ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم ، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم ، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسل و النبوة ، وهي مرتبة الصديقية ؛ ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء ، فقال تعالى :
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة ، وهؤلاء هم الربانيون ، وهم الراسخون العلم ، وهم الوسائط بين الرسول وأمته ؛ فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه ، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قيل : إن الوقف على قوله :
{ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم يبتدئ : { وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ } فيكون الكلام جملتين ، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون ، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل ، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه . وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين ، هنا وفي سورة النساء ، وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في كلام النبي في قوله : < اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد > . ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق ، ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله عنه .
وقيل : إن الكلام جملة واحدة ، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم ، وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة ، وهي قوله :
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، وهم المؤمنون ، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا ، وشهداء على الناس يوم القيامة ، ويكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين .
وقيل : الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله ، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ، ويكون قوله :
{ وَالشُّهَدَاء } مبتدأ خبره ما بعده ، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله ، ويرجحه أيضاً أنه لو كان { الشُّهَدَاء } داخلاً في جملة الخبر ، لكان قوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم ، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء :
أحدها : أنهم هم الصديقون .
والثاني : أنهم هم الشهداء .
والثالث : أن لهم أجرهم ونورهم .
وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول ، ثم ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف ، وهذا كما تقول : زيد كريم وعالم له مال . والأحسن في هذا تناسب الأخبار ، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً ، فقول : زيد كريم عالم له مال ، أو كريم وعالم وله مال ، فتأمله ! ويرجحه أيضاً أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء ، وهم الصديقون والشهداء والصالحون ، وهم المذكورون في الآية ، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً ؛ فهؤلاء ثلاثة أصناف ، ثم ذكر الرسل في قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } [ الحديد : 25 ] ، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء ، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان : كفار ومنافقون ، فقال :
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ } الآية ، وذكر المنافقين في قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } [ الحديد : 13 ] الآية ، فهؤلاء أصناف العالم كلهم . وترك سبحانه ذكر المخَلّط صاحب الشائبتين ، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء ، دون المخلطين غالباً ، لسّر اقتضته حكمته ؛ فليحذر صاحب التخليط ، فإنه لا ضمان له على الله ، فلا هو من أهل وعده المطلق ، ولا ييأس من روح الله ، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب ، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد ، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه ، وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين ، ولكن غلطوا في تخليده في النار ، ولو نزلوه بين المنزلتين ، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا . انتهى كلام ابن القيم ، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية .
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء ، وبين حالهم بقوله :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ثم حقر تعالى أمر الدنيا ، وبين حاصل أمرها عند أهلها ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ 20 ]
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ } أي : تفريح للنفس { وَلَهْوٌ } أي : باطل { وَزِينَةً } أي : منظر حسن { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أي : في الحسب والنسب { وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ } أي : مطر { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ } أي : الزراع { نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ } أي : يجف بعد خضرته ونضرته { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي : من اليبس { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } أي : هشيما متكسراً ، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات { وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي : لمن ترك طاعة الله ومنع حق الله { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } أي : في الآخرة لمن أطاع الله ، وأدى حق الله من ماله { وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } قال المهايميّ : يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين ، ولهوها بملاذ الجنة ، وزينتها بزينة الجنة ، والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب ، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة .
ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية ، وصورها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء ، دعاهم إلى الحياة الباقية ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 21 ]
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : بادروا بالتوبة من ذنوبكم إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : الإيمان اليقينيّ .
{ ذَلِكَ } أي : المغفرة والجنة { فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي : ممن كان أهلاً له { وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } قال ابن جرير : أي : بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا ، ووهب لهم من النعم ، وعرفهم موضع الشكر ، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة ، ما وصف أنه أعده لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ٍ *الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ 22 - 24 ]
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ } أي : من قحط وجدب ووباء وغلاء { وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ } أي : من خوف ومرض وموت أهل وولد ، وذهاب مال { إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } أي : إلا في علم أزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس . وما علم الله كونه فلا بد من حصوله { إِنَّ ذَلِكَ } أي : حفظه وتقديره على الأنفس المبروءة ما قدر ، { عَلَى اللّهِ يَسِيرً } أي : لسعة علمه وإحاطته .
{ لِكَيْلَا تَأْسَوْا } أي : تحزنوا { عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي : من عافية ورزق ونحوهما { وَلَا تَفْرَحُوا } أي : تبطروا { بِمَا آتَاكُمْ } أي : من نعم الدنيا . والمعنى : أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير ، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير ، فلا الحزن يدفعه ، ولا السرور يجلبه ويجمعه . قال القاشانيّ : أي : لتعلموا علماً يقينياً أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم ، مدخل وتأثير ، ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلة حيلتكم وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل ؛ فلا تحزنوا على فوات خير ، ونزول شر ، ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شر ؛ إذ كلها مقدرة { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } أي : متبختر من شدة الفرح بما آتاه { فَخُورً } أي : به على الناس لعدم يقينه وبعده عن الحق بحب الدنيا واحتجابه بالظلمات عن النور .
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي : بالإنفاق في سبيل الله ، لشدة محبة المال { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } أي : لاستيلاء الرذيلة عليهم ، والموصول إما مبتدأ وخبره محذوف ، أي : لهم وعيد شديد ، أو خبر ومبتدؤه محذوف ، أي : هم اللذين ، أو بدل من كل .
{ وَمَن يَتَوَلَّ } أي : يعرض عن ذكر الله وما أمر به { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ } أي : عنه ، لاستغنائه بذاته { الْحَمِيدِ } أي : لاستقلاله بكماله ، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق ، لا لما يعود عليه تعالى ، فإنه الغنيّ المطلق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 25 ]
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } أي : التامّ في الحكم والأحكام { وَالْمِيزَانَ } أي : العدل ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما . قال ابن كثير : وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة ، المخالفة للآراء السقيمة { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل ، وهو إتباع الرسل فيما أمروا به ، وتصديقهم فيما أخبروا عنه ، فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق ، كما قال :
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] . أي : صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي ، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات : { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 43 ] .
{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني القتال به ، فإن آلات الحروب متخذة منه { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي : في مصالحهم ومعايشهم ، فما من صناعة إلا وللحديد يدٌ فيها .
فإن قيل : الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة ، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله ؟
فالجواب : أن بينهما مناسبة تامة ؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا حتى ينالوا السعادة في الأخرى ، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة ، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم ، ومن تمرد وطغى وقسا يضرب بالحديد الرادّ لكل مَريد . وإلى الأولين أشار بقوله :
{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة ، وإلى الثالث أشار بقوله :
{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ } فكأنه قال : أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ ، وما يهتدي به من لم يتبعهم ، فهي حينئذ معطوفة ، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم ، إذ لا داعي له ، وليس في الكلام ما يقتضيه ، بل فيه ما ينافيه . قال العتبي : في أول " تاريخه " : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً ، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة ، حتى أعملت التفكر ، فوجدت الكتاب قانون الشريعة ، ودستور الأحكام الدينية ، يتضمن جوامع الأحكام والحدود ، وقد حظر فيه التعادي والتظالم ، ودفع التباغي والتخاصم ، وأمر بالتناصف والتعادل ، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة ، فلذا جمع { الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف ، وجذوة عقابه ، وعذاب عذابه ، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد . فجمع بالقول الوجيز ، معاني كثيرة الشعوب ، متدانية الجنوب ، محكمة المطالع ، مقومة المبادئ والمقاطع ، نقله الشهاب .
وأوّل القاشانيّ { الْبَيِّنَاتِ } بالمعارف والحكم ، و { الْكِتَابُ } بالكتابة ، و { الْمِيزَانَ } بالعدل ، لأنه آلته ، و { الْحَدِيدِ } بالسيف ، لأنه مادته ، قال : وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي ، وينضبط الكليّ المؤدي على صلاح المعاش والمعاد ؛ إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول ، وهو العلم والحكمة . والأصل المعول عليه في االنوع الاستقامة في طريق الكمال هو العدل ، ثم لا ينضبط النظام ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم الذين يتم بهما أمر السياسة ؛ فالأربعة هي أركان كمال النوع ، وصلاح الجمهور . ويجوز أن تكون { الْبَيِّنَاتِ } إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية ، و { الْكِتَابُ } إشارة إلى الشريعة والحكم العملية و { الْمِيزَانَ } إلى العمل بالعدل والسوية و { الْحَدِيدِ } إلى القهر ودفع شرور البرية . وقيل : { الْبَيِّنَاتِ } العلوم الحقيقية ، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية ، أي : الشرع ، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات ، والملك . وأيّاً ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين ؛ إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل ، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم ، أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن الْإِنْسَاْن مدني بالطبع ، محتاج إلى التعامل والتعاون ، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع ، والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع ، منقادة للشرع ، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع ؛ فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع ، والثانية لا بد لها من القهر وسياسة الملك . انتهى .
تنبيه :
لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول ، حيث ذكر في كتاب الله تعالى ، بيّن فيها أن كثيراً من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف ؛ لاشتباه المعنى في تلك المواضع ، وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع ، وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ : نزول إلا فيه معنى النزول المعروف ، قال : وهو اللائق بالقرآن ، فإنه نزل بلغة العرب ، ولا تعرف العرب منزولاً إلا بهذا المعنى ، ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطاباً بغير لغتها . ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى ، في معنى آخر بلا بيان ، وهذا لا يجوز بما ذكرنا ، قال : وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد ، والحديد يخلق في المعادن ، وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة ، فهو كذب لا يثبت مثله . وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، فأنزل الحديد والماء والنار والملح ، حديث موضوع ومكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون . فإن قيل : إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات ، فهذه مكابرة للعيان .
فإن قيل : بل نزل معه آلة واحدة ، وتلك لا تعرف ، فأي فائدة في هذا لسائر الناس ؟ ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثّم حديد موجود يطرق بهذه الآلات ؟ وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات .
ثم أخبر أنه أنزل الحديد ، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه ، الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا لم ينزل من السماء .
فإن قيل : نزلت الآلة التي يطبع بها . قيل : فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة ، والآلة وحدها لا تكفي ، بل لابد من مادة يصنع بها آلات الجهاد .
ثم قال : وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق ، لأنه أخرجه من المعادن ، وعلمهم صنعته ، فإن الحديد إنما يخلق المعادن ، والمعادن إنما تكون في الجبال ؛ فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال ، لينتفع به بنو آدم . انتهى كلامه رحمه الله .
وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي : باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه . عطف على محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي : لينتفعوا به ويستعملوه في الجهاد ، وليعلم الله . . . . إلخ . وحذف المعطوف عليه إيماء إلى أنه مقدمة لما ذكر, وهذا المقصود منه . أو اللام متعلقة بمحذوف ، أي : أنزله ليعلم . . . إلخ والجملة معطوفة على ما قبلها ؛ فحذف المعطوف ، وأقيم متعلقة مقامه ، وقيل : عطف على { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } قال الشهاب : وهو قريب بحسب اللفظ ، بعيد بحسب المعنى .
{ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ } أي : على إهلاك من أراد إهلاكه { عَزِيزُ } أي : غالب قاهر لمن شاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ 26 - 27 ]
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم } أي : من الذرية { مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن طاعته بترك نصوص كتبه وتحريفها ، وإيثار آراء الأحبار والرهبان عليها ، واجترام ما نهوا عنه { ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي : أتبعنا { عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي : حناناً ورقةً على الخلق لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام ، من الشفقة وهضم النفس والمحبة ، وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة : اليهود والرومان ، وهؤلاء أشد قسوة ، وأعظم بطشاً ، لا سيما في العقوبات ، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشريّ بها ، ومنها تسليط الوحوش المفترسة عليه ، وتربيتها لذلك ، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها ، وجاهدت في مطاردتها ، وصبرت على منازلتها ، حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره - كما بينه آخر سورة الصف - { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي : ما فرضناها عليهم ، وإنما هم التزموها من عند أنفسهم .
{ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ } استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها طلبَ مرضاة الله عنهم .
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد ، والتخلي للعبادة وعلم الكتاب ، بل اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد وإخضاع الشعب لأهوائهم .
{ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } يعني الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع ، ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله عليه ، المبشر به عندهم .
{ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن مواجب الإيمان ومقاصده .
تنبيهات :
الأول : الرهبانية هي المبالغة في العبادة والرياضة ، والانقطاع عن الناس ، وإيثار العزلة والتبتل ، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهَّبان ، وهو الخائف ، فعلان ، من رهب ، كخشيان من خشي .
الثاني : قال ابن كثير في قوله تعالى :
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } : ذَمٌ لهم من وجهين :
أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله .
والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل .
الثالث : رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة الرهبنة وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار ، فقد قال صاحب " ريحانة النفوس " منهم ، في الباب السابع عشر ، في الرهبنة :
إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس ، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية ، هي ذات شأن عظيم ، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة لأن مثال المسيح ، ومثال رسله يضادانه باستقامة ، فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس ، لكي يعيشوا بالانفراد ، بل إنما كانوا دائماً مختلطين بالعالم ، يعلّمون وينصحون . ونحن نقول بكل جراءة : إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة ، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها ، بل العكس ، فإن روح الكتاب وفحواه يضادّ كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات ، ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية ، فقد ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة ، في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث ، وأيد الباحثين المقاومين لها وقتئذ ، أنها عادة سرت للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين ، فإن لهم أنواعاً كثيرة من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية والامتناع عن أكل اللحم وأموراً أخرى مقرونة بخرافات .
ثم قال : ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء ، امتدت وانتشرت في المسكونة ، وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع ، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات ، بسبب الاضطهاد الذي أصابه ، وآثر لأجله الطواف في البراري ، فراراً من أيادي مضطهديه ، ثم عطف على الوحدة وعاش بها ، وذلك في الجيل الثالث . ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات ؛ توهماً بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في المعيشة الضيقة القشفة ، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة مع أن ذلك الوهم باطل ، ومضادّ للكتب المقدسة ، ولما كثر عدد البرهان كثرة هائلة ، ونجم عن حالهم أضرار عظيمة للمجتمع ، أصدر كثير من الملوك أوامر بمنع هذه العادة ، إلا أنها لم تنجح كثيراً .
وأما بدعة العزوبة والتبتل ، فنشأت من حضّ بولس عليها ، وترغيبهم فيها ، كما أفصح عنه كلامه في آخر الفصل السابع من رسالته الأولى .
وقد قال صاحب " ريحانة النفوس " أيضاً : إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس ، وإنما دخلت بالتدريج ، لما خامرهم من توهم أفضلية البتولية ، وظنهم أنها أزكى من الزواج ، ومدح من جاء على أثرهم لها مدحاً بالغاً النهاية في الإطراء ، فحسبوها من الواجبات الأدبية المأمور بها ، ووضع نظام وقوانين لوجوبها في الجيل الثالث ، حتى قاومتها كنائس أخرى ، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها ، لمغايرتها للطبيعة ، ومضادتها لنص الكتب الإلهية ، واستقرائها أديرة الراهبات ، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتاً للفواحش والفساد .
وفي كتاب " البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية " : إن ذم الزيجة خطأ لأنها عمل الأفضل ، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة ، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساء ، تجول معهم . ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الْإِنْسَاْن على استيفاء حقها ، ومن العدل أن تستوفيه ، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة ، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية ؛ ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة ، لا بل الباباوات المدعين بالعصمة ، قد تكردسوا في هوة الزنا لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي ، هذا وإن ذات النذر بالامتناع عن الزواج هو غير عادل لتضمنه سلب حقوق الطبيعة وكونه يضع الإنسان تحت خطر السقوط في الزنا ويفتح باباً واسعاً لدخول الشيطان ، وكأن الراهب ينذر على نفسه مقاومة أمرقبيح ، ويعدم وجود ألوف ألوف ، ربما كانت تتولد من ذريته ، فكأنه قد قتلها . وهذا النذر لم تأمر به الشريعة الإنجيلية قط ؛ فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح ، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة ، ولا في أجيال الكنيسة الأولى, وهو مضر على أنفس الرهبان ، وعلى الشعب ، فمن يقاومه يقاوم الشيطان . وهؤلاء الرهبان لا نفع منهم للرعية ، إنما هم كالأمراء الذين يتخذون لأنفسهم قصوراً خارج العمران ، فيتنعمون وحدهم في أديرتهم ، ويسلبون أموال الشعب بالحيل والمخادعات وهم كسالى بطّالون ، يعيشون من أتعاب غيرهم ، خلافاً لسلوك رسل المسيح والمبشرين القدماء ، الذين لم نر واحداً منهم انفرد عن العالم في مكان نزهته ، واحتال بأن يعيش من أتعاب الشعب ؛ إن بولس كان يخدم الكنائس ، ويعيش من شغل يديه ، وهو يوصي بأن الذي لا يعمل ، فلا يطعم . ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات . انتهى . وهو حجة عليهم منهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 28 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال ابن كثير : حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب ، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، كما في الآية التي في القصص ، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة ، عن أبيه موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، فله أجران ، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مولاه ، فله أجران ، ورجل أدبَ َأمَتهُ فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران > أخرجاه في الصحيحين . ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما ، وهو اختيار ابن جرير .
وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة . والظاهر أن لفظها أعم وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات في الإيمان والرسوخ فيه ، والانصياع لأوامره . ومنه ما حرض عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله ، وسخاوة النفس فيه ، وأن لهم في مقابلة ذلك أجراً وافراً ، كما قال في أول السورة :
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } فآخر السورة ، فيه رجوع لأوائلها بتذكير ما أمرت به ، وما سبق نزولها لأجله .
وأصل الكفل الحظ ، وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط ، والتثنية في مثله إما على حقيقتها ، أو هي كناية عن المضاعفة . و النور هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة ، ويكشف الحق لقاصده . كما قال سبحانه :
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 29 ]
{ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير : إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم ما ذكر ، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا عدم قدرتهم على شيء من فضل الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله . والمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به ؛ لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع خلقه ، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم ، ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه ، وهو النبوة ، فيخصوا بها من أرادوا ، وأن الفضل بيد الله دونهم ، ودون غيرهم من الخلق ، يؤتيه من يشاء من عباده .
و لا في { لِئَلاَّ } صلة . قال السمين : وهو حرف شاعت زيادته .
وقال ابن جرير : وذكر أن في قراءة عبد الله : لكي يعلم قال : لأن العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح ، كقوله في الجحد السابق الذي لم يصرح به :
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] ، وقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] . وقوله : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأنبياء : 95 ] الآية . ومعنى ذلك : أهلكناها أنهم يرجعون . انتهى .
ونقل الثعالبي في " فقه اللغة" : زيادتها في عدة شواهد في فصل الزوائد والصلات التي هي من سنن العرب ، فانظره تزدد علماً .

(/)


سورة المجادلة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ 1 ]
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات ؛ لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه ، وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ! فأنزل الله عز وجل : { قَدْ سَمِعَ اللّهُ } إلى آخر الآية ، ورواه البخاري معلقاً . وفي رواية لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني أسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ! أكل شباب ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني ! اللهم إني أشكو إليك . قالت : فما برحت ، حتى نزل جبريل بهذه الآية { قَدْ سَمِعَ } إلخ . قال ابن كثير : ويقال فيها : خولة بنت مالك بن ثعلبة ، وقد تصغر فيقال : خويلة . ولا منافاة بين هذه الأقوال ، فالأمر فيها قريب . وفي " العناية " . المراد من قوله { قَدْ سَمِعَ اللّهُ } إلخ قَبِل قولها وأجابه ، كما في : سمع الله لمن حمده ، مجازاً بعلاقة السببية أو كناية . انتهى .
وقوله :
{ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } أي : تشتكي المجادلة ما لديها من الهمِّ بظِهار زوجها منها ، إلى الله ، وتسأله الفرَج .
ومعنى { تَحَاوُرَكُمَا } ترجيعكما الكلام في هذه النازلة . وذلك أن الظهار كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية ، فإذا تكلم به لم يرجع إلى امرأته أبداً . وقد طمعت المشتكية أن يكون غير قاطع علقة النكاح . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبتَّ لها في الأمر ، حتى ينزل الوحي الذي يردّ التنازع إليه . ثم أنزل تعالى فيه قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ 2 ]
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم } يعني قول الرجل لإمراته إذا غضب عليها : أنت عليّ كظهر أمي ، يعني : في حرمة الركوب .
{ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } أي : ما نساؤهم اللاتي ظاهروا منهن بأمهاتهم ، أي : يصرن بهذا القول كأمهاتهم في التحريم الأبدي .
قال المهايميّ : ما هن أمهاتهم بالحقيقة ، ولا في حكمهن بالمجاز ، إذ لا يقتضي المجاز أن يكون في حكم الحقيقة ، إلا بقلب الحقائق ، لكنها لا تنقلب .
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ } أي : فلا يشبه بهن في الحرمة الأزواج { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ } أي : قولاً تنكره العقلاء ، وتتجافاه الكرماء .
{ وَزُوراً } أي : باطلاً لا حقيقة له ؛ لأنه يتضمن إلحاقها بالأمّ المنافي لمقتضى الزوجية { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي : لذنوب عباده ، إذا تابوا منها وأنابوا ، فلا يعاقبهم عليها بعد التوبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 3 - 4 ]
{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أي : يرجعون إلى لفظ الظهار ثانية ، فالقول على حقيقته ، أو يعزمون على غشيانهن ووطئهن رغبة في تحليلهن ، بعد تحريمهن ، فالقول بمعنى المقول فيه { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 4 ] روى الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن خويلة بنت ثعلبة قالت : فيّ والله ! وفي أوس بن صامت أنزل اللهُ صدرَ سورة المجادلة قالت : كنت عنده ، وكان شيخاً كبيراً ، قد ساء خلقه وضجر ، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء ، فغضب فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليّ ، فإذا هو يريدني على نفسي ، قالت : قلت : والذي نفس خويلة بيده ! لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكم . قالت : فواثبني ، فامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني . قال : ثم خرجت إلى بعض جاراتي ، فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < يا خويلة ! ابن عمك شيخ كبير ، فاتقي الله فيه > . قالت : فوالله ! ما برحت حتى نزل فيّ القرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سرّي عنه ، فقال لي : < يا خويلة ! قد أنزل الله فيك وفي صاحبك . . . > ثم قرأ عليّ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } إلى قوله : { وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : < مُريه فليعتق رقبة > . قالت : فقلت : يا رسول الله ! ما عنده ما يعتق ! قال : < فليصم شهرين متتابعين > . قال : فقلت : والله ! إنه لشيخ كبير ، ما به من صيام . قال : < فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر > . قالت : فقلت : والله ! يا رسول الله ما ذاك عنده . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < فإنا سنعينه بفرق من تمر > . قالت : فقلت : يا رسول الله ! وأنا سأعينه بفرق آخر . قال : < قد أصبت وأحسن ، فاذهبيي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيراً > . قالت : ففعلت . ورواه أبو داود : وعنده خولة بنت ثعلبة ، ولا منافاة كما تقدم فإن العرب كثيراً ما تصغّر الأعلام . وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليّ كظهر أمي ، حرمت في الإسلام . فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس, وكانت تحته ابنة عم له يقال لها : خويلة بنت ثعلبة ، فظاهر منها ، فأسقط في يديه ، وقال : ما أراك إلا قد حرمت عليّ ، وقالت له مثل ذلك . قال : فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه ، فأخبرته فقال : < يا خويلة ! ما أمرنا في أمرك بشيء > ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا خويلة ! أبشري > . قالت : خيراً . قال : فقرأ عليها
{ قَدْ سَمِعَ اللّهُ } إلى قوله تعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } قالت : وأي رقبة لنا ؟ والله ! ما نجد رقبة غيري ؟ قال :
< { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } > قالت : والله ! لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره . قال :
< { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } > قالت : من أين ؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها ! قال : فرعاه بشطر وسق ثلاثين صاعاً ، والوسق ستون صاعاً ، فقال : < ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك > . قال ابن كثير : إسناده جيدّ قوي ، وسياق غريب ، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا .
تنبيهات :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية حكم الظهار ، وأنه من الكبائر ، وأنه خاص بالزوجات ، دون الأجنبيات ، وأن فيه بالعَود كفارة ، وأنه يحرم الوطء قبلها ، وأنها مرتبة : العتق ، ثم صوم شهرين متتابعين ، ثم إطعام ستين مسكيناً ، واستدّل ، مالك بقوله :
{ مِنكُمْ } على أن الكافر لا يدخل في الحكم ، وبقوله :
{ مِن نِّسَآئِهِمْ } على صحته من الزوجات والسراري ، لشمول النساء لهنّ .
واستدّل ابن جرير وداود وفرَّقه بقوله :
{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } على أن العود الموجب للكفارة ، أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرر .
واستدّل بإطلاق الرقبة في كفارة الظهار عتق الكافرة .
واستدّل بظاهر الآية من لم ير الظهار إلا في التشبيه بظهر الأم خاصّة دون سائر الأعضاء ، ودون الاقتصار على قوله : كأمي ، وبالأم خاصة دون الجدّات وسائر المحارم من النسب أو الرضاع أو المصاهرة والأب والابن ونحو ذلك . ومن قال لا حكم لظهار الزوجة من زوجها ، لأنه تعالى خص الظهار بالرجل . ومن قال بصحة ظهار العبد لعموم { الَّذِينَ } له . ومن قال بإباحة الاستمتاعات بناء على عدم دخولها في لفظ المماسة . ومن قال يجوز الوطء ونحو ذلك قبل الإطعام إذا كان يكفر به ، لأنه لم يذكر فيه { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا }
وفي الآية ردّ على من أوجب الكفارة بمجرد لفظ الظهار ، و لم يعتبر العود . ووجه ما قاله أن جعل العود فعله في الإسلام بعد تحريمه .
وفيه رد على من اكتفى بإطعام مسكين يوم واحد ، ستين يوماً . انتهى .
وقوله تعالى { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : ذلك البيان أو التعليم للأحكام لتصدقّوا بالله ورسوله في قبول شرائعه ، والانتهاء عن قول الزور الجاهلي .
والمراد بقوله تعالى : { وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الجاحدون لفرائضه وحدوده التي بيّنها . فالكفر على حقيقته ، أو المتعدّون لها ، وعنوان الكفر تغليظاً لزجرهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ 5 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في مخالفة حدوده وفرائضه . وأصله من المحادّة ، بمعنى المعاداة ؛ لأن كلاً من المتعاديين في حدّ غير حد الآخر .
{ كُبِتُوا } أي : أخزوا { كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني كفار الأمم الماضية .
{ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } قال ابن جرير : أي : دلالات مفصلات ، وعلامات محكمات ، تدلّ على حقائق حدود الله { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يعني منكري تلك الآيات وجاحديها .
تنبيه :
فسّر بعضهم { يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بمعنى يضعون أو يختارون حدوداً غير حدودهما .
قال محشّيه : ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء ، الذين وضعوا أموراً خلاف ما حدّه الشرع ، وسموها قانوناً .
وقال : وقد صنّف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين ، قّدس الله روحه ، رسالة في كفر من يقول : يعمل بالقانون والشرع ، إذا قابل بينهما ، وقد قال الله تعالى :
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل . وإذا جاء نهر الله ، بطل نهر معقل . انتهى كلامه .
ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل ، فيه نظر ؛ لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيّف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير ، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير . والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويبطلها وينسخها ، فإنه كفر وضلال ولا يقول به ، ولا يعول عليه ، إلا المارقون الجاحدون وأما غير المنصوص عليه - أعني ما لم يكن قاطعاً في بابه ، من آية محكمة ، أو خبر متواتر ، أو إجماع من الفروع النظرية ، والمسائل الاجتهادية المدونة - فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعدّ ضلالاً ولا كفراً ؛ لأنه ليس من مخالفة الشرع في شيء إذ الشرع ما شرعه الله ورسوله ، وأحكم الأمر فيه ، وبين بياناً رفع كل لبس ، لا ما تخالف فيه الفقهاء ، وكان مأخذه من الاجتهاد ، وإعمال الرأي ، فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ ، مهما بلغ رائيه من المكانة إذ لا عصمة إلا في نص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكثيراً ما تتشابه فروع الفقهاء بمواد القانون ، ولذا ألف بعض المتأخرين كتاباً في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية ، وذلك لأن مورد الجميع واحد ، وهو الرأي والاجتهاد ورعاية المصلحة .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في هذا المعنى سماه " السياسة الشرعية " وكذا لتلميذه الإمام ابن القيم ، وهو أوسع . ولنجم الدين الطوفي أيضاً رسالة في المصالح المرسلة ، جمعناها من شرحه للأربعين النووية . وقد أرجع العز بن عبد السلام فروع الفقه في قواعده إلى قاعدتين : اعتبار المصالح ودرء المفاسد .
قال القاضي زكريا : وبحث بعضهم رجوع الجميع إلى جلب المصالح .
وقال الشاطبيّ في " الموافقات " : إن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية ، وبأن تكون مصالح على الإطلاق ، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً وعامّاً في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال .
وقال نجم الدين الطوفي : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم : < لا ضرر ولا ضرار > يقتضي رعاية المصالح إثباتاً ونفياً ، والمفاسد نفياً ، إذ الضرر هو المفسدة ، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة ، لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما ، ثم إن أقوى الأدلة النص والإجماع ، وهما إما أن يوافقا رعاية المصلحة ، أو يخالفاها ، فإن وافقاها ، فبها ونعمت ، ولا تنازع ؛ إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم ، وهي النص والإجماع ، ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام : < لا ضرر ولا ضرار > ، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما ، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما ، كما تُقدم السنة على القرآن ، بطريق البيان ، انتهى . وتتمة كلامه جديرة بالمراجعة ، هي وتعليقاتنا عليها ، فابحث ولا تكن أسير التقليد ، بل ممن ألقى السمع وهو شهيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ 6 ]
{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ } أي : أحاط الله به علماً ، ولم يذهب عنه شيء { وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : رقيب ، يعلمه ولا يغيب عنه . و { يَوْمِ } منصوب بـ : اذكر مضمراً . وتقدمة الإخبار بسعة علمه سبحانه ، تمهيدٌ لما بعده من النهي عن النجوى بالإثم ، تحذيراً وتنفيراً . وقد أكد ذلك بتفصيل علمه عناية بالمنهيّ عنه ، والمحذر منه ، في قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 7 ]
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } النجوى مصدر ، معناها التحدث سراً ، مأخوذة من النجوة ، وهي ما ارتفع من الأرض ، لأن السر يصان عن الغير ، كأن رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء ، على التشبيه .
قال الشهاب : وأقرب منه قول الراغب ، لأن المتسارّين يخلوان بنجوة من الأرض . أو هو من النجاة وتخصيص العددين ، إما لخصوص الواقعة ، فكان قوم من المنافقين ، على هذا العدد اجتمعوا مغايظة للمؤمنين ، أو لأن التناجي للمشاورة ، وأقله ثلاثة ، لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين ، وثالث يتوسط بينهما . ومناسبة ضم الخمسة للثلاثة ، كون الخمسة أول مراتب ما فوقها في الوترية ، فذكرا ليشار بهما للأقل والأكثر . على أنه عمم الحكم بعد ذلك بقوله :
{ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ } أي : كالاثنين { وَلَا أَكْثَرَ } أي : كالستة وما فوقها { إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } أي : يعلم ما يكون بينهم في أي : مكان حلّوا ، لأن علمه بالأشياء ليس لقرب مكانيّ حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة . روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : هو فوق العرش ، وعلمه معهم أينما كانوا .
وقال ابن كثير : حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى . ولا شك في إرادة ذلك .
قال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم .
تنبيه :
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الله تعالى في كل مكان ، فرد عليهم الإمام ابن حزم في " الفِصل " بأن قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره ، مالم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر ، أو إجماع ، أو ضرورة حس . وقد علمنا أن كل ما كان في مكان ، فإنه شاغل لذلك المكان ومالئ له ، ومتشكل بشكل المكان ، أو المكان متشكل بشكله ، ولا بد من أحد الأمرين ضرورة ، وعلمنا أن ما كان في مكان ، فإنه متناه بتناهي مكانه ، وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه ، وهذه كلها صفات الجسم . فلما صح ما ذكرفيها ، منا أن قوله تعالى :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } [ الواقعة : 85 ] . وقوله تعالى { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } إنما هو التدبير لذلك ، والإحاطة به فقط ضرورة ، لانتفاء ما عدا ذلك . وأيضاً فإن قولهم : في كل مكان خطأ ، لأنه يلزم ، بموجب هذا القول ، أن يملأ الأماكن كلها ، وأن يكون ما في الأماكن فيه ، تعالى الله عن ذلك ، وهذا محال . فإن قالوا : هو فيها ، بخلاف كون المتمكن في المكان .
قيل لهم : هذا لا يعقل ، ولا يقوم عليه دليل . انتهى .
وقد تقدم في قوله تعالى :
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } كلام في المعية لابن تيمية ، فارجع إليه في سورة الحديد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 8 ]
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى } قال مجاهد : هم اليهود .
{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي : بما هو إثم وتعدّ على المؤمنين ، وتواصٍ بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو السعود : وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه ، لزيادة تشنيعهم ، واستعظام معصيتهم .
{ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } أي : من قولهم : ( السام عليك ) ، أو مما نسخه الإسلام من تحايا الجاهلية ، فإن الله تعالى يقول :
{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 181 ] .
{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } أي : من التناجي المذموم ، أو من التحريف في التحية ، استهزاء وسخرية . أي : هلاّ يعجل عقوبتنا بذلك ؟ لو كان محمد رسوله ، قال تعالى :
{ حْسَبُهُمُ } أي : يكفي قائلي ذلك في تعذيبهم { جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
ثم نهى تعالى المؤمنين وحذّرهم أن يجترموا في النجوى ما اجترمه أولئك بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 9 - 10 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ } أي : بطاعة الله ، وما يقربكم منه ، و { التَّقْوَى } أي : اجتناب ما يؤثم ، { وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : فيجزيكم بما اكتسبتم مما أحصاه عليكم .
ثم شجع تعالى المؤمنين في قلة المبالاة بمناجاة أعدائهم ، وأنها لا تضرهم ما داموا مثابرين على وصاياه ، متكلين عليه ، بقوله { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ } أي : النجوى التي ذمها ، فاللام للعهد ، أي : المزين لهذه النجوى بالشر ، والحامل عليها الشيطان .
{ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ } أي : الشيطان ، أو التناجي المذكور { شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : بمشيئته { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : بالمضي في سبيله ، والاستقامة على أمره ، وانتظار النصر على أثره .
لطيفة :
قال القاشانيّ : إنما نهوا عن النجوى لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما ، لا يشاركهما فيه ثالث . وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر ، يتقوى ويتأيد بعضها بالبعض فيما هو سبب الاجتماع لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد ، فإذا كانت شريرة يتناجون في الشر ، ويزاد فيهم الشر ، ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع ، ولهذا ورد بعد النهي قوله :
{ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ } الذي هو رذيلة القوى البهيمية { وَالْعُدْوَانِ } الذي هو رذيلة القوى الغضبية { وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } التي هي رذيلة القوة النطقية ، بالجهل وغلبة الشيطنة ، ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة ، وأمرهم بالتناجي بالخيرات ، ليتقووا بالهيئة الاجتماعية ، ويزدادوا فيها فقال :
{ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ } أي : الفضائل التي هي أضداد تلك الرذائل ، من الصالحات والحسنات المخصوصة بكل واحدة من القوى الثلاث ، { وَالتَّقْوَى } أي : الاجتناب : عن أجناس الرذائل المذكورة ، انتهى .
قال ابن كثير : وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي ، حيث يكون في ذلك تأذّ على مؤمن . روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما ، فإن ذلك يحزنه > انفرد بإخراجه مسلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 11 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس ، وذلك بأن يفسح المرء لأخيه ويتنحى توسعة له .
قال الشهاب : وارتباطه بما قبله ظاهر ؛ لأنه لما نهى عن التناجي والسرار ، علم منه الجلوس مع الملأ ، فذكر آدابه ، ورتب على امتثالهم فسحة لهم فيما يريدون التفسح ، من المكان والرزق والصدر .
قال ابن كثير : وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، كما جاء في الحديث الصحيح : < من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة . ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه > . ولهذا أشباه كثيرة .
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضَنَّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .
{ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا } أي : انهضوا للتوسعة ، أو ارتفعوا في المجالس ، أو انهضوا عن مجلس الرسول ، إذا أمرتهم بالنهوض عنه ، ولا تملوه بالارتكاز فيه ، { فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } أي : يرفع المؤمنين بامتثال أوامره ، وأوامر رسوله ، والعالمين بها ، الجارين على موجبها بمقتضى علمهم ، درجات دنيوية وأخروية .
قال الناصر : لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم ، خصهم بالذكر عند الجزاء ، ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس ، تواضعاً لله تعالى . انتهى .
وهذا - كما قاله الشهاب - من مغيبات القرآن ؛ لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس ، ومحبة التصدير .
وفي كلام الزمخشريّ ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام ، تعظيماً له ، بِعَدّه كأنه جنس آخر ، كما في : { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] . ولذا أعاد الموصول في النظم ، والمراد بالعلم علم ما لا بد منه من العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة .
تنبيهات :
الأول : في " الإكليل " : في الآية استحباب في مجالس العلم والذكر ، وكل مجلس طاعة .
الثاني : يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه . فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا > رواه الإمام أحمد والشيخان .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم > رواه الإمام أحمد . وفي رواية بلفظ : < لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ، لكن افسحوا يفسح الله لكم > تفرد به الإمام أحمد .
قال ابن كثير : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء ، على أقوال : فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث : < قوموا إلى سيدكم > .
ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث : < من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً ، فليتبوأ مقعده من النار > .
ومنهم من فصّل فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة ، فلما رآه مقبلاً قال للمسلمين : < قوموا إلى سيدكم > . وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه - والله اعلم - فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم ، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ، في فتوى له في ذلك : لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، أن يعتادوا القيام ، كما يفعله كثير من الناس ، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ، لما يعلمون من كراهته لذلك . ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم < أنه قام لعكرمة > ، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ : < قوموا إلى سيدكم > ، وكان سعد متمرضاً بالمدينة ، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة . والذي ينبغي للناسالله ، عتادوا إتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهم خير القرون ، وخير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدى محمد ، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق ، وهدي خير القرون ، إلى ما هو دونه . وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه ، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له ولا يقوم لهم ، إلا في اللقاء المعتاد . فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك ، تلقياً له ، فحسن . وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه ، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة ، فالأصلح أن يقام له ؛ لأن ذلك إصلاح لذات البين ، وإزالة للتباغض والشحناء ، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة ، فليس في ترك ذلك إيذاء له ، وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : < من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار > ؛ فإن ذلك أن يقوموا وهو قاعد ، ليس هو أن يقوموا لمجيئه القيام ، ولهذا فرقوا بيقعود . قال : قمت إليه ، و قمت له . والقائم للقادم ساواه في القيام ، بخلاف القيام للقاعد وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه ، وصلّوا قياماً أمرهم بالقعود . وقال : < لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً > ، فقعودهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد ؛ لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهو قعود . وجماع ذلك أن الذي يصلح ، إتباع عادة السلف وأخلاقهم ، والاجتهاد بحسب الإمكان . فمن لم يعتد ذلك ، أولم يعرف أنه العادة ، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مفسدة راجحة ، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما . انتهى كلام شيخ الإسلام ، رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً .
الثالث : قال ابن كثير : روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما ، أنهم قالوا في قوله تعالى { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا } : يعني في مجالس الحرب . قالوا : ومعنى قوله : { وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا } أي : انهضوا للقتال .
وقال قتادة :
{ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا } أي : دعيتم إلى خير فأجيبوا .
وقال مقاتل : إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف ، أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده ، فربما يشق ذلك عليه ، عليه السلام ، وقد تكون له الحاجة . فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا ، كقوله تعالى : { وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } [ النور : 28 ] انتهى .
ولا تنافي بين هذه الأقوال ، لأن لذلك ، نها تفسير للفظ العام بعض أفراده . وما يصدق عليه إشارة على تناوله لذلك ، لا أن أحدهما هو المراد دون غيره ، فلذلك ما لا يتوهم . وقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف لكثير من الآي ، وكله مما لا اختلاف فيه كما بينّاه مراراً .
الرابع : في " الإكليل " قال قوم معنى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } يرفع الله المؤمنين منكم العلماء درجات على غيرهم ، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس ، والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 12 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } أي : تصدقوا قبل مناجاته ، أي : مسارته في بعض شأنكم .
{ ذَلِكَ } أي : التقديم .
{ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : لأنفسكم ، لما فيه من مضاعفة الأجر والثواب . والقيام بحق الإخاء ، بالعود على ذوي المسكنة بالمواساة والإغناء .
{ وَأَطْهَرُ } أي : لأنفسكم من رذيلة البخل والشح ، ومن حب المال وإيثاره الذي قد يكون من شعار المنافقين ، وكأن الأمر بالتصديق المذكور نزل ليتميز المؤمن من المنافق ، فإن المؤمن تسخو نفسه بالإيمان كيفما كان ، والثاني يغص به ، ولو في أضرّ الأوقات . ومعظم أوامر السورة هو التصدق ، حثاً للباخلين ، وسوقاً للمؤمنين { فَإِن لَّمْ تَجِدُوا } أي : ما تتصدقون به أمام مناجاتكم الرسول صلى الله عليه وسلم { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن لم يجده ، إذ لم يحرجه ولم يضيّق عليه ، رحمة منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 13 ]
{ أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } أي : أخِفتم ، من تقديم الصدقات ، الفاقة والفقر ؟ توبيخ بأن مثله لا ينبغي أن يشفق منه ، للزوم الخلف والإنفاق ، لزوم الظل للشاخص بوعد الله الصدق .
{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا } أي : ما ندبتم إليه من تقديم الصدقة ، وشقّ عليكم ، { وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } بأن رخص لكم أن لا تفعلوا ، رفعاً للحرج حسبما أشفقتم ، { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات ، فإن ذلك يكسبكم ملكة الخير والفضيلة ، { وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : فيجزيكم بحسبه .
تنبيه :
في " الإكليل " : قوله تعالى :
{ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ } الآية منسوخة بالتي بعدها ، وفيه دليل على جواز النسخ بلا بدل ، ووقوعه ، خلافاً لمن أبى ذلك . انتهى .
والظاهر أن مستند شهرة النسخ ما رواه ابن جرير عن مجاهد قال : قال عليّ رضي الله عنه : إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ } إلخ قال : فرضت ، ثم نسخت .
وعنه أيضاً قال : نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا ، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، قدم ديناراً فتصدق به ، ثم أنزلت الرخصة فيه .
وعن قتادة أنها منسوخة ، ما كانت إلا ساعة من نهار .
وعنه أيضاً قال : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة فوعظهم الله بهذه الآية ، وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدِّم بين يديه صدقة ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك : { فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وعن الحسن وعكرمة قالا :
{ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ } الآية ، نسختها التي بعدها { أَشْفَقْتُمْ } . الآية .
هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ ، وقوفاً مع ظاهرها . وقد أسلفنا في مقدمة التفسير ، ومواضع أخرى ، أن النسخ في كلام السلف أعم منه باصطلاح الخلف ، كما أن المراد من سبب النزول أعم مما يتبادر إليه الفهم . ومنه قول قتادة هنا : فأنزل الله الرخصة بعد ذلك ، فإن مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية ، لا أن نزولها كان متراخياً عن الأولى ، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم . والأصل في الآي المقررة لحكم ما ، هو اتصال جملها ، وانتظام عقدها ، إذ به يكمل سحر بلاغتها ، وبديع وتمام فقهها . والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل ، لهم في الآية وجوه :
أحدها : قول أبي مسلم : إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وأن قوماً من المنافقين تركوا النفاق ، وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً ، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ، ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصليّ . وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت ، لا جرم بقدر هذا التكليف بذلك الوقت .
قال الرازيّ : وحاصل قول أبي مسلم أن ذلك التكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة ، فلا يكون هذا نسخاً وهذا الكلام حسن ما به بأس . انتهى .
ثانيها : قول بعضهم : إن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب ، وتأكد ذلك بقوله بعده :
{ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقوله :
{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه . والجواب : أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب ، بل الظاهر أنه للندب : ويدل عليه أمور :
الأول : أنه تعالى قال :
{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض .
والثاني : أنه لو كان ذلك واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به ، وهو { أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا } إلى آخر الآية .
والثالث : أن قوله :
{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } إلخ معناه : إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول ، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم ، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم ، فلذا ندبكم إلى هذا الأمر ، ولم يجعله عليكم فرضاً ، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة ، فأقيموا الصلاة . . . إلخ . فقوله : { وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } قد ورد هنا بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة ، والعدول عن معاملتها كسابقيها ، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب . وقد ورد بذلك المعنى أيضاً في آية أخرى في سورة المزمل ، في قوله تعالى { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [ المزمل : 20 ] ، أي : رجع إليكم بالتخفيف ، ورفع عنكم ما يشق عليكم . وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب ، إذ لا ذنب هنا صدر منهم . هذا ملخص ما حققه من ذهب على امتناع النسخ . والحق لا تخفى قرته وسكون النفس إليه . وبالله التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 14 ]
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم } يعني المنافقين الذين كانوا يتولون اليهود ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ، كما بينته آية : { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } [ الحشر : 11 ] الآية .
{ مَا هُم مِّنكُمْ } أي : من أهل دينكم وملتكم ، معشر المسلمين { ولاً مِّنْهُمْ } أي : من اليهود كقوله تعالى :
{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] ، { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ } قال ابن جرير : وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نشهد أنك رسول الله ، وهم كاذبون غير مصدقين به .
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : المحلوف عليه كذب بحت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ *اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ 15 - 16 ]
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } أي : وقايةً وعصمةً لأنفسهم .
{ فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي : فحالوا بأيمانهم عن حكم الله في أمثالهم ، وهو القتل ، إراحة للمؤمنين من فسادهم . أو فصدّوا الناس في خلال أمنهم وسلامتهم عن الإيمان وثبطوهم عنه { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي : مذل لهم في الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُون َ *اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } [ 17 - 19 ]
{ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً } أي : من عذابه شيئاً ما ، كما كانوا يفتدون بذلك في الدنيا { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } أي : في الدنيا كاذبين مبطلين ، إشارة إلى مرونهم على النفاق ، ورسوخهم فيه ، حتى لدى من لا تخفى عليه خافية .
{ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : من النفع أو من الحق { أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } أي : فيما يحلفون عليه في الدارين .
{ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ } أي : استولى عليهم حتى صار الكذب والفساد ملكة لهم { فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } أي : بتسويل اللذات الحسية ، والشهوات البدنية لهم ، وتزيين الدنيا وزبرجها في أعينهم { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ } أي : أتباعه في الفساد والإفساد { أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : للسعادة في الدارين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ } [ 20 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ } أي : في أهل الذلة ، لأن الغلبة لله ولرسوله ، كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 21 ]
{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } أي : حزبَ الشيطان المحادّين { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : قويّ على إهلاك من حادّه ورسله ، عزيز فلا يغلب في قضاءه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 22 ]
{ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : شاقهما وخالف أمرهما . أي : لا تجد قوماً جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر ، وبين موادّة أعداء الله ورسوله . والمراد بنفي الوجدان نفي الموادّة ، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك ، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه ، والزجر عن ملابسته ، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم ، والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم ، وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله { وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ } أي : آباء الموادّين والضمير في { كَانُوا } لمن حاد الله ورسوله . والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد فيما قبله ، باعتبار لفظهما .
{ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي : فإن قضية الإيمان هجر المحادين { أُوْلَئِكَ } إشارة إلى الذين لا يوادّونهم { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ } أي : أثبته فيها { وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } أي : بنور وعلم ولطف حيَّت به قلوبهم في الدنيا . وأشار إلى ما لهم في الآخرة ، بقوله : { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الناجحون والفائزون بسعادة الدارين .
تنبيهات :
الأول : من أشباه هذه الآية قوله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] الآية . وقال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] .
الثاني : قال ابن كثير : قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : أنزلت هذه الآية { لَا تَجِدُ قَوْماً } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر . وفي أبي بكر الصديق همّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، وفي مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير ، وفي عمر قتل قريباً له من عشيرته يومئذ أيضاً ، وفي حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عبة وشيبة والوليد بن عتيبة يومئذ . انتهى .
وقد بينا مراراً ، أن المراد بسبب النزول في مثل ذلك ، صدق الآية على هؤلاء ، وما أتوا به من التصلب في دين الله ، في مقابلة المفسدين ، ولو كانوا من أقرب الأقربين .
قال ابن كثير : ومن هذه القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر ، فأشار الصديق بأن يفادوا ، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله تعالى أن يهديهم . وقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله ! هل تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأقتله ، وتمكن علياً من عقيل ، وتمكن فلاناً من فلان ، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين .
الثالث : قال ابن كثير : في قوله تعالى { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى ، عوضهم الله بالرضا عنهم ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم .
الرابع : يفهم من قوله تعالى : { حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وقوله في آية أخرى : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [ الممتحنة : 1 ] ، أن المراد بهم المحاربون لله ولرسوله ، الصادّون عن سبيله ، المجاهرون بالعداوة والبغضاء . وهم الذين أخبر عنهم قبلُ بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول . فتشمل الآية المشركين وأهل الكتاب المحاربين والمحادّين لنا ، أي : الذين على حدّ منا ، ومجانبة لشؤوننا ، تحقيقاً لمخالفتنا ، وترصداً للإيقاع بنا . وأما أهل الذمة الذين بين أظهرنا ، ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا ، واستكان لأحكامنا وقضائنا ، فأولئك لا تشملهم الآية ؛ لأنهم ليسوا بمحادّين لنا بالمعنى الذي ذكرناه ، ولذا كان لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، وجاز التزوج منهم ومشاركتهم ، والاتجار معهم ، وعيادة مرضاهم . فقد < عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً ، وعرض عليه الإسلام فأسلم > كما رواه البخاري .
وعلى الإمام حفظهم والمنع من أذاهم ، واستنقاذ أسراهم ، لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام ، وتأبد عهدهم ، فلزمه ذلك ، كما لزم المسلمين ، كما في " الإقناع " و " شرحه " .
وقال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم بكثير من الرخص المشروعة : ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم < كان يجيب من دعاه ، فيأكل طعامه > ، و < أضافه يهوديّ بخبز وشعير وإهالة سنخة > . وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب . وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مر بهم مِنْ المسلمين وقال : أطعموهم مما تأكلون . وقد أحل الله عز وجل ذلك في كتابه . ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه فقال : أين هو ؟ قالوا في الكنيسة ، فكره دخولها ، وقال لعليّ رضي الله عنه : اذهب بالناس . فذهب عليٌ بالمسلمين ، فدخلوا ، وجعل عليّ رضي الله عنه ينظر إلى الصورة . وقال : ما على أمير المؤمنين ، لو دخل وأكل ! انتهى .
والأصل في هذا قوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ الممتحنة : 8 - 9 ] ، قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في " إيثار الحق " : عن الإمام المهديّ محمد بن مطهر عليه السلام ، أن الموالاة المحرمة بالإجماع ، هي أن تحب الكافر لكفره ، والعاصي لمعصيته ، لا لسبب آخر ، من جلب نفع أو دفع ضرر ، أو خصلة خير فيه . وسيأتي في أول سورة الممتحنة زيادة على هذا إن شاء الله تعالى ، وبالله التوفيق .

(/)


سورة الحشر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ 1 - 2 ]
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } تقدم القول في تأويل نظيره ، ثم أشار إلى بيان بعض آثار عزته تعالى ، وإحكام حكمته ، إثر وصفه بالعزة القاهرة ، والحكمة الباهرة على الإطلاق بقوله : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني بني النضير من اليهود { مِّن دِيَارِهِمْ } أي : من مساكنهم التي جاوروا بها المسلمين حول المدينة ، لطفاً بهم { لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } أي : لأول الجمع لقتالهم . يعني أخرجهم تعالى بقهره لأول ما حشر لغزوهم . والتوقيت به إشارة إلى شدة الأخذ الرباني لهم ، وقوة البطش والانتقام ، بقذف الرعب في قلوبهم ، حتى اضطروا لأول الهجوم عليهم ، إلى الجلاء والفرار ، كما يأتي .
{ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا } أي : لشدة بأسهم ومنعتهم ، فصار آية لكم ، لأنه من آثار سنته تعالى في إذلال المفسدين وقهرهم { وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ } أي : من بأسه { فَآتَاهُمُ اللّهُ } أي : عذابه ، وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : لم يظنوا { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } أي : أنزله إنزالاً شديداً فيها ، لدلالة مادة القذف عليه ، كأنه مقذوف الحجارة .
قال القاشاني : أي : نظر بنظر القهر إليهم فتأثروا به ، لاستحقاقهم لذلك ، ومخالفة الحبيب ومشاقته ومضادته ، ولوجود الشك في قلوبهم ، وكونهم على غير بصيرة من أمرهم ، وبينة من ربهم ، إذ لو كانوا أهل يقين ما وقع الرعب في قلوبهم ، ولعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور اليقين ، وآمنوا به فلم يخالفوه .
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } أي : كيف حل بالمفسدين ما حل ونزل بهم ما نزل ، لتعلموا صدق الله في وعده ووعيده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 3 - 4 ]
{ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء } أي : الخروج من أوطانهم { لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا } أي : بالقتل والسبي ، كما فعل بإخوانهم بني قريظة .
{ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ } أي : الجلاء والعذاب { بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ } أي : خالفوا { اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيما نهاهم عنه من الفساد ، ونقض الميثاق .
{ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : له في الدنيا والآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ 5 ]
{ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } أي : نخلة من نخيلهم إغاظة لهم { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } أي : أمره ورضاه ؛ لأن ذلك ليس للبعث والإصرار ، بل لتأييد قوة الحق ، وتصلّب أهله ، وإرهاب المبطلين وإذلالهم ، كما قال تعالى { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } أي : لما فيه من إهانة العدوّ ، وإضعافه ونكايته .
تنبيه :
ذكر علماء الأخبار وأئمة السير ، أن سبب الأمر بجلاء بني النضير هو نقضهم العهد . قال الإمام ابن القيم : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ، ولا يظاهروا عليه ، ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم ، آمنون على دمائهم وأموالهم . وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة ، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه ، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه .
ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن . ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم . ومنهم من دخل معه في الظاهر ، ومع عدوه في الباطن ، ليأمن الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون .
فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمر به ربُّه - تبارك وتعالى - فصالح يهود المدينة ، وكتب بينهم كتاب أمن ، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة .
فكانت بنو قينقاع أول من نقض ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد ، وحاصرهم صلى الله علبه وسلم ، ثم أمرهم أن يخرجوا من المدينة ، ولا يحاربوه بها . ثم نقض العهد بنو النضير ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم ، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم ، وأن يعلو رجل فيلقي صخرة عليه ، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم ، وصعد ليلقي عليه صخرة ، ونزل الوحي على رسول الله صلوات الله عليه بما أراد القوم < فقام ورجع بمن معه من أصحابه على المدينة ، وأمر بالتهيؤ لحربهم > . ثم سار بالناس حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال ، فتحصنوا منه في الحصون < فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل وتحريقها > ، ثم قذف الله في قلوبهم الرعب ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجْليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحْلقة ، ففعل . فاحتملوا من أموالهم ما استقلّت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره ، فينطلق به . فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام ، وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت له خاصة يضعها حيث شاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقراً ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يُسلم من بني النضير إلا رجلان : يامين بن عمير بن كعب ، وأبو سعد بن وهب ، أسلما على أموالهما فأحرزاها .
قال ابن إسحاق : وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين : < ألم تر ما لقيت من ابن عمك ، وماهم به من شأني > ؟ فجعل يامين ابن عمير لرجل جعلاً على أن يقتل عمرو بن جحاش ، فقتله فيما يزعمون . ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها ، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته ، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما عمل به فيهم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 6 ]
{ وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : أعاد عليه من أموال بني النضير { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } أي : فما أجريتم على تحصيله خيلاً ولا ركاباً ، ولا تعقبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم . و الإيجاف من الوجيف ، وهو سرعة السير ، و الركاب : ما يركب من الإبل ، غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء } أي : من أهل الفساد والإفساد ليقوم الناس بالقسط .
{ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قال الزمخشريّ : المعنى أن ما خول الله رسوله من أموال بني النضير ، شيء لم يحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم ، وعلى ما في أيديهم ، كما كان يسلط رسله على أعدائهم . فالأمر فيه مفوض إليه ، يضعه حيث يشاء ، يعني أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها ، وأخذت عنوة وقهراً ؛ وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 7 ]
{ مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي : من الأموال محاربيها ، وهو بيان للأول ، ولذا لم يعطف عليه ، { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ } أي : الفيء الذي حقه أن يكون لمن ذكر { دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ } أي : يتداولونه وحدهم دون من هم أحق به . أو دولة جاهلية ، إذ كان من عوائدهم استئثار الرؤساء والأغنياء بالغنائم دون الفقراء { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ } أي : من قسمة غنيمة أو فيء { فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } أي : عن أخذه منها { فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن خالفه إلى ما نهى عنه .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بالآية على أن الفيء ما أخذ من الكفار بلا قتال ، وإيجاف خيل وركاب ، ومنه ما جلوا عنه خوفاً . و الغنيمة ما أخذ منهم بقتال ، كما تقدم في قوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } [ الأنفال : 41 ] ، خلافاً لمن زعم أنهما بمعنى واحد ، أو فرق بينهما بغير ذلك . انتهى .
وكأن الذي زعم أنهما بمعنى واحد رأى أن مجمل هذه الآية بيَّنه آية الأنفال ، حتى زعم قتادة أن هذه منسوخة بتلك . قال - فيما رواه عنه ابن جرير - : كان الفيء في هؤلاء ثم نسخ ذلك سورة الأنفال فقال :
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر . وكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس : فأربعة لله وللرسول ، وخمس لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، وخمس لابن السبيل .
والمسألة مبسوطة في مطولات الفروع .
الثاني : قال الزمخشري : الأجود أن يكون قوله تعالى :
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } الآية ، عامّّاً في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه . وأمر الفيء داخل في عمومه .
وفي " الإكليل " : فيه وجوب امتثال أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم .
قال العلماء : وكل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، يصح أن يقال : إنه في القرآن ، أخذاً من هذه الآية . انتهى .
وهذا الأخير من غلوّ الأثريين ، والإغراق في الاستنباط .
ثم بين تعالى من أصناف من تقدم ، الأحق بالعناية والرعاية ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ 8 ]
{ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } أي : من مواطنهم ومألوفاتهم { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ } أي : من العلوم والفضائل الخلقية { وَرِضْوَاناً } أي : منه وهو أعظم ما يرغب فيه { وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : يبذل النفوس لقوة اليقين { أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } قال القاشاني : أي : في الإيمان اليقيني لتصديق أعمالهم دعواهم ، إذ علامة وجدان اليقين ظهور أثره على الجوارح ، بحيث لا تمكن حركاتها إلا على مقتضى شاهدهم من العلم .
ثم أشار إلى أن إيثار هؤلاء بالعطاء مما تطيب به نفوس إخوانهم الأنصار ، لحرصهم ، رضي الله عنهم ، على الإيثار دون الاستئثار ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 9 ]
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ } أي : دار الهجرة ، أي : توطنوها { وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من قبل مجيء المهاجرين إليهم . وعطف { الإِيمَانِ } قيل : بتقدير عامل . أي : وأخلصوا الإيمان . وقيل : استعمل التبوء في لازم معناه ، وهو اللزوم والتمكّن . والمعنى : لزموا الدار والإيمان . وجوّز أيضاً تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكن فيه ، على أنه استعارة بالكناية ، ويثبت له التبوء على طريق التخييل .
{ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي : لوجود الجنسية في الصفاء ، والموافقة في الدين والإخاء . قال الشهاب : المراد بمحبتهم المهاجرين هنا ، مواساتهم ، وعدم الاستثقال والتبرم منهم ، إذا احتاجوا إليهم ، فالمحبة كناية عما ذكر ، كما قيل :
~ ياأخي واللَّبيب إن خانَ دهرٌ يستبين العدوَّ ممن يحبُّ
{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ } أي : في أنفسهم { حَاجَةً } أي : طلباً أو حسداً { مِّمَّا أُوتُوا } أي : مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، لسلامة قلوبهم ، وطهارتها عن دواعي الحرض .
{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : حاجة وفاقة .
قال القاشانيّ : لتجردهم وتوجههم إلى جناب القدس ، وترفعهم عن مواد الرجس ، وكون الفضيلة لهم أمراً ذاتياً ، باقتضاء الفطرة ، وفرط محبة الإخوان بالحقيقة ، والأعوان في الطريقة . فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم ، لمكان الفتوةّ ، وكمال المروّة ، ولقوة التوحيد ، والاحتراز عن حظ النفس .
تنبيه :
في " الإكليل" : في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا . انتهى .
وقال ابن كثير : هذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى :
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [ الْإِنْسَاْن : 8 ] ، وقوله :
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] ، فإن هؤلاء تصدقوا ، وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ، ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه ، ومن هذا المقام تَصَدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أبقيت لأهلك > ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله ! وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل ، أحوج ما يكون إلى الماء ، فردّه الآخر إلى الثالث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ، ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم .
{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أي : فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال ، وبغض الإنفاق { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الفائزون بالسعادتين . وفي إضافة الشحّ إلى النفس إشارة لما قاله القاشانيّ من أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء ، وموطن كل رجس وخُلُق دنيء . والشح من غرائزها المعجونة في طينتها ، لملازمتها الجهة السفلية ، ومحبتها الحظوظ الجزئية ، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها . ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله .
قال ابن جرير : الشح في كلام العرب البُخل ، ومنع الفضل من المال . والعلماء يرون أن الشح في هذا الموضوع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق ، ثم روى أن رجلاً أتى ابن مسعود فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية القرآن : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ، وأنا رجل شحيح ، لا يكاد يخرج من يديّ شيء ! قال : ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ، ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . انتهى .
والظاهر أنه عنى بالعلماء بذلك الأثر ؛ لأنه لم يفسر إلا بالمأثور . ولعل ابن مسعود فسر الآية بذلك ، لدلالة سياقها عليه ، إذ القصد تزهيد الأنصار في أن تطمح أنفسهم لما جعل للمهاجرين دونهم . أو هو يرى الفرق بين الشح والبخل بما ذكره . وعلى كل فلا يتعين تأويل الآية بما ذكره بل هي مما تحتمله . وعن ابن زيد في الآية قال : من وُقِيَ شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئاً ولم يقربه ، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئاً ، فهو من المفلحين .
وروى ابن جرير عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < برىء من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة > .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح فإنه أهلك من قبلكم : أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا > .
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ 10 ]
{ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } يعني بالذين جاؤوا من بعدهم ، الذين هاجروا حين قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخْرَجين من ديارهم ، فالمراد مجيئهم إلى المدينة بعد مدة . والمجيء حسي . وقيل : هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ؛ فالمجيء إما إلى الوجود ، أو إلى الإيمان . ونظير هذه الآية ، أية براءة :
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] .
قال الشهاب : والمراد بدعاء اللاحق للسابق ، والخلف للسلف ، أنهم متبعون لهم ، أو هو تعليم لهم بأن يدعوا لمن قبلهم ، ويذكروهم بالخير .
تنبيه :
جعل الزمخشري قوله : { والَّذِينَ } عطفاً على { الْمُهَاجِرِينَ } كالموصول قبله في قوله :
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا } إلخ . فيكون قوله : { يُحِبُّونَ } وقوله : { يَقُولُونَ } حالين . وجوز السمين : وجها ثانيا ، وهو كون الموصول فيهما مبتدأ ، وما بعده خبره . وعندي أن هذا هو الوجه ، ما قبله تكلف ، وأن الموصولين مستأنفان لمدح إيمان الأنصار والتابعين لهم بتلك الأخلاق الفاضلة ، والخصال الكاملة . وما حمل الزمخشريّ ومن تابعه على الاقتصار على الوجه الأول إلا لتشمل أصناف من يستحق الفيء من فقراء كلّ ، كأنه قيل : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا } إلخ ، { و } للفقراء { الَّذِينَ تَبَوَّؤُوا } إلخ ، وللفقراء الذين جاؤوا من بعدهم . . . إلخ ، مع أن سياق الآيات المذكورة ، ورعاية وقت نزولها ، والمهاجرون في جهد ، والأنصار في سعة ورغد - يقضي بأن المقصود منها للفيء ، هو فقراء المهاجرين خاصة وأن الذين تبوؤوا الدار في غنى عنه وعدم تشوف إليه ، لشدة محبتهم لإخوانهم ، بل رغبتهم في إيثارهم . ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه ، ويدعوا له ابتهاجاً بما أتوا ، واغتباطاً بما عملوا ، لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله ، محبة في الله ورسوله ، وبين محب لمن هاجر ، مكرم له ، بل مؤثر إياه ، مما أشفّ عن قوة الإيمان ، والإخلاص في تدعيم روابط الإيقان ، هذا هو الظاهر من نظم الآيات الكريمة ، وذوق سوقها . وأما فقراء الصنفين الآخرين ، فإنهم يستحقون من الفيء قياساً على الصنف الأول ، لاشتراكهم في الفقر ، إلا أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكُ أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقراً ، إلا سهلاً و أبا دجانة - كما تقدم - فأعطاهما صلى الله عليه وسلم . وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها المغانم ، فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبين في آيات أخر ، فإن التنزيل الكريم بيّن مقاسم الأموال لذويها في عدة آيات .
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] . حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ثم قال : هذه لهؤلاء . ثم قرأ : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] الآية . ثم قال : هذه الآية لهؤلاء . ثم قرأ : { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ الحشر : 7 ] . حتى بلغ { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] . ثم قال : استوعبت هذه الآية المسلمين عامة ، فليس أحد إلا له فيها حق . ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ، وهو يسيّر حُمُره ، نصيبه ، لم يعرق فيها جبينه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 11 ]
{ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني بني النضير المتقدم ذكرهم . وأخوّتهم معهم أخوّة دين واعتقاد ، أو أخوّة صداقة وموالاة لأنهم كانوا معهم سراً على المؤمنين { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } أي : من دياركم { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ } أي : في خذلانكم { أَحَداً أَبَداً } أي : من الرسول صلوات الله عليه ، والمؤمنين { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } أي : لنعاوننكم .
قال ابن جرير : ذكر أن الذين نافقوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ووُديعة ومالك ابنا نوفل ، وسويد ، وداعس . بعثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرب أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم ، وإنا معكم ، [ إن ] قوتلتم قاتلنا وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا لذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم ، إلا الحلقة ، كما تقدم { وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك . كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ } [ 12 ]
{ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ } أي : منهزمين ، { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي : بنوعٍ ما من أنواع النصر . والضمير للمنافقين أو اليهود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ } [ 13 ]
{ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ } أي : هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله ، لاحتجابهم بالخلق عن الحق ، بسبب جهلهم بالله ، وعدم معرفتهم له ، إذ لو عرفوا لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه ، ولم يستخْفوا بمعاصيه ، ويستَخِفوا بأوامره ، والضمير للمنافقين أو اليهود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ } [ 14 ]
{ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ } أي : اليهود وإخوانهم { جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } أي : بالحصون ، فلا يبرزون إلى البراز { أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } أي : من خلف حيطان ، لفرط رهبتهم منكم ، { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } قال الزمخشريّ : يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة ، لأن الشجاع يجبن ، والعزيز يذلّ ، عند محاربة الله ورسوله . انتهى .
{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } أي : تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر ، والحال أن قلوبهم متفرقة ، لاختلاف مقاصدها ، وتجاذب دواعيها ، وتفرقها عن الحق بالباطل .
{ ذَلِكَ } قال المهايميّ : أي : الاجتماع في الظاهر ، مع افتراق البواطن ، { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي : أنه يوجب جبنهم المفضي إلى الهلاك الكليّ . انتهى .
وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم ، والحمل عليهم ، وتبشير لهم بأنهم المنصورون الغالبون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 15 ]
{ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : مثل هؤلاء اليهود من بني النضير ، فيما نزل بهم من العقوبة ، كمثل من نالهم جزاء بغيهم من قبلهم ، وهم كفار قريش في وقعة بدر ، أو بنو قينقاع . قال ابن كثير : والثاني أشبه بالصواب ، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا . انتهى .
قال قتادة : إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد ، وكان من أمرهم أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها عن كشف وجهها ، فأبت . فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا بها ، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهودياً ، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع < فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه ، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، ولا يجاوروه بها > ، فخرجوا إلى الشام . والتفصيل في السير .
وقال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل مثل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب ، مما هو مذيقهم من نكاله ، بالذين من قبلهم من مكذبي رسوله صلى الله عليه وسلم الذين أهلكهم بسخطه ، وأمر بني قينقاع ، ووقعة بدر ، كانا قبل جلاء بني النضير ، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمره ، ولم يخصص الله عز وجل منهم بعضاً في تمثيل هؤلاء بهم دون بعض . وكل ذائق وبال أمره ، فمن قربت مدته منهم قبلهم ، فهم ممثلون بهم فيها عنوا به من المثل . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ } [ 16 - 17 ]
{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ } أي : مثل المنافقين في إغراء بني الضير على القتال ، ووعدهم النجدة أو الخروج معهم ، ومثل انخداع بني النضير بوعد أولئك الكاذب ، كمثل الشيطان { إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ } أي : إذ غر إنساناً ووعده على اتباعه وكفره بالله ، النصرة عند الحاجة إليه { فَلَمَّا كَفَرَ } أي : بالله ، واتبعه وأطاعه { قَالُ } أي : مخافة أن يشركه في عذابه ، مسلماً له وخاذلاً { إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُ } أي : فلا أعينك { إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : في نصرتك فلم ينفعه التبرؤ ، كما لم ينفع الأول وعده الإعانة { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ } أي : في حق الله تعالى ، وحق العباد . أي : وهكذا جزاء اليهود من بني النضير و المنافقين الذين وعدوهم النصرة . وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به إنهم في النار مخلدون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 18 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ } أي : بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه .
قال المهايميّ : يعني أن مقتضى إيمانكم أن لا تأمنوا مكر الله ، فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر ، ثم يتبرأ منكم .
{ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي : لما بعد الموت من الصالحات { وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : فيجازيكم بحسبها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 19 ]
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } قال ابن جرير : أي : لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم ، فأنساهم حظوظ أنفسهم من الخيرات .
وقال القاشانيّ :
{ نَسُواْ اللّهَ } أي : بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية ، والاشتغال باللذات النفسانية { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه ، فذهلوا عن الجوهرة القدسية ، والفطرية النورية .
وقال ابن القيم في " دار السعادة " : تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفاً عظيماً ، وهو أن من نسي ربه ، أنساه ذاته ونفسه ، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه ، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه ، في معاشه ومعاده ، فصار معطلاً ومهملاً ، بمنزلة الأنعام السائبة ، بل وربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه ، لبقائها على هداها الذي أعطاها إياه خالقها ، وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها ، فنسي ربه ، فأنساه نفسه وصفاتها ، وما تكتمل به ، وتزكو به ، وتسعد به في معاشها ومعادها ، قال تعالى :
{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] . فغفل عن ذكر ربه ، فانفرط عليه أمره وقلبه ، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله ، وما تزكو به نفسه وقلبه ، بل هو مشتت القلب مضيعه ، مفرط الأمر ، حيران لا يهتدي سبيلاً ، فالعلم بالله أصل كل علم ، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ، ومصالح دنياه وآخرته . والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها ، وما تزكو به وتفلح به ؛ فالعلم به سعادة العبد ، والجهل به أصل شقاوته . انتهى .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الذين خرجوا عن الدين القيّم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وخانوا وغدروا ، ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ 20 ]
{ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ } وهم الناسون الغادرون { وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم .
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي : بالنعيم المقيم .
تنبيهان :
الأول : قال الزمخشري : استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر . انتهى
وردّ الاستدلال بذلك أحد أئمة الشافعية ، وهو برهان الدين في " تفضيل السلف على الخلف " بما مثاله :
احتج بهذه الآية بعض الشافعية في مسألة قتل المسلم بالذمي ، وهذا في غاية الضعف ، لأن أحدا لم يسوّ بينهما ، وإيجاب القصاص ليس بتسوية ، لأنه ما من متباينين في وجوه ، إلا وقد استويا في وجوه أو وجوه ؛ فلا يكون إيجاب القود استواء كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواء . فهذا الكلام من ضعف نظره في مورد الانتزاع من شواهد الفرقان . انتهى
الثاني : قال أبو السعود : لعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء ، من جهتهم ، لا من جهة مقابليهم ؛ فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا ، وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد ، لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص ، وعليه قوله تعالى :
{ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } [ الرعد : 16 ] ، إلى غير ذلك من المواقع ، وأما قوله تعالى :
{ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ، فلعل تقديم الفاضل فيه ، لأن صلته ملكة لصلة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها . انتهى

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ 21 ]
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ } أي : الجامع للمواعظ ، الموجب للنظر والتقوى بكل حال ، { عَلَى جَبَلٍ } قال المهايمي : أي : بتفهيمه له ، وتكليفه بما فيه ، بعد إعطاء القوى المدركة والمحركة ، { لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً } أي : متذللا لعظمة الله { مُّتَصَدِّعاً } أي : متشققا { مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } أي : مع عظم مقداره ، وغاية صلابته ، وتناهي قساوته . قال القاشاني : أي : قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول ، إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه ، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } أي : وتلك الأمور ، وإن كانت وهمية ، مفروضة ، فلا بدّ من اعتبارها وضربها للناس الذين نسوا صغر مقدارهم فتكبروا ، ولينهم فقست قلوبهم { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : ليعلموا أنه أولى بذلك الخشوع والتصدع .
قال الزمخشري : الآية تمثيل كما مرّ في قوله :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } [ الأحزاب : 72 ] وقد دل عليه قوله : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } والغرض توبيخ الْإِنْسَاْن على قسوة قلبه ، وقلة تخشعه ، عند تدبر القرآن ، وتدبر قوارعه وزواجره .
ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه ، مع أنه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 22 - 24 ]
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : المعبود الذي لا تنبغ العبادة والإلوهية إلا له { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : ما غاب عن الحس وشوهد { هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } أي : المنعم بالنعم العامة والخاصة . ومن كان مطلعاً على الأسرار يحب أن يخشع له ويخشى منه ، لاسيما من حيث كونه منعماً ؛ إذ حق المنعم أن يخشع له ، ويخشى أن تسلب نعمه .
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ } أي : الغني المطلق ، الذي يحتاج إليه كل شيء ، المدبر للكل في ترتيب نظام لا أكمل منه { الْقُدُّوسُ } أي : المنزه عما لا يليق بجلاله ، تنزها بليغاً { السَّلاَمَ } أي : الذي يسلم خلقه من ظلمه أو المبرأ عن النقائص كالعجز { الْمُؤْمِنِ } أي : لأهل اليقين بإنزال السكينة ، ومن فزع الآخرة { الْمُهَيْمِنُ } أي : الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلائه وحفظه { العَزِيزُ } أي : القوي الذي يغلِب ولا يُغلب { الْجَبَّارُ } أي : الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد ، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد ، والذي لا يخرج أحد عن قبضته ، قاله الغزالي في "المقصد الأسنى" .
وقال الإمام ابن القيم في " الكافية الشافية " :
~وكذلك الْجَبَّارُ من أوصافه والجبر في أوصافه قِسمانِ
~جبرُ الضعيف وكل قلب قد غدا ذا كسرة فالجبرُ منه داني
~والثانِ جبر القهر بالعز الذي لا ينبغي لسواه من إنسان
~وله مسمَّى ثالث وهو العلوّ فليس يدنو منه من إنسان
~من قولهم جبَّارة للنخلة ال عليا التي فاتَتْ بكل بَنَانِ
{ الْمُتَكَبِّرِ } أي : الذي يرى الكل حقيراً بالإضافة إلى ذاته ، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه ، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : من الأوثان والشفعاء .
{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ } أي : المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته { الْبَارِئُ } أي : الموجد لها بعد العدم { الْمُصَوِّرُ } أي : الكائنات كما شاء .
{ لّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } أي : الدالة على محاسن المعاني ، وأحاسن الممادح .
{ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : في تدبيره خلقه . وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم .
تنبيهات :
الأول : قال السيد ابن المرتضى في " إيثار الحق " : مقام معرفة كمال الرب الكريم ، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى ، من تمام التوحيد الذي لا بد منه ؛ لأن كمال الذات بأسمائه الحسنى ، ونعوتها الشريفة ، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم ، ولذلك عُدَّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها ، من أعظم مكايدهم للإسلام ، فإنهم عكسوا المعلوم عقلاً وسمعاً فذموا الأمر المحمود ، ومدحوا الأمر المذموم ، القائم مقام النفي ، والجحد المحض ، وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة ، قال الله جل جلاله :
{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } [ الأعراف : 180 ] . وقال سبحانه وتعالى :
{ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110 ] . فما كان منها منصوصاً في كتاب الله وجب الإيمان به على الجميع ، والإنكار على من جحده ، أو زعم أن ظاهر اسم ذمّ لله سبحانه . وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته . وما نزل عن هذه المرتبة ، أو كان مختلفاً في صحته ، لم يصح استعماله ، فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمَّى به .
ثم قال : وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها ، مع الاختلاف الشهير في صحته . وحسبك أن البخاري ومسلماً تركا تخريجه مع رواية أوله . واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه . ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضاً لفضل الله العظيم في وعده من أحصاها بالجنة ، كما اتفق على صحته . وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء ، فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى ، بطل اليقين بذلك ، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله ، وما اتفق على صحته بعد ذلك ، وهو النادر ، وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص .
ثم أطال رحمه الله في ذلك وأطاب . فليرجع إليه النَّهِمُ بالتحقيقات .
الثاني : قال الغزاليّ في " المقصد الأسنى " - وهو من أنفس ما ألف في معاني الأسماء الحسنى - : هل الصفات والأسامي المطلقة على الله تعالى تقف على التوقيف ، أو تجوز بطريق العقل ؟ والذي مال إليه القاضي أبو بكر الباقلاني أن ذلك جائز ، إلا ما منع منه الشرع ، أو أشعر بما يستحيل معناه على الله تعالى . فأما ما لا مانع فيه فإنه جائز . والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعري ، رحمة الله عليه ، أن ذلك موقوف على التوقيف ، فلا يجوز أن يطلق في حق الله تعالى ، إلا إذا أذن فيه .
والمختار عندنا أن نفصل ونقول : كل ما يرجع إلى الاسم ، فذلك موقوف على الإذن ، وما يرجع إلى الوصف ، فذلك لا يقف على الإذن ، بل الصادق منه مباح دون الكاذب . ثم جوّد رحمه الله البيان بما لا غاية بعده .
الثالث : قال السيد المرتضى في " إيثار الحق " : قد تكلم على معانيها جماعة من أهل العلم والتفسير ، وأكثرها واضح . والعصمة فيها عدم التشبيه ، واعتقاد أن المراد بها أكمل معانيها الكمال الذي لا يحيط بحقيقته إلا الله تعالى .
ثم قال : ولا بد من الإشارة هنا إلى أمر جمليّ ، وهو أصل عظيم ، وذلك تفسير الحسنى جملة : فاعلم أنها جمع الأحسن لا جمع الحسن ، وتحت هذا سر نفيس : وذلك أن الحسن من صفات الألفاظ ، ومن صفات المعاني ، فكل لفظ له معنيان : حسن وأحسن ، فالمراد الأحسن منهما حتى يصح جمعه حُسْنَى ، ولا يفسر بالحسن منهما إلا الأحسن بهذا الوجه . ثم بّين مثال ذلك فانظره .

(/)


سورة الممتحنة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [ 1 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } أي : أنصاراً . نهيٌ لأصحاب النبي صلوات الله عليه ، عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله وقتئذ ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي .
{ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } أي : صميم المحبة ، والباء زائدة في المفعول { وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ } أي : من الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، الذي هو نهاية الهدى ، وغاية السعادة .
ثم أشار إلى أنهم لم يكفهم ذلك حتى آذوا المؤمنين ، بما يقطع العلائق معهم رأساً ، بقوله : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أي : من أرضكم ودياركم { أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } أي : يخرجونكم لإيمانكم بالله ، الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له ، لاسيما باعتبار اتصافه بوصف كونه رباكم بالكمالات ، فهي بالحقيقة عداوة مع الله .
قال ابن كثير : هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم ، وعدم موالاتهم ، لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم ، كراهة لما هم عليه من التوحيد ، وإخلاص العبادة لله وحده ؛ ولهذا قال تعالى :
{ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } أي : لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] ، وكقوله تعالى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [ الحج : 40 ] ، وقوله تعالى { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } أي : هاجرتم { جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي } أي : للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم ، وديني الذي أمرتكم به . والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه ، والشرط متعلق بـ { لَا تَتَّخِذُوا } أي : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي { تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ } أي : من المودة معهم وغيرها { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } أي : اتخاذهم أولياء { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } أي : جار عن السبيل السوي الذي جعله الله هدى ونجاة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } [ 2 ]
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ } أي : يظفروا بكم { يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء } أي : حرباً ، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ } أي : بما يسوؤكم كالقتل والشتّم { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } أي : بما جاءكم من الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 3 ]
{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ } أي : قراباتكم { وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أي : بإثابة المؤمنين ، ومعاقبة العاصين .
وقال القاشانيّ : أي : لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله ، لأن القيامة مفرقة . وهذا معنى قوله : { يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أي : يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال :
{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } [ عبس : 34 - 36 ] ، انتهى . وهو تأويل جيد .
لطيفة :
قال السمين : يجوز في { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بما قبله ، أي : لن تنفعكم يوم القيامة ، فيوقف عليه ، ويبتدأ بـ { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ }
والثاني : أي : يتعلق بما بعده ، أي : يفصل بينكم يوم القيامة ، فيوقف على { أَوْلاَدَكُمْ } ، ويبتدأ بـ { يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
{ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فيجازيكم عليه .
تنبيهات :
الأول : قال ابن جرير : ذكر أن هذه الآيات ، من أول هذه السورة ، نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة ، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ثم ساق الروايات .
وأما رواية البخاري فعن عليّ رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : < انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها > فذهبنا تَعَادَى بنا خيلنا ، حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي من كتاب ! فقلنا : لتخرجنَّ الكتاب ، أو لنلقيَنَّ الثياب . فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه :
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < ما هذا يا حاطب > قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله ! إني كنت امرءاً من قريش ، ولوسلم : من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي ، وما فعلت ذلك كفراً ، ولا ارتداداً عن ديني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < إنه قد صدقكم > فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ! فقال : < إنه شهد بدراً ، وما يدريك ، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ! >
قال عمرو بن دينار - راوي الحديث - ونزلت فيه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي } الآيات .
قال ابن كثير : كان حاطب هذا رجلاًً من المهاجرين ، ومن أهل بدر . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم ، بل كان حليفاً لعثمان . فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة ، لمَّا نقض أهلها العهد ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال : < اللهم عمِّ عليهم خبرنا > فعمد حاطب هذا ، فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يداً . كما ذكر في الحديث .
الثاني : قال ابن كثير : يعني تعالى بقوله { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } المشركين والكفار ، الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين ، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء ، كما قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ، وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، وقال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 57 ] . وقال تعالى { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] . ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب ، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش ، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد . انتهى .
أي أنه قبل عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة ، وإن أخطأ . والمجتهد المخطئ معذور ، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله الذي لأجله نزلت السورة ، ولذلك قال الإمام إلكيَا الهَراسي : يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله ، وهو ظاهر ، وليس هذا من التقية ، لأنها في موضوع آخر . وقد بسط الكلام على الولاء والبراء السيد المرتضى في "إيثار الحق " في المسالة الثامنة . قال بعد أن أورد الآيات والأحاديث : هذا كله في الحب الذي هو في القلب ، والمخالصة لأجل الدين ، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع ، وللمسلمين الموحدين ، إذا كان لأجل إسلامهم ، وتوحيدهم عند أهل السنة . وأما المخالفة والمنافعة ، وبذل المعروف ، وكظم الغيظ ، وحسن الخلق ، وإكرام الضيف ، ونحو ذلك ، فيستحب بذله لجميع الخلق ، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة ، فلا يبذل للعدو في حال الحرب ، كما أشارت إليه الآية { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } - كما يأتي - وأما التقية ، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين . وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء ، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز ، وهو المنافعة ، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة . وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام .
ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في "الرسالة المخرسة ، لأهل المدرسة " : لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه ؛ لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك ، فتولّى الناصر الكثير منهم ، وصلى بهم الجمعة جعفرُ الصادق ، وصلى الحسن السبط على جنائزهم .
وذكر الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع ، هي موالاة الكافر لكفره ، والعاصي لمعصيته ، ونحو ذلك .
قال السيد : وهو كلام صحيح ، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة ، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] . ومنها قوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } [ الممتحنة : 8 ] الآيتين ، وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء ، بعد آيات التحريم ، رواه أحمد والبزار والواحدي ، وتأخرهما واضح في سياق الآيات ، وقرينة الحال مع هذا الحديث . ولو لم يصح تأخر ذلك ، فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور . ورجحه ابن رشد في "نهايته "بالنصوصية على ما هو خاص فيه . ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليهما من حديث عليّ عليه السلام في قصة حاطب ، على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة - هذه - وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة ، والتقية فيما لا يضر في ظنه .
فإن قيل : القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره ؟ قلت : إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان ، وعدم موالاة المشركين لشركهم ، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } والعموم نص في سببه ، فاتفق القرآن والحديث . وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم ، لقوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } [ النساء : 83 ] ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع ، ومع إذنه يجوز ، فقد أذن في أكثر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيلة في حفظ المال ، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم . فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم ، لما فيه من الخيانة ، لا نفس الفعل ، لو تجرد من الكتم والخيانة - والله أعلم - انتهى .
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودّد بذلك إليهم ، والمناصحة لهم ، مما يشفّ عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقده ، مضطرباً في حقه ، فيصبح عمله حجة على دينه ، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم . وهذا هو السر في الحقيقة ، كما بينه آية : { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [ الممتحنة : 5 ] . وسيأتي بيانه .
ثم علّم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم ، وبقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ 4 ]
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ } أي : قدوة { حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : أتباعه الذين آمنوا معه ، كلوط عليه السلام { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ } يعني الذين أشركوا بالله وعبدوا الطاغوت { إِنَّا بُرَاء } جمع بريء ، كظريف وظرفاء { مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } أي : بدينكم ومعبودكم . قال ابن جرير : أي : أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر بالله ، وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقاً { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : لا صلح بيننا ولا مودة إلى أن تؤمنوا بالله وحده . أي : توحدوه وتفردوه بالعبادة { إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } استثناء من قوله { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قال ابن جرير : أي : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها ، من مباينة الكفار ومعاداتهم ، وترك موالاتهم ، إلا في قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، فإنه لا أسوة لكم فيه في ذلك ، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين أنه عدو لله ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . يقول تعالى ذكره : فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله ، تبرؤوا من أعداءالله المشركين به ، ولا تتخذوا منهم أولياء ، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء ، حتى يؤمنوا بالله وحده ، ويتبرؤواعن عبادة ما سواه .
ثم روي عن مجاهد أنه قال في الآية : نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه ، فيستغفروا للمشركين .
{ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } أي : وما أدفع عنك من عقوبة الله شيئاً إن أراد عقابك . والجملة من تمام المستثنى ، إلا أنه لا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم أفراده ، ولذا قال الزمخشريّ : القصد إلى موعد الاستغفار وما بعده مبنيّ عليه ، وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وما في طاقتي إلا الاستغفار .
وقوله تعالى { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } متصل بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة ، أو أمر منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوا ذلك ، تتميماً لما وصاهم به من قطع الصلات المضرّة بينهم وبين المحاربين لهم . ومعنى { إِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : إليك رجعنا بالتوبة مما تكره ، إلى ما تحب وترضى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 5 ]
{ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قال مجاهد : أي : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا . وكذا قال قتادة ، أي : لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك . يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه . انتهى .
ومآل هذا الدعاء هو التعوذ من مثل ما صنع حاطب ، مما يورث افتتان المشركين بالدين إذ يكون ذلك مدعاة لقولهم : لو كان هؤلاء على حق ، وما يوعدون به من الظفر حق ، لما صانعنا مؤمنهم ، فإذن ما هم عليه أماني . فيتزلزل من كان في نفسه الانتظام في سلكهم ، والاستسعاد بحقهم . ففي الآية معنى كبير ، وتأديب عظيم . أي : ربنا لا تجعلنا نهمل من ديننا ما أمرنا به ، أو نتساهل فيما عزم علينا منه ، حتى لا تنحل بذلك قوتنا ، ويتزلزل عمادنا ، ويفتح لعدو الدين الافتتان به ، لأن المؤمنين ما داموا متمسكين بآداب الدين ، محافظين عليها ، قائمين بها حق القيام ، فإن النصر قائدهم والظفر رائدهم ، ولذا أصبح المسلمون في القرون الأخيرة بحالهم حجة على دينهم أمام عدوهم ، ولا مسترد لقولهم ، ومستعاد لمجدهم ، إلا بالرجوع إلى أصل كتابهم ، والعلم بآدابه ، والمحافظة على أحكامه ، ونبذ ما ألصق به ، مما يحرف كلمته ، ويجافي حقيقته ، وللحكماء في هذا الموضوع مقالات معروفة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ 6 ]
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } تكرير لوجوب التأسي بإبراهيم وأصحابه ، لمزيد الحث على التبرؤ من المشركين ، والاسترسال إليهم ، فإن محبة المفسدين فيها تخريب لمباني الحق ، وتوهين لقوى أهله ، وتشكيك لضعفاء القلوب ، مما يفسد عمل المخلصين ، ويزلزل مساعيهم ، ويفتن أعداؤهم بهم ، لذلك كان البغض في الله من شعب الإيمان ، لأن الحق لا يقوى إلا باعتصاب أهله على كلمته ، ورمي أعدائه عن قوس واحدة . وفي إبدال { لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } من { لِكُمْ } دلالة على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم ، وأن تركه مؤذن بسوء العقيدة . ولذلك عقبه بقوله :
{ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : من يتول عما أمر به ، ويوالي أعداء الله ، ويلقي إليهم بالمودة ، فإنه لا يضرّ إلا نفسه ، والله هو الغني عن إيمانه به وطاعته ، المحمود على كل حال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 7 ]
{ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا وعد منه تعالى ، وقد أنجزه بأن أسلم كثير منهم بعدُ ، وصاروا لهم أولياء وأحزاباً . والآية من معجزات القرآن ، لما فيها من الإخبار عن مغيب ، وقع مصداقه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 8 - 9 ]
{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } هذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم . فهو في المعنى تخصيص لقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي } إلخ أي : لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة ، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ، وتقسطوا إليهم ، أي : تفضوا إليهم بالبرّ ، وهو الإحسان ، والقسط وهو العدل ، فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه ، بل مأمور به في حقهم . والخطاب ، وإن يكن في مشركي مكة ، إلا أن العبرة بعموم لفظه ، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه ، فردّ ذلك الإمام ابن جرير بقوله :
والصواب قول من قال : عني بقوله تعالى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } من جميع أصناف الملل والأديان ، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم ، فإن الله عز وجل عمّ بقوله { الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ } جميع من كان ذلك صفته ، فلم يخصص به بعضاً دون بعض ، ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة ونسب ، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولانسب ، غير محرم ولا منهي عنه ، إذا لم يكن في ذلك دلالة على له ، أو لأهل الحرب ، على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح ، وقد بين صحة ما قلناه الخبر في قصة أسماء وأمها . انتهى .
وذلك أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ، إذ عاهدوا ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : < نعم ! صلي أمك > . رواه أحمد والشيخان ورواه أيضاً الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : ضباب ، وقرظ ، وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، وتدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تعالى :
{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلى آخر الآية . فأمرها أن تقبل هديتها ، وأن تدخلها بيتها . قال الرازي : وقوله تعالى :
{ أَن تَبَرُّوهُمْ } بدل من { الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } وكذلك { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدل من { الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ } والمعنى : لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء ، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء ، وهذا رحمة لهم ، لشدتهم في العداوة ، وهذه الآية على جواز البرّ بين المشركين والمسلمين ، وإن كانت الموالاة منقطعة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 10 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } أي : من مكة إلى المدينة ، { فَامْتَحِنُوهُنَّ } أي : فاختبروهن بما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } أي : المطلع على قلوبهن ، لا أنتم ، فإنه غير مقدور لكم ، فحسبكم أماراته وقرائنه .
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حلّفها بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله .
وقال مجاهد : أي : سلوهن ما جاء بهن ؟ فإن كان بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ، ولم يؤمنَّ ، فارجعوهن إلى أزواجهن .
{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } قال الزمخشري : أي : العلم الذي تبلغه طاقتكم ، وهو الظن الغالب بالحلف ، وظهور الأمارات ، وإنما سماه علماً ، إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به .
{ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } أي : فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين ، إذ لا حلّ بين المؤمنة والمشرك ، لأن إيمانها قطع عصمتها من المشرك المعادي لله ولرسوله .
قال ابن جرير : وإنما قيل ذلك للمؤمنين ، لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية ، أن يردّ المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلماً ، فأبطل ذلك الشرط في النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات ، فامتُحنَّ فوجدهن المسلمون مؤمنات ، وصح ذلك عندهم مما ذكرنا ، وأمروا أن لا يردوهن إلى المشركين ، إذا علم أنهن مؤمنات ، { لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } أي : لانقطاع النكاح بينهنّ . قال ابن كثير : هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين . وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك من المؤمنة . ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع ، ، زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة ، وهو على دين قومه . فلما وقع الأسارى يوم بدر ، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة . وقال للمسلمين : < إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا > ، ففعلوا ، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى بذلك ، وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر ، وكانت سنة اثنتين ، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان ، فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صدقاً ، ومنهم من يقول بعد سنتين ، وهو صحيح لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين ، انتهى .
{ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا } قال ابن جرير : أي : وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ، إذا علمتموهن مؤمنات ، فلم ترجعوهن إليهم ، ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي : هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب ، مفارقات لأزواجهن ، وإن كان لهن أزواج { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : مهورهن . قال ابن زيد : لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرأت أرحامهن .
ثم أشار إلى أنه ، كما بطل نكاح المؤمنة على الكافر ، بطل نكاح الكافرة على المسلم . بقوله { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } أي : بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال .
قال ابن جرير : يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأسبابهن . و { الْكَوَافِرِ } جمع كافرة . و العصم : جمع عصمة ، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب . وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن الإقدام على نكاح المشركات من أهل الأوثان ، وأمر لهم بفراقهن . ثم روي عن مجاهد قال : أُمر أصحاب محمد بطلاق نسائهم كوافر بمكة قعدن مع الكفار .
وعن الزهري : لما نزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } إلى قوله { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة : ابنة أبي أمية ، وابنة جرول . وطلحة بن عبيد الله بنت ربيعة ، ففرق بينهما الإسلام ، حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر ، وكن ممن فرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ، ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فحبسها وزوجها رجلاً من المسلمين ، أميمة بنت بشر الأنصارية كانت عند ثابت بن الدحداحة ، ففرّت منه ، وهو يومئذ كافر ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف ، أحد بني عمرو بن عوف ، فولدت عبد الله بن سهل .
{ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ } أي : اطلبوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم فلحقن بالمشركين ما أنفقتم على أزواجكم اللواتي لحقن بهم ، من الصداق ، من تزوجن منهم { وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا } أي : وليسألكم المشركون منهم ، الذي لحق بكم أزواجهم مؤمنات ، إذا تزوجن فيكم ، من تزوجها منكم ، ما أنفقوا عليهن من الصداق ، { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : هذا الحكم الذي حكم به من أمير المؤمنين بمسألة المشركين ما أنفقوا ، وأمر المشركين بمثل ذلك ، حكم الله الحق الذي لا يعدل عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ 11 ]
{ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ } أي : وإن ارتدت منكم امرأة فلحقت الكفار ، فلم يردّوا مهرها { فَعَاقَبْتُمْ } أي : فغزوتموهم فوجدتم منهم غنيمة { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم } أي : من المسلمين { مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا } أي : في مهورهن .
قال مجاهد : مهر مثلها يدفع إلى زوجها .
وقال قتادة : كنّ إذا فررنّ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفار ، ليس بينهم وبين نبي الله عهد ، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة ، أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة ، ثم يقتسمون غنيمتهم .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } أي : فإن الإيمان به يقتضي أداء أوامره ، واجتناب نواهيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 12 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ } قال ابن كثير : أي : أموال الناس الأجانب ، فأما إذا كان الزوج معسراً في نفقتها ، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ، ما جرت به عادة أمثالها ، وإن كان من غير علمه ، عملاً بحديث هند بنت عتبة أنها قالت : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل شحيح ، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ ، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه ؟ فقال رسول الله : < خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك > أخرجاه في"الصحيحين " { وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ } قال الزمخشريّ : يريد وأد البنات .
وقال ابن كثير : هذا يشمل قتله بعد وجوده ، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية إملاق ، ويعمّ قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجاهلات من النساء ، تطّرح نفسها ، لئلا تحبل ، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه .
{ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال ابن عباس : أي : لا يلحق بأزواجهن غير أولادهم . وأوضحه الزمخشري بقوله : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . كنيّ بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين ، فهو غير الزنا ، فلا تكرار فيه .
وقال الشهاب : في"شرح البخاري"للكرماني معناه : لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم . واليد والرجل كناية عن الذات ، لأن معظم الأفعال بهما ، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية : هذا ما كسبت يداك . أو معناه : لا تنشئوه من ضمائركم وقلوبكم ، لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل . والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم ، والثاني عن كونه من دخيلة قلوبهم المبنية عن الخبث الباطني .
وقال الخطابي : معناه لا تبهتوا الناس كفاحاً ومواجهة ، كما يقال للآمر بحضرتك : إنه بين يديك . ورد بأنهم ، وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال : بين أرجله وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها ، أما مع الأيدي تبعاً فلا . فالمخطئ مخطئ وهو كناية عن خرق جلباب الحياء ، والمراد : النهي عن القذف ، ويدخل فيه الكذب والغيبة . انتهى .
{ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } أي : من أمر الله تأمرهن به .
قال في" النهاية" : المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله ، والإحسان إلى الناس ، وكل ما أمر به الشرع ، ونهى عنه .
{ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : فبايعهن على الوفاء بذلك ، وسل الله لهن مغفرة ذنوبهن ، والعفو عنها ، فإنه غفور رحيم لمن تاب منها .
تنبيهات :
الأول : روى البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم < كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية ، فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد بايعتك > كلاماً ، ولا واللهِ ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ، ما يبايعهن إلا بقوله : < قد بايعتك على ذلك > .
قال ابن حجر : أي : لا مصافحة باليد ، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة .
ثم قال : وروى النسائي والطبري أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع . فقلن : يا رسول الله ! ابسط يدك نصافحك . فقال : < إني لا أصافح النساء ، ولكن سآخذ عليكن > فأخذ علينا حتى بلغ { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } فقال : < فيما أطقتنّ واستطعتنّ > ، فقلن : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا - وفي رواية الطبري : ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة - وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب - أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي .
وفي" المغازي" لابن إسحاق عن أبان بن صالح أنه كان يغمس يده في إناء ، فيغمسن أيديهن فيه . انتهى .
والمعول على رواية البخاري الأولى لصحتها ، وضعف ما عداها .
الثاني : روى مسلم عن أم عطية قالت : لما نزلت هذه الآية { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } كان منه النياحة . ولفظ البخاري عنها قالت : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم < فقرأ علينا { أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً } ونهانا عن النياحة > .
وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت : < كان فيما أخذ علينا أن لا نعصيه في شيء من المعروف ، ولا نخمش وجهاً ، ولا ننشر شعراً ، ولا نشق جيباً ، ولا ندعو ويلاً > .
وعن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن يومئذ أن لا يَنُحْنَّ ، ولا يحدثن الرجال إلا رجلاً منكن محرماً . فقال عبد الرحمن بن عوف : يا نبيّ الله ! إن لنا أضيافاً وإنا نغيب عن نسائنا ؟ فقال : < ليس أولئك عنيت > .
الثالث : قال إلكيا الهراسي : يؤخذ من قوله تعالى { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف . قال وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف وإنما شرطه في الطاعة ، لئلا يرخص أحد في طاعة السلاطين .
وأصله مما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد ، قال في هذه الآية : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيه وخيرته من خلقه ، ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط ، لم يقل : { وَلَا يَعْصِينَكَ } ويترك حتى قال : { فِي مَعْرُوفٍ } فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف ، وقد اشترط الله هذا على نبيه ؟
ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبّه به في فاتحتها ، من النهي عن موالاة محاربي الدِّين ، تحذيراً من التهاون في ذلك ، وزيادة اعتناء به ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } [ 13 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : مسخوطاً عليهم لمعاداتهم الحق ، ومحاربتهم الصلاح ، وعيثهم الفساد . وهو عام في كل محارب ، ومنهم من خصه باليهود ، لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم ، واقتصر عليه الزمخشري . قال الناصر : قد كان الزمخشريّ ذكر في قوله ، { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ } إلى قوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } [ فاطر : 12 ] ، أن آخر الآية استطراد ، وهو فن من فنون البيان ، مبوّب عليه عند أهله . وآية الممتحنة هذه ممكنة أن تكون من هذا الفن جداً ، فإنه ذم اليهود ، واستطرد ذمهم بذم المشركين ، على نوع حسن من النسبة . وهذا لا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه ، ومما صدروا به هذا الفن قوله :
~إذا ما اتقى اللهَ الفتى وأطاعه فليس به بأس وإن كان من جُرْمِ
وقوله :
~إن كنت كاذبَة الذي حدثتني فنجوتِ منجى الحارث بن هشامِ
وقوله :
~ترك الأحبة أَنْ يقاتِلَ دونهم ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ
انتهى .
وكان وجهة إيثاره الفرار من التأكيد إلى التأسيس ، مع أن إرادة ما أريد بأول السورة منه ، فيه من المحسنات البديعية ردّ العجز عن الصدر ، تذكيراً به وتفخيماً ، للعناية بشأنه ، ولكل وجهة .
{ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ } أي : من جزائها لجحدهم بها ، ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا . والجملة صفة ثانية { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } أي : كما يئس من سلفهم من إخوانهم الكفار المقبورين ، أي : أنهم على شاكلة من قبلهم ، وكلّ مؤاخذ بكفره . وقيل : المعنى كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا . ففيه وضع الظاهر موضع المضمر ، تسجيلاً لكفرهم ، وبياناً لما اقتضى الغضب عليهم ، ولما آيسهم . والأول أظهر .

(/)


سورة الصف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 1 ]
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : أذعِن لله كل خلقه العلوي والسفلي ، وانقاد لتسخيره ، ودل على ألوهيته وربوبيته . وتقدم بيانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ 2 - 3 ]
{ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } قال القاشانيّ : من لوازم الإيمان الحقيقي الصدق وثبات العزيمة ؛ إذ خلوص الفطرة عن شوائب النشأة يقتضيهما . وقوله : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } يحتمل الكذب ، وخلف الوعد . فمن ادعى الإيمان وجب عليه الاجتناب عنهما بحكم الإيمان ، وإلا فلا حقيقة لإيمانه ؛ ولهذا قال :
{ مَا لَا تَفْعَلُونَ } لأن الكذب ينافي المروءة التي هي من مبادئ الإيمان ، فضلاً عن كماله ؛ إذ الإيمان الأصلي هو الرجوع إلى الفطرة الأولى والدين القيم . وهي تستلزم أجناس الفضائل بجميع أنواعها ، التي أقل درجاتها العفة المقتضية للمروءة ، والكاذب لا مروءة له ، فلا إيمان له حقيقة . وإنما قلنا : لا مروءة له ، لأن النطق هو الإخبار المفيد للغير معنى ، المدلول عليه باللفظ . والْإِنْسَاْن خاصته التي تميزه عن غيره ، هي النطق ، فإذا لم يطابق الإخبار ، لم تحصل فائدة النطق, فخرج صاحبه عن الْإِنْسَاْنية ، وقد أفاد ما لم يطابق من اعتقاد وقوع غير الواقع ، فدخل في حد الشيطنة ، فاستحق المقت الكبير عند الله ، بإضاعة استعداده ، واكتساب ما ينافيه من أضداده . وكذا الخلف ، لأنه قريب من الكذب ، ولأن صدق العزم وثباته من لوازم الشجاعة التي هي إحدى الفضائل اللازمة لسلامة الفطرة ، وأول درجاتها ، فإذا انتفت انتفى الإيمان الأصلي بانتفاء ملزومه ، فثبت المقت من الله . انتهى .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه ، قصد في { كَبُرَ } التعجب من غير لفظه . ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين . وأسند إلى { أَن تَقُولُواْ } ، ونصب { مَقْتاً } على تفسيره ، دلالة على أن قولهم مالا يفعلون مقت خالص ، لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه . واختير لفظ المقت ؛ لأنه أشد البغض وأبلغه ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً ، حتى جعل أشده وأفحشه . و { عِندَ اللَّهِ } أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدته .
قال الناصر : وزائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس ، وهو تكرار لقوله :
{ مَا لَا تَفْعَلُونَ } وهو لفظ واحد ، في كلام واحد . ومن فوائد التكرار التهويل والإعظام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [ 4 ]
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } قال القاشانيّ : لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله ، إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه . فأصل الشرك ومحبة الأنداد ، محبة النفس . فإذا سمح بالنفس ، كان غير محب لنفسه ، وإذا لم يحب نفسه فبالضرورة لم يحب شيئاً من الدنيا ، وإذا كان بذله للنفس في اللّهو وفي سبيله لا للنفس ، كما قال - ترك الدنيا للدنيا - كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء ، فكان من الذين قال فيهم : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم ، لقوله :
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، انتهى .
تنبيهات :
الأول : في ذكر هذه الآية عقيب مقت المخلف دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار ، فلم يفوا . انتهى .
وأيده الناصر من الوجهة البيانية بأن الأول كالبسطة العامة لهذه القصة الخاصة ، كقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [ الحجرات : 1 - 2 ] ، فالنهي العام ورد أولاً ، والمقصود اندراج هذا الخاص فيه ، كما تقول للمقترف جرماً معيناً : لا تفعل ما يلصق العار بك ، ولا تشاتم زيداً . وفائدة مثل هذا النظم النهي عن الشيء الواحد مرتين ، مندرجاً في العموم ، ومفرداً بالخصوص . وهو أولى من النهي عنه على الخصوص مرتين فإن ذلك معدود في حيز التكرار ، وهذا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل . انتهى .
الثاني : في " الإكليل " : قال إلكيا الهراسي : يحتج بقوله تعالى { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2- 3 ] في وجوب الوفاء بالنذر ، ونذر اللجاج . قال غيره : والوعود . انتهى .
قال ابن كثير : هو إنكار على من يعد وعداً ، أو يقول قولاً ، لا يفي به . ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً ، سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا . واحتجوا أيضاً من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان > . ولهذا أكد الله تعالى هذه الإنكار عليهم بقوله تعالى { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبي ، فذهبت لأخرج لألعب ، فقالت أمي : يا عبد الله ! تعال أعطك . فقال رسول الله صلى عليه وسلم : < وما أردت أن تعطيه > ؟ قالت : تمراً . فقال : < أما إنك لو لم تفعلي ، كُتبت عليك كذبة > .
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود ، وجب الوفاء به . كما قال لغيره : تزوج ولك عليّ كل يوم كذا . فتزوج . وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك ، لأنه تعلق به حق آدمي .
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقاً ، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم ، فلما فرض ، نكل عنه بعضهم ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 77 ] . وقال تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورة فَإِذَا أنزلت سُورة مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] الآية ، وهكذا هذه الآية معناها كما قال ابن عباس : كان ناس من المؤمنين ، قبل أن يفرض الجهاد ، يقولون : لوددنا أن الله عز وجل دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ، ولم يقروا به . فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين ، وشق عليهم أمره ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } وقيل : كان المسلمون يقولون : لو نعلم أي : الأعمال أحب إلى الله لأتيناه ، ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا ، فلما كان يوم أحد ، تولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى شج وكسرت رَباعيته ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } روي ذلك عن مقاتل بن حيان .
وقيل : نزل هذا توبيخاً لقوم من المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون . يقولون : لو خرجتم خرجنا معكم ، وكنا في نصركم ، وفي وفي . . . . . . روي ذلك عن ابن زيد .
وكل المروي هنا ما تشمله الآية .
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله : أي : الأعمال أحب إلى الله ؟ فلم يقم منا أحد ، فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة - يعني سورة الصف - كلها . ولفظ ابن أبي حاتم عن عبد الله بن سلام أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن ذلك . قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلاً رجلاً ، حتى جمعهم ، ونزلت فيهم هذه السورة - الصف - قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها .
وفي رواية ابن أبي حاتم هذه فائدة جليلة : وهي أن قول الصحابي نزلت هذه السورة ، بمعنى قرئت في الحادثة ، كما بيَّنَتْهُ الرواية قبله . والروايات يفسر بعضها بعضاً . وقد نبهنا على ذلك مراراً .
الثالث : في " الإكليل " في قوله :
{ كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } استحباب قيام المجاهدين في القتال صفوفاً كصفوف الصلاة ، وأنه يستحب سد الفُرَج والخلل في الصفوف ، وإتمام صف الأول فالأول ، وتسوية الصفوف قدماً بقدم ، لا يتقدم بعض على بعض فيها .
قال ابن أبي الفَرَس : واستدل بها على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان ؛ لأن التراص إنما يمكن منهم . قال : وهو ممنوع . انتهى .
وفي التشبيه وجهان آخران :
أحدهما : أن يكون المراد الثبات ورسوخ الأقدام في الموقف ، تنبيهاً على أن المتزلزل القدم ، والمضطرب في الموقف : دع من يعزم على الفرار ممن يمقته الله تعالى ، ولا تناله محبته .
ثانيهما : أن يكون المعنى به اجتماع الكلمة ، والاتفاق على تسوية الشأن مع العدوّ ، حتى يكونوا في الاتحاد وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص . وقد أشار لهذين الوجهين الرازيّ . وهما أقرب من الأول ، لتقويتهما لمعنى طليعة السورة ، من الثبات على الوعد والوفاء به ، والعتب على من يخلف فيه ، كما تقدم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 5 ]
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } أي : لم توصلون إليّ الأذى بالمخالفة والعصيان لما آمركم به ، وأنتم تعلمون علم اليقين صدقي فيما جئتكم به من الرسالة ، لما شاهدتم من الآيات البينات ؟ ومقتضى علمكم ذلك ، تعظيمي وإطاعتي ، لأن من عرف الله وعظمته ، عظَّم رسوله ، لأن تعظيمه في تعظيم رسوله .
قال ابن كثير : وفي هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر . ولهذا قال صلوات الله عليه : < رحمة الله على موسى ! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر > . وفيه نهي للمؤمنين أن يوصلوا له ، صلوات الله عليه أذى ، كما قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } [ الأحزاب : 69 ] ، انتهى .
وقال أبو السعود : هذا كلام مستأنف ، مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال . و { إِذَ } منصوب على المفعولية بمضمر . خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين . أي : واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال ، وقت قول موسى لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة ، بقوله : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ] ، فلم يمتثلوا أمره ، وعصوه أشد عصيان ، حيث قالوا : { يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [ المائدة : 22 ] ، إلى قوله : { اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، وأصروا على ذلك ، وآذوْه عليه الصلاة والسلام ، كل الأذية . هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ، ويرتضيه الذوق السليم . وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية ، من أنهم كانوا يؤذونه بأنواع الأذى ، من انتقاصه وعيبه في نفسه وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، فمما لا تعلق له بالمقام . انتهى ملخصاً . وملخصه : أن المقام يعيّن نوع الأذية ويخصصها ، والقرينة إحدى مخصصات العامّ ، إلا أن أخذها عامة أعظم في التسلية وأولى ، وقوفاً مع عموم اللفظ الكريم .
{ فَلَمَّا زَاغُوا } أي : عن مقتضى علمهم لفرط الهوى ، وحب الدنيا { أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي : عن طريق الهدى ، وحجبهم عن نور الكمال ، لصرف اختيارهم نحو الغي والضلال { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق ، المصرّين على الغواية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 6 ]
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : التي أنزلت على موسى ، وذلك مما يدعو إلى تصديقه عليه السلام .
{ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الدلالات التي آتاها الله إياه ، حججاً على نبوته ، { قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : بيّن .
والإشارة إلى ما جاء به أو إليه صلى الله عليه وسلم ، وتسميته سحراً مبالغة . يريد عليه السلام : أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ، ممن تقدم وتأخر .
تنبيهات :
الأول : نقل الرازي وغيره مصداق هذه الآية من الإنجيل الموجود بين أيديهم . وذلك في "إنجيل يوحنا" ، في الباب الرابع عشر ، هكذا :
إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد - كما في النسخة المطبوعة سنة 1821و1831 و1833 بمدينة لندن - وفارقليط يونانية ، ولفظها الأصلي بيركلوط ، ومعناه :
محمد أو أحمد ، كما بينه صاحب " إظهار الحق " .
وذكرت جريدة المؤيد عدد ( 3284 ) صفح ة *تحت عنوان : لا يعدم الإسلام منصفاً :
وقال مسيو مارسيه من مدرسة اللغات الشرقية ، ما يأتي :
إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلاميّ ، واسم محمد جاء من مادة حمد . ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسماً من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد ، وهو أحمد ، لتسمية البراكلية به ، ومعنى أحمد صاحب الحمد ، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا بأن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي محمد . وقد أشار القرآن نفسه إلى هذا بقوله عن المسيح : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ }
وقد قال اسبرانجيه : إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة " إنجيل يوحنا " حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم . انتهى بالحرف .
وأما " إنجيل برنابا " ففيه العبارات الصريحة المتكررة ، بل الفصول الضافية الذيول ، التي يذكر فيها اسم محمد في عرضها ذكراً صريحاً ، ويقول : إنه رسول الله .
وقد نقل الشيخ محمد بيرم عن رحالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب الباباوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها يقول المسيح :
{ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } وذلك موافق لنص القرآن الكريم بالحرف . وقد بدل الرهبان نقط الفارقليط في المطبوعات الأخيرة بـ " المعزّي " .
قال بعضهم : ولا عجب من هذه التحريفات المتجددة بتجدد الطبعات ، فإنها سجية القوم في كتبهم المقدسة .
~سجيةٌ تلك فيهم غير محدثَة
الثالث : قال الإمام ابن القيم في " جلاء الأفهام " : الفرق بين محمد وأحمد من وجهين :
أحدهما : أن محمداً هو المحمود حمداً بعد حمد ، فهو دالّ على كثرة حمد الحامدين له ، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه ، و أحمد أفعل تفضيل من الحمد ، يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره . فمحمد زيادة حمد في الكمية ، وأحمد زيادة في الكيفية ، فيحمد أكثر حمد ، وأفضل حمد حمده البشر .
والوجه الثاني : أن محمداً هو المحمود حمداً متكرراً كما تقدم ، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره . فدل أحد الاسمين - وهو محمد - كونه محموداً . ودل الاسم الثاني - وهو أحمد - على كونه أحمد الحامدين لربه ، وهذا هو القياس ، فإن أفعل التفضيل والتعجب عند جماعة البصريين لا يبنيان إلا من فعل الفاعل ، لا من فعل المفعول ، ذهاباً إلى أنهما إنما يصاغان من الفعل اللازم لا المتعدي ونازعهم آخرون وجوزوا بناءهما من الفعل الواقع على المفعول ، لقول العرب : ما أشغله بالشيء .
إلى أن قال : والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم سمي محمداً وأحمد ، لأنه يحمد أكثر ما يُحمد غيره ، وأفضل مما يحمد غيره . فالاسمان واقعان ، على المفعول ، وهذا هو المختار . وذلك أبلغ في مدحه ، وأتم معنى . ولو أريد به اسم الفاعل لسميّ الحمّاد وهو كثير الحمد ، كما سمي محمداً ، وهو المحمود كثيراً . فإنه صلى الله عليه وسلم < كان أكثر الخلق حمداً لربه > ، فلو كان اسمه باعتبار الفاعل ، لكان الأولى أن يسمى حمّاداً ، كما أن اسم أمته الحمّادون . وأيضاً فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحموده التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً و أحمد ، فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة ، ويحمده أهل السماوات والأرض ، فلكثرة خصائله التي تفوت عدّ العادّين سمي باسمين من أسماء الحمد ، يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 7 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ } أي : لا أحد أظلم وأشد عدواناً ممن يدعى إلى الإسلام الظاهر حقيقته ، المسعد له في الدارين ، فيستبدل إجابته بافتراء الكذب ، واختلاقه على الله ، وذلك قوله لكلامه تعالى : سحر ، ولرسوله : ساحر ، وهذه الآية إما مستأنفة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، طليعة للآيات بعدها ، وإما متممة لما قبلها ، لتقبيح ما بهت به الإسرائيليون عيسى عليه السلام مع الإشارة بعمومها إلى ذم كل من كان على شاكلتهم . ولا يقال : { الإِسْلاَمُ } يؤيد الأول ، لأنه عنوان الملة الحنيفية ، لأنه قد يراد به معناه اللغوي . وقد كثر ذلك في آيات شتى ، نعم الأقرب الأول ، واحتمال مثل الآية لهذين الوجهين ، مع بدائع التنزيل .
{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بما أنزل من الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ 8 ]
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } قال ابن جرير : أي : يريد هؤلاء القائلون لمحمد صلى الله عليه وسلم : هذا ساحر ، ليبطلوا الحق الذي جاء به بقولهم : إنه ساحر ، وما جاء به سحر ، والله معلن الحق ، ومظهر دينه ، وناصر رسوله على من عاداه ، فذلك إتمام نوره . انتهى .
ف { نُورَ اللّهِ } استعارة تصريحية لدينه ، و الإطفاء ترشيح ، أو التركيب استعارة تمثيلية ، مثلت على حالهم في اجتهادهم في إبطال الحق ، بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ، تهكماً وسخريةً بهم ، كما يقول الناس : هو يطين عين الشمس والثاني أبلغ وألطف ، وهو مختار الزمخشري .
وفي لام { لِيُطْفِؤُوا } مذاهب للنحاة مقررة في المطولات ، ومن أشهرها أنها مزيدة لتأكيد معنى الإرادة ، لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ 9 ]
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } قال ابن جرير : أي : على كل دين سواه . وذلك عند نزول عيسى ابن مريم ، وحين تصير الملة واحدة ، فلا يكون دين غير الإسلام .
وقال الزمخشري : أي : ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ، ولعمري لقد فعل ، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام ، وتقدم في آخر سورة الفتح في مثل هذه الآية تحقيق آخر ، فليراجع .
{ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أي : لما فيه من محض التوحيد ، وإبطال الشرك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 10 - 13 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : إيماناً يقينياً لا يشوبه أدنى شك { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : من أهل العلم . أو أنه خير . فإن قيل : إن ذلك خير بنفسه علموا أولاً ، وأيضاً أن علمهم محقق ، إذ الخطاب مع المؤمنين . فالجواب ما قاله الناصر : أن الشرط ليس على حقيقته ، بل هو من وادي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] . والمقصود بهذا الشرط التنبيه على المعنى الذي يقتضي الامتثال ، وإلهاب الحمية للطاعة ، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه : إن كنت حراً فانتصر . تريد أن تثير فيه حمية الانتصار لا غير . انتهى .
وقوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر . أو لشرط أو استفهام ، دل عليه الكلام تقديره : إن تؤمنوا وتجاهدوا . أو هل تقبلون أن أدلكم ، يغفر لكم { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : بساتين إقامة لا ظعن عنها { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : النجاء العظيم من نكال الآخرة وأهوالها .
{ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي : عاجل . وهو فتح مكة . وهذا يدلّ على أن السورة نزلت قبل فتح مكة بقليل . وكان القصد منها تشجيع المؤمنين على قتال محاربيهم ، والثبات أمامهم ، والتحذير عن الزيغ عن ذلك ، والترغيب في السخاوة ببذل الأنفس والأموال ، في سبيل الحق ، لإعلاء شأنه ، وإزهاق الباطل . و { أُخْرَى } مفعول لمقدر معطوف على الجوابين قبله ، وهو جواب ثالث . أي : ويؤتكم أخرى أو صفة لمبتدأ مقدّر ، وخبره محذوف . وهو لكم ، أي : ولكم إلى هذه النعمة المذكورة ، نعمة أخرى عاجلة محبوبة ، وهي نصر من الله لكم على أعدائكم ، وفتح قريب يعجّله لكم .
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بنصره تعالى لهم وفتحه . ومن منع من النحاة عطف الإنشاء على الخبر يقول : و { بَشِّرِ } معطوف على { تُؤْمِنُونَ } ، لأنه بمعنى آمنوا . وضعّف بأن المخاطب بـ { تُؤْمِنُونَ } المؤمنون ، وب { بَشِّرِ } النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن { تُؤْمِنُونَ } بيان لما قبله ، و { بَشِّرِ } لا يصلح لذلك . وأجيب بأنه لا مانع من العطف على الجواب ، ما هو زيادة عليه إذا ناسبه . وهذا أولى على الوجوه عند صاحب " الكشف " ، كتقدير : أبشر يا محمد ، و { بَشِّرِ } ، وتقدير : قل قبل { يَا أَيُّهَا } وجعل { بَشِّرِ } أمراً بمعنى الخبر ، كما في قوله : أبطئي أو أسرعي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [ 14 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ } أي : أنصار الحق الذي أنزله وأمر به ، { كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ } أي : من معي وجندي متوجهاً إلى نصرة الله ، { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ } أي : ننصر دينه ، وما أمر به ، وندعو إليه ، ونضحّي لأجله حياتنا ، { فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : بعيسى عليه السلام ، ونهضت تدعوا إلى ما بعث به ، وتنشر دعوته ، { وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ } أي : برسالته والحق الذي معه ، { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } من اليهود والرومان الوثنيين ، و { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } أي : غالبين عليهم بالبراهين الواضحة ، والحجج الظاهرة ، والسلطة القاهرة ، وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم ، ما داموا متناصرين على الحق ، مجتمعين عليه ، غير متفرقين عنه ولا متخاذلين ، كما وقع لسلفهم ، اتفقوا فملكوا ، وإلا فإذا تفرقوا هلكوا .
لطيفة :
ليس التشبيه على ظاهره ، من تشبيه كون المؤمنين أنصار الله بقول عيسى ، إذ لا وجه لتشبيه الكون بالقول ، بل هو مؤول بجعل التشبيه باعتبار المعنى ، إما على تقدير : قل لهم ، كما قال عيسى ، لظهوره فيه ، وانصباب الكلام إليه ، أو تقدير : كونوا أنصار الله ، كما كان الحواريون حين قال لهم عيسى : من أنصاري إلى الله ؟
قال الشهاب : فـ { مَا } مصدرية ، وهي مع صلتها ظرف ، والأصل : ككون الحواريين أنصاراً وقت قول عيسى . ثم حذف المظروف ، وأقيم ظرفه مقامه . وقد جعلت الآية من الاحتباك . والأصل : كونوا أنصار الله حين قال لكم النبيّ : من أنصاري إلى الله ؟ كما كان الحواريون أنصار الله ، حين قال لهم منهما ، أنصاري إلى الله ؟ فحذف من كل منهما ، ما دل عليه المذكور في الآخر . وهو كلام حسن . انتهى .

(/)


سورة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 1 - 2 ]
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ } أي : العرب ، { رَسُولاً مِّنْهُمْ } أي : من أنفسهم ، أمياً مثلهم ، { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } أي : مع كونه أمياً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولا تعلم ، { وَيُزَكِّيهِمْ } أي : من خبائث العقائد والأخلاق ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : القرآن والسنة { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي : جور عن الحق ، وانحراف عن سبيل الرشد . وهو بيان لشدة افتقارهم إلى نبي يرشدهم .
قال ابن كثير : فبعثه الله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وذلك أن العرب كانوا قديماً متمسكين بدين إبراهيم عليه السلام فبدّلوه وغيروه ، واستبدلوا بالتوحيد شركاً ، وباليقين شكاً ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله . وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوه, فيأولوها ، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق ، فيه هدايتهم ، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ، ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى ، حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب ، في الأصول والفروع ، وجمع له تعالى - وله الحمد والمنة - جميع المحاسن فيمن كان قبله ، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين ، ولا يعطيه أحداً من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين . انتهى .
وإنما أوثرت بعثته صلوات الله عليه في الأميين ، لأنهم أحدُّ الناس أذهاناً ، وأقواهم جناناً ، وأصفاهم فطرة ، وأفصحهم بياناً ، لم تفسد فطرتهم بغواشي المتحضرين ، ولا بأفانين تلاعب أولئك المتمدنين ، ولذا انقلبوا إلى الناس بعد الإسلام بعلم عظيم ، وحكمة باهرة ، وسياسة عادلة ، قادوا بها معظم الأمم ، ودوخوا بها أعظم الممالك . وإيثار البعثة فيهم - بمعنى إظهارها فيهم - لا ينافي عموم الرسالة ، كما قال سبحانه :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] . وقوله :
{ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] وهو ظاهر قوله :=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...