روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 1. و2. تفسير القاسمي المسمى (محاسن التأويل)

 

1. مجلد 1.محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي؛ محاسن التأويل.

القول في تأويل قوله تعالى :
{ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ 1 ]
قال الإمام ابن جرير : إنَّ الله تعالى ذكره ، وتقدست أسماؤه ، أدّب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسماءه الحسنى أمام جميع أفعاله ، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته ، وجعل - ما أدّبه به من ذلك ، وعلّمه إياه - منه لجميع خلقه : سنة يستنون بها ، وسبيلاً يتبعونه عليها ، في [ في المطبوع : فبه ] افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم ، حتى أغنت دلالة ما ظهر ، من قول القائل : بسم الله ، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف ، وذلك أن الباء مقتضية فعلاً يكون لها جالباً ، فإذا كان محذوفاً يقدّر بما جُعلت التسمية مبدأ له .
والاسم هنا بمعنى التسمية - كالكلام بمعنى التكليم ، والعطاء بمعنى الإعطاء - والمعنى : أقرأ بتسمية الله وذكره ، وافتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى . و : { اللَّهُ } علم على ذاته ، تعالى وتقدس ؛ قال ابن عباس : هو الذي يألهه كل شيء ويعبده ، وأصله : إلاه ؛ بمهنى مألوه أي : معبود ، فلما أُدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام ، وبعد الإدغام فخّمت تعظيماً - هذا تحقيق اللغويين . و : { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } قال الجوهري : هما اسمان مشتقان من الرحمة ، ونظيرهما في اللغة : نديم وندمان ؛ وهما بمعنى . ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد ، كما يقال : جادّ مجد إلا أن : { الرَّحْمَنُ } اسم متخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره . ألا ترى أنه قال : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره .
وقد ناقش في كون : { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } بمعنى واحد ، العلامة الشيخ محمد عبده المصري في " مباحثه التفسيرية " قائلاً : إن ذلك غفلة ، نسأل الله أن يسامح صاحبها - ثم قال : - وأنا لا أجيز لمسلمٍ أن يقول ، في نفسه أو بلسانه : إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها ، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود .
والجمهور : على أن معنى الرحمن : المنعم بجلائل النعم ، ومعنى الرحيم : المنعم بدقائقها . وبعضهم يقول : إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم ، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين ، وكل هذا تحكم باللغة مبنيٌّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقاً ، فصيغة : { الرَّحْمَنُ } تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه ، سواء كان جليلاً أو دقيقاً ، وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفاً أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفاً ، فهو غير معنيّ ولا مراد ، وقد قارب من قال : إن معنى : { الرَّحْمَنُ } المحسن بالإحسان العام . ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين ، ولعل الذي حمل من قال : إن الثاني مؤكد للأول - على قوله هذا - وهو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة ، مع عدم التفطن لما هو أحسن منه ، ثم قال : والذي أقول : إن لفظ : رحمن ؛ وصفٌ فعليٌّ فيه معنى المبالغة - كفعّال - ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة - كعطشان وغرثان وغضبان - وأما لفظ : رحيم ؛ فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة ، كالأخلاق والسجايا في الناس - كعليم وحكيم وحليم وجميل - والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين .
فلفظ : { الرَّحْمَنُ } ديل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان ، ولفظ : { الرَّحِيْمُ } يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان ، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة ، وبهذا المعنى لا يستغني بأحد الوصفين عن الآخر ، ولا يكون الثاني مؤكداً للأول ، فإذا سمع العربيّ وصف الله جل ثناؤه بـ : { الرَّحْمَنُ } ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلاً ، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائماً - لأن الفعل قد ينقطع إذا كان عارضاً لم ينشأ عن صفة لازمة ثابتة - فعندما يسمع لفظ [ الرحيم ] يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 2 ]
{ الْحَمْدُ للّهِ } أي : الثناء بالجميل ، والمدح بالكمال ثابت لله ، دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه . واللام في : { الْحَمْدُ } للاستغراق أي : استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيماً وتمجيداً - كما في الحديث : < اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله > .
قال الإمام ابن القيم في " طريق الهجرتين " : الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان . فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده ، فهو محمود في ملكه ، وله الملك والقدرة مع حمده ، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدراته ، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته ، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه ، وأمره لينبَّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده . فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به ، حمد شكر وعبودية ، وحمد ثناء ومدح ، ويجمعهما التبارك ، { تَبَارَكَ اللَّهُ } يشمل ذلك كله ، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] . فالحمد أوسع الصفات واعم المدائح . والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة ، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته ، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جداً ، لأن جميع أسمائه ، تبارك وتعالى حمدٌ ، وصفاته حمدٌ ، وأفعاله حمد ، وأحكامه حمد ، وعدله حمد ، وانتقامه من أعدائه حمد ، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد ، والخلق والأمر إنما قام بحمده ، ووجد بحمده ، وظهر بحمده ، وكان الغاية هي حمده ، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله ، فحمده روح كل شيء ، وقيام كل شيء بحمده ، وسريان حمده في الموجودات ، وظهور آثاره فيه أمرٌ مشهود بالأبصار والبصائر - ثم قال - : وبالجملة فكل صفة علياء ، واسم حسن ، وثناء جميل ، وكل حمدٍ ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها ، وجميع ما يوصف به ، ويذكر به ، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس ، فسبحانه وبحمده لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناء عليه .
{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الرب يطلق على السيد المطلق ، وعلى المصلح ، وعلى المالك - تقول : ربَّه يرُبُّه فهو ربّ كما تقول : نمّ عليه ينمّ فهو نمّ - فهو صفة مشبهة ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى التربية ، وهي : تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل ، والرب - باللام - لا يقال إلا لله عز وجل . وهو في غيره على التقييد بالإضافة - كرب الدار - ومنه قوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] .
و : { الْعَالَمِينَ } جمع عالم وهو : الخلق كله وكل صنف منه ، وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس ، والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } [ 3 ]
إيرادهما عقد وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ 4 ] .
قرأ عاصم والكسائي بإثبات ألف : { مَاْلِك } والباقون بحذفها . قال الزمخشري : ورجحت قراءة : { مَلِكِ } لأنه قراءة أهل الحرمين ، وهم أولى الناس بأن يقرأوا القرآن غضاً طرياً كما أنزل ، وقراؤهم الأعلون رواية وفصاحة ، ولقوله تعالى : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة ، والقرآن يتعاضد بعضه ببعض ، وتتناسب معانيه في المراد [ في المطبوع : المواد ] . وثمة مرجحات أخرى .
وقال بعضهم : إن قراءة : { مالك } أبلغ ، لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ، ولا تصرّف له بشيء من شؤونهم الخاصة . وتظهر التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان ، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شؤونه دون سلطانه ، ومن وجوه تفضيلها : إنها تزيد بحرف ، ولقارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات كما رواه الترمذي عن ابن مسعود بإسناد صحيح ، وكلاهما صحيح متواتر في السبع .
و : { الدِّينِ } الحساب والمجازاة بالأعمال . ومنه : < كما تدين تدان > أي : مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين ، وتخصيصه بالإضافة إمّا لتعظيمه وتهويله ، أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر وفصل القضاء فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ 5 ]
قال الطبري : أي : لك ، اللهم نخشع ونذل ونستكين . إقراراً لك بالربوبية لا لغيرك - قال - والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة ، وأنها تسمِّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام ، وذلّلته السابلة : معبّداً ، ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج : مبعبّد ، ومنه سمي العبد : عبداً ؛ لذلته لمولاه انتهى .
وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده . أعني : أن لا يشرك شيئاً ما معه ، لا في محبته كمحبته ، ولا في خوفه ، ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقريب ، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الارض والسماوات وحده ، وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب ، فلا بد أن يكون العابد محبّاً للإله المعبود كمال حب ، ولا بد أن يكون ذليلاً له كمال الذل ، وهما لا يصلحان إلا كله وحده . فهو الإله المستحق للعبادة ، الذي لا يستحقها إلا هو ، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلا هو ، تعالى . وقد أشار لذلك تقديم المفعول ، فإن فيه تنبيهاً على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة ، وإسلامه وجهه لله وحده ، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى الله عليه سُلَيم عليهم ، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم ، متشاكسين في وجهتهم : منهم من يعبد الشمس والقمر ، ومنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار . . . إلى غير ذلك ، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ } [ فصلت : 37 ] الآية . وفي قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] . وفي قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] الآية . وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً } [ آل عِمْرَان : 80 ] الآية . وفي قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [ االنجم : 19 - 20 ] . وحديث أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط ، فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الله أكبر ، إنها السَّنَن ، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } إلى قوله : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138 - 140 ] > رواه الترمذي وصححه .
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان في قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] ، فروى الإمام أحمد والترمذي عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } الآية ، فقلت له : إنا لنسا نعبدهم ، قال : < أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمون ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ > فقلت : بلى قال : < فتلك عبادتهم > .
فالعبادة أنواع وأصناف ، ولا يتم الإيمان إلا بتوحيدها كلها لله سبحانه . وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة ؛ أي : ركنها المهم الأعظم ، وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } [ غافر : 60 ] . فمساه عُبَاْدَة . وفي الخبر : < الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل > .
قال شمس الدين بن القيم : ولهذا كان العبد مأموراً في كل صلاة أن يقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } والشيطان يأمر بالشرك ، والنفس تطيعه في ذلك ، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله ، إما خوفاً منه ، أو رجاءً له ، فلا يزال العبد مفتقراً إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك ، ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه ، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً ، يحبه ، ويخافه ، ويرجوه ، يذل ، ويخضع له ، ويهرب من سخطه ، ويؤثر مرضاته ، والمؤثر لا يرضى بإيثاره انتهى .
فائدة : قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : فالأول تبرؤٌ من الشرك ، والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة ، والتفويض إلى الله عز وجل ، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ الصافات : 23 ] { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ 6 ]
أي ألهمنا الطريق الهادي ، وأرشدنا إليه ، ووفقنا له
قال الإمام الراغب في تفسيره : الهداية دلالة بلطف ، ومنه الهداية ، وهوادى الوحس ، وهي متقدماتها لكونها هادية لسائرها ، وخص ما كان بفعلت نحو : هديته الطريق ، وما كان من الإعطاء بفعلت نحو : أهديت الهدية . ولما يصور العروس على وجهين : قيل فيه : هديت وأهديت . فإن قيل : كيف جعلت الهدى دلالة لطف وقد قال تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 23 ] وقال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [ الحج : 4 ] . قيل : إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال :
~وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ !
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً ، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض ، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول ، ولا الثالث إلا بعد الثاني ، فأول المنازل إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيراً وإما طوعاً - كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية ، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات ، وبعض خصّ به الْإِنْسَاْن ، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ، وقوله تعالى : { الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم ، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [ النحل : 68 ] ، وقوله تعالى : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] ، وقال في الْإِنْسَاْن بما أعطاه من العقل ، وعرفه من الرشد : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } [ الْإِنْسَاْن : 3 ] وقال : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، وقال في ثمود : { فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] .
وثانيهما الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام . وإياها عنى بقوله تعاى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ السجدة : 24 ] . وبقوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، وهذه الهداية تنسب تارة إلىالله عز وجل ، وتارة إلى النبي عليه السلام ، وتارة إلى القرآن . قال الله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] .
وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات ، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [ الحج : 24 ] . وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] وقوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . وهذه الهداية هي المعنية بقوله : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد .
ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال : و آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها . ويصح أن يقال : اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم . فمن قصد سلطاناً مسترفداً فأعطاه ، يصح أن يقال : إن السلطان خوله . ويصح أن يقال : فلان اكتسب بسعيه ، ولانطواء ذلك على الأمرين ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [ يونس : 9 ] . فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا . وهذه الهداية يصح أن يقال : هي مباحة للعقلاء كلهم ، ويصح أن يقال : هي محظورة إلا على أوليائه ، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها ، ومن ذلك قيل : إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الْإِنْسَاْن بشكل مخصوص ، بتقديم عبادات . وقد قال بعض المحققين : الهدى من الله كثير ، ولا يبصره إلاالبصير ، ولا يعمل به إلا اليسير . ألا ترى أن نجوم أسماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء . وقال بعض الأولياء : إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيلٍ مرّ على قِلات وغدران ، فيتناول كل قُلُتٍ منها بقدر سعته - ثم تلا قوله - : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] وقال بعضهم : هي كمطرٍ أتى على أرضين فينفع [ في المطبوع : فينتفع ] كلَّ أرضٍ بقدر ترشيحها للانتفاع به .
والمنزلة الرابعة : من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد ، وإياها عنى الله بقوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } [ الأعراف : 43 ] . فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا يُنْفى عن أحد بوجه . ومنها ما يُنفى عن بعض ، ويثبت لبعض ، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . وقال : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [ البقرة : 272 ] . وقال : { وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ } [ الروم : 53 ] . فإنه عنى الهداية - التي هي التوفيق وإدخال الجنة - دون التي هي الدعاء لقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] . وقال في الأنبياء : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 73 ] .
فقوله : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } فسر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة :
الأول : أنه على الهداية العامة ، وأمر أن ندعو بذلك - وإن كان هو قد فعله لا محالة - ليزيدنا ثواباً بالدعاء ، كما أمرنا أن نقول : اللهم صل على محمد .
الثاني : قيل : وفقنا لطريق الشرع .
الثالث : احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات ، واعصمنا من الشبهات .
الرابع : زدنا هدى استنجاحاً لما وعدت بقولك : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . وقولك : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] .
الخامس : قيل : علمنا العلم الحقيقي فذلك سبب الخلاص ، وهو المعبر عنه بالنور في قوله : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } [ النور : 35 ] .
السادس : قيل : هو سؤال الجنة ، لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [ محمد : 4 - 5 ] . وقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [ يونس : 9 ] . فهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها ، والجميع يصح أن يكون مراداً بالآية - إذ لا تنافي بينها - وبالله التوفيق . [ اهـ ] كلام الراغب .
وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم ، وأن الوجوه المأثورة في آية ما - إذا لم تتناف - صح إرادتها كلها ، ومثل هذا يسمى : اختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد .
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم ، نأثره عنه هنا ، لما فيه من الفوائد الجليلة ، قال رحمه الله :
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين :
أحدهما ليس فيه تضاد وتناقض ، بل يمكن أن يكون كل منهما حقاً ، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات ، وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب ، فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسماً مثل قوله : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } فكل المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة تدل بها على بعض صفاته ، وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء ، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته ، فيقول بعضهم : الصراط المستقيم كتاب الله ، أو أتباع كتاب الله . ويقول الآخر : الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام . ويقول الآخر : الصراط المستقيم هو السنة والجماعة . ويقول الآخر : الصراط المستقيم طريق العبودية ، أو طريق الخوف والرضا والحب ، امتثال المأمور ، واجتناب المحظور ، أو متابعة الكتاب والسنة ، أو العمل بطاعة الله ، أو نحو هذه الأسماء والعبارات ، ومعلوم أن المسمى هو واحد ، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته ، وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه .
ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ والحصر - مثل أن يقول قائل من العجم : ما معنى الخبز ؟ فيشار له إلى رغيف - وليس المقصود مجرد عينه ، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلاً . وهذا كما إذا سئلوا عن قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [ فاطر : 32 ] . أو عن قوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] . أو عن الصالحين أو الظالمين ، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسر أو يتعذر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه ؛ إذ لا يكون محتاجاً إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه ، وقد يستدل به على نظائره . فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور ، والمتقصد هو فاعل الواجب وتارك المحرم ، والسابق هو فاعل الواجب والمستحب ، وتارك المحارم والمكروه . فيقول المجيب بحسب حاجة السائل : الظالم الذي يفوّت الصلاة ، أو الذي لا يسبغ الوضوء ، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك . والمقتصد الذي يصلي في الوقت - كما أمر - والسابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها ويأتي بالنوافل المستحبة معها ، وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم الحج وسائر الواجبات .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أوجه :
تفسير تعرفه العرب من كلامها .
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته .
وتفسير يعلمه العلماء .
وتفسير لا يعلمه إلا الله ، فمن ادعى علمه فهو كاذب .
والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السنة ، وإن كان من الناس من غيّر السنة ، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن - إذ لم يتمكن من تغيير لظفه ، وأيضاً فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن ، كما خفي عليه بعض السنة ، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب والله أعلم .
وتقدم في مقدمة الكتاب بسطٌ لهذا البحث فارجع إليه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً في تحقيق هذه الآية :
كل عبد مضطر دائماً إلى مقصود هذا الدعاء ، وهو هداية الصراط المستقيم ، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ، ولا وصول إلى السعادة إلا به ، فمن فاته هذا الهدى فهو : إما من المغضوب عليهم ، وإما من الضالين ، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله : { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] . فإن الصراط المستقيم : أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ، ولا تفعل ما نهيت عنه ، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم : ما أمر به في ذلك الوقت ، وما نهى عنه ، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور ، وكراهة لترك المحظور . والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن والإسلام وطرق العبودية ، وكل هذا حق ، فهو موصوف بهذا وبغيره ، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته ، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر ، فإن الله يرزقه ، وإن انقطع رزقه مات -والموت لا بد منه - فإن كان من أهل الهداية ، كان سعيداً بعد الموت ، وكان الموت موصلاً له إلى السعادة الدائمة الأبدية ، فكيون رحمة في حقه ، وكذلك النصر - إذا قدّر أنه قُهر وغُلب حتى قُتل - فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيداً ، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه ، فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر ، بل لا نسبة بينهما فلهذا كان هذا الدعاء مفروضاً عليهم في الصلوات - فرضها ونفلها - وأيضاً فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] وكان من المتوكلين : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [ الطلاق : 3 ] ، وكان ممن ينصر [ في المطبوع : ينصره ] الله ورسوله ، ومن ينصر الله ينصره ، وكان من جند الله ، وجند الله هم الغالبون . فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر ، فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة ، وتندفع به كل مضرة .
فائدة : الصراط المستقيم : أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، ولا انحراف ، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة ، فالطرق الواضح للحسّ ، كالحق للعقل ، في أنه : إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ 7 ]
أي بطاعتك وعبادتك ، وهم المذكورون في قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] .
{ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال الأصفهاني : وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم ، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة ، بل ذلك نعمة خاصة ، ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين : كل من جاد عن جادة الإسلام من أي : فرقة ونحلة ، وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها ، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم : لا أعلم بين المفسرين اختلافاً في أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى .
فوائد :
الأولى : يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين ؛ ومعناه : اللهم استجب ، أو كذلك فليكن ، أو كذلك فافعل : وليس من القرآن . بدليل أنه لم يثبت في المصاحف ، والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي عن وائل بن حجر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } فقال : < آمين > مدَّ بها صوته . ولأبي داود : رفع بها صوته . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن علي وأبي هريرة ، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم [ ؟ ؟ ؟ كذا في المطبوع ] .
وعن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } . قال : < آمين > حتى يسمع من يليه من الصف الأول . رواه أبو داود .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا أمّن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملاكئة غفر الله له ما تقدم من ذنبه > .
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً : < إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا : آمين يجبكم الله > .
الثانية : في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم .
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت - وهي سبع آيات - علىحمد الله تعالى وتمجيده ، والثناء عليه : بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له ، وتوحيده بالألوهية ، تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم - وهو الدين القويم - وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون .
قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره : الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ، ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم : إن أسرار القرآن في الفاتحة ، وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه ، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى إعدام القرآن خاصته ، وهي البيان - قال - وبيان ما أريد : أن ما نزل القرآن لأجله أمور :
أحدها التوحيد : لأن الناس كانوا كلهم وثنيين - وإن كان بعضهم يدعي التوحيد - .
ثانيها : وعد من أخذ به ، وتبشيره بحسن المثوبة ، ووعيد من لم يأخذ به ، وإنذاره بسوء العقوبة ، والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد ، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما ، والوعيد - كذلك - يشمل نقمهما وشقاءهما ، فقد وعد الله المؤمنين : بالاستخلاف في الأرض ، والعزة ، والسلطان ، والسيادة ، وأوعد المخالفين ، بالخزي والشقاء في الدنيا ، كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم .
ثالثها : العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس .
رابعها : بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه ، الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة .
خامسها : قصص من وقف عند حدود الله تعالى ، وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهرياً لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين .
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها اجمالاً بغير ما شك ولا ريب .
فأما التوحيد ففي قوله : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ، ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ولفظ رب : ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء ، وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عز وجل ، فليس في الكون متصرف بالإيجاد والإشقاء ، والإسعاد سواه ، ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين ، ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه ، بل استكمله ، وبقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم ، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السطلة الغيبية ، يُدعون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى ، وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال .
وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطوي في : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فذكر الرحمة في اول الكتاب ، وهي التي وسعت كل شيء ، وعدٌ بالإحسان - لاسيما وقد كررها مرة ثانية - تنبيهاً لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعباده رحمة منه سبحانه بنا ، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا . وقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يتضمن الوعد والوعيد معاً ، لأن معنى الدين الخضوع ، أي : إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق ، والسيادة التي لا نزاع فيها ، لا حقيقة ولا ادعاء ، وإن العالم كله يكون فيه خاضعاً لعظمته - ظاهراً وباطناً - يرجو رحمته ، ويخشى عذابه ، وهذا يتضمن الوعد والوعيد ، أو معنى الدين الجزاء وهو : إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعدٌ ووعيد ، وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك : { الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكبه هلك ، وذلك يستلزم الوعد والوعيد .
وأما العبادة ، فعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعين } ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } أي : إنه قد وضع لنا صراطاً سيبينه ويحدده ، ويكون مناطُ السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاء في الانحراف عنه ، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة ، ويشبه هذا قوله تعالى : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] . فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها ، وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله ، وهيبته ، والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعلٍ وكفّ وحركات اللسان والأعضاء . فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها ، والصيام وأيامه ، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية ، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلاً ما ، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة ، ومخ العبادة الفكر والعبرة ، وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } تصريح بأن هنالك قوماً تقدموا ، وقد شرع الله شرائع لهدايتهم ، وصائح يصيح ألا فانظروا في الشؤون العامة التي كانوا عيها واعتبروا بها ، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . حيث بين أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } تصريح بأن من دون المنعَم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ، وفريق جاحده ، وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفاً بالغضب الإلهي ، والخزي في هذه الحياة الدنيا ، وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة ، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق ، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله .
فتبين من مجموع ما تقدم : أن الفاتحة قد اشتملت إجمالاً على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلاً . فكان إنزالها أولاً موافقاً لسنة الله تعالى في الإبداع ، وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى : أم الكتاب .
الثالثة : مما صح في فضلها من الأخبار : ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال :
كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه . فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . فقال : < ألم يقل الله : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] > - ثم قال لي : < لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ > ثم أخذ بيدي ، فملا أراد أن نخرج ، قلت : يا رسول الله ألم تقل : < لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن > . قال :
< الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته > .
وروي الإمام أحمد والترمذي بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة ، نحوه ، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب ، وفي آخره :
< والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها ، إنها السبع المثاني > .
واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض ، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي وابن الحصار [ في المطبوع : ابن الحضار ] من المالكية ، وذلك بين واضح .
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : كنا في مسير لنا فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سَلِيْم ، وإن نَفَرنا غَيْبٌ ، فهل منكم واق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأْبُِنُه برقية . فرقاه ، فبرأ ، فأمر له بثلاثين شاة ، وسقانا لبناً ، فلما رجع قلنا له : أكنت تحسن رقية ، أو كنت ترقِي ؟ قال : لا ، ما رقيت إلا بأم الكتاب . قلنا : لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ، أو نسأل ، النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمنا المدينة ، ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : < وما كان يُدريه أنها رقية ؟ اقمسوا واضربوا لي بسهم > . وهكذا رواه مسلم وأبو داود ، وفي بعض روايات مسلم : أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم - يعني اللديغ ن يسمونه بذلك تفاؤلاً - .
وروى مسلم والنسائي عن ابن عباس قال :
بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع فقال : < هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم . فنزل منه ملك . فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم . فسلم وقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك ؛ فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة ، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته > .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثا - غير تمام > فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام . فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
< قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال : مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلي عبدي - فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل > .
ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

(/)


بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم } [ 1 ]
أعلم أن للناس في هذا وما يجري مجراه من الفواتح مذهبين :
الأول : أن هذا علم مستور ، وسرّ محجوب ، استأثر الله تبارك وتعالى به ؛ فهو من المتشابه . ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق ، واحتجوا بأدلة عقلية ونقلية ، بسطها العلامة الفخر .
المذهب الثاني : مذهب من فسرها ، وتكلم فيما يصح أن يكون مراداً منها ، وهو ما للجمهور . وفيه وجهان :
الأول : وعليه الأكثر ؛ أنها أسماء للسور .
الثاني : أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد : كالإيقاظ وقرع العصا لمن تُحُدِّي بالقرآن وبغرابة نظمه ، وكالتحريك لنظر في أن هذا المتلوّ عليهم - وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله - بعد المراجعات المتطاولة - وهم أمراء الكلام ، وزعماء الحوار ، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب ، والمتهالكون على الاقتنان في القصيد والرجز ، ولم يبلغ من الجزلة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق ، وشقت غبار كل سابق ، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أَعْيَن البصراء إلاَّ لأنه ليس بكلام البشر ، وإنه كلام خالق القوى والقدر . قاله الزمخشري .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ 2 ]
أي : هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة : { ألم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة : 1 - 2 ]
. قال بعض المحققين : اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعيّ ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة ، فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر ، وهذا معروف في كلامهم .
وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة ، ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول : إنما صحت الإشارة بذلك هنا إلى ما ليس ببعيد ، لتعظيم المشار إليه ، ذهاباً إلى بُعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف .
والريب في الأصل : مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة . وحقيقتها : قلق النفس واضطرابها . ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً ، أو مع تهمة . لأنه يقلق النفس [ في المطبوع : لنفس ] ويزيل الطمأنينة . وفي الحديث : < دع ما يريبك إلى ما لا يَريبُك > .
ومعنى نفيه عن الكتاب ، أنه في علو الشأن ، وسطوع البرهان ، بحيث ليس فيه مظنة أن يُرتاب في حقيقته ، وكونه وحياً منزلاً من عند الله تعالى ، والأمر كذلك ، لأن العرب ، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية ، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه ، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلاً .
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي : هادٍ لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين .
قال الناصر في الانتصاف : الهدى يطلق في القرآن على معنيين :
أحدهما : الإرشاد وإيضاح سبيل الحق ، ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] . وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق ، سواء حصل له الاهتداء أو لا .
والآخر : خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد ، ومنه : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعاً ، وعلى الأول ، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] . وقال : { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [ يس : 11 ] . وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ، منذراً لكل الناس ، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره ، وهذه الآية نظير آية : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } فصلت : 44 ] { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . وكقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] إلى غير ذلك ، مما دل على أن النفع به لا يناله إلا الأبرار ، والمراد بالمتقين - هنا - من نعتهم الله تعالى بقوله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ 3 ]
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون : { بِالْغَيْبِ } الغيب في الأصل مصدر غاب .
بمعنى استتر واحتجب وخفي ، وهو بمعنى الفاعل - كالزور للزائر - أُطلق عليه مبالغة ، والمراد به ما لا يقع تحت الحواس ، ولا تقتضيه بداهة [ في المطبوع : بداية ] العقول ، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام ، والمعنى يؤمنون بما لا يتناوله حسّهم . كذاته تعالى ، وملائكته ، والجنة ، والنار ، والعرش ، والكرسي ، واللوح ، ونحوها .
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } ، أي : يؤدونها بحدودها وفروضها الظاهرة والباطنة . كالخشوع والمراقبة وتدبر المتلوّ والمقروء .
قال الراغب : إقامة الصلاة توفية حدودها ، وإدامتها . وتخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يُرد إيقاعها فقط ، لهذا لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو : { أَقِمِ الصَّلاةَ } [ الإسراء : 78 ] ، وقوله : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } [ النساء : 162 ] و : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ } [ المائدة : 55 ] . ولم يقل : المصلي ، إلا في المنافقين : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4 - 5 ] وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل - كما قال عمر رضي الله عنه : الحاجّ قليل والركب كثير - ولهذا قال عليه السلام : < من صلى ركعتين مقبلاً بقلبه على ربه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه > . فذكر مع قوله : < صلّى > الإقبال بقلبه على الله تنبيهاً على معنى الإقامة ، وبذلك عظم ثوابه ، وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه ، ذكره بلفظ الإقامة ، نحو : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ } [ المائدة : 66 ] ، ونحو : { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } [ الرحمن : 9 ] تنبيهاً على المحافظة على تعديله . انتهى .
فالإقامة من أقام العود إذا قوّمه . و : { الصَّلَاةَ } فعلة من صلى إذا دعا ، كـ : { الزَّكَاةَ } من زكى - وإنما كتبنا بالواو مراعاة لفظ المفخّم - وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي : يؤتون مما رزقناهم من الأموال من شرح لهم إيتاؤه والإنفاق عليه من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم ، على ما بيّن في آيات كثيرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ 4 ]
{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } والمراد : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } الكتاب المنزل كله ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد . كما أن المراد من قوله : { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } الكتب الإلهية السالفة كلها . وهذا كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } الآية . والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل . فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عز وجل فينزل بها إلى الرسل عليهم السلام . ولهذا يقال : القرآن ، كلام الله ليس بمخلوق ، منه بدأ . أي : تكلم به حقيقة لا مجازاً .
قال الإمام أحمد وغيره : وإليه يعود أي : لا يبقى له أثر في الوجود أي : هو المتكلم به قال تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 114 ] وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [ النحل : 102 ] وقال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] .
{ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الآخرة في الأصل : تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار ، بدليل قوله تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ } [ القصص : 83 ] . سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا . وقيل للدنيا : دنيا ، لأنها أدنى من الآخرة . وهما من الصفات الغالبة . ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء ؛ إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما ، كأنهما ليس من الصفات .
والإيقان : إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه ، وفي تقديم : { الْآخِرَةُ } وبناء : { يُوقِنُونَ } على : { هُمْ } تعريض بأهل الكتاب ، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته . كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا إِِِِِياماً معدودة ، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا ؟ وهل هو دائم أو لا ؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة ، فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين ! .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 5 ]
{ أُوْلَئِكَ } أي : المتصفون بما تقدّم : { عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي : على نورٍ من ربهم ، وبرهان ، واستقامة ، وسدادٍ - بتسديده إياهم وتوفيقه لهم : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : المنجحون ، المدركون ما طلبوا عند الله - بإيمانهم - من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنات ، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 6 ]
لما بين تعالى نعوت المؤمنين قبل ، شرح أحوال مقابليهم وهم الكفرة المردة بأنهم : تناهوا في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ يونس : 96 - 97 ] . وكقوله سبحانه في المعاندين الكتابيين : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } [ البقرة : 145 ] الآية .
و : { سَوَاءٌ } اسم بمعنى : الاستواء ، وصف به ، كما يوصف بالمصادر ، مبالغةً ، ومنه قوله تعالى : { تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } بمعنى : مستوية .
والإنذار : الإعلام مع تخويف ، والمراد هنا : التخويف من عذابه تعالى ، وانتقامه ، والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا أهلاً للبشارة ، ولأن الإنذار أوقع في القلوب ، ومن لم يتأثر به فلأنْ لا يرفع للبشارة رأساً - أولى .
وقوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مستقلة ، مؤكدة لما قبلها ، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ 7 ]
استنئاف معلّل لما سبق من الحكم ، أو بيانٌ وتأكيدٌ له ، والختم على الشيء : الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه . والمراد : إحداث حالة تجعلها - بسبب تماديهم في الغي ، وانهماكهم في التقليد ، وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح - بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ، ولا ينفذ فيها الحق أصلاً .
قال أبو السعود : وإسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى ، لاستناد جميع الحوادث عندنا - من حيث الخلق - إليه سبحانه . وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم ، ووخامة عاقبتهم ، لكون أفعالهم - من حيث الكسب - مستندة إليهم ، فإن خلْقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر ، بل بطريق الترتيب - على ما اقترفوه من القبائح - كما يعرب عنه قوله تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] ونحو ذلك ، يعني كقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] .
وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل ، وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل .
منها : أن القوم لما أعرضوا عن الحق ، وتمكن ذلك في قلوبهم ، حتى صار كالطبيعة لهم ، شبه بالوصف الخلقيّ المجبول عليه .
ومنها : أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن ، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها . كما في : سال به الوادي - إذا هلك - وطارت به العنقاء - إذا طالت غيبته - .
ومنها : أن أعراقهم لما رسخت في الكفر ، واستحكمت ، بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر ، ثم لم يفعل ذلك محافظةً على حكمة التكليف ، عبر عن ذلك بالختم ، لأنه سدٌّ لطريق إيمانهم بالكلية . وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغي والعناد .
ومنها : أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه . مثل قولهم : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . تهكماً بهم .
ومنها : أن ذلك في الآخرة ، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه . ويعضده قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً } [ الإسراء : 97 ] . انتهى ملخصاً
فائدة : قال الراغب : المراد بالقلب في كثير من الآيات العقل والمعرفة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ 8 ]
أصل ناس أناس ، حذفت همزته تخفيفاً ، وحذفها مع لام التعريف كاللازم . ويشهد لأصله إنسان ، وأُناس ، وأناسي ، وإنس ، وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي : يبصرون - كما سمي الجن لاجتنانهم - ولذلك سموا بشراً . وقيل : اشتقاقه من الأنس - ضد الوحشة - لأن الْإِنْسَاْن مدنيٌّ بالطبع . والأول أظهر .
واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية ؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج ، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب ، وبها اليهود - من أهل الكتاب - وهم ثلاث قبائل : بنو قينقاع - حلفاء الخزرج - وبنو النضير وبنو قريظة - حلفاء الأوس - فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج ، وقلّ من أسلم من اليهود - إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه - ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً ، لأنه لم يكن للمسلمين ، بعدُ شوكة تُخاف ، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادَعَ اليهود ، وقبائل كثيرة - من أحياء العرب حوالي المدينة - فلما كانت وقعة بدر العظمى ، وأظهر الله كلمته ، وأعز الإسلام وأهله ، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول - وكان رأساً في المدينة ، وهو من الخزرج ، وكان ابن سيد الطائفتين في الجاهلية ، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم ، فجاءهم الخير ، وأسلموا ، واشتغلوا عنه ، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله ، فلما كانت وقعة بدر ، قال : هذا أمر قد توجّه . فأظهر الدخول في الإسلام ، ودخل معه طوائف - ممن هو على طريقته ونحلته - وآخرون من أهل الكتاب ، فمن ثَمَّ وُجد النفاق في أهل المدينة ، ومن حولها من الأعراب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 9 ]
قال القاشاني : المخادعة استعمال الخدع من الجانبين ، وهو إظهار الخير ، واستبطان الشر ، ومخادعة الله مخادعة رسوله ، لقوله : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [ النساء : 80 ] . فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة ، واستبطان الكفر والعداوة . وخداع الله و المؤمنين إياهم مسالمتهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم . بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك . و ادخّار العذاب الأليم ، و المآل الوخيم ، و سوء المعبّة لهم ، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى بالوحي [ في المطبوع : وبالوحي ] عن حالهم . لكن الفرق بين الخداعين : أن خداعهم لا ينجح إلَّا في أنفسهم . بإهلاكها ، و تحسيرها ، وإيراثها الوبال والنكال - بازدياد الظلمة ، والكفر ، و النفاق ، و اجتماع أسباب الهلكة ، والبعد و الشقاء ، عليها - وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ، ويوبقهم أشد إيباق ، كقوله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 54 ] . وهم - من غاية تعمّقهم في جهلهم - لا يحسون بذلك الأمر الظاهر .
و قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عَمْرو : { وَمَا يُخَادِعُوْنَ } بالألف .
قال ابن كثير : نبه الله سبحانه على صفات المنافقين ، لئلا يغتر بظاهر أمرهم
المؤمنون ، فيقع بذلك فساد عريض - من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم ، وهم كفار في نفس الأمر - وهذا من المحذورات : أن يُظَنّ بأهل الفجور خيرٌ . ثم إن قول من قال : كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافين -إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً - في غزو تبوك - الذين همُّوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك ، عزموا على أن ينفِّروا به الناقة ، ليسقط عنها ، فأوحى الله إليه أمرهم ، فأطلع على ذلك حذيفة .
فأما غير هؤلاء ، فقد قال الله تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] الآية . وقال تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً } [ الأحزاب : 60 ] ففيها دليل على أنه لم يعرفهم [ في المطبوع : يغربهم ] ولم يدرك على أعيانهم ، وإنما كان تُذكر له صفاتهم ، فيتوسمها في بعضهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 30 ] . وقد كان من أشهرهم بالنفاق ، عبد الله بن أُبيّ بن سلول .
واستند - غير واحد من الأئمة - في الحكمة عن كفه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين ، بما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه < أكره أن يتحدث العرب أنّ محمداً يقتل أصحابه > . ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفيرٌ لكثيرٍ من الأعراب عن الدخول في الإسلام ، ولا يعلمون حكمة قتلهم - بأنّه لأجل كفرهم - فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم ، فيقولون : إن محمداً يقتل أصحابه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ 10 ]
المرض : السقم ، وهم نقيض الصحة ، بسبب ما يعرض للبدن ، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ، ويوجب الخلل في أفاعيله ، استعير هاهنا لعدم صحة يقينهم ، وضعف دينهم - وكذا توصف قلوب المؤمنين بالسلامة التي هي صحة اليقين ، وعدم ضعفه ، كما قال تعالى : { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] . أي : غير مريض بما ذكرنا - أو استعير لشكّهم ، لأن الشك تردُّد بين الأمرين ، و المنافق متردّدٌ ، كما في الحديث < مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين > و المريض متردد بين الحياة والموت .
{ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] بأن طبع على قلوبهم ، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير و الإنذار . وقال القاشاني : أي : مرضاً آخر - حقداً وحسداً وغلاًّ - بإعلاء كلمة الدين ، ونصرة الرسول والمؤمنين - ثم قال : و الرذائل كلها أمراض القلوب ، لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة ، وهلاكها في العاقبة .
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : مؤلمٌ - بكسر اللام - فعيل بمعنى فاعل - كسميع وبصير - قال في المحكم : الأليم من العذاب الذي يبلغ إيجاعهُ غابة البلوغ . ومنه يُعلم وجه إيثاره في عذاب المنافقين على العظم المتقدم في وصف عذاب الكافرين ويؤيده : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا } [ النساء : 145 ] .
{ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } الباء للسببية أو للمقابلة - أي : بسبب كذبهم أو بمقابلته - وهو قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين . وفيه رمز إلى قبح الكذب ، وسماجته ، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم - مع إحاطة علم السامع بأنَّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى - ونحوه قوله تعالى : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [ نوح : 25 ] . - والقوم كفرة - وإنما خصّت الخطيئات استعظاماً لها ، وتنفيراً عن ارتكابها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ 11 ، 12 ]
شروع في تعديد بعضٍ من مساوئهم المتفرعة - على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق - ، والفساد : خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح : وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة . والفساد في الأرض : تهييج الحروب والفتن ، لأن في ذلك فساد ما في الأرض ، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس ، والزروع ، والمنافع الدينية والدنيوية . قال الله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [ البقرة : 30 ] . ومنه قيل لحربٍ كانت بين طيء : حرب الفساد - .
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يُمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم ، وإغرائهم عليهم ، واتخاذهم أولياء ، مع ما يدعون في السر إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وجحد الإسلام ، وإلقاء الشبه ، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونصب الحرب له ، وطمعهم - في الغلبة ، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّياً إلى الفساد - بتهييج الفتن بينهم - قيل لهم : لا تفسدوا - كما تقول للرجل : لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته - وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 73 ] . فأخبر أن مولاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد ، لما تقدم .
و قولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : بين المؤمنين و أهل الكتاب . نداري
الفريقين و نريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [ النساء : 62 ] . أو معناه : إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد .
قال الراغب : تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح - لما في قلوبهم من المرض - كما قال : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] وقوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] . وقوله : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] .
وقال القاشاني كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش ، وتيسير أسبابه ، وتنظيم أمور الدنيا - لأنفسهم خاصة - لتوغّلهم في محبة الدنيا ، و انهماكهم في اللذات البدنية ، واحتجابهم - بالمنافع الجزئية ، والملاذّ الحسية - عن المصالح العامة الكلّية ، واللذات العقلية ، وبذلك يتيسر مرادهم ، ويتسهل مطلوبهم ، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [ 13 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بطريق الأمر بالمعروف ، إثر نهيهم عن المنكر - إتماماً للنصح ، وإكمالاً للإرشاد : { آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ } أي : الكاملون في الْإِنْسَاْنية ، فإن المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يُعد من خواص الْإِنْسَاْن وفضائله - : { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } استفهام في معنى الإنكار . والسفه : خفّةٌ وسخافةُ رأيٍ يورثهما قصور العقل ، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار ، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ] .
وإنما سفّهوهم - مع أنهم العقلاء المراجيح - لأنهم لجهلهم ، وإخلالهم بالنظر ، وإنصاف أنفسهم ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحقّ ، وأن ما عداه باطل - ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً - ولأنهم كانوا في رياسة في قومهم ، ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ، ومنهم مَوَالٍ - كصهيب ، وبلال ، وخباب - فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم ! : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } [ 14 ]
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا } أي : أظهروا لهم الإيمان ، والموالاة ، والمصافاة - نفاقاً ، ومصانعةً ، وتقيَّةً ، وليشركوهم فيما أصابوا من خيرٍ ومغنم - .
واعلم أنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أول قصة المنافقين ، فليس بتكرير ؛ لأن ، تلك في بيان مذهبهم ، والترجمة عن نفاقهم ، وهذه لبيان تباين أحوالهم ، وتناقض أقوالهم - في أثناء المعاملة والمخاطبة - حسب تباين المخاطبين !
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } يقال : خلوت بفلان وإليه أي : انفردت معه ، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى : مضى ، ومنه : القرون الخالية . والمراد بـ : { شَيَاطِينِهِمْ } : أصحابهم أُولو التمرد والعناد ، والشيطان يكون من الإنس والجن ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] . وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر ، واشتقاق شيطان من شطن ، إذا بَعُد ؛ لبعده من الصلاح والخير .
ومعنى : { إِنَّا مَعَكْمْ } أي : في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه ، إنّما نحن في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم ، والاستهزاء بالشيء السخرية منه ، يقال : هزأت واستهزأت بمعنى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 15 ]
{ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } يسخر بهم للنقمة منهم - هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الضحاك - : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يزيدهم على وجه الإملاء ، والترك لهم في عتوهم وتمردهم ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .
والطغيان : المراد به هنا : الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ . وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة } [ الحاقة : 11 ] .
والعمه : مثل العمى - إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة - وهو التحير والترددّ ، لا يدري أين يتوجه .
أي في ضلالهم وكفرهم - الذي غمرهم دنسه ، وعلاهم رِجْسه - يتردّدون حيارى ، ضُلّالاً ، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً .
والمشهور فتح الياء من : { يَمُدُّهُمْ } ، وقرئ - شاذاً - بضمها ، وهما بمعنى واحد . يقال : مد الجيش وأمده - إذا زاده ، وألحق به ما يقويه ويكثره - وكذلك مدّ الدواة وأمدها زادها ما يصلحها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ 16 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى } إشارة إلى المذكورين باعتباره اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز ، بحيث صاروا كأنهم حضّار مشاهدون على ما هم عليه . وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ، ومحلُّه الرفع على الابتداء ، خبرُه قوله تعالى : { الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ } الخ . والجملة مسوقةٌ لتقرير ما قبلها ، وبيانٌ لكمال جهالتهم - فيما حكي عنهم من الأقوال والأفعال - بإظهار غاية سماجتها ، وتصويرها بصورة ما لا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز - فضلاً عن العقلاء - .
و : { الضَّلاَلَةَ } الجور عن ا لقصد ، و : { الهدى } التوجه إليه . وقد استعير الأول : للعدول عن الصواب في الدين ، والثاني : للاستقامة عليه . والاشتراء : استبدال السلعة بالثمن - أي : أخذها به - فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه .
فإن قيل : كيف اشتروا الضلالة بالهدى ، وما كانوا على هدى ؟
قلت : جعلوا لتمكُّنهم منه - بتيسير أسبابه - كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى الضلالة قد عطَّلوه ، واستبدلوها به ، فاستعير ثبوته لتمكُّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى . ولا مِرْية في أن هذه المرتبة - من التمكن - كانت حاصلة لهم بما شاهدوه - من الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة - من جهة النبي صلى الله عليه وسلم .
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } عطف على الصلة داخل في حيزها . والفاء على ترتُّب مضمونه عليها . والتجارة صناعة التجار ، وهو التصدِّي للبيع والشراء ، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال ، وإسناد عدمه - الذي هو عبارة عن الخسران - إليها ، وهو لأصحابها ، من الإسناد المجازيّ ، وهو : أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له - كما تلبست التجارة بالمشترين - . وفائدته : المبالغة في تخسيرهم ، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار ، وعمومه المستتبع ، لسرايته إلى ما يلابسهم .
فإن قلتَ : هب أنَّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح ، والتجارة كأن ثَم مبايعة على الحقيقة ؟
قلتُ : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تُساق كلمةٌ مساق المجاز ، ثم تقفَّى بأشكال لها ، وأخوَاتٍ إذا تلاحقن لم تَرَ كلاماً أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماءً ورونقاً ، وهو المجاز المرشّح ، فإيرادهما - إثر الاشتراء - تصويرٌ لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة - الذي يتحاشى عنه كل أحدٍ - للإشباع في التخسير والتحسير . وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء :
~وَإِنَّ صَخْرَاً لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ . . !
لما شبهته - في الاهتداء به - بالعلم المرتفع ، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحققه ، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهوراً آخر ، باشتعال النار في رأسه .
وقوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي : لزوال استعدادهم ، وتكدير قلوبهم بالرَّين الموجب للحجاب والحرمان الأبدي .
قال الزمخشري : فإن قيل : لِمَ عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم ، ورُتّباً معاً بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى ؟ وما وجه الجمع بينهما - مع ذلك الترتيب - على أن عدم الاهتداء قد فُهم من استبدال الضلالة بالهدى ، فيكون تكراراً لما مضى ؟ فالجواب : أن رأس مالهم هو الهدى ، فلمَّا استبدلوا به ما يضادُّه - ولا يجامعه أصلاً - انتفى رأس المال بالكلية ، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد - أعني الضلالة - وصفوا بانتفاء الربح والخسارة . لأن الضال في دينه خاسرٌ هالك - وإن أصاب فوائد دنيوية - ولأن من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالربح ، بل بانتفائه ، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال ، وترتّب على ذلك إضاعة الربح .
وأما قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين - فيكون تكراراً لما سبق - بل لما وُصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة - كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يُربح فيها ويُخسر - فهذا راجع إلى الترشيح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ 17 ]
ولما جاء بحقيقة صفتهم ، عقّبها بضرب المثل - زيادة في الكشف ، وتتميماً للبيان - فقال تعالى : { مَثَلُهُمْ } أي : مثالهم في نفاقهم ، وحالهم فيه : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ } أي : أوقد : { نَاراً } في ظلمة - والتنكير [ في المطبوع : التتنكير ] للتعظيم - : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } أي : أثارت النار : { مَا حَوْلَهُ } فأبصر ، واستدفأ ، وأمن مما يخافه : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } أي : أطفأ الله نارهم - التي هي مدار نورهم - فبقوا في ظلمة وخوف - وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي ، كقوله : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [ التوبة : 69 ] { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ما حولهم - متحيرين عن الطريق ، خائفين - فكذلك هؤلاء استضاؤوا قليلاً بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، حيث أمِنوا على أنفسهم وما يتبعها ، ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة - ظلمة النفاق - التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمد ، ومحصوله : أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة ، ثم قطعه الله تعالى بالموت .
ونُقِلَ - عن كثير من السلف - تفسير آخر ، وهو : تمثيل إيمانهم أوّلاً ، ثم كفرهم ثانياً . فيكون إذهاب النور في الدنيا ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } [ المنافقون : 3 ] الآية ، فلما آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم - كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً - ثم لمّا كفروا ، ذهب الله بنورهم : انتزعه - كما ذهب بضوء هذه النار - وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله . فإنهم - لما وُصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى - مثّل هداهم - الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد - والضلالة - التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم - بذهاب الله بنورهم ، وتركه إيّاهم في الظلمات .
قال الزمخشري في الكشف : ولضرب العرب الأمثال ، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقَّق ، والمتوهم في معرض المتيقّن ، والغائب كأنه مشاهد - وفيه تبكيت للخصم الألدّ ، وقمعٌ لسَوْرةِ الجامح الآبِي [ في المطبوع : الجامع الأبي ] .
ولأمرٍ ما ، أكثر الله - في كتابه المبين ، وفي سار كتبه - أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام الأنبياء والحكماء ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] .
والمثَلَ : في أصل كلامهم بمعنى : المِثْل وهو النظير . يقال : مِثْل ، ومَثَل ، ومثيل - كشِبه وشَبَه وشَبيه - ثم قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده : مَثَلٌ . ولم يضربوا مثلاً ، ولا رأوه أهلاً للتسيير ولا جديراً بالتداول والقبول ، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه . ومن ثَمّ حوفظ عليه ، وحُمي من التغيير .
فإنه - لو غُيِّر - لربما انتفت [ في المطبوع : انتفى ] الدلالة على تلك الغرابة . وقيل : إن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة . فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به . فإن وقع تغيير ، لم يكن مَثَلاً ، بل مأخوذاً منه ، وإشارة إليه - كما في قولك : بالصيف ضيعتَ اللبنَ بالتذكير .
وقال بعضهم : قد استعير المثل للحال ، أو القصَّة ، أو الصِّفة - إذا كان لها شأن ، وفيها غرابة - كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً . وكذلك قوله : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [ الرعد : 35 ] أي : - فيما قصصنا عليك من العجائب - قصة الجنّة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } [ النحل : 60 ] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } [ الفتح : 29 ] أي : صفتهم وشأنهم المتعجب منه .
ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثلة في الخير والشر ، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ 18 ]
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } الصمم : آفة مانعة من السماع ، سمّى به فقدان حاسّة السمع ، لما أنّ سببه اكتناز باطن الصِّماخ ، وانسداد منافذه ، بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموّجه . والبكم : الخرس . والعمَى : عدم البصر عمّا من شأنه أن يُبصر .
وُصفوا بذلك - مع سلامة حواسّهم المذكورة - لما أنّهم سّدوا عن الإصاخة إلى الحقّ مسامعهم ، وأبوا أن يُنطلقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم ، فجعلوا كأنما أصيب بآفة مشاعرهم - كقوله - :
~صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْراً ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوْءٍ عِنْدَهُمْ أذِنُوْا
وكقوله :
~أَصمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِيْ لَا أُرِِيْدُهُ وَاسْمَعُ خَلْقَِ اللَّهِ حِيْنَ أُرِيْدُ
{ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : - بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة - لا يعودون إلى الهدى - بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة - بعد أن اشتروها ، فالآية الكريمة تتمةٌ للتمثيل بأن ما أصابهم ليس مجرد انطفاء نارهم ، وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة - مع بقاء حاسة البصر بحالها - بل اختلَّت مشاعرهم جميعاً ، واتصفوا بتلك الصفات فبقُوا جامدين في مكانهم لا يرجعون ، ولا يدرون أيتقدَّمون أم يتأخَّرون ؟ وكيف يرجعون إلى ما ابتدأوا منه ؟ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } [ 19 ]
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء } تمثيل لحالهم إثر تمثيل ، ليعمّ البيانُ منها كلَّ دقيق وجليل ، ويوفي حقها من التفظيع والتهويل . فإنه تفننهم في فنون الكفر والضلال حقيقٌ بأن يضرب في شأنه الأمثال . وكما يجب على البليغ - في مظانّ الإجمال والإيجاز - أن يجمل ويوجز ، فكذلك الواجب عليه - في موارد التفصيل والإشباع - أن يفصّل ويشبع . والصيِّب : السحاب ذو الصوب ، والصوب الغيث . والمراد بالسماء : السحاب ، كما قال تعالى : { أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } [ الواقعة : 69 ] . وهي في الأصل : كل ما علاك من سقف ونحوه .
{ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } التنوين في الكل للتفخيم والتهويل - كأنه قيل : فيه ظلماتٌ داجية ، ورعدٌ قاصف ، وبرقٌ خاطف - : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ } الصاعقة : الصوت الشديد من الرعدة يسقط معها قطعة نارٍ تنقدح من السحاب - إذا اصطكت أجرامه - لا تأتي على شيء إلا أحرقته : { حَذَرَ } - أي : خوف - : { الْمَوْتِ } من سماعها : { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } علماً وقدرة فلا يفوتونه .
والجملة اعتراضية منبهة على أنَّ ما صنعوا - من سد الآذان بالأصابع - لا يغني عنهم شيئاً ، فإنَّ القدر لا يدافعه الحذر ، والحيل لا ترد بأس الله عز وجل . وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير - الراجع إلى أصحاب الصيّب - الإيذان بأنَّ ما دهمهم - من الأمور الهائلة المحكية - بسبب كفرهم ، فيُظهر استحقاقهم شدة الأمر عليهم ، على طريقة قوله تعالى : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا } [ آل عِمْرَان : 117 ] فإن الإهلاك الناشئ عن السخط أشد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 20 ]
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } استئناف آخر وقع جواباً عن سؤال مقدّر - كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق ؟ فقيل : يكاد يخطف أبصارهم ، أي : يأخذها بسرعة : { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } أي : في ضوئه : { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي : وقفوا ، وثبتوا في مكانهم - ومنه : قامت السوق ، إذا ركدت وكسدت . وقام الماء ، جمد - وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين : بشدته على أصحاب الصيّب ، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل - بما يأتون وما يذرون - إذا صادفوا من البرق خفقةً - مع خوف أن يخطف أبصارهم - انتهزوا تلك الخفقة فرصةً ، فَخَطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي ، وفتر لمعانه ، بقوا وافقين متقيدين عن الحركة : { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي : لزاد في قصيف الرعد فأصمهم ، أو في ضوء البرق فأعماهم . ومفعول : شاء ، محذوف ، لأن الجواب يدلّ عليه . والمعنى : ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها .
ولقد تكاثر هذا الحذف في : شاء وأراد . لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب - كنحو قوله : فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ، وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا } [ الأنبياء : 17 ] : { إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل للشرطية ، وتقريرٌ لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهاني .
تنبيهات :
الأول : محصول التمثيلين - غِبّ وصف أربابهما بوقوعهم في ضلالتهم التي استبدلوها بالهدى - هو أنه شبّه ، في الأول ، حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طَفِئَت نارة بعد إيقادها في ظلمة الليل .
وفي الثاني : شبه حالهم بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثف ظلماتها - بتراكم السحب ، وانتساج قطراتها ، وتواتر فيها الرعود الهائلة ، والبروق [ في المطبوع : البروف ] المخيفة ، والصواعق المختلفة المهلكة ، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت . وبذلك يعلم أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة ، وهو الذي تقتضيه جزالة المعاني - لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها . فإنك إذا تصورت حال من طَفِئَت ناره بعد إيقادها . . . الخ . وحال من أخذتهم السماء . . الخ . حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين ، على وجه يتقاصر عنه تشبيه المنافق - في التمثيل الأول - بالمستوقد ناراً ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع انتفاعه بانتفاء النار وتشبيه دين الإسلام - في الثاني - بالصيب ، وما يتعلق به - من شبه الكفار - بالظلمات ، وما فيه - من الوعد والوعيد - بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة - من الإفزاع والبلايا والفتن - من جهة أهل الإسلام بالصواعق . وأيضاً في تشبيه المفردات ، وطيّ ذكر المشبهات تكلّف ظاهر . وأيضاً في لفظ : المثل ، نوع إنباء عن التركيب ، إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر ، وهي في الهيئة المركبة دون كل واحد من مفرداتها . وأيضا في التمثيل المركب اشتمال على التشبيه في المفردات إجمالاً ، مع أمر زائد : هو تشبيه الهيئة بالهيئة ، وإيذائه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئةٍ عجيبة حقيقة بأن تكون مثلاً في الغرابة .
التنبيه الثاني :
قال الإمام العلامة ابن القيم في كتابه " إجتماع الجيوش على غزو المعطلة والجهمية " .
هذه الآية ، شبّه ، سبحانه ، أعدائه المنافقين ، بقومٍ أوقدوا ناراً لتضيء لهم ، وينتفعوا بها ، فلمّا أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم ، وأبصروا الطريق - بعد أن كانوا حيارى تائهين - فهم كقوم سَفْر ضلوا عن الطريق ، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق فلما أضاءت لهم - فأبصروا وعرفوا - طَفِئَت تلك الأنوار ، وتبقوا في الظلمات لا يبصرون ، قد سُدت عليهم أبواب الهدى الثلاث - فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب : ما يسمعه بإذنه ، ويراه بعينه ، ويعقل بقلبه ، وهؤلاء قد سُدت عليهم أبواب الهدى ، فلا تسمع قلوبهم شيئاً ، ولا تبصره ، ولا تعقل ما ينفعها . وقيل : لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ، ولا بصر ، ولا عقل ، والقولان متلازمان .
وقال في صفتهم : { فهم لا يرجعون } لأنهم قد رأوا في ضوء النار ، وأبصروا الهدى ، فلما طَفِئَت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا . وقال سبحانه وتعالى : { ذهب الله بنورهم } ولم يقل : ذهب نورهم ، وفيه سرّ بديع : وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة - التي هي للمؤمنين - من الله تعالى ، فإن الله تعالى مع المؤمنين [ في المطبوع : جعل هذه آية قرآنية من سورة الأنفال وليس كذلك ] ، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] ، و : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] . فذهاب الله بذلك النور : انقطاع المعية - التي خصّ بها أولياءه - فقطعها بينه وبين المنافقين ، فلم يبق عندهم - بعد ذهاب نورهم - ، ولا معهم ، فليس لهم نصيب من قوله : { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، ولا من : { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
وتأمل قوله تعالى : { أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } كيف جعل ضوءها خارجاً عنه ، منفصلاً ، ولو اتصل ضوؤُها به ، ولابَسَه ، لم يذهب ، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة ، وكان الضوء عارضاً والظلمة أصلية ، فرجع الضوء إلى معدنه ، وبقيت الظلمة في معدنها ، فرجع كلٌّ منهما إلى أصله اللائق به : حجة من الله قائمة ، وحكمة بالغة ، تعرَّف بها إلى أولي الألباب من عباده .
وتأمل قوله تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم ، ليطابق أول الآية ، فإن النار فيها إشراق وإحراق : فذهب ما فيها من الإشراق - وهو النور - وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق - وهو النارية - وتأمّل كيف قال : { بنورهم } ولم يقل : بضوئهم مع قوله : { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } - لأن الضوء هي زيادة في النور ، فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل ، فلما كان النور أصل الضوء ، كان الذهاب به ذهاباً بالشيء وزيادته ، وأيضاً فإنه أبلغ في النفي عنهم ، وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم ، وأيضاً فإن الله تعالى سمّى كتابه : نوراً ، ورسوله صلى الله عليه وسلم : نوراً ، ودينه : نوراً ، وهُداه : نوراً ، ومن أسمائه : النور ، والصلاة : نور . فذهابه سبحانه بهم : ذهابٌ بهذا كله ، وتأمل مطابقة هذه المثل - لما تقدمه من قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] كيف طابق هذه التجارة الخاسرة ، التي تضمنت هول الضلالة والرضاء بها ، وبدّل الهدى في مقابلتها ، وهول الظلمات - التي هي الضلالة والرضاء بها - بدلاً عن النور - الذي هو الهدى والنور - فبدّلوا الهدى والنور ، وتعوّضوا عنه بالظلمة والضلالة ، فيا لها من تجارةٍ ما أخسرها ، وصفقةٍ ما أشدَّ غبنها .
وتأمل كيف قال تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } فوحّده ثم قال : { وتركهم في ظلمات } فجمعها . فإن الحق واحد : هو صراط الله المستقيم - الذي لا صراط يوصل إليه سواه - وهو عبادته وحده لا شريك له ، بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا بالأهواء ، والبدع ، وطرق الخارجين عن ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق - ، بخلاف طرق الباطل ؛ فإنها متعددة متشعبة . ولهذا ، يُفرِدُ ، سبحانه ، الحق ، ويجمع الباطل ، كقوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، فجمع سُبُل الباطل ، ووحّد سبيل الحق ، ولا يناقض هذا قوله : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } [ المائدة : 16 ] فإنّ تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد ، وصراطه المستقيم : إنّ طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد ، وسبيل واحد ، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها .
وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خط خطّاً مستقيماً ، وقال : < هذا سبيل الله > . ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ، وقال : < هذه سُبلٌ ، على كلّ سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه > ثم قرأ قوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] .
وقد قيل : إنّ هذا مثلٌ للمنافقين ، وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ، ويكون بمنزلة قول الله تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] . ويكون قوله تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } مطابقاً لقوله تعالى : { أطفأها الله } ويكون تخييبهم ، وإبطال ما راموه ، هو : تركهم في ظلمات الحيرة ، لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ، ولا يبصرون سبيلاً ، بل هم : { صم بكم عمي } . وهذا التقدير - وإن كان حقاً - ففي كونه مرادُ بالآية نظر ؛ فإنّ السياق إنما قصد لغيره ، ويأباه قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } وموقدُ نار الحرب لا يضيء ما حوله أبداً ، ويأباه قوله تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } وموقد نار الحرب لا نور له ، ويأباه قوله تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة ، إلى ظلمة الشك والكفر .
قال الحسن رحمه الله : هو المنافق أبصر ثم عمي ، وعرف ثم أنكر . ولهذا قال : { فهم لا يرجعون } أي : لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه . وقال تعالى في حق الكفار : { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } فسلب العقل عن الكفار - إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان - وسلب الرجوع عن المنافقين - لأنهم آمنوا ثم كفروا - فلم يرجعوا إلى الإيمان .
فصل
ثم ضرب الله ، سبحانه ، لهم مثلاً آخر مائياً ، فقال تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } . فشبه نصيبهم - مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم - من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طَفِئَت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره ، وبقي في الظلمات حائراً ، تائهاً ، لا يهتدي سبيلاً ، ولا يعرف طريقاً ، وبنصيب أصحاب الصيب - وهو المطر الذي يصّوب ؛ أي : نزل من علوّ إلى أسفل - فشبه الهدى - الذي هدى به عباده - بالصيب ، لأن القلوب تحيي به حياة الأرض بالمطر ، ونصيب المنافقين من هذا الهدى ، بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد و برق ، ولا نصيب له - فيما وراء ذلك - مما هو المقصود بالصيب - من حياة البلاد ، والعباد ، والشجر ، والدواب ، وأن تلك الظمات التي فيه ، وذلك الرعد ، والبرق ، مقصود لغيره ، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب . فالجاهل - لفرط جهله - يقتصر على الإحساس بما في الصيّب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد ، وتعطيل المسافر عن سفره ، وصانع عن صنعته ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام . وهكذا شأن كلّ قاصر النظر ، ضعيف العقل ، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كلّ محبوب ، وهذه حال أكثر الخلق ، إلاّ من صحت بصيرته - فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب ، والمشاق ، والتعرّض لإتلاف المنهجة ، والجراحات الشديدة ، وملامة اللوّام ، ومعاداة من يخاف معاداته - لم يقدم عليه ، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة ، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون ، وفيها تنافس المتنافسون . وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام ، فلم يعلم - من سفره ذلك - إلا مشقة السفر ، ومفارقة الأهل والوطن ، ومقاساة الشدائد ، وفراق المألوفات ، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر هذا السفر ، ومآله ، وعاقبته - فإنه لا يخرج إليه ، ولا يعزم عليه . وحال هؤلاء ، حال الضعيف البصيرة والإيمان ، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد . والزواجر والنواهي ، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات -والفطام على الصبي أصعب شيء ، وأشقّه - والناس كلهم صبيان العقول ، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء ، وأدرك الحقّ علماً ، وعملاً ، ومعرفة ، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيّب ، وما فيه - من الرعد والبرق والصواعق - ويعلم أنه حياة الوجود .
التنبيه الثالث :
قال القاشاني : إنما بولغ في ذكر فريق المنافقين ، وذمهم ، وتعييرهم ، وتقبيح صورة حالهم ، وتهديدهم ، وإبعادهم ، وتهجين سيرهم وعاداتهم : لإمكان قبولهم للهداية ، وزوال مرضهم العارض . عسى التقريع بكسر أعواد شكائمهم ، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم ، فتتزكى بواطنهم ، وتتنور قلوبهم ، فيسلكوا طريق الحق ، ولعل موادعة المؤمنين ، وملاطفتهم إياهم ، ومجالستهم معهم - تستميل طباعهم ، فتهيج فيهم محبةً ما ، وشوقاً تلين به قلوبهم إلى ذكرٍ لله ، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله ، فيتوبوا ويصلحوا ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 145 - 146 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 21 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } لما ذكر الله علوَّ طبقة كتابه الكريم ، وتحزّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق ، مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام . وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ، وما اختصت به كلّ فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ، أقبل عليهم بالخطاب - وهو من الالتفات المذكور عند قوله جل ذكره : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } - وهو فنّ من الكلام جزلٌ ، فيه هزٌّ وتحريك من السامع - كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث لكما : إنَّ فلاناً من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان ! من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك - نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه ، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ، وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وأسباب من المبالغة . كالإيضاح بعد الإبهام . واختيار لفظ البعيد ، وتأكيد معناه بحرف التنبيه .
ومعلوم أنَّ كل ما نادى الله له عباده : من أوامره ، ونواهيه وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك . . مما أنطق به كتابه - أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان علّمهم أن يتيقَّظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن يُنادوا بالآكد الأبلغ - . أفاده الزمخشري - .
والمراد بالناس : كافة المكلفين - مؤمنهم وكافرهم - فطلبُ العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ابتداؤها { الَّذِي خَلَقَكُمْ } أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود وخلق : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : كي تتقون ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقوله سبحانه : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] . وفي إيراد : لعلّ ، تشبه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجو منه أمراً هيّن الحصول ؛ فإنَّه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلة عقليّةً ونقليّةً داعية إليها ، ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة ، لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجي منه - مع تمكنه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجّي - فيما ذكرناه - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 22 ]
{ الَّذِي جَعَلَ } - خلق - : { لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً } بساطاً ومهاداً غير حزنة ، { وَالسَّمَاء بِنَاءً } البناء ، في الأصل ، مصدر سمي به المبني - بيتاً كان ، أو قبةً ، أو خباءً .
قال بعض علماء الفلك في معنى الآية : أي : كالبنيان يشد بعضه بعضاً .
و : { السماء } يراد بها الجنس كالسماوات ، والمعني بها الكواكب السيارات - قال : فجميع السماوات أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة ، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها ، وهو جذب الشمس له .
{ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء } أي : السحاب : { مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً } النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر ، كأنه قيل : إذا أُمرتم بعبادة من هذا شأنه - من التفرد بهذه الأفعال الجليلة - فلا تجعلوا له أنداداً شركاء في العبادة ، أي : أمثالاً تعبدونهم كعبادته - جمع ندّ . وهو المثل ، ولا يقال إلّا للمثل المخالف المناوئ - فإن قيل : كيف صلح تسميتها أنداداً ، وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه ، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده ؟ أجيب : بأنهم لما تقربوا إليها ، وعظموها ، وسموها آلهة - أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ، ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم . وكما تهكَّم بهم بلفظ الندّ شنّع عليهم ، واستفظع شأنهم ، بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط .
{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنها لا تفعل مثل أفعاله ، كقوله : { هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الروم : 40 ] أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة - والتوبيخ فيه آكد - أي : أنتم العرّافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً - هو غاية الجهل ، ونهاية سخافة العقل .
ومما ينبغي التفطن له - في الاعتبار بهذه الآية - ما قاله الزمخشري : من أنَّه سبحانه وتعالى قدَّم من موجبات عبادته ، وملزمات حقَّ الشكر له : خلْقَهُمْ أحياء قادرين أولاً ؛ لأنه سابقة أصول النعم ، ومقدِّمتها ، والسبب في التمكُّن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض ، التي هي مكانهم ، ومستقرهم الذي لا بدَّ لهم منه - وهي بمنزلة عرصة المسكن ، ومتقلَّبه ، ومفترشه ، ثم خلق السماء ، التي هي كالقبّة المضروبة ، والخيمة المطنّبة - على هذا القرار ، ثمَّ ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المُقِلَّة والمُظِلَّة بإنزال الماء عليها ، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار - رزقاً لبني آدم ، ليكون لهم ذلك معتبراً ، ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف ، ونعمةً يتعرَّفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم ، وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأنَّ شيئاً من هذه المخلوقات كلِّها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقَّنوا - عند ذلك - أن لا بُدَّ لها من خالق - ليس كمثلها - حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً ، وهم يعلمون أنها [ لا ] تقدر على نحو ما هو عليه قادر .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 64 ] . فمضمونه أنه الخالق الرازق ، مالك الدار وساكنيها ، ورازقهم . فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره .
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويحققها ، ويبطل الإشراك ، ويهدمه ، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك ، وتصحيحه . وعرَّفهم أنَ من أشرك فقد كابر عقله ، وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه - عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم كيف يتعرَّفون : أهو من عند الله - كما يدَّعي - أم هو من عند نفسه - كما يدّعون - ؟ بإرشادهم إلى أن يحوزوا [ في المطبوع : يحزروا ] أنفسهم ، ويذوقوا طباعهم ، وهم أبناء جنسه ، وأهل جلدته . فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ 23 ]
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا } - أي : من القرآن الذي نزّلناه - : { عَلَى عَبْدِنَا } محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله تعالى ، والتعبير عن اعتقادهم في حقّه بالريب - مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر - كما يعرب عن قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إما للإيذان بأنَّ أقصى ما يمكن صدوره عنهم - وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد - هو الارتياب في شأنه ، وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال ، كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقّه أن يكون ضعيفاً مشكوك الوقوع ، وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ، ونهاية قوتها ، وإنما لم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا . . . الخ ، لما أشير إليه - فيما سلف - من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه - حسبما نطق به قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } - والإشعار بأن ذلك - إن وقع - فمن جهتهم لا من جهته العالية . واعتبار استقرارهم فيه ، وإحاطته بهم ، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته : لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به ، لا قلته ولا كثرته .
وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية ، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - من التشريف ، والتنويه ، والتنبيه على اختصاصه به عز وجل ، وانقياده لأوامره تعالى - ما لا يخفى ، والأمر في قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسورة } من باب التعجيز وإلقام الحجر ، كما في قوله تعالى : { فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } [ البقرة : 258 ] ، أو من باب المجاراة معهم - بحسب حسبانهم - حيث كانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا .
والسورة : الطائفة من القرآن العظيم المترجمة ، وأقلها ثلاث آيات ، وواوها أصلية ، منقولة من سور البلد - لأنها محيطةٌ بطائفة من القرآن مفرزةٍ ، مُحْوِزةٍ ، أو محتويةٌ على فنونٍ رائقة من العلوم ، احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة .
فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتباً- من حيث الفضل والشرف ، أو من حيث الطول والقصر - فهي من حيث انتظامها مع أخواتها في المصحف : مراتب يرتقي إليها القارئ شيئاً فشيئاً . ومن في قوله تعالى : { مِنْ مِثْلِهِ } بيانية متعلقة بمحذوف صفة لسورة ، والضمير : { مِمَّا نَزَّلْنَا } أي : بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة ، وسمّو الطبقة ، والنظم الرائق ، والبيان البديع ، وحيازة سائر نعوت الإعجاز . وقيل : من زائدة - على ما هو رأي الأخفش - بدليل قوله تعالى : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } [ يونس : 38 ] : { بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ } [ هود : 13 ] .
وقوله تعالى : { وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ } إرشادٌ لهم إلى إنهاض أمةٍ جمَّةٍ ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم ، ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحدٌ من أبناء جنسهم ، وهذا كقوله تعالى في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ]
. والشهداء " جمع شهيد ، بمعنى : الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر . ومن : لابتداء الغاية متعلقة بـ " ادعوا " ، والظرف مستقر . والمعنى : ادعوا ، متجاوزين الله تعالى للاستظهار ، من حضركم - كائناً من كان - أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وإشرافكم - الذين تفزعون إليهم في الملمات ، وتعوّلون عليهم في المهمّات - أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم - من أمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق ، بتنفيذ القول عند الولاة - أو القائمين بنصرتكم - حقيقة أو زعماً - من الإنس والجن ليعينوكم . وإخراجه ، سبحانه وتعالى ، من حكم الدعاء في الأول - مع اندراجه في الحضور - لتأكيد تناوله لجميع ما عداه ، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه ، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه . وأما في سائر الوجوه : فللتصريح من أول الأمر ببرائتهم منه تعالى ، وكونهم في عدوة المحادة والمشاقة له ، قاصرين استظهارهم على ما سواه ، والالتفات لإدخال الروعة ، وتربية المهابة : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في زعمكم أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ، واستلزام المقدم للتالي من حيث إن صدقهم في ذلك الزعم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله ، بقضية مشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية والعربية ، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار ، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ، لاسيما عند المظاهرة والتعاون - ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ، ودواعي الأمر به - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ 24 ]
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي : ما أمرتم به من الإتيان بالمثل ، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود : { وَلَن تَفْعَلُواْ } اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرِّر لمضمون مقدامها ، ومؤكدٌ لإيجاب العمل بتاليها ، وهي معجزة باهرة : حيث أخبر بالغيب الخاص - علمه به عز وجل - وقد وقع الأمر كذلك : { فَاتَّقُواْ النَّارَ } جواب الشرط ، على أن اتقاء النار كنايةٌ عن الاحتراز من العناد ، إذ - بذلك - يتحقق تسبُّبه عنه ، وترتبه عليه ، كأنه قيل : فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله - كما هو المقرر - فاحترزوا من إنكار كونه منزلاً من عند الله سبحانه ؛ فإنه مستوجب للعقاب بالنار ، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على تصوير العناد بصورة النار ، وجَعْلِ الاتصاف به عين الملابسة بها للمبالغة في تهويل شأنه ، وتفظيع أمره ، وإظهار كمال العناية - بتحذير المخاطبين منه ، وتنفيرهم عنه ، وحثهم على المجد في تحقيق المكنيّ به - وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى . حيث كان الأصل : فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم ، وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد ، وترْكُكُم الإيمان به ، سبباً لاستحقاقكم العقاب بالنار ، فاحترزوا منه واتقوا النار : { الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } صفة للنار مورثةٌ لها زيادة هول وفظاعة - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - .
والوقود : ما توقد به النار ، وترفع من الحطب . وقُرئ بضم الواو ، وهو مصدرٌ سمي به المفعول مبالغة - كما يقال : فلانٌ فخْرُ قومه ، وزين بلده - . فإن قيل : صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطبة ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
قلت : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدمة عليها ، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من أهل الكتاب . والمراد بالحجارة الأصنام ، وبالناس أنفسهم - حسبما ورد في قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] فإنها مفسرة لما نحن فيه - ، وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود : أنهم لما اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم ، ويستدفعون المضّار عن أنفسهم بمكانهم ، جعلها الله عذابهم ، فقرنهم بها مُحماةٍ في نار جهنم - إبلاغاً في إيلامهم ، وإغراقاً في تحسيرهم ، ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضَّتهم عدة وذخيرة ، فشحُّوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يُحمى عليها في نار جهنم . فتُكوى جباههم وجنوبهم .
{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } هيئت لهم ، وجعلت عدة لعذابهم ، والمراد : إما جنس الكفار - والمخاطبون داخلون فيهم دخولاً أوّلياً ، - وإما هم خاصة ، ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمهم ، وتعليل الحكم بكفرهم - والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، ومبينة لمن أريد بالناس ، دافعة لاحتمال العموم .
تنبيه :
هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدِّي الكافرين بالتنزيل الكريم ، وقد تحدَّاهم الله تعالى في غير موضع منه ، فقال في سورة القصص : { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 49 ] وقال في سورة الإسراء : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] . وقال في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ] . وقال في سورة يونس : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 37 - 38 ] . وكل هذه الآيات مكية .
ثم تحداهم أيضاً في المدينة بقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } [ البقرة : 23 ] ، إلى آخر هذه الآية فعجزوا عن آخرهم : - وهم فرسان الكلام ؛ وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ، ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، وأوتوا من ذرابة اللسان ، ما لم يؤت إنسان . ومن فصل الخطاب ، ما يقيّد الألباب ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقة ، وفيهم غريزة وقوة ، يأتون منها على البديهة بالعجب ، ويُدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهاً في المقامات وشديد الخَطب ، ويرتجزون به بين الطعن والضرب ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصّلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال ، ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الإحن ، ويهيجون الدّمن ، ويُجرِّئون الجبان ، ويبسطون يد الجعد البنّان ، ويصيّرون الناقص كاملاً ، ويتركون النبيه خاملاً ، منهم البدوي : ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهري ، والمنزع القوي ، ومنهم الحضريّ : ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرُّف في القول القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية ، وكلا البابين فلَهما - في البلاغة - الحجَّة البالغة ، والقوّة الدامغة ، والقدح الفالج ، والمهبع الناهج ، لا يشكون أنّ الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، قدَحُوا فنونها ، واستنبطوا عيونها ، ودخلوا من كلّ باب من أبوابها ، وعلوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير والمهين ، وتفننوا في الغث والسمين ، وتقاولوا في القلّ والكثر ، وتساجلوا في النظم والنثر - ومع هذا فيم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحدٌ من فصحائهم ، ولم ينهض - لمقدار أقصر سورة منه - ناهضٌ من بلغائهم ، على أنهم كانوا أكثرَ من حصى البطحاء ، وأوفر عدداً من رمال الدهناء ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارّة ، وإلقائهم الشراشر على المُعازَّة والمُعارّة ، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخُطط ، وركوبهم في كل ما يرمونه الشطط : إن أتاهم أحدٌ بمفخرة أتوه بمفاخر ، وإن رماهم بمأثرةٍ رموه بمآثر . وقد جرّد لهم الحجة أولاً ، والسيف آخراً ، فلم يعارضوا إلا السيف وحده . فما أعرضوا عن معارضة الحجَّة إلا لعلمهم أنّ البحر قد زخر فطمّ على الكواكب ، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب ، وبذلك يظهر أنَّ في قوله تعالى : { وَلَن تَفْعَلُواْ } معجزةً أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم - كمسيلمة - كشف عواره لجميعهم .
قال الحافظ ابن كثير : ذكروا أن عُمَر بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عَمْرو ، ، فقال له مسيلمة : ما أُنزل على صاحبكم في هذه المدة ؟ فقال له عَمْرو : لقد أُنزل عليه سورة وجيزة بليغة . فقال وما هي ؟ فقال : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] .
ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل عليها مثلها . قال : وما هو ؟ فقال : يا وَبْرُ يا وَبْرُ ! إنما أنت أُذنان وصدر . وسائرك حَفْر نقْر - . ثم قال - : كيف ترى يا عَمْرو ؟ فقال له عَمْرو : والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب ! . .
وحيث عجز عرب ذلك العصر ، فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . ! وقد مضى إلى الآن - أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، ولم يوجد أحدٌ من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم ، أو ذو استسلام ، فدل على أنَّه ليس من كلام البشر ، بل كلام خالق القُوى والقُدر ، أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله ، وهذا الوجه - أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حدٍّ خرج عن طوق البشر - كافٍ وحده في الإعجاز ، وقد انضمَّ إليه أوجه :
منها : إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر .
ومنها : كونه لا يملّه السمع مهما تكرر .
ومنها : جمعه لعلوم لم تكن معهودة ، عند العرب والعجم .
ومنها : إنباؤه عن الوقائع الخالية ، وأحوال الأمم ، والحال أنَّ من أُنزل عليه ، صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ، لاستغنائه بالوحي ، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى . وبذلك يُعلم أنَّ القرآن أعظم المعجزات ؛ فإنَّه آية باقية مدى الدهر ، يشاهدها - كلّ حين بعين الفكر - كلُّ ذي حجر ، وسواه - من المعجزات - انقضت بانقضاء وقتها ، فلم يبق منها إلا الخبر .
وقد ذهب بعض علماء الشيعة - في وجه الإعجاز - إلى : كونه قاهراً لمن يقاومه ، وغالباً على من يغالبه ، ونافذاً في إزهاق ما يخالفه ، وكونه مؤثراً في إيجاد الأمة ، وبقاء الشريعة ، ونفوذ الحكم ، وثبوت الكلمة ، لما جعل الله فيه من النور ، والهداية ، والرحمة . وعبارته :
إن كلام الله تعالى يمتاز عن غيره بالنفوذ ، والغلبة في هداية الخلق ، وإنشاء أمة مستقلة ، وإبقاء شريعة جديدة ، وهي علامة كافية في معرفة الكلمات الإلهية ، والآيات السماوية ، ثم قال : وخلاصة تقرير الدليل أن الكلام - الذي يتحدّى الداعي به ، وينسبه إلى الله - إذا ظهر منه التأثير التام في هداية النفوس المستعدة الطالبة ، وقهر الأمم المنكرة المانعة ، فأوجد أمّةً مستقلة ناميةً ، وشريعة جديدة باقية ، فلا يبقى ثمّة شك أنه هو كلام الله النازل من السماء ، والقدرة الظاهرة منه هي القدرة التي منذ القديم ظهرت من المرسلين والأنبياء ، وإلى هذه النكتة أشير في قوله تعالى : { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } [ الأنفال : 7 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ الشورى : 16 ] . وهذه العلامة لا توجد إلاَّ كتب الله تعالى ، ويتمكن كل إنسان أن يدركها ويفهمها منها . سواء كان عالماً ، أو أمياً ، أو عجمياً . شرقياً ، أو غربياً . . ! .
فمن الذي يشك أن بني إسرائيل ما خرجوا عن ظلمات الجهل إلى نور الإيمان ، وعن ذلّة العبودية إلى عز الاستقلال إلا بسبب التوراة . . ؟ ! ومن الذي يجهل أن الأمم الأوروبية ما وصلوا إلى عُبَاْدَة الله تعالى - بعد عُبَاْدَة الأوثان - إلا بواسطة الإنجيل . . ؟ ! ومن الذي لا يعرف أن الأمم الكبرى - من حدود الشرق الأقصى إلى أقاصي إفريقية - ما خرجوا عن ربقة الوثنية ، وعبادة النار إلى التوحيد وعبادة الله إلا بهداية القرآن العظيم ؟ وما تحرروا [ في المطبوع : وما تحروا ] عن أغلال العقائد الفاسدة ، والأعمال القبيحة ، وما وصلوا إلى الأخلاق الفاضلة ، والعقائدة الصحيحة إلاَّ بنور هذا السفر الكريم . . ؟ ! ثم قال : والخلاصة إن هذه العلامة وهي هداية النفوس ، وإيجاد الديانة الجديدة - بقهر الأديان القديمة ، وتبديل العوائد العتيقة - هي العلامة الظاهرة المميزة بين الكلمات الإلهية ! والمصنفات البشرية ، حتى أن أول نفس أذعنت بحقيقة رسالة رسول ، وصدق شريعته ، لو لم تعرف في نفسها هذه الهداية ، ولم تشعر في ذاتها بهذه المغلوبية لما كانت أول من صدقه ولبّاه ، واتبعه وآساه ، فإن محبّة الدين القديم الموروث راسخةٌ في جميع النفوس . والخوف من تبديل أركانه وآدابه متمكّنٌ في أعماق القلوب . فالهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة ؛ إذ هي صفة الفعل ، ومرتبطة بالدعوة - كالإبراء للطب ، ومعرفة السطوح للهندسة ، والبيع والشراء للتجارة ، وصنع الأسرّة والأبواب وغيرها للنجارة - .
ثم قال : وإذا تصفحّت القرآن المجيد ، تجد أن الله تعالى استدلّ بها في مواضع متعددة ، ووصف القرآن بأنه حجّة - بما أودع فيه من الهداية والرحمة - ولا ترى موضعاً واحداً وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف ، فانظر في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 48 - 49 ] . أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله : فأتوا بكتاب من عند الله هو أصفح منهما أو أبلغ منهما ؟ وكذلك لما انتقدوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة ؛ فقال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 50 - 51 ] ، فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات ، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة .
وقال تعالى في أول هذه السورة : { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 1 ، 2 ] وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين ؛ وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة - التي تختلف فيها الأذواق ، وتتشعب فيها الآراء والأنظار - ولكن ما ظهر من الرسول عليه السلام - بسبب نزول القرى ، عليه - من العلم والقدرة على هداية الأمم ، وإزالة أسقام أهل العالم ، وتأسيس الشريعة الإلهامية ، وإيجاد الأمة الإسلامية رغماً للأمم الكبرى ، ومبايناً للديانات العظمى ، أمرٌ ظاهرٌ محسوسٌ ، تصعب فيه المناقشة ، ولا تفيد معه المغالطة ، فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة - كالعرب والفرس ، والخزر ، والترك ، والهنود ، والصينيين ، وأهالي إفريقية - خرجوا من ظلمات الشرك ، وعبادة النار والأوثان ، وإنكار الأنبياء ودخلوا في نور التوحيد ، وعبادة الله وحده ، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه ، بنور الكتاب المبين . . . !
كذا في كتاب " الدرر البهية " لأبي الفضائل الإيراني - ولا يخفى أنّ ما ذكره هو وجه متين ، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله ، بل يجدر أن يضم إليها ، ويكون في مقدمتها والله أعلم .
ثم إن من عادته تعالى ، في كتابه ، أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني - على الأصح - وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر - أو عكسه - أو حال السعداء ثم الأشقياء - أو عكسه - وحاصله ذكر الشيء ومقابله . والحكمة في ذلك : هي إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف . فلما ذكر الكفار وأعمالهم ، وأوعدهم بالعقاب ، قفّاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق ، والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي - فقال عز وجل :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 25 ]
{ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } البشارة : الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، ومنه البَشَرة : لظاهر الجلد . وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء - الزائد في غيظ المستهزأ به ، وتألمه ، واغتمامه - ففيه استعارة أحد الضدّين للآخر تهكُّماً وسخرية .
و : { الصالحات } ما استقام من الأعمال أي : صلح لترتب الثواب عليه ، وقد أجمع السلف على أن الإيمان : قولٌ وعملٌ ، يزيد وينقص ، ثم إنه إذا طلق دخلت في الأعمال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : < الإيمان بضع وستون شعبة - أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبةٌ من الإيمان > .
وإذا عطف عليه - كما في هذه الآية - فهنا ، قد يقال : الأعمال دخلت فيه ، وعطفت عطف الخاص على العام ، وقد يقال : لم تدخل فيه ، ولكن مع العطف - كما في اسم الفقير والمسكين . إذا أفرد أحدهما تناول الآخر ، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان - وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البرّ ، والتقوى ، والمعروف . وفي الإثم ، والعدوان ، والمنكر ، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبّر القرآن .
وقد بين حديث جبريل أنَّ الإيمان أصله في القلب ، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله - كما في " المسند " عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال : < الإسلام علانية والإيمان في القلب > .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : < ألا إنَّ في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب > .
فإذا كان الإيمان في القلب ، فقد صلح القلب ، فيجب أن يصلح سائر الجسد ، فلذلك هو ثمرة ما في القلب . فلهذا قال بعضهم : الأعمال ثمرة الإيمان ، وصحته ؛ لما كانت لازمة لصلاح القلب ، دخلت في الاسم ، كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع ، هذا ما أفاده الإمام ابن تيميّة رحمه الله .
وقوله تعالى : { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } جمع جنّة : وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلّل بالتفاف أغصانه ، وإنما سميت : دار الثواب ، بها مع أنَّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور ، لما أنَّها مناط نعيمها ، ومعظم ملاذّها . وجمعها مع التنكير : لاشتمالها على جنان كثيرة في كلّ منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها .
وقوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } صفة جنات ، ثم إن أريد بها الأشجار ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها ، فلا بدّ من تقدير مضاف - أي : من تحت أشجارها - ، وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار ، فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحّح لإطلاق اسم الجنّة على الكل ، وإنما جيء ذكر الجنات - مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية - لِما أنَّ أنزهَ البساتين ، وأكرمها منظراً ، ما كانت أشجاره مظلِّلة ، والأنهار في خلالها مطّردة ، وفي ذلك النعمة العظمى ، واللذة الكبرى . واللام في الأنهار : للجنس : كما في قولك : لفلان بستان فيه الماء الجاري . أو للعهد . والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } [ محمد : 15 ] الآية .
{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } أي : أُطعموا من تلك الجنات : { مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أي : مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا ، فالإشارة إلى المرزوق في الجنة لتشابه ثمارها . بقرينة قوله : { وَأُتُواْ بِهِ } أي : أتتهم الملائكة ، والولدان برزق الجنة : { مُتَشَابِهَا } يشبه بعضه بعضاً لوناً ويختلف طعماً ، وذلك أجْلَبُ للسرور ، وأزْيَدُ في التعجب ، وأظهر للمزّية ، وأبينُ للفضل .
وترديدهم هذا القول ، ونطقهم به - عند كل ثمرة يرزقونها - دليلٌ على تناهي الأمر في استحكام الشَّبه ، وأنَّه الذي يستملي تعجُّبهم ، ويستدعي استغرابهم ، ويفرط ابتهاجهم . فإن قيل : كيف موقع قوله : { وأتوا به مُتَشَابِهاً } من نظم الكلام ؟ قلت : هو كقولك : فلان أحسنَ بفلان ، ونعم ما فعل . ورأى من الرأي كذا ، وكان صواباً . ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] . وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير .
{ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } من الحيض والاستحاضة وما يختص [ في المطبوع : ما لا يختص ] بهنّ من الأقذار والأدناس - ويجوز لمجيئه مطلقاً ، أن يدخل تحته الطهر من دنَس الطباع ، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهن وكيدهنّ .
وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا هو تمام السعادة ، فإنَّهم - مع هذا النعيم - في مقام أمين من الموت والانقطاع ، فلا آخر له ولا انقضاء . بل في نعيمٍ سرمديٍّ أبديٍّ على الدوام . والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه البر الرحيم .
ولمّا ضرب تعالى - فيما تقدم - للمنافقين مثلين : في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ } الخ . وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } الخ . إلى أمثالٍ أخرى تقدمت على نزول هذه السورة ، من السّور المكية ، ضربت للمشركين - نبّه تعالى إلى موضع العبرة بها ، والحكمة منها ، وتضليل من لا يقدّرها قدرها - ممَّن يتجاهل عن سرّها ، ويتعامى عن نورها ، ويحول دون الاهتداء بها ، والأخذ بسببها - فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } [ 26 ]
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } أي : يذكر مثلاً ما . يقال ضرب مثلاً ، ذكره ، فيتعدّى لمفعول واحد . أو صيّر ، فلمفعولين .
قال أبو إسحاق في قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً } [ الكهف : 32 ] أي : اذكر لهم . وعبارة الجوهري : ضرب الله مثلاً أي : وصف وبيّن . وفي " شرح نظم الفصيح " : ضرب المثل : إيراده ليمتثل به ، ويتصوّر ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب . يقال : ضرب الشيء مثلاً ، وضرب به ، وتمثَّله ، وتمثل به . ثم قال : وهذا معنى قول بعضهم : ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره ، وتمثيله به . وما : هذه اسمية إبهاميّة ، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً ، وزادته شياعاً وعموماً - كقولك : أعطني كتاباً ما ، تريد أي : كتاب كان - كأنه قيل : مثلاً ما من الأمثال ، أي : مثل كان . فهي صفة لما قبلها . أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها كما في قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] كأنه قيل : لا يستحيي أن يضرب مثلاً حقَّاً ، أو البتّة .
و : { بَعَوْضَة } : بدل من : { مَثَلاً } . أو هما مفعولا يضرب ؛ لتضمنّه معنى الجعل والتصيير . ومعنى الآية : إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها . أي : لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً - ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها ، كذلك لا يستنكف عن ضرت المثل بها ، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] ، وقال : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] ، وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز ، فما استنكره السفهاء ، وأهل العناد والمراء ، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء ، ومضروباً بها المثل ليس بموضع للاستنكار والاستغراب . من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهِّم من المشاهد . فإن كان المتمثّل له عظيماً كان المتمثل به مثله ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك ، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً ، إلاَّ أمراً تستدعيه حال المتمثَّل له وتستجّره إلى نفسها ، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية ، ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً ، جلياً أبلج ، كيف تمثّل له بالضياء والنور ؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته ، كيف تمثل له بالظلمة ؟ أفاده الزمخشري .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا } شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى ؛ أي : فأما المؤمنون : { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } كسائر ما ورد منه تعالى ، والحق : هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وذلك لأن التمثل به مسوق على قضية مضربه ، ومحتذى على مثال ما يستدعيه - كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى - وجعلت أقل من الذباب ، وأخسّ قدراً ، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلاً ؛ لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقل . . . . . . . ! .
فالمؤمنون الذين عادتهم الإنصاف ، والعمل على العدل والتسوية ، والنظر في الأمور بناظر العقل - إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحقُّ الذي لا تمرّ الشبهة بساحته ، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } ممن غلبهم الجهل على عقولهم ، وغشيهم على بصائرهم فلا يتفطَّنون ، ولا يلقون أذهانهم ، أو عرفوا أنه الحق ، إلا أنّ حب الرياسة ، وهوى الإلف والعادة ، لا يُخَلِّيهم أن يُنصفوا : { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } أي : فِإذا سمعوه عاندوا ، وكابروا ، وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، ولا خفاء في أن التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها مما لا تخفى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ، ولا متشبث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمي لفرط الحيرة ، والعجز عن إعمال الحيلة ، بدفع الواضح ، وإنكار المستقيم ، والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معولاً .
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } جواب عن تلك المقالة الباطلة ، وردّ لها ببيان أنه مشتمل على حكمةٍ جليلة ، وغاية جميلة ، هي كونه ذريعة إلى هدايةٍ المستعدّين للهداية ، وإضلال المنهمكين في الغواية ، وقدّم الإضلال على الهداية - مع تقدم حال المهتدين على حال الضالّين فيما قبله ، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوؤهم ، ويفت في أعضادهم ، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ } أي : بالمثل أو بضربه : { إِلَّا الْفَاسِقِينَ } تكملة للجواب والرد ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 27 ]
{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } صفة للفاسقين للذم ، والعهد : الذي وصفوا بنقضه : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله - ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } عام في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى : كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام ، والكتب في التصديق ، وسائر ما فيه رفض خيرٍ أو تعاطي شر ، فِإنه يقطع ما بين الله تعالى ، وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل : { وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } بالمنع عن الإيمان ، والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصرحه : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، وعقابها بثوابها .
وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [ الرعد : 19 20 21 ] الآيات إلى أن قال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 28 ]
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } التفات إلى خطاب المذكورين ، مبنيٌّ على إيراد [ في المطبوع : إيراث ] ما عدّد من قبائحهم السابقة ، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع . والاستفهام إنكاريّ بمعنى إنكار الواقع . واستبعاده ، والتعجيب منه ؛ لأن معهم ما يصرف عن الكفر ، ويدعو إلى الإيمان : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } أجساماً لا حياة لها عناصر ، وأغذية ، ونطفاً ، ومضغاً مخلّقة وغير مخلَّقة ، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية ، إمَّا حقيقة بناء على أنَّ الميت عادم الحياة مطلقاً . كما في قوله تعالى : { بَلْدَةً مَيْتاً } [ الفرقان : 49 ] و : { وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ } [ يس : 33 ] . أو استعارة ، جرياً على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة ، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس { فَأَحْيَاكُمْ } بخلق الأرواح ، ونفخها فيكم . وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه ، غير متراخٍ عنه ، بخلاف البواقي : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عندما تُقضى آجالكم : { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بالنشور ، والبعث ، للحساب والجزاء : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم : إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه . . . . . !
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم ، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون ، فيكف نظم ما ينكرونه ، من الإحياء الأخير والرجع ، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول ، والإماتة . . . . . . ؟
قلت : تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر . سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما ، وهو أنه تعالى لمال قدر على إحيائهم أولاً ، قدر على أن يحييهم ثانياً ، فإنَّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته . . . ! أو الخطاب ، مع أهل الكتابين ، وإنكار اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله تعالى إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ، أو على نعمٍ جسامٍ حقها أن تُشكر ولا تُكفر ، أو لإرادة الأمرين جميعاً ؛ فإن ما عدده آيات ، وهي مع كونها آيات من أعظم النعم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 29 ]
{ هو الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاًَ } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ، ويتم به معاشهم ، ومعنى : { لَكُمْ } لأجلكم ، ولانتفاعكم . وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها ، مما ينتفع به من غير ضرر . وفي التأكيد بقوله : { جميعاً } أقوى دلالة على هذا .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } قال أبو العالية الرياحي : استوى إلى السماء أي : ارتفع . نقله عنه البخاري في صحيحه ، ورواه محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن الربيع بن أنس . وقال البغوي : قال ابن عباس وأكثر المفسِّرين : ارتفع إلى السماء . وقال الخليل بن أحمد في : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } : ارتفع . رواه أبو عمر [ في المطبوع : عَمْرو ] ابن عبد البر في شرح الموطأ ، [ و ] نقله الذهبي في " كتاب العلو " . وقد استدل بقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى } على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في [ حم ، السجدة ] . وقوله تعالى في سورة [ وَالنَّازِعَاتِ ] : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] إنما يفيد تأخُّر دحوّها ، لا خلق جرمها ، فإنّ خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء ، ودحوها بعد خلق السماء ، والدحو : هو البسط ، وإنبات العشب منها ، وغير ذلك . مما فسره قوله تعالى : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 31 ] . الآية وكانت قبل ذلك خربة وخالية ؛ على أن : { بعد } تأتى بمعنى : مع ؛ كقوله : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [ القلم : 13 ] أي : مع ذلك ، فلا إشكال . وتقديم الأرض هنا ؛ لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أي : صيرهن ، كما في آية أخرى : { فَقَضَاهُنَّ } [ فصلت : 12 ] .
تنبيه :
قال بعض علماء الفلك : السموات السبع المذكورة كثيراً في القرآن هي هذه السيارات السبع . وإنما خصت بالذكر مع أن السيارات أكثر من ذلك لأنها أكبر السيارات وأعظمها ، على أن القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد على سبيل الحصر فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع .
وقال بعض علماء اللغة : إن العرب تستعمل لفظ سبع ، وسبعين ، وسبعمائة للمبالغة في الكثرة . فالعدد إذن غير مراد . ومنه آية : { سَبْعَ سَنَابِلَ } [ البقرة : 261 ] وآية : { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] وآية : { سَبْعِيْنَ مَرَّةً } [ التوبة : 80 ] والله أعلم .
وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقيّ ، وأن المراد به العالم الشمسي وحده دون غيره . وعبارته : إن قيل : إن كل ما يعلو الأرض من الشمس والقمر والكواكب هو سماء ، فلماذا خصّص تعالى عدداً هو سبع ؟
فالجواب : لا شكّ أنه يشير إلى العالم الشمسيّ الذي أحطنا الآن به علماً وأن حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع ، لأن القول بذلك ، يخرج تطبيق القرآن على الفلك ، لأن العلم أثبتها سبعاً كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها حتى يمكن أن يقال : إنّ سبعاً للمبالغة كسبعين وسبعمائة ، ولا يصح أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جداً بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين مثل العالم الشمسي ويؤيد الحصر في هذا العدد آيةُ : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجا } [ نوح : 15 ، 16 ] فأخرج الشمس لأنها مركز ، وأخرج القمر لأنه تابع للأرض ، ولم يبق تعد ذلك إلا سبع . . . . . !
قال : وبذلك تتجلى الآن معجزة واضحة جلية . لأنه في عصر التقدم والمدنية العربية ، حينما كان العلم ساطعاً على الأرض بعلماء الإسلام ، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلاَّ خمساً بأسمائها العربية إلى اليوم وهي : عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل . وكانوا يفسرونها بأنها هي السموات المذكورة في القرآن . ولمّا لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس ، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد . مع أنَّ القرآن يصرح بأن السموات السبع غير الشمس والقمر . وذلك في قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً } [ الرعد : 2 ] فلفظ : { وسخر } دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السموات . ولذلك كان المفسرون الذين لا يعرفون الهيئة لا يرون أن تعدَّ الشمس سماءً ، ولا القمر ، لعلمهم أن السموات السبع مسكونة ، وأما الشمس فنار محرقة ؛ فذهبوا في تفسير السموات على تلك الظنون ، ولما اكتشف بعدُ بالتلسكوب سيّارٌ لم يكن معلوماً ، دعوه : أورانوس ، ثم سيّار [ في المطبوع : سيّر ] آخر سموه : نبتون ، صارت مجاميع السيارات سبعاً ، فهذا الاكتشاف الذي ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بألف ومائتي سنة دل على معجزة القرآن ، ونبوة المنزَّل عليه صلى الله عليه وسلم . ثم قال : وأما كون السموات هي السيارات السبع بدون توابعها ، فلا يفهم من الآية ، لأن الأقمار التي نثبتها ، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ ، يلزم أن تكون تابعة للسموات السبع ِ لأنها تعلونا وهي في العالم الشمسي . وحينئذٍ فالسموات السبع هي مجاميع السيارات السبع ؛ بمعنى : أن مجموعة زحل بما فيها هو نفسه أي : مع أقماره الثمانية تعد سماء ، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشتري ، ويدل على هذا التطبيق قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [ الملك : 5 ] يشير إلى أن السماء الدنيا - أي : السماء التي تلي الأرض - فلك المريخ ؛ فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح ، وتعتبر كلها سماء وليس السيّار نفسه . . . . . ! انتهى .
وقوله تعالى : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } اعتراض تذييليّ مقرِّر لما قبله ، من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة ، والمصالح اللائقة ، فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق .
ولما ذكر تعالى الحياة والموت المشاهدَيْن تنبيهاً على القدرة على ما اتبعهما به من البعث ، ثم دل على ذلك أيضاً بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع ، وختم ذلك بصفة العلم ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 30 ]
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } أي : قوماً يخلف بعضهم بعضاً ، قرناً بعد قرن . كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ } [ الأنعام : 165 ] وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } [ النمل : 62 ] وقال : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] وقال : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ مريم : 59 ] . ويجوز أن يراد : خليفة منكم ، لأنهم كانوا سكان الأرض ، فخلفهم فيها آدم وذريّته ، وأن يراد : خليفة مني ، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبيّ : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } [ ص : 26 ] والغرض من إخبار الملائكة بذلك ، هو أن يسألوا ذلك السؤال ، ويجابوا بما أجيبوا به ، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم ، أو الحكمة : تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها ، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاروة أو تعظيم شأن المجعول ، وإظهار فضله ، بأن بشرَّ بوجود سكّان ملكوته ، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقَّبَه بالخليفة .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } هذا تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، واستعلام عن الحكمة في ذلك . أي : كيف تستخلف هؤلاء ، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك أي : ولا يصدر عنّا شيء من ذلك وهلاّ وقع الاقتصار علينا . . . . . ؟ فقال تعالى مجيباً لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إن لي حكمة في خلق الخليفة لا تعلمونها .
فإن قلت : من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه ، وإنما هو غيب ؟ أجيب : بأنهم عرفوه : إما بعلمٍ خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ؛ فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف : { مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ، ما يقع بينهم من المظالم ، ويردَعُهُم عن المحارم والمآثم .
قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره : وما يقال من أنه كان قبل آدم ، عليه السلام ، في الأرض خلق يعصون ، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام كلامٌ لا أصل له . بل آدم أول ساكنيها بنفسه . انتهى .
وقوله تعالى : { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي : ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ، ملتبسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة .
وقوله : { نُقَدِّسُ لَكَ } أي : نصفك بما يليق بك من العلوّ والعزّة وننزّهك عمّا لا يليق بك . وقيل : المعنى نُطَهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح . وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم ، بتطهير النفس عن الآثام . لا تمدحاً بذلك ، ولا إظهاراً للمنة ، بل بيانا للواقع
تنبيهات
في وجوه فوائد من الآية
الأول : دلت الآية على أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعته ، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ، لاسيما عند الحيرة . والسؤال يكون بالمقال ، ويكون بالحال ، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العلمي ، والاستدلال العقلي ، والإلهام الإلهي .
الثاني : إذا كان من أسرار الله تعالى ، وحكمه ، ما يخفى على الملائكة ، فنخن أولى بأن يخفى علينا ، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً . . . . . . . !
الثالث : إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل تعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم ؛ وذلك أنه تعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون علّم آدم الأسماء ، ثم عرضهم على الملائكة ، كما سيأتي بيانه .
الرابع : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، عن تكذيب الناس ، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان ، على إنكار ما أنكروا ، وبطلان ما جحدوا ، فإذا كان الملأ الأعلى قد مُثلوا على أنهم يختصمون ، ويطلبون البيان والبرهان ، فيما لا يعلمون ، فأجدرْ بالناس أن يكونوا معذورين ، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين . وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها ، وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب ، وكونه لا ريب فيه ، والرسول ، وكونه يبلغ وحي الله تعالى ، ويهدي به عباده ، واختلاف الناس فيها .
ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها ، أو قريبة منها ، مع كون الجميع في سياق موضوع واحد . كذا في تفسير مفتي مصر . ولما بين سبحانه وتعالى لهم أولاً على وجه الإجمال والإبهام ، أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم ، ليستشرفوا إليها ، أبرز لهم طرفاً منها ، ليعاينوه جهرةً ، ويُظهر لهم بديع صنعه وحكمته ، وتنزاح شبهتهم بالكلية ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 31 ]
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } إما بخلق علم ضروري بها فيه ، أو إلقاءٍ في روعه . وآدم : اسم عبرانيّ مشتق من أدَمَه ، وهي لفظة عبرانية معناها التراب ، لأنه جُبل من تراب الأرض . كما أن حواء كلمة عبرانية معناها : حي ، وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء . والمراد بالأسماء ، أسماء كل شيء . قال ابن عباس : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ، وفي التوراة مصداق الآية : وهو أنه تعالى صور من الأرض كل حيوانات البر ، وكل طيور السماء ، وأحضرها إلى آدم ، لينظر ما يسميها ، وكل ما سماه آدم من نفسٍ حية ، فهو اسمه . وسمى آدم جميع الحيوانات بأساميها ، وجميع طيور السماء ، وجميع وحوش الأرض
وقال ابن جرير : وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر ، والذكرى لمن ادّكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله عز وجل في هذا القرآن ، من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن ؛ وذلك أن الله جل ثناؤه ، احتج فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، على من كان بين ظهرانيّه ، من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب ، التي لم يكن تعالى أطلع من خلقه إلا خاصّاً ، ولم يكن مدركاً علمه إلا بالأنباء والأخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته ، ويعلموا أن ما آتاهم به فمن عنده .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة ما بين هذا المقام ، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك . فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ولهذا ذكر الله هذا المقام ، عقيب هذا ، ليبين لهم شرف آدم بما فضل عليهم في العلم : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ } أي : عرض أهل الأسماء ، فالضمير للمسميات المدلول عليها ضمناً : { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } أي التي علمتها آدم . وإنما استنبأهم ، وقد علم عجزهم عن الإنباء ، تبكيتاً لهم ، وإظهاراً لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة ، فِإن التصرف والتدبير ، وإقامة المعدلة ، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ، ومقادير الحقوق ، مما لا يكاد يمكن : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته ، كما ينبئ عنه مقالكم . والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه ، قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار ؛ فإن أدنى مراتب الاستحقاق ، هو الوقوف على أسماء ما في الأرض ، ولما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم ، أنابوا إلى الله تعالى بالتوبة ، وذلك ما أفاده قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ 32 ]
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه ، إلا بما شاء . وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ، واعتراف منهم بالعجز والقصور عما كلفوه ، أنه العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه والسلام ، لما نحن بمعزل من الاستعداد له ، من العلوم الخفية المتعلقة بما في الأرض من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فلك خلافة الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة ، ومن جملته تعليم آدم عليه السلام ما هو قابل له من العلوم الكلية ، والمعارف الجزئية ، المتعلقة بالأحكام الواردة على ما في الأرض ، وبناء أمر الخلافة عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ 33 ]
{ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ } أي : أعلمهم : { بِأَسْمَائِهِمْ } التي عجزوا عن علمها : { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ } عز وجل تقريراً لما مر من الجواب الإجمالي واستحضاراً له : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إيراد ما لا تعلمون بعنوان الغيّب مضافاً إلى السموات والأرض للمبالغة في بيان كمال شمول علمه المحيط ، وغاية سعته مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم ، وعلم آدم عليه السلام ، الأمور المتعلقة بأهل السموات والأرض . وهذا دليل واضح على أن المراد بما لا تعلمون ، فيما سبق ، ما أُشير إليه هناك ، كأنه قيل : ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافة ما لا تعلمونه فيه ، هو هذا الذي عاينتموه . وفي الآية تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } عطف على جملة : { ألم أقل لكم } لا على : { أعلم } ، إذ هو غير داخل تحت القول . أي : ما تظهرونه بألسنتكم ، وما كنتم تخفون في أنفسكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ 34 ]
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } لما أنبأهم بأسماء ، وعلمهم ما لا يعلموا أمرهم بالسجود له ، على وجه التحية والتكرمة تعظيماً له ، واعترافاً بفضله ، واعتذاراً عما قالوا فيه . وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام : { فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } أي : امتنع عن السجود : { وَاسْتَكْبَرَ } أي : تكبر ، وقال : أنا خير منه ، فالسين للمبالغة : { وَكَانَ } في سابق علم الله ، أو صار : { مِنَ الْكَافِرِينَ } .
تنبيهات :
الأول : للناس في هذا السجود أقوال : أحدها أنه تكريم لآدم ، وطاعة لله ، ولم يكن عبادةً لآدم . وقيل : السجود لله ، وآدم قبلة ، أو السجود لآدم تحية ، أو السجود لآدم عُبَاْدَة بأمر الله ، وفرضه عليهم . ذكر ابن الأنباري عن الفرّاء ، وجماعة من الأئمة : أن سجود الملائكة لآدم ، كان تحية ، ولم يكن عُبَاْدَة ، وكان سجود تعظيم وتسليم وتحيه ، لا سجود صلاة وعبادة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال أهل العلم : السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه . وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله . فإن الله تعالى قال : { اسجدوا لآدم } ولم يقل : إلى آدم . وكل حرف له معنى ، وفرق بين : سجدت له ، وبين : سجدت إليه . قال تعالى : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } [ فصلت : 37 ] : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الرعد : 15 ] أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار ، والأشجار ، والدواب محرم ، وأما الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، ولا يقال صلى لبيت المقدس ، ولا للكعبة . والصواب أن الخضوع بالقلوب ، والاعتراف بالعبودية ، لا يصل [ في المطبوع : لا يصلى ] على الإطلاق إلا لله سبحانه . وإما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر . فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه ، لسجدنا طاعة واتباعاً لأمره . فسجود الملائكة لآدم عُبَاْدَة لله ، وطاعة ، وقربة يتقربون بها إليه . وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم . وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام . ولم يأت أن آدم سجد للملائكة . بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العلمين . وبالجملة ، أهل السنة قالوا : إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له . وقالت المعتزلة : كان آدم كالقبلة يسجد إليه ، ولم يسجدوا له . قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ؛ فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، وصالح البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم . خالفت المعتزلة في ذلك وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة ، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] .
الثاني : اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود ، فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض . قال تقي الدين بن تيمية : هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى . وقيل : هم جميع الملائكة ، حتى جبريل وميكائيل . وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة . قال ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد ردّ القرآن بالكذب والبهتان ، لأنه سبحانه قال : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] ، وهذا تأكيد للعموم .
الثالث : للعلماء في إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ قولان :
أحدهما أنه كان من الملائكة . قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، واختاره الشيخ موفق الدين ، والشيخ أبو الحسن الأشعري ، وأئمة المالكية ، وابن جرير الطبري . قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم . قال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ } فلولا أنه من الملائكة ، لمَا توجه الأمر إليه بالسجود ، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم سكن عاصياً ، ولما استحق الخزي والنكال .
والقول الثاني : أنه كان من الجن ، ولم يكن من الملائكة . قاله ابن عباس ، في رواية ، والحسن وقتادة ، واختاره الزمخشري ، وأبو البقاء العكبري ، والكواشي في تفسيره . لقوله تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] ، فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، ولا ذرية للملائكة .
قال في الكشاف : إنما تناوله الأمر ، وهو للملائكة خاصة ، لأن إبليس كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجنيّ الذي معهم أجدر بأن يتواضع .
والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ، وصححه البغوي . وأجابوا عن قوله تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة .
قال ابن القيم : الصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول وحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته ، وليس منهم بمادته وأصله ؛ كان أصله من نار ، وأصل الملائكة من نور . فالنافي كونه من الملائكة ، والمثبت ، لم يتواردا على محل واحد . وكذلك قال الشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في الفتاوي المصرية : وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار ، سموا : جناً ؛ لاستتارهم عن الأعين ، فإبليس كان منهم . والدليل على ذلك قوله تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] ، وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية .
سئل الشعبي : هل لإبليس زوجة ؟ قال : ذلك عرس لم أشهده ! قال : ثم قرأت هذه الآية ، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة . فقلت : نعم . وقال قوم : ليس له ذرية ولا أولاد ، وذريته أعوانه من الشياطين .
الرابع : في قوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين } قولان : أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقاً ، والثاني أنه كان مؤمناً ثم كفر ، وهذا قول الأكثرين . فقيل في معنى الآية : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين } في علم الله ، أي : كان عالماً في الأزل أنه سيكفر . والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله . أو يقال : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك . واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس ، لعنه لله . فقالت الخوارج : إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر . وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . وقال آخرون : كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله . وقال آخرون : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود . ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحاً . وقال جمهور الناس : كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن ، واعتقد أنه محق في تمرده ، واستدل بـ : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } [ الأعراف : 12 ] كما يأتي . فكأنه ترك السجود لآدم . تسفيها لأمر الله وحكمته . وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : < لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر > كذا في " كتاب الاستعاذة " للإمام [ ابن ] مفلح [ في المطبوع : سقط ابن ] الحنبلي رحمه الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [ 35 ]
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، وخلق له زوجة وأقرهما في الجنة ، أباحهما الأكل منها بقوله : { وَكُلا مِنْهَا رَغَداً } أي : أكلاً واسعاً . وحيث : للمكان المبهم ، أي : أيّ مكان من الجنة شئتما . أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة ، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة ، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه بقوله :
{ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } أي : هذه الحاضرة من الشجر ، أي : لا تأكلا منها ، وإنما علق النهي بالقربان منها ، مبالغة في تحريم الأكل ، ووجوب الاجتناب عنه ، لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة . والألفة : داعية للمحبة ، ومحبة الشيء تعمي وتصمّ . فلا يرى قبيحاً ، ولا يسمع نهياً ، فيقع . والسبب الداعي إلى الشر منهيّ عنه ، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به . وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم < العينان تزنيان > لما كان النظر داعياً إلى الألفة ، والألفة إلى المحبة ، وذلك مفضٍ لارتكابه ، فصار النظر مبدأ الزنا . وعلى هذا قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [ الإسراء : 32 ] ، { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] .
قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل : لا تقرَب بفتح الراء ، كان معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء ، معناه لا تَدْنُ ، نقله ابن مفلح في " كتاب الاستعاذة " . ونقل الفرق المذكور بينهما أيضاً السيد مرتضى في " شرح القاموس " عن شيخه العلامة الفاسي ، قال : إن أرباب الأفعال نصوا عليه ، وظاهر القاموس أنهما مترادفان ، فإنه قال : قرب منه ، ككرم ، وقريه كسمع قرباً وقَرباناً ، وقِرباناً : دنا ، فهو قريب . للواحد والجمع . انتهى .
لطيفة :
جاء في آية الأعراف : { فَكُلا } [ الأعراف : 19 ] وهنا بالواو ، لأن كل فعل عطف عليه شيء ، وكان ذلك الفعل كالشرط ، وذكر الشيء كالجزاء ، عطف بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } [ البقرة : 58 ] لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها ذكر بالفاء ، كأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالأكل يتعلق وجوده بوجود الدخول . وقوله في الأعراف : { اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا } [ الأعراف : 161 ] بالواو دون الفاء ، لأنه منه السكنى ، وهو في المقام مع اللبث الطويل ، والأكل لا يختص وجوده بوجوده ، لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه ، وإن كان مجتازاً ، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط ، عطف بالواو . وإذا ثبت هذا فنقول : قد يراد بـ : { اسكن } الزم مكاناً دخلته ، ولا تنتقل عنه ، وقد يراد ادخله واسكن فيه . ففي البقرة ، ورد الأمر ، بعد أن كان آدم في الجنة ، فكان المراد المكث ، والأكل لا يتعلق به ، فجيء بالواو . وفي الأعراف ورد قبلُ أنَّ دخول [ في المطبوع : دخل ] الجنة ، والمراد الدخول والأكل متعلق به ، فورد بالفاء .
تنبيه :
لم يرد في القرآن المجيد ، ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة ؛ إذ لا حاجة إليه ، لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة ، وما لا يكون مقصوداً ، لا يجب بيانه . وقوله : { مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى .
قال ابن مفلح الحنبلي في " كتاب الاستعاذة " : قال ابن حزم : حمل الأمر على الندب ، والنهي على الكراهة ، يقع في الفقهاء والأفاضل كثيراً ، وهو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام ، ولا يؤخذون به [ في المطبوع : يوخذاون ] ، وعلى السبيل أكل آدم من الشجرة . ومعنى قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : ظالمين لأنفسكما ، والظلم في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه . انتهى
ثم قال : وقال أبو محمد بن حزم في " الملل والنحل " : لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحداً لا يحلف حانثاً ، وهكذا فعل آدم عليه السلام ، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسياًً لنص القرآن ، ومتأولاً وقاصداً إلى الخير ، لأنه قدّر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكاً مقرباً ، أو خالداً فيما هو فيه أبداً ، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله به ، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره ، لكن تأوّل وأراد الخير فلم يصبه ، ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجوراً ، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا ، كان بذلك ظالماً لنفسه ، وقد سمى الله تعالى قاتل الخطأ قاتلا ، كما سمى العامد ، والمخطئ لم يعمد معصية ، وجعل في مثل الخطأ عتق رقبة ، وهو لم يعمد ذنباً .
انتهى .
وقال الشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، وجماعة من المتأخرين : الصواب أن آدم عليه السلام ، لما قاسمه عدوّ الله أنه ناصح ، وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات :
أحدها القسم .
الثاني الإتيان بجملة اسمية لا فعلية .
والثالث تصديرها بأداة التأكيد .
الرابع الإتيان بلام التأكيد في الخبر .
الخامس الإتيان به اسم فاعل لا فعلاً دالاً على الحدث .
السادس تقدم المعمول على العامل [ في المطبوع : القليل ] فيه .
ولم يظن آدم أن أحداً يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً [ في المطبوع : يمين غموس ] ، فظن صدقه ، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ، ورأى أن الأكل ، وإن كان فيه مفسدة ، فمصلحة الخلود أرجح ، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة ، كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية .
قال ابن مفلح : فآدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل ، فالتأويل لنص الله أخرجه ، وإلا فهو لم يقصد المعصية ، والمخالفة ، وأن يكون ظالماً مستحقاً للشفاء . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [ 36 ]
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } أي : أذهبهما عن الجنة ، وأبعدهما . يقال : زلّ عن مرتبته ، وزل عني ذاك ، إذا ذهب عنك ، وزلّ من الشهر كذا . وقال ابن جرير : فأزلهما ، بتشديد اللام ، بمعنى استزلهما ، من قولك زلّ الرجل في دينه ، إذا هفا فيه وأخطأ ، فأتى ما ليس له إتيان فيه ، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه . وقرئ : { فأَزالهما } بالألف ، من التنحية : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } من الرغَد والنعيم والكرامة : { وقلنا اهبطوا } أي : انزلوا إلى الأرض ، خطاب لآدم وحواء والشيطان ، أو خطاب لآدم وحواء خاصة ، لقوله في الآية الأخرى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } [ طه : 123 ] ، وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس ، فكأنهما الإنس كلهم : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } متعادين يبغي بعضكم على بعض : { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } منزل وموضع استقرار : { وَمَتَاعٌ } تمتع بالعيش : { إِلَى حِينٍ } أي : إلى الموت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 37 ]
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } استقبلها بالأخذ والقبول ، والعمل بها حين علمها . قال ابن جرير : وهي الكلمات التي أخبر عنه أنه قالها متنصلاً بقيلها إلى ربه ، معترفاً بذنبه ، وهو قوله : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] الآية ، فدعا بها لكي تكون عنواناً له ولأولاده على التوبة : { فَتَابَ عَلَيْهِ } فرجع عليه بالرحمة والقبول ، وتجاوز عنه ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } في الجمع بين الإسمين ، وعدٌ للتائب بالإحسان مع العفو .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 38 ]
{ قُلْنَا } لآدم وحواء : { اهْبِطُواْ مِنْهَا } من الجنة : { جَمِيعاً } ثم ذكر ذرية آدم فقال : { فَإِمَّا } بإدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة : { يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } كتاب أنزله عليكم ، ورسول أبعثه إليكم : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } أقبل على الهدى وقبل : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } في الآخرة بأن يدخلوا الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 39 ]
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بالكتاب والرسول : { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يموتون ولا يخرجون .
تنبيه :
إنما كرر الأمر بالهبوط للتأكد والإيذان بتحتم مقتضاه ، وتحققه لا محالة . أو لاختلاف ولمقصود . فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون . والثاني أشعر بأنهم أُهبطوا للتكليف . فمن اتبع الهدى نجا . ومن ضله هلك .
فوائد :
الأولى : ذهب كثيرون إلى أن الجنة التي أُهبط منها آدم عليه السلام ، كانت في الأرض . قال بعضهم : هي على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء . وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة ، كما في قوله تعالى : { اهْبِطُوا مِصْراً } [ البقرة : 61 ] ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن هذه الجنة : لو كانت هي دار الثواب ، لكانت جنة الخلد ، ولو كان آدم في جنة الخلد ، لَمَا لحقه الغرور من الشيطان بقوله : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [ طه : 120 ] ، ولَمَا صح قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ]
وثانيها : أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى : { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] .
وثالثها : لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء ، لكان ذلك أولى بالذكر ، لأن نقله من الأرض إلى السماء ، من أعظم النعم . فدل ذلك على أنه لم يحصل . وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد .
ورابعها : روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < سيحان وجيحان والفرات والنيل ، كل من أنهار الجنة > .
قال ابن مفلح : أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد ، دار الثواب . ثم قال : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية : وهذا قول أهل السنة والجماعة ، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدَّة ، أو غير ذلك ، فهو من الملحدة المبتدعين . والكتاب والسنة يردان [ في المطبوع : يرد ] هذا القول . وقد استوفى الكلام فيها في " مفتاح دار السعادة " وكتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " .
الفائدة الثانية : اتفق الناس أن الشيطان كان متولياً إغواء آدم ، واختلف في الكيفية ، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء : أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى } [ طه : 120 ] ، وقوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] ، ومقاسمته لهما : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] . والمقاسمة ظاهرها المشافهة ، ومنهم من قال : كان ذلك بالوسوسة ، كما قال : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ } [ الأعراف : 20 ] ، فإغوؤه إغراؤه بوسواسه وسلطانه الذي جعل له ، كما قال صلى الله عليه وسلم : < إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم > .
وزعموا أن الشيطان لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها . والوسوسة : لغة ، حديث النفس والأفكار ، وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير ، والكلام الخفي . وظاهر الآيات يؤيد القول الأول .
الفائدة الثالثة : لم يسمَّ الشيطان في الآية ، إذ لا حاجة ماسة إلى اسمه ، كما تقدم في الشجرة .
ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموماً ، وذكر مبدأهم - دعا بني إسرائيل خصوصاً ، وهم اليهود ، لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، وقد جرى الكلام معهم - من هنا إلى الآية رقم 142 - فتارة دعاهم بالملاطفة ، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم . وتارة بالتخويف ، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم ، وذكر عقوباتهم التي عاقبهم بها ، كما سيأتي تفصيله ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ 40 ]
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : أولاد يعقوب . وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل ، كأنه قيل : يا بني العبد الصالح المطيع لله ، كونوا مثل أبيكم ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا ، ويا ابن العالم ، اطلب العلم ، { اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال ابن جرير : نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل : اصطفاؤه منهم الرسل ، وإنزاله عليهم الكتب ، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه ، إلى التمكين لهم في الأرض ، وتفجير عيون الماء من الحجر ، وإطعام المن والسلوى ، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكونَ ما سلف منه إلى آبائهم على ذِكْرٍ [ في المطبوع : ذُكْرٍ ] ، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم ، فيحل بهم من النقم ، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها ، وجحد صنائعه عنده : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } العهد هو الميثاق ، وقد أشير إليه في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ المائدة : 12 ] ، الآية . فعهد الله هو وصيته لهم ، بما ذكر في الآية . ومنها : الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام ، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة . وعهده تعالى إياهم ، هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة ، وقوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } قال ابن جرير : أي : اخشوني واتقوا ، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل ، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه ، أن أُحلّ بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه ، ما أحللت بمن خالف أمري ، وكذب رسلي من أسلافكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } [ 41 ]
{ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ } أي : من القرآن : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي : موافقاً بالتوحيد ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، وبعض الشرائع ، لما معكم من الكتاب كما في " التنوير " قال ابن جرير : أمرهم بالتصديق بالقرآن ، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقاً منهم للتوراة ؛ لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه ، نظيرُ الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة . ففي تصديقهم بما أنزل على محمد ، تصديق منهم لما معهم من التوراة . وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة . انتهى .
وتقييد المنزَّل بكونه مصدقاً لما معهم ، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر ، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعاً .
تنبيه :
كثيراً ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها ، كآية : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } [ البقرة : 89 ] ، وآية : { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [ يونس : 37 ] وغيرهما . مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم ، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي ، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة ، وقد رُد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه ، بأن معنى كون القرآن مصدقاً لما معهم ، ما ذكرناه قبل في تأويلها ؛ وحاصله أن ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته ، وصحة البشائر عنه ، كما قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } أي : أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل ، وبمعنى أن أحواله جميعاً توافق البشائر .
{ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } يعني من جنسكم أهل الكتاب ، بعد سماعكم بمبعثه . فالأولية نسبية ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن ، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه ، والمستفتحين على الذين كفروا به ، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم ، ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، لقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } .
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } أي : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي ، بالدنيا وشهواتها ، فإنها قليلة فانية ، فالاشتراء استعارة للاستبدال { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } بالإيمان واتباع الحق ، والإعراض عن حطام الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ 42 ، 43 ]
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } اللبس الخلط ، وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين . والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي يخترعونه أو يذكرونه في تأويله حتى يشتبه أحدهما بالآخر ، وقوله : { وَتَكْتُمُواْ } مجزوم داخل تحت حكم النهي . وتكرير الحق ، لزيادة تقبيح المنهي عنه ؛ إذ في التصريح باسم الحق ، ما ليس في ضميره ، والتقييد بقوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } لزيادة تقبيح حالهم ؛ إذ الجاهل عسى يعذر ، وقوله : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } الآية ، أمر بلزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان ، وذلك إقامة الصلاة بأدائها بفروضها والمحافظة عليها ، وإعطاء الصدقة المفروضة ، والركوع لله ، أي : الخضوع لأوامره بإطاعتها .
قال ابن جرير : هذا أمر من الله جل ثناؤه ، لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه ، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والدخول مع المسلمين في الإسلام ، والخضوع له بالطاعة ، ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد تظاهر حججه عليهم ، وبعد الإعذار لهم والإنذار ، وبعد تذكيره نعمه إليهم ، وإلى أسلافهم تعطفاً منه بذلك عليهم ، وإبلاغاً إليهم في المقدرة .
وقد قيل في قوله : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } حث على إقامة الصلاة في الجماعة ؛ لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 44 ]
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أي : بما فيه لله رضا من القول أو الفعل . وجماع البر كل ما فيه طاعة لله تعالى . والهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم : { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } أي : تتركونها من البر كالمنسيات . والمعنى تخالفون ما تأمرون به من ذلك إلى غيره . وقوله : { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } تبكيت مثل قوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر ، ومخالفة القولِ العملَ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه ، حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبوا العقول ، لأن العقول تأباه وتدفعه .
روى الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن إبراهيم النَّخَعِي قال : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } وقوله :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] ، وقوله إخباراً عن شعيب : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ 45 ]
{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ } أي : على الوفاء بالعهد : { وَالصَّلاَةِ } أي : التي سرها خشوع القلب للرب . فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر . قال ابن جرير : أي : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي ، واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري ، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه ، والصلاة . فالآية متصلة بما قبلها ، كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة ، والإعراض عن المال عولجوا بذلك { وَإِنَّهَا } الضمير للصلاة ، وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها ، واشتمالها على ضروب من الصبر ، وجُوّز عود الضمير على الاستعانة بهما : { لَكَبِيرَة } لشاقة ثقيلة كقوله تعالى : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] : { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ 46 ]
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } أي : محشورون إليه يوم القيامة للجزاء . والظن هنا بمعنى اليقين ، ومثله : { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] .
قال ابن جرير : العرب قد تسمي اليقين ظنّاً ، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفَةً ، والضياء سُدْفَةً ، والمغيث صارخاً ، والمستغيث صارخاً ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده .
والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر : { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي : بعد الموت فيجازيهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 47 ] : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ } عطف على نعمتي ، عطف الخاص على العام لكماله . أي : فضلت آباءكم : { عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم ، وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكاً ، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام ، وبعده قبل أن يغيروا ، وتفضيل الآباء شرف الأبناء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ 48 ]
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً } يريد يوم القيامة أي : حسابه أو عذابه : { لاَّ تَجْزِي } فيه : { نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي : لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق . فانتصاب : { شيئاًْْ } على المفعولية ، أو شيئاً من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية ، وإيراده منكّراً مع تنكير النفس للتعميم ، والإقناط الكلي : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ } لا يقبل : { مِنْهَا عَدْلٌ } أي : فدية : { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يمنعون من عذاب الله . وجُمع لدلالة النفس المنكّرة على النفوس الكثيرة ، وذُكّر لمعنى العباد أو الأناسي .
تنبيه :
تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة ؛ لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل أوترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنها لا تقبل للعصاة .
والجواب : أنها خاصة بالكفار . ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ، وكما قال عن أهل النار : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 ، 101 ] فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا يُنفذ أحداً من عذابه منقذ ، ولا يخلص منه أحد .
وفي الانتصاف : من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها . وأما من آمن بها وصدقها ؛ وهم أهل السنة والجماعة ، فأولئك يرجون رحمة الله ، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم ، وليس في الآية دليل لمنكريها ؛ لأن قوله : { يوماً } أخرجه منكّراً ، ولا شك أن في القيامة مواطن ، ويومها معدود بخمسن ألف سنة ، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة ، وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيها المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام ، وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها ؛ منها قوله تعالى : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، مع قوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ، ووقتين متغايرين : أحدهما محل للتناول ، والآخر ليس محلاً له . وكذلك الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، رزقنا الله الشفاعة ، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ 49 ]
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } تذكير لتفاضيل ما أجمل في قوله تعالى : { نعمتي التي أنعمت عليكم } من فنون النعماء . أي : واذكروا وقت تنجيتنا إياكم ، أي : آباءكم ، فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم . والمراد بالآل : فرعون وأتباعه ؛ فإن الآل يطلق على الشخص نفسه ، وعلى أهله وأتباعه وأوليائه . قاله في " القاموس " .
ثم بين ما أنجاهم منه بقوله : { يَسُومُونَكُمْ } أي : يبغونكم : { سُوَءَ الْعَذَابِ } أي : أفظعه وأشده : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } أي : يتركونهم أحياء : { وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } البلاء إما المحنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون ، أو النعمة ، إن أشير به إلى الإنجاء . قال ابن جرير : العرب تسمي الخير بلاء ، والشر بلاء .
فائدة :
فرعون لقب لمن ملك مصر كافراً ، ككسرى لملك الفرس ، وقيصر لملك الروم ، وتُبّع لمن ملك اليمن كافراً ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وخاقان لملك الترك . ولعتوّه أشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا عتا وتمرد .
وسبب سَوْمِهِ بني إسرائيل سوء العذاب ، من تذبيح أبنائهم - على ما روي في التوراة - خوفه من نموهم وكثرة توالدهم . وكانت أرض مصر امتلأت منهم ؛ فإن يوسف عليه السلام ، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر ، أعطاهم ملكاً في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر ، وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه السلام ، فتكاثروا وتناسلوا ، ولما توفي يوسف عليه السلام ، والملك الذي اتخذه وزيراً عنده ، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل ، إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة ، فرأى غوّ الإسرائيليين ، فقال لقومه : أضحى بنو إسرائيل شعباً أكثر منا وأعظم ، فهلمّ نحتال لهم لئلا ينمو ، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ، ويخرجون من أرضنا . فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم ، وكانوا كلما أشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة ، فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم ، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جوراً ويمرّرون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللَّبِن ، وكل فلاحة الأرض ، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقة ، وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى ، ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه السلام . وقوله جل ذكره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [ 50 ]
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } بيان لسبب التنجية ، وتصوير لكيفيتها ، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها ، وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق ؛ أي : واذكروا إذ فلقناه بسلوككم ، أو ملتبساً بكم ، أو بسبب إنجائكم ، وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك . فالباء على الأول استعانة ، مثلها في : كتبت بالقلم . وعلى الثاني للمصاحبة ، مثلها في : أسندت ظهري بالحائط . وعلى الثالث للسببية . والوجه الأول ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفلق بعصا موسى . قال تعالى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل : { فَأَنجَيْنَاكُمْ } أي : من الغرق بإخراجكم إلى الساحل : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } أريد فرعون وقومه ، وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي : إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم .
وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية ، على ما روي ، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية ، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر . بعد إباء شديد منه ، ورؤية آيات إلهية كادت تُحِل به وبقومه البوارَ . فدعا موسى وهارون وقال : اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعاً ، واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم . فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب ، تغير قلبه عليهم ، وقال : ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا ؟ فشد مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراءهم ، وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم ، وهو المشهور ببحر السويس فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم ، قالوا : يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر ؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيراً لنا من أن نهلك في هذه البرية : { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] وقال : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] . وأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وأيبس قعره ، فدخل بنو إسرائيل فيه ، فتبعهم فرعون وجنوده ، فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية ، وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم . وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل ، ومن أبسطها فيه سورة الشعراء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } [ 51 ]
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى } أي : بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم : { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } أي : لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها . وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى : اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحاً من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم . فصعد موسى إلى الجبل ، وبقي هناك أربعين يوماً وأربعين ليلة . وموسى : كلمة عبرانية معناها منشول من الماء : { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } أي : إلهاًً ومعبوداً : { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد مضيّه للميقات : { وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } أي : بوضع العبادة في غير موضعها ، وهو حال من ضمير اتخذتم ، أو اعتراض تذييليّ ؛ أي : وأنتم قوم عادتكم الظلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 52 ]
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } أي : محونا ذنوبكم : { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : الاتخاذ والظلم القبيح : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 53 ] : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً ، وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل ؛ يعني التوراة ، كقولك : رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة ، ونحوه قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياء وذكراً ، أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرها من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفراق البحر . وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ، كقوله تعالى : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } [ الأنفال : 41 ] يريد به يوم بدر : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 54 ]
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبلُ ، روى أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات ، ورأى ما صنع قومه بعده من عُبَاْدَة العجل ، غضب ورمى باللوحين من يده ، فكسرهما في أسفل الجبل ، ثم أحرق العجل الذي صنعوه ، ثم قال : من كان من حزب الرب فليُقبل إليّ . فاجتمع إليه جميع بني لاوى ، وقال لهم : هذا ما يقول الرب إله إسرائيل : ليتقلد كل رجل منكم سيفه . فجوزوا في وسط المحلة من باب وارجعوا ، وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه . فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى ، فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل ، وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل ، وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب ، وقال لهم : أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة ، وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم . فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه .
و لاوي : ثالث مولود ليعقوب عليه السلام من أولاده الاثني عشر ، معناه في العربية ملتصق أو متصل . والأحبار اللاويّون ينسبون إليه ، وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام للخدمة المقدسة ، وجعلهم من المقربين لديه . وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أمر لمن لم يعبد العجل ، أعني اللاويين ، أن يقتلوا العَبَدَة . لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضاًَ مطلقاًَ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 55 ، 56 ]
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ؛ إذ سألتم رؤيتي عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون . ويؤيده آية الأعراف : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ } [ الأعراف : 155 ] الآية .
وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ؛ فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك ، فمنع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟ أفاده ابن كثير . وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج ، وهذا من المواضع المحقق تحريفها ، ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش .
وجهرةً : في الأصل ، مصدر قولك جهرت بالقراءة . استعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد ، في الوضوح والانكشاف ، إلا أن الأول في المسموعات ، والثاني في المبصرات ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس ، أو على الحال من الفاعل أو المفعول .
قال ابن جرير : وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه ، أو عاينه ، أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب ، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ، أو فقد بعض آلات الجسم ، صوتاً كان ذلك أو ناراً ، أو زلزلة أو رجفاً . قال : ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقاً ، وهو حيّ غير ميت ، قول الله عز وجل : { وَخَرَّ موسَى صَعِقاً } يعني مغشياً عليه . ومنه قول جرير :
~وَهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا !
فقد علم أن موسى لم يكن ، حين غُشي عليه وصعق ميتاً ؛ لأن الله ، جل وعز ، أخبر عنه أنه لما أفاق قال : تبت إليك . ولا شبّه جريرٌ الفرزدقَ ، وهو حيّ ، بالقرد ميتاً ، ولكن معنى ذلك ما وصفناه .
وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي : إلى تلك الصاعقة . وقوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } قال الراغب الأصبهاني في تفسيره : البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه ، لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به ، فقيل : بعثت البعير من مبركه أي : أثرته ، وبعثته في السير أي : هيجته ، وبعث الله الميت أحياه ، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال . وكل ذلك واحد في الحقيقة ، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات . ثم قال : والموت حُمِلَ على المعروف ، وحُمِلَ أيضاً على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت ، وليس يقتضى قوله : { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } أنهم ماتوا ، ألا ترى إلى قوله : { وَخَرَّ موسَى صَعِقاً } لكن الآية تحتمل الأمرين ، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المُتعري [ في المطبوع : المتعدي ] عن الاحتمالات . انتهى .
وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكرة وهي : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } [ الأعراف : 155 ] ، فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا ، والتنزيل يفسر بعضه بعضاً ، والأصل توافق الآي . وقد ذكر ابن إسحاق والسدّي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله .
دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائر ، ولذا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، سؤال الرؤية إلا استعظمه ، وذلك في آيات : منها هذه . ومنها قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } [ النساء : 153 ] . ومنها قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها . وكما أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا ، فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة ، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك ، وهي قطيعة الدلالة ، لا ينبغي لمنصفٍ أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا أن العقل قد حكم بها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 57 ]
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم ، فمنها تظليل الغمام عليهم ، وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا ، لئلا تؤذيهم حرارة الشمس ، وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد ، ومنها إنزال المنّ .
وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم ، وأتوا إلى برية سين ، التي [ في المطبوع : الت ] بين إيليم وسيناء ، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر ، تذمروا على موسى وهارون في البرية ، وقالوا لهما : ليتنا متنا في أرض مصر ؛ إذ كنا نأكل خبزاً ولحماً ، فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتُهلكا هذا الجمع بالجوع . فأوحى تعالى لموسى عليه السلام إني أمطر عليكم خبزاً من السماء ، فليخرج الشعب ، ويلتقطوا [ في المطبوع : ويلتقطون ] حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم ، هل يمشون في شريعتي أم لا ، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيؤون ضِعف ما يلتقطونه يوماً فيوماً . لأن اليوم السابع يوم عيد لا يُشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء .
فقال لهم موسى : إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحماً تأكلون ، وبالغداة تشبعون خبزاً . فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة ، وبالغداة أيضاً وقع الندى حول المحلة ، ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة ، يشبه الجليد على الأرض ، فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا : ما هذا ؟ لأنهم لم يعرفوه . فقال لهم موسى : هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا ، وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته ، وقدر مأكله . ففعل بنو إسرائيل كذلك ، ولقطوا ما بين مكثّر ومقلّل ، وقال لهم موسى : لا تبقوا منه شيئاً إلى الغد . فلم يطيعوا موسى ، واستفضل منه رجال إلى الغد ، فضرب فيه الدود ونتن ، فغضب عليهم موسى ، وكانوا يلقطون غدوة ، كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل ، فإذا أصابه حر الشمس ذاب . وقد أُعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع ، راحةً وتقديساً له . وكان إذا خرج بعض الشعب ليلقط ، يوم السابع ، لا يجد في الأرض منه شيئاً . ودعا آل إسرائيل اسمه المنّ ، وكان مثل حب الكُزْبُرة أبيض ، وطعمه كرقاق بعسل ، وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة حتى أتو إلى الأرض العامرة ، ودنوا من تخوم أرض كنعان . وروي في ترجمة التوراة أيضاً أن المنّ كان يشبه لون اللؤلؤ ، وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى . ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور ، ويعملون منه رغفاً طعمها كالخبز المعجون بالدهن . ومتى نزل الندى على المحلة ليلاً كان ينزل المن معه .
هذا ما كان من أمر المن . وأما السلوى فروي أيضاً : أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم ، وجلسوا يبكون ، ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضاً ، وقالوا : من يطعنا لحماً لنأكل ؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن ، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم ، والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المنّ . فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم ، وعلم غضب الرب عليهم ، لذلك ، ابتهل إلى ربه وقال : من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون عليّ ، ويقولون أعطنا لحماً لنأكل ؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلاً من شيوخ شعبه وعرفائه ، ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه ، ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحماَ يأكلون منه شهراً حتى يأنفوا منه . فأخبر موسى الشعب بذلك ، ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه ، فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب ، وكانت تطير بالجوّ ذراعين على الأرض ، وقام الشعب يومهم ذلك كله والليل . وفي غد اليوم الثاني ، فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار ، سطحوه سطيحاً ويبسوه حول المحلة . وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب ؛ فضربه ضربة عظيمة جداً ، ودعي اسم ذلك الموضع قبور الشهوة ؛ لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا ، ثم خرجوا من قبور الشهوة ، وارتحلوا لغيره . انتهى .
وقوله تعالى : { كلوا } على إدارة القول أي : قائلين لهم ، أو قيل لهم كلوا . وقوله : { وما ظلمونا } كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة . معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز ، والإشعار بأنه أمر محقق غنيّ عن التصريح به ؛ أي : فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر ، وما ظلمونا بذلك ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، بالعصيان ؛ إذ لا يتخطاهم ضرره ، وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ 58 ، 59 ]
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } هذا إشارة إلى ما حلّ ببني إسرائيل لما نكلوا عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة ، أرضَ كنعان ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام ، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية ؛ لأن القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً . وتقع على المدن وغيرها . كذا في " كفاية المتحفظ " ثم إنّ ما قصّ هنا ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [ المائدة : 20 - 22 ] الآيات .
وقوله تعالى : { ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } في التأويلات : يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب ، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها . ويحتمل من الباب القرية نفسها ، لا حقيقة الباب كقوله : { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } ذكر القرية ولم يذكر الباب ، وذلك في اللغة جائز . ويقال : فلان دخل في باب كذا . لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن كونه في أمر هو فيه .
وقوله : { سجداً } يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود . فيُخرّج على وجوه : على التحية لذلك المكان ، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين ، ويحتمل الكناية عن الصلاة ؛ إذ العرب قد تسمّي السجود : صلاة ، كأنهم أُمروا بالصلاة فيها ، ويحتمل أن الأمر بالسجود لا على حقيقة السجود والصلاة ولكن أمر بالخضوع له ، والطاعة والشكر على أياديه والله أعلم .
وقوله تعالى : { وقولوا حطة } خبر محذوف ، أي : مسألتنا حطة . والأصل النصب ؛ بمعنى : حطّ عنّا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات .
وقوله سبحانه : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } أي : بدّلوا أمر تعالى لهم
بدخول الأرض مجاهدين بالإحجام عنه ، وتثبيط الناس . ولذا قال أبو مسلم : قوله تعالى : { فبدل } يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل . والدليل عليه : أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة . قال تعالى : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ } إلى قوله : { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } [ الفتح : 15 ] ولم يكن تبديلهم إلاّ الخلاف في الفعل لا في القول . فكذا هنا ، فيكون المعنى : إنهم لما أمروا بدخول الأرض ، وما ذكر معه ، لم يمتثلوا أمر الله ، ولم يلتفتوا إليه .
وفي تكرير : { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } زيادة في تقبيح أمرهم ، وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم . والرجز : هو الموت بغتة ، كما تقدّم .
قال الراغب : وتخصيص قوله : { رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء } هو أنّ العذاب ضربان : ضرب قد يمكن على بعض الوجوه دفاعه ، أو يظنّ أنه يمكن فيه ذلك ، وهو كلّ عذاب على يد آدميّ ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق ، وضرب لا يمكن ولا يظنّ دفاعه بقوّة آدميّ كالطاعون ، والصاعقة ، والموت وهو المعنيّ بقوله : { رجزاً من السماء } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 60 ]
هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها . وروي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل من برية سينا بأمره تعالى ، وحلوا في رقادين ، ولم يكن هناك ماء ليشربوا ، فخاصموا موسى ، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب ، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا ، ودوابنا بالعطش ؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا ، فأوحى إليه أن أمض أمام الشعب ، وخذ معك من شيوخ إسرائيل ، والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك ، واذهب إلى صخرة حوريب ، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب . ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل . انتهى .
وقوله تعالى : { اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } أي : عدد أسباط يعقوب الاثني عشر ، لكل سبط منهم عين قد عرفوها . قال الراغب : وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده ، وهذا المنكر ، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات ، فقد ترك النظر على طريقته ؛ إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد ، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره ، والحجر الحلاق يحلق الشعر ، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة ، وإذا لم يكن مثل ذلك منكراً عندهم ، فغير ممتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض . وقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي : لا تمشوا في الأرض بالفساد ، وخلاف أمر موسى . قال الراغب : فإن قيل : فما فائدة قوله : { مفسدين } والعثوّ ضرب من الإفساد ؟ قيل : قد قال بعض النحويين : إن ذلك حال مؤكدة ، وذكر ألفاظاً مما يشبه . وقال بعض المحققين : إن العثو ، وإن اقتضى الفساد ، فليس بموضوع له ، بل هو كالاعتداء ، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد ، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ، وهذا الاعتداء ليس بإفساد ، بل هو بالاضافة إلى ما قوبل به ، عدل . ولولا كونه جزاءً لكان إفساداً . فبين تعالى أن العثو المنهي عنه ، هو المقصود به الإفساد . فالإفساد مكروه على الإطلاق ، ولهذا قال : { وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } [ الأعراف : 56 ] ، وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل ، كما تقدم . وهذا ظاهر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ 61 ] : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ } قال قتادة : لما ملّوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالوا ذلك . قال الراغب : إن قيل : كيف قال : { لن نصبر على طعام واحد } وكان لهم المن والسلوى ، قيل : إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة ، كقولك : فلان يفعل فعلاً واحداً في كل يوم ، وإن كثرت أفعاله ، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها . وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ ؛ لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم : { لن نصبر على طعام } ، حتى أكدوا بقولهم : { واحداً } أو أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل .
{ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا } هو الثوم لقراءة ابن مسعود " وثومها " وللتصريح به في التوراة في هذه القصة . وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاءً لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي : أثاثي ، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر ، وللمغافير : مغاثير { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } أي : أدون قدراً ، وأصل الدنوّ القرب في المكان ، فاستعير للخسة ، كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل : بعيد الهمة { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } أي : بقابلة ما هو خير ، أي : أرفع وأجل ، وهو المنّ الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية . وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية : { اهْبِطُواْ مِصْراً } هكذا هو منوّن مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور ، بالصرف . قال ابن جرير : ولا أستجيز القراءة بغير ذلك . لإجماع المصاحف [ في المطبوع : المصحف ] على ذلك ، أي : من الأمصار ، أي : انحدروا إليه : { فَإِنَّ لَكُم } فيها : { مَّا سَأَلْتُمْ } أي : فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار ، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير ، في أي : بلد دخلتموها وجدتموه . فليس يساوي مع دناءته ، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه . ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، بعد تعداد النعم ، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء ، وكفرهم ، واعتدائهم ، وضرب الذلة عليهم لذلك ، استطراداً ، فقال : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } فمن هنا إلى قوله : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى ، يدل هذا على قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم . والذلة بالكسر الصَغار والهوان والحقارة . والذُّل بالضم ضد العز . والمسكنة مفعلة من السكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر ، والمسكين مفعيل منه كذا في " السمين " وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة ، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك . وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أذل الفرق ، وأشدهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغراً ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت له ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال ، وإن بلغ في الكثرة أي : مبلغ ، فهو مرتد بأثواب المسكنة .
{ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } أي : رجعوا به ، أي : صار عليهم ، أو صاروا أحقاء به . من قولهم . باء فلان بفلان ، أي : صار حقيقاً أن يقتل بمقابلته . فالباء على التقديرين صلة باؤوا ، لا للملابسة . وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه ، ولا دلالة في الكلام عليه : { ذَلِكَ } إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم : { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم : { كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } كزكريا ويحيى عليهما السلام . وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهراً ، ولم يذكر قتل رسول من الرسل . وذلك والله أعلم لقوله : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] وقوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } [ الصافات : 172 ] وقال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل ، والله أعلم . كذا في التأويلات .
وقوله : { بغير الحق } لم يخرج مخرج التقييد ، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال ، لمكان العصمة . بل المراد نعي هذا الأمر عليهم ، وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر ، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا ، والغلوّ في العصيان ، والاعتداء ، كما يفصح عنه قوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي : جرّهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر ، وقتل الأنبياء عليهم السلام . وقيل : كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم ، كما أنه بسبب الكفر والقتل ، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي ، واعتدائهم حدود الله تعالى . وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب ؛ إذ بدىء أولاً بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته . ثم ثُنّي بما يتلوه في العظم ، وهو قتل الأنبياء ، ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم ، ثم بما يكون منهم من المعاصي المعتدية إلى الغير ، مثل الاعتداء . وهذا من " لطائف أسلوب التنزيل " .
ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العامّ لليهود وغيرهم . وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهيّ ، وضرب الذلة والمسكنة ، كما حل باليهود ، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين . وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد ، عقب بضده ليكون الكلام تاماً فقيل :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 62 ]
أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه . قال في " فتح البيان " : كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر . ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله . والمراد بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ، لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان فقال : < أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره > . ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية . فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن . ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ، ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً . انتهى .
قال الراغب في تفسيره : تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين : أحدهما الإقرار بالشهادتين ، الذي يؤمّن نفس الْإِنْسَاْن ، وماله عن الإباحة إلا بحق ، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام . والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الْإِنْسَاْن من أمر دينه . فقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } عنى به المتديّن بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { من آمن بالله } عنى به المتحري للاعتقاد اليقيني ، فهو غير الأول . ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع ، بيّن تعالى أن كل من تعاطى ديناً من هذه الأديان في وقت شرعه ، وقبل أن ينسخ ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقينيّ ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ثم قال : وقول ابن عباس : إن هذا منسوخ بقوله : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عِمْرَان : 85 ] ، يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام ، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبيّ عليه السلام . فأما في وقته ، فالأديان كلها منسوخة بدينه . أي : فليس مراد ابن عباس ، ومن وافقه ، أنه تعالى كان وعد من عَمِل صالحاً من اليهود ، ومن ذكر معهم على عمله ، في الآخرة الجنة ، ثم نسخه بآية : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } بل مراده ما ذكر الراغب . وهذا ما لا شبهة فيه . ولذا قال ابن جرير : ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } عن جميع ما ذكر في أول الآية .
تنبيه :
ظاهر هذه الآية ، مع تفسير الراغب : { مَنْ آمَنَ } بالمتحري للاعتقاد اليقينيّ ، مما قد يستدل به العنبريّ لمذهبه . فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبريّ ذهب إلى كل مجتهد مصيب ، حتى في الأصول ، ووافقه الجاحظ . قال الغزالي في " المستصفى " : ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية ، إن كان معانداً على خلاف اعتقاده ، فهو آثم ، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم ، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر ، فهو أيضاً معذور ، وإنما الآثم المعذب المعاند فقط ؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وهؤلاء قد عجزوا عن دَرك الحق ، ولزموا عقائدهم خوفاً من الله تعالى ؛ إذ استُدّ عليهم طريق المعرفة . ثم ردّه الغزاليّ بأدلة سمعية ضرورية ، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به ، وذمّهم على إصرارهم على عقائدهم ، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة .
ثم قال الغزاليّ : وأما قوله - أي : الجاحظ - : كيف يكلفهم ما لا يطيقون ؟ قلنا : نعلم ضرورة أنه كلفهم ، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون ، فلننظر فيه ، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ، ونصب من الأدلة ، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات ، الذين نبّهوا العقول ، وحركوا دواعي النظر ، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل . وقوله : { وَالَّذِينَ هَادُواْ } أي : تهودوا . يقال : هاد يهود ، وتهوّد ، إذا دخل في اليهودية . هو هائد ، والجمع هود . وهم أمة موسى عليه السلام ، وإنما لزمهم هذا الاسم ؛ لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة ، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم ، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب - بالذال المعجمة ، فقلبتها العرب دالاً مهملة - .
وقوله تعالى : { وَالنَّصَارَى } جمع نصران ، كندامى جمع ندمان ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانية ، والياء في نصرانيّ للمبالغة ، كما في أحمريّ ، سُموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام . كذا في " الكشاف " أو هو جمع نصرانيّ ، مغير عن ناصريّ نسبة إلى ناصرة ، القرية المعروفة . وقد نسب إليها المسيح عليه السلام ، لأنه رُبِّيَ بها . وجاء في الإنجيل : يسوع الناصري .
وقوله تعالى : { والصابئين } جمع صابئ ، ويقال لهم الصابئة . قال ابن جرير : الصابئ هو المستحدث ، سوى دينه ، ديناً ، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب : صابئاً . يقال منه : صبا فلان يصبو صباء ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت .
وقد اختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم ، من أهل الملل ؟ . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوماً لا دين لهم ، فعن مجاهد : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، ولا دين لهم . وعن ابن زيد : الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي ّ . وعن قتادة : أنهم قوم يعبدون الملائكة . وقال الإمام الشهرستانيّ ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله : والصبوة في مقابلة الحنيفية . وفي اللغة : صبا الرجل إذا مال وزاغ . فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة . وهم يقولون : الصبوة هو الانحلال عن قيد الرجال . وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين .
والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب ، [ و ] الحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة . فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة ، فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، ولا يقولون بالشريعة والإسلام . فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد . والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس ، وهما شيت وإدريس ، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء . وهم أصحاب الروحانيات . فيعتقدون أن للعالم صانعاً حكيماً مقدّساً عن سمات الحدثان . والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يُتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهراً وفعلاً وحالة . أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، الذين جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم ، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب .
وأما الفعل ، فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ، فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها ، ولكل روحاني هيكل ، ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره . - وكانوا يسمون الهياكل أرباباً ، وربما يسمونها آباء ، والعناصر أمهات - ، ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية : مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان . ثم قد تكون التأثيرات كليّة صادرة عن روحانيّ كليّ ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئيّ . فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك . ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل ، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح ، وما ينزل من السماء : مثل الصواعق والشهب ، وما يحدث في الجو من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، والضباب ، وقوس قزح ، وذوات الأذناب ، والهالة ، والمجرة ، وما يحدث في الأرض من الزلازل ، والمياه ، والأبخرة ، إلى غير ذلك .
قالوا : وأما الحالة ، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى ؟ .
هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستانيّ في كتاب " الملل والنحل " ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحاني المحض ، والبشرية النبوية . وأوردها على شكل سؤال وجواب . فلتنظر ثَمَّ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه في " الرد على المنطقيين " : إن حرّان كانت دار هؤلاء الصابئة ، وفيها ولد إبراهيم عليه السلام ، أو انتقل إليها من العراق . على اختلاف القولين وكان بها هيكل العّلة الأولى ، هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل . هيكل المشتري . هيكل المريخ ، هيكل الشمس . وكذلك الزهرة ، وعطارد ، والقمر . وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم . ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين ، حتى جاء الإسلام ، ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ، ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها ، أطباء وكتاباً ، وبعضهم لم يسلم . وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية . وكانوا يصلّون إلى القطب الشماليّ . وتحت جامع دمشق مَعْبَد كبير له قبلة إلى القطب الشماليّ كان لهؤلاء .
فإن الصابئة نوعان : صابئة حنفاء موحّدون ، وصابئة مشركون . فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية . فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً ، من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل .
والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء ، كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل . وهذا بخلاف المجوس والمشركين ، فإنه ليس فيهم مؤمن . فلهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابئينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] ، فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة . لم يذكر في الست من كان مؤمناً ، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط . ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين ، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين .
وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً ، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ، ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم . ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه . وكذلك المشركون من الهند . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين ، هو أرسطو . انتهى .
وما قرره الإمام ابن تيمية ، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين ، من أن معنى قوله تعالى : { مَنْ آمَنَ } من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد ، علاماً بمقتضى شرعه ، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين . وذهب آخرون إلى أن معنى قوله : { مَنْ آمَنَ } من أحدث من هذه الطوائف ، إيماناً خالصاً بما ذكر . قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام . وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه ، فلا ملابسة له بالمقام ، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات . فليتأمل .
وقوله تعالى : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } أي : الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان ، وهو في الأصل جعل العامل على عمله . وفي قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت ، مأمون من الفوات . وقوله تعالى : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : حين يخاف الكفار العقاب ويحزنون على تفويت الثواب .
تنبيه :
قال العلامة البقاعي في تفسيره : وحسن وضع هذه الآية ، في أثناء قصصهم ، أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم . وربما أمروا بقتل النساء أيضاً . فربما ظن من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل . وقد ذكر منه في سورة المائدة ، وفي وضعها أيضاً في أثناء قصصهم ، إشارة إلى تكذيبهم في قولهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [ آل عِمْرَان : 75 ] وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة . وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع . وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذل والمسكنة . وسيأتي بعض ذلك عند قوله : { لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } [ البقرة : 83 ] الآية . بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف في الدين ، فإنه قال في وسط السفر الثاني : وإذا لقيت ثور عدوّك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه . وإذا رأيت حمار عدوك جاثماً تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده . ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 63 ]
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } تذكيراً لجناية أخرى لأسلافهم ، أي : واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة ، { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } ترهيباً لكم لتقبلوا الميثاق . وذلك أن الطور اقتلع من أصله ، ورفع وظلل فوقهم . والطور : هو الجبل . وقيل لهم وهم مظلٌّ [ في المطبوع : مطلٌّ ] فوقهم : { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم } من الكتاب : { بِقُوَّةٍ } أي : بجد واجتهاد : { وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ } واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تتقوا المعاصي ، أو رجاء منكم أن تنتظموا في سلك المتقين ، أو طلباً لذلك .
وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الأعراف : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] .
قال الراغب : إن قيل إن هذا يكون إلجاء ولا يستحق به الثواب ، قيل : لم يستحقوا الثواب بالالتزام ، وإنما استحقوه بالعمل بها من بعد . فأما في التزامها فمضطرون ، قال بعض الناس : عنى بالطور تشديد الأمر عليهم ، وجعل ذلك مثلاً . وذلك بعيد . ومثله قال القاشانيّ : طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها . فإنه بعيد يأباه ظاهر الآية الأخرى . وإن كان الإطلاق في اللغة لا ينحصر في الحقيقة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ } [ 64 ]
{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم } أي : أعرضتم عن الوفاء بالميثاق : { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد : { فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : لكم بتوفيقكم للتوبة ، أو تأخير العذاب { لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ } أي : الهالكين بالعقوبة .
قال الراغب : الخاسر المطلق ، في القرآن ، هو الذي خسر أعظم ما يقتني ، وذلك نعيم الأبد ، وهو المذكور في قوله : { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ الزمر : 15 ] .
وقال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور ، تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ؛ فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العلم بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بهم ، وعصوا أمرهم . ومنها ما عمله أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ، ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك . حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون . وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به . حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح ، وهموا بقتله .
والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم . فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب ، وجحودهم لحقه . وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر . والله أعلم .
ثم ذكرّهم تعالى بالإيقاع بمن نقض ميثاقه وفيما أخذه عليهم من تعظيم السبت بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ 65 ]
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ } أي : تعمدوا العدوان : { مِنكُمْ فِي السَّبْتِ } بأن استحلوه وتحيّلوا على اصطياد الحيتان فيه . وذلك أن الله ابتلاهم ، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت كما قال : { تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } [ الأعراف : 163 ] ، فحفروا حياضاً عند البحر ، وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد . فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم . فتسبب عن اعتدائهم المذكور ما ذكره تعالى بقوله : { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } أي : صاغرين مطرودين مبعدين من الخير ، أذلاء . وقد روي عن الضحاك وقتادة : أنهم مسخوا قردة ، لها أذناب تعاوى ، بعد ما كانوا رجالاً ونساء . وأما مجاهد فقال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة . وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً . رواه ابن جرير . وهكذا قال القاشانيّ : { كُونُواْ قِرَدَةً } أي : مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم . ثم قال : والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة . وردت به الآيات والأحاديث . وفي أثر : عدّ المسوخ ثلاثة عشر ، وبيان أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم . والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ، ورسخ فيه بحيث زال استعداده ، وتمكن في طبعه ، وصار صورة ذاتية له ، صار طبعه طبع ذلك الحيوان . ونفسه نفسه ، فصارت صفته صورته . وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 163 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [ 66 ]
{ فَجَعَلْنَاهَا } أي : المسخة والعقوبة : { نَكَالاً } عبرة تنكل المعتبر بها ، أي : تمنعه وتردعه . ومنه النكل للقيد : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها : { وَمَا خَلْفَهَا } ممن جاء بعدهم ، أو لأهل تلك القرية وما حواليها ، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها : { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } من قومهم ، أو لكل متق سمعها . وأشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور ، وأن النقم تقع في غيرهم ، وعظاً لهم .
تنبيه :
أفادت هذه الآية التنويه بشأن يوم السبت عند الإسرائيليين ؛ إذ مستحلوه منهم مسخوا قردة . وفي ترجمة التوراة ما نصه : وكلم الرب موسى قائلاً : كلم بني إسرائيل ، تحفظون السبت لأنه مقدس لكم ، من دنّسه يقتل ، ومن صنع فيه عملاً يقطع من بين شعبه . في ستة أيام تصنع الأعمال ، وأما اليوم السابع ففيه سبت راحة ، وليحفظ بنو إسرائيل السبت ، وليتخذوه عيداً بأجيالهم . لأن الرب خلق السماء والأرض في ستة أيام ، وفرغ يوم السابع . وفيها أيضاً ما نصه : في ستة أيام تعمل عملك ، وأما اليوم السابع ففيه تستريح ، لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب . انتهى .
وقد حرم على اليهود فيه أن يُعدّوا طعامهم . بل حرم عليهم أن يوقدوا ناراً . وفي سفر نحميا في الفصل الثالث عشر ما نصه : وفي تلك الأيام رأيت في يهوذا قوماً يدوسون في المعاصر في السبت ، ويأتون بأكداسها يحملونها على الحمير ، وبخمر أيضاً ، وعنب وتين ، وكل حمل مما كانوا يأتون به إلى أورشليم في يوم السبت . فأشهدت عليهم يوم بيعهم الطعام . وكان الصوريون المقيمون بها يأتون بالسمك . وكل نوع من المبيعات ، ويبيعون في يوم السبت لبني يهوذا ، وفي أورشليم . فخاصمت عظماء يهوذا ، وقلت لهم : ما هذا الشرّ الذي تفعلونه وتدنّسون يوم السبت ؟ ألم تفعل آباؤكم هكذا ؟ فجلب إلهنا كل هذا الشر علينا وعلى هذه المدينة ، وأنتم تزيدون الغضب على بني إسرائيل بتدنيسكم السبت ، إلى آخره .
ولما بيّن تعالى قساوتهم في حقوقه العلية ، أتبعه ببيان قساوتهم في مصالح أنفسهم توبيخاً لأخلاقهم . مع الإشارة إلى نعمته عليهم في خرق العادة في شأن البقرة ، وبيان من هو القاتل بسببها ، وإحياء الله تعالى المقتول ، ونصه على من قتله منهم ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ 67 ] . : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } بني إسرائيل : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } وذلك أنه وجد قتيل فيهم ، وكانوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله : { قَالُواْ } استئناف وقع جواباً عما ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : فماذا صنعوا ؟ هل سارعوا إلى الامتثال أو لا . فقيل : { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } بضم الزاي وقلب الهمزة واواً ، وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون . أي : أتجعلنا مكان هُزُوٍ ، أو أهل هُزُوٍ ، أو مهزواً بنا ، أو نفس الهزو ، للمبالغة . وأشعر جوابهم ما ثبت من فظاظتهم ؛ إذ فيه سوء الأدب على من ثبتت رسالته وقد علموها .
{ قَالَ } استئناف كما سبق : { أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } لأن الهزؤ في أثناء تبليغ أمر الله ، سبحانه ، جهل وسفه . نفى عنه ، عليه السلام ، ما توهموه من قبله على أبلغ وجه ، وآكده ، بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه ، استفظاعاً له ، واستعظاماً لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه ، عليه السلام ، بها . والعوذ : اللجأُ من متخوف لكافٍ يكفيه . والجهل : التقدم في الأمور بغير علم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } [ 68 ]
{ قَالُواْ } تمادياً في الغلظة : { ادْعُ لَنَا } أي : لأجلنا : { رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ } ما حالها ، وصفتها ؟ ! . وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى . فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن . الخارجة عما عليه البقر ، و : { مَا } وإن شاعت في طلب مفهوم الحقيقة ، لكنها قد يطلب بها الصفة والحال . تقول : ما زيد ؟ فيقال : طبيب أو عالم { قَالَ } أي : موسى عليه السلام ، بعد ما دعا ربه عز وجل بالبيان ، وأتاه الوحي { إِنَّهُ } تعالى : { يَقُولُ إِنَّهَا } أي : البقرة المأمور بذبحها : { بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ } أي : لا مسنّة . وقد فرضت فروضاً ، فهي فارض ، أي : أسنّت . من الفرض بمعنى القطع . كأنها قطعت سنّها وبلغت آخرها { وَلاَ بِكْرٌ } أي : لا فتية صغيرة لم يلقحها الفحل { عَوَانٌ } أي : نصف : { بَيْنَ ذَلِكَ } أي : سنّي الفارض والبكر : { فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } هذا أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به . وفيه حث على الامتثال ، وزجر عن المراجعة . ومع ذلك لم يفعلوا ، بل سألوا بيان اللون بعد بيان السنّ بأن :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } [ 69 ]
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا َ }
شديد الصفرة ، يقال في التوكيد : أصفر فاقع ووارس ، كما يقال : أسود حالك وأبيض يقق ، وأحمر قانئ ، وأخضر ناضر ومدهامّ . وفي إسناد الفقوع إلى اللون مع كونه من أحوال الملّون لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيد ، كأنه قيل : صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما في : جدّ جدّه { تَسُرُّ النَّاظِرِين } أي : تبهج نفوسهم . روى ابن جرير بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم . وقد رواه غير واحد عن ابن عباس ، ورفعه ابن جريج والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [ 70 ]
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } زيادة استكشاف عن حالها لتمتاز عما يشاركها في التعوين والصفرة . ولذلك علّلوا تكرير سؤالهم بقولهم : { إِنَّ البَقَرَ } الموصوف بما تقدم : { تَشَابَهَ عَلَيْنَا } لكثرته ، أي : اشتبه علينا أيّها نذبح .
قال البقاعي : وذكر الفعل ، لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحده ، فإن العرب تذكره . نُقل عن سيبويه { وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } إلى البقرة المراد ذبحها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ 71 ]
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ } . أي : لم تذلل لإثارة الأرض وسقي الحرث . و : { لاذلول } صفة لبقرة . بمعنى غير ذلول . و : { لا } الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى . لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، والمقصود : إنها مكرمة ليست مذللة بالحراثة ، ولا معدة للسقي في السانية { مُسَلَّمَةٌ } ، سلمها الله من العيوب ، أو معفاة من العلم ، سلمها أهلها منه ، أومخلصة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان . من : سلم له كذا ، إذا خلص له : { لاَشِيَةَ فِيهَا } ، أي : لا لون فيها يخالف لون جلدها من بياض وسواد وحمرة ، فهي صفراء كلها ، وهي في الأصل مصدر : وشاه وشيا وشية ، إذا خلط بلونه لوناً آخر . في الصحاح : الشية : كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره . والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله . والجمع : شيات . يقال : ثور أشيه ، كما يقال : فرس أبلق .
{ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي : بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها ، ولم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلاً . بخلاف المرتين الأوليين ، فإن ما جئت به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة : { فَذَبَحُوهَا } ، الفاء فصيحة ، كما في : { فَانْفَجَرَتْ } ، أي : فحصلوا البقرة فذبحوها : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } كاد من أفعال المقاربة ، وضع لدنوّ الخبر من الحصول ، والجملة حال من ضمير ذبحوا ، أي : فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه . اعتراض تذييليّ . ومآله استثقال استقصائهم واستبطاء لهم ، وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهي خيط إسهابهم فيها .
تنبيه :
قال الراغب : قال بعض الناس : في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل فعله . فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة ، وكان لهم أن يذبحوا أي : بقرة شاؤوا . وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة . فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل . وليس كذلك ، فإن الأول أمر مطلق ، والثاني والثالث كالبيان له ، لمّا راجعوا ، ولم يسقط عنهم ذبح البقرة . بل زيد في أوصافها ، وكشف عن المراد بالأمر الأول . وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [ 72 ]
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } أي : اختلفتم واختصمتم في شأنها ؛ إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر : { وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } مظهر ، لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل ، لا يتركه مكتوماً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 73 ]
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ } أي : المقتول : { بِبَعْضِهَا } أي : البقرة . يعني فضربوه فحيى وأخبر بقاتله . كما دل عليه قوله : { كَذَلِكَ } أي : مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة : { يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى } يوم القيامة : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير .
ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء . والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت . وإخباره بقاتله ، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل ، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره ، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى .
قال الراغب : وقوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى } قيل هو حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه ، وقيل بل هو خطاب من الله تعالى لهذه الأمة ، تنبيهاً على الاعتبار بإحيائه الموتى .
تنبيهات :
الأول : قال الزمخشري : فإن قلت : فما للقصة لم تقص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ؟ فيقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها ، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ؟
أجيب : بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل ، إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعاً لهم عليها ، ولما جدد فيهم من الآيات العظام . وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين . فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء ، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك . والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة ، وما يتبعه من الآية العظيمة . وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع . ولقد روعيت نكتة ، بعد ما استؤنفت الثانية ، استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : { اضْرِبُوْهُ بِبَعْضِهَا } ، حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها ، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة .
وقال الحراليّ : قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل ، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة . والله أعلم .
التنبيه الثاني : قال الراغب : قد استبعد بعض الناس ذلك وما حكاه الله منه ، وأنكر حصول ذلك الفعل على الحقيقة . وقال : ذلك ممتنع من حيث الطبيعة ، وأيضاً فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة إلهية . فأما استبعاده ذلك من حيث الطبيعة فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور ، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير . ومن كان ذلك طريقته فلا خوض معه في تفسير القرآن . وأما الحكمة فيه فظاهرة إذ هو من المعجزات المحسوسة الباهرة للعقول . وأما تخصيص البقرة ، فإن كثيراً من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه . ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلاّ توافر المأمورين بذلك على طلبها ، واستيجاب الثواب في بذل ثمنها ، وجلب نفع توفر إلى صاحبها لكان في ذلك حكمة عظيمة .
وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد يجوز أن ينسب الفعل إليهم ، وإن كان واقعاً من بعضهم ، ولا يكون ذلك كذباً ، كأن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها .
وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئاً منها لأنه لم يرو بسند صحيح إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا يتعلق به كبير فائدة ، كما أن البعض من البقرة لم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانُه . فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى ؛ إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينية ولا دنيوية ، وإن كان معيناً في نفس الأمر ، وأيّاً كان فالمعجزة حاصلة به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 74 ] . : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } المخاطبون إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، أي : اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم ، والأمور التي جرت عليهم ، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم ، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم ، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم . فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب . وهذا أَولى ؛ لأن قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } ، خطاب مشافهة . فحمله على الحاضرين أولى . وإما [ في المطبوع : وأما ] أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً ، أو من قبل المخاطبين من سلفهم . والله أعلم { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } في القساوة : { أَوْ أَشَدُّ } منها : { قَسْوَةً } أي : هي في القسوة مثل الحجارة أو زائد عليها فيها . و : { أَوْ } للتخير أو للترديد . بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة ، أو بما هو أقسى كالحديد ، أو من عرفها شبهها بالحجارة ، أو قال هي أقسى من الحجارة ، وترك ضمير المُفَضَّل عليه للأمن من الالتباس : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ } أي : يتفتح بالسعة والكثرة : { مِنْهُ الأَنْهَارُ } بيان لأشديّة قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات ، والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور ، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } أي : يتشقق : { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء } أي : العيون التي هي دون الأنهار : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } أي : يتردى من رأس الجبل من خشية الله ، انقياداً لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة ، قاله القاشانيّ .
وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح . والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ ، وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة ، لاسيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها ، كما بسط في مطولات البيان .
وقد رد الإمام ابن حزم ، في أول كتابه " الفصل " على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزاً ، رداً مسهباً . وقال : من ادعى ذلك أكذبه العيان . ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام .
قال : ولعل معترضاً يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الْلَّهِ } ، فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبيّ . فإذْ لا شك في هذا ، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما ، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى ، وهذا أمر يشاهد بالعيان ، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ، ويخشى العاصي . وقد أخبر عز وجلّ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ } [ آل عِمْرَان : 199 ] ، وكما أخبر تعالى أن : { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [ التوبة : 99 ] من بعد أن أخبر أن : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } [ التوبة : 97 ] . قال : فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة .
والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره ، كما قلنا في قوله تعالى حاكياً عن السماء والأرض : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
والوجه الثالث : أن يكون الله تعالى عنى بقوله : { وإنّ منها لما يهبط من خشية الله } الجبل الذي صار دكّاً ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية ، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى ، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة . ويكون : { يهبط } بمعنى : هبط ؛ كقوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ الأنفال : 30 ] معناه : وإذ مكر ، وبين قوله تعالى ، مصدقاً إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عُبَاْدَة الحجارة : { لم تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وقوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ } [ الزمر : 43 ] فصح بهذا ، صحة لا مجال للشك فيها ، أن الحجارة لا تعقل . وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية ، المعهود كل ذلك عندنا .
وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا ، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف ، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلاً . ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئاً منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته ، مما يقارب الصحة . انتهى كلام ابن حزم .
وقال ابن جرير : اختلف أهل النحو في معنى الهبوط ؛ ما هبط من الأحجار من خشية الله فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيّؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكاً إذ تجلى له ربه . وقال آخرون : قوله : { يهبط من خشية الله } كقوله : { جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } [ الكهف : 77 ] لا إرادة له . قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله . قال زيد الخيل :
~بِجَمْعٍ تَضِلُّ اْلبُلْقُ فِيْ حَجَرَاتِهِ تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّداً لِلْحَوَافِر
وكما قال سويد بن أبي كاهل ، يصف عدوّاً له :
~سَاْجِدَ الْمَنَْخِرِ لَاْ يَرْفَعُهُ خَاْشِعَ الطَّرْفِ أَصَمَّ الْمُستَْمَعْ
يريد أنه ذليل .
وكما قال جرير بن عطية :
~لَمَّا أتَىْ خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ سُوْرُ المَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقال آخرون : معنى قوله : { يهبط من خشية الله } أي : يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه . كما قيل : ناقة تاجرة إذا كانت ، من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية :
~وَأَعْوَرُ مِنْ نَبْهَاْنَ ، أَمَّاْ نَهَاْرُهُ فَأَعْمَىْ ، وَأَمَّاْ لَيْلُهُ فَبَصِيْرُ
فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهانيّ الذي يهجوه . من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية . وتقدم رد ابن حزم له مبرهناً عليه .
ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله . وعبارته : قال مجاهد وابن جريج : كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به ، وقال الزجاج : الهابط منها قد جعل له معرفة ، قال ويدل على ذلك قوله : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ الحشر : 21 ] ، وقال : { لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } [ الحج : 18 ] ، إلى قوله : { النُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ } [ الحج : 18 ] وقد روي مثل هذا عن السلف ، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول ، وحقيقته . فإن قوماً استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو ، فانطووا على شبهة ، وقوماً استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه ، فيقال وبالله التوفيق : إن قوماً من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب :
الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام . وذلك لعلاّم الغيوب الذي أحاط بكل شيء علماً .
والثاني معرفة متزايدة ، وهي للإنسان ، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية ، وجعل له بذلك سبيلاً إلى تعريف كثير مما لم يعرفه ، وليس ذلك إلا للإنسان .
والثالث معرفة دون ذلك ، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها . واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ، ودفع مضار عن أنفسها .
والرابع : معرفة الناميات من الأشجار والنبات ، وهي دون ما للحيوانات ، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها .
والخامس : معرفة العناصر ، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل ، والنار في طلب العلّو ، وذلك بتسخير الله تعالى ، بلا اختيار منه . قالوا : والدلالة على ذلك أن كل واحدٍ من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهراً ، أبى إلا العود إليه طوعاً . قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ، ويأبى الماء الذي يطفيه ، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره . هذا ما حكوه .
فعلى هذا إذا قيل : لهذه الأشياء معرفة ، فليس ببعيد ، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة ، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الْإِنْسَاْن في أنها تميز وتختار وتريد ، فهذا مما تعافه العقول . انتهى قول الراغب .
وهو تأويل حسن ، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف . وهو مسلم في كثير من الإطلاقات .
وقوله تعالى : { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى . فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه ، مطلعاً عليه غير غافل عنه ، كان لمجازاتهم بالمرصاد ، ولما بيّن سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يُؤْيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيب عليهم ، والتبكيت لهم ، منكراً للطمع في إيمانهم فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 75 ]
{ أَفَتَطْمَعُونَ } أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم : { أَن يُؤْمِنُواْ } أي : هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم ، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة ، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم . واللام في قوله : { لَكُمْ } لتضمن معنى الاستجابة . كما في قوله عز وجل : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، أي : في إيمانهم مستجيبين لكم ، أو للتعليل أي : في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي : طائفة فيمن سلف منهم : { يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ } وهو ما يتلونه من التوراة : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال ابن كثير : أي : يتأولونه على غير تأويله . وقال ابن جرير : يعني بقوله : { يحرفونه } يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه ، أصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله : { يحرفونه } أي : يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره : { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي : فهموه على الجلية ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله .
قال ابن جرير : هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام . وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغياً وحسداً . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ] ، والظاهر أن المراد ، بالفريق منهم ، أحبارهم ، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى ، من بعد ، في قوله تعالى : { وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عِمْرَان : 187 ] ، وقال : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
ولقائلٍ أن يقول ، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين . وأجاب القفال عنه فقال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عناداً ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه ، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق ، وهو قولك للرجل كيف تفلح ، وأستاذك فلان ؟ أي : وأنت عنه تأخذ ، ولا تأخذ عن غيره .
ونحوه قول الراغب : لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه ، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم ، فحقيق أن لا يحصل لمن غَبِيَ عن كل العلوم . فذكر ذلك تبعيداً لإيمانهم لا يأساً للحكم بذلك ؛ إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوساً . ثم قال الراغب : وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط ، بل يكون عناداً وغلبة شهوة .
تنبيه :
ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة ، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظيّ عن التوراة ، فإنه واقع بلا ريب ؛ فقد بدلوا بعضاً منها وحرفوا لفظة ، وأوّلوا بعضاً منها بغير المراد منه ، وكذا يقال في الإنجيل . ويشهد لذلك كلام أحبارهم ، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه " إظهار الحق " : أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً ، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ، ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، أنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام ، الذي هو كلام الله في زعمهم ، ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم ، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنةٍ مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة . ثم ساق بعضاً منها فانظره .
وفي " ذخيرة الألباب " ، لأحد علماء النصارى ، ما مثاله : إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يقِ الكتبة عثرة الخطأ الطفيف ، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحِل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات . وفيه أيضاً : إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافاً عظيماً في أمر التاريخ . فإذاً تحريف الأسفار الخمسة أمر بيّن . وفيه أيضاً في الفصل " 31 " : أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفاً وأربعة آلاف غلطة ، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ . انتهى . فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظيّ فيها . وهو المقصود .
وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها ، فهو إفراط . قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } [ البروج : 21 ]
إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة . والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل . من ذلك قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] الآية . ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم ، ويؤيده قوله تعالى : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : 93 ] .
وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات . فارجع إليه .
ثم أخبر تعالى ، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين ، وسلوكهم منهاجهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 76 ]
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بالله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { قَالُواْ آمَنَّا } أي : بأنكم على الحق ، وأن محمداً هو الرسول المبشر به ، وكأنهم يقولون ذلك إرضاءً لحلفائهم من الأوس والخزرج ، أو جهراً بحقيقةٍ لا يسعهم أمام حلفائهم السكوتُ عنها { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ } يعني الذين لم ينافقوا : { إِلَىَ بَعْضٍ } أي : الذين نافقوا : { قَالُواْ } أي : عاتبين عليهم : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ } أي : بما بيّن لكم في التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقاً لما معكم ، ونصره .
قال ابن إسحاق : أي : أتقرّون بأنه نبيّ ، وقد علمتم أنه أُخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي نجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تُقرّوا به .
قال ابن جرير : أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم . والمعنى : أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم ، ما أخذ به ميثاقكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة .
{ لِيُحَآجُّوكُم } متعلقة بالتحديث ، دون الفتح ، أي : ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة : { بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } أي : لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة ، فيقولون : ألم تحدثونا بما في كتابكم ، في الدنيا ، من حقيّة ديننا ، وصدق نبينا ؟ فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم ، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق ، في الموقف ؛ لأنه ليس من اعتراف بالحق ، ثم كتم ، كمن ثبت على الإنكار . وتأول الراغب الأصفهانيّ قوله تعالى : { عند ربّكم } أي : في حكمه وكتابه كما هو وجهٌ في آية : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ النور : 13 ] أي : في حكم الله وقضائه ، وهو وجه جيد ، وقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من تمام التوبيخ والعتاب ، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض . قال الراغب : ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل ، على سبيل ما يسمى في البلاغة : الالتفات . ويصح أن يكون ذلك خطاباً للمؤمنين ، تنبيهاً على ما يفعله الكفار والمنافقون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ 77 ]
{ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } أي : يخفون من قولهم لأصحابهم ، ومن غيره : { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : يظهرون من ذلك ، فيخبر به أولياءه . قال الراغب : هذا تبكيت لهم ، وإنكار لما يتعاطونه ، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية .
ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ، مع العلم والاستيقان ، ذكر العوامّ الذين قلدوهم ، ونبّه على أنهم في الضلال سواء ؛ لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامّي أن لا يرضى بالتقليد والظن ، وهو متمكن من العلم ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ 78 ]
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي : لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ، فيؤمنوا { لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } أي : التوراة ، أي : لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالتشديد جمع أمنية ، أصلها أُمْنٌوْيَة " أُفْعُوْلَة " فأعلَّت إعلال سيّد ، وميّت . مأخوذة من تمنَّى الشيء : قدّرة وأحب أن يصير إليه . أو من تمنَّى : كذب . أو من تمنَّى الكتاب : قرآه . وعلى كلٍّ فالاستثناء منقطع ؛ إذ ليس ما يُتمنى ، وما يُختلق وما يُتلى ، من جنس علم الكتاب أي : لا يعلمون الكتاب . لكن يتمنون أمانيّ حسبما منَّتْهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة ، المستندة إلى الكتاب ، على زعم رؤسائهم . أو لا يعلمون الكتاب ، لكن أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم ، فتقبلوها على التقليد . أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم ، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه .
قال ابن جرير : وأولى ما روينا في تأويل قوله : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ، من الكتاب الذي أنزله الله ، شيئاً . ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذباً وزوراً . والتمني في هذا الموضع هو تخلقّ الكذب وتخرّصه وافتعاله . بدليل قوله تعالى بعدُ : { إن هم إلا يظنون } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم ، لا يقنياً .
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ : حمله على تمني القلب أولى . بدليل قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [ البقرة : 111 ] أي : تمنيهم . وقال الله تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوآ يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقال : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 111 ] ، { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ الجاثية : 24 ] بمعنى يقدّرون ويخرصون .
ورجح كثيرون حمله على القراءة ، كقوله تعالى : { ذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] إذ في الاستثناء ، حينئذاً ، نوع تعلق بما قبله . فيكون أليقَ في طريقة الاستثناء . و : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } ما هم إلاّ قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد . من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم . فأنى يُرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟
تنبيه :
قال الراغب : قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم ، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم ؛ فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة ، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم ، وهم قد ضلوا وأضلوا ، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ، على اكتساب المعارف لئلا يُحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه ، وبذم زعمائهم ، على تحريّ الصدق وبجنب الإضلال ؛ إذ هو أعظم من الضلال .
ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن ، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فقيل على وجه الدعاء عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ 79 ]
{ فَوَيْلٌ } فإن أضيف ، نُصب . نحو : ويلك وويحك وإذا فُصل عن الإضافة ، رفع . نحو : ويلٌ له . الويل : الهلاك وشدة العذاب : { لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ } أي : المحرّف ، أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة : { بِأَيْدِيهِمْ } تأكيد لدفع توهم المجاز . كقولك : كتبته بيميني . وقد يقال في مثل هذا : إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً للهيئة : { ثُمَّ يَقُولُونَ } لما كتبوه ، كذباً وبهتاناً : { هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ } أي : يأخذوا لأنفسهم بمقابلته : { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : عرضاً يسيراً .
ويجوز في الآية معنى آخر ؛ أي : فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ، فيشهدون بذلك ، وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه ، لو كان كتابة غيرهم ، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله الوقوف مع عهوده ومواثيقه ، إجلالاً لمنزله وموحيه ، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه ، ولكن لم يكن ذلك منهم ، بل كان أن حرّفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمناً قليلاً . وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله ، وصدقهم في قولهم : هذا من عند الله . ثم مخالفتهم لذلك . فيكون قوله تعالى : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ } تعليلاً لمحذوف دل عليه السياق . أي : ثم بعد ذلك يحرفونه ثم ليشتروا به ، وهو وجه جيد يوافق آية : { يحرفون الكلم عن مواضعه } وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير : هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه : { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم : { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } يصيبون من الحرام والسحت .
قال الراغب : إن قيل : لِمَ ذكر : { يكسبون } بلفظ المستقبل و : { كتبت } بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيهاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم < من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة >
فنبه بالآية أن ما أضّلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة ، التي يعتمدها الجهلة ، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالاً فحالاً . وإن قيل : لم ذكر الكتابة دون القول . قيل : لمّا كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه ؛ إذ هو كذب باللسان واليد ، صار أبلغ ؛ لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره .
إن قيل : ما الذي كانوا يكتبونه ؟ قيل : روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم . ثم يقولون هذا من عند الله . وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح . وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبيّ أتى بوصف لنبيّ بعده ، فإنه أتى بلفظة معرّضة وإشارة مدرجة ، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم . وقد قال العلماء : ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بإشارات ، ولو كان ذلك متجلياً للعوامّ لما عوتب علماؤهم في كتمانه ، ثم ازداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان ؛ من العبرانيّ إلى السريانيّ إلى العربيّ ، وقد ذكر المحصلة ألفاظاَ من التوراة والإنجيل ، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعريض ، هو عند الراسخين في العلم جليّ ، وعند العامة خفيّ . فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرّفة ، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه ، وتبديل آياته ، وكتمان الحق عن أهله ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، طمعاً في عرض الدنيا ، وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل ، أعراض الدنيا وإن كثرت ؛ لقوله تعالى : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] . [ إلى هنا ] كلام الراغب رحمه الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 80 ]
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } بيان لبعض آخر من جناياتهم فيما ادّعوا لأنفسهم من أنهم لا تمسهم النار في الآخرة إلا مدة يسيرة ، ومرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها ؛ لأن كل معدود منقض . قال مجاهد : كانت اليهود تقول : إنما الدنيا سبعة آلاف سنة . فإنما نعذب ، مكان كل ألف سنة يوماً ، ثم ينقطع العذاب . وروي ذلك عن ابن عباس . وعنه أن اليهود قالوا : لن ندخل النار إلا الأيام التي عبدنا فيها العجل ، أربعين ، فإذا انقضت انقطع عنا العذاب ، ثم بين تعالى إفكهم . لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك ، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى ، وهو منتف ، فقال سبحانه : { قُلْ } منكراً لقولهم وموبّخاً لهم : { أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً } أي : عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار : { فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ } أي : فتقولوا لن يخلف الله عهده . وجعل بعضهم الفاء فصيحة مُعربة عن شرط مقدر ؛ أي : إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه : { أَمْ تَقُولُونَ } أي : أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين : { عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : وقوعه جهلاً وجراءة . وقولهم المحكيّ ، وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه ، لكنه مستلزم له . لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 81 ]
{ بَلَى } إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله : { لن تمسنا النار } أي : بلى تمسكم أبداً ، بدليل قوله : { هم فيها خالدون } ، { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } أي : عملها وهي والسيء عملان قبيحان أصلها سيوءة ، من : ساءه يسوه . فأُعلت إعلال سيد . ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار ، بل لا بد أن يكون سببه محيطاً به فقال : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي : غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة ، وسدت عليه مسالك النجاة ؛ بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود . وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة : { فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
تنبيه :
ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين لما ثبت في السنة ، تواتراً ، من خروج عصاة الموحدين من النار ، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة ، في هذه الآية ، بالكفر والشرك . ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 82 ]
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } من عادة التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد . وذلك لفوائد :
منها ، ليظهر بذلك عدله سبحانه ؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرّين على الإيمان .
ومنها ، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه ، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق .
ومنها ، أنه يظهر بوعده كمال رحمته ، وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سبباً للعرفان .
وقد قدمنا عند قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ البقرة : 25 ] أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل . فإذا عطف عليه العمل ، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام . أو يقال : لم يدخل فيه ولكن مع العطف ، كما في اسم الفقير والمسكين . فتذكر .
قال الراغب : في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } هو الكفر ، وإحاطة الخطيئة به ، الأعمال السيئة ، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة .
ثم شرع ، سبحانه ، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ } [ 83 ]
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ثم بيّن الميثاق بقوله تعالى : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ } وهو إخبار في معنى النهي ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } [ البقرة : 282 ] ، وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كذا ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي . وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى . أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئاً . وبهذا أمر جميع خلقه . ولذلك خلقهم . كما قال تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } والإحسان نهاية البر ، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية ، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين . حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما ، بعبادته التي هي توحيده ، والبراءة عن الشرك ، اهتماماً به وتعظيماً له .
قال حكيم مصر في تفسيره : العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد ، هي العناية الصادقة التي بذلاها في ترتيبه ، والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفاً عاجزاً جاهلاً . لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً . وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية ، ويكفلانه ، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه . فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما ، عن علمٍ واختيارٍ ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وإذا وجب على الْإِنْسَاْن أن يشكر ، لكل من يساعده على أمر عسير فضلَه ، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد ، وما كانت به المساعدة ، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى ، وهما اللذان كانا يساعدانه [ في المطبوع : يسعدانه ] على كل شيء ، أيام كان يتعذر عليه كل شيء : { وَذِي الْقُرْبَى } أي : القرابة .
قال الأستاذ الحكيم : الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ، ويوثق الروابط الطبيعية ، حتى تبليغ البيوت ، في وحدة المصلحة ، درجة الكمال ، والأمة تتألف من البيوت ، أي : العائلات . فصلاحها صلاحها . ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة ، وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدّهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد ، ثم بين سائر الأقربين ، فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين ؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءاً من بنية أمته ؛ لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس ، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءاً منهم ، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ، ويرى منفعتهم عين منفعته ، ومضرتهم عين مضرته ؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة ، وصلتها أمتن من كل صلة ، فجاء الدين يقدّم حقوق الأقربين على سائر الحقوق .
وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص ، ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه : { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } . اليتامى جمع يتيم . وهو من مات أبوه وهو صغير . قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين ، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة ، فعُلم أنها مقصودة لذاتها . وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم ، وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا ، وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم ، وشدد الوعيد على أكل ماله تشديداً خاصاًَ ، والسرّ في ذلك هو كون اليتيم لا يجد ، قي الغالب ، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه ، والعناية بأموره الدينية والدنيوية ؛ فإن الأم ، إن وجدت ، تكون في الأغلب عاجزة ، لاسيما إذا تزوجت بعد أبيه . فأراد الله تعالى ، وهو أرحم الراحمين ، بما أكد من الوصية بالأيتام ، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم ، يربونهم تربية دينية دنيوية ، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم ، فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالاً . فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد . والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة . فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة .
وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحّفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم ، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا ، إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملاً ينفع الناس ، ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه .
{ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } أي : قولاً حسناً . أي : كلموهم طيباً ولينوا لهم جانباً . وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس ، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم ، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف ، كرجل عدل وصوم وفطر { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } خطاب لبني إسرائيل . فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها ، والزكاة التي كانوا يخرجونها { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أي : أعرضتم عن المضي على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه . وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ } استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام ، أو في كل زمن ، فإنه لا تخلو أمة من الأمم ، من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم .
والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم ، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهيّ إذا فشا فيها المنكر ، وقلُّ المعروف { وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ } عادتكم الإعراض عن الطاعة ، ومراعاة حقوق الميثاق ، ثم نعى عليهم أيضاً إخلالهم بواجب الميثاق المأخوذ عليهم في حقوق العباد بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [ 84 ]
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } إخبار في معنى النهي . والمراد به النهي الشديد عن تعرض بعض بني إسرائيل لبعضٍ بالقتل والإجلاء . أن لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يخرجه من منزله : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } أي : أظهرتم الالتزام بموجب المحافظة على الميثاق المذكور : { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } بلزومه ؛ فهو توكيد للإقرار ، كقولك : أقر فلان ، شاهداً على نفسه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 85 ]
{ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء } خطاب خاص للحاضرين ، فيه توبيخ شديد : { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ } من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق : { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم } أي : تتعاونون عليهم : { بِالإِثْمِ } وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم : { وَالْعُدْوَانِ } وهو التجاوز في الظلم : { وَإِن يَأتُوكُمْ } أي : هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم : { أُسَارَى } بضم الهمزة ، وفتح السين ، والألف بعدها . وقرأ حمزة : { أَسْرى } بفتح الهمزة ، وسكون السين كقتلى ، جمع أسير ، وأصله المشدود بالأسر ، وهو القدّ ، وهو ما يُقدّ أي : يقطع من السير : { تُفَادُوهُمْ } بضم التاء وفتح الفاء . وقرئ " تَفْدُوْهُم " بفتح التاء وسكون الفاء ، أي : تخلصوهم بالمال من الفداء . وهو الفكاك بعوض : { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } الجملة حال من الضمير في : { تخرجون } أو من : { فريقاً } أو منهما . وتخصيص بيان الحرمة ههنا بالإخراج ، مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاق ، لكونه مظنة للمساهلة في أمره ، بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل ، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم ، وتناقض أفعالهم معاً . وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص . وهو السرّ في تخصيص التظاهر به فيما سبق . ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } أي : للتوراة وهو الموجب للمفاداة : { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو المحرم للقتل والإخراج . ثم اعلم أن ما ذكرناه في قوله تعالى : { تُفَادُوْهُمْ } ، و [ قوله ] : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن ذلك وصف لهم بما هو طاعة ، وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ، والأيمان بذلك . وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك . والمراد أنكم ، مع القتل والإخراج ، إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرماً عليكم ، ثم عنده تخرجونه من الأسر .
قال أبو مسلم : والمفسرون ، إنما أتوا من جهة قوله تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهذا ضعيف ؛ لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليهم ، والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتب وكفرتم ببعض .
وكلا القولين يحتمله لفظ المفاداة ، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه . والآخذ منه للتخليص يوصف أيضاً بذلك . إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب ؛ لأن عود قوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية ، أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات . أفاده الرازيّ .
{ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ } إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض ، أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى : { إِلاَّ خِزْيٌ } ذلّ وهوان مع الفضيحة . والتنكير للتفخيم { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد فعل سبحانه ذلك ، فقُتلت بنو قريظة وأُجليت بنو النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } يعني النار : { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ 86 ]
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ } أي : آثروا : { الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } على خساستها . واستبدلوها : { بِالآَخِرَةِ } مع نفاستها { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } في واحدة من الدارين { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : أنكر تعالى على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عبّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، حلفاء الخزرج ، وبنو نضير ، وبنو قريظة ، حلفاء الأوس فكانوا ، إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه . فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها ، ويسفكون دماءهم ، وبأيديهم التوراة . يعرفون فيها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ، ولا كتاباً ، ولا حلالاً ولا حراماً ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ، وأسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه ، فتفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم . فإذا عيرتهم العرب بذلك وقالوا : كيف تقاتلوهم وتفدونهم ؟ قالوا . إنا أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم . فيقال : لم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحي أن تُسْتَذلّ حلفاؤنا . فلذلك حين عيرهم عز وجل فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي : تفادوهم بحكم التوراة وتقتلونهم ، وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا . هذا ملخص ما ساقه ابن كثير عن محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس . ورواه أيضاً عن السدّي . فليحقق تصحيح هذه القصة .
وفي الآية تفسير آخر : أي : لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكّين ، أو خنق ، أو بارتكاب ما يوجب ذلك ، كالارتداد ، والزنى بعد الإحصان ، وقتل النفس بغير الحق نحو ذلك ، ولا تسيئوا جوار من جاوركم فيضطرون إلى الخروج من دياركم ، أو : لا تفسدوا فتكونوا سبباً لإخراجكم أنفسكم . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ 87 ]
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } شروع في بيان بعضٍ آخر من جناياتهم . وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به . والمراد بالكتاب التوراة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } يقال : قفّاه به أتبعه إياه ، من التقفية وهي متابعة شيء شيئاً ؛ كأنه يتلو قفاه ، وقفا الصورة منها ، خلفها المقابل للوجه ، والمعنى : لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى ، بل أرسلنا من بعده الرسل تترى ، ليجددوا لكم أمر الدين ، ويؤكدوا عليكم العهود { وَآتَيْنَا عِيسَى } اسم معرّب أصله يسوع ؛ لفظة يونانية بمعنى مخلص ، ومثله يشوع بالمعجمة ، في اللغة العبرانية : { ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } المعجزات الواضحات التي لا مرية فيها لذي عقل . كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص : { وَأَيَّدْنَاهُ } أي : قويناه على ذلك كله : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } بالروح المقدسة كما تقول : حاتم الجودِ ورجل صدقٍ ، وهي الروح الطاهرة التي نفخها الله فيه ، وميزه بها عن غيره ممن خلق . قال تعالى : { وَرُوحٌ مِنْه } [ النساء : 171 ] ، ولذا كان له ، عليه الصلاة والسلام ، بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى . وعن الحسن البصري : القدس هو الله ، وروحه : جبريل ، والإضافة للتشريف . والمعنى أعنّاه بجبريل . قال الرازيّ : والذي يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } [ النحل : 102 ] ، والله أعلم .
وتخصيصه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات ، والتأييد بروح القدس لحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه السلام ، ببيان حقيته ، وإظهار نهاية قبح ما فعلوا به عليه السلام : { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ } من الحق ، أي : لا تحبه ، من هوى كفرح ، إذا أحب : { اسْتَكْبَرْتُمْ } عن الاتباع له ، والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى : { فَفَرِيقاً } منهم : { كَذَّبْتُمْ } إذ لم تنل أيديكم مضرته : { وَفَرِيقاً } آخر منهم : { تَقْتُلُونَ } غير مكتفين بتكذيبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ 88 ]
{ وَقَالُواْ } بيان لنوع آخر من مخازيهم . والقائلون المعاصرون للنبي عليه السلام : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } هذا كقوله تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] ، أي : هي مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها ، فلا تفقهه : مستعار من الأغلف الذي لم يختن : { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ } رد الله أن تكون قلوبهم كذلك لأنها متمكنة من قبول الحق ، وإنما طردهم عن رحمته بسبب كفرهم وزيغهم ، وهذا كما قال في سورة النساء : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] . وقوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } " ما " مزيدة للمبالغة أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون ؛ وهو إيمانهم ببعض الكتاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 89 ]
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ } هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة . وصفه بالهدى . وتنكيره للتفخيم . ونعته بقوله : { مِّنْ عِندِ اللّهِ } للتشريف : { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة . وجواب لما ، محذوف دل عليه جواب لما الثانية . وعليه ، فقوله تعالى : { وَكَانُواْ } الخ . . جملة معطوفة على الشرطية ، عطف القصة على القصة . وقيل : جوابها كفروا . ولمّا الثانية تكرار للأولى ، فلا تحتاج إلى جواب . وقيل : كفروا جواب للأولى والثانية ؛ لأن مقتضاهما واحد . وعلى الوجهين فجملة قوله : { وكانوا مِن قَبْلُ } أي : قبل مجيئه : { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ } جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم . والاستفتاح : الاستنصار أي : طلب النصر ، أي : يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب ، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعزّزاً بهم على ما تقدم : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ } صحته وصدقه ، كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ ، وهو انتصارهم على المشركين ، وحصول العزة لهم مع المؤمنين ، ولكن : { كَفَرُواْ بِهِ } أي : امتنعوا من الإيمان به خوفاً من زوال رياستهم وأموالهم ، وأصروا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته ؛ ولذا قال عبد الله بن سلام في قصة بإسلامه : يا معشر اليهود اتقوا الله . فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق . رواه البخاري في الهجرة .
وروى أيضاً أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ . فلما أجابه عنها قال : أشهد أنك رسول الله . وسنذكر الحديث بتمامه عند قوله تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] الآية إن شاء الله تعالى . وقوله : { فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ } اللام فيه للعهد أي : عليهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم ، كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه ، أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً ، إذ الكلام فيهم ، وأيّاً ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى : { بل لعنهم الله بكفرهم } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ 90 ]
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } " ما " نكرة موصوفة بما بعدها ، منصوبة على التمييز ، مفسرة لفاعل بئس . أي : بئس شيئاً باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها ، فرضوا به وعدلوا إليه . والمخصوص بالذم [ ما دل عليه ] قوله تعالى : { أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ } أي : كفرهم بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته : { بَغْياً } حسداً : { أَن يُنَزِّلُ اللّهُ } لأن ينزل ، أو على أن ينزل ، أي : حسدوه على أن ينزل الله : { مِن فَضْلِهِ } الذي هو الوحي : { عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : يشاؤه ويصطفيه للرسالة : { فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ } أي : رجعوا لأجل ذلك بغضب ، في حسدهم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كفروا به : { عَلَى غَضَبٍ } كانوا استحقوه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تحريفهم الكلم ، وتضييعهم بعض أحكام التوراة ، وكفرهم بعيسى عليه السلام .
قال الرازيّ : إن غضبه تعالى يتزايد ، ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب ، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة ، كغضبه على كفر بخصال كثيرة .
قلت : وفي الصحيحين عن أبي هريرة : < اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك ؛ لا ملك إلا الله > . والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة . انظر " الجامع الصغير " .
ويحتمل المعنى . فصاروا أحقاء بغضب مترادف ، فلا يكون القصد إثبات غضبين لأمرين متنوعين أو أمور . بل المراد به تأكيد الغضب ، وتكثيره لأجل أن هذا الكفر ، وإن كان واحداً ، إلا أنه عظيم . والله أعلم .
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها . وليس غضبه كغضبنا ، كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا ، فليس هو مماثلاً لأبداننا ولا لأرواحنا ، وصفاته كذاته . وما قيل : إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذاتنا منفعلة ، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلاً بها ، كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين . فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين ، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه ، وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه ، كالمنسوب إليه . كما قال صلى الله عليه وسلم : < ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر > فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئيّ بالمرئيّ . وهذا يتبين بقاعدة : وهي أن كثيراً من الناس يتوهم ، في بعض الصفات أو كثير منها ، أو أكثرها أو كلها ، أنها تماثل صفات المخلوقين . ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير :
أحدها : كونه مثّل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين ، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل .
الثاني : أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطله ؛ فبقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله ، فيبقى مع جنايةٍ على النصوص ، وظنه السَّيء الذي ظنه بالله ورسوله ، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما ، من إثبات صفات الله ، والمعاني الإلهية الله اللائقة بجلال الله تعالى .
الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل ؛ فيكون معطلاً عما يستحقه الرب تبارك وتعالى .
الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات ، والجمادات ، وصفات المعدومات ؛ فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب ، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات ، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات ، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات ؛ فيجمع في الله ، وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل . سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون عُلُُوّاً كبيراً . أفاده الإمام ابن تبمية . عليه الرحمة ، في " القاعدة التدمرية " .
{ وَلِلْكَافِرِينَ } أي : لهم . والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلّية كفرهم لما حاق بهم : { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يراد به إهانتهم . أي : إذلالهم . فإن كفرهم ، لما كان سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي : صاغرين حقيرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 91 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي : لليهود : { آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } على محمد صلى الله عليه وسلم وصدَّقوه واتبعوه : { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } من التوراة ، ولا نقرّ إلا بها : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } حال من ضمير " قالوا " بتقدير مبتدأ . أي : قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده : { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } منها غير مخالف له . وفيه ردٌ لمقالتهم ؛ لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها : { قُلْ } تبكيتاً لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلِم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم ، قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي ، كما قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] ، والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين ، على طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل ، كان الاعتراض على أسلفهم اعتراضاً على أخلاقهم . و دلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام ، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز .
ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى ، أقام دليلاً آخر أقوى مما تقدمه . فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك ، وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن . وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى ، وبحضرة هارون عليهما السلام فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } [ 92 ]
{ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } من الآيات كفلق البحر ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله : { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } معبوداً من دون الله : { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل ، كما قال تعالى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } [ الأعراف : 148 ] . وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } أي : بعبادته ، واضعين لها في غير موضعها ، أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى ، أو هو اعتراض ؛ أي : وأنتم قوم عادتكم الظلم .
ثم ذكر أمراً آخر هو أبين في عنادهم ، وأنهم مع الهوى فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ 93 ] . : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } على الإيمان والطاعة { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } قائلين : { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم } أي : ما أمرتم به في التوراة : { بِقُوَّةٍ } بجد : { وَاسْمَعُواْ } أطيعوا : { قَالُواْ سَمِعْنَا } قولك : { وَعَصَيْنَا } أمرك . وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة .
قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى : سمعوه فتلقوه بالعصيان ، فعبّر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه : كقوله تعالى : { أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
{ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } أي : حبّه على حذف المضاف ، وإقامة المضاف [ إليه ] مقامه للمبالغة . أو العجل مجاز عن صورته . فلا يحتاج إلى حذف المضاف . وعلى كلٍّ ، فأشربوا استعارة تبعية ، إما من إشراب الثوب الصبغَ أي : تداخله فيه ، أو من إشراب الماء أي : تداخله أعماق البدن ، والجامع السراية في كل جزء ، وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب ، ثم بُيَّن بقوله : { في قلوبكم } للمبالغة ، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر ، وهو : وأُشرب قلوبهم العجل : { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم .
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : كما زعمتم ، بالتوراة . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] وكذا إضافة الإيمان إليهم . وقوله : { إن كنتم مؤمنين } قدح في صحة دعواهم ؛ فإن الإيمان إنما يأمر بعباده الله وحده لا بشركة العبادة لما هو في غاية البلادة . فهو غاية الاستهزاء . وحاصل الكلام : إن كنتم مؤمنين بها عاملين ، فيما ذكر من القول والعمل ، بما فيها ، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعاً . فجواب الشرط محذوف كما ترى ؛ لدلالة ما سبق عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 94 ]
{ قُلْ } كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم ، وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، لكنه لم يُحك عنهم قبل الأمر بإبطاله ، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله : { إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً } ، نصب على الحال من الدار الآخرة ، والمراد الجنة ؛ أي : سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً } [ البقرة : 111 ]
: { مِّن دُونِ النَّاسِ } اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون : { فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } فسلوا الموت : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها ، وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم ، والتخلص من الدار ذات الأكدار ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت . والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوباً ، نظراً إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب . والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه ، لا مجرد خطوره بالقلب ، وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجّة ، ومواطن الخصومة ، ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب ، وثَمَّ تفسير آخر للتمني بأن يُدعَوا إلى المباهلة ، والدعاء بالموت . وإليه ذهب ابن جرير . والأول أقرب إلى موافقة اللفظ . و قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } [ 95 ]
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } من المعجزات لأنه إخبارٌ بالغيب . وكان كما أخبر به ؛ كقوله : { وَلَنْ تَفْعَلُوا } [ البقرة : 24 ] { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بما أسلفوا من أنواع العصيان . واليد مجاز عن النفس . عبّر بها عنها ، لأنها من بين جوارح الْإِنْسَاْن ، مناط عامة صنائعه . ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها . ولم يجعل المجاز في الإسناد فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم ، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء : { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } أي : بهم . تذييل للتهديد . والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن سواهم . ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ الجمعة : 6 ، 7 ] .
و قد تلطف الغزالي في توجيه الإتيان بـ " لن " هنا ، و " لا " في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية ؛ إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ، وأما مرتبة الولاية فهي ، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة . فلما كانت الدعوى الأولى أعظم ، لا جَرَمَ بيّن تعالى فساد قولهم بلفظ : لن ؛ لأنها أقوى الألفاظ النافية . ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ : لا ؛ لأنه ليس في نهاية القوة ، في إفادة معنى النفي . و الله أعلم .
ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت ، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 96 ]
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أُبيّ : على الحياة { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } عطف على ما قبله بحسب المعنى ، كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا . وإفرادهم بالذكر ، مع دخولهم في الناس ، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص . للمبالغة في توبيخ اليهود ، فإن حرصهم ، وهم معترفون بالجزاء ، لمّا كان أشد من حرص المشركين المنكرين له ، دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ، ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه عنه ؛ أي : وأحرص من الذين أشركوا .
وأما تجويز كون الواو للاستئناف ، وقد تم الكلام عند قوله : { على حياة } تقديره : { ومن الذين أشركوا } ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، وقولُ أبي [ في المطبوع : أبو ] مسلم : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، ثم فسر هذه المحبة بقوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } فلا يخفى بُعده ؛ لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر ، أن يكون المراد : ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم ، وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا ، لا لغيرنا . والله أعلم .
{ يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة } بيان لزيادة حرصهم ، على طريق الاستئناف . و : { لو } مصدرية ، بمعنى " أن " مؤوّل ما بعدها بمصدر ، مفعول يود ؛ أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } : { ما } حجازية ، والضمير العائد على أحدهم اسمها ، وبمزحزحه : خبرها ، والباء : زائدة ، وأن يعمر : فاعل مزحزحه ؛ أي : وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه ، أي : يبعده وينجيه ، من العذاب ، تعميره . قال القاضي : والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ، ولو قال تعالى : وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول : { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } فسوف يجازيهم عليه .
وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده ، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة . نعم ! لو حمل أحدهما على الآخر مجازاً لم يبعد ، ولا ضرورة إليه هنا . ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى ، فلذا حَمْلُ هذا البصر على العلم هو من باب قياس الغائب على الشاهد ، وهو بديهيّ البطلان . قال شمس الدين ابن القيم الدمشقيّ في كتاب " الكافية الشافية " :
وَهُوَ الْبَصِيْرُ يَرَىْ دَبِيْبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاْءِ تَحْتَ الصَّخْرِ وَالصَّوَّانِ
~وَيَرَىْ مَجَارِى الْقُوْتِ فِيْ أَعْضَائِهَا وَيَرَى عُرُوْقَ بََِيَاضِهَا بِعَيَانِ
~وَيَرَى خِيَانَاتِ الْعُيُوْنِ بِلَحْظِهَا وَيَرَىْ ، كَذَاكَ ، تَقَلُّبَ الْأَجْفَانِ
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [ 97 ، 98 ]
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } .
روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال : سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبيّ . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : < أخبرني بهن جبريل آنفاً > ، قال : جبريل ؟ قال : < نعم > قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { من كان عدواً لجبريل فإنّه نزله على قلبك } . < أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد الحوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت > قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ! إن اليهود قوم بُهُتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني . فجاءت اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
< أي : رجل عبد الله فيكم > ؟
قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : < أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام > ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا . وانتقصوه .
قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي . وساق نحواً مما تقدم . وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليّك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : < فإن ولي جبريل ، ولم يبعث الله نبيّاً قط ، إلا وهو وليه > . قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : فما منعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدوّنا ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } إلى قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فعندها باؤوا بغضب على غضب .
وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة : فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : < جبريل عليه السلام > . قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : ميكائيل ، الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } إلى آخر الآية . ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عُمَر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير عن الشعبيّ قال : نزل عمر الرَّوحاء ، فرأى رجالاً يبتدرون أحجاراً يصلّون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال فكره ذلك ، وقال : أيما ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركته . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مِدْراسِهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان قال ، ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظَّم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أمّا إذ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذاً هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة . وإنه قُرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ . قالوا عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمنيه والآخر عن يساره .
قال : قلت : فو الله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ عليّ : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك بالخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
ورواه مختصراًَ ابن أبي حاتم أيضاً ، وفيه انقطاع ، فإن الشعبيّ لم يدرك زمان عمر رضي الله عنه . كذا قاله الحافظ ابن كثير ، وساقه أيضاً الواحديّ ، وزاد في آخره : قال عمر : فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر .
قال العلامة البقاعيّ : وقد روى هذا الحديث أيضاً إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن الشعبيّ ، عن عمر رضي الله عنه . قال شيخنا البوصيريّ : وهو مرسل صحيح الإسناد ، انتهى .
وثَمّ روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره ، لا نطوّل كتابنا بسردها ، ومرجعها واحد . فإن قيل : بين رواية البخاريّ الأولى وما بعدها تناف ! . فالجواب : لا منافاة ؛ لأن قراءته صلى الله عليه وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام ، ردّاً لقول اليهود ، لا يستلزم نزولها حينئذ . فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات . فإن طرقها يقوي بعضها بعضاً ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو لليهود ، تلا عليه الآية ، مذكّراً له سبب نزولها كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح .
وقد أشار إلى ذلك السيوطي في " الإتقان " حيث قال :
تنبيه : قد يكون في إحدى القصتين ، " فتلا " فَيَهِمُ الراوي ، فيقول : فينزل . وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس سره في كتابه " أصول التفسير " وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيراً ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية ، وذِكْرَ بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها ، سواء تقدمت القصة أو تأخرت ، إسرائيلياً كان ذلك أو جاهلياً أو إسلامياً ، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم .
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلاً ، وللقصص المتعددة هنالك سعة . فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية . انتهى .
وقوله تعالى : { لجبريل } قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز ، وبفتح الجيم بدونها أيضاً ، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها . قال ابن جنيّ : العرب إذا نطقت بالأعجميّ خلطت فيه .
وقوله : { فإنه نزله } تعليل لجواب الشرط قائم مقامه ، والبارز الأول لجبريل عليه السلام ، والثاني للقرآن ، أضمر من غير سبق ذكر ، إيذاناً بفخامة شأنه ، واستغنائه عن الذكر ، لكمال شهرته ونباهته ، لاسيما عند ذكر شيء من صفاته . وقوله : { على قلبك } زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، فإنه القابل الأول له ، إن أريد به الروح . ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو ، وهذا كقوله : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] ، وكان حق الكلام أن يقال : على قلبي ؛ لأنه المطابق لِقُل ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقاً لكونه كلام الله ، وأنه أمر بأبلاغه .
وقوله : { بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بأمره . وقوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من التوراة وبقية الصحف المنزلة . وقوله : { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ } [ فصلت : 44 ] الآية ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] وفيه رد على اليهود ، حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة كما والشدة ، فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضاً . فإن قيل : من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب ، فكيف استقام قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } جزاء للشرط ؟ أجيب بأن قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } تعليل لجواب الشرط ، كما أسلفنا . والمعنى : من عادى جبريل من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته ، بل يجب عليه محبته ، فإنه نزل عليك كتاباً مصدقاً لكتبهم . فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه ، في إنزاله ما ينفعهم ، ويصحح المنزل عليهم . وقيل : الجواب محذوف تقديره : فليمت غيظاً . وعليه فلا يكون : { فإنه نزله } نائباً عنه . ووجهه أن يقدر الجواب مؤخراً عن قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } ويكون هو تعليلاً وبياناً لسبب العداوة ، كأنه قيل : من عاداه ؛ لأنه نزل على قلبك فليمت غيظاً .
قال الرضى : كثيراً ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام ، قال الله تعالى
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ الحجر : 34 ] ، وقيل تقديره : فهو عدو لي وأنا عدوه ، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، هي قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } أي : من كان عدواً لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر .
وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه ، وقد روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة حديثاً قدسياً < من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب > .
وصدّر الكلام بذكر الجليل تفخيماً لشأنهم ، وإيذاناً بأن عداوتهم عداوته عز وعلا ، وقدم الملائكة على الرسل ، كما قدم الله على الجميع ؛ لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي ، ونزوله بتنزيل الملائكة ، وتنزيلهم لها بأمر الله ، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب ، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وإنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلاً للتغاير الوصفي ، منزلة التغاير الذاتيّ ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر ، واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ؛ إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما . ووضع : الكافرين ، موضع : لهم ؛ ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر . وقد قرئ في السبع : { مِيْكَالَ } كميزان ، و : { مِيْكَائِل } بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و : { مِيْكَائِيْلَ } بالهمزة والياء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ } [ 99 ]
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ } أي : أنزلنا إليك علامات واضحات دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه القرآن من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم ، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة ، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يَدعه إلى إهلاكها الحسدُ والبغيُ ؛ إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة ، تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت ، من غير تعلمٍ تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيء منه عن آدميّ .
وحملُ الآيات على ما ذكرناه من آيات القرآن المجيد أولى من حملها على سائر المعجزات المأثورة ؛ لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل ، كانت أخص بالقرآن ، وقوله : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ } أي : المتمردون من الكفرة ، واللام للعهد ، أي : الفاسقون المعهودون ، وهم اليهود ، أو للجنس ، وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 100 ]
{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام ، أي : كفروا بالآيات بالبينات ، { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } الخ ، أو أينكرون فسقهم وكلما الخ ، وقيل : الواو زائدة ، وقيل هي " أَوْ " التي لأحد الشيئين . حركت بالفتح . وقد قرئ شاذاً بسكونها . فتكون بمعنى بل . دلت عليه القرينة . أعني قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ . قال ابن جنيّ : " أو " هذه هي التي بمعنى " أم " المنقطعة ، وكلتاهما بمعنى " بل " موجودة في الكلام كثيراً . أنشد الفراء لذي الرمة :
~بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِيْ رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُوْرَتِهَا . أَوْ أَنْتَ فِيْ الْعَيْنِ أَمْلَحُ
وكذا قال في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وعلى الوجه الأول ، فالمقصود من هذا الاستفهام الإنكار ، وإعظام ما يَقْدمون عليه ، لأن مثل ذلك ، إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت .
ودل بقوله : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه . بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم . فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات ، بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم ، على ما بيّنه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال ؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته ، كصعوبة من لم تجر عادته بذلك .
قال العلامة : واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا : { الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [ الأنفال : 56 ] ، والنبذ الرمي بالذمام ، ورفضه . وإسناده إلى فريق منهم ، لأن منهم من لم ينبذه . وفي قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون . قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 101 ]
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } تصريح بما طوى قبلُ . فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] الآية ، فتنكير : { رسول } للتفخيم . والجار بعده متعلق بجاء ، أو بمحذوف وقع صفة لرسول ، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وقوله : { كِتَابَ اللّهِ } يعني التوراة ؛ لأنهم بكفرهم برسول الله ، المصدِّق لما معهم ، كافرون بها ، نابذون لها . وقيل : { كِتَابَ اللّهِ } القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . وقوله : { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثّل بما يرمي به وراء الظهر استغناء عنه ، وقلة التفاوت إليه ، وقوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي : نبذوه وراء ظهورهم ، مشبّهين بمن لا يعلمه . فإن أريد بهم أحبارهم ، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم . ففيه إيذان بأن علمهم به رصين ، لكنهم يتجاهلون ، أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، أو لا يعلمون أصلاً ، كما إذا أريد بهم الكل .
وفي هذين الوجهين ، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل نبوية ، وهذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن ، فالمراد بالعلم المنفيّ في : { كأنهم لا يعلمون } هو العلم بأنه كتاب الله ، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك ، وإنما يكفرون به مكابرة وعناداً ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ 102 ]
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم ، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم ؛ وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر ، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر ، وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه ، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق ، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة ، وإسناد التأثير إلى غير الخالق سبحانه ، والصد عن سبيل الحق ، وابتغائهم إياها عوجاً و : { تتلو } بمعنى تقصّ وتحدث . من التلاوة ، وهي القراءة . أو بمعنى تكذب وتختلق ، وهو قول أبي مسلم ؛ قال : يقال تلا عليه ، إذا كذب ، وتلا عنه إذا صدق . وهكذا قال الراغب في تفسيره : تلا عليه كذب ، نحو روى عليه ، وقال عليه : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [ آل عِمْرَان : 75 ] . وقال : الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود ، وهي منطوية على أمرين : ذم اليهود في تحريّ السحر وإيثاره ، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه ، وتخرّصوه عليه . وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد ، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث . فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة ، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفرى ، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهامياً ، بل بعضها كُتب على طريقة المؤرخين ، يعني بلا إلهام ، كما في " إظهار الحق " . والمراد بالشياطين شياطين الإنس ، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء ، الدعاة إلى الباطل .
وقوله : { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي : على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه . وقوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه ، وتكذيب لمن تقوّلها ، وقال كثيرون : هذا تبرئة من السحر ، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبياً كان معصوماً عنه ، وإنما كان كفراً لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها ، وزعم أنها مؤثرة دونَه تعالى .
والمعنى الأول أصرح واوضح .
وقوله تعالى : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } عنى بالشياطين من ذكرناهم قبلُ وهم خبثاء الإنس وأشرارهم . كما قي قوله تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] وقوله : { شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } [ الأنعام : 112 ] والذي يعيّن هذا المعنى قوله : { تتلو } لأن تلاوة شياطين الجن ، لا يسمعها أحد ، ومعنى : { تتلو } تقص كما تقدم . وقوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } يعيّن هذا المعنى أيضاً ؛ إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس .
والمراد بقوله : { كفروا } كفرهم بآيات الله المنزلة ، أو عبادتهم غيره تعالى ، أو كفرهم باستعمال السحر والشعوذة ، تعمية على الحق ، وتغشية للبصائر . وجملة قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } حالية من ضمير : { كفروا } ، أو خبر ثان لـ : { لكن } ، أو مستأنفة . هذا على تقدير كون الضمير للشياطين . وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل : { أتبعوا } فهي إما حال منه أو استئنافية . وقوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
أعلم أن للعلماء في هذه الآية وجوهاً كثيرة ، وأقوالاً عديدة ، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخبار بين نقَلة الغث والسمين ، ومنهم من وقف مع ظاهرها البحت [ في المطبوع : البحث ] وتمحّل لما اعترضه ، بما المعنى الصحيح في غنى عنه . ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير وردّ آخرها على أولها ، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات ، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام . إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها .
والذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات وكانا يعلمان الناس السحر ، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء ، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله ، وبلغ مكر هذين الرجلين ، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } ، أي : إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك ، أتشكر أم تكفر ، وننصح لك أن لا تكفر . يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية ، وصناعتهما روحانية ، وأنهما لا يقصدان إلا الخير . كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان ، قائلين لما يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم : نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء .
ولليهود في ذلك خرافات كثيرة . حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله ، وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس . فجاء القرآن مُكذّباَ لهم في دعواهم نزوله من السماء ، وفي ذم السحر ومن يتعلمه أو يعلمه ، فقال : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } الآية ، فـ " ما " هنا نافية ، على أصح الأقوال ، ولفظ " الملكين " هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت ، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم ، وكما يرد في كلام المسلم ، في الرد على المسيحيين ، ذكر تجسد الإله وصلبه ، وإن كان لا يعتقد ذلك .
وقوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } من قبيل التمثيل ، وإظهار الأمر في أقبح صورة ، أي : بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل ، وطرق الإفساد ، أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع : كالمرء وزوجه .
والخلاصة : أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا : أن اليهود كذّبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم ، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه ، وزعموا أنه كفر ، وهو لم يكفر . ولكن شياطينهم هم الذين كفروا ، وصاروا يعلمون الناس السحر ، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت ، اللذين سموهما ملكين ، ولم ينزل عليهما شيء ، وإنما كانا رجلين يدّعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير ، ويحذرانهم من الكفر ، وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين ، ويحلون به عقد المتحدين .
فأنت ترى من هذا المقام كله للذم ، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت ، والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي : ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئاً من عند الله ، غير الوحي إلى الأنبياء ، ونص نصّاً صريحاً أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] ، وقال منكِراً على من طلب إنزال الملك : { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ } [ الأنعام : 8 ] ، وقال في سورة الفرقان : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } إلى قوله : { فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ الفرقان : 7 9 ] .
وللقُصاص في هاروت وماروت في أحاديث عجيبة . فزعموا أنهما كان ملكين من الملائكة ، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي ، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض . فأوحى الله إليهما : إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني ، فقالا : يا رب ، لو ابتليتنا لم نفعل ، فجرّبنا . فأهبطهما إلى الأرض ، وابتلاهما الله بشهوات بني آدم ، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى : الزهرة ، فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر ، وقتلا النفس وسجدا للصّنم ، وعلمّاها الاسم الأعظم ، الذي كانا به يعرجان إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم ، وعرجت إلى السماء ، فمسخها الله تعالى ، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة . ثم إن الله تعالى عرّف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ، ثم خيّرهما بين عذاب الآخرة آجلاً ، وبين عذاب الدنيا عاجلاً ، فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة ، وهما يعلّمان الناس السحر ، ويدعوان إليه ، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة .
وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم . ولم يقل بها القرآن قط ، وإنما ذكرها التلمود ، كما يعلم من مراجعة " مدارس يدكوت " في الاصحاح الثالث والثلاثين ، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين ، فأخذوا منه .
قال الرازي في تفسيره : إن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه :
أحدها : أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما - أي : لهاروت وماروت - : لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيانك ، وهذا منهم تكذيب لله تعالى ، وتجهيل له ، وذلك من صريح الكفر .
وثانيها : أنهما خُيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وذلك فاسد ، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب ، والله تعالى خيّر بينهما من أشرك به طول عمره ، وبالغ في إيذاء أنبيائه .
وثالثهما : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر ، في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان .
وهكذا ، الإمام أبو مسلم احتج على بطلان نزول السحر عليهما أيضاً بوجوه :
الأول : أن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان منزّله هو الله ، وذلك غير جائز ؛ لأن السحر كفر وعبث لا يليق بالله تعالى إنزال ذلك .
الثاني : أن قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } يدل على أن تعليم السحر كفر . فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر . وذلك باطل .
الثالث : كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لعليم السحر ، فكذلك في الملائكة بطريق الأولى .
الرابع : إن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة ، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب ؟ وهل السحر إلا الباطل المموه ؟ وقد جرت عادة الله بإبطاله ، كما قال في قصة موسى عليه السلام : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } [ يونس : 81 ] انتهى .
وقد ساق الرازيّ ما ارتآه أبو مسلم في تفسير هذه الآية . ولم نشأ نقله لبعده عن الصواب . وهكذا ما ذكره الإمام ابن حزم في كتابه " الفصل " في بحث عصمة الملائكة ففيه تكلف وتمحل غريب ، كما يعلم بمراجعتهما .
وللراغب الأصفهاني احتمالات في تصحيح القصة ، وتجويزات عجيبة تنبو عن الحق الصراح الذي آثرنا نقله أولاً عن بعض المحققين . والله أعلم .
واعلم أن لفظ السحر ، في عرف الشرع ، مختص بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أطلق ولم يقيد ، أفاد ذم فاعله ، قال تعالى : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } [ الأعراف : 116 ] ، يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حيالهم وعصيهم تسعى . وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أهتم : < إن من البيان لسحراً > ، لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته . وبالجملة : فالسحر المطلق إنما هو تخييل بشعوذة صارفة للأبصار ، أو تمتمة مزخرفة عائقة للأسماع ، فلا يغير حقائق الأشياء ، ولا ينقل الصور . وقوله تعالى : { وما بهم بضارين به من أحد إلا بإن الله } قال الراغب : الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة ، ويقال للعلم ، ومنه آ ذنته بكذا ، ويقال للأمر الحتم . وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان :
أحدهما : الإذن لقاصد الفعل في مباشرته . نحو قولك : أذن الله لك أن تصل الرحم .
والثاني : الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله ، والترياق في تخليصه من أذيته . فإذنُ الله تعالى وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني ، وذلك هو المشار إليه بالقضاء ، وعلى هذا يقال : الأشياء كلها بإذن الله وقضائه . ولا يقال : الأشياء كلها بأمره ورضاه . وقوله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } إرشاد إلى أن ليس في تعلم السحر إلا المضرة ، لما فيه من التلبيس والتمويه ، وإيهام الباطل حقاً ، والتوصل به إلى المفاسد والشرور . وقوله سبحانه : { ولا ينفعهم } صرح به إيذاناً بأنه ليس من الأمور المشربة بالنفع والضرر ، بل هو شرٌ بحت ، وضرر محض .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } أي : اليهود الذي حكيت ضلالاتهم . وقوله : { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي : استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، والحق الذي أنزله . وقوله : { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي : نصيب ، لإقباله على التمويه والكذب ، واستعمال ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها . وفيه إشارة إلى أن اختيارهم للسحر ليس من جهلهم بضرره ، بل أتوا ما أتوا عن علم بعاقبته السوأى .
وقوله تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي : ما باعوا به حظهم الأخرويّ ، حتى كأنهم أتلفوا أنفسهم ، وإنما نفى عنهم العلم بقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } مع إثباته لهم على سبيل التوكيد القسمي بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } لأن معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . فجعلهم غير عالمين ، لعدم عملهم بموجب علمهم . ولما بين سبحانه ما عليهم فيما ارتكبوا من المضار أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ 103 ]
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } أي : بما دعوا إليه من القرآن الحكيم : { واتَّقَوْا } أي : ما يؤثمهم ، ومنه السحر والتمويه وقوله : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ } جواب : لو ، وأصله : لأثيبوا مثوبة من عند الله خيراً مما شروا به أنفسهم . فحذف الفعل وغيّر السبك إلى ما عليه النظم الكريم ، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالاً للمفضل من أن ينسب إليه
، وقوله تعالى : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : أن ثواب الله خير . وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 104 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ } للنبي صلى الله عليه وسلم : { رَاعِنَا } التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وحفظ الجانب ، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون بها ألسنتهم ، ويقصدون بها الرعونة ، وهي إفراط الجهالة ، فنهاهم عن موافقتهم في القول ، منعاً للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح ، وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال : { وَقُولُواْ انظُرْنَا } فأبقى المعنى وصرف اللفظ . أي : أنظر إليها . بالحذف والإيصال ، أو انتظرنا . على أنه من نظره إذا انتظره ، وقرئ : { انظرنا } من النظرة أي : أمهلنا حتى نحفظ . وقرئ : راعونا على صيغة الجمع للتوقير . وراعناً على صيغة الفاعل أي : قولاً ذا رعن ، كدارع ولابن ، لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سبباً للسب بالرعن اتصف به
{ وَاسْمَعُوا } أي : قولوا ما أمرتكم به ، وامتثلوا جميع أوامري ، ولا تكونوا كاليهود ، حيث قالوا سمعنا وعصينا : { وَلِلكَافِرِينَ } أي : اليهود الذي توسلوا بقولكم المذكور إلى التهاون بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عَذَابٌ أَلِيمٌ } لما اجترؤوا عليه من العظيمة ، وهو تذييل لما سبق ، فيه وعيد شديد لهم ، ونوع تحذير للمخاطبين عما نُهوا عنه .
وهذه الآية يظير قوله تعالى في سورة النساء : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] ، ومن ليّهم ما جاء في الحديث أنهم كانوا إذا سلموا يقولون : السام عليكم . والسام هو الموت ، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ < وعليكم > وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 105 ]
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } بيان لشدة عداوة الكافرين من القَبِيْلَيْنِ للمؤمنين ، حسداً وبغياً . ليقطع التشبه بهم ؛ فإن مخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة .
ثم بين أن الحسد لا يؤثر في زوال ذلك بقوله : { وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } والاختصاص : عناية تعيّن المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره ، وفيه تنبيه على ما أنعم به على المؤمنين ، من الشرع التام الكامل الذي شرعه لهم .
ولمّا أنكرت اليهود أن يقع شيء من النسخ لآيات الله ، توصلاً بذلك إلى إنكار آيات القرآن ، وتأييدِ تأبيد التوراة ، ردّ عليهم سبحانه بعد تحقيق الوحي بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 106 ]
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي : ما نبدّل من آية بغيرها ، كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن : { أو ننسها } أي : نذهبها من القلوب كما أخبر بقوله : { وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 13 ]
وقرئ : { أَوْ نَنْسَأْهَا } أي : نؤخرها ونتركها بلا نسخ ، كما أبقى كثيراً من أحكام التوراة في القرآن . وعلى هذه القراءة ، فقد نشر على ترتيب هذا اللف قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي : من المنسوخة المبدلة كما فعل في الآيات التي شرعت في الملة الحنيفية ما فيه اليسر ، ورفع الحرج والعنت ، فكانت خيراً من تلك الآصار ، والأغلال . وقوله : { أَوْ مِثْلِهَا } أي : مثل تلك الآيات الموحاة قبل ، كما يُرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتصت الحكمة بقاءه واستمراره .
قال الراغب : فإن قيل : إن الذي تُرك ولم يُنسخ ليس مثله بل هو هو ، فكيف قال : بمثلها ؟ قيل : الحكم الذي أنزل في القرآن وكان ثابتاً في الشرع الذي قبلنا يصح أن يقال هو هو ، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته ، التي هي اللفظ ، ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ ، ونحو ذلك أن يقال : ماء البئر هو ماء النهر إذا اعتبر جنس الماء ، وتارة يقال : مثل ماء النهر إذا اعتبر قرار الماء . على أن إرادة العين بالمثل شائعة ؛ كما في قولهم : مثلك لا يبخل .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فهو يقدر على الخير ، وما هو خير منه ، وعلى مثله في الخير ، قال الراغب : أي : لا تحسبن أن تغييري لحكمٍ حالاً فحالاً ، وأني لم آت بالثاني في الابتداء ، هو العجز ، فإن من علم قدرته على كل شيء لا يظن ذلك . وإنما تغير ذلك يرجع إلى مصلحة العباد ، وأن الأليق بهم ، في الوقت المتقدم ، الحكم المتقدم . وفي الوقت المتأخر ، الحكم المتأخر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ 107 ]
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } فهو يملك أموركم ويدبرها ، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ } يلي أموركم : { وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر يمنعكم من العذاب .
وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة ، هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم - في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خيرٌ لهم ، والعمل بموجبه من الثقة به ، والتوكل عليه ، وتفويض الأمر إليه ، من غير إصغاء إلى أقاويل اليهود ، وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا [ في المطبوع : جاءً ] به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة . فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ، ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء . والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد ، وإلا فقد وُجد في شريعتهم النسخ بكثرة .
وقد ذكر العلامة الشيخ رحمه الله الهندي في [ كتابه ] " إظهار الحق " أمثلة وافرة مما وقع من ذلك في التوراة والإنجيل . فارجع إليها في الباب الثالث منه .
تنبيهان :
الأول : قال بعض الفضلاء : نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون أو اليهود : إن محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . وفي الآية ردّ عليهم بأن المقصود من نسخ الحكم السابق : تهيؤ النفوس لأرقى منه ؛ وهو معنى قوله تعالى : { نأت بخير منها } لأن الخالق تعالى ربّى الأمة العربية في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريية لا تتم لغيرها - بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلا في قرون عديدة . لذلك كانت عليهم الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره . وهذه سنة الخالق في الأفراد والأمم على حد سواء . فإنك لو نظرت في الكائنات الحية - من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكلٍ من أشكال الأشجار ، ومن أول رتبةٍ من رتب الحيوانات إلى الْإِنْسَاْن - لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية ، والأدبية معاً . . . ! فإن انتقال الخلية الْإِنْسَاْنية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافعٍ ، فشاب ، فكهل ٍ ، فشيخ ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار - من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها - يريك بأجلى دليل : أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق . وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى ؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب - وهم في مبدأ أمرهم - بما يلزم أن يتصفوا به ، وهم في نهاية الرقي الْإِنْسَاْني ، وغاية الكمال البشري . . . . ؟ ! وإذا كان هذا يصح ، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال ، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود . . . . ! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله - وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلف الأمة - وهي في دور طفوليتها - بما لا تتحمله إلا في دور شبوبيتها وكهولتها . . . ؟ وأي الأمرين أفضل : أشرعنا الذي سن الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه ، وأتمه - بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقصوا حرفاً منه - لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الْإِنْسَاْن . . . ؟ ! أم شرائع دينية أخرى ، حرفها كهانها ، ونسخ الوجودُ أحكامها - بحيث يستحيل العمل بها - لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه . . . ؟ ! .
الثاني : أسلفنا - في مقدمة التفسير - إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف ، بما ينبغي مراجعته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [ 108 ]
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } : { أَمْ } هنا ، إما متصلة معادلة للهمزة في : { أَلَمْ تَعْلَمْ } أي : ألم تعلموا أنه مالك الأمور ، قادرٌ على الأشياء كلها ، يأمر وينهى كما أراد . . . أم تعلموا وتقترحون بالسؤال كما [ في المطبوع : كلما ] اقترحت اليهود على موسى عليه السلام ؟ وإما منقطعة - بمعنى بل - للإضراب والانتقال على حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك ، وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة ، إلى التحذير من ذلك . ومعنى الهمزة : إنكار وقوع الإرادة منهم ، واستبعاده ؛ لما أن قضية الإيمان وازعة عنها . وتوجيه الإنكاري إلى الإرادة - دون متعلقها - للمبالغة في إنكاره واستبعاده ، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته ، فضلاً عن صدور نفسه ، وقوله : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ } أي : يختره ، ويأخذه لنفسه : { بِالإِيمَانِ } . بمقابلته بدلاً منه : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } أي : عدل عن الصراط المستقيم . جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله : { أَمْ تُرِيدُونَ } الخ ، معطوفة عليه . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد ، وتبديل الكفر بالإيمان . فظهر وجه ذكر قوله : { أَمْ تُرِيدُونَ } الخ بعد قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ } . فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها .
قال الراغب : فإن قيل ما فائدة قوله : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ } الخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الْإِنْسَاْن سواء السبيل فكيف بالكفر ؟ وقيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل ، قبلُ سواء السبيل ، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان ، ومعناه : لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى ؛ فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان . فمبدأ ذلك : الضلال عن سواء السبيل . ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام ، بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفراً ؛ إذ هي مؤدية إليه ، كتسمية العصير خمراً ، فقال : { وَمَن يَتَبَدَّلِ } أي : يطلب تبديل : { الكفر } ، أي : المعاندة التي هي مبدأ الكفر : { بالإيمان } أي : بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس ، فقد ضل سواء السبيل .
ووجه ثالث : وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل ، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه .
ووجه رابع : وهو أن : { سَوَاء السَّبِيلِ } إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها . والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ } أي : بالإيمان المكتسب فقد أبطله ، وضيّع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك .
هذا . وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] . ويرشحه قوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين .
ورجح الرازي كون الخطاب مع اليهود ، قال : لأن هذه السورة من أول قوله : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق ، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً } الآية ، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالآية ، وهم بمعزل من الإيمان ، إعراضهم عنه ، مع تمكنهم منه ، وإيثارهم للكفر عليه ، كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 109 ]
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً } علة ودّ : { مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة ما طابقه من التوراة : { فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ } أي : أعرضوا عما يكون منهم من الجهل والعداوة فلا تجازوهم : { حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } وهو الإذن في قتالهم وإجلائهم : { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فينتقم منهم إذا آن أوانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 110 ]
{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } أي : ثوابه : { عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا يضيع عنده عمل عامل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 111 ]
{ وَقَالُواْ } أي : أهل الكتاب من اليهود والنصارى : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } نشر لما لفّته الواو في : { وقالوا } ، واليهود جمع هائد ، كعوذ جمع عائذ . وقرئ : { إلا من كان يهودياً أو نصرانياً } { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا . والأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى ، كالأعجوبة والأضحوكة . فإن قيل : قوله : { لن يدخل الجنة } أمنية واحدة ، فلم قال : أمانيّهم ؟ أجيب : بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع . وأجاب صاحب " الانتصاف " بأنهم لشدة تمنيهم هذه الأمنية ، ومعاودتهم لها وتأكيدها في نفوسهم ، جمعت ؛ ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم ، بالغة منهم كل مبلغ ، والجمع يفيد ذلك ، وإن كان مؤداه واحداً . ونظيره قوله : معي جياعٌ ، فجمعوا الصفة ، ومؤادها واحد ؛ لأن موصوفها واحد ، تأكيد لثبوتها وتمكنها .
وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى : { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] فإنه جمع : قليلاً ، وقد كان الأصل إفراده فيقال : لشرذمة قليلة . كقوله تعالى : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } [ البقرة : 249 ] لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها . ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد ، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد ، فنقل إلى تأكيد الواحد ، وإبانة زيادته على نظرائه ، نقلاً مجازياً بديعاً ، فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان . والله الموفق : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في دعواكم . قال الرازي : دلت الآية على أن المدعي سواه ادعي نفياً أو إثباتاً ، فلا بد له من الدليل والبرهان ، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد ، قال الشاعر :
~مَنِ ادَّعَى شَيْئَاً بِلَا شَاْهِدٍ لَاْ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاْهُ
انتهى كلام الرازي . وسبقه إلى ذلك الزمخشري حيث قال : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل غير ثابت . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 112 ]
{ بَلَى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ } من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره . وإنما عبر عن النفس بالوجه ، لأنه أشرف الأعضاء ، ومجمع المشاعر ، وموضع السجود ، ومظهر آثار الخضوع . أو المعنى : من أخلص توجهه وقصده ، بحيث لا يلوي عزيمته إلى شيء غيره : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله ، موافق لهديه صلى الله عليه وسلم ، وإلا لم يقبل ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد > رواه مسلم { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وهو عبارة عن دخول الجنة ، وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من لحوق مكروه : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من فوات مطلوب . والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى : { مَنْ } كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 113 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه ، إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم . ومعنى : { على شيء } أي : أمر يُعتدّ به من الدين : { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } الواو للحال ، والكتاب للجنس . أي : قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب . وحق من حمل التوراة أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ، أن لا يكفر بالباقي ، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني ، شاهد بصحته ، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً : { كَذَلِكَ } أي : مثل الذي سمعت به على ذلك المنهاج : { قَالَ } الجهلة : { الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام ، قالوا لأهل كل دين : { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ليسوا على شيء . وهذا توبيخ عظيم ، حيث نظموا أنفسهم ، مع علمهم ، في سلك من لا يعلم .
{ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : يفصل بينهم بقضائه العدل ، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه ، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابئينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] وكما قال تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 26 ] .
قال الرازي : واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن كل طائفة تكفر الأخرى . مع اتفاقهم على تلاوة القرآن . انتهى .
فها هنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر ، لا بسنة ولا قرآن ، ولا لبيان من الله ولا لبرهان ، بل لمّا غلت مراحل العصبية في الدين ، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين .
~يَأْبَى الْفَتْحِ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَىْ وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ وَاْضِحٌ
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف . فقال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [ آل عِمْرَان : 103 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء } [ الأنعام : 159 ] . وقال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } [ آل عِمْرَان : 105 ] . وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . وقد امتاز أهل الحق ، من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 114 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك ، ولما وجّه تعالى الذم فيما سبق في حق اليهود والنصارى ، ذيّله بذم المشركين في قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } . ثم وجّه [ في المطبوع : وجهه ] بهذه الآية أيضاً للمشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وصدوهم أيضاً عنه ، حين ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة عام الحديبية ، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام ؛ لأن منع الناس من إقامة شعائر العبادة فيه ، سعى في تخريبه . وأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ التوبة : 17 - 18 ] ، وقال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] ، فإذا كان من آمن بالله واليوم الآخر . . . الخ مصدوداً عنه ، مطروداً منه ، فأي خراب له أعظم من ذلك ، والعمارة إحياء المكان وشغله بما وضع له . وليس المراد بعمارته زخرفته وإقامة صورته فقط ، إنما عمارته بذكر الله فيه وإقامة شرعه فيه ، ورفعة عن الدنس والشرك ، وإنما أوقع المنع على المساجد ، وإن كان الممنوع هو الناس لما أن المآل عائد لها ، ولا يقال : كيف قيل مساجد والمراد المسجد الحرام فقط ؟ لأنه لا بأس أن يجيء الحكم عاماً ، وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً : ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال تعالى : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] ، والمنزول فيه واحد .
وقوله : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ } هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، ويذل لهم المشركين ، حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً ؛ يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يُسلم ، وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ، ونادى فيهم عامَ حجَّ أبو بكر رضي الله عنه : < ألا لا يحجن بعد العام مشرك > . فحج النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني ظاهراً على المسجد الحرام ، لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ، ويدخل المسجد الحرام .
وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ، المشار إليه بقوله تعالى : { لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما صدوا المؤمنين صُدُّواً عنه : { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه ، من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله ، والطواف به عرياً ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .
وفي الآية وجه آخر وهو أن الآية في ذم اليهود ، تبعاً للسابق واللاحق ، وما جنوه بكفرهم على بيت المقدس من خرابه وتسليط عدوّهم عليهم حتى خربه ودمر مدينتهم ، وقتل وسبى منهم ، وأسرهم وبقوا في الأسر البابلي سبعين سنة ، كل ذلك كان برفضهم كتاب الله ، والعمل بشريعته .
وفي قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ } إشارة إلى رجوعهم إليه بعد الأسر على تخوف من العدو ومذلة لصقت بهم ، وهو وجه وجيه ؛ لأن لفظ : سعى ، يرشد إلى ذلك ، كما أن مفهومها يشعر بذم القائمين على الخراب بالأولى وهم النصارى ، حينما تمكنت سلطتهم انتقاماً من أعدائهم اليهود .
روى ابن جرير عن مجاهد ، قال في الآية : هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه . وقال قتادة : حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس ، وتدل على أن أماكن العبادة تصان وتحترم ؛ لأنها المدرسة العامة التي تتلى فيها الحكم والأحكام ، والإرشاد إلى سبل السلام .
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، فيما رواه الإمام أحمد عن بُسر بن أرطاة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : < اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة > .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث حسن ، وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابه ، وهو بسر بن أرطاة ، ويقال ابن أبي أرطاة حديث سواه ، وسوى حديث : < لا تقطع الأيدي في الغزو > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 115 ]
{ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } بيان لشمول ملكوته لجميع الآفاق ، المتسبب عنه سعة علمه . وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها . وقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } نظير قوله : { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] ، وكقوله تعالى : { هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] وقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، وقوله : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] ، أي : عمّ كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ 116 ]
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } يريد الذين قالوا المسيح ابن الله ، وعزيرٌ ابن الله ، والملائكة بنات الله ، فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولداً ؛ فقال : { سبحانه } أي : تقدس وتنزه عما زعموا تنزهاً بليغاً . وكلمة : { بل } للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات . أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة ، والتنوين في : { كلٌّ } عوض عن المضاف إليه . أي : كل ما فيهما ، كائناً ما كان من أولي العلم وغيرهم : { لَّهُ قَانِتُونَ } منقادون ، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد .
قال الراغب في تفسيره : نبه على أقوى حجة على نفي ذلك ، وبيانها : هو أن لكل موجود في العالم ، مخلوقاً طبيعياً ، أو معمولاً صناعياً ، غرضاً وكمالاً أوجد لأجله ، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض ، كاليد للبطش ، والرجل للمشي ، والسكين لقطع مخصوص ، والمنشار للنشر ، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حالٍ ، والرجل للتناول ، لكن ليس على التمام .
والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه ، وجزء منه ، لَمّا لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه ، فجعل له بذراً لحفظ نوعه . ويقوي ذلك ، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً ، لمّا لم يجعل لها فناء النبات والحيوان .
ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم ، بلا ابتداء ولا انتهاء ، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى ، ولهذا قال : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي : هو منزه عن السبب المقتضي للولد . ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ٍ ما ، وذلك لما تقدم ، أن الْإِنْسَاْن افتقر إلى نسل يخلقه لكونه غير كامل إلى نفسه - بيّن تعالى بقوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أنه لا يتوهم له فقر ، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره ، فصار في قوله : { له ما في السماوات والأرض } دلالة ثانية ، ثم زاد حجة بقوله : { قانتون } وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ، ومظاهرته كما قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَة } [ النحل : 72 ] بيّن أن كل ما في السماوات والأرض ، مع كونه ملكاً له ، قانتاً [ في المطبوع : قانت ] أيضاً ، إما طائعاً ، وإما كارهاً ، وإما مسخراً . كقوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] ، وقوله : { إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة .
ثم قال الراغب : إن قيل من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى ؟ قيل قد ذكر في الشرائع المتقدمة : كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله ، حتى إنهم قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر ، وإن الله هو الأب الأكبر ، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الْإِنْسَاْن ، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده ، وإن الأب هو معبود الابن من وجه أي : مخدومه . وكانوا يقولون للملائكة : آلهة . كما قالت العرب للشمس : إلاهة ، وكانوا يقصدون معنى صحيحاً كما يقصد علمائنا بقولهم : الله محب ومحبوب ، ومريد ومراد ونحو ذلك من الألفاظ . كما يقال للسلطان : الملك ، وقولُ الناس : رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف ، ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له بكر الله ، وأن عيسى كان يقول : أنا ذاهب إلى أبي . ونحو ذلك من الألفاظ ، ثم تصور الجهلة منهم بآخرة : معنى الولادة الطبيعية . فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا ، تنزهاً عن هذا الاعتقاد ، حتى صار إطلاقه ، وإن قصد به ما قصده هؤلاء ، قرين الكفر . [ أهـ ] كلام الراغب رحمه الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 117 ]
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق . وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له : أبدعت . ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة : مبتدع ؛ لأنه يأتي في دين الإسلام ، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب ، وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم . وتقرير الحجة : إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها ، فلا يُبْعد أن يوجِد أحداً بلا أب ، أو يعلم بلا واسطة بشر .
وقال الراغب : ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة ، شرحها : إن الأب هو عنصر للابن ، منه تكوّن . والله مبدع الأشياء كلها ، فلا يكون عنصرا ًللولد ، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً . وقوله تعالى : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] أي : إذا أراد أمراً . والقضاء : إنفاذ المقدر . والمقدر ما حد من مطلق المعلوم .
قال الراغب : القضاء إتمام الشيء قولاً أو فعلاً ، فمن القول آية : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] ، { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ } [ الإسراء : 4 ] ، ومن الفعل قوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] وقضى فلان دينه ، وقضى نحبه ، وانقضى الأمر .
ثم قال : ونبّه بقوله : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } على حجة خامسة ، وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب ، حالاً بعد حال ، وهو إذا أراد شيئاً ، فقد فعل بلا مهلة ، ولم يرد بـ : { إذا } حقيقة الزمان ، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان ، ولم يرد أيضاً بـ : { كن } حقيقة اللفظ ، ولا بالفاء التعقيب الزماني . بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه ، وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل ، والأمر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل ، والقول ؛ إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجاداً ، ولفظ : { كُنْ } لعموم معناه واختصار لفظه ، ثم قال : { فيكون } تنبيهاً لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده . و : { كُن فَيَكُونُ } وإن كان مخرجها مخرج شيئين ، أحدهما مبني على الآخر ، فهو في الحقيقة شيء واحد . انتهى .
والذين ذهبوا إلى أن المراد بـ : { كن } حقيقة اللفظ ، ورد عليهم سؤال مشهور ، وهو : إن : { كن } لفظ أمر ، والأمر لا يكون إلا لموجود ؟ . فبعضٌ أجاب بأنه أمرٌ للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده . وبعضٌ قال : هو أمر لمعلوم له ، وذلك في حكم الموجود ، وإن كان معدوم الذات . وبعضٌ قال : هو أمر للمعدوم . قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود .
ولهم أجوبة أكثر تكلفاً وتمحلاً .
وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب بـ : { كن } موجوداً ، فتحصيل الحاصل محال . وإن كان معدوماً ، فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ فأجاب بقوله : هذه المسألة مبينة على أصلين :
أحدهما : الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب ، بل هو الذي يكوّن المخاطب به ، ويخلقه بدون فعل من المخاطب ، أو قدرة أو إرادة أو وجود له ، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركاً يفعله بقدرة وإرادة ، وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته ؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس ، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده ؟ لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده ، وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة ؟ . والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة . والأصل الثاني : أن المعدوم في حال عدمه ، هل هو شيء أم لا ؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات وعين ، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة ، وأن وجودها زائد على حقيقتها ، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة .
والذي عليه جماهير الناس ، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة ، إنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين ، وإنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة ، والآخر وجوده الزائد على حقيقته . فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات . فكل ما سواه سبحانه مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له سبحانه وتعالى . ولكن في هؤلاء من يقول : المعدوم ليس بشيء أصلاً ، وإن سمي شيئاً باعتبار ثبوته في العلم ، كان مجازاً . ومنهم من يقول : لا ريب أن له ثبوتاً في العلم . ووجوداً فيه فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات ، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت . كما فرق من قال : المعدوم شيء . ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع ، كما فرق أولئك ؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس يشيء وإنما النزاع في الممكن . وعمدة من جعله شيئاً ، إنما هو لأنه ثابت في العلم ، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه ، وغير ذلك . قالوا : وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض . فإن خُص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني ، وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي ، زالت الشبهة في هذا الباب .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقيل توجيه هذا الخطاب إليه ، وبذلك كان مقدراً مقضياً . فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عُمَر وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة > . قال : < وعرشه على الماء > . وفي " صحيح البخاري " عن عِمْرَان بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض > . وفي " سنن أبي داود " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب قال : رب ، وماذا أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة > . إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوماً مخبراً عنه ، مكتوباً ، فهو شيء باعتبار وجوده العلميّ الكلاميّ الكتابيّ ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتاً في الخارج . بل هو عدم محض ونفيٌ في صرف .
وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات ، وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق ٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1 - 4 ] وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع ، وإذا كان كذلك كان الخطاب موجهاً إلى من توجهت إليه الإرادة ، وتعلقت به القدرة ، وخلق كوّن ، كما قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] في الذي يقال له : { كن } هو الذي يراد ، وهو ، حين يراد قبل أن يخلق ، له ثبوت وتميز في العلم والتقدير . ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره ، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم . فإن فوق السائل : إن كان المخاطب موجوداً ، فتحصيل الحاصل محال ، يقال له هذا إذا كان موجوداً في الخارج وجودَه الذي هو وجوده . ولا ريب أن المعدوم ليس موجوداً ، ولا هو في نفسه ثابت . وأما ما علم وأريد وكان شيئاً في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالاً ، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة .
وقول السائل : إن كان معدوماً فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ يقال له : أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال ، إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل ، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل ، فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه مطلوب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل ، ولذلك أيضاً يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين . بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج ، وأنه يخاطب بأن يكون . وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه ، فليس ذلك محالاً . بل هو أمر ممكن . بل مثل ذلك يجده الْإِنْسَاْن في نفسه ، فيقدر أمراً في نفسه يريد أن يفعله وبوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب ، الذي قدره في نفسه ، ويكون حصول المارد المطلوب بحسب قدرته ، فإن كان قادراً على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم . وإن كان عاجزاً ، لم يحصل ، وقد يقول الْإِنْسَاْن : ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب . فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه ، والله سبحانه على كل شيء قدير ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ 118 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } من المشركين أو من أهل الكتاب وهو الأظهر ؛ لأن ما تقدم ، كلَّه في حوارهم وردّ أضاليلهم ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به : { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ } هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى ؟ استكباراً منهم وعتواً : { أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آياتِ الله آياتٌ ، واستهانة بها : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } أي : هذا الباطل الشنيع فقالوا : أرنا الله جهرة . وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه كما تُعُنِّت عليه تُعُنِّت على من قبله : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتحكم على الأنبياء : { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : بالحق . لا تعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية ، وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح ، مكان الإتيان الذي طلبوه ، ما لا يخفى من الجزالة . والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ، ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين . وإنما لم يتعرض لرد قولهم : { لولا يكلمنا الله } إيذاناً بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } [ 119 ]
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً } بالثواب للمؤمنين : { وَنَذِيراً } بالعقاب للكافرين : { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } ولا نسألك عنهم : ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغْتَ وبَلَغْتَ جهدك في دعوتهم ؟ كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم ، دون الكفر والتكذيب ونحوهما ، وعيد شديد لهم ، وإيذان بأنهم مطبوع على قلوبهم ، لا يرجى منهم الإيمان .
والجحيم ، من أسماء النار ، وتطلق على النار الشديدة التأجج ، وعلى كل نار بعضها فوق بعض ، وعلى كل نار عظيمة في مهواة ، وعلى المكان الشديد الحر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ 120 ]
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } أي : لأنهم يريدون أن يكونوا متبوعين على الإطلاق ، وفيه مبالغة في الإقناط من إسلامهم ، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز ووقوعه منه ، عليه السلام : { قُلْ } لا يتبع رسولٌ إلا الهدى : { إِنَّ هُدَى اللّهِ } أي : الذي هو الإسلام : { هُوَ الْهُدَى } أي : فليس وراءه هدى ، وما تدعون إليه ليس يهدى ، بل هو هوى . كما يعرب عنه قوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم } أي : آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم : { بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } بأن دين الله هو الإسلام ، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة : { مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ } يلي أمرك : { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع عنك عقابه . وإنما أُوثر خطابه صلى الله عليه وسلم ليدخل دخولاً أولياً من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكاً بولايتهم ، طمعاً في نصرتهم .
قال الإمام الرازي : وفي الآية دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلاً ، فمن هذا الوجه تدل على بطلان التقليد . انتهى .
وفي " فتح البيان " ما نصه : وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لتاركي العلم بالكتاب والسنة ، المُؤْثرين لمحض الرأي عليهما . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 121 ]
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } لما ذكر تعالى ، فيما تقدم ، عدم رضاء اليهود والنصارى إلاَّ باتباع ملتهم ، لدعواهم أنهم على حق ، وأنهم مؤمنون بما لديهم - فنّد تعالى دعواهم الإيمان به بأن من أوتي الكتاب فتلاه حق تلاوته فذاك المؤمن به ، والمذكورون ممن لم يتله حق تلاوته ، لَمَا عدد من مساوئ اليهود أولاً ، وشفعه بدعوى النصارى اتخاذ الولد ، ومن كان يعتقد ذلك فأنَّى له الإيمان ؟ وهل هو ممن يتلو الكتاب حق تلاوته ؟ وكتابه يأمر [ في المطبوع : بأمر ] بتوحيد ربه والمشي مع شريعته وتصديق كل نبي يصدق ما معهم ، وقد كفروا بكل ذلك . فجملة : { يتلونه } حال مقدرة من : { هُم } أو من : { الكتاب } . وجوَّز أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن . فالضمير في : { يتلونه } للقرآن ، فتكون كآية : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ القصص : 52 - 54 ] ، وكآية : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدا } [ الإسراء : 107 ] .
ومن تلاوته حق تلاوته الإيمانُ بأنه حق من ربهم ، وصبرهم ودرؤهم بالحسنة السيئة ، وإنفاقهم وسجودهم له تعالى فالآيتان مفسرتان لتلاوتهم حق تلاوته .
وعن ابن مسعود : والذي نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن يُحلّ حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزل الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله . ومثله عن ابن عباس .
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه : { يُؤْمِنُونَ بِهِ } محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح ، بقرينة قوله : { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } حيث اشتروا الضلالة بالهدى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ 122 ، 123 ]
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ } أي : خافوا : { يَوْماً لاَّ تَجْزِي } أي : لا تغني : { نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } فيه : { شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي : فداء : { وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي : يمنعون من عذاب الله . وقد مر نظير الآيتين في صدر السورة .
قال القاضي : ولما صدّر قصتهم بالأمر بذكر النعم ، والقيام بحقوقها ، والحذر عن إضاعتها ، والخوف من الساعة ، وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم ، مبالغة في النصح وإيذاناً بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ 124 ]
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } لما عاب سبحانه أهل الضلال ، وكان جلّهم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب ، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم ذكّر الجميع ما أنعم به عليه تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين بإطلاع هذا النبي الأميّ ، الذي لم يخالط عالماً قط ، على ما لا يعلمه إلاَّ خواص العلماء ، وذكروا البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم ، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلّى ، تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره ، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة ، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر - حثّ على الإقتداء به ، وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد ، هزٌّ لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك ، ذكره البقاعيّ .
و : { إذ } منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي : واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد ، الوازعة عن الشرك ، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل ، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على : { اذكروا } خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى ، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام ، من الأفعال والأقوال ، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم . أي : واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم ، فأتم ما ابتلاء به ، فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فِعْله في إيفاء العهد والثبات على الوعد ، لأُجازيكم على ذلك جزاء المحسنين .
والابتلاء في الأصل : الاختبار . أي : تطلّب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه ، غالباً ، فعله أو تركه . والاختيار منا لظهور ما لم نعلم ، ومن الله لإظهار ما قد علم . وعاقبه الابتلاء ظهور الأمر الخفيّ في الشاهد والغائب جميعاً ، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى . وقوله تعالى : { بكلمات } أي : بشرائع : أوامر ونواهٍ . وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها . قال ابن جرير : ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين ، إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له . انتهى .
وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام ، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجر . فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله ، وابتلاؤه بالنار فصبر عليها ، ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه ، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب .
كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز ، وسفر التكوين من التوراة . ففيهما بيان ما ذكرناه في شأنه عليه الصلاة والسلام . من قيامه بتلك الكلمات حق القيام ، وتوفيتهن أحسن الوفاء ؛ وهذا معنى قوله تعالى : { فأتمهن } كقوله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] والإتمام التوفية .
{ قَالَ } جملة مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الكلام . فكأنه قيل : فما جوزي على شكره ؟ قيل : قال ربه : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } أي : قدوة لمن بعدك . والإمام اسم لمن يؤتم به ، ولم يبعث بعده نبي إلا كان مأموارً باتباع ملته ، وكان من ذريته ، وكان من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] { قَالَ } أي : إبراهيم : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } أي : واجعل من ذريتي أئمة : { قَالَ لاَ يَنَالُ } أي : قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك . لكن لا ينال : { عَهْدِي } أي : الذي عهدته إليك بالإمامة : { الظَّالِمِينَ } أي : منهم ؛ لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين ففي قوله : { لا ينال } . . . الخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام . وعدةٌ إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه ، لاسيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد ، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته ، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته ، فضربت عليهم الذلة وما معها ، ولا يجزى أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون . وقرئ : { الظالمون } على أن : { عهدي } مفعول مقدم اهتماماً ورعاية للفواصل .
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة . و " الكشاف " أوسع المقال في ذلك هنا ، وأبدع في إيراد الشواهد ، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ، ظاهراً وباطناً ، على ما نقله الرازيّ عنهم وحاورهم . أقول : إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ . إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك .
المراد بالعهد ، تلك الإمامة المسؤول عنها ، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته ؟ كما قال تعالى : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } ولو دلت الآية على ما ادعوا لَخالفه الواقع . . . فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين ، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصّة . والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل ؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ، أو ذهاب إلى الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم ، كما قاله بعضهم . وهو أشد تمحلاً . ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع ، كما ورد ، ومثنى زاغ عن ذلك كان ظالماً ، والبحث في ذلك له غير هذا المقام . وبالله التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ 125 ]
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ } أي : الذي بناه إبراهيم بأم القرى ، وهو اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا : { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } مباءة مرجعاً للحجاج والعمار ، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه . ومثابة مفعلة من الثوب ؛ وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية ، وسر هذا التفضل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له . فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل :
~مَحَاسِنُهُ هُيُوْلَى كُلِّ حُسْنٍ وَمِغْنَاطِيْسِ أَفْئِدَةِ الْرِّجَاْلِ
فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطراً . بل كلما ازدادوا له زيارة ، ازدادوا له اشتياقاً .
~لَاْ يَرْجِعُ الطًّرْفُ عَنْهَا حِيْنَ يُبْصِرُهَا حَتَّىْ يَعُوْدَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاْقَا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ! ورضي المحب بمفارقة فلذا الأكباد والأهل والأحباب والأوطان ، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف ، والمتالف ، والمعاطب ، والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه !
ذكر هذه الشذرة الإمام ابن القيم في أوائل " زاد المعاد " .
{ وَأَمْناً } موضع أمن . كقوله : { حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وكقوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَون . وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له ، وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلاً تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً ، ولو ترددت إليه كل عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْْ } [ إبراهيم : 37 ] ، إلى أن قال : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } [ إبراهيم : 40 ] ، ومن كونه مأمناً لمن دخله . كما بيَّنَّا .
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : < إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قلبي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار > . الحديث .
وقوله تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قرئ بكسر الخاء ، أمراً معترضاً بين الجملتين الخبرتين ، أو بتقدير : وقلنا اتخذوا . وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على جعلنا . أي : واتخذوه مصلى ، ومقام إبراهيم هو الحرم كله ، عن مجاهد . وعنه : هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة . ويقال : هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلُّوا عنده ، ولم يؤمروا بمسحه ، ولقد تكلفت الأمم شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها .
قال الراغب الأصفهاني : والأولى أنه الحرم كله ، فما من موضع ذكروه إلا هو مصلى ، أو مدعى أو موضع صلاة .
أقول : كان الأصل في الآية : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى . إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك ، ودون أن يقال مثلاً : واتخذوا منه مصلى - لوجوه :
أحدها : التنويه بأمر الصلاة فيه ، والتعظيم لشأنها حيث أفرد ، للعناية بها ، جملة على حدة .
وثانيها : التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة ، وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم .
وثالثها : التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر ، تمهيداً للأمر باستقباله ، وإلزاماً لمن جادل فيه ، وهم اليهود .
وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة ، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيد لرفع الجدار ، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها ، وهكذا حتى تم جدران الكعبة ، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري .
قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء البيت ، وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء ، فتركه هناك ، ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف ، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه . كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً ، وجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .
قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه ، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة ، وقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت ، ثم آخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه .
وقال سفيان بن عيينة ، وهو إمام المكيين في زمانه : كان المقام من سُقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فردّه عمر إليه . وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله : وقال أيضاً : لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا .
وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقاً بها . والله أعلم .
وقال الحافظ الشيخ عُمَر بن الحافظ التقيّ محمد بن فهد المكيّ الهاشميّ ، في كتاب إتحاف الورى بأخبار أم القرى " في حوادث سنة سبع عشرة : فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم ، فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام إبراهيم من موضعه ، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة ، وعيّن مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل ، فأتى به وربط بلصق الكعبة في وجهها ، وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية . فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة ، وكان سيلاً هائلاً . فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة ، فهاله ذلك ، وركب فزعاً إلى مكة ، فدخلا بعمرة في شهر رمضان ، فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف . ثم قال : أنشد الله عبداً عنده علم في هذا المقام ! .
فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي رضي الله عنه : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك ، فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر ، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر ، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط ، وهي عندي في البيت . فقال له عمر : اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها . فجلس عنده وأرسل إليها فأتي بها ، فقيس ، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن ، وأحكم ذلك واستمر إلى الآن . انتهى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أمرناهما . وتعديته بـ : { إلى } لأنه في معنى : تقدمنا وأوحينا : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي : عن كل رجس حسي ومعنوي : فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع ، أو ابنياه على طهر من الشرك بي . كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ الحج : 26 ] ، أو أخلصاه للطائفين وما بعده لئلا يغشاه غيرهم . فاللام صلة : { طهراً } على هذا . وعلى ما قبله ، لام العلة ؛ أي : طهراه لأجلهم . وقوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } أي : حوله . وعن سعيد بن جبير : يعني من أتاه من غربة : { وَالْعَاكِفِينَ } يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين . كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أُراني إلا مكلِّم الأمير : أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام ، فإنهم يُجنبون ويُحدثون . قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون . ورواه عبد بن حميد في مسنده . وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب .
وفي " الكشاف " : يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين ، يعني القائمين في الصلاة .
كما قال للطائفين والقائمين : { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين ؛ لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي ، ولتقارب الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما . وجمع صفتين جمع سلامة ، وآخر بين جمع تكسير لأجل المقابلة ؛ وهو نوع من الفصاحة . وأخّر صيغة : فُعُول على فُعَّل ؛ لأنها فاضلة ، والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 126 ]
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا } أي : الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنته من ذريتي : { بَلَداً } أي : يأنس من يحل به : { آمِناً } أي : من الخوف ، أي : لا يُرعَب أهله . . وقد أجاب الله دعاءه . كقوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } [ العنكبوت : 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وصحت أحاديث متعددة بتحريم القتال فيه ، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح > فهو آمن من الآفات ، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله . كما فعل بأصحاب الفيل . وقوله تعالى في سورة إبراهيم : { هَذَا الْبَلَدَ آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، بتعريف البلد مع جعله صفة لهذا ، خلاف ما هنا ، إمّا أن يحمل على تعدد السؤال بأن تكون الدعوة الأولى للمذكورة هنا ، وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً . كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً ؛ لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [ إبراهيم : 37 ] ، فقال ، ههنا ، اجعل هذا الوادي بلداً آمناً . والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً . فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة . وإمّا أن يحمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر ، فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين ، وقد حكى ذلك هنا ، واقتصر هناك على حكاية سؤل الأمن ، اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال أجعل أفئدة الناس تهوي إليه ، هذا خلاصة ما حققوه .
وعندي أن السؤال والمسؤول واحد ، إلا أنه تفنن في الموضعين . فحذف من كل ما أثبته في الآخر احتباكاً . والأصل : رب اجعل هذا البلد بلداً آمناً . وبه تتطابق الدعوتان على أبدع وجه وأخلصه من التكلف . على ما فيه من إفادة المبالغة ؛ أي : بلداً كاملاً في الأمن . كأنه قيل : اجعله بلداً معلوم الاتصاف بالأمن ، مشهوراً به ، كقولك : كان هذا اليوم يوماً حاراً . وفي " القاموس " وشرحه التاج : البلد والبلدة علم على مكة ، شرفها الله تعالى ، تفخيماً لها . كالنجم للثريا . وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة خالية أو مسكونة . وفي " النهاية " : البلد من الأرض ، ما كان مأوى الحيوان ، وإن لم يكن فيه بناء { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } إنما سأل إبراهيم عليه السلام ذلك ، لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر ، فاستجاب الله تعالى له ، فصارت يُجبى إلهيا ثمرات كل شيء : { مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } بدل من : { أهله } ، بدل البعض ، يعني : ارزق المؤمنين من أهله خاصة . وإنما خصّهم بالدعاء إظهاراً لشرف الإيمان ، واهتماماً بشأن أهله ، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة . حيث ميزّ الله تعالى المؤمنين عن الكافرين ، في باب الإمامة ، في قوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } بعد أن سأل ، عليه السلام ، جعْلها في ذريته ، فلا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء ، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان ، وزجر عن الكفر : { قَالَ } الله تعالى : معلماً أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا وزرقها لجميع عَمْرة الأرض : { وَمَن كَفَرَ } أي : أنيله أيضاً ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق ، فهو عطف على مفعول فعل محذوف ، دلَّ الكلام عليه . ويجوز أن تكون : { من } مبتدأ موصولة أو شرطية . وقوله : { فَأُمَتِّعُهُ } خبره أو جوابه . وعبر عن رزقه بالمتعة التي هي الزاد القليل والبلغة ، تخسيساً له ، وأكد ذلك بقوله : { قَلِيلاً } تمتيعاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ } أي : ألجئه إليه كما قال تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } [ الطور : 13 ] ، و : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] وقرئ فأمتعه قليلاً ثم اضطره ، بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلام ، وفي : { قال } ضميره : { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } النار أو عذابها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 127 ]
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } أي : أذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه . وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية ، لاستحضار صورتها العجيبة ، والقواعد : مع قاعدة ، وهي الأساس والأصل لما فوقه ، وقال الزجاج : القواعد : أساطين البناء التي تعمده : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } على إرادة القول أي : يقولان ، وترك مفعول : { تقبل } ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات ، التي من جملتها ما هما بصدده من البناء ، كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية : { إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ } لدعائنا : { الْعَلِيمُ } بضمائرنا ونياتنا .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس في حديث مجيء إبراهيم لتفقد إسماعيل عليهما السلام ، ثم قال : يا إسماعيل ! إن الله قد أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أبني ههنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر ، فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 128 ]
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } مخلصين لك أوجهنا . من قوله : أسلم وجهه لله ، أو مستسلمين ، يقال : أسلم له وسلم ، واستسلم ، إذا خضع وأذعن . والمعنى : زدنا إخلاصاً أو إذعاناً لك : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَا } واجعل من ذريتنا : { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } و : { من } للتبعيض ، أو للتبيين ، كقوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] ، وإنما خصّا الذرية بالدعاء ، لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : عرفنا متعبداتنا ، جمع منسك بفتح السين وكسرها ، وهو المتعبد ، وشرعة العبادة . يقع على المصدر والزمان والمكان ، من النسك مثلثة وبضمتين وهو العبادة والطاعة ، وكل ما تُقُرِّب به إلى الله تعالى .
ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج لشيوعها في أعماله ومواضعه . فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع ، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك ، وأن الشيطان تعرض له ، فرماه عليه السلام . قالوا : وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج ، حيث كان مُتلقّىً عن الله بلا واسطة ، لكونه عَلَماً على أتي يوم الدين ، حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد . والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولاً من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه ، وجعل ذلك عامّاً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام . أي : علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك ، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه ؟ : { وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } هذا الدعاء استتابه لما فرط من التقصير . فإن العبد ، وإن اجتهد في طاعة ربه ، فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو والنسيان ، أو على سبيل ترك الأولى ، فالدعاء منهما ، عليهما السلام ، لأجل ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [ 129 ]
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَوَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } هذا إخبار عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم ، أي : من ذرية إبراهيم ، وهم العرب من ولد إسماعيل ، وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة ، فبعث في ذريته رسولاً [ في المطبوع : رسولً ] منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، إلى الناس كافة ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم ، ومراده هذه الدعوة ؛ وذلك فيما خرجه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إني ، عند الله ، لخاتم النبيّين ، إن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيّين يرين > وأخرج أيضاً نحوه عن أبي أمامة ، قال : قلت : يا نبي الله ! ما كان أول بدء أمرك ؟ قال : < دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام > .
والمراد أن أول من نوه بذكره وشَهَرهَ في الناس إبراهيم عليه السلام ، ولم يزل ذكره في الناس مشهوراً حتى أفصح باسمه عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، حيث قال : { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] ، وهذا معنى قوله في الحديث : < دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم > . وقوله فيه < ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منها قصور الشام > . قيل : كان منها ما رأته حين حملت به ، وقصته على قومها ، فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة وإرهاصاً . وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ، ولهذا يكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم - إذا نزل بدمشق - بالمنارة الشرقية البيضاء منها .
ولهذا جاء في الصحيحين : < لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك > وفي صحيح البخاري < وهم بالشام > وقوله تعالى : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } هي إما الفرقان الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، المتلوّ عليهم ، وإما الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته تعالى ، ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها . وقوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } أي : الكامل الشامل لكل كتاب وهو القرآن : { الحكمة } هي السنة ، فسرها بها كثيرون . وعن مالك : هي معرفة الدين ، والفقه فيه ، والإتباع له . وقوله تعالى : { ويزكيهم } أي : يطهرهم من الشرك ، وسائر الأرجاس ، كقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 157 ] .
ولما ذكر عليه السلام هذه الدعوات ، ختمها بالثناء على الله تعالى فقال : { إنك أنت العزيز الحكيم } ، والعزيز ذو العزة وهي القوة ، والشدة ، والغلبة ، والرفعة ، و : { الحكيم } بمعنى الحاكم ، أو بمعنى الذي يحكم الأشياء ويتقنها ، وكلاهما من أوصاف تعالى .
قال الراغب : إن قيل ما وجه الترتيب في الآية ؟ قيل : أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجز النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقاً بالقرآن . وأما الترتيب ، فلأن أول منزلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ادعاء النبوة ، الإتيان بالآيات الدالة على نبوته ، ثم بعده تعليمهم الكتاب ، أي : تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط ، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة ، وهي أشرف منزلة العلم ، ولهذا قال : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراُ كثيراٌ } [ البقرة : 269 ] ثم بالتدرج في الحكمة يصير الْإِنْسَاْن مزكى أي : مطهرّاً مستصلحاً لمجاورة الله عز وجل . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ 130 ]
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم ، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين ، أي : لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا من سفه نفسه ، أي : حملها على السفه وهو الجهل .
قال الراغب : وسفه نفسه أبلغ من جهلها ، وذاك أن الجهل ضربان : جهل بسيط ، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء . وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه الباطل ، وفي الباطل أنه حق . والسفه : أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده . فبيّن تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم ، فإن ذلك لسَفَه نفسه ، وذلك أعظم مذمة ، فهو مبدأ كل نقيضة ، وذاك أن من جهل نفسه ، جهل أنه مصنوع ، وإذا جهل كونه مصنوعاً جهل صانعه ، وإذا لم يعلم أن له صانعاً ، فكيف يعرف أمره ونهيه ، وما حسّنه وقبّحه ؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه ، قال : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، وقال : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [ الحشر : 19 ] .
وقوله تعالى : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي : اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة ، وتكثير الأنبياء من نسله ، وإعطاء الخلة ، وإظهار المناسك عليه ، وجعل بيته آمناً ، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة { وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّاْلِحِيْنَ } الذين لهم الدرجات العلى ، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح ، حيث جعله من المتصفين بها ، فهو حقيق بالإمامة ، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين ، ففي ذلك أعظم ترغيب قي اتباع دينه ، والاهتداء بهديه . وأشدّ ذم لمن خالفه .
قال الراغب : إن قيل كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا ، وبالصلاح في الآخرة ، والنظر يقتضي عكس ذلك ؛ فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل ، وذلك يكون في الدنيا ، والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحاً ، فحقه أن يكون في الآخرة ؟
قيل : الاصطفاء ضربان ، أحدهما كما قلت ، والآخر في الدنيا ، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه ، وهو المعنيّ بقوله : { شَاْكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ } [ النحل : 121 ] ، والصلاح وإن اعتبر بأحوال الدنيا ، فمجازى به في الآخرة ، فبيّن تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه ، ومحكوم له في الآخرة ، بصلاحه في الدنيا ، تنبيهاً أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا ، وإنما استحقه بصلاحه فيها ، ويجوز أن يكون قوله : { فِي الآخِرَةِ } أي : في أفعال الآخرة حال وفاته ، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه ، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب : ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، عبر عن السابق بالصالح ، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح . انتهى . وكل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم ، وإقامة المحجة عليهم ، لأن أكثر ذلك معطوف على : { اذْكُرُواْ } في قوله : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [ البقرة : 40 ] ولما ذكر إمامته عليه السلام ، ذكر ما يؤتم به فيه ، وهو سبب اصطفائه ، وصلاحه ، وذلك دينه ، وما أوصى به بنيه ، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفاً عن خلف ، ولاسيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبه أهل الكتاب إليه فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 131 ]
{ إِذْ } أي : أصطفيناه لأنه : { قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } أي : لربك ، أي : انقد له ، وأخلص نفسك له ، أو استقم على الإسلام ، واثبت على التوحيد : { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وظاهر النظم الكريم أن القول حقيقي ، وليس في ذلك مانع ، ولا ما جاء ما يوجب تأويله . وقول بعضهم : هو تمثيل ، والمعنى : أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام ليس بشيء . ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز ، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 132 ]
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ } شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره ، إثر بيان كماله في نفسه . والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته ، والضمير في : { بها } إما عائد لقوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } على تأويل الكلمة والجملة . ونحوه رجوع الضمير في قوله : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [ الزخرف : 28 ] ، إلى قوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } [ الزخرف : 2627 ] ، وقوله : { كَلِمَةً } دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة . وإما عائد إلى الملة في قوله : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } ، وأيد الأول بكون الموصى به مطابقاً في اللفظ لأسلمت ، وقرب المعطوف عليه . ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكوراً صريحاً ، وردَ الإضمار إلى المصرح بذكره ، إذا أمكن ، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم . ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة . والكل حسن . وقوله تعالى : { بَنِيهِ } تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق . وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج ، بعد وفاة سارة أم إسحاق ، امرأة أخرى اسمها قَطُورةُ ، فولدت له : زِمْرَانَ وَيَقْشان وَمَدَانَ ومِدْيانَ ويِشْبَاقَ وشُوحاً ، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية : { وَيَعْقُوبُ } معطوف على إبراهيم ، ومفعوله محذوف تقديره : ووصى يعقوب بنيه ؛ لأن يعقوب أوصى بنيه أيضاً كما أوصى إبراهيم بنيه . ودليل ذلك قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } [ البقرة : 133 ] ، كما سيأتي . وقرئ : { ويعقوبَ } بالنصب عطفاً على بنيه ، ومعناه : ووصى بها إبراهيم بنيه ، ونافلته يعقوب . وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم ، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة ، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة ، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام ، ولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة ، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة ، وكان لإسحاق ، حين ولد له يعقوب وعيسو ، ستون سنة ، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه . ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ الأنعام : 84 ] ، وفي آية أخرى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] { يَا بَنِيَّ } أي : قال كل من إبراهيم ويعقوب ، على القراءة الأولى . وعلى الثانية : قال إبراهيم : يا بني : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان ، وهو دين الإسلام ، الذي لا دين غيره عند الله تعالى : { فَلاَ } أي : فتسبب عن ذلك أني أقول لكم : لا : { تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } وفي هذه الجملة إيجاز بليغ . والمراد : الزموا الإسلام ، ولا تفارقوه حتى تموتوا . وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ؛ لأنه هو المقدور . فلا يقال : صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها ، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، وذا ليس بمقصود ، لأنه غير مقدور . وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام ، فيعود النهي إليه ، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت ، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال . فإما أن يقال : استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني ، فيكون مجازاً . أو يقال : استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه ، فيكون كناية .
قال الزمخشريّ : ونظير ذلك قولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته ، والنكتة في إدخال حرف النهي عما ليس بمنهيّ عنه ، هو إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام ، موت لا خير فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وأن من حل هذا الموت أن لا يحل فيهم . كما تقول في الأمر : مت وأنت شهيد ، فليس مرادك الأمر بالموت ، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات . وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته ، وإظهاراً لفضلها على غيرها ، وإنها حقيقة بأن يُحَثَّ عليها ، هذا وقد قرر سبحانه بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية ، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك ، ولما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين والإسلام ، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى ، ومبالغة في البيان بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 133 ]
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي : ما كنتم حاضرين حينئذ ، فـ : { أم } منطقعة مقدّرة بـ " بل " ، والهمزة ، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ . والشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر ، وحضور الموت حضور مقدماته : { إِذْ قَالَ } أي : يعقوب : { لِبَنِيهِ } وهم : رأُوبَيْن ، وشِمْعُونَ ، ولاَوِي ، ويَهُوذَا ، ويَسَّاكَر ، وزَبُولُون ، ويُوسُف ، وَبَنْيامين ، ودَانُ ، ونَفْتاَلي ، وجادُ ، وأشِيرُ ، وهم الأسباط الآتي ذكرهم : { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } أي : أي : شيء تعبدونه بعد موتي ، وأراد بسؤاله تقريرهم على التوحيد والإسلام ، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما : { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } عطف بيان لآبائك ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه ؛ لأن العم أب والخالة أم ، لانخراطهما في سلك واحد ، وهو الأخُّوة ، لا تفاوت بينهما ، ومنه حديث الترمذي عن علي كرم الله وجهه ، رفعه < عم الرجل صنو أبيه > أي : لا تفاوت بينهما ، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وفي الصحيحين عن البراء ، رفعه : < الخالة بمنزلة الأم > ، وروى ابن سعد عن محمد بن عليّ مرسلا ً : < الخالة والدة > .
{ إِلَهاً وَاحِداً } بدل من إله آبائك ، كقوله تعالى : { بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 15 - 16 ] أو على الاختصاص ، أي : نريد بإله آبائك إلهاً واحداً ، وفي ذلك تحقيق للبراءة من الشرك ، للتصريح بالتوحيد ، ثم أخبروا بعد توحيدهم بإخلاصهم في عبادتهم ، بقولهم : { وَنَحْنُ لَه } أي : وحده لا لأب ولا غيره : { مُسْلِمُونَ } أي : مطيعون خاضعون ، كما قال تعالى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عِمْرَان : 83 ] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوعت شرائعهم ، واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] والآيات في هذا كثيرة ، والأحاديث . منها قوله صلى الله عليه وسلم : < نحن معاشر الأنبياء أولاد علاتٍ ، دينناً واحد > وقد اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين :
منها أنه تعالى لم يقل : < وأمر إبراهيم بنيه > بل قال : وصاهم . ولفظ الوصية أوكد من الأمر ، لأن الوصية عند الخوف من الموت ، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الْإِنْسَاْن لدينه أشد وأتم ، فدل على الاهتمام بالوصي به ، والتمسك به .
ومنها تخصيص بنيهما بذلك ؛ وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم ، فلما خصَّاهُم بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره .
ومنها أنهما ، عليهما السلام ، ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى ، وهذا يدل على شدة الاهتمام أيضاً ، إلى دقائق أخرى أشار إليها الفخر ، عليه الرحمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 134 ]
{ تِلْكَ } إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبينهما الموحدين : { أُمَّةٌ } أي : جيل وجماعة : { قَدْ خَلَتْ } أي : سلفت ومضت : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق : { وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ } أي : مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم ، لا يسألون هم عن أعمالكم : { وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } والمعنى أن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متاخراً : فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم ، فما اقتص عليكم أخبارهم ، وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إليه ، إلا لتفعلوا ما فعلوه ، فتنتفعوا ، وإن أبيتم ، لم تنتفعوا بأعمالهم .
قال الرازي : الآية دالة على بطلان التقليد ، لأن قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } بدل على أن كسب كل واحد يختص به ، ولا ينتفع به غيره ، ولو كان التقليد جائزاً ، لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع ، فكأنه قال : إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم ، ولكن لتنَبَّهُوا على ما يلزمكم ، فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق . انتهى .
ومعلوم أن إتباع الأنبياء عليهم السلام ، والإيمان بهم ، لا يسمى تقليداً ، لخروجه عن حده المقرر في كتب الأصول .
ثم أخبر تعالى أنهم اعتاضوا عن الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم ، بأن صاروا دعاة إلى الكفر ، مع بيان بطلان ما هم عليه من كل وجه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 135 ]
{ وَقَالُواْ } أي : الفريقان من أهل الكتاب : { كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ } نتبع : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } ونستن بسنته لا نحول عنها كما تحولتم : { حَنِيفاً } أي : مستقيماً أو مائلاً عن الباطل إلى الحق ، لأن الحنف محركة يطلق على الاستقامة ، ومنه قيل للمائل الرِّجل أحنف ، تفاؤلاً بالاستقامة كم قالوا للديغ : سُلَيم . وللمهلكة : مفازة . ويطلق على ميل في صدر القدم ، واعوجاج في الرجل ، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى ، الماثل عن الشرك إلى دين الله سبحانه .
ولما أثبت إسلامه بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وفيه تعريض بأهل الكتاب ، وإيذان ببطلان دعواهم اتباعَه عليه السلام ، مع إشراكهم بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، قد أفادت هذه الآية الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان ، وأن الدين المرضيّ عند الله الإسلام ، وهو دعوة الخلق على توحيده تعالى ، وعبادته وحده ، لا شريك له .
ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمداً خاتم النبيين لدعوة الناس جميعاً إلى هذا الأصل .
القول في تأويل قوله تعالى :

(/)


{ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 136 ]
{ قُولُواْ } أي : يا أيها الذين آمنوا . وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم حيث يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم : { آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا } أي : من الكتاب الذي تقدم إنه الهدى : { وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } من الأحكام التي كانوا متعبدين بها ، مما اشتملت عليه صحف أبيهم إبراهيم عليه السلام ومن الموحى إليهم خاصة . والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر المتقدم ذكرهم ، جمع سبط وهو الحافد . سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } من التوراة والإنجيل : { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } مما ذكر ، وغيرهم { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } في الإيمان فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } منقادون .
وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم < لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 137 ]
{ فَإِنْ آمَنُواْ } أي : أهل الكتاب الذي أرادوا أن يستتبعوكم : { بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } أي : بما آمنتم به على الوجه الذي فصّل ، على أن المثل مقحم . وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود : بما آمنتم به . وقرأ أُبيّ : بالذي آمنتم به : { فَقَدِ اهْتَدَواْ } إلى الحق ، وأصابوه كما اهتديتم . عكس ما قالوا : كونوا مثلنا تهتدوا : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن الإيمان بما أمنتم به { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } أي : فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء .
قال القاضي : ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا يتكون معصية إنه شقاق . وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه ، وفي استحقاق النار ، فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم ، وصار وصفهم بذلك دليلاً على أن القوم معادون للرسول ، مضمرون له السوء ، مترصدون لإيقاعه في المحن ، فعند هذا أمنه الله تعالى من كيدهم ، وأمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ } تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به . وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أتبع وعده بالنصر والكفاية ، بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من أمرهم لا يخفى عليه تعالى . فهو يسبب لكل قول وضمير منهم ما يردّ ضرره عليهم . فهو وعيد لهم ، أو وعدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أي : يسمع ما تدعو به ، ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق ، وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } [ 138 ]
{ صِبْغَةَ اللّهِ } مصدر مؤكد منتصب من قوله : { آمنا بالله } كذا قاله سيبويه ، فهو بمثابة فِعْلَه . كأنه قيل صبغنا الله صبغة . أي : صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بماء الشبه ، ولا تغلب صبغةُ غيره عليه . والصبغة كالصبغ بالكسر فيهما لغة ، ما يصبغ به وتلون به الثياب . ووصف الإيمان بذلك لكونهم تطهيراً للمؤمنين من أوضار الكفر ، وحلية تزيّنهم بآثاره الجميلة ، ومتداخلاً في قلوبهم ، كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك ، ويقال : صبغ يده بالماء غمسها فيه ، وأنشد ثعلب :
~دَعِ الشَّرِّ وَأَنْزَلَ بِالنَّجَاةِ تَحَرُّزاً إِذَاْ أَنْتَ لَمْ يَِصْبِغْكَ فِي الشَّرِّ صَاْبِغُ
وقال الراغب : الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم ، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] الآية ، والمعني بقوله عليه السلام : < كل مولود يولد على الفطرة . . . > الخبر ، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الْإِنْسَاْن التي ركب عليها ، إذا اعتبرت بذاته ، تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ . ولما كانت اليهود والنصارى ، إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية ، يقولون : قد صبغناه - بيّن تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق ، ولا أحد أحسن صبغة منه .
ثم قال : وقول الحسن وقتادة ومجاهد : إن الصبغة هي الدين ، وقول غيرهم : إنها الشريعة ، وقول من قال : هو الختان - إشارة إلى مغزى واحد : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } الاستفهام للإنكار والنفي . أي : لا صبغة أحسن من صبغته تعالى ؛ لأنها صبغة قلب لا تزول ؛ لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم ، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه . والجملة اعتراضية مقررة لما في : { صبغة الله } من معنى الابتهاج : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } شكراً لتلك النعمة ولسائر نعمه ، فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نوكدها بالعبادة ، وهي تزيل رَََيْن القلب فينطبع فيه صورة الهداية ؟ وهو عطف على آمنا ، داخل معه تحت الأمر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } [ 139 ]
{ قُلْ } منكراً لمحاجتهم وموبِّخاً لهم عليها : { أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ } أي : أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له واتباع الهدى وترك الهوى : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له ، ونحن وأنتم في العبودية له سواء : { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي : نحن برآء منكم ومما تعبدون ، وأنتم برآء منا . كما قال في الآية الأخرى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] . وقال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } [ آل عِمْرَان : 20 ] الآية { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون } في العبادة والتوجيه ، لا نشرك به شيئاً ، وأنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان . ولمَّا بقي من مباهتاتهم ادعاؤهم أن أسلافهم كانوا على دينهم ، أبطلها سبحانه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 140 ]
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ } خليل الله : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } ابنيه : { وَيَعْقُوبَ } ابن إسحاق : { وَالأسْبَاطَ } أولاد يعقوب : { كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى } أي : على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية : { قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } أي : الذي له الإحاطة كلها أعلم . فلا يمكنهم أن يقولوا : نحن . وإن قالوا : الله ، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك . فبطل ما ادعوا ، وثبت أنهم ، عليهم السلام ، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرَّئين عن اليهودية والنصرانية ، هذا مع أن ردَّ قولهم هذا أظهرُ ظاهرٍ من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابقُ على نسبة للآحق ، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة . وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عِمْرَان . ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه ، عليهم السلام ، على دين الإسلام ، وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك ، مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } [ البقرة : 42 ] الآية أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً } موجودة وموعودة : { عِندَهُ مِنَ اللّهِ } وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله . والاستفهام إنكار لأن يكون أحدٌ أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم ، عليهم السلام ، بالحنيفية والبراءة من الفريقين .
قال التقيَ ابن تيمية : سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } [ البقرة : 159 ] الآية ، كأنه قال : خبراً عنده ، ديناً عنده من الله ، وبياناً عنده من الله ، فإن كان قوله : { مِنَ اللَّهِ } متعلقا ًبـ : { كتم } فإنه يعم كل الشهادات . وإن كان متعلقاً بـ : { عنده } ، وهو الأوجه ، أو بشهادة ، أو بهما ، فإن الأمر في ذلك واحد ؛ أي : شهادة استقرت عنده من جهة الله . فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء ، فسمى الإخبار به شهادة .
ثم قال : وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ] تهديد ووعيد شديد ؛ أي : أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه .
قال الرازيّ : هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد ، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ، ولا يخفى عليه خافية ، وأنه من وراء مجازاته ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر لا يمضى عليه طرفة عين إلا هو حذر خائف ، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعدّ عليه الأنفاس ، لكان دائم الحذر والوجل ، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر ، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى ، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 141 ]
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } فلا يسألون عن أعمالكم : { وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين ، ولم يدع لهم متمسكاً من جهتهم ، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان . وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدّونه بحكم ما تجدد من المُنْزَل المعجز لكافة أهل الأرض ، أحمرهم وأسودهم . . . أي : فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة ؛ فلها ما كسبت ، وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ، ولا تُسألون إلا عن عملكم .
قال الراغب : إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس ، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم لاسيما في أمور دينهم .
ولهذا حكى عن الكفار قولهم : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] . فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة ، وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك ، تنبيهاً أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن ، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه ، وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضاً تأكيداً عليهم تنبيهاً على نحو ما قال : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] ، وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ، وقوله : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم ؛ كل شاة تناط برجليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 142 ]
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } روى البخاريّ في صحيحه عن البراء رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ، صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة ، فداروا كما هم قِبَلَ البيت .
وروى مسلم : عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم ولفظه : صلينا مع رسول . الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، ثم صرفنا نحو الكعبة .
وروى الشيخان ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن . وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوهم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . اللفظ لمسلم .
والأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متوافرة ، وفيما ذكرنا كفاية .
وقد أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقاً من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء ، جمع سفيه ، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل . قال أبو السعود : أي : الذين خفّت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر . انتهى .
ومعنى قوله : { مَا وَلَّاهُمْ } أي : أي : شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، أي : ثابتين على التوجه إليها ، وهي بيت المقدس . ومدار الإنكار ، إن كان القائلون هم اليهود ، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم ، وإن كان غيرهم ، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه . وقد روي عن ابن عباس : أن القائلين هم اليهود ، وعن الحسن أنهم مشركو العرب . وعن السدي أنهم المنافقون .
قال الراغب : ولا تنافي بين أقوالهم فكل قد عابوا ، وكلٌّ سفهاء .
تنبيه :
ظاهر قوله تعالى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاء } الخ ، أنه إخبار بقولهم المذكور ، ثم إن الإخبار قبل وقوعه ، وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم ، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد ، والجواب العتيد الشغب الخصم الألد أردّ ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخباراً عن غيب ، فيكون معجزاً : { قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } جواب عن شبهتهم ، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً ، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة . بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى ، وما أمر به فهو الحق : { يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم ، وتفخيم شأن الكعبة . كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } [ الحج : 26 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ 143 ]
{ وَكَذَلِكَ } أي : كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القِبل وأفضلها : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي : عدولاً ، خياراً ، وقوله تعالى : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } تعليل للجَعْل المنوه به الذي تَمَّتْ المنة به عليهم . واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة ، إما بالبصر أو بالبصيرة . قال الرازي : الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية ، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين ، وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة ، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهوداً ، والعارف بالشيء شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهداً على الشيء ؛ لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً . ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك ، سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً . وبالجملة ، فكل من عرف حال شيء ، وكشف عنه كان شاهداً عليه . انتهى .
والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصرٍ أو بصيرة . وهو ، بالمعنى الثالث ، من النعوت الجليلة . ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة . كما ترى في هذه الآية وفي آية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وآية : { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ } [ البقرة : 23 ] : { وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] ، ثم إن في اللام في قوله تعالى : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وجهين :
الأول : إنها لام الصيرورة والعاقبة ؛ أي : فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطاً أن كنتم شهداء على الناس ، وهم أهل الأديان الأخر ؛ أي : بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا ، مما قص عليكم في الآيات قبل ، حتى أحطتم به خبراً ، فعرفتم حق دينهم من باطله ، ووحيه من مخترعه .
يعني : وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم ، وعافكم مما ابتلى به سواكم ، حيث وفقكم للمنهج السويّ وهداكم للمهيع الرضي ، وذلك صار الرسول عليكم شهيداً بأنكم عرفتم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، والنور من الظلمات ، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته . فعظمت المنة لله عليكم ؛ إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة ، علماء بعد الجهالة . ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى ، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم ، فتقوم عليهم الحجة كما قامت من أولئك .
الوجه الثاني : أن تكون اللام للتعليل ، على أصلها . والمعنى : جعلناكم أمة خياراً لتكونوا شهداء على الناس ، أي : رقباء قُوَّاماً عليهم بدعائهم إلى الحق ، وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال ، كما كان الرسول شهيداً عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم . فتكون الآية نظير آية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ آل عِمْرَان : 110 ] ، وربما آثر هذا المعنى من قال : خير ما فسِّر القرآن بالقرآن ، لتماثل الآيتين بادئ بدء ؛ فإن الوسط بمعنى الخيار . وقد صرح به في قوله : { خَيْرَ أُمَّةٍ } وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية : لتكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس : أي : شهداء على حقية رسالته ، وذلك بالدعوة إليها ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها .
وبعد كتابة هذا رأيت السمرقنديّ في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه ؛ وعبارته : وللآية تأويل آخر : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي : عدولاً : { لتكونوا شهداء على الناس } الخ يقول : إنكم حجة على جميع من خالفكم ، ورسول الله عليه السلام حجة عليكم . والشهادة في اللغة هو البيان ولهذا سمي الشاهد بينة ؛ لأنه يبيّن حق المدعي ؛ يعني إنكم تبينون لمن بعدكم ، والنبيّ عليه السلام يبين لكم . انتهى .
وأوضح ذلك الراغب الأصفهاني : بأسلوب آخر فقال : إن قيل : على أي : وجه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وشهادة الأمة على الناس ؟ قيل : الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتاً حكمه ، وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة ، ولما خص الله تعالى الْإِنْسَاْن بالعقل ، والتمييز بين الخير والشر ، وكمله ببعثة الأنبياء ، وخصّ هذا الأمة بأنم كتاب ، كما وصفه بقوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] . وقوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] ، فأفادناه عليه السلام وبينه لنا - صار حجة وشاهداً أن يقولوا : { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] . وجعل أمته ، المتخصصة بمعرفته ، شهوداً على سائر الناس .
إن قيل : هل أمته شهود كلهم أم بعضهم ؟ قيل : كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء ؛ وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح ، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهداً ومقبولاً . ولذلك قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] وعلى هذا قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] ، فالقيام بالقسط مراعاة العدالة ، وهي بالقول المجمل ثلاث : عدالة بين الْإِنْسَاْن ونفسه ، وعدالة بينه وبين الناس ، وعدالة بينه وبين الله عز وجل . فمن رعى ذلك فقد صار عدلاً شاهداً لله عز وجل .
إن قيل : فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة ؟ قيل : بل كلُّ شاهد نفسه ، وعلى أمته ، وعلى الناس كافة ، فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده ، وعدله ، ورأفته ، علم أنه لم يغفل تعالى عنه ، ولا عن أحد من الناس ، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم ، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه ، وعلى من قبله ومن بعده ، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر : < أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم > . انتهى كلام الراغب .
والخبر الذي أشار إليه رواه البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقول : هل بلغتَ ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلَّغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً > . فذلك قوله جل ذكره : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } . وقد روي مرفوعاً عن جابر . أخرجه الطبري . وعن ثلة من التابعين من قولهم .
وأقول : قد بينا مراراً ، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعاً أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية ، فكله يفيد أن للآية عموماً يشمل ما ذكر ، لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره . كما أوضحناه في المقدمة في قولهم : نزلت الآية في كذا ؛ وعليه فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة ، من حيث عمومها ، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم ، وبين ما يروى في تفسيرها ، فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما ، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها ، كله من باب تفسير العامّ ببعض ما يتناوله لفظه . ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات . ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ، أو : ثم قرأ . أو : اقرأوا إن شئتم . مما يدل على أنه ذكرتْ الآية حجة لما أخبر به ؛ لأنه مما يندرج فيها . فاحرص على ذلك .
تنبيهات :
الأول : استدل بالآية على أن الإجماع حجة ؛ لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة . والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها ، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله ، فإجماع الأمة حق ؛ لا تجتمع الأمة - والحمد لله - على ضلالة . كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ آل عِمْرَان : 110 ] ، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف ، وينهون عن كل منكر ، كما وصف نبيهم صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ الأعراف : 157 ] ، وبذلك وصف المؤمنين في قوله : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ التوبة : 71 ] ، قلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال ، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقد جعلهم الله شهداء على الناس ، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في " الصحيح " عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم < وجبت > ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال < وجبت > . فقال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : < هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار ؛ أنتم شهداء الله في الأرض > .
وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ } إلى آخرها .
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء ، لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء ، فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض . بل زكاهم الله في شهادتهم ، كما زكى الأنبياء فيما يبلّغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق ، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق .
هذه نبذة من كلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة ، في الإجماع ، من بعض رسائله .
الثاني : مما يتعلق أيضاً بهذا المقام ، ما قاله أيضاً هذا الإمام في رسالته إلى جماعة عدي بن مسافر . ونصه : فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة ، ولهذا كان إجماعهم حجة ، كما كان الكتاب والسنة حجة . ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، رواها عنه أهل السنن والمسانيد . كالإمام أحمد ، وأبي داود ، والترمذي وغيرهم ، أنه قال : < ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة ، وهي الجماعة > . وفي رواية : < من كان على مثل ما أنا عليه اليوم ، وأصحابي > . وهذه الفرقة الناجية أهل السنة . وهم وسط في النِّحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ، ورسله ، وعباده الصالحين ، لم يغْلوا فيهم كما غلت في النصارى فـ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] . ولا جَفَوْا عنهم ، كما جفت اليهود ، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق : { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 21 ] . و : { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ } [ المائدة : 70 ] بل المؤمنون آمنوا برسل الله ، وعزروهم ، ونصروهم ، ووقروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، ولم يعبدوهم ، ولم يتخذوهم أرباباً . كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عِمْرَان : 79 - 80 ] . ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح ، فلم يقولوا : هو الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة . كما تقوله النصارى . ولا كفروا به ، وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً ، حتى جعلوه ، ولدَ غيّة ، كما زعمت اليهود . بل قالوا : هذا عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، وروح منه . وكذلك المؤمنون وسط في شرائح دين الله ، فلم يحرّموا على الله أن ينسخ ما شاء ، ويمحو ما شاء ويثبت . كما قالته اليهود . كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ، وبقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ } [ البقرة : 91 ] ، ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله ، فيأمروا بما شأؤوا وينهوا عما شأؤوا . كما يفعله النصارى ؛ كما ذكر الله عنهم بقوله : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ } [ التوبة : 31 ]
قال عديّ بن حاتم رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : < ما عبدوهم ، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم > . والمؤمنون قالوا : لله الخلق والأمر . فكما لا يخلق غيره ، لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ، فأطاعوا كل ما أمر الله به . وقالوا : إن الله يحكم ما يريد . وأما المخلوق ، فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ، ولو كان عظيماً . وكذلك في صفات الله تعالى ، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، فقالوا : هو : { فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [ آل عِمْرَان : 181 ] . وقالوا : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك . والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به . فقالوا إنه يخلق ويرزق ، ويرحم ويتوب على الخلق ، ويثيب ويعاقب . والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ، ليس له سمي ولا ندٌّ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . و : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، فإنه رب العالمين ، وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عَبَّاد له ، فقراء إليه .
{ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } [ مريم : 93 - 95 ] ، ومن ذلك : أمر الحلال والحرام ، فإن اليهود كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط ، ولا شحم الثَّرْب - الثَّرْب : شحم رقيق يغشى الكَرِش والأمعاء ، وجمعه ثروب - والكليتين ، ولا الجدي في لبن أمه ، إلى غير ذلك ، مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما ؛ حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً ، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً ، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يواكلوا الحائض ، ولا يجامعوها في البيوت .
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات ، وباشروا جميع النجاسات ، وإنما قال لهم المسيح : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عِمْرَان : 50 ] . ولهذا قال تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] .
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون َ *الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156 - 157 ] .
وهذا باب يطول وصفه ، وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرق ، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته ، وسط بين أهل التعطيل ، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ، ويعطلون حقائق ما نَعَتَ الله به نفسه حتى يشبهونه بالعدم والموات ، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات . فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه ، وما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف وتمثيل ، وهم في باب خلْقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله ، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء ، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل ، فيعطون الأمر ، والنهي ، والثواب ، والعقاب ، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير . فيقدر أن يهدي العباد ، ويقلب قلوبهم ، وإنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ، ولا يعجز عن إنفاذ مراده ، وإنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات ، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل ، وأنه مختار ، ولا يسمونه مجبوراً ؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره ، والله سبحانه جعل العبد مختاراً لما يفعله ، فهو مختار مريد ، والله خالقه وخالق اختياره ، وهذا ليس له نظير . فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولافي أفعاله .
وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ، وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم . وبين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء ، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان ، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية ؛ فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فسّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله ، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة ، وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أدَّخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته ، وهم أيضاً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، وسط بين الغالية الذي يغالون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا ، وكفروا الأمة بعدهم كذلك ، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً . وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما ، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما ، ويستحبون سب عليّ وعثمان ونحوهما ، ويقدحون في خلافة عليّ رضي الله عنه وإمامته .
وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط . لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان انتهى .
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا } أي : ما شرعنا القبلة ، كقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 103 ] أي : ما شرعها . و : { التي كنت عليها } ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعوليّ : { جعل } أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، أي : في مكة تستقبلها قبل الهجرة ، وهي الكعبة . يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء . أو : { كنت عليها } بمعنى صرت عليها الآن . كقوله تعالى : : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عِمْرَان : 110 ] . أو بمعنى كنت على تطلّبها ، أي : حريصاً عليه ، وراغباً فيه . كما يفصح عنه قوله تعالى بعد : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } [ البقرة : 144 ] الآية .
وعلى هذه الأوجه ، فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل الكعبة قبلة ، أو معنى : { التي كنت عليها } : قبل وقتك هذا ، وهي بيت المقدس . أي : إنما شرعنا لك التوجه أولاً إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ، حيثما توجهت ، من غيره . فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أولاً .
ثم اعلم أن الحكمة هو التمييز بين الناس بقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } في كل ما يؤمر به ، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيَّانَ ما وجهه : { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } أي : يرتد عن دينه فينافق ، أو يكفر ممن كان يظهر الاتّباع . وأصل المنقلب على عقبيه : الراجح مستديراً في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفاً عنه ، استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير .
قال ابن جرير : قد ارتد ، في محنة الله أصحابَ رسوله في القبلة ، رجالٌ ممن كان قد أسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم ، وقالوا : ما بال محمد يحوّلنا مرة إلى ههنا ومرة إلى ههنا ؟ وقال المسلمون ، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت . وقال المشركون : تحيّر محمد في دينه . فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصاً للمؤمنين . انتهى .
لطيفة :
العقبين تثنية عقب وهو مؤخر القدم . والانقلاب عليهما استعارة تمثيلية ، وهذه الاستعارة نظير قوله تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } [ المدثر : 23 ] ، وكقوله : { كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ طه : 48 ] .
تنبيه :
قال الراغب رحمه الله : ما وجه قوله : { إِلَّا لِنَعْلَمَ } وذلك يقتضي استفادة علم ، ولم يزل تعالى عالماً بما كان وبما يكون ؟ قيل : إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى ، ومجاز ذلك على أوجه :
الأول : أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين : حدث الفعل في نفسه ، وحدوث العلم به ، ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال ، صار اللام فيه مقتضياً حدوث الفعل لا حدوث العلم .
والثاني : أن العلم يتعلق بالشيء على ما هو به ، والله تعالى عَلِمَهُمْ ، قبل أن يتبعوه ، غير تابعين . وبعد أن تبعوه عَلِمَهُم تابعين . وهذا الجواب هو في الحقيقة الأول ؛ لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم .
والثالث : معناه ليُعلِم غيرنا بنا . فنسب ذلك إلى نفسه . كقوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] ، وفي موضع آخر : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] ، وقال تعالى : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] ، وإنما علمه بملائكته .
والرابع : معناه لنجازي ، وذلك متعارف ، نحو قولك : سأعلم حسن بلائك ؛ أي : سأجزيك على حسب مقتضى علمي قبل ، فعبّر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه .
والخامس : أن عادة الحليم إذا أفاد غيره علماً أن يقول : تعال حتى نعلم كذا ، وإنما يريد إعلام المخاطب ، لكن يُحله نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف . انتهى .
والوجه الثالث هو الذي اختاره الإمام ابن جرير قال : أما معناه عندنا : ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسول وحزبي وأوليائي : من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه .
قال : وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس ، إلى الرئيس ، وما فعل بهم ، إليه . نحو قولهم : فتح عُمَر بن الخطاب سواد العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه ، عن سببٍ كان منه في ذلك ، وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < يقول الله جل ثناؤه : مرضت فلم يعدني عبدي ، واستقرضته فلم يقرضني > فأضاف ، تعالى ذكره ، الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره ، إذ كان ذلك عن سببه .
قد حكي عن العرب سماعاً : أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير ظهري ؛ بمعنى جوع أهله وعياله وعري ظهورهم . فكذلك قوله : { إِلَّا لِنَعْلَمَ } بمعنى : يعلم أوليائي وحزبي .
{ وَإِن كَانَتْ } أي : التولية إليها أو الجعلة أو التحويلة : { لَكَبِيرَةً } أي : ثقيلة شاقة ؛ لأن مفارقة الإلف ، بعد طمأنينة النفس إليه ، أمر شاق جداً { إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } قلوبهم ، فأيقنوا بتصديق الرسول ، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم وما يريد . فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر ، أحدث لهم شكاً . كما يحصل ، للذين آمنوا ، إيقانٌ وتصديقٌ . كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سورة فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 - 125 ] . وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } . هذا تطمين لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين ، ومن أهل الكتاب قبل النسخ ، وبيان أنهم يثابون على ذلك . وقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق المتقدم عن البراء : وكان الذي مات على القبلة ، قبل أن تحوّل قبل البيت ، رجال قتلوا ، لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] ، أي : صلاتكم ، وإنما عدل إلى لفظ الإيمان ، الذي هو عام في الصلاة وغيرها ، ليفيدهم أنه لم يضع شيء مما عملوه ، ثم يصح عنهم ، فيندرج المسؤول عنه اندراجاً أولياً ، ويكون الحكم كلياً . وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب ، ليتناول الماضيين والباقين ، تغليباً لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة ، بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة . ولما انطوى النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود - أجابه الحق إلى ذلك بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [ 144 ]
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء } أي : تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء تشوفاً لنزول الوحي بالتحويل .
قالوا : وفي ذلك تنبيه على حسن أدبه حيث انتظر ولم يسأل . وهلا ألطف مما قيل : إن تقلب وجهه كناية عن دعائه ، ولا مانع أن يراد بتقلب وجهه صلى الله عليه وسلم بالتحويل ، ففيه إعلام بما جعله تعالى من اختصاص السماء بوجه الداعي ، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة ، فهي متقدمة في المعنى ، فإنها رأس القصة : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } أي : لنعطينك أو لنوجهنك إلى قبلة تحبها وتميل إليها . ودل على أن مرضيّة الكعبة ، بقاء السبب في قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : نحوه وجهته . والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين : { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } أي : حيثما كنتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم في الصلاة تلقاء المسجد .
وأما سرّ الأمر بالتولية خاصاً وعاماً ، فقال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفاً له وإيجاباً لرغبته . وأما خطابه العام بعده ، فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خُص عليه السلام به ، كما خص في قوله : { قُمِ اللَّيْلَ } [ المزمل : 2 ] ، ولأنه لما كان تحويل القبلة أمراً له خطر ، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ وليكون لهم في ذلك تشريف ، ولأن في الخطاب العام تعليق حكم آخر به ، وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة .
{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } قال الفخر : الضمير في قوله : { أنه الحق } راجع إلى مذكور سابق ، وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة ، فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق ، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة ، وأنهم يعلمون أنه الحق . وهذا الاحتمال الأخير أقرب ؛ لأنه أليق بالمساق .
ثم ذكر من وجوه علمهم لذلك : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وأنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات ، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق ؛ فكان هذا التحويل حقاً .
قلت : وثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقيّة ذلك التحويل ، وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ، وبيانه : أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكافة من اتبعه ، باستقبال الكعبة ، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارةً لخاتم النبيين وبشارة به ؛ فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية - ويقال الاستثناء - هكذا : وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجلُ الله بني إسرائيل قبل موته فقال : جاء الرب من سيناءَ ، وأشرق لهم من سَعِير ، وتلألأ من جبل فارانَ .
وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء ، والإنجيل على عيسى في جبل سُعَيْر ، لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سُعَيْر بقرية تدعى الناصرة . وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران ، وفاران هي مكة . لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب ؛ ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا : وكان الله مع الغلام فكبر ، وسكن في البرية ، وكان ينموا رامي قوس ، وسكن في برّية فاران .
ولا شك أن إسماعيل ، عليه السلام ، كان سكناه في مكة ، وفيها مات وبها دفن .
وقال ابن الأثير : وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبرانيّ ، له ذكر في أعلام النبوة ، وألفه الأولى ليست بهمزة { وََمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } قرئ بالياء والتاء . فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم .
ولما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق ، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ 145 ]
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ } أي : من اليهود والنصارى : { بِكُلِّ آيَةٍ } أي : برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } أي : هذه التي حوّلت إليها ؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة ، إنما هو عن مكابرة وعناد ، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق ، وقوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } هذا حسم لأطماعهم في العود إليها ، أو للمقابلة ؛ يعني ما هم بتاركي باطلهم ، وما أنت بتارك حقك { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } فلا أتفاق بين فريقيهم ، مع كون الكل من بني إسرائيل .
قال الزمخشري : أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه ، فالمحق منهم لا يزلّ عن مذهبه لتمسكه بالبرهان ، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده ، وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدى بعضهم .
فوائد :
الأولى : قال الراغب : إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق ؟ قيل : قال بعضهم : إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض ، وهذا صحيح ؛ بدلالة أنك لو قلت : ما آمنوا ولكن آمن بعضهم ، لم يكن منافياً . وقيل : عني به أقوام مخصوصون .
الثانية : قال الراغب : في قوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } إشارة على أن من عرف الله حق معرفته ، فمن المحال أن يرتد ، ولذا قيل : ما رجع من رجع إلا من الطريق : أي : ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إيه حق الوصول .
إن قيل : فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدّ ! . قيل : إن الذي يقدّر أنه معرفة ، هو ظن متصور بصورة العلم . فأما أن يحصل له العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فبعيد ، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة ، فإن تكل كشررة تخمد إذا لم تتوقد .
الثالثة : قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، في [ في المطبوع : وفي ] " بدائع الفوائد " : قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله . بل بمشورة واجتهاد منهم . أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق ، وهم يقرّون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل ، وهي الصخرة ، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة ، فهم مع اليهود ، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبداً . والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر . وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا ، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه ، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة . وقوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير ؛ بمعنى : ولئن اتبعتهم ، مثلاً ، بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر : { إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : المرتكبين الظلم الفاحش .
وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إثارته ، ويتبع الهوى ، وتهييجٌ وإلهاب للثبات على الحق . أفاده الزمخشريّ .
تنبيهات :
الأول : قال الراغب : حذر تعالى نبيه من إتباع أهوائهم ، ونبه أن إتباع الهوى بعد التحقيق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة ، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة مواضع . وقول من قال : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنيّ به الأمة ، فلا معنى لتخصصه . فإن الله تعالى يحذر نبيه من إتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره ، فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج ، حفظاً لمنزلته وصيانة لمكانته . وهو كلام نفيس جداً .
الثاني : في الآية تنويه بشأن العلم ؛ حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم ، فذلك ينبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة .
الثالث : دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم ؛ لأن قوله تعالى : { مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } يدل على ذلك . ذكره الرازيّ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 146 ]
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } أي : يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة لا امتراء فيها ، كما لا يمترون في معرفة أولادهم من بين أولاد الناس . وهذه المعرفة مستفادة من الكتاب ؛ كما أخبر تعالى عن نعته فيه بقوله : { يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] ، يعني يعرفونه بالأوصاف المذكورة في التوراة والإنجيل بأنه هو النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم ، كما يعرفون أبناءهم ، ولا تلتبس أشخاصهم بغيرهم ، فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية ، بالمعرفة الحسية في أن كل منهما يقينيّ ، لا اشتباه فيه . وقد روي عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمداً كما تعرف ولدك ؟ قال : نعم وأكثر ؛ نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ، وإني لا أدري ما كان من أمه . فقبّل عمر رأسه { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ } أي : أهل الكتاب ، مع ذلك التحقق والإتقان العلمي : { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي : يخفونه ولا يعلنونه : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : الحق ، أو عقاب الكتمان ، أو أنهم يكتمون . قال الراغب : لم يقل يكتمونه ؛ لأن في كتمان أمره كتمان الحق جملة . وزاد في ذمهم بقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإنه ليس المرتكب ذنباً عن جهل ، كمن يرتكبه عن علم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ 147 ]
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أي : الحق من الله ، لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله ، كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من الله ، كالذي عليه أهل الكتاب ، فهو الباطل . أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك . وقرأ علي رضي الله عنه : الحقَّ ، بالنصب على الإبدال من الأول ، كما في الكشاف . أو المفعولية لـ : { يعلمون } . كما قاله أبو البقاء { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أو في الحق الذي جاءك من ربك ، وهو ما أنت عليه . ومعلوم أن الشك غير متوقع منه ، ففيه تعريض للأمة . وقال الراغب : ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاك ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها . وعلى ذلك قوله : { إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ هود : 46 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 148 ]
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ } أي : لكل أمة ، أو لكل نبي قبلة أو شرعة ومنهاج : { هُوَ مُوَلِّيهَا } وجهه . أي : مائل إليها بوجهه ، تابع لها ؛ لأنها حُببت إليه ، وزينت له . وقال أبو معاذ : موليها بمعنى متوليها ؛ أي : تولاها ورضيها واتبعها : { فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ } أي : ابتدروها بالمسابقة إليها . وهذا أبلغ من الأمر بالمسارعة ، لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق ، والمراد بالخيرات جميع أنواعها مما ينال به سعادة الدارين : { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً } قال الراغب : أي : أيّ شغل تحرّيتم ، وحيثما تصرفتم ، وأي معبود اتخذتم ، فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها : { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل لما قبله ؛ أي : هو قادر على جمعكم من الأرض ، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .
تنبيه :
تشير الآية إلى أن الناس على مذاهب عديدة وأديان متنوعة ، وأن على العاقل أن يستبق إلى ما كان خيرها وأرقاها . وقد اتفق العقلاء قاطبة والفلاسفة أن دين الإسلام أرقى الأديان كلها لما حوى من حاجيات الكمال البشري ، ووفى بشؤون الاجتماع ، وأسباب العمران ، وذرائع الرقيّ وطرق السعادتين . وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ } [ الحج : 67 ] . وقوله : { لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ المائدة : 48 ] .
ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 149 ]
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } أي : ومن أي : بلد خرجت للسفر : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إذا صليت : { وَإِنَّهُ } أي : هذا الأمر : { لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قرئ بالياء فهو وعيد للكافرين ، وبالتاء فهو وعد للمؤمنين ، ولما عَظُم في شأن القبلة انتشار أقوال السفهاء وتنوع شغبهم وجدالهم ، كان الحال مقتضياً لمزيد تأكيد لأمرها ، تعظيماً لشأنها وتوهية لشبههم ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 150 ]
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره ، ولتنتفي مجادلتهم لكم ، كقول اليهود مثلاً : يجحد دينناً ويتبع قبلتنا ! وقول غيرهم : يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ! فإذا صليتم إليه لا تكون لهم عليكم حجة .
قال الراغب : وأشار بقوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } إلى تحقيق ما قدمه ، فبيّن أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون لكل صاحب شرع قبلة يختص بها ، وأنت صاحب شرع ، فتغيير القبلة لك حق من ربك . ثم قال : إن قيل : لِمَ كرّر قوله : { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } ؟ قيل : حثّ بإحداهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي : مكان حصل للإنسان ، نائياً كان عنها أو دانياً منها . وذلك مآل الاختيار والتمكن ، وحث بالآخر على التمكن بالقلب وحده عند اشتباه القبلة ، وفي النافلة في حال اليسر على الراحلة والسفر { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } فإنهم يظهرون فجوراً ولَدَداً في ذلك ، بالعناد . وهم : إما اليهود المعبر عنهم بأهل الكتاب قبلُ ، أو المنافقون أو المشركون كما حكى قبلُ في السفهاء ، وكان من قول اليهود ، فيما حكاه قتادة : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه . ومن قول المشركين ، فيما حكاه مجاهد : قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم وتقدم قول المنافقين . وبالجملة فالكل عابوا وخاضوا : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } تخافوا جدالهم : { وَاخْشَوْنِي } فلا تخالفوا أمري : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } بالتوجه إلى أكمل الجهات المتضمنة للآيات البينات والأمن : { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } للصراط المستقيم بالتوجه إليها ، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة .
قال الحراليّ : وفي طيه بشرى بفتح مكة ، واستيلائه على جزيلة العرب كلها ، وتمكينه بذلك من سائر أهل الأرض ، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها ، التي انتهى إليها ملك أمته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ 151 ]
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ } وقوله تعالى : { فِيْكُمْ } المراد به العرب . وكذلك قوله : { مِنْكُمْ } وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير ، فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القول أقرب : { يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم ؛ لأنه معجزة باقية ، ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ، ومجامع الأخلاق الحميدة ، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة : { وَيُزَكِّيكُمْ } أي : يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق : { وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } وهو القرآن . وهذا ليس بتكرار ؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم : { وَالْحِكْمَةَ } وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها ؛ ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة هي سنة الرسول . وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل ، وجهالة من الأمم ، فالخلق كانوا متحيّرين ضالين في أمر أديانهم ، فبعث الله تعالى النبي بالحق ، حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم ، فصاروا أعمق الناس علماً وأبرهم قلوباً وأقلهم تكلفاً وأصدقهم لهجة ، وذلك من أعظم أنواع النعم ؛ قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ آل عِمْرَان : 164 ] الآية ، وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28 ] ، قال ابن عباس يعني : بنعمة الله ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره . وقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ 152 ]
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } قال ابن جرير : أي : اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم ، وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة ، أذكركم بالمزيد والتوالي ، وهي بمعنى ما قبله ، وقوله : { وَاشْكُرُواْ لِي } قال ابن جرير : أي : اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته . وقوله : { وَلاَ تَكْفُرُونِ } أي : لا تجحدوا إحساني إليكم ، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم .
قال السمرقنديّ : أي : اشكروا نعمتي : أن أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ولا تجحدوا هذه النعمة ، ويقال : النعمة ، في الحقيقة هي العلم ، وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة ، وليس بنعمة ، والعلم لا يمل منه صاحبه ، بل يطلب منه الزيادة ، فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة بعثة رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة . كما قصه الحراليّ . ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ، جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون ، كما جعل كتابه عوضاً من أشعارهم ، وهزّ عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يقول الله عز وجل : أنا مع عبدي حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إليّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة > صحيح الإسناد أخرجه البخاري أيضاً .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده > .
والآثار في فضل الذكر متوافرة ويكفي فيه هذه الآية الكريمة .
تنبيه :
قال النووي رحمه الله تعالى : اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما ، بل كل عامل لله تعالى بطاعة ، فهو ذاكر لله تعالى .
كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه ، وغيره من العلماء . وقال عطاء رحمه الله : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام ، كيف تشتري وتبيع ؟ ، وتصلي وتصوم ؟ ، وتنكح وتطلّق ؟ ، وأشباه هذا . وقال النووي أيضاً : إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض ، وقد صنف ، في عمل اليوم والليلة ، جماعة من الأئمة كتباً نفيسة . ومن أجمعها للمتأخرين " كتاب الأذكار " للنوويّ ، وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في " زاد المعاد " ، وقال في طليعة ذلك : كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكراً لله عز وجل ، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه ، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكراً منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكراً منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكراً منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكراً منه له ، وسكونه وصمته ذكراً منه له بقلبه ، فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله ، وكان ذكره الله يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً ، وعلى جنبه ، وفي مشية وركوبه ومسيره ، ونزوله وطعنه وإقامته . انتهى .
وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة ، سماع الكف والدف ، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وسائر الأكابر من أئمة الدين ، يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى ، ولا يعدّونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة ؛ حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه : التغبير ، يصدّون به الناس عن القرآن . وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيباً وافراً ، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم ، ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله ، كان نصيب الشيطان فيه أكثر فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية ، وهو سماع المشركين ؛ قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وغيرهما من السلف : التصدية ، التصفيق باليد . والمكاء مثل الصفير . فكان المشركون يتخذون هذا عُبَاْدَة .
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر نحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط ، لا بكف ولا بدف ولا تواجد وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا اجتمعوا ، أمروا واحداً منهم أن يقرأ ، والباقون يستمعون وكان عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : < مررت بك البارحة ، وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك > . فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً . أي : لحسنته لك تحسيناً . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : < زينوا القرآن بأصواتكم > . وقال صلى الله عليه وسلم : < لله أشد أذَناً - أي : استماعاً - إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به ، من صاحب القينة إلى قينته > . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : < اقرأ عليّ > ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : < نعم > . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، قال : < حسبك الآن > . فالتفت فإذا عيناه تذرفان .
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] . وقال تعالى في أهل المعرفة : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] ، ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [ الأنفال : 2 ] ، فخلاف هذا السماع ، من الباطل الذي نهى عنه ، ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أكابر المشايخ ، فليُفقْ من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره ، وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره ، وليُدَاوِ جراحات اجتراح بدعته ، باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته . واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته ، فيتولد منه الهيبة والإجلال ، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن ، وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر ، ولذلك قيل : ذكر النعمة شكرها ، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر ، فحق المؤمن أن لا ينفك أبداً عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه . وقوله تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها ؛ فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد . و لي أفصح وأشهر مع الشكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 153 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } أرشد تعالى المؤمنين ، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل ، بالاستعانة بالصبر والصلاة ؛ لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيكر عليها ، أو في نقمة فيصبر [ في المطبوع : فيصير ] عليها . كما جاء في الحديث : < عجباً للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خير له > . وبيّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله ، الصبر والصلاة ؛ كما تقدم في قوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، وفي الحديث : < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى > . ثم إن الصبر صبران : صبر على ترك المحارم والمآثم ، وصبر على فعل الطاعات والقربات . والثاني أكثر ثواباً ؛ لأن المقصود وأما الصبر الثالث ، وهو الصبر على المصائب والنوائب ، فذاك أيضاً واجب . كالاستغفار من المعائب .
وقال الإمام ابن تيمية في كتابه " السياسة الشرعية " وأعظم عون لوليّ الأمر خاصة ، ولغيره عامة ثلاثة أمور : أحدها الإخلاص لله ، والتوكل عليه بالدعاء وغيره . وأصل ذلك المحافظة على الصلاة بالقلب والبدن . والثاني الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة . والثالث الصبر على الأذى من الخلق وغيره من النوائب ؛ ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيراً كقوله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 45 ] ، وكقوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114 - 115 ] ، وقوله : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] ، وأما قِرانُهُ بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جداً . فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية ، إذا عرف الْإِنْسَاْن ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة ، يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه ، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع : من نصر المظلوم وإعانة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج . وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الشر والبطر . انتهى .
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } قال الإمام ابن تيمية في " شرح حديث النزول " : لفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في قوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] ، وفي قوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] إلى قوله : { إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [ المجادلة : 7 ] وجاء خاصاً كما في قوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وقوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، وقوله : { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص ، فإنه قد علم أن قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار ، وكذلك قوله : { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } خصهم بذلك دون الظالمين والفجار .
وأيضاً ، فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى . كما في قوله : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [ الفتح : 29 ] ، وقوله : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 146 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] ، وقوله : { وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ } [ الأنفال : 75 ] ، ومثل هذا كثير . فامتنع أن يكون قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } يدل على أن تكون ذاته مختلطة بذوات الخلق .
وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر وبين أن لفظ المعية في اللغة ، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة ، فهو ، إذا كان مع العباد ، لم يناف ذلك علوّه على عرشه ، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه ، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان ، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد . انتهى مختصراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [ 154 ]
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا ؛ بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات ، كما يتبادر من معنى الميت ، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم : الأحياء ؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، كما قال تعالى في آل عِمْرَان : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عِمْرَان : 169 - 171 ] ، فقوله في هذه الآية : { عِندَ رَبِّهِمْ } يفسر المراد من حياتهم ؛ أي : إنها لأرواحهم عنده تعالى ، وقوله : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أي : بحياتهم الزوجية بعد موتهم ؛ إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم ، وإن حفظ بعضها عن التلف ، كما ترون النيام هموداً لا يتحركون ، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ، ولا عيش أرغد منه في الآخرة .
قال الحراليّ : فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه ، حتى في أن يقال عنه : ميت . فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم ، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر . انتهى .
ولذا قال الأصم : يعني لا تسموهم بالموتى ، وقولوا لهم الشهداء الأحياء . وقال الراغب الأصفهانيّ : الحياة على أوجه ، وكل واحد منها يقابله موت :
الأولى : هو القوة النامية التي بها الغذاء ، والشهوة إليه ، وذلك موجود في النبات والحيوان والْإِنْسَاْن ؛ ولذلك يقال : نبات حيّ .
والثانية : في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية ، وهي في الحيوان دون النبات .
والثالثة : القوة العاملة العاقلة ، وهي في الْإِنْسَاْن دون الحيوان والنبات ، وبها يتعلق التكليف ، وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح : حياة ، وعلى ذلك قوله تعالى : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] وقيل : المحسن حي وإن كان في دار الأموات ، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء .
قال : ونعود إلى معنى الآية فنقول : قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء ، ولا الحياة التي بها الحس ، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول ، فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالْإِنْسَاْن . وقال : إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس . قال : والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة - التي هي الروح - البدنَ . فمتى كان الْإِنْسَاْن محسناً كان منعّماً بروحه مسروراً لمكانه إلى يوم القيامة ، وإن كان مسيئاً كان به معذباً ، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة ، وهو مذهب أصحاب الحديث ، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم . بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها .
ومما دل على صحته خَبَرَا < الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف > وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام > . وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش - يوم بدر - وجمعوا في قَليب ، أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله : < هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فأني وجدت ما وعدني ربي حقاً > قيل : يا رسول الله ! أتخاطب جيفاً ؟ فقال : < ما أنتم بأسمع منهم ، ولو قدروا لأجابوا > . إلى غير ذلك من الأخبار . وقال تعالى في آل فرعون : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } وهذا يعني به قبل يوم القيامة ؛ لأنه قال في آخر الآية : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] . انتهى .
وفي البيضاوي وحواشيه : إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد ، وفساد البنية ، ونفي الشعور بها - دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد ، ولا من جنس حياة الحيوان ، لأنها بصحة البنية ، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل . انتهى .
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم - كما أسلفنا - قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب " الروح " : وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذه حياة أرواحهم ، ورزقها دارٌّ ، وإلاّ فالأبدان قد تمزقت ، وقد فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة : بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطَّلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي : شيء نشتهي ؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا . . . ! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات . فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا - قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . . ! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم : < إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلُق من ثمر الجنة > . - وتعلُق بضم اللام ؛ أي : تأكل العلقة - وهذا صريح في أكلها ، وشربها ، وحركتها ، وانتقالها ، وكلامها . . . ! انتهى .
قال الطبيّ : قوله صلى الله عليه وسلم : < أرواحهم في جوف طير خضر > أي : يخلق لأرواحهم ، بعدما ما فارقت أبدانهم ، هياكل تلك الهيئة ، تتعلق بها وتكون خلفاً عن أبدانهم ، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية . وقال ابن القيم في كتاب " لروح " : إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها ، وركب هذا الْإِنْسَاْن من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح ، وإن أضمرت النفوس خلافه .
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها ، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا ، فتألمت بألمها ، والتذّت براحتها ، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب - تبعث الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها ، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم ، فالأبدان هنا ظاهرة ، والأرواح خفية . والأبدان كالقبور لها ، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها ، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح ، فترى إلى أبدانها نعيماً وعذاباً ، كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيماً وعذاباً ، فأحطْ بهذا الموضع علماً واعرفه كما ينبغي ، يَزُلْ عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج . وقد أرانا الله سبحانه ، بلطفه ، ورحمته وهدايته من ذلك ، أنموذجاً في الدنيا من حال النائم ، فإن ما ينعم به ، أو يعذب في نومه ، يجري على روحه أصلاً ، والبدن تبع له ، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً ، فيرى النائم أنه في نومه ضُرِبَ ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه ، ويرى أنه قد أكل وشرب ، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب فيه ، ويذهب عنه الجوع والظمأ .
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم ، ثم يقوم من نومه ، ويضرب ويبطش ويدافع ، كأنه يقظان ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك ؛ لأن الحكم ، لما جرى على الروح ، استعانت بالبدن من خارجه ، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ .
فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع ، فهكذا في البرزخ ، بل أعظم ، فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى ، وهي متعلقة ببدنها ، لم تنقطع عنه كل الانقطاع ، فإذا كان يوم حشر الأجساد ، وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً . ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه ، وضيقه وسعته ، وضمه ، وكونه حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة - مطابق للعقل ، وأنه حق لا مرية فيه ، وأن من أشكل عليه ذلك ، فمن سوء فهمه ، وقله علمه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين َ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ 155 ، 156 ]
وقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ } خطاب لمن آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، خُصّوا به ، وإن شمل من ماثلهم ، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد ، ومكافحة الفجّار ، وكل قائم بحق ، وداع إليه ، معرض للابتلاء بما ذكر ، كله أو بعضه . والتن وين للتقليل ؛ أي : بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه ، وإنما قَلّل ليؤذن أن كل بلا أصاب الْإِنْسَاْن ، وإن جل ، ففوقه ما يقل إليه ، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم ، وإنما أخبر به قبل الوقوع ، ليوطنوا عليه نفوسهم ، ويزداد يقينهم ، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به ، وليعلموا أنه شيء يسير ، له عاقبة حميدة : { مِّنَ الْخَوفْ } أي : خوف العدو والإرجاف به : { وَالْجُوعِ } أي : الفقر ، للشغل بالجهاد ، أو فقد الزاد ، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله ، وقد كان يتفق لهم ذلك أياماً يتبلغون فيها بتمرة : { وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ } أي : لانقطاعهم بالجهاد عن عُمارة بساتينهم ، أو لافتقادهم بعضها بسبب الهجرة ، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها : { وَالأنفُسِ } بقتلها شهيدة في سبيل الله ، أو ذهاب أطرافها فيه : { وَالثَّمَرَاتِ } أي : بأن لا نغلَّ الحدائق كعادتها ، للغيبة عنها في سبيل الله ، وفقد من يتعاهدها ، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر لاسيما في وقت نزول هذه الآيات ، وهو أول زمان الهجرة .
فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] . قال الراغب : هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها : أي : إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها ، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها ، بما يدل عليه سابقه .
ثم بين تعالى ما للصابرين عنده بقوله : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } مكروه ، اسم فاعل من أصابته شدة : لحقته . أي : كهذه البلايا : { قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ } أي : ملكاً وخلقاً فلا ينبغي أن نخاف غيره ، لأنه غالب على الكل ، أو نبالي بالجوع ؛ لأن رزق العبد على سيده ، فإن مُنِع وقتاً ، فلا بد أن يعود إليه . وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له ، فله أن يتصرف فيها بما يشاء : { وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } في الدار الآخرة . فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا ؛ لأنه لا يضيع أجر المحسنين . فالمصاب يهون عليه خطبه ، إذا تسلّى بقوله هذا ، وتصور ما خلق له ، وأنه رجع إلى ربه ، وتذكر نعم الله عليه ، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه . قال الراغب : وليس يريد بالقول اللفظ فقط ، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئاً ، وإنما يريد تصور ما خلق الْإِنْسَاْن لأجله والقصد له ، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه ، فأمر تعالى ببشارة من اكتساب العلوم الحقيقية وتصورها ، وقصد هذا المقصد وطن نفسه عليه .
ثم قال : إن قيل : ولم قلت : إن الأمر بالصبر يقتضي العلم ؟ قيل : الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ 157 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت : { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ }
قال الراغب : الصلاة ، وإن كانت في الأصل الدعاء ، فهي من الله البركة على وجه ، والمغفرة على وجه . وقال الرازيّ : الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم . قال الراغب : وإنما قال : { صَلَوَاتٌ } على الجمع ، تنبيهاً على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقاً وإرشاداً ، وفي الآخرة ثواباً ومغفرة : { وَرَحْمَةٌ } عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } أي : إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية ، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته .
تنبيه :
ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، عند المصائب ، وفي أجر الصابرين ، أحاديث كثيرة . منها ما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجُرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منها ، إلا أجَرَهُ الله في مصيبته ، وأخلف له خيراً منها > . قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : مَن خيرٌ من أبي سلمة : صاحب رسول الله ؟ ثم عزم الله لي فقلتها . قالت : فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها ، وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعاً ، إلا جدد الله له عند ذلك ، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها > .
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابناً لي ، وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة - يعني الخولانيّ - فأخرجني وقال : ألا أبشرك ؟ قال قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب [ في المطبوع : عوزب ] عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < قال الله تعالى : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضتَ قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال : نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع . قال : ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد > . ورواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وروى البخاري : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من يرد الله به خيراً يصب منه > . وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حَزْن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه > .
ورويا أيضاً عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به عنه من سيئاته ، كما تحط الشجرة ورقها > .
والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة .
وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام ، رحمه الله تعالى ، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا . قال عليه الرحمة : للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس :
أحدها : معرفة عز الربوبية وقهرها .
والثاني : معرفة ذلة العبودية وكسرها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 156 ] ، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه .
والثالثة : الإخلاص لله تعالى ؛ إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ، ولا معتمد في كشفها إلا عليه : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } [ الأنعام : 17 ] ، { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ العنكبوت : 65 ] .
الرابعة : الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } [ الزمر : 8 ] .
الخامسة : التضرع والدعاء : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا } [ يونس : 12 ] ، : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 41 ] { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 63 ] .
السادسة : الحلم ممن صدرت عنه المصيبة : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] ، [ وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد قيس ] : < إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة > . وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها ، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم .
السابعة : العفو عن جانيها : { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 134 ] { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه } [ الشورى : 40 ] . والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو .
الثامنة : الصبر عليها ، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 146 ] : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر .
التاسعة : الفرح بها لأجل فوائدها : قال عليه الصلاة والسلام : < والذي نفسي بيده ! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء > . وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : حبذا المكروهان الموت والفقر . وإنما فرحوا بها ؛ إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها ، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها ، مع تجرعه لمرارتها .
العاشرة : الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها ، كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه ، المانع من شهواته ، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء .
الحادية عشرة : تمحيصها للذنوب والخطايا : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير } [ الشورى : 30 ] [ وكما جاء في الحديث ] : < ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته > .
الثانية عشرة : رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم ؛ فالناس معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية ، وإنما يرحم العشاق من عشق .
الثالثة عشرة : معرفة نعمة العافية والشكر عليها ؛ فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها .
الرابعة عشرة : ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها .
الخامسة عشرة : ما في طيّها من الفوائد الخفية : { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [ النساء : 19 ] { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [ البقرة : 216 ] { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [ النور : 11 ] .
ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر . فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين ، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية ، وقد قيل :
~كَمْ نِعْمَةٍ مَطْوِيَّةٍ لَكَ بَيْنَ أَثْنَاْءِ الْمَصَاْئِبِ
وقال آخر :
~رُبَّ مَبْغُوْضٍ كَرِيْهِ فِيْهِ لِلَّهِ لَطَائِفُ
السادسة عشرة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر ، فإن نمرود ، لو كان فقيراً سقيماً ، فاقد السمع والبصر ، لما حاجّ إبراهيم في ربه ، لكن حمله بطرُ الملك على ذلك ، وقد علل الله سبحانه وتعالى مُحاجّته بإتيانه الملك ، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، { وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ التوبة : 74 ] ، { إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6 - 7 ] { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } [ الشورى : 27 ] { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ } [ هود : 116 ] ، { لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ الجن : 16 ] : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34 ] .
والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء ؛ ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ؛ نُسبوا إلى الجنون : { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ، والسحر : { قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، والكهانة : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } [ الطور : 29 ] . واستهزئ بهم : { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الحجر : 11 ] . وسخر منهم : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ] ، { فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا } [ الأنعام : 34 ] . وقيل لنا : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين } [ البقرة : 155 ] ، { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً } [ آل عِمْرَان : 186 ] . كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم ، وكثر عناهم ، وأشتدّ بلاهم ، وتكاثر أعداهم ، فغلبوا في بعض المواطن ، وقتل منهم بأُحُد وبئر مَعُونَةَ من قتل .
وشُجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وقتل أعزاؤه ومُثِّل بهم ، فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه ، وابتلوا يوم الخندق ، وزلزلوا زلزالاً شديداً ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وكانوا في خوف دائم وعري لازم ، وفقر مدقع ، حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع ، ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز بُرّ في يوم مرتين ، وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب أهله إليه .
ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطُلَيْحة والعَنْسي ، ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه ، ومات ودرعه عند يهوديّ على آصع من شعير ، ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت يبتلي الرجل على قدر دينه ، فإن كان صلباً في دينه شدد في بلائه ، ولقد كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه . وقال عليه الصلاة والسلام : < مثل المؤمن مثل الزرع ، لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء > وقال عليه الصلاة والسلام : < مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح ، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج > فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، فلأجل ذلك تقللوا في المأكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك ؛ ليكونوا على حالةٍ توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه .
السابعة عشرة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالى ، فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر ، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة ، ومن رضيها فله الرضا والرضا أفضل من الجنة وما فيها ؛ لقوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، أي : من جنات عدن ومساكنها الطيبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ 158 ]
قوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ، { الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } : علمان لجبلين بمكة ، ومعنى كونهما من شعائر الله : من أعلام مناسكه ومتعبّداته .
قال الرازي : كل شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله ، فهو من شعائر الله . قال الله تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ الحج : 36 ] ، أي : علامة للقربة . وقال : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } [ الحج : 32 ] ، وشعائر الحج معالم نسكه ، ومنه المشعر الحرام ، ومنه إشعار السنام - وهو أن يُعَلِّم بالمدية ، فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها ، وعلى أنه قد جعله هدياً لبيت الله . والشعائر : جمع شعيرة وهي العلامة ، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ، ومنه قولك : شعرت بكذا أي : علمت انتهى .
والحجّ : في الغلة : القصد . والاعتمار : الزيارة . غُلِبَا في الشريعة على قصد البيت ، وزيارته ، على الوجهين المعروفين في النسك . والجُناح : بالضم : الإثم والتضييق والمؤاخذة . وأصل الطواف : المشي حول الشيء . والمراد : السعي بينهما .
وقد روي في سبب نزول الآية عدة روايات :
ولفظ البخاري عن عروة قال : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فوالله ! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ! قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ! إن هذه لو كانت كما أولّتَها عليه ، كانت : لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل ، فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة . فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ قالوا : يا رسول الله ! إنَّا كنا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ } الآية .
قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما . فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما .
ثم أخبرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إن هذا لَعِلمٌ ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون أنّ الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا : يا رسول الله ! كنا نطوف بالصفا والمروة ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا . فهل علينا من حرج أن نطَّوَّف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } الآية .
قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام . من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا ، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت .
وفي رواية معمر عن الزهريّ : إن كنّا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة . أخرجه البخاري تعليقاً ، ووصله أحمد وغيره .
وأخرج مسلم في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا ، هم وغَسَّانُ ، يهلّون لمناة . فتحرّجوا أن يطوفوا بن الصفا والمروة ، وكان ذلك سنّةً في آبائهم : من أحرم لمناةَ لم يطف بين الصفا والمروة . وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا . فأنزل الله عز وجل في ذلك : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } .
وروى الفاكهيّ عن الزهري : أن عَمْرو بن لحيَ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قُدَيْد ، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها ، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها . فمن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة . قال : وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ، ومن دان دينهم من أهل يثرب .
وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة قال : كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما إساف ونائلة كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما . . . الحديث .
وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال : قالت الأنصار : إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية . فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } الآية .
وروى الفاكهيّ وإسماعيل القاضي في " الأحكام " بإسناد صحيح عن الشعبي قال : كان صنم بالصفا يدعى إساف ، ووثن بالمروة يدعى نائلة ، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ، فلما جاء الإسلام رمى بهما ، وقالوا : إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم ، فأمسكوا عن السعي بينهما ، قال : فانزل الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } الآية .
وقد استفيد من مجموع هذه الروايات : أنه تحرّج طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكل . والله أعلم .
وجواب عائشة ، رضي الله عنها ، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب ، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ ؛ لأنّ الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمّن يطوف بهما ، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه .
{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ، أي : من فعل خيراً فإن الله يشكره عليه ويثيبه به . ومعنى : { تَطَوَّعَ } أتى بما في طوعه أو بالطاعة ، وإطلاقه على ما لا يجب عرفٌ فقهي لا لغوي . والشكر من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل .
قال الراغب : الشكر ، كما يكون بالقول ، يكون بالفعل ، وعلى ذلك قوله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] ؛ قال : وليس شكر الرفيع للوضيع إلا الإفضال عليه وقبول حمدٍ منه .
تنبيهات :
الأول : تمسّك بعضهم بقوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } على أنّ السعي سنة ، وأن من تركه لا شيء عليه ، فإن كان مأخذه منها : إنّ التطوع التبرع بما لا يلزم ، فَقَدْ قدّمنا أنه عرفٌ فقهي لا لغويّ ، فلا حجّة فيه . وإن كان نفي الجناح ، فقد علمت المراد منه . وممن ذهب إلى أنه سنّة ، لا يجبر بتركه شيء ، أَنَسٌ فيما نقله ابن المنذر وعطاء ، نقله ابن حجر في " الفتح " .
وقال الرازيّ : روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء ، أن من تركه فلا شيء عليه . وأما حديث : < اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي > رواه أحمد وغيره ، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل ، وفيه ضعف . ومن ثَمّ قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجّة في الوجوب . ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح " .
الثاني : صحّ أنّه صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة سبعاً . رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر . وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من طوافه أتى الصفا فَعَلَا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه ، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو . وأخرج أيضاً من حديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ : < إنّ الصفا والمروة من شعائر الله . أبدأ بما بدأ الله به > فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحّد الله وكبّره قال : < لاإله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده > ثمّ دعا بين ذلك ، فقال مثلَ هذا ثلاث مرات ، ثمّ نزل إلى المروة حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي ، حتى إذا صَعِدَتَا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا . وظاهر هذا أنه كان ماشياً .
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : طاف النبيّ في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ليراه الناس ، وليشرف وليسألوه ، فإن الناس غشُوه .
ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلاَّ طوافاً واحداً .
قال ابن حزم : لا تعارض بينهما ، لأن الراكب إذا انصبّ به بعيره فقد انصبّ كلّه وانصبّت قدماه أيضاً مع سائر جسده .
وعندي - في الجمع بينهما - وجه آخر أحسن من هذا وهو : أنه سعى ماشياً أوَّلاً ، ثم أتم سعيه راكباً ، وقد جاء ذلك مصرّحاً به ؛ ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً ، أسنّة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنّة ! قال : صدقوا وكذبوا . . ! قال : قلت : ما قولك صدقوا وكذبوا . . ؟ قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس . يقولون : هذا محمد . . ! حتى خرج عليه العواتق من البيوت - قال - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ الناس بين يديه - فلمّا كثر عليه ركب . والمشي والسعي أفضل .
وفي الصحيحين عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليُرِيَ المشركين قوّته . . !
وعن كريب مولى ابن عباس : أن ابن عباس قال : ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنّة ، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون : لا نُجِيزُ البطحاء إلاَّ شَدّاً . . ! رواه البخاري تعليقاً ، ووصله أبو نعيم في مستخرجه . قال شرّاح الصحيح : المراد بالسعي المنفي هو شدّّّة المشي والعَدْو . فهو ، رضي الله عنه ، لم ينف سنية السعي المجرد ، بل مجاوزة الوادي بقوّةٍ وعَدْوٍ شديد ، إذ أصل السعي هدية صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .
الثالث : في البخاري عن ابن عباس في قصة هاجر أم إسماعيل : إنّ الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتزدادها في طلب الماء . ولفظه : وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال : يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الْإِنْسَاْن المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً . . . > الحديث .
قال ابن كثير : لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة ، تطلب الغوث من الله تعالى متذللةً ، خائفةً ، مضطرة ، فقيرة إلى الله عز وجل ، كشف تعالى كربتها ، وأنس غربتها ، وفرج شدّتها ، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم . وشفاء سقم . فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذلّه وحاجته إلى الله في هداية قلبه ، وصلاح حاله ، وغفران ذنبه ، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب ، وأنْ يهديه إلى الصراط المستقيم ، وأن يثبته عليه إلى مماته ، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه - من الذنوب والمعاصي - إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة ، كما فعل بهاجر عليها السلام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [ 159 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } . لما تقدم أن بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحق ، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم - ترغيباً وترهيباً - بأنه يشكر من فَعَل ما شرعه له ، ويعلم من أخفاه وإن دقّ فعله وبالغ في كتمانه ، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم ، ولعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق ؛ إذ كانت هذه كلها في الحقيقة قِصَصَهم ، والخروج إلى غيرها إنّما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين ؛ لأنّ هذا الكتاب هدى ، وكان السياق مرشداً إلى أن التقدير بعد : { شَاْكِرٌ عَلِيْمٌ } : ومن أحدث شراً فإن الله عليم قدير ، فوصل به استئنافاً قوله - على وجه يعمهم وغيرهم - : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا } الآية ، بياناً لجزائهم ، فانتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 42 ] ، فكانت البداية خاصة ، وكان الختم عاماً ، لكيون ما في كتاب لله أمراً منطبقاً - على نحو ما كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن تقدّمه من الرسل خلقاً - لينطبق الأمر على الخلق بدءاً وختماً انطباقاً واحداً ، فعم كلّ كاتم من الأولين والآخرين . نقله البقاعي .
واللعن : الطرد والإبعاد عن الخير ، هذا من الله تعالى ، ومن الخلق : السبّ والشتم ، والدعاء على الملعون ، ومشاقّته ، ومخالفته ، مع السخط عليه ، والبراءة منه . والمراد بقوله : { اللَّاْعِنُوْنَ } كل من يصح منه لعن ، وقد بيّنه بعد قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] ، وقد دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر ؛ لأنه تعالى أوجب فيه اللعن ، لأنّ ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يُكتمَ ، ومن كتَمَه فقد عظمت خطيئته ، وبلغ للَعْنِهِ من الشقاوة والخسران الغاية التي لا يدرك كنهها . . ! وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتمان العلم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئاً أبداً : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [ البقرة : 159 ] الآية ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [ آل عِمْرَان : 187 ] الآية .
ثم استثنى تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 160 ]
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } - أي : عن الكتمان - : { وَأَصْلَحُواْ } - أي : عملوا صالحاً - : { وَبَيَّنُواْ } - ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع - : { فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } - أي : أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم - : { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى كفره بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [ 161 ، 162 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا } - أي : في اللعنة ، أو في النار ، على أنها أضمرت من غير ذكرٍ تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرها - : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } - إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال . أي : لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم ، أو من النظر بمعنى الرؤية أي : لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله : { وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ آل عِمْرَان : 77 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ 163 ]
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرده بالإلهية ، وأنه لا شريك له ولا عديل .
قال الراغب : يجوز أن يكون قوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } خطاباً عاماً ، أي : المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر ، ويجوز أن يكون خطاباً للمؤمنين ، والمعنى : الذي تبعدونه إله واحد ، تنبيهاً أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناماً آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك . إن قيل : ما فائدة الجمع بين : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } وبين : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وأحدهما يبنى على الآخر ؟ قيل : لما بيّن بقوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها - وكان يجوز أن يتوهم أنه يوجد إله غيره ، ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة - أكده بقوله : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وحقّ لهذا المعنى أن يكون مؤكداً وتكرر عليه الألفاظ ؛ إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه . انتهى .
وقال الرازي : إنما خص سبحانه وتعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين ؛ لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية ، وإشعاراً بأن رحمته سبقت غضبه ، وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان . انتهى .
ولما كان مقام الوحدانية لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة ، نصب تعالى الأدلة ، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات ، على ذلك تبصيراً للجهّال وتذكيراً للعلماء بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 164 ]
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } - في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساع وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيه من المنافع - : { وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : اعتقابهما وكون كل منهما خلفاً للآخر ، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر يعقبه لا يتأخر عنه لحظة . كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً كما قال : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [ الحج : 61 ] ، أي : يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } أي : في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليمٍ لغيره .
قال الراغب : ولما لم يكن فرق بين أن يقال : { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وبين أن يقال : والبحر الذي يجري فيه الفلك ، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر ، وإن أخر في اللفظ ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا . ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه - قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى { وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء } أي : المزن : { مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ } بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار : { بَعْدَ مَوْتِهَا } باستيلاء اليبوسة عليها : { وَبَثَّ فِيْهَا } أي : نشر وفرق : { مِنْ كُلِّ دَاْبَّةٍ } من العقلاء وغيرهم : { وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ } أي : تقليبها في مهابها : قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أحوالها : حارةً وباردةً وعاصفةً ولينة ، فتارة مبشرة بين يدي السحاب ، وطوراً تسوقه ، وآونةً تجمعه ، ووقتاً تفرقه ، وحيناً تصرفه .
قال الثعالبي : إذا جاءت الريح بنَفَس ضعيف ، ورَوْح فهي النسيم ، فإذا كانت شديدة فهي العاصف ، فإذا حركت الأغصان تحريكاً شديداً وقلعت الأشجار فهي الزعزَعان والزعزع ، فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة ، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار ، ويقال لها زوبعة أيضاً ، فإذا هبت بالغبرة فهي الهَبْوة ، فإذا كانت باردة فهي الصرصر ، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل ، فإذا كانت حارة فهي الحَرُور والسّموم ، فإذا لم تُلقح شجراً ولم تحمل مطراً فهي العقيم ، ومما يذكر منها بلفظ الجمع : الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار ، واللواقع التي تلقح الأشجار ، والمعصرات التي تأتي بالأمطار ، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث .
{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } أي : فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء - كما تهوي بقية الأجرام العالية - حيث لم يكن لها ممسك محسوس ، ولا يعلو ، ولا ينقشع ، مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة : فالكثيف يقتضي النزول ، واللطيف يقتضي العلو ، والمتوسط يقتضي الانقشاع . ذكره البقاعي .
لطيفتان :
الأولى : قال الثعالبي : أول ما ينشأ السحاب فهو النَّشْءُ ، فإذا انسحب في الهواء فهو السحاب ، فإذا تغيرت له السماء ، فهو الغمام ، فإذا أظلّ فهو لعارض ، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثُف وأطبق فهو العماء ، فإذا عنّ فهو العَنان ، فإذا كان أبيض فهو المزن .
الثانية : قال الراغب : التسخير القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه ، فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه ، كحمل الرحى على الطحن ، وقوله تعالى : { لآيات } : أي : عظيمة كثيرة ، فالتنكير للتفخيم كَمّاً وكيفاً : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول ، فيستدلون على قدرته ، سبحانه ، القاهرة ، وحكمته الباهرة ، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جل شأنه .
قال البقاعي : وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوته فجعل سبحانه العالَمَ - وهو الممكنات الموجودة ، وهي جملة ما سواه ، الدالّة على وجوده وفعله بالاختيار - على قسمين : قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى في عرف أهل الشرع : الشهادة والخلق والملك ، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى : الغيب والأمر والملكوت . والأول يدركه عامة الناس ، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس . فالله تعالى - بكمال عنايته ورأفته ورحمته - جعل العالم بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوهٍ متعدّدة ، وطرق متكثرة ، تعجز القوى البشرية ، عن ضبطها ، يستدلّ بها على وحدانيته ، بعضها أوضح من بعض ، ليشترك الكل في المعرفة ، فيحصل لكلٍّ بقدر ما هُيِّئَ له ، اللهم إلا أن يكون ممن طُبع على قلبه ، فذلك - والعياذ بالله - هو الشقي انتهى .
قال المهايمي : وكيف ينكرون وجود الله ، وتوحيده ، ورحمانيته ، ورحيميته ، وقد دلّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات ؟ ثم قال :
أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان ؛ لأن لهما أجزاء يفتقران إليها ، فلا بدّ لها من محدث ليس بعضَ أجزائهما ، لأنه دخله التركيب الحادث ، والقديم لا يكون محلاً للحوادث ، والمحدث لا بدّ أن يكون قديماً قطعاً للتسلسل ، وعلى التوحيد ، فلأن إله السماوات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر ، وعلى الرحمتين لأنه عز وجل جعل في الأرض موادّ قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السماوات .
وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السماوات ، ولا بد لها من محرك ، فإن كان حادثاً فلا بدّ له من محدث ، وعلى التوحيد ، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له ، فيلزم اجتماعهما وهو محال . فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما ، وعلى الرحمتين ، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما ، إذْ دوام الليل مبرِّد للعالم في الغاية ، ودوام النهار مسخِّن له في الغاية .
وأما دلالة الفُلْك على وجود الإله ، فلأنها أثقل من الماء فحقّها الرسوب فيها ، فإمساكها فوق الماء من الله ، ودخول الهواء فيها - وإن كان من الأسباب - فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة ، إذ يقلّ الهواء جداً فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جداً ، فلا ينبغي أن ينسب إلاّ إلى الله تعالى من أوَّل الأمر ، وعلى التوحيد ، فلأن إله الفُلْك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه ، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك ، وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات ، والمسافَر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها .
وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله ، فلأنه أثقل من الهواء ، فوجوده في مركزه لا يكون إلا من الله ، وعلى التوحيد ، فلأنّ إله الماء لو كان غير إله الهواء ، لمنع من التصرف في ملكه ، وعلى الرحمتين ، فلأنّه أحْيَى به الأرض معاشاً للحيوانات ، وبثّ به الدواب تكميلاً لمنافع الْإِنْسَاْن .
وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله ، فلأنها حادثة تحدث هذه مرة وهذه أخرى ، وقد يعدم الكلّ ، فلا بد من محدث ، فإنْ كان حادثاً افتقر إلى قديم ، وعلى التوحيد ، فلأنّه لو كان لكلّ ريح إله لأمكن للكلّ أن يأتي بما له ، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخل بالنظام ، وعلى الرحمتين ، فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي الأشجار والثمار .
وأما دلالة السحاب على وجود الإله ، فلأنه لو كان ثقيلاً لنزل ، أو كان خفيفاً لصعد ، لكنه يصعد تارةً وينزل أخرى فهو من الله تعالى ، وأما على التوحيد ، فلأن إله السحاب ، لو كان غير إله السحاب الآخر ، لأمكن لكل واحد أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر ، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز ، وعلى الرحمتين فلأن منها الأمطار .
وله وجوه آخر من الدلالات ، وفوائد غير محصوبة ، قنعنا بما ذكرنا .
قال القاضي عبد الجبار : الآية تدلّ على أمورٍ :
أحدها : لو كان الحق يدرك بالتقليد ، واتباع الآباء ، والجري على الإلف والعادة ، لما صح ذلك .
وثانيها : لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صحّ وصف هذه الأمور بأنها آيات ؛ لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات .
وثالثها : أنّ سائر الأجسام والأعراض ، وإن كانت تدلّ على الصانع ، فهو تعالى خصّ هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظّ ونصيب ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشدّ تأثيراً في الخواطر . نقله الرازي .
ثم إن الله تعالى إنما أظهر هذه الآيات الدالة على وجوده ، وتوحيده ، رحمته ، ليخصّه الخلق بالمحبة والعبادة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [ 165 ]
{ وَ } لكن : { مِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً } أي : أمثالاً . مع أن الآيات منعت من أن يكون له ندّ واحد فضلاً عن جماعتها يسوّون بينهم وبين الله إذ : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ } أي : يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له . والأنداد هي : إما الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى ، ورجوا منها النفع والضرّ ، وقصدوها بالمسائل ، ونذروا لها النذور وقرّبوا لها القرابين . وإمّا الرؤساء الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون ، لاسيما في الأوامر والنواهي ، ورجح هذا ؛ لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [ البقرة : 166 ] وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداداً ، وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى : { والذين آمنوا أشد حباً لله } من المشركين لأندادهم ، لأنّ أولئك اشركوا في المحبة ، والمؤمنون أخلصوها كلّها لله ، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه ، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره ، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه ، كما أكلت باهلة إلهها من حيسٍ ، عام المجاعة .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في " شرح المنازل " في باب التوبة :
أما الشرك فهو نوعان : أكبر وأصغر . فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة ، وهو أن يتخذ من دون الله ندّاً يحبه كما يحب الله تعالى ، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ، ولذا قالوا لآلهتهم في النار : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء ، وربه ، ومليكه ، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي ، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة ، والتعظيم ، والعبادة ، كما هو حال أكثر مشركي العالم . . ! بل كلهم يحبون معبوديهم ، ويعظمونها ، ويوادونها من دون الله تعالى . . ! وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله تعالى . . ! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى . . ! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحدٌ رب العالمين . . ! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب . . ! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها . بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه ، ولم تنكر له قلوبهم . . ! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم . . انتهى .
وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزيّ رحمه الله :
ومن أجلّ الشرك ، وأصله الشرك في محبة الله ، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] الآية ، فأخبر سبحانه أن من أحب مع الله شيئاً غيره ، كما يحبه ، فقد اتخذ ندّاً من دونه ! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله ، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، والمعنى على أصح القولين : أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة ، وكذلك قوله المشركين في النار لأصنامهم : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ، ومعلوم قطعاً أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم ، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرّين بأن الله تعالى وحده هو رَبُّهم وخالقهم ، وأنّ الأرض ومن فيها لله وحده ، وأنه ربّ السموات وربُّ العرش العظيم ، وأنّه هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه . . . . وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبّة والعبادة ، فمن أحبّ غير الله تعالى ، وخافه ، ورجاه ، وذلّ له كما يحبّ الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى . . . ! فعياذاً بالله ! من أنْ ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام ، كانسلاخ الحيّة من قِشرها ، وهو يظن أنّه مسلم موحدٌ . . . !
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه :
والمتّخذ إلهه هواه ، له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم ، ومحبّة عُبّاد العجل له ، وهذه محبّة مع الله لا محبّة لله ! وهذه محبّة أهل الشرك . . . ! والنفوس قد تدّعي محبّة الله ، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه ، وقد أشركته في الحب مع الله ! وقد يخفى الهوى على النفس ، فإن حبك الشيء يعمي وبصمّ . . ! وهكذا الأعمال التي يظنّ الْإِنْسَاْن أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه ، إما لحبّ رياسة ، وإمّا لحبّ مال ، وإما لحبّ صورة . . . ! .
ولهذا قالوا : يا رسول الله ! الرجل يقاتل شجاعةً وحميّةً ورياءً ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . . . ! فلمّا صار كثير من الصوفية النسّاك المتأخّرين يدّعون المحبّة - ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسُّنة - دخل فيها نوعٌ من الشرك واتّباع الأهواء ، والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله ؛ فقال : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عِمْرَان : 31 ] ، وهذا ، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبّه الله ، وليس شيء يحبّه الله إلا والرسول يدعو إليه . . . ! وليس شيءٌ يدعو إليه الرسول إلاّ والله يحبه . . . ! فصار محبوب الربّ ومَدَعُوُّ الرسول متلازمين ، بل هذا هو هذا في ذاته ، وإنْ تنوعت الصفات . . . ! انتهى .
{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود : { إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } المعد لهم يوم القيامة : { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً } أي : القدرة كلها لله ، على كل شيء ، من العقاب والثواب ، دون أندادهم : { وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي : العقاب للظالمين . وفائدة عطفها على ما قبلها : المبالغة في تهويل الخطب ، وتفظيع الأمر ؛ فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدّة العذاب ، لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه . وجواب لو : محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان ، إما لعدم الإحاطة بكنهه ، وإما لضيق العبارة عنه ، وإمّا لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبّر أو المستمع من الضجر والتفجّع عليه ؛ أي : لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم . ونظيره - في حذف الجواب - قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ } [ الأنعام : 27 ] وقولهم : لو رأيت فلاناً والسياط تأحذه . وقرئ : { وَلَوْ تَرَىْ } بالتاء على خطاب الرسول أو كلّ مخاطب ؛ أي : ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً في الفظاعة والهول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } [ 166 ]
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ } بدل من : { إِذْ يَرَوْنَ } أي : تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكل ما عبد من دونه تعالى : { مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ } من الأتباع ، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم ، أو يدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال ، واعتزلوا عن مخالطتهم ، وقابلوهم باللعن . وقرئ الأول على البناء للفاعل ، والثاني على البناء للمفعول ، أي : تبرّأ الأتباع من الرؤساء : { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ } الواو للحال ، أي : تبرّأوا في حال رؤيتهم العذاب : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } أي : الوصل التي كانت بينهم ، من الاتفاق على دين واحد ، ومن الأنساب ، المحابّ ، والاتباع ، والاستتباع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ 167 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ } حين عاينوا تبرّؤ الرؤساء منهم ، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أي : ليت لنا رجعة إلى الدنيا : { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } هناك ، ومن عبادتهم ، ونعبده تعالى وحده : { كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا } اليوم . وهم كاذبون في هذا ، بل لو ردوا لعادوا لما نُهُوا عنه ، كما أخبر تعالى عنهم بذلك : { كَذَلِكَ } أي : مثل تلك الإراءة الفظيعة : { يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ } ندمات شديدة : { عَلَيْهِمْ } أي : تذهب وتضمحلّ ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] وقال تعالى : { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] الآية ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء } [ النور : 39 ] الآية : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ سبأ : 31 ، 33 ] . . . ؟ وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 81 - 82 ] .
وقال الخليل لقومه : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] . وقالت الملائكة : { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] ويقولون : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] . وقال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] . وقال تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } [ إبراهيم : 22 ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 168 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً } حال أو مفعول ، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم : { طَيِّباً } أي : مستطاباً في نفسه ، غير ضار للأبدان ولا للعقول .
وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ! فقال : < يا سعد ! أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة . والذي نفس محمد بيده ! إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والرِّبا فالنار أولى به . . . ! > : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها . . . مما زينه لهم في جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < يقول الله تعالى : إنّ كلّ مالٍ منحته عبادي فهو لهم حلال > . وفيه : < وإني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمتْ عليهم ما أحللت لهم > . ومما يدخل في خطوات الشيطان : كلّ معصيةٍِ لله ، ومنها : النذور في المعاصي كما قاله بعض السلف في الآية .
قال الشعبيّ : نذر رجل ينحر ابنه ، فأفتاه مسروق بذبح كبش ، وقال : هذا من خطوات الشيطان !
قال أبو الضحى عن مسروق : أتى عبد الله بن مسعود بضرعٍ وملحٍ ، فجعل يأكل فاعتزل رجلٌ من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم ، فقال لا أريده . فقال : أصائم أنت ؟ قال لا . . ! قال : فما شأنك ؟ قال حرّمت أن آكل ضرعاً أبداً . . . ! فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطْعَمْ وكفَّرْ عن يمينك . . ! رواه ابن أبي حاتم .
وروي أيضاً عن أبي رافع قال : غضبت يوماً على أمرأتي ، فقالت : هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية ، وكل مملوك لها حرّ إن لم تطلق امرأتك . . ! فأتيت عبد الله بن عُمَر فقال : إنما هذه من خطوات الشيطان . . ! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة - وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة - وأتيت عاصماً وابن عمر فقالا مثل ذلك .
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذرٍ في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفّارته كفارة يمين ! نقله الإمام ابن كثير الدمشقيّ .
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل للنهي ، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] . وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 169 ]
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء } استئناف لبيان كيفية عداوته ، وتفصيلٌ لفنون شرّه وإفساده . والسُّوء : يشكل جميع المعاصي ، سواء كانت من أعمال الجوارح ، أو أفعال القلوب . و : { وَالْفَحْشَاء } ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرّم هذا وذاك بغير علمٍ . فمعنى : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به . قال البقاعي : ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه ، لطفاً بهم ورحمة لهم ، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته ، بما أنعم عليهم ، بخلقه لهم أولاً ، وبجعله ملائماً لهم ثانياً وإباحته لهم ثالثاً ، وتحذيره لهم من العدو رابعاً . . . . إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن . . . ! .
قال الرازي : قوله تعالى : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يتناول جميع المذاهب الفاسدة ، بل يتناول مقلد الحق . . . ! لأنه - وإن كان مقلداً للحق - لكنه قال ما لا يعلمه ، فصار مستحقاً للذم لا ندراجه تحت الذم في هذه الآية . ! انتهى .
وقال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " : القول على الله بلا علم يعم القول عليه سبحانه في أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وفي دينه وشرعه . وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها ، فقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] . وقال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 116 117 ] . ! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام . ولما لم يحلّه : هذا حلال . وهذا بيانٌ منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول : هذا حلال وهذا حرام ، إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرّمه .
وقال بعض السلف : ليتَّق أحدُكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه : أحله الله وحرّمه ، لمجرد التقليد أو بالتأويل .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم ، في الحديث الصحيح ، أميره بريدة أن ينزل عدوّه إذا حاصرهم ، على حكم الله ، وقال : < فإنك لا تدري أتصيب حُكْم الله فيهم أم لا . . . . ؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك . . . . . > فتأملّ ، كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله . ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه حكماً حكم به فقال : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر ، فقال : لا تقل هكذا . ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب . وقال مالك : لم يكن مِنْ أمرِ الناس ، ولا مَنْ مضى من سلفنا ، ولا أدركتُ أحداً أقتدي به ، يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام . وما كانوا يجترئون على ذلك . وإنما كانوا يقولون : نكره كذا ونرى هذا حسناً .
ولما نهاهم سبحانه عن متابعة العدوّ ، ذمّهم بمتابعته ، مع أنه عدوٌّ ، من غير حجة ، بل بمجرد التقليد للجهلة ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ 170 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ } على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الرد عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان : { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي : وجدنا : { عَلَيْهِ آبَاءنَا } أي : من عُبَاْدَة الأصنام والأنداد . فقال مبكّتاً لهم : { أَوَلَوْ } أي : أيتبعون آباءهم ولو : { كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } أي : من الدين : { وَلاَ يَهْتَدُونَ } للصواب إذ جهلوه ؟
قال الحراليّ : فيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوّة الدين ، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم .
قال الرازي : معنى الآية : إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة . فهم قالوا : لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا . فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد ، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } إلى آخره .
ثم قال : تقرير هذا الجواب من وجوه :
أحدها : أن يقال للمقلّد : هل تعترف بأنّ شرط جوازتقليد الْإِنْسَاْن أن يعلم كونه محقاً أم لا ؟ فإن اعترفت بذلك ، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً ، فكيف عرفت أنه محق ؟ وإن عرفته بتقليد آخر ، لزم التسلسل ، ، عن عرفته بالعقل ، فذاك كافٍ ، فلا حاجة إلى التقليد . . . ! وإن قلتَ : ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً . . . فإذن قد جوّزت تقليده وإن كان مبطلاً . . ! فإذن أنت - على تقليدك - لا تعلم أنّك محقّ أو مبطل . . . !
وثانيها : هَبْ أنّ ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء ، إلا أنّا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط ، وما اختار فيه البتة مذهباً ، فأنت ماذا كنت تعمل ؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه ، كان لا بدّ من العدول إلى النظر ، فكذا ههنا .
وثالثها : أنك إذا قلّدت من قبلك ، فذلك المتقدم كيف عرفته ؟ أعَرَفَته بتقليد أم لا بتقليد ؟ فإن عرفته بتقليد ، لزم إمّا الدور وإمّا التسلسل . وإن عرفته لا بتقليد ، بل بدليل ، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدّم ، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد ؛ لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل - مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد - كنت مخالفاً له . فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه ، فيكون باطلاً .
ثم قال الرازي عليه الرحمة : إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان ، تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد ، وفيه أقوى دليل ، على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل ، أوعلى ما يقوله الغير من غير دليل .
وقال الإمام الراغب : ذمّهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الْإِنْسَاْن من الفكر والروية ، وركّب فيه من المعارف ، وذلك أن الله ميزّ الْإِنْسَاْن بالفكر ليعرف به الحق من الباطل في الاعتقاد ، والصدق من الكذب في الأقوال ، والجميل من القبيح في الفعل ، ليتحرى الحقّ والصدق والجميل ، ويتجنب أضدادها ، وجعل له من نور العقل ما يستغني به . فيدله على معرفة مطلوبه . فلما حثّ الناس على تناول الحلال الطيب ، ونهاهم عن متابعة الشيطان ، بيّن حال الكفار في تركهم الرشاد ، واتباعهم الآباء والأجداد ليحذّر الاقتداء بهم ، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الْإِنْسَاْن وحقيقته ، ثم قال : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } أي : أيتبعونهم وإن كانوا جهلة ؟ تنبيهاً على أنه محال اتباع من لاعقل له ولا اهتداء .
إن قيل : ما فائدة الجمع بين قوله : { يَعْقِلُونَ } و : { يَهْتَدُونَ } وأحدهما يغني عن الآخر ؟ قيل : قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين : أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف ، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود ههنا . والمهتدي قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم ، فبيّن أنهم لا يعقلون ولا يهتدون ، ووجه آخر : وهو أن يعقل ويهتدي ، وإنْ كان كثيراً ما يتلازمان ، فإنّ العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة ، والاهتداء بالإضافة إلى العمل ، فكأنه قيل : لا علم لهم صحيح ولا مستقيم .
ثم ضرب تعالى للكافرين مثلاً فظيعاً كما قال سبحانه : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } [ النحل : 60 ] . فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 171 ]
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } أي : يصيح ، يقال : نعق الراعي بغنمه : صاح بها وزجرها . وقوله تعالى : { بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } أي : بالبهائم التي لا تسمع إلاّ دعاء الناعق ونداءه - الذي هو تصويت بها ، وزجرٌ لما - ولا تفقه شيئاً آخر ، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون . وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد . فكأن وفاء اللفظ : مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم . وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب ، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين ، يقتصر على تأويله بمثل واحد ، فيقدر في الكلام : ومثل داعي الذين كفروا . أشار لذلك الحراليّ فيما نقله البقاعي عنه .
وقال الفراء : أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا ، ثمّ شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم . والمعنى والله أعلم : مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت ، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعيّ . قال : ومثله في الكلام : فلان يخافك كخوف الأسد . المعنى كخوفه الأسد ، لأن الأسد معروف أنه المَخُوف .
وقيل : أريدَ تشبيه حال الكافر في دعائه الصنم بحال من ينعق بما لا يسمعه . والمعنى : مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء ، غير أنّه هو في دعاء ونداء . وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء . وقال ابن القيم في " أعلام الموقعين " : ولك أن تجعل هذا من التشبه المركّب ، أن تجعله من التشبيه المفرّق . فإن جعلته من المركّب : كان تشبيهاً للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئاً غير الصوت المجرّد الذي هو الدعاء والنداء . وإن جعلته من التشبيه المفرق : فالذين كفروا بمنزلة البهائم ، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق ، وإدراكهم مجرّد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرّد صوت الناعق . والله أعلم .
قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتّباع ما أنزل الله ، تركوا النظر والتدبّر ، وأخلدوا ِإلى التقليد ، وقالوا : بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا ، ضَرَبَ لهم هذا المثل تنبيهاً للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه : بسبب ترك الإصغاء ، وقلة الاهتمام بالدين ، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام . . . ! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ، ويحقّر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك ، فيكون كسراً لقلبه ، وتضييقاً لصدره حيث صيّره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة في التقليد . ثمّ زاد في تبكيتهم فقال : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فهم بمنزلة الصم : في أنّ الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه ، وبمنزلة البُكْم : في أنهم لم يستجيبوا لما دُعوا إليه ، وبمنزلة العُمْيِ : من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها . ولمّا كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة ، فلمّا أعرضوا عنها ، فقدوا العقل المكتسب . ولهذا قيل : من فقد حسّاً فقد علماً . . !

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ 172 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : ما أخلصناه لكم من الشبه ، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحلّه المشركون من المحرّمات ، ولا تحرموا ما أحلّوا منها من السائبة وما معها : { وَاشْكُرُواْ لِلّهِ } الذي رزقكم هذه النعم : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ } أي : وحده : { تَعْبُدُونَ } أي : إن صَحَّ أنكم تخصونه بالعبادة ، وتقرّون أنه سبحانه هو المنعم لا غير .
قال الإمام ابن تيمية في " جواب أهل الإيمان " : الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق ، والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق ، كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق . فأباح الله الطيبات للمتّقين التي يستعينون بها على عُبَاْدَة ربهم التي خلقوا لها . وحرّم عليهم الخبائث التي تضرّهم في المقصود الذي خلقوا له ، وأمرهم مع أكلها بالشكر ، ونهاهم عن تحريمها ، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة ، ومن حرّمها كالرهبان فقد تعدّى حدود الله فاستحق العقوبة .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله ليرضى عن العبد أنْ يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها > . وفي حديث آخر : < الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر > .
وقال تعالى : { لتسألن يومئذ عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] . أي : عن شكره ؛ فإنّه لا يبيح [ في المطبوع : بييح ] شيئاً ويعاقب من فعله ، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه ، وعمّا حرّمه عليه ، هل فرّط بترك مأمور أو فعل محظور ؟ كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 78 ] .
ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق ، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب ، فبين صريحاً ما حرّم عليهم مما كان المشركون يستحلّونه ويحرّمون غيره وأفهم حلّ ما عداه ، وأنه كثيرٌ جداً ليزداد المخاطب شكراً ، فقال : =

مجلد 2.تفسير القاسمي

2.القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 173 ]
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها : المنخنقة والموقوذة ، والمتردّية ، والنطيحة ، وما عدا عليها السبُع .
قال ابن كثير : وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر ، لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وحديث العنبر في الصحيح .
وفي المسند ، والموطّأ ، والسنن : قوله صلى الله عليه وسلم في البحر : < هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته > .
وروى الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر : < أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان الحوت والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال > { وَالدَّمَ } وهو المسفوح أي : الجاري ، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى والمفسّر قاضٍ على المبهم ، وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد . وفي القاموس وشرحه : والفصيد دمٌ كان يوضع في الجاهلية في معىً مِنْ فصد عرق البعير ، ويشوى ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة .
ويحكى : أنه بات رجلان عند أعرابيَّ فالتقيا صباحاً ، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى ، فقال : ما قريت وإنما فُصْدَ لي . فقال لم يُحْرَمْ من فُصد له - بسكون الصاد - فجرى ذلك مثلاً لمن نال بعض المقصد ، وسكّن الصاد تخفيفاً ، أي : لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها . ويروى : من فزْد له بالزاي بدل الصاد وتعضهم يقول : من قصد له - بالقاف - أي : من أعطى قصداً أي : قليلاً . وكلام العرب بالفاء . وقال يعقوب : تأويل هذا أنَّ الرجل كان يضيف الرجل في شدّة الزمان ، فلا يكون عنده ما يقريه ، ويشحّ أن ينحر راحلته ، فيفصدها ، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه { وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه : إما تغليباً ، أو لأنّ اللحم يشمل ذلك لغةً ، لأنه ما لَحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه ، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده ، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر ، وهو هنا على أصله في اللغة ، وإما بطريق القياس على رأيٍ ؛ لأنه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم ، ولمّا حرّم ما يضرّ الجسم ويؤذي النفس ، حرّم ما يرين على القلب ، فقال : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } أي : ذُبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له . وأصل الإهلال : رفع الصوت أي : رفع به الصوت للصنم ونحوه ، وذلك كقول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزّى .
وذكر القرطبيّ عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرساً للُعَبِها ، فنحرت فيه جزوراً ، فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم . وذكر أيضاً عن عائشة رضي الله عنها : أنها سئلت عمّا يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ، وكلوا من أشجارهم . والقَصْدُ سَدُّ ما كان مظنّةً للشرك .
قال النووي في " شرح مسلم " : فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له ، وكان غير الله تعالى والعبادة له ، كان ذلك كفراً ، فإن كان الذابح مسلماً ، قبل ذلك ، صار بالذبح مرتداً . ذكره في الكلام على حديث علي رضي الله عنه : < لعن الله من ذبح لغير الله > .
قال الحراليّ : وذَكْرُ الإهلال إعلامٌ بأنّ ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشدّ المحرم ، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يُعلم من خفي الذكر . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : < سموا عليه أنتم وكلوه > . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر . فكأنَّ المحرّم ليس ما لم يعلم أنّ اسم الله ذكر عليه ؛ بل الذي علم أنّ اسم الله قد أعلن به عليه .
وروي عن علي رضي الله عنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا ، فإن الله قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
فصل
فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات
فأما الميتة : فقال الحراليّ : هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوّة وفناء الحياة ، وهي أشد مفسد للجسم ، لفساد تركيبها بالموت ، وذهاب تلزز أجزائها ، وعفنها ، وذهاب روح الحياة والطهارة منها .
وقال المهايميّ في " تفسيره " : ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرّم ، وهو الميتة وما ذكر معها . فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله ، تحقيقاً أو تقديراً فتتعلّق أرواحكم بالخبيث فتخبث ، فينقطع عنها محبة الله . وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر ، فكما لا يؤثر فيه النجاسة ، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه ، والجراد لأنّه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات .
وأمّا خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام ، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة .
وقال الإمام ابن تيمية : حرّم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية ، وزيادته توجب طغيان هذه القوى ، وهو مجرى الشيطان من البدن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم > .
وأما خبث لحم الخنزير : فَلأَذاه للنفس ، كما حرّم ما قبله لمضرّتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه : أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء : < الكبر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر ، والسكينة في أهل الغنم > . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة ، حرّم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق . نقله البقاعيّ .
وقد كُشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسّية غير ما قالوه القدماء . فمن مضارّه : أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة : كالمغص ، والإسهال ، والقيء ، وفقد شهوة الطعام ، أو النهم الشديد ، وآلام الرأس ، والإغماء ، والدوار ، واضطراب الفكر ، وعروض نوبات صرعية ، وتشنجات عصبية ، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمّى ، ويودي بحياة المصاب . . . . . . إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم ، ومضار سواها .
قال حكيم : فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط ، بل لإصلاح الروح والجسم معاً . . ! فلم يترك ضارّاً لأحدهما إلا ونّبه عليه تصريحاً أو تلويحاً . . . وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة .
وأما خبث المهلّ به لغير الله : فلأنه يرين على القلب ، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرُّبَ عُبَاْدَة ، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ؛ فكان خبثه معنوياً لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن ، والشرع جاء للحفظ عما يضرّ مطلقاً ، ولصيانة مقام التوحيد .
ولما كان هذا الدين يُسراً لا عُسرَ فيه ولا حَرَجَ ، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر . فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : ألجاه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأنْ أشرف على التلف ، فأكل من شيء منه حال كونه : { غَيْرَ بَاغٍ } أي : غير طالب له راغب فيه لذاته . من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه { ولا عاد } أي : مجاوزٍ لسدّ الرمق وإزالة الضرورة : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } وإن بقيت حرمته ، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كارهٌ بالطبع . وقال الراغب : واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسدّ غيره مسدّه . والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلّة المذكورة ، يعني : إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه ، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع .
{ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لما أكله حال الضرورة : { رَّحِيمٌ } حيث رخّص لعباده في ذلك إبقاءً عليهم .
ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه ، إثْر ما ذكره من الأحكام ، تحذيراً لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به ، وهم أهل الكتاب ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 174 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } أي : من حدوده وأحكامه وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الأولى بالبيّنات والهدى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } أي : يأخذون بدله : { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : مما يتمتعون به من لذات العاجلة ، وقَلَّلَهَ لحقارته في نفسه ، ففيه إشعار بدناءة نفوسهم حيث رضيت بالقليل ، أو بالنسبة لما فَوَّتوه على انفسهم من نعيم الآخرة الذي لا يُحاط بوصفه : { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } أي : ما يَسْتَتْبِعُ النارَ ويستلزمها ، فكأنه عينُ النار ، وأكلُهُ أكْلُهَا ، و : { فِي بُطُونِهِمْ } متعلق بـ : { يأكلون } وفائدته : تأكيد الأكل ، وتقريره ببيان مقرّ المأكول .
قال الراغب : أكل النار : تناول ما يؤدي إليها ، وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال ، وذكر : { فِي بُطُونِهِمْ } تنبيهاً على شرههم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل الطعم الذي هو أحسّ متناولٍ من الدنيا . . . . !
{ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قال الراغب : لم يعن نفي الكلام رأساً ، فقد قال : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، وقال : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ } [ الكهف : 52 ] . وإنما أراد كلاماً يقتضي جدوى ؛ ولهذا قال الحسن : معناه يغضب عليهم تنبيهاً أنهم بخلاف من قال فيهم : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } . وقيل : حقيقة : { كلمته } حملتُه على الكلام ، نحو حركته ، لأنّ مَنْ كلمتَه فقد استدعيت كلامه ؛ فكأنه قيل : لا يستدعي كلامهم نحو قوله : { وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] .
{ وَلا يُزَكِّيهِمْ } أي : يطهرهم من دنس الذنوب لغضبه عليهم لأنهم كتموا ، وقد علموا ، فاستحقّوا الغضب : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : مؤلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [ 175 ]
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي : استبدلوا إضلال أنفسهم وغيرهم من الكتمان والتحريف بالاهتداء : { وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } أي : أسبابه بأسبابها ، ولما جعل سبحانه أول مأكلهم ناراً ، وآخر أمرهم عذاباً ، وترجمة حالهم عدم المغفرة ، فكان بذلك أيضاً أوسط حالهم ناراً سبب عنه التعجيب من أمرهم : بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر ، لالتباسهم بالنار حقيقةً أو بموجباتها من غير مبالاة ، فقال : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ } أي : ما أشد حبسهم أنفسهم ، أو ما أجراهم : { عَلَى النَّارِ } التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى نقله البقاعيّ .
ثم قال : وإذا جعلته مجازاً ، كان مثل قولك لمن عاند السلطان : ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل ؟ تهديداً له ، تريد أنّه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب .
وقد روي عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضي اليمن بمكة : اختصم إليَّ رجلان من العرب ، فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له : ما أصبرك على الله ! أي : ما أصبرك على عذاب الله . نقله الزمخشري .
قال الراغب : وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتباراً بالناظر إليه ، وتَصَوُّر أنّه صابر ، واستعمال لفظ التعجب في ذلك اعتباراً بالخلق لا بالخالق .
ثم ذكر تعالى السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ 176 ]
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } إنما استحقوا هذا العذاب الشديد ، لأن الله تعالى أنزل الكتاب الجامع لأنواع الهدى ، وهو صالح لإرادة القرآن والتوراة ، بالحق ، أي : متلبساً به ، فلا جرم يكون من يختلف فيه ويرفضه بالتحريف والكتمان مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب ؛ لأنه حاول نفي ما أثبت الله ، فقد ضادَّ الله في شرعه ، عياذاً به سبحانه { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ } أي : في جنس الكتاب الإلهي ، بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها ؛ أو في التوراة ، بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض ، أو الاختلاف في تأويلها ، فاجترأوا لأجله على تحريفها ، أو في القرآن بأن قال بعضهم : إنّه سحرٌ ، وبعضهم إنّه شعر ، وبعضهم : أساطير الأولين .
قال الراغب : وأصل الاختلاف : التخلف عن المنهج . وقيل اختلفوا : أتوا بخلاف ما أنزل الله . وقيل : اختلفوا : بمعنى خلفوا نحو اكتسبوا ، وكسبوا ، وعملوا واعتملوا أي : صاروا خلفاء فيه ، نحو : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ الأعراف : 169 ] و [ مريم : 59 ] .
{ لَفِي شِقَاقٍ } أي : خلاف ومنازعة : { بَعِيدٍ } عن الحق والصواب ، مستوجب لأشدّ العذاب . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ 177 ] : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [ البر ] : اسم جامع للطاعات ، وأعمال الخير المقرّبة إلى الله تعالى ، ومن هذا : برّ الوالدين ، قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 1413 ] فجعل البرّ ضدّ الفجور ، وقال : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] . فجعل البر ضد الإثم ، فدلّ على أنه اسم علم لجميع ما يؤجر عليه الْإِنْسَاْن . أي : ليس الصلاح والطاعة والفعل المرضي في تزكية النفس - الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر - هو أمر القبلة ، ولكن البِرّ الذي يجب الاهتمام به - هو هذه الخصال التي عدّها جل شأنه .
ولا يبعد أن يكون بعض المؤمنين - عند نسخ القبلة وتحويلها - حصل منهم الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدّد في شأنها حتى ظنّوا أنه الغرض الأكبر في الدين ، فبعثهم تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات . أشار لهذا الرازي .
وقال الراغب : الخطاب في هذه الآية للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة . وقيل : بل لهم وللمؤمنين حيث قد يرون أنهم نالوا البرّ كلّه بالتوجه إليها .
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي : إيمان من آمن بالله الذي دعت إليه آية الوحدانية فأثبت له صفات الكمال ، ونزههُ عن سمات النقصان { وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } الذي كذب به المشركون ، فاختل نظامهم ببغي ببعضهم على بعض : { وَالْمَلائِكَةِ } أي : وآمن بهم وبأنهم عَبَّاد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين رسله بإلقاء الوحي وإنزال الكتب : { وَالْكِتَابِ } أي : بحبس الكتاب . فيشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء التي من أفرادها : أشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة { وَالنَّبِيِّينَ } جميعاً من غير تفرقة بين أحد منهم ، كما فعل أهل الكتابين .
قال الحراليّ ففيه - أي : الإيمان بهم وبما قبلهم قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها ، والإيمان بغيب من ليس من جنسها ، ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها .
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي : أخرجه وهو محبٌّ له راغبٌ فيه ، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير ، غيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً : < أفضل الصدقة أن تصدّق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر > . وقوله : { ذَوِي الْقُرْبَى } هم قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة . وقد روى الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صَدَقَةٌ وصِِلَةٌ > . وفي الصحيحين من حديث زينب ، امرأة عبد الله بن مسعود ، أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما . . . . ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لهما أجران : أجر القرابة وأجر الصدقة > . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى القرابة في غير موضع من كتابه العزيز .
{ وَالْيَتَامَى } وهم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ { وَالْمَسَاكِينَ } وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما يسد به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه > .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ، فيُعطى ما يوصله إلى بلده لعجزه بالغربة ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه . ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين .
وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقابل بن حيان . والسبيل اسم الطريق ، وجعل المسافر ابناً لها لملازمته إياها كما يقال لطير الماء : ابن الماء ، ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون : ابن الأيام ، وللشجعان : بنو الحرب ، وللناس : بنو الزمان .
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم الذين يتعرضون للطلب ، فيعطون من الزكوات والصدقات . كما روى الإمام أحمد عن حسين بن علي عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < للسائل حقٌ وإن جاء على فرس > . ورواه أبو داود { وَفِي الرِّقَابِ } معطوف على المفعول الأول وهو ذوي أي : وآتى المال في الرقاب ، أي : دفعه في فكَّها ، أي : لأجله وبسببه
قال الراغب : الرقاب جمع رقبة . وأصل الرقبة : العنق . ويعبرّ بها عن الجملة ، كما يعبرّ عنها بالرأس .
وقال الحراليّ : الرقاب جمع رقبة وهو ما ناله الرقّ من بني آدم . فالمراد : الرقاب المسترقّة التي يرام فكّها بالكتابة ، وفكّ الأسرى منه ، وقدّم عليهم أولئك ؛ لأنّ حاجتهم لإقامة البنية [ ؟ ؟ ؟ ] .
قيل نكتة إيراد : في ؛ هُوَ أنَّ ما يعطى لهم : مصروف في تخليص رقابهم ، فلا يملكونه كالمصارف الأخرى . والله أعلم .
لطيفة :
قال الراغب : إن قيل كيف اعتبر الترتيب المذكور في قوله تعالى : { وَآَتَى الْمَاْلَ عَلَىْ حُبِّهِ } الآية ؟ قيل : لما كان أولى من يتفقدّه الْإِنْسَاْن بمعروفه أقاربه ، كان تقديمها أولى ثمّ عقبه باليتامى لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى ، ثمّ ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضراً ولا غائباً ، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم ، فكلّ واحد ممن أُخّر ذكره أقل فقراً ممن قدّم ذكره . . . !
{ وَأَقَامَ الصَّلاةَ } أي : أتم أفعالها في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضيّ { وَآتَى الزَّكَاةَ } أي : زكاة المال المفروضة ؛ على أن المراد بما مرّ من إيتاء المال ، التنفل بالصدقات والبرّ والصلة ، قدّم على الفريضة مبالغةً في الحث عليه ، أو المراد بهما المفروضة ، والأول لبيان المصارف ، والثاني لبيان وجوب الأداء ، وقد أبعد من حمل الزكاة هنا على زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وقوله : { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } ، ووجه العبد : أن الزكاة المقرونة بالصلاة في التنزيل لا يُراد بها إلا زكاة المال ، وأما مع الانفراد فعلى حسب المقام : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } عطف على من آمن ، فإنه في قوة أن يقال : ومن أوفوا بعهدهم . وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .
قال الرازيّ : اعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله ، أو بينه وبين رسول الله ، أو بينه وبين سائر الناس . فالأول : ما يلزمه بالنذور والأيمان . والثاني : فهو ما عاهد الرسول عليه عند التبعة : من القيام بالنصرة ، والمظاهرة ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه . والثالث : قد يكون من الواجبات : مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم . وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن ، وقد يكون من المندوبات : مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال ، والإخلاص في المناصرة . فالآية تتناول كلّ هذه الأقسام .
قال ابن كثير : وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صحّ في الحديث : < آية المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان > . وفي رواية : < إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر > : { وَالصَّابِرِينَ } نصب على الاختصاص . غيرَّ سبكه عما قبله تنبيهاً على فضيلة الصبر ومزّيته ، وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله . قال أبو عليّ : إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعرابَ ، فقد خولف للافتِنَان ، ويسمى ذلك قطعاً ؛ لأن تغيير المألوف يدلّ على زيادة ترغيب في استماع المذكور ، ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه ّ ! وقد قرئ : وَالصَّاْبِرُوْنَ . كما قرئ : وَالْمُوْفِيْنَ .
قال الراغب : لما كان الصبر : من وجه مبدأ للفضائل ، ومن وجهٍ جامعاً للفضائل ؛ إذ لا فضيلةَ إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ . غيّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد . . ! : { فِي الْبَأْسَاءِ } أي : الشدّة ، أي : عند حلولها بهم : { وَالضَّرَّاءِ } بمعنى البأساء وهي الشدة أيضاً ، كما فسرهما بها في القاموس . وقال ابن الأثير : الضرّاء : الحالة التي تضرّ وهي نقيض السرّاء ، وهما بناءان للمؤنث ولا مذكّر لهما : { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : وقت مجاهدة العدوّ في مواطن الحرب ، وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحياناً ، وسرعة انقاضائه ، ومعنى البأس في اللغة : الشدّة ، يقال : لا بأس عليك في هذا أي : لا شدّة . وعذاب بئيس شديد . وسميت الحرب بأساً لما فيها من الشدّة . والعذاب يسمى بأساً لشدته . قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ] { فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا } [ الأنبياء : 12 ] { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ } [ غافر : 29 ] . وقال ابن سيده : البأس الحرب ، ثمّ كثر حتى قيل : لا بأس عليك ، أي : لا خوف .
وقال الراغب : استوعبت هذه الجملة أنواع الضرّ . لأنّه إمّا يحتاج إلى الصبر في شيء يعوز الْإِنْسَاْن ، أو يريده فلا يناله ، وهو البأساء . أو فيما نال جسمه من ألم ، وهو الضرّاء . أو في مدافعة مؤذيه وهو اليأس .
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم ، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فلم تغيرهم الأحوال ، ولم تزلزلهم الأهوال . وفيه إشعار بأنّ من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان . . . ! : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } عن الكفر وسائر الرذائل . وتكرير الإشارة لزيادة تنويهٍ بشأنهم . وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم .
قال الواحديّ : هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع . فمنْ شرائط البرّ ، وتمام شرط البارّ ، أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام به واحدٌ منها لم يستحق الوصف بالبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 178 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } هذا شروع في بيان الحدود والحقوق التي لآدمي معين ، وهي النفوس . و : { كُتِبَ } بمعنى فرض وأوجب .
قال الراغب : الكتابة يعبر بها عن الإيجاب . وأصل ذلك : أنّ الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب . فيعبر عن المراد الذي هو المبدأ بالكتابة التي هي المنتهى .
{ الْحُرُّ } يقتل : { بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } من القاتلين : { مِنْ أَخِيهِ } أي : دم أخيه المقتول : { شَيْءٌ } بأن ترك وليّه القود منه ، ونزل عن طلب الدم إلى الدية . وفي ذكر الأخوة : تعطف داعٍ إلى العفو ، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان : { فَاتِّبَاعٌ } أي : فعلى العافي اتباع للقاتل : { بِالْمَعْرُوفِ } بأن يطالبه بالدية بلا عنف : { وَ } على القاتل : { أَدَاءٌ } للدية : { إِلَيْهِ } أي : العافي وهو الوارث : { بِإِحْسَانٍ } بلا مطل ولا بخس : { ذَلِكَ } أي : ما ذكر من الحكم ، وهو جواز القصاص والعفو عنه على الدية : { تَخْفِيفٌ } تسهيل : { مِّن رَّبِّكُمْ } عليكم : { وَرَحْمَةٌ } بكم ، حيث وسّع في ذلك ، ولم يحتم واحد منهما : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم ، أو قتل القاتل بعد العفو ، أو أخذ الدية : { فَلَهُ } باعتدائه : { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أما في الدنيا فبالإقتصاص بما قتله بغير حق ، وأما في الآخرة فبالنار .
تنبيهات :
الأول : قال الراغب : إن قيل : على من يتوجه هذا الوجوب في قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } ؟ أجيب : على الناس كافة . فمنهم من يلزمه استقادته - وهو الإمام - إذا طلبه الولي . ومنه من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل . ومنهم من يلزمه المعاونة والرضا به . ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى بل يقتص ، أو يأخذ الدية . والقصد بالآية : منع التعدي الجاهلي .
الثاني : القصاص مصدر قاصّه ، المزيد . وأصل القص : قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ ، ومنه : قص شعره . وقص الحديث : اقتطع كلاماً حادثا ًجداً وغيره ، والقصة اسم منه . وحقيقة القصاص : أن يفعل بالقاتل والجارح مثل ما فعلا . أفاده الراغب .
الثالث : ذكر تقي الدين ابن تيمية في " السياسة الشرعية " جملة من أحكام القتل نأثرها عنه . قال رحمه الله :
القتل ثلاثة أنواع :
أحدها : العمد المحض ، وهو أن يقصد من يعلمه معصوماً بما يقتل غالباً . سواء كان يقتل بحده : كالسيف ونحوه ، أو بثقله : كالسندان وكودس القصار . أو بغير ذلك : كالتحريق ، والتغريق ، وإلقاءه [ في المطبوع : وإلقاد ] من مكان شاهق ، والخنق ، وإمساك الخصيتين حتى يخرج الروح ، وغم الوجه حتى يموت ، وسقي السموم . . . ونحو ذلك من الأفعال . فهذا إذا فعله وجب فيه القود . وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل . فإن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا عفوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ؛ وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله . قال الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] . وقيل في التفسير : لا يقتل غير قاتله . وعن أبي شريح الخُزَاعِي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من أصيب بدم أو خبل - والخبل : الجرح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث . فإن أراد الرابعة ، فخذوا على يديه : أن يقتل ، أو يعفو ، أو يأخذ الدية . فمن فعل شيئاً من ذلك فعاد ، فإن له نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً > . فمن قتل بعد العفو وأخذ الدية فهو أعظم جرماً ممن قتل ابتداءً . حتى قال بعض العلماء : إنه يجب قتله حداً ، ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول ، فإن الله تعالى قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال العلماء : إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه . وربما لم يرضوا بقتل القاتل ، بل يقتلون كثيراً من أصحاب القاتل كسيّد القبيلة ومقدّم الطائفة - فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء ، ويعتدي هؤلاء في الاستيفاء ، كما كان يفعله أهل الجاهلية ، وكما يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات : من الأعراب والحاضرة وغيرهم . وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيماً ، أشرف من المقتول ، فيفضي ذلك أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل . وربما حالف هؤلاء قوماً واستعانوا بهم ، وهؤلاء قوما ، فيفضي إلى الفتن والعداوة العظيمة . وسبب ذلك : خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى . فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتل . وأخبر أن فيه حياة فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين . وأيضاً إذا علم من يريد القتل : أنه يقتل ، كفّ عن القتل . . . !
وقد روي عن علي بن أبي طالب وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يدٌ على من سواهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم . ألا لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده . . ! > رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن . فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي : تتساوى أو تتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي ، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين ، ولا حر أصلي على مولى عتيق ، ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور . وهذا متفق عليه بين المسلمين . بخلاف ما عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود . فإنه كان يقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود : قريظة والنضير . وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء . فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفي حدّ الزاني ، فإنهم كانوا قد غيّروه من الرجم إلى التحميم ، وقالوا : إن حكم بينكم بذلك كان لكم حجّة ، وإلا أنتم فقد تركتم حكم التوراة . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } إلى قوله : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ المائدة : 41 - 42 ] إلى قوله . . { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [ المائدة : 44 - 45 ] .
فبين سبحانه أنه سوّى بين نفوسهم ، ولم يفضل منهم نفساً على أخرى ، كما كانوا يفعلونه ، إلى قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } - إلى قوله - : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 48 - 50 ] .
فحكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء . خلاف ما عليه أهل الجاهلية . وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس - في البوادي والحواضر - إنما هي البغي وترك العدل . فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها دماً من الأخرى ، أو مالاً ، أو يعلو عليها بالباطل ، فلا ينصفها . ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق ! فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء ، والأموال ، وغيرها . . . بالقسط الذي أمر الله به ، ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية . . . . وإذا أصلح مصلح بينهم فليصلح بالعدل ، كما قال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات : 9 - 10 ] . وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول ، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [ المائدة : 45 ] . قال أنس : ما رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو . . ! رواه أبو داود وغيره . وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله > . وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ ، هو في المسلم الحر مع المسلم الحر ، فأما الذمي : فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم . كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار - رسولاً أو تاجراً أو نحو ذلك - ليس بكفءٍ لهم وفاقا . ومنهم من يقول : بل هو كفء له . وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد .
النوع الثاني : الخطأ الذي يشبه العمد : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل مغلّظة ، منها أربعون خلفةٌ في بطونها أولادها > . سماه شبه العمد ؛ لأنه قصد العدوان عليه بالخيانة ، لكنه بفعلٍ لا يقتل غالباً ، فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل .
الثالث : الخطأ المحض وما يجري مجراه : مثل أن يكون يرمي صيداً أو هدفاً ، فيصيب إنساناً بغير علمه ولا قصده . فهذا ليس فيه قود ، وإنما فيه الدية والكفارة . وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم .
التنبيه الرابع : قال الراغب : إن قيل : لمَ قال فمن عفي له من أخيه شيء ولم يقل : فمن عفا له أخوه شيئاً . . . ؟ قيل : العدول إلى ذلك للطيفة ، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة ، فعفا أحدهم ؛ إذ القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية . فقال : فمن عفي له من أخيه شيء ليدل على هذا المعنى ، والهاء في قوله : أخيه يجوز أن تكون للمقتول ولوليه . وجعله أخاً لولي الدم لا للنسب ولا لموالاة دينية ، ولكن للإحسان الذي أسداه في الرضا منه بالدية .
الخامس : هذه الآية مفسرة لما أبهم في آية المائدة ، وهي قوله تعالى : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] . كما أنها مقيدة ، وتلك مطلقة ، والمطلق يحمل على المقيد . وكذا ما ورد في السنة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، فإنه يبين ما يراد في هذه الآية وآية المائدة . وقد رويت أحاديث من طرق متعددة بأنه لا يقتل حر بعبد . كالأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى . فالتعويل على ذلك . وبالجملة : فقوله تعالى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } . . . إلخ لا يفيد الحصر البتة ، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام . هذا ما اعتمدوه . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 179 ]
وقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } كلام في غاية الفصاحة والبلاغة ؛ لما فيه من الغرابة ، حيث جعل الشيء محل ضده ، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، وعرف القصاص ونكر الحياة ؛ ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة . وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة . وكم قتل مهلهل بأخيه ، حتى كاد يفني بكر بن وائل ! . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنة ، ويقع بينهم التناحر . . ! . فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي : حياة . . ! أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا همّ بالقتل ، فعلم أنه يقتص منه فارتدع ؛ سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود . فكان القصاص سبب حياة نفسين . . . ! . هذا ما يستفاد من " الكشاف " .
لطيفة :
اتفق علماء البيان على أن هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات . . . ! وذلك لأن العرب عبّروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة ، كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقلّ القتل . وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم : القتل أنفى للقتل . وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها . . . ! ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه ! وأنّى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته .
قال في الإتقان : وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى ، وهو قولهم : " القتل أنفى للقتل " بعشرين وجهاً أو أكثر . وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال : لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق . . ! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك . . !
الأول : أنّ ما يناظره من كلامهم وهو : { الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أقلّ حروفاً ، فإنّ حروفه عشرة ، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر . . !
الثاني : أن نفي القتل لا يستلزم الحياة ، والحياة ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه ! .
الثالث : أن تنكير : { حَيَاةٌ } يفيد تعظيماً ، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة ، كقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] . ولا كذلك المثل ، فإن اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء .
الرابع : أن الآية فيه مطّردة ، بخلاف المثل ، فإنه ليس كل قتلٍ أنفى للقتل ، بل قد يكون أدعى له ، وهو القتل ظلماً ! وإنما ينفيه قتل خاص ، وهو القصاص ، ففيه حياة أبداً . .
الخامس : أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل ، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة . . !
السادس : أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف . بخلاف قولهم . فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها . وحذف " قصاصاً " مع القتل الأول ، " وظلماً " مع القتل الثاني ، والتقدير : القتل قصاصاً أنفى ظلماً من تركه .
السابع : أن في الآية طباقاً ، لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل . . .
الثامن : أن الآية اشتملت على فنٍّ بديع ، وهو جعل أحد الضدّين - الذي هو الفناء والموت - محلاً ومكاناً لضده - الذي هو الحياة . واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة . . . ذكره في " الكشاف " . وعبر عنه صاحب " الإيضاح " بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه .
التاسع : إن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة - وهو السكون بعد الحركة - وذلك مستكره . فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكّن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته ، بخلاف ما إذا تعقّب كل حركة سكونٌ ، فالحركات تنقطع بالسكنات . نظيره : إذا تحركت الدابة أدنى حركة ، فحبست ، ثم تحركت فحبست ، لا تطيق إطلاقها ، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره ، فهي كالمقيدة ! .
العاشر : أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر ؛ لأن الشيء لا ينفي نفسه ! .
الحادي عشر : سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة ، وبعدها عن غنة النون .
الثاني عشر : اشتمالها على حروف متلائمة ، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ؛ إذ القاف من حروف الاستعلاء ، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق . بخلاف الخروج من القاف إلى التاء - التي هي من حرف منخفض - فهو غير ملائم للقاف . وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة ، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق .
الثالث عشر : في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ، ولا كذلك تكرير القاف والتاء .
الرابع عشر : سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة ، بخلاف لفظ الحياة ، فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل .
الخامس عشر : أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة ، فهو منبئ عن العدل ، بخلاف مطلق القتل .
السادس عشر : الآية مبنية على الإثبات ، والمثل على النفي ، والإثبات أشرف ؛ لأنه أول ، والنفي ثانٍ عنه .
السابع عشر : أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة ، وقوله : { فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } مفهوم من أول وهلة . . !
الثامن عشر : أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعدّ ، والآية سالمة منه . . !
التاسع عشر : أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك ، فيكون ترك القصاص نافياً للقتل ، ولكن القصاص أكثر نفياً . . ! وليس الأمر كذلك ، والآية سالمة من ذلك .
العشرون : أن الآية رادعة عن القتل والجروح معاً ، لشمول القصاص لهما . والحياة أيضاً في قصاص الأعضاء ؛ لأن قطع العضو ينقص أو ينغّص مصلحة الحياة ، وقد يسري النفس فيزيلها ، ولا كذلك المثل ! . في أول الآية : { لَكُمْ } وفيها لطيفة ، وهي : بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص ، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم ، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم . . ! انتهى .
وقوله تعالى : { يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } المراد به : العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف . فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم ، وعلموا أنهم يطالبون بالقود ، صار ذلك رادعاً لهم ؛ لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه . فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكفّ والامتناع . . ! إلا أن هذا الخوف إنما يتولّد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر ، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف ، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب ، ثم علل ذلك بقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : الله تعالى بالانقياد لما شرع ، فتتحامون القتل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ 180 ]
.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي : فرض ، كما استفاض في الشرع : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : أمارته وهو المرض المخوف : { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي : مالاً ينبغي أن يوصي فيه . وقد أطلق في القرآن : { الْخَيْر } وأريد به المال في آيات كثيرة ، منها هذه ، ومنها قوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 273 ] ومنها : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] . ومنها : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] إلى غيرها . وإنما سمى المال خيراً ؛ تنبيهاً على معنى لطيف : وهو أن المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعاً من وجه محمود . . ! كما أن في التسمية إشارة إلى كثرته ، كما قال بعضهم : لا يقال للمال خيرٌ حتى يكون كثيراً ، ومن مكان طيب . . ! . وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه : أن علياً رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أُوصي ؟ فقال له علي : إنما قال الله : { إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } . إنما تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك . . ! وروى الحاكم عن ابن عباس : من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً ! . وقال طاوس : لم يترك خيراً من لم يترك ثمانين ديناراً . وقال قتادة : كان يقال : ألفاً فما فوقها .
ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة ، وأن مردّها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان .
ثم ذكر نائب فاعل كُتب بعد أن اشتد التشوّف إليه ، فقال : { الْوَصِيَّةُ } وتذكير الفعل الرافع لها : إما لأنه أريد بالوصية الإيصاء ، ولذلك ذكّر الضمير في قوله : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } وإما للفصل بين الفعل ونائبه ، لأن الكلام لما طال ، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث . وقوله : { لِلْوَالِدَيْنِ } بدأ بهما لشرفهما وعظم حقهما : { وَالأقْرَبِينَ } من عداهما من جميع القرابات : { بِالْمَعْرُوفِ } وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرّهاً .
وفي الصحيحين : أن سعداً قال : يا رسول الله ، إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي : أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : < لا > . . قال : فبالشطر ؟ قال : < لا > . . ! قال : فالثلث ؟ قال : < الثلث ، والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس > ! . وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : لو أنّ الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < الثلث والثلث كثير > . . ! .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عُتْبَةُ بن حنظلة : سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة أنّ جدّه أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشق ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال حنيفة : إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها : المطيبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < لا لا لا . . ! الصدقة خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن كثرت فأربعون > ! وذكر الحديث بطوله .
ثم أكد تعالى الوجوب بقوله : { حَقّاً } - وكذا قوله - : { عَلَى الْمُتَّقِينَ } فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 181 ]
.
{ فَمَن بَدَّلَهُ } أي : فمن غيّر الإيصاء عن وجهه ، إن كان موافقاً للشرع ، من الأوصياء والشهود : { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } أي : بعد ما وصل إليه وتحقق لديه : { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ } أي : التبديل : { عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ، فلا يلحق الموصي منه شيء ، وقد وقع أجره على الله : { إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد شديد للمبدّلين .
هذا ، وما ذكرناه من أن المنهيّ عن التبديل إما الأوصياء أو الشهود ، هو المشهور . وهناك وجه آخر - أراه أقرب - وهو أن يكون المنهي عن التغيير هو الموصي ، نُهي عن تغيير الوصية عن المواضع التي بيّن تعالى الوصية إليها . وذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأبعدين الأجانب ، طلباً للفخر والشرف . ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة والضر ، فأوجب الله تعالى الوصية لهؤلاء منعاً للقوم عما اعتادوه . كذا قاله الأصم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 182 ]
.
{ فَمَنْ خَافَ } أي : توقّع وعلم ، وهذا في كلامهم شائع ، ويقولون : أخاف أن ترسل السماء ، يريدون : التوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم : { مِن مُّوصٍ جَنَفاً } ميلاً عن الحق ، بالخطأ في الوصية ، والتصرف فيما ليس له : { أَوْ إِثْماً } أي : ميلاً فيها عمداً : { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } أي : بينه وبين الموصى لهم - وهم الوالدان والأقربون - بإجرائهم على طريق الشرع .
قال ابن جرير : بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن منعه فيما أذن له فيه وأبيح له : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : بهذا التبديل ، لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ! : { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال ابن جرير : أي : غفور للموصي - فيما كان حدّث به نفسه من الجنف والإثم إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته - فتجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الجور إذ لم يُمض ذلك ، { رَّحِيمٌ } بالمصلح بين الوصيّ وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له . . ! .
تنبيه :
ما أفادته الآية من فرضية الوصية للوالدين والأقربين .
ذكر بعضهم : أنه كان واجباً قبل نزول آية المواريث . فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدّرة فريضة من الله ، يأخذه أهلوها حتماً من غير وصية ، ولا تحمّل منّة الموصي . ولهذا جاء في الحديث - الذي في السنن وغيرها - عن عَمْرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول : < إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث > .
ونص الإمام الشافعي على أن هذا المتن متواتر ، فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : < لا وصية لوارث > . ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم ، فكان نقل كافة عن كافة . فهو أقوى من نقل واحد .
قال الإمام مالك في " الموطأ " : السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها : أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت .
وذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث . والمعنى : كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أو كتب على المحتضر : أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ، وأن لا ينقص من أنصبائهم ! فلا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء ، مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى ، والوصية عطيّة ممن حضره الموت . فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين . ولو فرض المنافاة ، لأمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية . بإبقاء القريب الذي لا يكون وارثاً لأجل صلة الرحم . فقد أكد تعالى الإحسان إلى الأرحام وذوي القربى في غير ما آية ، فتكون الوصية للأقارب الذين لا يرثون عصبة ، أو ذوي رحم مفروضة . . ! قالوا : ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها في غيرهم . . ! .
ومما استدل به على وجوب الوصية من السنة : خبر الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده > . قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي . . ! . والآيات والأحاديث - بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم - كثيرة جداً . .
ظهر لي في آية : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } الخ - وكان درسنا صباحاً من البخاري في كتاب " الوصايا " - أن هذه الآية ليست منسوخة - كما قيل - بل هي محكمة بطريقة لا أدري هل أحد سبقني بها أم لا ؟ فإني في تفسيري المسمى بمحاسن التأويل نقلت هناك مذاهب العلماء ، ولا يحضرني الآن أن ما سأذكره مأثور أم لا ؟ وهو أن هذه الآية مع آية : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } ، متلاقيتان في المعنى ، من حيث إن المراد بالوصية : وصية الله في إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم ، وعدم الغض منها ، والحذر من تبديلها ، لما يلحق المبدّل من الوعيد الشديد . . ! وخلاصة المعنى على ما ظهر :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي : فرض عليكم فرضاً مؤكداً بمثابة المكتوب الذي لا يمحى ولا يعتوره تغيير : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : قرب نزوله به ، بأن قرب مفارقته الحياة : { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي : مالاً يورث : { الْوَصِيَّةُ } أي : المعهودة ، وهي وصية الله سبحانه وتعالى في إيتاء كل ذي حق حقه ، على ما بينته تلك الآية : { لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } أي : في إبلاغهم فرضهم المبين في آية : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } فإنه أجمع آية : { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } تأكيدٌ للكتابة بأنها أمر ثابت لا يسوغ التسامح فيه بوجه ما : { فَمَن بَدَّلَهُ } أي : هذا المكتوب الحق : { بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } أي : فعلم الحق المفروض فيه : { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء من حال الممتثل والمبدّل . وقوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } أي : ميلاً عما فرضه تعالى : { أَوْ إِثْماً } أي : بقطع من يستحق عن حقه ، لما لا تخلو عنه كثير من الأنفس التي لم يدركها نور التهذيب : { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } أي : بأمر رضي به الكل : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : لأن الصلح جائز ، إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً ، والله أعلم . المنقول من الدفتر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 183 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ } - فرض - : { عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
واعلم أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة ، والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم ، وإحساناً إليهم ، وحميّة ، وجنّة . . ! فإن المقصود من الصيام : حبس النفس عن الشهوات ، وفطمها عن المألوفات ، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكوا به مما فيه حياتها الأبدية . . ! . ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين... وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحها ، وتلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجنة المجاهدين ، ورياضة الأبرار والمقربين... وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإن الصائم لا يفعل شيئاً ، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده ، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها ؛ إيثاراً لمحبة الله ومرضاته ، وهو سرّ بين العبد وربّه ، ولا يطلع عليه سواه . . .
والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة . وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده ، فهو أمر لا يطلع عليه بشر . وذلك حقيقة الصوم . . ! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة . وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة ، التي إذا استولت عليها أفسدتها . واستفراغ المواد الردية المانعة له من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها . ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات . فهو من أكبر العون على التقوى ، كما قال تعالى في تتمة الآية : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : < الصوم جنة > . وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام ، وجعله وجاء هذه الشهوة . وكان هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدى ، وأعظم تحصيلاً للمقصود ، وأسهله على النفوس . ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها ، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة ؛ لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة ، وألفت أوامر القرآن ، فنقلت إليه بالتدريج . وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات . وفرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكيناً . ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم ، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة - إذا لم يطيقا الصيام - فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً - كما سيأتي بيانه - وكان للصوم رتب ثلاث :
أحدها : إيجابه بوصف التخيير .
والثانية : تحتمه ، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة ، وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة . . ! كما أفاده ابن القيم في زاد المعاد .
وقوله تعالى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } تأكيد للحكم ، وترغيب فيه ، وتطييب لأنفس المخاطبين به ، فإن الشاق إذا عمّ سهل عمله . والمماثلة إنما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار ، وفيه دليل على أن الصوم عبادة قديمة .
وفي التوراة ، سفر عَزْرا ، الأصحاح الثاني ، ص 750 :
( 21 ) وناديت هناك بصوم على نهر أهوا ، لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقاً مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا .
وفي سفر إشعياء ، الأصحاح الثامن والخمسون ص 1062 :
( 3 ) يقولون : لماذا صمنا ولم ننظر . ذلّلنا أنفسنا ولم نلاحظ . ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرّة وبكل أشغالكم تُسخَّرون .
( 4 ) ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمةٍ الشر . لستم تصومون ، كما اليوم ، لتسميع صوتكم في العلاء .
( 5 ) أمثل هذا يكون صوم أختاره ، يوماً يذلل الإِنْسَاْن فيه نفسه ، يحنى كالأسلة رأسه ، ويفرش تحته مسحاً ورماداً . هل تسمي هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب ؟ . . . إلخ .
وفي سفر يوئيل ، الأصحاح الأول ، ص 1299 :
( 14 ) قدّسوا صوماً .
وفي الأصحاح الثاني ، ص 1300 :
( 12 ) ولكن الآن يقول الرب : ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح .
( 13 ) ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم ، وارجعوا إلى الرب إلهكم ؛ لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة . . .
( 15 ) . . قدسوا صوماً نادوا باعتكاف .
( 16 ) اجمعوا الشعب قدسوا الجماعة .
وفي سفر زكرياء ، الأصحاح الثامن ص 1347 :
( 19 ) هكذا قال رب الجنود : إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة . فأحبوا الحق والسلام .
وفي إنجيل متى ، الأصحاح السادس ص 11 :
( 17 ) وأما أنت فمتى صمت فادهُن رأسك واغسل وجهك .
( 18 ) لكي لا تظهر للناس صائماً ، بل لأبيك الذي في الخفاء . فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية .
الأصحاح السابع عشر ص 32 :
لما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام فتىً وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه :
( 21 ) وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم .
وفي الأصحاح الرابع ص 6 :
( 2 ) فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً أي : المسيح عليه السلام .
وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس ، الأصحاح السادس ص 295 :
( 4 ) بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدّام الله في صبر كثير ، في شدائد ، في ضرورات ، في ضيقات .
( 5 ) في ضربات ، في سجون ، في اضطرابات ، في أتعاب ، في أسهار ، في أصوام .
وفي الأصحاح الحادي عشر ص 301 :
( 27 ) في تعب وكدّ ، في أسهار مراراً كثيرة ، في جوع وعطش ، في أصوام مراراً كثيرة ، في برد وعري .
هذا ، ومتى أطلق الصوم في كل شريعة ، فلا يقصد به إلا الامتناع عن الأكل كل النهار إلى المساء ، لا مجرد إبدال طعام بطعام .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه ، والمواظبة عليه ، رجاء لرضاه تعالى ؛ فإن الصوم يكسر الشهوة ، فيقمع الهوى ، فيردع عن مواقعة السوء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 184 ]
.
{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } نصب على الظرف ، أي : كتب عليكم الصيام في أيام معدودات ، وهي أيام شهر رمضان ، كما بينها تعالى فيما بعد ، بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } أي : مرضاً يضرّه الصوم ، أو يعسر معه .
والمرض : السقم ، وهو نقيض الصحة واضطراب الطبيعة بعد صفائها واعتدالها : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } أي : فافطر : { فَعِدَّةٌ } أي : فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر : { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } غير المعدودات المذكورة . وإنما رخص الفطر في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة . وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها : في غزوة بدر ، وغزة والفتح . قال عُمَر بن الخطاب : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين : يوم بدر والفتح ، فأفطرنا فيهما .
تنبيهات :
الأول : ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر ، كما خيّر بعض الصحابة بين ا لصوم والفطر . ففي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حارّ ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة . وقوله : في بعض أسفاره : وقع في إحدى روايتي مسلم ، بدله في شهر رمضان . وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم . وفي رواية : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فلما غابت الشمس قال لرجل : < انزل فاجدح لنا . . ! > فقال : يا رسول الله ! لو أمسيت . قال : < انزل فاجدح لنا > . قال : < إن عليك نهاراً > . فنزل ، فجدح له ، فشرب ، ثم قال : < إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا - وأشار بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم > رواه الشيخان . واللفظ لمسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس ، فأفطر حتى قدم مكة ، وذلك في رمضان .
فكان ابن عباس يقول : قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر ، فمن شاء صام ، ومن شاء أفطر . رواه الشيخان . واللفظ للبخاري .
وعن قزعة قال : أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر ، فقال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام ، قال : فنزلنا منزلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى لكم > . فكانت رخصة ، فمنا من صام ومنا من أفطر .
ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : < إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا > . وكانت عزمة فأفطرنا . ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر ، رواه مسلم . وعن عائشة : أن حمزة بن عَمْرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأصوم في السفر ؟ - وكان كثير الصيام - فقال : < إن شئت فصم وإن شئت فأفطر > . رواه البخاري .
ورواه مسلم من طريق آخر ، أنه قال : يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه > .
وعن أنس بن مالك قال : كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم . رواه الشيخان .
الثاني : لا يخفى أن جواز الصوم للمسافر إذا أطاقه بلا ضرر . وأما إذا شق عليه الصوم فلا ريب في كراهته ، لما في الصحيحين : عن جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فرأى زحاماً ، ورجل قد ظلل عليه ، فقال : < ما هذا ؟ > فقالوا : صائم ، فقال : < ليس من البر الصوم في السفر > . فلا ينافي هذا ما تقدم ، كما لا يرد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لأن السياق والقرائن تدل على تخصيصه بمن شق عليه الصوم . وما تقدم في غيره .
قال ابن دقيق العيد : وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام ، وعلى مراد المتكلم ؛ وبين مجرد العام على سبب . فإن بين المقامين فرقاً واضحاً . ومن أجراهما مجرىً واحداً لم يصب . فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به ، كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان . وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات ، كما في هذا الحديث . انتهى . وهو استنباط جيد . وبالجملة : فالمريض والمسافر يباح لهما الفطر . فإن صاما ، صح ، فإن تضررا ، كره . . ! .
الثالث : لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيه الصائم بحدّ ، ولا صح عنه في ذلك شيء . وقد أفطر دِحْية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال ، وقال لمن صام : قد رغبوا عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم . . ! . وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم . كما قال عبيد بن جبر : ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان ، فلم نجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة . قال : اقترب ، قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ رواه أبو داود وأحمد . ولفظ أحمد : ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة ، فلما دفعنا من مرسانا أمر بسفرته فقربت ، ثم دعاني إلى الغداء . وذلك في رمضان, فقلت : يا أبا بصرة ! والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد ؟ ! فقال : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : لا ! قال : فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ماحوزنا , قيل : أي : موضعهم الذي أرادوه .
وقال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان - وهو يريد السفر - وقد رُحلت راحلته ، وقد لبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل . فقلت له : سنة ؟ قال : سنة . ثم ركب . قال الترمذي : حديث حسن . وقال الدارقطني فيه : فأكل وقد تقارب غروب الشمس . . ! . وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه . قاله في " زاد المعاد " .
{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : الصوم ، إن أفطروا : { فِدْيَةٌ } أي : إعطاء فدية وهي : { طَعَامُ مِسْكِينٍ } و " الفدية " : ما يقي الإِنْسَاْن به نفسه من مال يبذله في عبادة يقصر فيها ، و " الطعام " : ما يؤكل وما به قوام البدن : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } بأن أطعم أكثر من مسكين : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } لأنه فعل ما يدل على مزيد حبه لربه : { وَأَن تَصُومُواْ } أيها المطيقون : { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الفدية وإن زادت : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : فضيلة الصوم وفوائده ، أو إن كنتم من أهل العلم .
وقد ذهب الأكثرون إلى أن هذه الآية منسوخة بما بعدها . فإنه كان في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه ، فاشتد عليهم ، فرخص لهم في الإفطار والفدية ، كما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها . وأسند من طريق آخر عن سلمة أيضاً قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين ، حتى أنزلت هذه الآية : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . وفي البخاري . قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع : نسختها : { شَهْرُ رَمَضَانَ } الآية . ثم روي عن ابن أبي ليلى : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : نزل رمضان فشق عليهم ، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه ، ورخص لهم في ذلك ، فنسخت وأمروا بالصوم . ثم أسند أيضاً عن ابن عمر أنه قال : هي منسوخة .
هذا ، وقد روى البخاري في " التفسير " : عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً .
هذا ، وقد ذكر البخاري في " التفسير " : أن أنس بن مالك أطعم - بعد ما كبر - عاماً أو عامين ، كل يوم مسكيناً ، خبزاً ولحماً ، وأفطر . رواه تعليقاً ، ووصله أبو يعلى الموصلي في " مسنده " ورواه عبد بن حميد في " مسنده " من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس ، بمعناه وروى محمد بن هشام في فوائده عن حميد قال : ضعف أنس عن الصوم عام توفى ، فسألت ابنه عُمَر بن أنس : أطاق الصوم ؟ قال : لا . . ! فلما عرف أنه لا يطيق القضاء أمر بجفانٍ من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر . . . ! .
ولما أبهم الأمر في الأيام عينت هنا بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 185 ]
.
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } لأن ذلك أفخم وآكد من تعيينه من أول الأمر .
وقال الراغب : جعل معالم فرضه على الأهلة ليبادر الإِنْسَاْن به في كل وقتٍ من أوقات السنة ، كما يدور الشهر فيه من الصيف والشتاء والربيعين .
وفي رفع : { شَهْرُ } وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي شهر ، يعني الأيام المعدودات . فعلى هذا يكون قوله : { الَّذِيَ أُنزِلَ } نعتاً للشهر أو لرمضان .
والثاني : هو مبتدأ .
ثم في الخبر وجهان :
أحدهما : { الَّذِيَ أُنزِلَ } .
والثاني : إنّ : { الَّذِيَ أُنزِلَ } صفة ، والخبر هو الجملة التي هي قوله : { فَمَن شَهِدَ } .
فإن قيل : لو كان خبراً لم يكن فيه الفاء لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط ؟ ! .
قيل : الفاء - على قول الأخفش - زائدة . وعلى قول غيره : ليست زائدة ، وإنما دخلت لأنك وصفت الشهر بـ : { الَّذِيَ } ، فدخلت الفاء كما تدخل في خبر نفس الذي . ومثله : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] . فإن قيل : فأين الضمير العائد على المبتدأ من الجملة ؟ قيل : وضع الظاهر موضعه تفخيماً ، أي : فمن شهده منكم . كذا في العكبري .
{ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي : ابتدأ فيه إنزاله ، وكان ذلك في ليلة القدر .
قال الرازي : لأن مبادي الملل والدول هي التي يؤرخ بها ، لكونها أشرف الأوقات ، ولأنها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة .
وقال سفيان بن عيينة : معناه : أنزل في فضله القرآن . وهذا اختيار الحسين بن الفضل . قال : ومثله أن يقال : أنزل الله في الصديق كذا آية ، يريدون : في فضله .
وقال ابن الأنباري : أنزل - في إيجاب صومه على الخلق - القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها ، وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها . والله أعلم .
قال الحرالي : أشعرت الآية أن في الصوم حسن تلقٍّ لمعناه ، ويسراً لتلاوته ، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل ، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع من الكتب والصحف والألواح . انتهى .
وفي مدحه - بإنزاله فيه - مدح للقرآن به ، من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ، ليوقف على حقيقة ما اتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة ، من أنه لا ريب فيه ، وأنه هدى على وجه أعم من ذلك الأول . فقال تعالى : { هُدًى لِّلنَّاسِ } نصب على الحال { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } عطف على الحال قبله . فهي حال أيضاً . والظرف صفة . أي : أنزل حال كونه هداية للناس ، وآيات واضحة مرشدة إلى الحق ، فارقة بينه وبين الباطل . ولدفع سؤال التكرار في قوله : { وَبَيِّنَاتٍ } إلخ بعد قوله : { هُدًى لِّلنَّاسِ } حمل بعض المفسرين : { الْهُدَى } الأول بواسطة النكرة على الهدى الذي لا يقدر قدره المختص بالقرآن ، أعنى هدايته بإعجازه . والثاني على الهدى الحاصل باشتماله على الواضحات من أمر الدين ، والفرقان بين الحلال والحرام والأحكام والحدود والخروج من الشبهات .
وثمَّة وجه آخر نقله الرازي : وهو أن : { الْهُدَى } الثاني المراد به التوراة والإنجيل ، قال تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } [ آل عِمْرَان : 3 - 4 ] . فبين تعالى أن القرآن - مع كونه هدى في نفسه - ففيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان ، والله أعلم .
{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حتمٌ على من شهد استهلال الشهر - أي : حضر فيه بأن كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه - أن يصوم لا محالة . ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان . ثم أعيد ذكر الرخصة بقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أن الصوم حتم لا تتناوله الرخصة بوجه ، أو تتناوله ولكنها مفضولة . وفيه عناية بأمر الرخصة ، وأنها محبوبة له تعالى كما ورد . وفي إطلاقه ، إشعار بصحة وقوع القضاء متتابعاً وغير متتابع : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } أي : تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر ، وبقصر الصوم على شهر : { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } في جعله عزيمة على الكل وزيادته على شهر .
قال الحرالي : اليسر : عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم . والعسر : ما يجهد النفس ويضر الجسم .
قال الشعبي : إذا اختلف عليك أمران ، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق ، لهذه الآية .
وروى الإمام أحمد مرفوعاً : < إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره > .
وروى أيضاً : < إن دين الله في يسر . ثلاثاً > .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه قال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما إلى اليمن : < يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا > .
وفي السنن والمسانيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < بعثت بالحنيفية السمحة > .
أي التي لا إصر فيها ولا حرج كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] .
{ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علل لفعل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره . ولهذه الأمور شرع ذلك . يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخّص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر . فقوله : { لِتُكْمِلُوا } علة الأمر بمراعاة العدة : { وَلِتُكَبِّرُوا } علّة ما علّم من كيفية القضاء ، والخروج عن عهدة الفطر : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علّة الترخيص والتيسير . وهذا نوع من اللف لطيف المسلك ، لا يكاد يهتدي إلى تبيّنه إلا النقّاب المحدث من علماء البيان ! . وإنما [ في المطبوع : وإما ] عدّي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد . كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . ومعنى : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } : وإرادة أن تشكروا . ويجوز عطفها على اليسر ، أي : يريد بكم لتكملوا . . . إلخ ، كقوله تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا } إلخ . [ الصف : 8 ] والمراد بالتكبير : تعظيمه تعالى والثناء عليه . كذا أفاده الزمخشري .
قال الحرّالي : وفي لفظ : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ } إشعارٌ لما أظهرته السنة من صلاة العيد ، وأعلن فيها بالتكبير . وكرر مع الجهر فيها لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علناً . وجعلت في براحٍ من متسع الأرض لمقصد التكبير ، لأن تكبير الله إنما هو بما جلّ من مخلوقاته . انتهى ملخصاً .
وقال ابن كثير : وقوله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ } . أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ] وقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 - 40 ] ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير .
ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية . حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ، لظاهر الأمر في قوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه . انتهى .
وفي " زوائد المشكاة " عن عبد الله بن عُمَر أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى . ثم يكبّر حتى يأتي الإمام . وفي رواية : رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه الدارقطني . وعن نافع أن ابن عمر كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس ، فيكبّر حتى يأتي المصلّى ، ثم يكبر بالمصلّى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير . رواه الشافعي .
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى ، رواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر من طرقٍ مرفوعاً وموقوفاً ، وصحح وقفه . ورواه الشافعي موقوفاً أيضاَ .
وفي الأوسط عن أبي هريرة مرفوعاً : زينوا أعيادكم بالتكبير . إسناده غريب . انتهى .
وفائدة طلب الشكر في هذا الموضع ، هو أنه تعالى ، لما أمر بالتكبير, وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبرياءه وعزته وعظمته ، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء ، وأوصاف الواصفين ، وذكر الذاكرين . ثم يعلم أنه سبحانه - مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات, فضلاً عن هذا المسكين - خصه الله بهذه الهداية العظيمة - لا بد وأن يصبر ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره ، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته ، فلهذا قال : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أفاده الرازي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ 186 ]
.
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } قال الراغب : هذه الآية من تمام الآية الأولى . لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيّضه لهم من تمام الصوم ، بيّن أن الذي يذكرونه ويشكرونه قريب منهم ، ومجيب لهم إذا دعوه ، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم .
قال الرازي : إن السؤال متى كان مبهماً ، والجواب مفصلاً ، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعيّن . فلما قال في الجواب : { فَإِنِّي قَرِيبٌ } علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات ، أي : كما صرحت به الرواية السابقة . والقريب من أسمائه تعالى الحسنى . ومعناه القريب من عبده بسماعه دعاءه ، ورؤيته تضرعه ، وعلمه به ، كما قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] وقال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] وقال : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] .
قال الإمام تقي الدين ابن تيمية ، عليه الرحمة ، في عقيدته الواسطية :
ودخل - فيما ذكرناه من الإيمان بالله - الإيمان بما أخبر الله به في كتابه ، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة . من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، عليٌّ على خلقه . وهو معهم سبحانه أينما كانوا . يعلم ما هم عاملون . كما جمع بين ذلك في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . وليس معنى قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } أنه مختلط بالخلق ، فإن هذا لا توجبه اللغة . وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة ، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق . بل القمر - آية من آيات الله - من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر أينما كان . وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطلع إليهم ، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش ، وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة . ودخل في ذلك : الإيمان بأنه قريب من خلقه ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } الآية . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته > . وما ذكر في الكتاب والسنة - من قربه ومعيته - لا ينافي ما ذكر من علوّه وفوقيته . . ! فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته . وهو عليٌّ في دنوه ، قريب في علوه . . . ! . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
وقوله تعالى : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } تقرير للقرب وتحقيق له ، ووعد للداعي بالإجابة . وقد قرئ في السبع بإثبات الياء في الداع ودعان في الوصل دون الوقف ، وبالحذف مطلقاً .
تنبيهات :
الأول : في معنى الدعاء .
قال في القاموس وشرحه : الدعاء : الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير ، والابتهال إليه بالسؤال ، ويطلق على العبادة والاستغاثة .
الثاني : فيما فسر به قوله تعالى : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في هديه صلى الله عليه وسلم في سجوده ما نصه : وأمر يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء في السجود ، وقال : إنه ضمن أن يستجاب لكم . وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود ؟ أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين . ! وأحسن ما يحمل عليه الحديث ، أن الدعاء نوعان : دعاء ثناء ، ودعاء مسألة . والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين . والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين . والاستجابة - أيضاً - نوعان : استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله ، واستجابة دعاء المثني بالثواب . وبكل واحدٍ من النوعين فسر قوله تعالى : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } . والصحيح أنه يعم النوعين . انتهى .
الثالث : فيمن هو الداعي المجاب :
قال الراغب : بين تعالى - في هذه الآية - إفضاله على عباده ، وضمن أنهم إذا دعوه أجابهم ، وعليه نبّه بقوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] . إن قيل : قد ضمن في الآيتين أن من دعاه أجابه ، وكم رأينا من داع له لم يجبه ؟ ! قيل : إنه ضمن الإجابة لعباده ، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } [ مريم : 93 ] . وإنما عنى به الموصوفين بقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقوله : { وَعِبَادُالرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 63 ] الآيات . وللدعاء المجاب شرائط وهي : أن يدعو بأحسن الأسماء ، كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ويخلص النية ، ويظهر الافتقار ، ولا يدعو بإثم ، ولا بما يستعين به على معاداته . وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوله وأعطاه . ومعلوم أن من هذا حاله فمجاب الدعوة . . !
وقال ابن القيم ، عليه [ في المطبوع : عيه ] الرحمة ، أيضاً في أول كتابه : " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " ما نصه ، بعد جمل : وكذلك الدعاء ، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب . ولكن قد يتخلف عنه أثره ، إما لضعفه في نفسه ، بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان . وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء ، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً . فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً . وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب عن القلوب واستيلاء الغفلة والسهو اللهو وغلبتها عليه ، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ! > . فهذا دواء نافع مزيل للداء . ولكن غفلة القلب عن الله ، تبطل قوته . وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها ، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيها الناس ! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] ، ثم ذكر : الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء : يا رب يا رب ! ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك . . ؟ ! > . وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب " الزهد " لأبيه : أصاب بني إسرائيل بلاء ، فخرجوا مخرجاً ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم : إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة ، وترفعون إليَّ أكفاً قد سفكتم بها الدماء ، وملأتم بها بيوتكم من الحرام ، الآن حين اشتد غضبي عليكم ؟ ! ولن تزدادي مني إلا بعداً . . ! .
ثم قال ابن القيم رحمه الله : والدعاء من أنفع الأدوية . وهو عدو البلاء ، يدافعه ، ويعالجه ، ويمنع نزوله ، ويرفعه ، أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن . كما روى الحاكم في " صحيحه " من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ، ونور السموات والأرض > ، وله مع البلاء ثلاث مقامات : أحدها : أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه . الثاني : أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً . الثالث : أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه... .
وقد روى الحاكم في " صحيحه " من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة > ! . وفيه أيضاً ، من حيث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل . فعليكم عَبَّاد الله ، بالدعاء > ! .
وفيه أيضا : من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : < لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه . . > ! .
ثم قال ابن القيم رضي الله عنه : ومن أنفع الأدوية الإلحاح في الدعاء . وقد روى ابن ماجة في " سننه " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من لم يسأل الله يغضب عليه > ! وفي " صحيح الحاكم " من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : < لا تعجزوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد > . وذكر الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله يحب الملحّين في الدعاء > ؟ وفي كتاب " الزهد " للإمام أحمد عن قتادة قال : قال مورّق : ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجل في البحر على خشبة ، فهو يدعو : يا رب ! لعل الله عز وجل أن ينجيه . . ! .
ثم قال ابن القيم نوّر الله ضريحه : ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه ، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة ، فيستحسر ويدع الدعاء . وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرساً ، فجعل يتعاهده ويسقيه ، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله . . ! . وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي > ! . وفي صحيح مسلم عنه : < لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل > ! قيل : يا رسول الله ما الاستعجال ؟ قال : < يقول : قد دعوت وقد دعوت فلم أر الله يستجيب لي ، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء > . وفي مسند أحمد من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل > . قالوا : يا رسول الله ! كيف يستعجل ؟ قال : < يقول : قد دعوت لربي فلم يستجب لي > .
ثم قال :
فصل
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب ، وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة وهي : الثلث الأخير من الليل ، وعند الأذان ، وبين الأذان والإقامة ، وأدبار الصلوات المكتوبات ، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة ، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم ، وصادف خشوعاً في القلب ، وانكساراً بين يدي الرب ، وذلاً وتضرعاً ورقّة ، واستقبل الداعي القبلة ، وكان على طهارة ، ورفع يديه إلى الله تعالى ، وبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم ثنّى بالصلاة على محمد عبده صلى الله عليه وسلم ، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ، ثم دخل على الله وألح عليه في المسالة وتملّقه ودعاه رغبة ورهبة ، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده ، وقدّم بين يدي دعائه صدقة ؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبداً . ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة ، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم . فمنها ما في السنن ، وفي صحيح ابن حبان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدا . . ! . فقال : < لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب > ! . وفي لفظ : < لقد سألت الله باسمه الأعظم > . وفي السنن و " صحيح ابن حبان " أيضاً من حديث أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يصلي ، ثم دعا : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنّان بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى > . وأخرج الحديثين أحمد في " مسنده " وفي " جامع الترمذي " من حديث أسماء بنت يزيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 163 ] . وفاتحة آل عِمْرَان : { الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } > . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي " مسند أحمد " و " صحيح الحاكم " من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام > . يعني : تعلقوا بها والزموها وداوموا عليها . وفي " جامع الترمذي " من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال : < سبحان الله العظيم > وإذا اجتهد في الدعاء قال : < يا حي يا قيوم . . > ! وفيه أيضاً من حديث أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال : < يا حي يا قيوم ! برحمتك أستغيث > .
وفي صحيح الحاكم من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن : البقرة وآل عِمْرَان وطه > .
قال القاسم : فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم . وفي " جامع الترمذي " و " صحيح الحاكم " من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < دعوة ذي النون إذا دعا وهو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط ، إلا استجاب الله له > . قال الترمذي : حديث صحيح . وفي " صحيح الحاكم " أيضاً من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : < ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهم فدعا به يفجر الله عنه ؟ ! دعاء ذي النون > . وفي " صحيحه " أيضاً عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : < هل أدلكم على اسم الله الأعظم ؟ دعاء يونس > . فقال رجل : يا رسول الله ! هل كان ليونس خاصة ؟ فقال : < ألا تسمع قوله : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] فأيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك ، أعطي أجر شهيد . وإن برأ ، برأ مغفوراً له ! > . وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : < لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم > . وفي " مسند الإمام أحمد " : من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين . وفي " مسنده " أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حزنٌ فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك . أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو علّمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور بصري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي... . إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً > فقيل : يا رسول الله ! ألا نتعلّمها ؟ قال : < بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها > .
وقال ابن مسعود : ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح .
ثم قال ابن القيم : وكثيراً ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله ، أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته . أو صادف الدعاء وقت إجابة ، ونحو ذلك ، فأجيبت دعوته . فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء ، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي . وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي ، فانتفع به ، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب كان غالطاً . وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس . ومن هذا ، قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبرٍ فيجاب . فيظنّ الجاهل أن السر للقبر . ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله . فإذا حصل لك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحب إلى الله . . .
ثم قال ابن القيم : والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح . والسلاح بضاربه لا بحده فقط ! فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً لا آفة به ، والساعد ساعدٌ قوي ، والمانع مفقود ، حصلت به النكاية في العدو . . ! ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة ، تخلف التأثير . . ! فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء ، أو كان ثم مانع من الإجابة ؛ لم يحصل التأثير . . ! .
ثم قال ابن القيم : وهنا سؤال مشهور ، وهو : أن المدعو به إن كان قد قدّر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع ، وإن لم يكن قد قدّر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله . فظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء وقالت : لا فائدة فيه ! وهؤلاء - مع فرط جهلهم وضلالهم - يتناقضون . فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب . فيقال لأحدهم : إن كان الشبع والريّ قد قدّر لك فلا بد من وقوعهما . أكلت أو لم تأكل . وإن لم يقدرا لم يقعا . أكلت أو لم تأكل . وإن كان الولد قدر لك ، فلا بدّ منه ، وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما ، وإن لم يقدر لم يكن . فلا حاجة إلى التزويج والتسري . وهلم جراً . . . فهل يقال : هذا عاقل أو آدمي ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته . فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً .
وتكايس بعضهم ، وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض . يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما . . ! ولا فرق - عند هذا الكيّس - بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب . وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ، ولا فرق... . وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء : بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة ، فمتى وفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له ، وأمارة على أن حاجته قد قضيت ... وهذا كما إذا رأيت غيماً أسود بارداً في زمن الشتاء . فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر... . قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب ، والكفر والمعاصي مع العقاب ، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب ، لا أنها أسباب له . . ! وهكذا - عندهم - الكسر مع الانكسار ، والحرق مع الإحراق ، والإزهاق مع القتل ، ليس شيء من ذلك سبباً البتة ، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي . وخالفوا بذلك ، الحسّ والعقل والشرع وسائر طوائف العقلاء . بل أضحكوا عليهم العقلاء... . والصواب أن ههنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل ، وهو : إن هذا المقدور قدّر بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء ، فلم يقدر مجرّداً عن سببه ولكن قدر بسببه ، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور . وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه . وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ، ودخول النار بالأعمال . وهذا القسم هو الحق ، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له . وحينئذ ، فالدعاء ، من أقوى الأسباب . فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء ، لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب ، وجميع الحركات والأعمال ؛ وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب ! ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه ، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم . وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه ، وكان أعظم جنده ، وكان يقول للصحابة : لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء ! وكان يقول : إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء ، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه . . . .
فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة ، فإن الله سبحانه يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم } [ غافر : 60 ] ، { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } . وفي " سنن ابن ماجة " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من لم يسأل الله يغضب عليه > . وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه ، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه . . . وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب " الزهد " أثراً : أنا الله لا إله إلا أنا ، إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى . وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد ، وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أن التقرب إلى رب العالمين ، وطلب مرضاته ، والبر والإحسان إلى خلقه ، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ؛ وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر . . . فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة الله بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه . وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة ، وحصول السرور في الدنيا والآخرة - في كتابه - على الأعمال ، ترتب الجزاء على الشرط ، والمعلول على العلة ، والمسبب على السبب . وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع ، فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] ، وقوله : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] ، وقوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } [ المائدة : 38 ] ، وقوله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } - إلى قوله - : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب : 35 ] ، وهذا كثير جداً . . !
وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء : كقوله تعالى : { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم } [ الأنفال : 29 ] ، وقوله : { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } [ الجن : 16 ] ، وقوله : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] ونظائره . . .
وتارة يأتي بلام التعليل : كقوله : { لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] ، وقوله : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] .
وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل ، كقوله : { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُم } [ الحشر : 7 ] .
وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ آل عِمْرَان : 182 ] ، وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] ، و : { بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 39 ] وقوله : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا } [ الإسراء : 98 ] .
وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً ، كقوله : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } [ البقرة : 282 ] ، وكقوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] ، وقوله : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } [ الأنعام : 156 ] ، أي : كراهة أن تقولوا .
وتارة بفاء السببية كقوله : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ } [ الشمس : 14 ] وقوله : { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } [ الحاقة : 10 ] ، وقوله : { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ } [ المؤمنون : 48 ] , ونظائره .
وتارة يأتي بأداة لمّا الدالة على الجزاء ، كقوله : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] ، ونظائره .
وتارة يأتي بإن وما عملت فيه ، كقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } [ الأنبياء : 90 ] ، وقوله في ضد هؤلاء : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنبياء : 77 ] .
وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها ، كقوله : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 113 - 114 ] .
وتارة يأتي بـ " لو " الدالة على الشرط ، كقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُم } [ النساء : 66 ] .
وبالجملة : فالقرآن - من أوله إلى آخره - صيح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب ، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال . ومن تفقه في هذه المسألة ، وتأملها حق التأمل ، انتفع بها غاية النفع ، ولم يتكل على القدر جهلاً منه وعجزاً وتفريطاً وإضاعة ؛ فيكون توكّله عجزاً ، وعجزه توكّلاً . . ! بل الفقيه - كل الفقيه - الذي يرد القدر بالقدر ، ويدفع القدر بالقدر ، ويعارض القدر بالقدر . لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا بذلك . . ! فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر . والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر... . وهكذا من وفّقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة . . . فهذا وزن القدر المخوف في الدنيا وما يضاده ، فرب الدارين واحد ، وحكمته واحدة ، لا يناقض بعضها بعضاً ، ولا يبطل بعضها بعضاً . فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ، ورعاها حق رعايتها . . . والله المستعان .
ولكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه :
أحدهما : أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم ، وما جرّبه في نفسه وغيره ، وما سمعه من أخبار الأمم قديماً وحديثاً .
ومن أنفع ما في ذلك : تدبر القرآن ، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ، وفيه أسباب الخير والشر جميعاً مفصّلة مبينة ؛ ثم السنة ، فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني . ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما ، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما ، حتى كأنك تعاين ذلك عياناً . . . وبعد ذلك ، فإذا تأملت أخبار الأمم ، وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به . وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق ، وأن الرسول حق ، وأن الله ينجز وعده لا محالة . . ! فالتاريخ تفصيلٌ لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر . . . انتهى .
وقوله تعالى : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي } أي : إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم : { وَلْيُؤْمِنُوا بِي } أمر بالثبات على ما هم عليه : { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } أي : راجين إصابة الرشد وهو الحق .
تنبيهان :
الأول : قال الراغب : أوثر فليستجيبوا على فليجيبوا للطيفة ، وهي : أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة ، وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة . فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم . إن قيل : كيف جمع بين الاستجابة والإيمان ، وأحدهما يغني عن الآخر ، فإنه لا يكون مستجيباً لله من لا يكون مؤمناً ؟ قلنا : استجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي تتولاه الجوارح ، والإيمان هو الذي تقتضيه القلوب . وأيضاً فإن الإيمان المعني ههنا هو الإيمان المذكور في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ } [ الأنفال : 2 ] الآية .
الثاني : قدمنا عن الراغب سر وصل هذه الآية بما قبلها ، ووجه التناسب . وثمة سر آخر قاله الحافظ ابن كثير ، وعبارته :
وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، إرشادٌ إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة ، بل وعند كل فطر . كما روى أبو داود الطيالسي في " مسنده " عن عبد الله بن عَمْرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة > . فكان عبد الله بن عَمْرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا . وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن للصائم عند فطره دعوة ما تردّ . . . > وكان عبد الله يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي... وروى الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 187 ]
.
وقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } إرشاد إلى ما شرعه في الصوم - بعد بيان إيجابه على من وجب عليه ، وحاله معه حضراً أو سفراً ، وعدته من إحلال غشيان الزوج ليلاً . وكأن الصحابة تحرجوا عن ذلك ظناً أنه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عنه ، فبين هم أن ذلك حلال لا حرج فيه .
وقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : { عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ } .
إيذاناً بأنه أحله ولم يحرّمه ؛ إذ لم يشرع من فضله ما فيه إعنات وحرج .
و " الرفث " : أصله قول الفحش . وكنى به هنا عن الجماع وما يتبعه ، كما كنى عنه في قوله : { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } [ الأعراف : 189 ] ، وقوله : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] . فالله تعالى كريم يكني . وإيثار الكناية عنه - هنا - بلفظ الرفث الدال على معنى القبح - عدا بقية الآيات - استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، كما سماه اختياناً لأنفسهم . والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب . وللثعالبي في آخر كتابه " فقه اللغة " فصل في ذلك بديع .
ثم إن المستعمل الشائع : رفث بالمرأة - بالباء - وإنما عدي هنا بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ، كما في قوله : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض } [ النساء : 21 ] .
{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السوأة . وعلى ذلك كنى عن المرأة بالإزار ، وسمي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه عن تعاطي القبيح .
وهذا ألطف من قول بعضهم : شبه كل واحد من الزوجين - لاشتماله على صاحبه في العناق والضم - باللباس المشتمل على لابسه ، وفيه قال الجعدي :
~إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ؟ قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة ، قلّ صبركم عنهن ، وصعب عليكم اجتنابهنّ ؛ فلذلك رخص لكم في مباشرتهن .
{ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب ، وهو اختيان النفس ، أي : قلة تصبيرها من نزوعها إلى رغيبتها . ومنه : خانته رجلاه ، إذا لم يقدر على المشي . أي : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ، لو لم يحلَّ لكم ذلك فأحلَّه رحمة بكم ولطفاً ، وفي الاختيان وجه آخر وهو : أنه عنى به مخالفة الحق بنقض العهد ، أي : كنتم تظلمونها بذلك - بتعريضها للعقاب - لو لم يحلّ ذلك لكم . قالوا : والاختيان أبلغ من الخيانة - كالاكتساب من الكسب - ففيه زيادة وشدة .
ثم أشار تعالى إلى لطفه بالمؤمنين بتخفيفه ما كان يغلّهم ويثقلهم ويخونهم لولا رحمته ، بقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : عاد بفضله وتيسيره عليكم برفع الحرج في الرفث ليلاً : { وَعَفَا عَنكُمْ } أي : جاوز عنكم تحريمه ، فالعفو بمعنى التوسعة والتخفيف : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } قال أبو البقاء : حقيقة الآن : الوقت الذي أنت فيه ؛ وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب وقوعه ، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر وهو المراد - هنا - لأنَّ قوله : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } أي : فالوقت الذي كان يحرم عليكم الجماع فيه من الليل قد أبحناه لكم فيه ؛ فعلى هذا " الآن " ظرف ل " فباشروهن " . وقيل : الكلام محمول على المعنى ، والتقدير : فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهن . ودلّ على المحذوف لفظ الأمر الذي يراد به الإباحة . فعلى هذا الآن على حقيقته .
وأصل " المباشرة " إلصاق البشرة بالبشرة . كني بها عن الجماع الذي يستلزمها : { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } تأكيد لما قبله ، أي : ابتغوا هذه الرخصة التي أحلها لكم . و " كتب " هنا ، إما بمعنى جعل كقوله : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] ، أي : جعل ، وقوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عِمْرَان : 53 ] ، { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُون } [ الأعراف : 156 ] ، أي : أجعلها . أو بمعنى قضى ، كقوله : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] أي : قضاه ، وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] وقوله : { لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ } [ آل عِمْرَان : 154 ] ، أي : قضي .
قال الراغب : في الآية إشارة في تحرّي النكاح إلى لطيفة . وهي : أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإِنْسَاْن إلى غاية ! كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية ! فحق الإِنْسَاْن أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة . فمتى تحرى به حفظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع ، فقد ابتغى ما كتب الله له . وإلى هذا أشار من قال : عنى الولد .
{ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } أباح تعالى الأكل والشرب - مع ما تقدم من إباحة الجماع - في أي : الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل . وشُبّها بخيطين : أبيض وأسود ، لأن أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل ، كالخيط الممدود . قال أبو دؤاد الإيادي :
~فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيطٌ أنارا
وقوله : { مِنَ الْفَجْرِ } بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني . وقد رفع بهذا البيان الالتباس الذي وقع أول أمر الصيام . كما روى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال : أنزلت : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } ولم ينزل : { مِنَ الْفَجْرِ } وكان رجال إذا أرادوا والصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعده : { مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا إنما يعني الليل والنهار ، ورويا أيضاً . واللفظ لمسلم - عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } قال له عدي : يا رسول الله ! إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، أعرف الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار > .
قال ابن كثير : ومعنى قوله : إن وسادك لعريض أي : إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية ؛ فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب . . ! وجاء في بعض هذه الألفاظ : < إنك لعريض القفا > ففسره بعضهم بالبلادة - وهو ضعيف بل يرجع إلى هذا ؛ لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضاً عريض ، والله أعلم . انتهى .
وفي الإتيان بلفظ التفعّل في قوله تعالى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ } إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الواضح لا تباشير الضوء . وقد روى مسلم عن سَمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا > . وحكاه حماد بيديه ، قال : يعني معترضاً . وفي لفظ آخر عنه : < لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال : - حتى ينفجر الفجر > . وروى الإمام أحمد عن قيس بن طلق عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ليس الفجر المستطيل في الأفق ، ولكنه المعترض الأحمر > . ورواه الترمذي بلفظ : < كلوا واشربوا ولا يهدنكم [ في المطبوع : ولا يهيدنكم ] الساطع المصعد ، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر > . قال : وفي الباب عن عدي بن حاتم وأبي ذر وسمرة .
ثم قال : حديث طَلْق بن علي حديث حسن غريب من هذا الوجه . والعمل على هذا - عند أهل العلم - أنه لا يحرم على الصائم الأكل والشرب حتى يكون الفجر الأحمر المعترض ، وبه يقول أهل العلم . انتهى .
قال بعضهم : المراد بالأحمر : الأبيض ، كما فسر به حديث : < بعثت إلى الأحمر والأسود > . وقال شمر : سموا الأبيض أحمر تطيراً بالأبرص . حكاه عن أبي عَمْرو بن العلاء . ويظهر أنه لا حاجة إلى هذا ، فإن طلوع الفجر يصحبه حمرة . وفي " القاموس " الفجر : ضوء الصباح ، وهو حمرة الشمس في سواد الليل . فافهم .
وقال الحافظ عبد الرزاق في " مصنفه " : أخبرنا ابن جريج عن عطاء : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران : فأما الذي يسطع في السماء فليس يحلّ ولا يحرّم شيئاً ، لكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب . وقال عطاء : فأما إذا سطع سطوعاً في السماء - وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً - فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ، ولا يفوت به الحج . ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام ، وفات الحج .
قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء . وهكذا روي عن غير واحدٍ من السلف . رحمهم الله . انتهى .
{ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ } أي : صوم كل يوم : { إِلَى الَّليْلِ } أي : إلى ظهور الظلمة من قبل المشرق . وذلك بغروب الشمس . وكلمة إلى تفيد أن الإفطار عند غروب الشمس ، كما جاء في " الصحيحين " عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من ههنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم > .
قال ابن القيم : أي : أفطر حكماً وإن لم ينوه ، أو دخل في وقت فطره ، كما في : أصبح وأمسى .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجل الفطر ويحض عليه ، كما في " الصحيحين " : < لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر > . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < يقول الله عز وجل : إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً > . ورواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب . وعن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حساً حسوات من ماء . رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب . وروى الإمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : < يفعل ذلك النصارى ، ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا > .
ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة ، النهي عن الوصال . وهو : أن يصل يوماً بيوم ولا يأكل بينهما شيئاً . ففي " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا تواصلوا . . . ! > قالوا : إنك تواصل ، قال : < لست كأحدٍ منكم ، إني أطعم وأسقى - أو إني أبيت أطعم وأسقى > . قال الترمذي : وفي الباب عن علي ، وأبي هريرة ، وعائشة وابن عمر ، وجابر ، وأبي سعيد ، وبشير بن الخصاصية . أي : فالنهي عنه قد ثبت من غير وجه . نعم من أحب أن يواصل إلى السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر > قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال : < لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مُطعم يطعمني وساقٍ يسقيني > . أخرجاه في " الصحيحين " . والمراد بهذا الطعام والشراب : ما يغذيه الله به من المعارف ، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته ، وقرة عينه بقربه ، وتنعمه بحبه ، والشوق إليه ، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب ، ونعيم الأرواح ، وقرة العين ، وبهجة النفوس والروح والقلب ؛ بما هو أعظم غذاء ، وأجوده ، وأنفعه . وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان .
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه ، وتنعّم بقربه والرضاء عنه ، وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت . ومحبوبه حفيّ به ، معتزّ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام ، مع المحبة التامة له . أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ ! فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلّ منه ، ولا أعظم ، ولا أجمل ، ولا أكمل ، ولا أعظم إحساناً ، إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه ، وتمكّن حبه منه أعظم تمكّن ؟ وهذا حاله مع حبيبه .
أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً ؟ ولهذا قال : < إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني > . ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم - كما قال - لما كان صائماً ، فضلاً عن كونه مواصلاً . كذا في " زاد المعاد " .
وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة . وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة . والله أعلم .
قال ابن كثير : ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشادي من باب الشفقة . كما جاء في حديث عائشة : رحمة لهم . فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشّمون ذلك ويفعلونه ؛ لأنهم كانوا يجدون قوة عليه .
{ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره . فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه . وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسد جامع إن شاء . وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد : إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية . قال ابن أبي حاتم : روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ابن أنس ، ومقاتل قالوا : لا يقربها وهو معتكف .
قال ابن كثير : وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء : أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها ؛ فلا يحلّ له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك - من قضاء الغائط أو الأكل - وليس له أن يقبّل امرأته ، ولا أن يضمّها إليه ، ولا أن يشتغل بشيء سوى اعتكافه .
ثم قال ابن كثير : المراد بالمباشرة : الجماع ودواعيه : من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك . فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به . فقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه فأرجله وأنا حائض . وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإِنْسَاْن . وفي " الصحيحين " أيضاً : أن صفية أم المؤمنين كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد . فتتحدث عنده ساعة ثم ترجع إلى منزلها . فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى يبلغها دارها ، وذلك في الليل .
تنبيهان :
الأول : قال الراغب : ظاهر ذكر المساجد يقتضي جواز الاعتكاف في كل مسجد .
الثاني : في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشادٌ وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام . كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده . ثم إن حقيقة الاعتكاف : هو المكث في بيت الله تقرباً إليه . وهو من الشرائع القديمة .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف : لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً وعلى جمعيته على الله . ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى . فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى . وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ؛ مما يزيده شعثاً ، ويشتته في كل واد ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، أو يضعفه ، أو يعوقه ويوقفه - اقتضت رحمة العزيز الرحيم لعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيره إلى الله تعالى . وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه . ولا يضره ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة . وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه ؛ عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته . فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهمّ به كلّه ، والخطرات كلها بذكره . والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه . فيكون أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق . فيعدّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه . فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان . ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطراً قط . بل قد قالت عائشة : لا اعتكاف إلا بصوم . ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم . فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف ، أن الصوم شرط في الاعتكاف . وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية . وأما الكلام : فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة . وأما فضول المنام : فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو أفضل من السهر وأحمد عاقبة : وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ، ولا يعوق عن مصلحة العبد . ومدار أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة . وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي ، ولم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين . ثم قال :
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل . وتركه مرة فقضاه في شوال . واعتكف مرة - في العشر الأول ، ثم الأوسط ، ثم العشر الأخير - يلتمس ليلة القدر ، ثم تبن له أنها في العشر الأخير ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل . وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل . وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله . فأمر به مرة فضرب . فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت . فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية . فأمر بخبائه فقوّض . وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال . وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام . فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً . وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة . فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين ، ولم يباشر امرأة من نسائه - وهو معتكف - لا بقبلة ولا بغيرها . وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ، ووضع له سريره في معتكفه . وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض ، وهو على طريقه ، فلا يعرج له إلا سأل عنه . واعتكف مرة في قبة تركية . وجعل على سدتها حصيراً . كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه .
{ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } يعني : تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف : من تحريم الأكل والشرب والجماع . وشبه تلك الأحكام بالحدود الحاجزة بين الأشياء لكونها حاجزة بين الحق والباطل . فإن من عمل بها كان في حيز الحق ، ومن خالفها وقع في الباطل . ونهى عن قربها كيلا يداني الباطل ، فضلاً من أن يتخطى إليه . فالنهي عن مكان القرب من الحدود التي هي الأحكام ، كناية عن النهي عن قرب الباطل ؛ لكون الأول لازماً للثاني . وبذلك يحصل الجمع بين هذه الآية وآية : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ويندفع التنافي . وقوله : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } أبلغ من : { لا تَعْتَدُوهَا } لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق التصريح : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي : كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه - في هذا الموضع - يبين للناس ما شرعه لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } المحارم فيعرفون كيف يطيعون ويهتدون . كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحديد : 9 ] .
قال الرازي : والغرض من قوله تعالى : { كَذَلِكَ } إلخ تعظيم حال البيان ، وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان .
وفيه أيضاً تقرير للأحكام السابقة ، والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل التقوى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 188 ]
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، فجعل بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالأكل مال نفسه بالباطل ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] . وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ، بمعنى : لا يلمز بعضكم بعضاً ولا يقتل بعضكم بعضاً ؛ لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة . وكذلك تفعل العرب . تكني عن أنفسها بأخواتها ، وعن أخواتها بأنفسها ؛ لأن أخا الرجل عندها كنفسه . فتأويل الكلام : ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل . وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه .
و بينكم : إما طرف لـ " تأكلوا " بمعنى : لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل ، أو حال من الأموال أي : لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم . وبالباطل في موضع نصب بـ " تأكلوا " أي : لا تأخذوها بالسبب بالباطل - أي : الوجه الذي لم يبحه الله تعالى - ويجوز أن يكون حالاً من الأموال أي : لا تأكلوها متلبسة بالباطل . أو من الفاعل في تأكلوا أي : لا تأكلوها مبطلين ، أي : متلبسين بالباطل : { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } أي : تخاصموا بها - أي : بأموالهم - إلى الحكام ، مجزوم عطفاً على النهي . ويؤيده قراءة أبيّ : { ولا وَتُدْلُواْ } بإعادة لا الناهية والإدلاء : مأخوذ من إدلاء الدلو ، وهو : إرسالها في البئر للاستقاء ، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل توصلا إلى شيء . ومنه يقال للمحتج : أدلى بحجّته . كأنه يرسلها ليصير إلى مراده . كإدلاء المستقي للدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء . وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم : إذا كان منتسباً إليه ، فيطلب الميراث بتلك النسبة . فالباء صفة الإدلاء تجوزاً به عن الإلقاء كما ذكرنا . والمعنى : لا تلقوا أمرها - والحكومة فيها - إلى الحكام . أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش - وهو الواسطة الذي يمشي بينهما - رواه أهل السنن . وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت - أعني الرشوة المسماة : بالبرطيل وتسمى أحياناً : بالهدية وغيرها - احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان . ووليّ الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، هذا مقصود الولاية . وإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضدّ المقصود ، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك . وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين . والحكام : جمع حاكم ، وهو : منفذ الحكم بين الناس كالحكم ، محركة { لِتَأْكُلُواْ } أي : بواسطة حكمهم الفاسد والتحاكم إليهم : { فَرِيقاً } - أي : طائفة وقطعة - : { مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ } بما يوجب إثماً - كشهادة الزور واليمين الفاجرة ، وحكمهم الفاسد - فإنه لا يفيد الحل والظلم . فالباء للسببية . متعلقها لتأكلوا . وجوز كونها للمصاحبة . فالمجرور حال من فاعل لتأكلوا أي : متلبسين بالإثم : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : أنكم على الباطل وارتكاب المعصية - مع العلم بقبحها - أقبح ، وصاحبه أحق بالتوبيخ ، فالتقييد لكمال تقبيح حالهم .
قال الراغب : أي : إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم ، تنبيهاً على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه ، وما علمتم منه لا بما يظهر .
وقال ابن كثير في " تفسيره " : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام . وهو يعرف أن الحق عليه . وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام . وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ألا إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليحملها أو ليذرها > . فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر . فلا يحل في نفس الأمر حراماً هو حلال ، ولا يحرم باطلاً هو حلال . وإنما هو ملزم في الظاهر . فإن طابق في نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجره ، وعلى المحتال وزره . ولهذا قال تعالى في آخر الآية : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم . قال قتادة : اعلم يا بني آدم . . . ! أن قضاء القاضي لا يحل حراماً ، ولا يحق لك باطلاً ، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطئ ويصيب . واعلموا أن من قضى له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة . فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 189 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله ! لِمَ خلقت الأهلة ؟ فنزلت . وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم . قالا : يا رسول الله ! ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت .
ومعنى كونها : { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } : معالم لهم في حل دينهم ، ولصومهم ، ولفطرهم ، وأوقات حجهم ، وأجائرهم ، وأوقات الحيض ، وعدد نسائهم ، والشروط التي إلى أجل ، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصاً . ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية : أن الأحكام الشرعية - كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس . أما ما تعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم ، بالأهلة أو بشهور الفرس . فهذا حكم ، وذاك حكم آخر .
وقد ذكر تعالى هذا المعنى في آيات ، كقوله سبحانه : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب } [ يونس : 5 ] . وقوله : { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [ الإسراء : 12 ] . أي : من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب ؛ رحمة منه تعالى وفضلاً . وإفراد الحج بالذكر هنا تنويهاً بشأنه .
وقال القفال : نكتة إفراده : بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه . وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر ، كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء . والله أعلم .
والجمهور على فتح حاء الحج والحسن على كسرها في جميع القرآن . قال سيبويه : هما مصدران كالرد والذكر . وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم . والأهلة : جمع هلال . وجمعه باختلاف زمانه . وهو : غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع ، ثم يسمى قمراً ، وليلة البدر لأربع عشرة .
قال أبو العباس : سمي الهلال هلالاً : لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه ، وسمي بدراً : لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يجعلها المغيب . ويقال : سمي بدراً : لتمامه وامتلائه ، وكل شيء تم فهو بدر .
تنبيه :
الجواب على الرواية في سبب نزول الآية من الأسلوب الحكيم . وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب - بتنزيل سؤاله منزلة غيره ؛ تنبيهاً للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله أو المهم له . فلما سألوا عن السبب الفاعلي للتشكلات النورية في الهلال ، أجيبوا بما ترى من السبب الغائي ؛ تنبيهاً على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم ؛ لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها . فلو أجيبوا : بأن اختلاف تشكلات الهلال ، بقدر محاذاته للشمس ، فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف . ثم تزداد المحاذاة والاستنارة ، حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ . ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية ؛ لكان هذا الجواب اشتغالاً بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين ، ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر ، زاد ما زاد > . أخرجه الإمام أحمد . وأبو داود ، وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال علي رضي الله عنه : من طلب علم النجوم تكهّن . وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : < علم لا ينفع ، وجهل لا يضر > . والمقصود أن الجواب ، على الرواية الثانية من الأسلوب الحكيم ؛ إشعاراً بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه .
قال السكاكي في " المفتاح " : ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة ، إذ ما من مقتضى كلام ظاهري إلا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة . ترشد إليه تارة بالتصريح ، وتارة بالفحوى . ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كأسلوب الحكيم فيها ، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب كما قال :
~أنت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي
~فقلت كأني ما سمعت كلامها : هم الضيف جِدّي في قراهم وعجّلي
أو السائل بغير ما يتطلب كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ } الآية ، قالوا في السؤال : ما بال الهلال يبدوا دقيقاً . . . ! إلخ ؟ فأجيبوا بما ترى . وكما قال : { يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابْنِ السّبِيْل } [ البقرة : 215 ] . سألوا عن بيان ما ينفقون ، فأجيبوا ببيان المصرف . ينزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤالٍ غير سؤاله ، لتوخّي التنبيه له بألطف وجه على تعديه عن موضع سؤالٍ هو أليق بحاله أن يسأله عنه ، أو أهمّ له إذا تأمل ، وأن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ؛ وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجي ، وسلّ سخيمته ، حتى آثر أن يحسن ، على أن يسيء ؛ غير أن سَحَره بهذا الأسلوب ؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله " لأحملنك على الأدهم ! " فقال متغابياً : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ! مبرزاً وعيده في معرض الوعد ، متوصلاً أن يريه بألطف وجه : أن أمرأً مثله - في مسند الإمرة المطاعة - خليقٌ بأن يُصفِد لا أن يَصفِد ، وأن يعد [ في المطبوع : بعد ] لا أن يوعد .
{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
قال الراغب في " تفسيره " : الباب معروف . وعنه استعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها . وقيل في العلم : باب كذا . وقد سئل عليه السلام عن زيادة القمر ونقصانه ، فأنزل الله هذه الآية تنبيهاً على أظهر فائدته للحس ، وأبينها له . ثم قال : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } أي : بأن تطلبا الأمر من غير وجهه . وذلك أنه يقال : أتى فلان البيت من بابه - إذا طلب ا لشيء من وجهه . وقال الشاعر :
~أتيت المروءة من بابها
وأتى البيت من ظهره : إذا طلب الأمر من غير وجهه . وجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة . وإن ذلك عدولٌ عن المنهج ، وذلك أن العلوم ضربان :
دنيوي : يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع . ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن ، والنبات ، وطبائع الحيوانات ، وقد جعل لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان نبيه عليه السلام .
وشريعة : وهو البر : ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته وهو أحكام التقوى...
فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ، عما أمكنهم معرفته من غير جهته ، أجابهم ، ثم بين لهم أنه ليس البر ترك المنهج في السؤال من النبي ما ليس مختصاً بعلم نبوته . ولكن البر هو مجرد التقوى . وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : المراد من هذه الآية ، ما كانوا يعملونه من النسيء . فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له . فيحرمون الحلال ويحللون الحرام . فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلٌ لمخالفة الواجب في الحج وشهوره .
وأما ما رواه البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء رضي الله عنه يقول : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها . فجاء رجلٌ من الأنصار فدخل من قبل بابه ، فكأنه عيِّرَ بذلك ، فنزلت : { وَلَيْسَ الْبِرُّ } الآية ، فالمراد من نزولها في ذلك ، صدقها عليه حسبما رآه لا أنّ ذلك كان سبب نزولها . كما بينا مراراً معنى قولهم : نزلت الآية في كذا .
وقد أشار لهذا الراغب - بعد حكايته هذه الرواية ، وما قاله أبو مسلم - بقوله : وكل ذلك لا يدفع أن تتناوله الآية ، لكنّ الأليق أن تؤول الآية بما تقدم ذكره من أن معنى : { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } أي : تحروا في كل عمل إتيان الشيء من وجهه ، تنبيهاً على أن ما يطلب من غير وجهه صعب تناوله . ثم قال : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } حثاً لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه . وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [ 190 ]
.
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } المقاتلة في سبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين . وفي قوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله . أي : كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم . كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة } [ التوبة : 36 ] { وَلاَ تَعْتَدُواْ } أي : بابتداء القتال . أو بقتال من نهيتم عن قتاله ، من النساء ، والشيوخ ، والصبيان ، وأصحاب الصوامع ، والذين بينكم وبينهم عهد . أو بالمثلة ، أو بالمفاجأة من غير دعوة { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } أي : المتجاوزين حكمه في هذا وغيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ 191 ]
.
{ وَاقْتُلُوهُمْ } أي : الذين يقاتلونكم : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي : وجدتموهم : { وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : من مكة . فإن قريشاً أخرجوا المسلمين منها . والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } أي : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإِنْسَاْن يتعذب به أشد عليه من القتل . أي : إن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم - بالتعذيب ، والإخراج من الوطن ، والمصادرة في المال - أشد قبحاً من القتل فيه . إذ لا بلاء على الإِنْسَاْن أشد من إيذائه على اعتقاده الذي تمكّن من عقله ونفسه . ورآه سعادة له في عاقبة أمره . فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في مثل الحرم ، وإعلام بأن القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين ، لأن الفتنة أشد من القتل : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } لأن حرمته لذاته . وحرمة سائر الحرم من أجله . وهذا بمثابة الاستثناء من قوله تعالى : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ } أي : فيه فلا تفتقرون إلى الفرار عن الحرم : { فَاقْتُلُوهُمْ } فيه ، إذ لا حرمة لهم لهتكهم حرمة المسجد الحرام : { كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } لا يترك لهم حرمة كما لم يتركوا حرمة الله في آياته .
تنبيه :
دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم ، إذا بدأوا بالقتال فيه ، دفعاً لصوتهم ، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لما تألَّب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ . ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] . وقال صلى الله عليه وسلم لخالد ومن معه يوم الفتح : < إن عرض لكم أحدٌ من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا > . . . فما عرض لهم أحد إلا أناموه ، وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلاً . كما في السيرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 192 ]
.
{ فَإِنِ انتَهَوْاْ } أي : عن القتال : { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : فكفّوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم تخلقاً بصفتي الحق تعالى المذكورتين وهما : المغفرة والرحمة ، هذا ظاهر المساق .
وقال بعضهم : { فَإِنِ انتَهَواْ } أي : عن الشرك والقتال : { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لما سلف من طغيانهم : { رَّحِيمٌ } بقبول توبتهم وإيمانهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ 193 ]
{ وَقَاتِلُوهُمْ } أي : هؤلاء الذين نسبناهم إلى قتالكم وإخراجكم وفتنكم : { حَتَّى لاَ تَكُونَ } - أي : لا توجد في الحرم - : { فِتْنَةٌ } أي : تقوٍّ بسببه يفتنون الناس عن دينهم ، ويمنعونهم [ في المطبوع : ويمنعونم ] من إظهاره والدعوة إليه : { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } خالصاً أي : لا يعبد دونه شيء في الحرام ، ولا يخشى فيه غيره ، فلا يفتن أحد في دينه ، ولا يؤذى لأجله .
وفي " الصحيحين " عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله > .
{ فَإِنِ انتَهَواْ } عن قتالكم في الحرم : { فَلاَ عُدْوَانَ } فلا سبيل لكم بالقتل : { إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } المبتدئين بالقتل .
وروى البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس قد ضُيِّعوا ، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . . ! قالا : ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله .
ثم ساق البخاري رواية أخرى وفيها : قال ابن عمر : فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الرجل يفتن في دينه ، إمّا قتلوه وإمّا يعذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ 194 ]
.
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } إيذان بأن بمراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته ، وإن من هتكها اقتصّ منه ، فهتك حرمته بهتكهم حرمته . فكما يقاتلون عند المسجد الحرام - إذا قاتلوا فيه - يقاتلون في الشهر الحرام إذا قاتلوا فيه .
وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغزى - أو يُغزوا - فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ . ولهذا لما سار صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، سنة ست معتمراً ، وخيّم بالحديبية ، وبلغه أن عثمان قتل - وكان بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين . فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان . وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصّن فَلُّهم بالطائف عدل إليها فحاصرها ، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق . واستمر عليها إلى كمال أربعين يوماً . كما ثبت في " الصحيحين " عن أنس . فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ، ولم تفتح . ثم كرّ راجعاً إلى مكة ، واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين ، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً عام ثمان .
{ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أي : متساوية ، فلا يفضل شهر حرام على آخر ، بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونه ، على أنا لا نهتك حرمة الشهر والمسجد الحرام والحرم ، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدها - قاله المهايمي .
والحرمات : جمع حرمة ، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك . والقصاص : المساواة . والكلام على حذف المضاف . أي : ذوات قصاص ، أو المصدر بمعنى المفعول ، أي : مقاصة ، أو الحمل بطريق المبالغة { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } أمر بالعدل حتى في المشركين ، كما قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . وقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } في هتك حرمة الشهر والمسجد والحرم بدون هتكهم ، وفي زيادة الاعتداء : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : بالمعونة والنصر والحفظ والتأييد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 195 ]
{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات . ومن أهمها : صرف الأموال في قتال الأعداء ، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } أي : ما يؤدي إلى الهلاك أي : لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك ، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته ، جهلاً به .
وقال الراغب : وللآية تأويلان بنظرين :
أحدهما : إنه نهي عن الإسراف في الإنفاق ، وعن التهور في الإقدام .
والثاني : إنه نهي عن البخل بالمال ، وعن القعود عن الجهاد . وكلا المعنيين يراد بها . فالإِنْسَاْن ، كما أنه منهي عن الإسراف في الإنفاق ، والتهور في الإقدام ، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد ، ولهذا قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } [ الفرقان : 67 ] الآية ، وقال : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] الآية .
ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال ، لتجرد المهاجرين عنها ، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاري ، رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه وغيرهم . . . ولفظ الترمذي : عن أسلم أبي عِمْرَان قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر . وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فَضَالة بن عبيد . فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة . فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . لما أعز الله الإسلام ، وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم - : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يردّ علينا ما قلنا : { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها ، وتركنا الغزو . فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم ، هذا حديث حسن غريب صحيح .
أقول : إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب ، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال . أي : في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها . وهذا هو الظاهر . وإلا فاللفظ يقتضي العموم ، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك . ولا شبهة أن التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام .
وقد استشهد بعموم الآية عَمْرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده : أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق . فانطلق رجل من أزد نشوءة ، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص ، فأرسل إليه عَمْرو فرده . وقال عَمْرو : قال الله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
وقد روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها ابن كثير وهي - والله أعلم - من باب صدق عمومها على ما رووه .
تنبيه :
قال الحاكم : تدل الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خيف على النفس ، وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف ، لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة . وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين . كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية . وكما فعله أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بصفين . وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية . وتدل أيضاً على جواز مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا خشي التهلكة . ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عُبَاْدَة ، فأشارا بترك ذلك . وهو لا يعزم إلا على ما يجوز .
لطيفة :
الإلقاء لغة : طرح الشيء ، عُدِّي بإلى لتضمن معنى الانتهاء ، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي . والمراد بالأيدي : الأنفس ، فذكر الجزء وإرادة الكل لمزيد اختصاص لها باليد . بناء على أن أكثر ظهور أفعال النفس بها . والتهلكة والهلاك والهلك واحد . فهي مصدر . أي : لا توقعوا أنفسكم في الهلاك .
والتهلكة بضم اللام . قال الخارزنجي : لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة - بضم العين - إلا هذا .
وقال اليزيدي : هو من نوادر المصادر . ولا يجري على القياس .
قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما . على أنها مصدر من هلك . فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار في الجوار هذا ما ذكروه .
قال الفخر الرازي - ولله دره - بعد نقله نحو ما سبق : وإني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية . فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى ، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة - أولى أن يدلّ على صحة هذه اللفظة واستقامتها .
{ وَأَحْسِنُوَاْ } أي : تحرّوا فعل الإحسان ، أي : الإتيان بكل ما هو حسن ، ومن أجلِّه الإنفاق . وقوله : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } قال الراغب : نبّه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 196 ]
.
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } أي : أدوهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله تعالى .
قال الراغب : قيل : { أَتِمُّواْ } خطاب لمن خرج حاجاً أو معتمراً ، فأمر أن لا يصرف وجهه حتى يتمهما . وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ، واحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل فيها الإِنْسَاْن متنفلاً ، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها . وقيل : إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة . وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإكمال شرائطها ، وعلى هذا قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [ البقرة : 187 ] وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله واحتج به في وجوب العمرة . وإنما قال في الحج والعمرة : { لله } ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة ؛ من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم ، فخصهما بالذكر لله تعالى حثاً على الإخلاص فيهما ، ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور .
{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي : حبسكم عدو عن إتمام الحجج أو العمرة وأردتم التحلل : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : فعليكم ، أو فالواجب ، أو فأهدوا ما استيسر ؛ يقال : يسُر الأمر واستيسر ، كما يقال : صعب واستصعب . والهدي بتخفيف الياء وتشديدها : جمع هدْية وهديّة ، وهو : ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقرباً به إلى الله . قال ثعلب : الهدي بالتخفيف ، لغة أهل الحجاز . والتثقيل على فعيل ، لغة بني تميم ، وسفلى قيس . وقد قرئ بالوجهين جميعاً في الآية . وشاهد الهديّ مثقلاً من كلامهم قول الفرزدق :
~حَلَفتُ بربِّ مكة والمصَلَّى وَأَعنَاقِ الهديِّ مقلّدَاتِ
وشاهد الهدية كذلك ، قول ساعدة بن جؤيّة :
~إني وأيديهم وكل هدية مما تثج له ترائب تثعب .
وأعلى الهدي بدنة ، وأدناه شاة . والمعنى : أن المحرم إذا أُحصر وأراد أن يتحلل ، تحلل بذبح هدي تيسر عليه : من بدنة أو بقرة أو شاة .
تنبيه :
قال الراغب : ظاهر قوله تعالى : { أُحْصِرْتُمْ } أنه لا فرق فيه بين أن يحصر بمكة أو بغيرها ، وبعد عرفة أو قبلها . وكذلك لا فرق في الظاهر بين أن يحصره عدو مسلم أو غيره . وظاهره يقتضي أنه لا فصل بين إحصار العدو وإحصار المرض . لولا أن الآية نزلت في سبب العدو فلا يجوز أن تتعدى إلا بدلالة . ولأن قوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } يدل على أن ا لمراد بالإحصار هو بالعدو .
وقد يقال : العبرة في أمثاله بعمومه ، كما ذهب إليه ثلة من السلف . فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل أنهم قالوا : الإحصار من عدو أو مرض أو كسر . وقال الثوري : الإحصار من كل شيء أذاه .
وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت : يا رسول الله ! إني أريد الحج وأنا شاكية . فقال : < حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني > . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله .
ومن دلالة الآية ما قاله الراغب : إن ظاهرها يقتضي أن لا قضاء على المحصر ؛ لأنه قال : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } واقتصر عليه .
{ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } أي : الموضع الذي يحلّ فيه نحره ، وهو مكانه الذي يستقر فيه . يعني : موضع الإحصار . وبلوغه إياه كناية عن ذبحه فيه ، واستعمال بلوغ الشيء محله في وصوله إلى ما يقصد منه - شائع . ولما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية ، وحصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم بها ولم يبعثوا به إلى الحرم .
وقد ساق الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " بعض ما في قصة الحديبية من القواعد الفقهية في فصل قال فيه : ومنها أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحلّ أو الحرم ، وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه ، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله ، بدليل قوله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] . ومنها : أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم ، لأن الحرم كله محل الهدي .
وقال الإمام مالك في " الموطأ " : من حبس بعدوّ فجال بينه وبين البيت ، فإنه يحل من كل شيء وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء .
قال : فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو ، كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } أي : فمن كان منكم - معشر المحرمين - مريضاً مرضاً يتضرر معه بالشعر ويحوجه إلى الحلق ، أو كان به أذى من رأسه - كجراحة وقمل - فعليه إن حلق ، فدية من صيام أو صدقة أو نسك . وقد نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري رضي الله عنه قال : حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : < ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا . . ! أما تجد شاة ؟ > قلت : لا ! قال : < صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك > . فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة ، رواه الشيخان وغيرهما ، واللفظ للبخاري . وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون ، وقد حصرنا المشركون ، وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تساقط على وجهي . فمرّ علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : < أيؤذيك هوام رأسك ؟ > قلت : نعم . فأمره أن يحلق . قال : ونزلت هذه الآية . قال ابن عباس : إذا كان " أو أو " فأيّة أخذت أجزأ عنك . وعامة العلماء : أنه يخيّر في هذا المقام : إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق - وهو ثلاثة أصع ، لكل مسكين نصف صاع وهو مدان - وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء ، أي : ذلك فعل أجزأه . ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة ، جاء بالأسهل فالأسهل . ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة ، بذلك أرشده أولاً إلى الأفضل ، فقال : < أما تجد شاة ؟ > فكل حسن في مقامه ، ولله الحمد والمنة . أفاده ابن كثير .
تنبيه :
استفيد من الآية أحكام :
الأول : جواز الحلق من المحرم واللبس للمخيط للضرورة ، ووجوب الفدية عليه ، وذلك لبيان سبب النزول .
الثاني : تحريم الحلق ولبس المخيط لغير عذر ، وهذا مأخوذ من المفهوم ؛ لأنه مصرح به ، وذلك إجماع .
الثالث : أن الفدية الواجبة تكون من أجناس الثلاثة ، وهي : الصيام أو الصدقة ، أو النسك ، وقد ورد بيانها في حديث كعب .
الرابع : أن الفدية واجبة على التخيير كما بيَّنا .
قال الراغب : وظاهر الآية يقتضي أنه لا فرق بين قليل الشعر وكثيره ، بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله ، حيث لم يلزم إلا بحلق الثلث . وغيره لم يلزم إلا بحلق الربع .
لطيفة :
أصل النسك العبادة ، وسميت ذبيحة الأنعام نسكاً ؛ لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى .
قال أبو البقاء : والنسك - في الأصل - مصدر بمعنى المفعول ؛ لأنه من نسك ينسك ، والمراد به ههنا المنسوك ، ويجوز أن يكون اسماً لا مصدراً ، ويجوز تسكين السين . انتهى .
{ فَإِذَا أَمِنتُمْ } أي : كنتم آمنين من أول الأمر ، أو صرتم بعد الإحصار آمنين : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ } أي : بإحرامه بها في أشهر الحج ليستفيد الحلّ حين وصوله إلى البيت ، ويستمر حلالاً في سفره ذلك : { إِلَى الْحَجِّ } أي : إلى وقت الإحرام بالحج : { فَمَا } أي : فعليه ما : { اسْتَيْسَرَ } أي : تيسّر : { مِنَ الْهَدْيِ } من النعم ، يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل .
وفي " النهاية " صورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فإذا أحرم بالعمرة بعد إهلاله شوالاً فقد صار متمتعاً بالعمرة إلى الحج وسمي به ؛ لأنه إذا قدم مكة ، وطاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة . حل من عمرته وحلق رأسه ، وذبح نسكه الواجب عليه لتمتعه ، وحل له كل شيء كان حرم عليه في إحرامه من النساء والطيب ، ثم ينشئ بعد ذلك إحراماً جديداً للحج وقت نهوضه إلى منى ، أو قبل ذلك ، من غير أن يجب عليه الرجوع إلى الميقات الذي أنشأ منه عمرته ، فذلك تمتعه بالعمرة إلى الحج ، أي : انتفاعه وتبلغه بما انتفع به من حلق ، وطيب ، وتنظف ، وقضاء تفث ، وإلمامٍ بأهله إن كانت معه .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذبح هدي العمرة عند المروة ، وهدي القران بمنى . وكذلك كان ابن عمر يفعل . ولم ينحر صلى الله عليه وسلم قط إلا بعد أن حل ، ولم ينحره قبل يوم النحر ولا أحد من الصحابة البتة .
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أي : بعد الإحرام وقبل الفراغ من أعماله ، والأولى سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه .
قال الراغب إن قيل : كيف قال : { فِي الْحَجِّ } ومتى أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج لأنه منهيّ عنه في يوم النحر وأيام التشريق ؟ ! قيل : الواجب على المتمتع أن يحرم بالحج على وجه يمكنه الإتيان بالصيام لثلاثة أيام . وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة . وقد قال ابن عمر وعائشة : يصوم أيام التشريق ، ويحملان النهي على صوم أيام منى على غير المتمتع .
{ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي : إلى أهليكم ، أو إذا أخذتم في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج .
قال الراغب : وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعاً ، فيصح حمله عليهما .
إلا أن الذي يرجع الوجه الأول ما روي في الصحيحين من حديث بن عُمَر الطويل وفيه : < فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله > .
{ تِلْكَ عَشَرَةٌ } فذلك حساب ، أي : إجمال بعد تفصيل ، وفائدتها : أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو وأن الكلام على التخيير . بل المجموع بدل الهدي . . ! وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ، فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم ، وفي المثل : علمان خير من علم . فإن أكثر العرب لا يعرف الحساب . فاللائق الخطاب الذي يفهمه الخاص والعام . وهو ما يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام...
وفائدة ثالثة : وهو أن المراد بالسبعة : هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما...
وفائدة رابعة : أشار لها الراغب وهو :
إن قوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } استطراد في الكلام ، وتنبيه على فضيلة علم العدد ، ولذا قيل : العدد أول العلوم وأشرفها . أما أنه أول ، فلأن ما عداه معدول منه ، وبه يفصل ويميز . وأما كونه أشرف ، فلأنه لا اختلاف فيه ولا تغير ، بل هو لازم طريقة واحدة ، فذكر العشرة ووصفها بالكاملة ؛ إذ هي عدد كمل فيه خواص الأعداد ، فإن الواحد مبدأ العدد ، والاثنين أول العدد ، والثلاثة أول عدد فرد ، والأربعة أول عدد زوج محدود - أي : مجتمع من ضرب عدد في نفسه - والخمسة أول عدد دائر ، والستة أول عدد نام - أي : إذا أخذ جميع أجزائه لم يزد عليه ولم ينقص منه - والسبعة أول عدد أول - أي : لا يتقدمه عدد بعده - والثمانية أول عدد زوج الزوج - والتسعة أول عدد مثلث ، والعشرة أول عدد ينتهي إليه العدد ؛ لأن ما بعده يكون مكرراً بما قبله ، فإذن العشرة هي العدد الكامل...
{ كَامِلَةٌ } صفة مؤكدة لعشرة تفيد المبالغة في المحافظة على العدد ، ففيه زيادة توصية لصيامها ، وأن لا يتهاون بها ، ولا ينقص من عددها ، كأنها قيل : تلك عشرة كاملة ، فراعوا كمالها ولا تنقصوها { ذَلِكَ } أي : وجوب دم التمتع أو بدله لمن لم يجد : { ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : بل كان أهلله على مسافة الغيبة منه . وأما من كان أهله حاضريه - بأن يكون ساكناً في مكة - فهو في حكم القرب من الله ، فالله تعالى يجبره بفضله .
هذا ، وقال بعض المجتهدين : إن ذلك إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله : { فَمَنْ تَمَتَّعَ } وليست للهدي والصوم ، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده .
وروى ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ! لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم وادياً أو قال : يجعل بينه وبين الحرم وادياً - ثم يهل بعمرة . . !
وروى عبد الرزاق عن طاووس قال : المتعة للناس لا لأهل مكة . ثم قال وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاووس ، والله أعلم .
والأهل : سكن المرء من زوج ومستوطن . والحضور : ملازمة الموطن .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } - في الجناية على إحرامه - : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن جنى على إحرامه أكثر من شدة الملوك على من أساء الأدب بحضرته . وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة .
تنبيهات :
الأول : في قوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ } الآية ، دليل على مشروعية التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عِمْرَان بن حصين قال : أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء .
وروى مالك في " الموطأ " عن عبد الله عن عمر أنه قال : والله ! لأن اعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة . . ! .
وفي الصحيحين : < لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عَمْرة > . يعني كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره .
الثاني : قال ابن القيم في " زاد ا لمعاد " : قد أثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة :
منها : أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه ، ومحال أن ينقله من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه .
ومنها : أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله : < لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها متعة > .
ومنها : أنه أمر به كل من لم يسق الهدي .
ومنها : أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه ، القران ممن ساق الهدي ، والتمتع لمن لم يسق الهدي . ولوجوه كثيرة غير هذه . . ! .
الثالث : قال الراغب لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلا بأربع شرائط :
إيقاع العمرة في أشهر الحج والتحلل منها فيه .
والثاني : أن يثني الحج من سنته .
والثالث : أن لا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحج .
الرابع : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [ 197 ]
.
{ الْحَجُّ } أي : أوقات أعمال { أَشْهُرٌ } وهي : شوال وذو القعدة وذو الحجة . أي : عشره الأول . نزل منزلة الكل لغاية فضله .
قال الثعالبي : وقد جاء في تفسير أشهر الحج وعشر ذي الحجة - وفي بعضها تسع - فمن عبر بالتسع أراد الأيام ، ومن عبر بالعشر أراد الليالي ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : < الحج عرفة > . وقد تبينت أنه يفوت الوقوف بطلوع الفجر .
وقوله : { مَعْلُومَاتٌ } أي : قبل نزول الشرع عند الناس ، لا يشكلن عليهم . وآذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه : { فَمَن فَرَضَ } أي : أوجب على نفسه : { فِيهِنَّ الْحَجَّ } بإحرامه : { فَلاَ رَفَثَ } أي : فمقتضى إحرامه أن لا يوجد جماع ولا مقدماته ولا فحش من القول : { وَلاَ فُسُوقَ } أي : خروج عن حدود الشريعة بارتكاب محظورات الإحرام ، وغيرها كالسباب والتنابز بالألقاب : { وَلاَ جِدَالَ } أي : مماراة أحد من الرفقة والخدم والمكارين : { فِي الْحَجِّ } أي : في أيامه ، بل ينبغي أن يوجد فيها كل خير من خيرات الحج ، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه ، والإشعار بعلة عدم الحكم ؛ فإن زيارة البيت المعظم ، والتقرب بها إلى الله عز وجل ، من موجبات ترك الأمور المذكورة ، وإيثار النفي للمبالغة في النهي ؛ والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يكون ، فإن ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه ، ففي تضاعيف الحج أقبح : كلبس الحرير في الصلاة .
لطيفة :
قال بعضهم : النكتة في منع هذه الأشياء على أنها آداب لسانية : تعظيم شأن الحرم ، وتغليظ أمر الإثم فيه ، إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع الأهل . ويقال في مجلس الإخوان ما لا يقال في مجلس السلطان . ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع الله تعالى على أكمل الآداب ، وأفضل الأحوال ، وناهيك بالحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه . . ! وأما السر فيها على أنها محرمات الإحرام ، فهو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى ، قاصدٌ له ، فيتجرد عن عاداته ونعيمه ، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره ، بحيث يساوي الغني الفقير ، ويماثل الصعلوك الأمير ، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات ، وفي ذلك - من تصفية النفس ، وتهذيبها ، وإشعارها بحقيقة العبودية لله ، والأخوة للناس - ما لا يقدر قدره ، وإن كان لا يخفى أمره...
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ } حث على الخير عقيب النهي عن الشر ، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البر والتقوى ، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة . . ! وقد روي فيمن حج ولم يرفث ولم يفسق أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ! وذلك ، لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة ، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع ، يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها . ويدخلها في حياة جديدة : لها فيها ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت . . ! : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } وروى البخاري عن عِكْرِمَة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون ! فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
أي : وتزودوا ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم عن الناس ، واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } : أي : الاتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم . . ! .
وقال ابن عمر : إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر . وكان يشترط على من صحبه الجودة . . نقله ابن كثير .
ويقال : في معنى الآية : وتزودوا من التقوى للمعاد . فإن الإِنْسَاْن لا بد له من سفر في الدنيا ، ولا بد فيه من زاد ، ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب ؛ وسفر من الدنيا إلى الآخرة ، ولا بد فيه من زاد أيضاً وهو تقوى الله ، والعمل بطاعته ، واتقاء المحظورات . . ! وهذا الزاد أفضل من الزاد الأولى ، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها ، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة . . ! وفي هذا المعنى قال الأعشى :
~إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت مَن قد تزودا
~ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم تُرصِد لما كان أرصدا . . !
وثمة وجه آخر : وهو أن قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا } أمر باتخاذ الزاد ، هو طعام السفر ، وقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } إرشاد إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها بعد الأمر بالزاد للسفر في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] ، لما ذكر اللباس الحسي منه مرشداً إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة ، وذكر أنه خير من هذا وأنفع .
{ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } أي : اتقوا عقابي وعذابي في مخالفتي وعصياني يا ذوي العقول والأفهام ! فإن قضية اللب تقوى الله ، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لبّ له . . ! كما قال تعالى : { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ } [ الأعراف : 179 ] .
وقد قرئ بإثبات الياء في : { اتَّقُونِ } على الأصل ، وبحذفها للتخفيف ودلالة الكسرة عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [ 198 ]
.
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } قال الراغب : كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج ، حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر ، وحتى سموا من تولى متجراً في الحج : الداج دون الحاج ؛ فأباح الله ذلك ، وعلى إباحة ذلك ، دل قوله : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } - إلى قوله - : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [ الحج : 27 ] ، وقوله : { وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [ المزمل : 20 ] .
وقد روى البخاري عن ابن عباس قال : كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج .
ففي الآية الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق - وهو المراد بالفضل هنا - ومنه قوله تعالى : { فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] . أي : لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحج رزقاً ونفعاً وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج . . ! : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } - أي : دفعتم منها - : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } أي : بالتلبية ، والتهليل ، والتكبير ، والثناء والدعوات و " المشعر الحرام " : موضع بالمزدلفة . ميمه مفتوحة وقد تكسر ، وقد وهم من ظنه جبيلا بها . سمي به لأنه معلم للعبادة وموضع لها - كذا في القاموس وشرحه .
ونقل الفخر عن الواحدي في " البسيط " : إن المشعر الحرام هو المزدلفة . سماها الله تعالى بذلك ، لأن الصلاة والمقام والمبيت به ، والدعاء عنده . واستقر به الفخر قال : لأن الفاء في قوله : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } إلخ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة . انتهى .
قال البيضاوي : ويؤيد الأول ما روى جابر : أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة بغلس - ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام . أي : فإنه يدل على تغاير المزدلفة ، والمشعر الحرام لمكان مسيره صلى الله عليه وسلم منها إلى المشعر الحرام ! وإنما قال : يؤيد لأنه يجوز أن يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل ، إما بحذف المضاف ، أو بتسمية الجزء باسم الكل - أفاده السيلكوتي .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في سياق حجته صلى الله عليه وسلم : فلما غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين ، ثم جعل يسير العنق - وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء - فإذا وجد فجوة - وهو المتسع - نص سيره - أي : رفعه فوق ذلك - وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية ، حتى أتى المزدلفة فتوضأ ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذّن ، ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال ؛ فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ، ولم يصلّ بينهما شيئاً ، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت ، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جداً ، وذلك قبل طلوع الشمس . انتهى المقصود منه .
قال بعض الأئمة : ما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجباً أو نسكاً لأنه مع كونه مفعولاً له صلى الله عليه وسلم ، ومندرجاً تحت قوله : < خذوا عني مناسككم > فيه أيضاً النص القرآني بصيغة الأمر { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } .
{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } بدلائل الكتاب ، أي : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة ! فمفاد التشبيه : التسوية في الحسن والكمال ، كما تقول : اخدمه كما أكرمك ، يعني : لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه . وفيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج ! : { وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ } أي : من قبل الهدى : { لَمِنَ الضَّآلِّينَ } الجاهلين بالإيمان والطاعة . و " إن " هي المخففة ، و " اللام " هي الفارقة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 199 ]
.
{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي : من عرفة لا من المزدلفة . وفي الخطاب وجهان :
أحدهما : أنه لقريش . وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم ، وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف ، وقولهم : نحن أهل الله ، وقطّان حرمه ، فلا نخرج منه . فيقفون بجمع ، وسائر الناس بعرفات .
وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنه قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ؛ فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ، ثم يقف بها ، ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } .
وثانيهما : أنه أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس يعني : إبراهيم عليه السلام .
قال الراغب : وسماه الناس لأن " الناس " يستعمل على ضربين : أحدهما : للنوع من غير اعتبار مدح وذم ، والثاني : المدح اعتباراً بوجود تمام الصورة المختصة بالإِنْسَاْنية ، وليس ذلك في هذه اللفظة ، بل في اسم كل جنس ونوع - نحوه : هذه فرس ، وفلان رجل ، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل - أي : ليس فيه معناه المختص بنوعه ، وبهذا النظر نفي السمع والبصر عن الكفار ! فعلى هذا سمي إبراهيم " الناس " على سبيل المدح - وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً على أنه يقوم مقامهم في الحكم - وعلى هذا قول الشاعر :
~وليس على الله بمستنكرٍ أن يجمع العالم في واحد
وعلى هذا قال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
فإن قيل : ما معنى كلمة ثم فإنها تستلزم تراخي الشيء عن نفسه ، سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط . . ؟
فالجواب : إن كلمة ثم ليست للتراخي ، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين - أي : الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- والبعد بينهما بأن أحدهما صواب والآخر خطأ .
قال التفتازاني : لما كان المقصود من قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } المعنى التعريضي ، كان معناه : ثم لا تفيضوا من مزدلفة ، والمقصود من إيراد كلمة ثم التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأنّ أحدهما صواب والأخرى خطأ .
وأجاب بعضهم بأن ثم بمعنى الواو .
{ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ } عما سلف من المعاصي : { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال ابن كثير عليه الرحمة : كثيراً ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات . ولهذا ثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثاً وثلاثين ، وفي الصحيحين : أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين . وقد روى ابن جرير ههنا حديث عباس بن مرداس السلمي في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ 200 ]
.
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ } أي : فرغتم من أعمال الحج ونفرتم : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } أي : فأكثروا ذكر الله ، وابذلوا جهدكم ي الثناء عليه ، وشرح آلائه ونعمائه ، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم بعد قضاء مناسككم . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات . . ! ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم ، فأنزل هذه الآية . وفيها إشعار بتحويل القوم عما اعتادوه ، وحثّ على إفراد ذكره جل شأنه .
ثم أرشد تعالى إلى دعائه - بعد كثرة ذكره - فإنه مظنة الإجابة ، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض على أخراه ، فقال : { فَمِنَ النَّاسِ } أي : الذين نسوا قدر الآخرة وكانت الدنيا أكبر همّهم : { مَن يَقُولُ } أي : في ذكره : { رَبَّنَا آتِنَا } أي : مرغوباتنا : { فِي الدُّنْيَا } لا نطلب غيرها : { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي : نصيب وحظ لأنه استوفى نصيبه في الدنيا بتخصيص دعائه به . فالجملة إخبار منه تعالى ببيان حاله في الآخرة ؛ أو المعنى : ما له في الآخرة من طلب خلاق . فهو بيان لحاله في الدنيا ، وتصريح بما علم ضمناً من قوله : { آتِنَا فِي الدُّنْيَا } ؛ أو تأكيد لكون همّه مقصوراً على الدنيا . وقوله : { فِي الآخِرَةِ } حينئذ متعلق بـ : { خَلاَقٍ } حال منه ، وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك .
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم ! اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن . . ! لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً . فنزل فيهم ذلك .
وهؤلاء الذين حكى الله عنهم - أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا - قال قوم : هم مشركو العرب . وكونهم لا خلاق لهم في الآخرة ظاهر ؛ إذ لا نصيب لهم فيها من كرامةٍ ونعيم وثواب . وقال قوم : هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم ، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب ، حيث سألوا الله تعالى - في أعظم المواقف وأشرف المشاهد - حطام الدنيا وعرضها الفاني ، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة . . ! ومعنى كونهم لا خلاق لهم في الآخرة ، أي : إلا أن يتوبوا ، أو إلا أن يعفو الله عنه ، أو لا خلاق له في الآخرة ، كخلاق من سأل المولى لآخرته ، والله أعلم . كذا يستفاد من الرازي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ 201 ]
.
{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا والآخرة ، وصرفت كل شر ، فإن الحسنة في الدنيا . تشمل كل مطلوب دنيوي - من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلمٍ نافع ، وعمل ٍ صالح ، ومركب هين ، وثناء جميل . . . إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين - ولا منافاة بينها - فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا . وأما الحسنة في الآخرة : فأعلى ذلك رضوان الله تعالى ودخول الجنة ، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصَات ، وتيسير الحساب . . . وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة . وأما النجاة من النار : فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام ، وترك الشبهات والحرام .
وقد ورد في السنة الترغيب في هذا الدعاء ، فقد كان يقول صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري عن أنس .
وروى الإمام أحمد : يسأل قتادة أنساً : أي : دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ؟ قال : كان أكثر دعوة يدعو بها يقول : < اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار > وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ! ورواه مسلم وهذا لفظه .
وروى الإمام الشافعي عن عبد الله بن السائب : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود : < : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } > الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 202 ]
.
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة ، وما فيه من معنى البعد ؛ لما مر مراراً من الإشارة إلى علو درجتهم ، وبعد منزلتهم في الفضل : { لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي : من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة . أو من أجل ما كسبوا كقوله : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [ نوح : 25 ] . أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم منه في الدنيا والآخرة . وسمي الدعاء كسباً ؛ لأنه من الأعمال وهي موصوفة بالكسب : { وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } إما بمعنى سريع في الحساب كسريع في السير ، فالجملة تذييل لقوله : { أُولَئِكَ } إلخ يعني : أنه يجازيهم على قدر أعمالهم وكسبهم ولا يشغله شأن عن شأن لأنه سريع في المحاسبة ؛ أو بمعنى : سريع حسابه كحسن الوجه . فالجملة تذييل لقوله : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } إلخ يعني : يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد . فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة باكتساب الطاعات والحسنات .
وقال الراغب : لما كان الحساب يكشف عن جمل الشيء وتفصيله ، نبه بذلك على إحاطته بأفعال عباده ووقوفه على حقائقها . وذكر السريع تنبيهاً أن ذلك منه لا في زمان ولا بفكرة ، وذلك أبلغ ما يمكن أن يتصور به الكافة سرعة فعل الله .
تنبيه :
قال الرازي : اعلم أن الله تعالى بيّن أولاً تفصيل مناسك الحج ، ثم أمر بعدها بالذكر فقال : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } إلخ ، ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره فقال : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ } إلخ ، ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال : { فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ } إلخ ، وما أحسن هذا الترتيب ! فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ، ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلي نور جلاله ، ثم بعد ذلك الذكر ، يشتغل الرجل بالدعاء ، إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر... .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 203 ]
.
{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } هي أيام التشريق ، قاله ابن عباس رضي الله عنه . وروى الإمام مسلم عن نُبَيْشَة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله > . وقال عِكْرِمَة : معنى هذه الآية : التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات : الله أكبر ! الله أكبر ! .
وروى البخاري عن ابن عمر : أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام ، وخلف الصلوات ، وعلى فراشه ، وفي فسطاطه ، وفي مجلسه ، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعاً . وفي رواية : أنه كان يكبر في قبته ، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى . أخرجه البخاري تعليقاً .
ومن الذكر في هذه الأيام : التكبير مع كل حصاة من حصى الجمار كل يوم من أيام التشريق ، فقد ورد في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر مع كل حصاة .
وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره : < إنما جعل الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل > .
وروى مالك في موطأه عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عُمَر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفاع النهار شيئاً ، فكبر ، فكبر الناس بتكبيره . ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر ، فكبر الناس بتكبيره . ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبّر ، فكبّر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيُعلم أن عمر قد خرج يرمي .
ثم قال مالك : والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء - من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب .
ثم قال : الأيام المعدودات : أيام التشريق .
وفي القاموس وشرحه : التشريق تقديد اللحم ، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها ، أي : تشرّر في الشمس - حكاه يعقوب ، وقيل : سميت بذلك لقولهم : أشرق ثبير كيما نغير ؛ أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس - قاله ابن الأعرابي . قال أبو عبيد : وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير ، ولم يذهب إليه غيره .
{ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : فمن تعجل النفر الأول من هذه الأيام الثلاثة ، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث . واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة ، فلا يأثم بهذا لتعجيل . وإيضاحه : أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق . ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرون حصاة . يرمي عند كل جمرة سبع حصيات . ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها ، فذلك واسع له : { وَمَن تَأَخَّرَ } أي : حتى رمى في اليوم الثالث ، وهو النفر الثاني : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في تأخره . واعلم : السنة هو التأخر . فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين ، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة . ولا يقال هذا الفظ - أعني : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } إنما يقال في حق المقصر لا في حق من أتى بتمام العمل ، لأنا نقول : أتى به لمشاكلة اللفظ الأول كقوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان . فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ؛ فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ؛ لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه - قاله الواحدي .
وقال الراغب : رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة - أي : كناية عنها - وقيل : رفع الإثم : أنه حط ذنوبهما بإقامتهما الحج - تعجل أو تأخر - بشرط أن يكون مقياسهما الاعتبار بالتقوى ، وعلى ذلك دلّ حديث : < من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه > .
وقوله تعالى : { لِمَنِ اتَّقَى } خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الذي ذكر - من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر ، أو من الأحكام - لمن اتقى ، لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به ، على حد : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } [ الروم : 38 ] ، وقوله : { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] { وَاتَّقُواْ اللّهَ } في مجامع أموركم : { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : للجزاء على أعمالكم ، وهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعثٌ على التشدد فيه ، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة ، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ؛ صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى . والحشر : اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [ 204 ]
.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه : { وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } أي : يحلف بالله على الإيمان بك والمحبة لك ، وأن الذي في قلبه موافق للسانه لئلا يتفرس فيه الكفر والعداوة ، أو معناه : يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق - على نحو ما وصف به أهل النفاق حيث قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] وكقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } [ النساء : 108 ] الآية : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } شديد الخصومة جدل بالباطل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [ 205 ]
{ وَإِذَا تَوَلَّى } : انصرف عمن خدعه بكلامه : { سَعَى } - مشى - : { فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } بإدخال الشبه في قلوب المسلمين ، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر ، وهذا المعنى يسمى فساداً ، كقوله تعالى حكاية عن قوم فرعون : { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } [ الأعراف : 127 ] . أي : يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم شرعتهم . وسمي هذا المعنى فساداً لأنه يوقع الاختلاف بين الناس ، ويفرق كلمتهم ، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض ، فتنقطع الأرحام ، وتنسفك الدماء . وهذا كثير في القرآن المجيد { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ } أي : الزرع : { وَالنَّسْلَ } أي : المواشي الناتجة .
قال بعض المحققين : وإن إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد ، وإن التعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل ؛ فالمعنى : يؤذي مسترسلاً في إفساده ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل .
{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أي : لا يرضى فعله .
قال الراغب : إن قيل : كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء ؟ قيل : الإفساد في الحقيقة : إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح ، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى ، ولا هو آمر به ، ولا محب له ، وما يُرى من فعله ، ويظهر بظاهره فساداً ، فهو بالإضافة إلينا واعتبارنا له كذلك . فأما بالنظر الإلهي فكله صلاح ، ولهذا قال بعض الحكماء : يا من إفساده إصلاح ! أي : ما نظنه إفساداً ؛ لقصور نظرنا ومعرفتنا - فهو في الحقيقة إصلاح . وجملة الأمر : إن الْإِنْسَاْن هو زبدة هذا العالم وما سواه مخلوق لأجله ، ولهذا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } [ البقرة : 29 ] . والمقصد من الْإِنْسَاْن سوقه إلى كماله الذي رسخ له . فإذن : إهلاك ما أمر بإهلاكه ، لإصلاح الْإِنْسَاْن وما منه أسباب حياته الأبدية . ولشرح هذه الجملة موضع آخر . . . .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 206 ]
.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ } على نهج العظة : { اتَّقِ اللّهَ } في النفاق ، واحذر سوء عاقبته . أو في الإفساد والإهلاك وفي اللجاج بالباطل : { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ } أي : حملته الأنفة وحميّة الجاهلية على الفعل بالإثم وهو التكبر ؛ أو المعنى : أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول قول الناصح : { فَحَسْبُهُ } أي : كافيه : { جَهَنَّمُ } إذا صار إليها واستقر فيها جزاء وعذاباً : { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : الفراش الذي يستقر عليه بدل فرش عزته .
قال الراغب : المهد معروف ، وتصور منه التوطئة ، فقيل لكل وطيء مهد . والمهاد يجعل تارة جمعاً للمهد ، وتارة للآلة نحو فراش . وجعل جهنم مهاداً لهم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عِمْرَان : 21 ] .
وقال الحاكم : هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد : اتق الله ! فيقول عليك نفسك... .
قال الزمخشري : ومنه ردّ قول الواعظ .
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الحج : 72 ] .
ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال ، أتبعه بقسيمه المهتدي . ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول ، والتخلق بنعوت الثاني فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ 207 ]
.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } أي : يبيعها ببذلها في طاعة الله : { ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } أي : طلب رضاه : { وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } حيث أرشدهم لما فيه رضاه ، وأسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة ، مع كفرهم به ، وتقصيرهم في أمره .
لطيفة :
قال بعضهم : كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله ، وموافقة لسانه لما في جنانه ! والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به . فإن من يبيع نفسه لله ، لا يبغي ثمناً لها غير مرضاته ، لا يتحرّى إلا العمل الصالح ، وقول الحق والإخلاص في القلب ، فلا يتكلم بلسانين ، ولا يقابل الناس بوجهين ، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا . . . وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه . . .
وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، وابن أبي حاتم ورزين عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته ، وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش ! لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً . وأيم الله ! لا تصلون إليَّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي ؟ قالوا : نعم ! فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال : < ربح البيع ، أبا يحيى ! ربح ، أبا يحيى . . . ! > ونزلت : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } الآية .
وأخرج الحاكم في " المستدرك " نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب موصولاً . وأخرجه أيضاً من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت عن أنس . وفيه التصريح بنزول الآية ، وقال : صحيح على شرط مسلم وروي أنها نزلت في صهيب وغيره ، كما روي في نزول الأولى روايات ساقها بعض المفسرين .
ولا تنافي في ذلك ، لأن قولهم : نزلت في كذا ، تارة يراد به أن حالاً ما كان سبباً لنزولها ، بمعنى أنها ما نزلت إلا لأجله ، وهذا يعلم إما من إشعار الآية بذلك ، أو من رواية صحّ سندها صحة لا مطعن فيه . وتارة يراد به أنها نزلت بعد وقوع شأن ما تشمله بعمومها . فيقول الراوي عقيب حدوث ذلك الشأن : نزلت في كذا ، والمراد : أنها تصدق عليه لا أن ذلك الشأن كان سبباً للنزول . . . وما روي في هذه الآية من هذا القبيل .
وإلى هذا النوع أشار الزركشي في " البرهان " بقوله : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا ، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب في نزولها . فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع . . . .
وقد قدمنا أن سبب النزول مما يدخله الاجتهاد . وأن لا يعول منه إلا على ما صح سنده . وما نزل عنه وارتقى عن درجة الضعف يتفقّه فيه . . فاحرص على هذا التحقيق . وقد أسلفنا في المقدمة البحث فيه مستوفى . وبالله التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 208 ]
.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام ، فيهما قراءتان سبعيتان - أي : في الإسلام . قال امرؤ القيس بن عابس :
~فلست مبدلاً بالله رباً ولا مستبدلاً بالسلم ديناً
ومثله قول أخي كندة :
~دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا
قال الرازي : أصل هذه الكلمة من الانقياد . قال الله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] . والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى . وغلب اسلم السلم على الصلح وترك الحرب . وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى ، لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه .
ومعنى الآية : ادخلوا في الاستسلام والطاعة ، أي : استسلموا لله وأطيعوه ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه : { كَآفَّةً } حال من الضمير في ادخلوا : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : طرقه التي يأمركم بها فـ : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] و : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] وضم الطاء من خطوات وإسكانها لغتان : حجازية وتميمية . وقد قرئ بهما في السبع { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة أو مظهر لها . أي : بما أخبرناكم به في أمر أبيكم آدم عليه السلام وغيره ، مما شواهده ظاهرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 209 ]
.
{ فَإِن زَلَلْتُمْ } أي : عن الدخول في السلم : { مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : الآيات الظاهرة على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق : { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } غالب لا يعجزه الانتقام ممن زل ، ولا يفوته من ضل : { حَكِيمٌ } لا ينتقم إلا بحق . وقوله : { فَاعْلَمُواْ } إلخ نهاية في الوعيد ؛ لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب . وربما قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي . فيكون هذا الكلام - في الزجر - أبلغ من ذكر الضرب وغيره . فظهر تسبب الجزاء في الآية بما أشعر به من الزجر والتهديد على الشرط المشير إلى ذنبهم وجرمهم .
هذا ، ومن الوجوه المحتملة في الآية ، أن يكون السلم المذكور فيها معناه : الصلح والمسالمة وترك المنازعة والاختلاف . فمعنى : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } : كونوا متوافقين ومجتمعين في نصرة الدين ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس . فتكون الآية حينئذ كقوله تعالى : { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] ، وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاًوَلا تَفَرَّقُوا } [ آل عِمْرَان : 103 ] ، وقوله : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغمام وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } [ 210 ]
{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي : ينتظرون ، فـ " نظر " ك " انتظر " ، يقال : نظرته وانتظرته إذا ارتقبت حضوره . وهذا الاستفهام إنكاري في معنى النفي ؛ أي : ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة - في الامتثال بما أمروا به ، والانتهاء عما نهوا عنه - بعد طول الحلم عنهم : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } جمع ظلّة - كقلل في جمع قلة - أي : في ظلّة داخل ظلّة - وهي ما يستر من الشمس ، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها : { وَالْمَلآئِكَةُ } عطف على الاسم الجليل ، أي : ويأتي جنده الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو . هذا على قراءة الجماعة . وعلى قراءة أبي جعفر بالخفض . فهو عطف على ظلل أو الغمام : { وَقُضِيَ الأَمْرُ } أي : أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه . قال الراغب : نبه به على أنه لا يمكن تلافي الفارط . . . وهو عطف على : { يَأْتِيَهُمُ } داخل في حيز الانتظار . وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه ، فكأنه قد كان . أو جملة مستأنفة جيء بها إنباء عن وقوع مضمونها { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } . أي : فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا ، فإن ملكهم وتصرفهم مسترد منهم يوم القيامة وراجع إليه تعالى . يقال : رجع الأمر إلى الأمير ، أي : استرد ما كان فوضه إليهم . أو عنى بـ : { الأمُورُ } الأرواح والأنفس دون الأجسام ، وسماها أموراً من حيث إنها إبداعات مشار إليها بقوله : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر } [ الأعراف : 54 ] . فهي من الإبداع الذي لا يمكن من البشر تصوره ؛ فنبه أن الأرواح كلها مرجوعه إليه وراجعة . وعلى نحو ذلك قال : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ الأعراف : 29 ] . ويكون رجوعها إما بربح وغبطة ، وإما بندامة وحسرة . قاله الإمام الراغب .
قال أبو مسلم : إنه تعالى قد ملّك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أموراً ، امتحاناً ، فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده . وإذا كان كذلك فهو أهل أن يُتقى ويطاع ويدخل في السلم - كما أمر - ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى .
وقد قرئ في السبع ترجع بضم التاء بمعنى تُرد ، وبفتحها بمعنى تصير ، كقوله تعالى : { أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } [ الشورى : 53 ] .
قال القفال : والمعنى في القراءتين متقارب ، لأنها ترجع إليه تعالى ، وهو سبحانه يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة .
تنبيهان :
الأول : لهذه الآية أشباه ونظائر تدل على أن هذا الوعيد أخروي .
ولذا قال ابن كثير في معنى الآية : يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمام وَالْمَلائِكَةُ } يعني : يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزى كل عامل بعمله : إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . . . ! ولهذا قال تعالى : { وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } .
كما قال تعالى : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 21 - 23 ] .
وقال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] الآية .
الثاني : وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات آخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه ، أو صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والقول في جميع ذلك من جنس واحد .
وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها : إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل . والقول في صفاته كالقول في ذاته . والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله . فلو سأل سائل : كيف يجيء سبحانه أو كيف يأتي . . ؟ فليقل له : كيف هو في نفسه ؟ فإذا قال : لا أعلم كيفية ذاته ! فليقل له : وكذلك لا تعلم كيفية صفاته . . ! فإن العلم بكيفية الصفة يتبع من العلم بكيفية الموصوف . وقد أطلق غير واحدٍ ، ممن حكى إجماع السلف ، منهم الخطابي : مذهب السلف أن صفاته تعالى تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها . وبعض الناس يقول : مذهب السلف إن الظاهر غير مراد . ويقول : أجمعنا على أن الظاهر غير مراد . وهذه العبارة خطأ إمّا لفظاً ومعنى ، أو لفظاً لا معنى ؛ لأن لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك . فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد ؛ ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ؛ فهذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى جعله محتاجاً إلى تأويل ، وحيث حكى عن السلف ما لم يريدوه . وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها . والظاهر هو المراد في الجميع ، فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم ، وأنه على كل شيء قدير ، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره ، أن ظاهر ذلك مراد - كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا .
وكذلك لما اتفقوا على أنه حي عالم حقيقة ، قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير . فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً . وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي . وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات ، فيكون الكلام في الجميع واحداً .
وحينئذ فلا يجوز أن يقال : إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير . وبالجملة ، فمن قال : إن الظاهر غير مراد - بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة - قلنا له : أصبت في المعنى ولكن أخطأت في اللفظ ، وأوهمت البدعة ، وجعلت للجهمية طريقا إلى غرضهم ، وكان يمكنك أن تقول : تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله ليست كصفات المخلوقين ، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه . ومن قال : الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني : وهو مراد الجهمية ومن تبعهم ؛ فقد أخطأ . وإنما أتي من أخطأ من قبل أنه يتوهم - في بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها أو كلها - أنها تماثل صفات المخلوقين ، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه ، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير :
أحدها : كونه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين ، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل .
الثاني : أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطّله ، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله . فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيء الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى .
الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم ، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب .
الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات - من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات - فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب ، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات ، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات ، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات ، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل ، فيكون ملحداً في أسماء الله وآياته .
وحاصل الكلام : أن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه على ما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته .
هذا ملخص ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في رسالتيه " التدمرية " و " المدنية " .
قال الحافظ ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ، ولا يحدون فيه صفة محصورة . وأما الله البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة ، ويزعم أن من أقرّ بها شبّه . وهم ، عند من أقرّ بها ، نافون للمعبود . والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله ، وهم أئمة الجماعة .
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل " : لا يجوز رد هذه الأخبار ، ولا التشاغل بتأويلها ؛ والواجب حملها على ظاهرها ، وأنها صفات الله لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق ، ولا يعتقد التشبيه فيها .
وقال عبد الله بن المبارك : إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به ، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه . واعلم أنه ليس في العقل الصحيح ولا في النقل الصريح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية . والمخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة ، من المتأولين لهذا الباب ، في أمر مريج ، وسبحان الله ! بأي عقل يوزن الكتاب والسنة .
ورضي الله عن الإمام مالك حيث قال : أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء بهم جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لجدل هذا ؟ وكلٍّ من هؤلاء مخصوص بمثل ما خصم به الآخر . وهو من وجوه :
أحدها : بيان أن العقل لا يحيل ذلك .
والثاني : أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل .
الثالث : أن عامة هذه الأمور قد علم أنّ الرسول جاء بها بالاضطرار ، كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان . فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوات ، على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية . فإذا كان هكذا ، فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
قال البقاعي : وتجلي الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف . منه ما في الصحيح عن البراء رضي الله عنه قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين ، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو ، وجعل فرسه ينفر ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : < تلك السكينة تنزلت بالقرآن > ! .
وعن أسد بن حضير قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس . فسكت فسكتت . فقرأ فجالت الفرس ، فسكت وسكتت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس . فانصرف . وكان ابنه يحيى قريباً منها ، فأشفق أن تصيبه . فلما اجترّه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها . فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : < اقرأ يا ابن حضير ، اقرأ يا ابن حضير > . قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً فرفعت رأسي فانصرفت إليه . فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها . قال : < وتدري ما ذاك ؟ > قال : لا . قال : < تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها . لا تتوارى منهم > .
وقال البقاعي أيضاً : لما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك - على ما نقل إليهم - من وفور الهيئة وتعاظم الجلال ، قال تعالى جواباً لمن كان قال : كيف يكون هذا ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 211 ]
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } المراد بهذا السؤال : تقريع بني إسرائيل وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات ، لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم أمر . كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد ، يقول لمن حضره : سله كم أنعمت عليه ؟ أي : كم شاهدوا المعجزات الظاهرة على أيدي أنبيائهم ، القاطعة بصدقهم عليهم السلام فيما جاءوهم به : كعصا موسى ، وفلقه البحر ، وضربه الحجر ، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ، ومن إنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق . ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ، وبدلوا نعمة الله عليهم بها كفراً كما أشعر بذلك قوله تعالى : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فالمراد بنعمة الله : آياته ، فهو من وضع الظاهر موضع المضمر بغير اللفظ السابق ، لتعظيم الآيات ؛ ولا يخفى أنها من أجل أقسام نعم الله تعالى ؛ لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة . وتبديلهم إياها : استبدالهم بالإيمان بها ، الكفر بها والإعراض عنها . كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ إبراهيم : 28 - 29 ] وقوله : { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ } أي : وصلت إليه وتمكن من معرفتها أو عرفها ، والتصريح بذلك - مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء - للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها ، وفيه تقبيح عظيم بهم ، ونعي على شناعة حالهم ، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا ، بعد المعرفة . . ! .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 212 ]
.
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } حتى بدلوا النعمة : { الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } لحضورها ، فألهتهم عن غائب الآخرة .
قال الحرالي : ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما ، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصِّر طيّتها ، ويشهد جيفتها ، فلا يغتر بزينتها ، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق ؛ فأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان ، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] .
وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين ، مسنداً إلى الله تعالى تارة وإلى غيره أخرى ، في عدة آيات من التنزيل الكريم .
وللراغب كلام بديع ينحل به مثل هذا الإشكال وهو قوله :
إن الفعل كما ينسب إلى المباشر له ، ينسب إلى ما هو سببه ومسهّله ، وعلى هذا يصح أن ينسب فعلٌ واحدٌ تارة إلى الله تعالى وتارة إلى غيره ، نحو قوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } [ السجدة : 11 ] ، وفي موضع آخر : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُس } [ الزمر : 42 ] . فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له ، وفي الثاني إلى الآمر به ؛ وهكذا ، يتصور ما ذكر ، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوباً إلى الله تعالى ، منفياً عن الله تعالى ، نحو قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] ، وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] وقوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] .
{ وَيَسْخَرُونَ } - أي : يهزأون - : { مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29 - 30 ] [ في المطبوع : 29 - 36 ] الآيات : { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ } وهم المؤمنون ، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها ، وإيذاناً بترتب الحكم عليها : { فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لأنهم في عليين وهم في أسفل سافلين ، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، كما قال تعالى : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } [ المطففين : 34 - 35 ] [ في المطبوع : 29 - 36 ] .
ولذا قال الراغب : يحتمل قوله تعالى : { فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وجهين :
أحدهما : أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا .
والثاني أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات ، والكفار في الدرك الأسفل من النار . انتهى .
لطائف :
قال السيلكوتي : اعلم أن قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } الخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب ؛ يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة ، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها ؛ وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه ، مركوزاً في طبيعتهم . وعطف عليه بالفعل المضارع - أعني : { يَسْخَرُونَ } - لإفادة الاستمرار ، وعطف قوله : { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا } لتسلية المؤمنين .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : ما يعطي الله هؤلاء المتقين من الثواب بغير حساب أي : رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع ، كقوله سبحانه : { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ غافر : 40 ] ؛ فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه ، فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب .
وقد استقصى الراغب : ما تحتمله الآية من وجوهها - وتلك سعة - وعبارته : أعطاه بغير حساب : إذا أعطاه أكثر مما يستحق ، أو أقلّ مما يستحق ؛ والأول هو المقصود وهو المشار إليه بالإحسان ، وقد فسر ذلك على أوجه لإجمال اللفظ وإبهامه .
الأول : يعطيه عطاء لا يحويه حصر العباد ، كقول الشاعر :
~عطاياه يُحصى قبل إحصاءها القطرُ
الثاني : يعطيه أكثر مما يستحقه .
الثالث : يعطيه ولا منّة .
الرابع : يعطيه بلا مضايقة . من قوله : حاسبه .
الخامس يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه - وكل هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في الآخرة .
السادس : أن ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الزخرف : 33 ] ، وتنبيهاً أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه ، ما لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه ؛ ولهذا قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } [ المؤمنون : 55 ] الآية .
السابع : يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون ، وذلك لأن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب ، ولا ينفقه إلا على ذلك ، فهو يحاسب فلا يحاسب ، ولهذا روي : من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة . وعلى هذا قال تعالى لسليمان : { وهَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] .
الثامن : أن الله عز وجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه ، كما قال : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] الآية .
التاسع : وهو يقارب ذلك : أن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم, وعلى ذلك قوله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ } [ الزخرف : 71 ] الآية ، وقوله : { و يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } الآية .
وأما تعلقه بما تقدم ، فعلى بعض هذه التفاسير ، يتعلق بالذين كفروا ، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 213 ] .
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد . وتحسن ولا تسيء ، وتعدل ولا تظلم ، أي : ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك ، كما قال في الآية الأخرى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } [ يونس : 19 ] أي : انحرفوا عن الاتحاد والاتفاق ، الذي يثمر كل خير لهم وسعادة ، إلى الاختلاف والشقاق المستتبع الفساد وهلاك الحرث والنسل ، ولما كانوا لم يخلقوا سدىً منّ الله عليهم بما يبصّرهم سبيل الرشاد في الاتحاد على الحق من بعثة الأنبياء وما نزل معهم من الكتاب الفصل ، كما أشارت تتمة الآية : { فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ } الذين رفعهم على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره ، وأرسلهم إلى خلقه : { مُبَشِّرِينَ } لمن آمن وأطاع : { وَمُنذِرِينَ } لمن كفر وعصى : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ } أي : كلامه الجامع لما يحتاجون إليه في باب الدين على الاستقامة والهداية التامة ؛ لكونه متلبساً : { بِالْحَقِّ } من جميع الوجوه : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } من الاعتقادات والأعمال التي كانوا عليها قبل ذلك أمة واحدة ، فسلكوا بهم ، بعد جهد ، السبيل الأقوم ، ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل ، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب : { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ } أي : الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه ، المنزل لإزالة الاختلاف : { إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ } أي : علموه فبدّلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف . ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته بل : { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : الدلائل الواضحة - : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : حسداً وقع بينهم : { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } بالكتاب : { لِمَا اخْتَلَفُواْ } أي : أهل الضلالة : { فِيهِ مِنَ الْحَقِّ } أي : للحق الذي اختلفوا فيه . وفي إبهامه أولاً ، وتفسيره ثانياً ، ما لا يخفى من التفخيم : { بِإِذْنِهِ } أي : بتيسيره ولطفه { وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . تقرير لما سبق . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان - إذا قام من الليل يصلي يقول : < اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ! فاطر السماوات والأرض ! عالم الغيب والشهادة ! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . . . ! > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ 214 ]
.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } أي : من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين ، أي : والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد ، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدة ، سنة الله التي لا تتبدل : { مَّسَّتْهُمُ } اسستئناف وقع جواباً عما ينساق إليه الذهن ، كأنه قيل : كيف كان مثلهم ؟ فقيل : مسّتهم : { الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء } أي : الشدائد والآلام : { وَزُلْزِلُواْ } أي : أزعجوا ، مما دهمهم من الأهوال والإفراغ ، إزعاجا ًشديداً شبيهاً بالزلزلة التي تكاد تهدّ الأرض وتدك الجبال : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ } أي : انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول - وهو أعلم الناس بشؤون الله تعالى ، وأوثقهم بنصره ، وداعيهم إلى الصبر - : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } - وهم الأثبت بعده ، العازمون على الصبر ، الموقنون بوعد النصر - : { مَتَى نَصْرُ اللّهِ } - استبطاء له ، واستطالة لمدة الشدة والعناء - فيقال لهم : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } . كما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح : 5 - 6 ] أي : فاصبروا كما صبروا تظرفوا . . ! . وقد حصل من هذا الابتلاء جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم يوم الأحزاب ، كما قال الله تعالى : { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً } [ الأحزاب : 10 - 12 ] الآيات .
وروى البخاري عن خَبَّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : < قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها . فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه . والله ! ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون > . . ! .
وفي رواية : وهو متوسد بردة ، وقد لقينا من المشركين شدة . . .
ولما سأل هرقل أبا سفيان : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم ! قال : فكيف كانت الحرب بينكم قال : سجالاً ، يدال علينا وندال عليه . قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة ! .
وهذه الآية كآية : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ 215 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } أي : شيء ينفقونه من أصناف الأموال ؟ : { قُلْ مَاأَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما مع كونه صلة الوصل وصدقة : { وَالأَقْرَبِينَ } بعدهما ليكون صلة وصدقة : { وَالْيَتَامَى } بعدهم لأن فيهم الفقر مع العجز [ في المطبوع : العجر ] : { وَالْمَسَاكِينِ } بعدهم لاحتياجهم : { وَابْنِ السَّبِيلِ } بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله . فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال ، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون ، وأجيبوا ببيان المصرف ؟ فالجواب : أن قوله : { مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ } قد تضمن بيان ما ينفقونه - وهو كل مال عدّوه خيراً - وبني الكلام على ما هو أهم ، وهو بيان المصرف ، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها . قال الشاعر :
~إن الصنيعة لا تكون صنيعةً حتى يصاب بها طريق المصنع
~فإذا صنعت صنيعةً فاعمد بها لله أو لذوي القرابة أو دَعِ
فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } [ البقرة : 189 ] . فيما تقدم هذا .
وقال القفَّال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ ما إلا أن ا لمقصود السؤال عن الكيفية ، لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى . وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي : شيء هو ؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أن المطلوب بالسؤال : أن مصرفه أي : شيء هو ؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال . ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة : 70 - 71 ] وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال ، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا . فقوله : ما هي لا يمكن حمله على طلب الماهية ، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها ، فبهذا الطريق قلنا : إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال . فكذا ههنا ، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو - وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم : { مَاذَا يُنفِقُونَ } ؟ ليس هو طلب الماهية ، بل طلب المصرف ، فلهذا حسن هذا الجواب... ! .
وأجاب الراغب بجوابين :
أحدهما : أنهم سألوا عنهما وقالوا : ما ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ ولكن حذف حكاية السؤال ، أحدهما : إيجازاً ودل عليه بالجواب بقوله : { مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ } كأنه قيل : المنفَق الخير ، والمنفق عليهم هؤلاء ؛ فلفف أحد الجوابين في الآخر ، وهذا طريق معروف في البلاغة .
الجواب الثاني : أن السؤال ضربان : سؤال جدل ، وحقه أن يطابقه جوابه . لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه . وسؤال تعلم ، وحق المعلم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم ، فيطلب ما يشفيه - طلبه المريض أو لم يطلب . فلما كان حاجتهم إلى من ينفق المال عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق من المال ، بين لهم الأمرين جميعاً . إن قيل : كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم . . ؟ قيل : إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم ، لا على سبيل الحصر والاستيعاب ، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكر في غير هذا الموضع .
ولما بين تعالى وجه المصرف وفصّله هذا التفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالإجمال فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : وكل ما فعلتموه من خير - إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم - حسبة لله ، وطلباً لجزيل ثوابه ، وهرباً من أليم عقابه ، فإن الله به عليم ، والعليم مبالغة في كونه عالماً ، يعني : لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه ، كما قال : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } [ آل عِمْرَان : 195 ] وقال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ 216 ]
.
{ كُتِبَ } أي : فرض : { عَلَيْكُمُ الْقِتَال } أي : قتال المتعرضين لقتالكم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا } [ البقرة : 190 ] ، المراد بقتالهم الجهاد فيهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم .
قال بعض الحكماء : سيف الجهاد والقتال هو آية العز ، وبه مصّرت الأمصار ، ومدّنت المدن ، وانتشرت المبادئ والمذاهب ، وأيدت الشرائع والقوانين ؛ وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر ، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر ؛ وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالاً ، وخط الاستواء جنوباً ، وجدران الصين شرقاً ، وجبال البيرنه غرباً . . !
قال : فيجب على المسلمين أن لا يتملّصوا من قول بعض الأوربيين : إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف ! فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئاً ؛ فإن المنصفين من الأوربيين يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع ، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة . وإنما التملص منه يضر المسلمين ؛ لأنه يقعدهم عن نصرة الدين بالسيف ، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل ، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل ، فيستخذون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم ، وتبتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها : السيف أو القوة . . !
قال : يجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء ، ويطيلوا النظر في قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] ، لعلهم يتخفزون إلى مجاراة الأمم القوية المجاهدة في الأمم الضعيفة . . ! .
وقوله تعالى : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } من الكراهة ، فوضع المصدر موضع الصوف مبالغة ، كقول الخنساء :
~فإنما هي إقبالٌ وإدبارٌ
كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له ، أو هو فعل بمعنى مفعول - كالخبز بمعنى المخبوز - أي : وهو مكروه لكم ، وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال - لما فيه من مؤنة المال ، ومشقة النفس ، وخطر الروح والخوف - فلا ينافي الإيمان ؛ لأن كراهة الطبع جبلية ، لا تنافي الرضاء بما كلف به ، كالمريض الشارب للدواء البشع .
وفي القاموس وشرحه : الكره بالفتح ويضم : لغتان جيدتان بمعنى الإباء والمشقة .
قال ثعلب : قرأ نافع, وأهل المدينة في سورة البقرة : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } بالضم في هذا الحرف خاصة ، وسائر القرآن بالفتح . وكان عاصم يضم هذا الحرف والذي في الأحقاف : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] ، ويقرأ سائرهن بالفتح . وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة والذي في النساء : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كُرْهَاً } [ النساء : 19 ] ، ثم قرأوا كل شيء سواها بالفتح . قال الأزهري : ونختار ما عليه أهل الحجاز : أن جميع ما في القرآن بالفتح إلا الذي في البقرة خاصة ، فإن القراء أجمعوا عليه ! . قال ثعلب : ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقاً في العربية ، ولا في سنة تتبع ، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة ، إلا أنه اسم وبقية القرآن مصادر .
قال الأزهري : وقد أجمع كثير من أهل اللغة : أن الكَره والكُره لغتان ، فبأي لغة وقع فجائز ، إلا الفراء فإنه فرق بينهما بأن الكره بالضم : ما أكرهت نفسك عليه ، وبالفتح : ما أكرهك غيرك عليه . تقول : جئتك كُرهاً ، وأدخلتني كَرهاً ، وقال ابن سيده : الكَره : الإباء والمشقة تتكلفها فتحتملها ، وبالضم : المشقة تحتملها من غير أن تكلفها . يقال : فعل ذلك كرهاً وعلى كره . قال ابن بري : ويدل لصحة قول الفراء قول الله عز وجل : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عِمْرَان : 83 ] ، ولم يقرأ أحد بضم الكاف . وقال سبحانه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } ، ولم يقرأ أحد بفتح الكاف . فيصير الكَره بالفتح ، فعل المضطر ، والكُره بالضم : فعل المختار .
{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } - كالجهاد في سبيل الله تعالى - : { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } إذ فيه إحدى الحسنين : إما الظفر والغنيمة ، وإما الشهادة والجنة : { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } - كالقعود عن الغزو - : { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر : { وَاللّهُ يَعْلَمُ } ما هو خير لكم : { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك ، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شقّ عليكم ، فهو رؤوف بالعباد لا يأمرهم إلا بخير .
قال الحرالي : فنفي العلم عنهم بكلمة لا أي : التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . قال : من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم ، وأما المؤمنون - أي : الراسخون - فقد علّمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شرٌّ لهم .
حتى إن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب ، حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن ، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عَمْرو رضي الله عنه فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله ، فنحن معك ، والله ! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ! فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . . ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أشيروا علي أيها الناس > ! فقال له سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه : والله ! لكأنك تريدنا يا رسول الله ! قال : < أجل > . قال : فقد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينيك ، فسر بنا على بركة الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 217 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } قال الراغب : السائل عن ذلك ، قيل : أهل الشرك قصداً إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام . وقيل : هم أهل الإسلام .
وقد أخرج الطبراني في " الكبير " والبيهقي في " سننه " ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن جُنْدب بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً ، وبعث عليهم عبد الله بن جحش ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى . فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام . فأنزل الله هذه الآية فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر ، فأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 218 ] . الآية .
وأخرجه ابن منده من الصحابة عن ابن عباس .
وملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وابن هشام في " السيرة " في الكلام على هذه السرية ونزول هذه الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين ، كل اثنين يعتقبان على بعير ، فوصلوا [ في المطبوع : فوصولوا ] إلى بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش ، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه . فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة - بين مكة والطائف - فترصد بها عيراً لقريش ، وتعلم لنا من أخبارهم ، فقال : سمعاً وطاعة ! وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ، ومن كره الموت فليرجع ، فأما أنا فناهض ! فنهضوا كلهم ، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه ، فتخلفا في طلبه . فبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة فيها عَمْرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كَيْسان مولى بني المغيرة ، فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على مقاتلتهم ، فرمى أحدهم عَمْرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا عثمان والحكم ، وأفلت نوفل فأعجزهم ، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس - وهو أول خمس كان في الإسلام ، وأول قتيل في الإسلام ، وأول أسيرين في الإسلام - فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك ، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا فقالوا : قد أحل محمد الشهر الحرام ، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } الآية .
وقوله تعالى : { قِتَالٍ فِيهِ } بدل من الشهر ، بدل الاشتمال ، لأن القتال يقع في الشهر .
وقال الكسائي : وهو مخفوض على التكرير ، يريد أن التقدير : عن قتالٍ فيه وهو معنى قول الفراء : مخفوض بـ " عن " مضمرة . وهذا ضعيف جدا لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار . . . ! وقال أبو عبيدة هو مجرور على الجوار . وهو أبعد من قولهما ، لأن الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ ، ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة . وفيه : يجوز أن يكون نعتاً لقتال ، ويجوز أن يكون متعلقاً به كما يتعلق بقاتل .
وقد قرئ بالرفع في الشاذ ، ووجهه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف معه همزة الاستفهام ، تقديره : أجائز قتال فيه ؟ .
{ قُلْ } في جوابهم : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي : أمر كبير مستنكر ، وقد كانت العرب لا تسفك دماً ولا تغير على عدو في الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب . وسنذكر في تنبيه يأتي التحقيق في كون تحريم القتال فيها محكماً أو منسوخاً .
قال الراغب : إن قيل : لِمَ لَمْ يقل : القتال فيه كبير ، وشرط النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها أن يعاد معرفاً ، نحو : سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ؟ قيل : في ذكره منكراً تنبيه على أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه ، فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه ، فقد قال : < أحلت لي ساعة من نهار ولم تكن تحل لأحد قبلي > .
{ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن دينه الموصل إلى رضوانه ، أو عن البيت الحرام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : سمى الحج : سبيل الله .
قال الحرالي : والصد : صرف إلى ناحية بإعراض وتكرّه ، والسبيل : طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه . وصدّ مبتدأ .
{ وَكُفْرٌ بِهِ } أي : بالسبيل - أعني الدين - أو بالله ، عطف عليه { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } عطف على : { سَبِيلِ اللّهِ } أي : وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام . وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في : { بِهِ } أي : كفر به وبالمسجد الحرام { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي : أهل المسجد الحرام - وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين هم أولياؤه - وهو عطف على : { صَدٌّ } أيضاً : { مِنْهُ } من المسجد الحرام ؛ وخبر الأسماء الثلاثة : { أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ } جرماً مما فعلته السرية : من قتلهم إياهم في الشهر الحرام ؛ لأن الإخراج فتنة : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام ، أي : فقد فعلوا بكم في المسجد الحرام ما هو أكبر من القتل فيه ، وحرمة المسجد كحرمة الشهر . . ! هذا ، وقيل : خبر : { صدُّ } و : { كُفْرٌ } محذوف لدلالة ما تقدم عليه .
وأشار الرازي إلى إعراب آخر وهو : إن : { صدّ } و : { كفرٌ } معطوفان على : { كَبِيرٌ } أي : قتال فيه ، موصوف بهذه الصفات . وعليه فأكبر خبر إخراج فقط .
وقد جنح لهذا المهايمي حيث قال في " تفسيره " :
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } من المعاصي الكبائر ، كيف وهو : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن التجارة التي جعلها الله سبيل الرزق لعباده ، ولو استبيح هذا القتل فهو : { وَكُفْرٌ بِهِ } وصد عن : { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إذا قتل الحجاج الخارجون في الشهر الحرام ، فهذا وجه تحريم القتال في هذا الشهر ، ولكن : { إِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي : إخراجهم أهل المسجد الحرام وهم : النبي والمؤمنون : { مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ } . . . إلى آخره ، وهذا الوجه من الإعراب بديع ، والأكثرون على الأول .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في تأويل هذه الآية : يقول الله سبحانه : هذا الذي أنكرتموه عليهم - وإن كان كبيراً - فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله ، والصد عن سبيله وعن بيته ، وإخراج المسلمين - الذين هم أهله - منه ، والشرك الذي أنتم عليه ، والفتنة التي حصلت منكم به ؛ أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام . ومما نسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المعنى هذه الأبيات ، ويقال هي لعبد الله بن جحش :
~تعدّون قتلاً في الحرام عظيمةً وأعظمُ منه لوى الرشدَ راشدُ
~صدودُكم عما يقول محمَدٌ وكفرٌ به ، والله راءٍ وشاهدُ
~وإخراجُكم من مسجد الله أهلَه لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ
~فإِنا وإِن عيَّرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ
~سَقَينا من ابن الحضرميّ رماحنا بنخلَة لمّا أوقد الحربَ واقدُ
~دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غُلٌّ من القِدِّ عانِدُ
قال ابن القيم في " زاد المعاد " : وأكثر السلف فسروا الفتنة هنا بالشرك ، كقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 39 ] . ويدل عليه قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] أي : لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه . وحقيقتها : أنه الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ، ويقاتل عليه ، ويعاقب من لم يفتتن به . ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 14 ] .
قال ابن عباس : تكذيبكم . وحقيقته : ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها ، كقوله : { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الزمر : 24 ] . وكما فتنوا عباده عن الشرك ، فتنوا على النار وقيل لهم : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 14 ] . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } [ البروج : 10 ] ، فسرت الفتنة - هنا - بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار ، واللفظ أعمّ من ذلك . وحقيقته ، عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم . فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين . وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ويضيفها رسوله إليه كقوله : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ الأنعام : 53 ] ، وقول موسى : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء } [ الأعراف : 155 ] فتلك بمعنى آخر ، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر, بالنعم والمصائب . فهذه لون ، وفتنة المشركين لون . وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر . والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا - لون آخر - وهي الفتنة التي قال فيها محمد صلى الله عليه وسلم : < ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . . . . > . وأحاديث الفتنة - التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين - هي هذه الفتنة . وقد تأتي الفتنة مراداً بها المعصية ، كقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] . يقوله الجد بن قيس لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، يقول : ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات الأصفر ، فإني لا أصبر عنهن . . !
قال تعالى : { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } أي : وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر .
والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتل في الشهر الحرام ، بل أخبر الله أنه كبير ، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام ، فهم أحق بالذم ، والعيب والعقوبة ، لا سيما أولياؤه . كانوا متأولين في قتالهم ذلك ، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم . في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله ، فهم كما قيل :
~وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ جاءت محاسنه بألف شفيع
فكيف يقاس ببغيضٍ عدوٍّ جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحدٍ من المحاسن ؟ ! .
تنبيه :
اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية : حرمة القتال في الشهر الحرام . ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ ؟ ! .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده : لما كان في غزوة خبير من الأحكام الفقهية . ما نصه : منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة . فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك . قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور ، وكذلك قال الواقدي : خرج في أول سنة سبع من الهجرة . ولكن في الاستدلال بذلك نظر . فإن خروجه كان في آواخر المحرم لا في أوله ، وفتحها إنما كان في صفر . وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا . وكانت في ذي القعدة . ولكن لا دليل في ذلك ؛ لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله ، فحينئذ بايع الصحابة . ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعاً ، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء . فالجمهور جوَّزوه وقالوا : تحريم القتال فيه منسوخ ، وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله . وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ ؛ وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ من تحريمه شيء . . ! وأقوى من هذين الاستدلالين ، الاستدال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف . فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ، فبعضها كان في ذي القعدة . فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان ، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة ، فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوماً ، ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها . ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصروه عشرين ليلة . وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك . وقد قيل : إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة . قال ابن حزم : وهو الصحيح بلا شك . وهذا عجيب منه . فمن أين له هذا التصحيح والجزم به . . ؟ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال : فحاصرناهم أربعين يوماً فاستعصوا وتمنّعوا ، وذكر الحديث . فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب . ومع هذا ، فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان في تمام غزوة هوازن . وهم بدأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال . ولما انهزموا دخل ملكهم - وهو مالك بن عوف النضري - مع ثقيف في حصن الطائف . فحاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان غزوهم من تمام الغزو التي شرع فيها ، والله أعلم .
وقال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } [ المائدة : 2 ] ، وقال في سورة البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ } . فهاتان آيتان مدنيتان . بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام . وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمها . ولا اجتمعت الأمة على نسخه . و من استدل على النسخ بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] ، ونحوها من العمومات ، فقد استدل على النسخ بما لا يدل . ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة ، فقد استدل بغير دليل ، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام .
{ وَلاَ يَزَالُونَ } - يعني أهل مكة - : { يُقَاتِلُونَكُمْ } - أيها المؤمنون - : { حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } أي : يرجعوكم عن دينكم الإسلام إلى الكفر : { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } أي : قدروا على ردَّتكم . وفيه استبعاد لاستطاعتهم . فهو كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق عليّ . وهو واثق أنه لا يظفر به . وجملة : { وَلاَ يَزَالُونَ } إما معطوفة على : { يَسْأَلُونَكَ } أو معترضة . والمقصود : تحذير المؤمنين منهم وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور ، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين .
وفي الآية إشعار بأنكم أحق بأن لا تزالوا تقاتلونهم ، لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون ، وأنهم على الباطل وهم مخذولون ، ولا بد وإن طال المدى ؛ لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم . ومن وُكِل إلى نفسه ضاع . فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام . فينبغي الاستعداد له بعدَّته ، والتأهب له بأهبته ، فضلاً عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعناً في الدين ، وصداً عن السبيل . أشار لذلك البقاعي . ثم حذر تعالى عن الارتداد بقوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } وهو الإسلام . وبناء صيغة الافتعال من الردة المؤذنة بالتكلف ، إشارة إلى أن من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فهو متكلف في ذلك : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم ، ورُدّت : { فِي الدُّنْيَا } - إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم - : { وَالآخِرَةِ } - إذ يسقط ثوابهم ، فلا يجزون ثمة بحسناتهم : { وَ } لا يقتصر عليه بل : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } أي : أهل النار : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 218 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } بحرمة الشهر في نفسه وجواز قتال المخرجين أهل المسجد الحرام منه : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } فتركوا مكة وعشائرهم إذ أخرجوا من المسجد الحرام : { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه } ولو في الشهر الحرام للدفع عن أنفسهم : { أُوْلَئِكَ } وإن باشروا القتال في الشهر الحرام : { يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ } أي : جنته على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم . وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجوّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر ، وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه ، لا لأن في فوزهم اشتباهاً : { وَاللّهُ غَفُورٌ } لهتكهم حرمة الشهر : { رَّحِيمٌ } بما تجاوز عن قتالهم ، مع قيام دليل الحرمة فلم يعاقبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ 219 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } هذه الآية أول آية نزلت في الخمر ، على ما قاله ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية في المائدة .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر أنه قال - لما نزل تحريم الخمر - : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ! فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة - نادى أن : لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قال عمر : انتهينا انتهينا .
وحقيقة الخمر : ما أسكر من كل شيء ، وروى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها ، لم يشربها في الآخرة > .
وأما الميسر : فهو القمار - بكسر القاف - مصدر من يَسَر - كالموعد والمرجع من فعلهما . يقال : يسرته إذا قمرته ، واشتقاقه من اليُسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كدّ ولا تعب ، أو من اليسار لأنه سلب يساره .
وصفته : أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام وهي :
الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلْس - بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وككتف - والنافس ، والمُسبل - كُمحسن - والمعلَّى - كمعظّم ، والمنيح - كأمير ، والسفيح - بوزن ما قبله ، والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء كما قاله أبو عمر أو ثمانية وعشرين جزءاً كما قال الأصمعي وهو الأكثر ، إلا ثلاثة منها وهي المنيح والسفيح والوغد فلا أنصباء لها . وإنما يكثر بها القداح كراهة التهمة . ولبعضهم :
~لي في الدنيا سهام ليس فيهن ربيح
~وأساميهن : وغد وسفيح ومنيح
فللفذّ سهم - أي : فرض واحد - وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة ، يجعلونها في الربابة وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يده فيُخرج . باسم رجل رجل ، قدحاً منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله . وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه : البرم بفتحتين كذا في " الكشاف " بزيادة .
وفي " القاموس وشرحه " : الميسر : اللعب بالقداح ، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها ، كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة ونحروه وقسموه ثمانية وعشرين قسماً ، أو عشرة أقسام فإذا خرج واحد واحدٌ باسم رجلٍ رجل ، ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل . وإنما سمي الجزور ميسراً ، لأنه يجزأ أجزاء . وكل شيء جزأته فقد يسرته ؛ ويسرت الناقة جزأت لحمها ، ويسر القوم الجزور أي : اجتزروها واقتسموا أجزاءها . قال سُحَيم بن وثيل اليربوعي :
~أقول لهم بالشعب إذ يَيْسِرُونني ألم تعلموا أنّي ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
كان وقع عليه سباء فضرب عليهم بالسهام . وقوله ييسرونني هو من الميسر ، أي : يجزونني ويقتسمونني . وقال لَبِيد :
~واعفف عن الجارات وامنحْ هُنّ مَيْسِرَك السَّمينا
فجعل الجزور نفسه ميسراً . ونقل الصاغاني ، أن الميسر : النرد . وقال مجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر . حتى لعب الصبيان بالجوز .
{ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي : عظيم - وقرئ بالمثلثة - وذلك لما فيها من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع . من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر . وإصابة المال بلا كدّ في الميسر . وفي تقديم بيان إثمه ، ووصفه بالكب ، وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس ، من الدلائل على غلبة الأول - ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نفْعِهِمَا } أي : المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه . أي : لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين . وفي هذا من التنفير عنها ما لا يخفى . ولهذا كانت هذه الآية ممهّدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرضة ؛ ولهذا ، قال عمر لما قرأت عليه : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ! حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 90 - 91 ] .
تنبيه :
ألف كثير من أعلام الأطباء والفلاسفة مؤلفات خاصة في مضرات المسكرات .
ولم تزل تعقد في بعض ممالك النصارى مؤتمرات دولية ، تدعى إليه نواب من جميع دول العالم الكبيرة لمحاربة المسكرات ، وعيافها ، وإعلان تأثيرها في الأجساد والعقول والأرواح ، وما ينشأ عنها من الخسران المالي ، ومما قرره خمسون طبيباً منهم هذه الجمل :
1 - إن المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده .
2 - إنها لا تفيد شيئاً في قضاء الأعمال .
3 - إنها توقف النمو العقلي والجسدي في الأولاد .
4 - إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات ، وتجر إلى الفقر والشقاء .
5 - هي من المسكنات كالبنج والإيثر .
6 - إنها تعد للأمراض المعدية .
7 - إنها تعد بنوع خاص للتدرن والسل .
8 - إنها تضر في ذات الرئة والحمى التيفودية أكثر مما تنفع .
9 - إنها تقرب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت ، وتطيل مدة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة .
10 - إنها تعد لضربة الشمس والرعن في أيام الحر .
11 - إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد .
12 - إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية .
13 - إنها كثيراً ما تسبب التهاب الأعصاب ، والآلام المبرحة .
14 - إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم .
15 - إن المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحتهم .
16 - إن الامتناع عنها مما يقضي إلى صحة وسعادة الجنس البشري .
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } أي : يتصدقون به من أموالهم : { قُلِ الْعَفْوَ } وهو ما يفضل عن النفقة ، أي : الفاضل الذي يمكن التجاوز عنه لعدم الاحتياج إليه .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وأبدأ بمن تعول > .
وأخرج مسلم عن جابر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا > .
وروى أبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عندي دينار ، قال : < أنفقه على نفسك > . قال عندي آخر ، قال : < أنفقه على ولدك > . قال : عندي آخر ، قال : < أنفقه على أهلك > . قال : عندي آخر ، قال : < أنفقه على خادمك > . قال : عندي آخر ، قال : < أنت أعلم > .
{ كَذَلِكَ } - أي : كما بين لكم ما ذكر - : { يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ } أي : الأمر والنهي وهوان الدنيا : { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 220 ]
.
{ فِي الدُّنْيَا } أنها فانية - والآخرة - أنها باقية ، وفي أمورهما لتصلحوها ولا تتحملوا مفسداتهما ، فلا تتركوا اللذائذ الباقية للذائذ الفانية .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] . وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتدّ ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . وقوله تعالى : { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي : مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خيرٌ من مجانبتهم . وإنما أقيم غاية المداخلة - أعني الإصلاح - مقامها ، تنبيهاً على أن المأمور به مداخلة يكون ترتب الإصلاح عليها ظاهراً ، كأنها عين الإصلاح : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ } تعاشروهم ولم تجانبوهم : { فَإِخْوَانُكُمْ } فهم إخوانكم في الدين - الذي هو أقوى من العلاقة النسبية . ومن حقوق الأخوة : المخالطة بالإصلاح والنفع .
قال الأصبهاني : وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً ، كان في غيرهم أوسع . وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار . يخرجون النفقات بالسوية ، ويتباينون في قلة المطعم وكثرته .
{ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } لأموالهم : { مِنَ الْمُصْلِحِ } لها ، فيجازيه على حسب مداخلته ، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح : { وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت - وهو المشقة - وأحرجكم ، فلم يطلق لكم مداخلتهم ، ولا يمنعه من ذلك شيء { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } أي : غالب على ما أراد : { حَكِيمٌ } أي : فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة .
هذا ، وقد حمل القاضي قوله تعالى : { قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } على جهات المصالح والخيرات العائدة إلى الولي واليتيم . قال رحمه الله : هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل ، لأن هذا الصنع أعظم تأثيراً فيه من إصلاح حاله بالتجارة . ويدخل فيه أيضاً إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة . ويدخل أيضاً معنى قوله تعالى : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّب } [ النساء : 2 ] . ومعنى قوله : { خَيْرٌ } يتناول حال المتكفل . أي : هذا العمل خير له من أن يكون مقصراً في حق اليتيم . ويتناول حال اليتيم أيضاً . أي : هذا العمل خير لليتيم من حيث إنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله . فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي .
وروى البخاري عنه سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا > . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما . وروى نحوه مسلم أيضاً في صحيحه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 221 ]
.
{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } أي : لا تتزوجوا الوثنيات حتى يؤمن بالله تعالى .
قال ابن كثير : هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عَبْدة الأوثان ، ثم إن كان عمومها مراداً ، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [ المائدة : 5 ] .
وقد بسط العلامة الرازي ههنا الكلام على أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب ؟ فانظره .
والتحقيق : أن المشرك لا يتناول الكتابي ، لأن آيات القرآن صريحة في التفرقة بينهما . وعطف أحدها على الآخر في مثل : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } [ البينة : 6 ] . وسر ذلك أن المشرك هو من يتدين بالشرك . أي : يكون أصل دينه الإشراك ، والكتابي - وإن طرأ في دينه الشرك - فلم يكن من أصله وجوهره .
وقوله تعالى : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } تعليل للنهي عن مواصلتهن ، وترغيب في مواصلة المؤمنات ؛ أي : ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر ؛ خيرٌ من مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن . فإن نقصان الرِّقِّيَّة فيها مجبور بالإيمان الذي هو أجلّ كمالات الْإِنْسَاْن : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } أي : المشركة بحسنها ونسبها وغيرهما . فإن نقصان الكفر لا يجبر بها : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ } بضم التاء - من الإنكاح ، وهو التزويج أي : لا تزوّجوا الكفار - بأيّ كفر كان - من المسلمات : { حَتَّى يُؤْمِنُواْ } ويتركوا ما هم فيه من الكفر : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } مع ما به من ذل الرِّقِّيَّة : { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } بداعي الرغبة فيه الدنيوية ، فإن ذهاب الكفاءة بالكفر غير مجبور بشيء منها . وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى ، مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما ، إعلاماً بأن خيريتهما أمر مقطوع به وأن المفاضلة إنما هي بين من كلنوا يعدّونه دنيّاً فشرّفه الإيمان ، ومن يعدّونه شريفاً فحقّره الكفران . ولذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدلّ على أنه - وإن كان دنياً - موضع التفضيل لعلوّ وصفه . وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصراً عليه ، لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه - أفاده البقاعي .
ثم أشار إلى وجه الحظر بقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } أي : المذكورون من المشركات والمشركين : { يَدْعُونَ } من يقارنهم ويعاشرهم : { إِلَى النَّارِ } أي : إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق ؛ فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة ، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض ، فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا . . ! : { وَاللّهُ يَدْعُوَ } أي بما يأمر به على ألسنة رسله : { إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أي : العمل المؤدي إليهما . وتقديم الجنة هنا على المغفرة مع سبقها عليها ، لرعاية مقابلة النار ابتداءً : { بِإِذْنِهِ } بأمره : { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ } أمره ونهيه في التزويج : { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لكي يتعظوا وينتهوا عن تزويج الحرام ، ويوالوا أولياء الله - وهم المؤمنون - بالمعاشرة والمصاهرة فيفوزوا بما دُعوا إليه من الجنة والغفران .
هذا وقد قيل : معنى : { وَاللَّهُ يَدْعُو } وأولياء الله يدعون ، وهم المؤمنون ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ؛ تشريفاً لهم ، وتفخيماً لشأنهم ، حيث جعل فعلهم فعل نفسه صورة ، وملحظة رعاية المقابلة ، كأنه قيل : أعداء الله يدعون إلى النار ، وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة . إلا إن فيه فوات رعاية تناسب الضمائر ، فإن الضمير في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى : { وَيُبَيِّنُ } الله تعالى ، فيلزم التفكيك .
تنبيه :
قال الراغب : حقيقة التذكر ، الاستذكار عن نسيان أو غفلة لما اشتبه القلب . قال : إن قيل : إلى أي : شيء أشار بهذا التذكر ؟ قيل : إن الله عز وجل ركّب فينا بالفطرة معرفته ومعرفة آلائه . والْإِنْسَاْن - باستفادة العلم - يتذكّر ما ذُكر فيه ، فهذا معنى التذكر . ثم قال : وقد قيل : الرجاء من الله واجب ، بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجانا . قال : وهذه مسألة لا يمكن تصورها إن لم نبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطها الله تعالى . فلذلك صعب إدراكها لنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ 222 ]
.
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } ، وهو الدم الخارج من الرحم على وجه مخصوص في وقت مخصوص . ويسمى الحيض أيضاً . أي : هل يسبب ويقتضي مجانبة مس من رأته ؟ : { قُلْ هُوَ أَذىً } ، أي : الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه ، نفرة منه وكراهة له { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ } ، أي : فاجتنبوا مجامعتهن في زمنه .
قال الراغب : في قوله تعالى : { هُوَ أَذىً } ، تنبيه على أن العقل يقتضي تجنبه ، كأن قيل : الحيض أذى وكل أذى متحاشى منه . ولما كان الْإِنْسَاْن قد يتحمل الأذى ولا يراه محرماً ، صرح بتحريمه بقوله : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء } .
روى الإمام أحمد ومسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت . فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً } إلى آخر الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اصنعوا كل شيء إلا النكاح > . فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول ! إن اليهود تقول كذا وكذا ، فلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما . فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما .
{ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } ، تأكيد لحكم الاعتزال ، وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهن ، لا عدم القرب منهن ، وكنى بقربانهن ، المنهي عنه ، عن مباضعتهن . فدل على جواز التمتع بهن حينئذ فيما دون الفرج .
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أرجّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض .
وفيهما عنها أيضاً قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ، ثم يقرأ القرآن .
وروى مسلم عنها أيضاً قالت : كنت أشرب وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب ، وأتعرق العرق وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ .
وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ميمونة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نسائه فوق الأزار وهن حيَّض .
وفي لفظ له : كان يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب .
وقوله : { حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } بيان لغاية الاعتزال . وقد قرئ في السبع : بفتح الطاء والهاء مع التشديد ، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة . والقراءة الأولى تدل صريحاً على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، الخ . والقراءة الثانية وإن دلت على أن الغاية هو انقطاع الدم - بناء على ما قيل : إن الطهر انقطاع الدم ، والتطهر الاغتسال - إلا أنه لما ضم إليها قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، صار المجموع هو الغاية ؛ وذلك بمنزلة أن يقول الرجل : لا تكلم فلاناً حتى يدخل الدار ، فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه ! فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً ، وكذلك الآية - لما دلت على وجوب الأمرين - وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين ، فمرجع القراءتين واحدٌ كما بيّناً .
وقد روى مسلم عن عائشة : إن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ؟ فقال : < تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر ، فتحسن الطهور ، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها - والفرصة بالكسر : قطعة من صوف أو قطن أو غيره - تتبع بها أثر الدم > .
ثم آذن تعالى أن التطهر شرط في إباحة قربانهن ، لا يصح بدونه ، بقوله سبحانه : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } ، أي : فجامعوهن من المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ، ولا تتعدّوه إلى غيره { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } ، من الذنوب : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي : المتنزهين عن الفواحش والأقذار ، كمجامعة الحائض والإتيان فيغير المأتى . وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها - بارتكاب بعض الناس لما نهُوا عنه - وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 223 ]
.
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . روى الشيخان عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول . قال : فأنزلت : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } .
وعند مسلم عن الزهري : إن شاء مجبِّية ، وإن شاء غير مجبِّية ، غير أن ذلك في صمام واحد .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : هذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهري ، لخلوها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر ، مع كثرتهم .
والمجبِّية كملبِّية : المنكبّة على وجهها ، والصمام الواحد : الفرج ، وقوله تعالى : { حَرْثٌ لَّكُمْ } ، الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، هذا أصله ؛ والكلام إما بحذف المضاف ، أي : مواضع حرث ، أو المصدر بمعنى المفعول ، أي : محروثات . وإنما شُبِّهن لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذور من المشابهة . من حيث إن كلاً منهما مادة لما يحصل منه . ولما عبّر تعالى عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان كما تقدم ، فقال : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، أي : فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي : جهة شئتم ، لا تخطر عليكم جهة دون جهة . والمعنى : جامعوهن من أي : جهة شئتم ولا تبالوا بقول اليهود . وفي تخصيص الحرث بالذكر تعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه .
قال الزمخشري : وقوله تعالى : { هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء } - : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } - : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . من الكنايات اللطيفة ، والتعريضات المستحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ، ويتأدبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم .
وقد ورد - في سبب نزول هذه الآية - رواية أخرى أخرجها أبو داود والحاكم عن ابن عباس قال : كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم . وكان من أمر أهل الكتاب أنهم لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة . فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم . وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً ، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار . فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف ، فاصنع ذلك ، وإلا فاجنبني ، حتى سرى أمرهما . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، أي : مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد .
تنبيه :
ما ذكرناه من الروايات هو المعول عليه عند المحققين .
وثمة روايات أخر تدل على أن هذه الآية إنما أنزلت رخصة في إتيان النساء في أدبارهن .
قال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها, ثم قرأ : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، ثم قال : فأي شيء أبين من هذا ؟ قهذه حكاية الطحاوي نقلها ابن كثير .
وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : قال ابن القاسم : ولم أدرك أحداً أقتدي به في ديني يشك فيه ، والمدنيون يروون فيه الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم . يشير بذلك إلى ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد .
أما حديث ابن عمر فله طرق . رواه عنه نافع ، وعبيد الله بن عبد الله بن عُمَر ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن يسار ، وغيرهم .
أما نافع فاشتهر عنه من طرق كثيرة جداً ، منها : رواية مالك ، وأيوب ، وعبيد الله بن عُمَر العمري ، وابن أبي ذئب ، وعبد الله بن عَوْن ، وهشام بن سعد ، وعمر بن محمد بن زيد ، وعبد الله بن نافع ، وأبان بن صالح ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة .
قال الدارقطني ، في أحاديث مالك التي رواها خارج الموطأ : حدثنا أبو جعفر الأسواني المالكي بمصر . حدثنا محمد بن أحمد بن حماد . حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهري . حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله . حدثنا الدراوردي عن عبيد الله بن عُمَر بن حفص عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أمسك علَيَّ المصحف يا نافع . فقرأ حتى أتى على هذه الآية : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، فقال : تدري يا نافع فيمن أنزلت هذه الآية ؟ قال : قلت : لا ؟ قال ، فقال لي : في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها . فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } الآية . قال نافع : فقلت لابن عمر : من دبرها في قبلها ؟ قال : لا . إلا في دبرها .
قال أبو ثابت : وحدثني به الدراوردي عن مالك وابن أبي ذئب . وفيهما عن نافع مثله .
وفي تفسير البقرة من صحيح البخاري : حدثنا إسحاق . حدثنا النضر . حدثنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه . فأخذت عليه يوماً ، فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان ، فقال : تدري فيم أنزلت ؟ فقلت : لا ! قال : نزلت في كذا وكذا . ثم مضى .
وعن عبد الصمد : حدثني أبي - يعني عبد الوارث - حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر في قوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، قال : يأتيها في . . . قال : ورواه محمد بن يحيى بن سعيد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عُمَر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، هكذا وقع عنده .
والرواية الأولى - في تفسير إسحاق بن راهويه مثل ما ساق ، لكن عيّن الآية وهي : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، وعين قوله كذا وكذا . فقال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن . وكذا رواه الطبري من طريق ابن علية عن ابن عون . وأما رواية عبد الصمد فهي في تفسير إسحاق أيضاً عنه ، وقال فيه : يأتيها في الدبر .
وأما رواية محمد : فأخرجها الطبراني في " الأوسط " عن علي بن سعيد ، عن أبي بكر الأعين ، عن محمد بن يحيى بن سعيد بلفظ : إنما أنزلت : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } رخصة في إتيان الدبر . وأخرجها الحاكم في " تاريخه " من طريق عيسى بن مثرود عن عبد الرحمن بن القاسم ، ومن طريق سهل بن عمار عن عبد الله بن نافع . ورواه الدارقطني في " غرائب مالك " من طريق زكريا الساجي عن محمد بن الحارث المدني عن أبي مصعب . ورواه الخطيب في " الرواة " عن مالك من طريق أحمد بن الحكم العبدي . ورواه أبو إسحاق الثعلبي في " تفسيره " والدارقطني - أيضاً - من طريق إسحاق بن محمد الفروي . ورواه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " من طريق محمد بن صدقة الفدكي ، كلهم عن مالك . قال الدارقطني : هذا ثابت عن مالك .
وأما زيد بن أسلم : فروى النسائي والطبري من طريق أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عنه ، عن ابن عمر : أن رجلاً أتى امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد من ذلك وجداً شديداً ، فانزل الله عز وجل : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } الآية . وأما عبيد الله بن عبد الله بن عُمَر فروى النسائي من طريق يزيد بن رومان عنه : أن ابن عمر كان لا يرى به بأساً . موقوف .
وأما سعيد بن يسار : فروى النسائي والطحاوي والطبري من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال : قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري فنحمض لهن, والتحميض : الإتيان في الدبر , فقال : أفّ ! أَوَيَفعل هذا مسلم ؟ قال ابن القاسم : فقال لي مالك : أشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال : لا بأس به .
وأما حديث أبي سعيد : فروى أبو يعلى وابن مردويه في " تفسيره " والطبري والطحاوي من طرق : عن عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً أصاب امرأة في دبرها ، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : أثفرها ! فأنزل الله عز وجل : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . ورواه أسامة بن أحمد التجيبي من طريق يحيى بن أيوب عن هشام بن سعد ، ولفظه : كنا نأتي النساء في أدبارهن ، ويسمى ذلك : الإثفار ، فأنزل الله الآية . ورواه من طريق معن بن عيسى عن هشام - ولم يسمّ أبا سعيد - قال : كان رجال من الأنصار . . .
هذا ، وقد روي في تحريم ذلك آثار كثيرة نقلها الحافظ ابن كثير في " تفسيره " ، وابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي . وكلها معلولة .
ولذا قال البزار : لا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً ، لا في الحظر ولا في الإطلاق وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه ، فغير صحيح .
وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي علي النيسابوري ، ومثله عن النسائي ، وقاله قبلهما البخاري .
وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال : لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء . والقياس أنه حلال .
وروى أحمد بن أسامة التجيبي من طريق معن بن عيسى قال : سألت مالكاً عنه ، فقال : ما أعلم فيه تحريماً .
وقال ابن رشد في كتاب " البيان والتحصيل في شرح العتبية " روى العتبي عن ابن القاسم عن مالك أنه قال له - وقد سأله عن ذلك مخلياً به - فقال : حلال ليس به بأس .
وأخرج الحاكم عن محمد بن عبد الحكم قال : قال الشافعي كلاماً كلم به محمد بن الحسن في مسألة إتيان المرأة في دبرها ، قال : سألني محمد بن الحسن فقلت له : إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات - وإن لم تصح - فأنت أعلم ، وإن تكلمت بالمناصفة كلّمتك . قال : على المناصفة . قلت : فبأي شيء حرمته ؟ قال : بقول الله عز وجل : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ } ، وقال : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، والحرث لا يكون إلا في الفرج . قلت : أفيكون محرماً لما سواه ؟ قال : نعم . قلت : فما تقول لو وطئها بين ساقيها ، أو في أعكانها ، أو تحت إبطها ، أو أخذت ذكره بيدها ، أوفي ذلك حرث . . . ؟ قال : لا ! قلت : أفيحرم ذلك ؟ قال : لا ! قلت : فلم تحتج بما لا حجة فيه ؟ قال : فإن الله قال : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } الآية .
قال : فقلت له : إن هذا مما يحتجون به للجواز أن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه ، فقلت : أنت تتحفظ من زوجته وما ملكت يمينه . قال الحاكم : لعل الشافعي كان يقول بذلك في القديم . فأما في الجديد ، فالمشهور أنه حرّمه . فقد روى الأصم عن الربيع قال : قال الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه . . . وأخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال : قال الشافعي قال الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } احتملت الآية معنيين : أحدهما : أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها ، لأن : { أَنَّى شِئْتُمْ } ، يأتي بمعنى أين شئتم . ثانيهما : أن الحرث إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه . فاختلف أصحابنا في ذلك . فأحسب كلاًّ من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية . قال : فطلبنا الدلالة من السنة ، فوجدنا حديثين مختلفين : أحدهما ثابت ؛ وهو حديث خزيمة في التحريم . قال : فأخذنا به .
وعليه ، فيكون الشافعي رجع عن القديم . وحديث خزيمة . رواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وأبو نعيم بالسند إلى خزيمة بن ثابت : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال : حلال . فلما ولى الرجل دعاه - أو أمر به فدعي - فقال : < كيف قلت ؟ في أي : الخرزتين ؟ أمن دبرها في قبلها ؟ فنعم ! أم من دبرها في دبرها فلا ؟ إن الله لا يستحيي من الحق . لا تأتوا النساء في أدبارهن > .
قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " : وفي إسناده عَمْرو بن أحيحة وهو مجهول الحال واختلف في إسناده اختلافاً كثيراً . ثم قال الحافظ : وقد قال الشافعي : غلط ابن عيينة في إسناد حديث خزيمة - يعني حيث رواه . وتقدم قول البزار : وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت ، من طريق فيه ، فغير صحيح .
وقال الرازي في تفسيره : ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية : أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها ، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها . فقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } محمول على ذلك . ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن . وهذا قول مالك . واختيار السيد المرتضى من الشيعة . والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه .
وبالجملة : فهذا المقام من معارك الرجال ، ومجاول الأبطال . وقد استفيد مما أسلفناه : أن من جوز ذلك وقف مع لفظ الآية . فإنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة .
قال بعض المفسرين : إن العرب تسمي النساء حرثاً قال الشاعر :
~إذا أكل الجراد حروث قومٍ فحرثي همّه أكل الجراد
يريد : امرأتي ، وقال آخر :
~إنما الأرحام أرضٌ ولنا محترثات
~فقلبنا الزرع فيها وعلى الله النبات
وحينئذ ففي قوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، إطلاق في إتيانهن على جميع الوجوه . فيدخل فيه محل النزاع . واعتمد أيضاً من سبب النزول ما رواه البخاري عن ابن عمر كما تقدم . وقال في رواية جابر المروية في " الصحيح " المتقدمة . إن ورود العام على سبب لا يقصره عليه . وأجاب عن توهيم ابن عباس لابن عمر ، رضي الله عنهم ، المروي في " سنن أبي داود " بأن سنده ليس على شرط البخاري فلا يعارضه . فيقدّم الأصح سنداً . ونظر إلى أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : ذهب جماعة من أئمة الحديث - كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري - إلى أنه لا يثبت فيه شيء .
وأما من منع ذلك : فتأوّل الآيات المتقدمة على صمام واحد . ونظر إلى أن الأحاديث المروية - من طرق متعددة - بالزجر عن تعاطيه وإن لم تكن على شرط الشيخين في الصحة ، إلا أن مجموعها صالح للاحتجاج به .
وقد استقصى الأحاديث الواردة في ذلك ، الحافظ الذهبي في جزء جمعه في ذلك . وساق جملة منها الحافظ ابن كثير في " تفسيره " وكذا الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وقد هوّل - عليه الرحمة - في شأنه تهويلاً عظيماً . فقال في كتابه المذكور ، في الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم في الجماع ، ما نصه :
وأما الدبر ، فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء . ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة من دبرها فقد غلط عليه . ثم ساق أخبار النهي عنه - وقال بعد : وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين : أحدهما : أنه إنما أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد ، لا في الحشّ الذي هو موضع الأذى . وموضع الحرث هو المراد من قوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } الآية { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضاً لأنه قال : { أنى شئتم } أي : من أين شئتم : من أمام أو من خلف : قال ابن عباس : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ } . يعني الفرج ، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظن بالحشذ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان .
وأيضاً ، فللمرأة حق على الرجل في الوطء ، ووطؤها في دبرها يفوت حقها ، ولا يقضي وطرها ، ولا يحصل مقصودها . وأيضاً فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً . وأيضاً : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن ، وراحة الرجل منه . والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي . . . وأيضاً يضر من وجه آخر ، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جداً لمخالفته للطبيعة ، وأيضاً فإنه محل القذر والنّجُو ، فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه . وأيضاً : فإنه يضر بالمرأة جداً ، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة . وأيضاً : فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول . وأيضاً : فإنه يسوّد الوجه ، ويظلم الصدر ، ويطمس نور القلب ، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء ، يعرفها من له أدنى فراسة . وأيضاً : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بد . وأيضاً : فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح ، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح . وأيضاً : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدهما . كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضاً وتلاعناً . وأيضاً : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم ، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله ، وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه ، فأي خير يرجوه بعد هذا ؟ وأي شر يأمنه ؟ وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه .
أقول : أخذ هذا ابن القيم من أحاديث وردت في لعن فاعل ذلك ، وعدم نظر الحق إليه ، بيد أنها ضعيفة .
ثم قال ابن القيم : وأيضاً فإنه يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن ، وحينئذ فقد استحكم فساده . وأيضاً : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ، ويخرج الْإِنْسَاْن عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئاً من الحيوان ، بل هو طبع منكوس ، وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى ، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئات ، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره . وأيضاً فإنه يورث من الوقاحة والجراءة ما لا يورثه سواه . وأيضاً : فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره . وأيضاً : فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء وازدراء الناس له ، واحتقارهم إياه ، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس . فصلوات الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به ، وهلاكٌ الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به .
ولما اشتملت هذه الآية على الإذن في قضاء الشهوة ، نبه على أن لا يكون المرء في قيدها بل في قيد الطاعة ، فقال تعالى : { وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ } ، أي : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة لتنالوا به الجنة والكرامة ، كقوله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } فلا تجترئوا على المعاصي : { وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ } صائرون إليه فاستعدوا للقائه : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالثواب . وإنما حذف لكونه كالمعلوم ، فصار كقوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 224 ]
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، العرضة بضم العين ، فعلة بمعنى مفعول - كالقبضة والغرفة - وهي اسم ما تعرضه دون الشيء ، من عرض العود على الإناء . فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه . تقول : فلان عرضة دون الخير . وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات - من صلة رحم ، أو إصلاح ذات بين ، أو إحسان إلى أحد - ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني . فيترك البر إرادة البر في يمينه . فقيل لهم : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ } ، أي : حاجزاً لما حلفتم عليه . وسمي المحلف عليه يميناً لتلبسه باليمين كحديث : < من حلف على يمين > الآتي ذكره ، أي : على شيء مما يحلف عليه . وقوله : { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ } ، عطف بيان لـ : { أَيْمَانِكُمْ } ، أي : للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس . أفاده الزمخشري .
وعلى هذا التأويل : الآية : كقوله تعالى : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [ النور : 22 ] . والمعنى المتقدم في الآية اتفق عليه جمهور السلف . ورواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير . وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إني ، والله ! إن شاء الله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها > . وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير > .
وفي الآية وجه آخر ذكره كثير من المفسرين . وهو النهي عن الجراءة على الله تعالى بكثرة الحلف به . وذلك لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له . يقول الرجل : قد جعلتني عرضة للومك . وقال الشاعر :
~ولا تجعليني عرضةً للوائم
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } [ القلم : 10 ] . وقال تعالى : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] . والعرب كانوا يمدحون المرء بالإقلال من الحلف كما قال كثيّر :
~قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه وإن سبقت منه الألية برّتِ
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان : أن من حلف في كل قليل وكثير بالله ، انطلق لسانه بذلك . ولا يبقى لليمين في قلبه وقع . فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة . فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين . وأيضاً ، كلما كان الإِنْسَان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية . ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجلّ وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية . وأما قوله تعالى بعد ذلك : { أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا } ، فهو علة للنهي . أي : إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، لأن الحلاف مجترئ على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يثق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 225 ]
.
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ } أي : لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية - إذا لم تقصدوا هتك حرمته - وهي التي لا يقصدها الحالف ، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا قصد إليها . كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَان } وهو المعني بقوله عز وجل : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : تعمدته قلوبكم فاجتمع فيه ، مع اللفظ ، النية . يعني : ربط القلب به لفوات تعظيم أمره ، ولهتك حرمته بنقض اليمين المقصودة .
روي عن عائشة أنها قالت : أنزلت هذه الآية في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ! أخرجه البخاري ومالك وأبو داود ، وهذا لفظ البخاري .
وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهما من الصحابة والتابعين . ولفظ رواية ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل : لا والله ! وبلى والله ! فذاك لا كفارة فيه . إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله .
ويروى في تفسير لغو اليمين : هو أن يحلف على الشيء يظنه ، ثم يظهر خلافه . ويروى : أن يحلف وهو غضبان : ويروى غير ذلك ، كما ساقها ابن كثير ، مسندة .
وقد ظهر - للفقير - أن لا تنافي بين هذه الروايات ، لأن كل ما لا عقد للقلب معه من الأيمان فهو لغو بأي صورة كانت وحالة وقعت . فكل ما روي في تفسير الآية فهو مما يشمله اللغو . والله أعلم .
والمراد من المؤاخذة : إيجاب الكفارة . كما بين ذلك في آية المائدة : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } { وَاللّهُ غَفُورٌ } ، يعني : لعباده فيما لغو من أيمانهم فلم يؤاخذهم به : { حَلِيمٌ } ، يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة تربصاً بالتوبة . والجملة تذييل للحكمين السابقين . فائدته الامتنان على المؤمنين ، وشمول مغفرته وإحسانه لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 226 - 227 ]
.
{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } : { وإنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، اشتملت هذه الآية على حكم الإيلاء ، وهو لغة : الامتناع باليمين ، وخص في عرف الشرع : بالامتناع باليمين من وطء الزوجة . ولهذا عدى فعله بأداة من تضميناً له معنى ، يمتنعون من نسائهم : وهو أحسن من إقامة " من " مقام " على " . وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من نسائهم بالإيلاء ، فإذا مضت فإما أن يفيء وأما أن يطلق .
وقد اشتهر عن علي وابن عباس رضي الله عنهم : أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضا ، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه وظاهر القرآن مع الجمهور . وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر . فاحتج على محمدٍ بقول علي كرم الله وجهه ، فاحتج عليه محمد بالآية فسكت . وقد اتفق الأئمة على أن المولى إذا فاء إلى المواصلة لزمته كفارة يمين ، وإنما ترك ذكرها هنا ؛ لأنها معلومة من موضع آخر في التنزيل العزيز . فعموم وجوب التكفير ثابت على حالف .
قال العلامة صديق خان في " تفسيره " : اعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم ، وتكلفوا بما لا يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر ، ومعناها ظاهر واضح ، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي أي : يحلف من امرأته أربعة أشهر ثم قال مخبراً لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدة : { فَإِنْ فَآؤُوا } ، أي : رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح : { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، أي : لا يؤاخذهم بتلك اليمين ، بل يغفر لهم ويرحمهم ؛ : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
{ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } ، أي : وقع العزم منهم عليه والقصد له : { فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ } ، لذلك منهم : { عَلِيمٌ } به . فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة . فمن حلف أن لا يطأ امرأته - ولم يقيد بمدة ، أو قيد بزيادة على أربعة أشهر - كان علينا إمهاله أربعة أشهر . فإذا مضت فهو بالخيار : إما رجع إلى نكاح امرأته ، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها ، أو طلقها ، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء . وأما إذا وقّت بدون أربعة أشهر : فإن أراد أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة . كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً . فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر . وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة . وكان ممتثلاً لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : < من حلف على يمين فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه > .
قال الحرالي : وفي قوله تعالى : { فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام ، ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام ، فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر . ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال ، كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء . فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه .
قال الإمام ابن كثير : وقد ذكر الفقهاء وغيرهم - في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر - الأثر الذي رواه مالك عن عبد الله بن دينار قال : خرج عُمَر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :
~تطاول هذا الليل واسودّ جانبه وأرّقني ألا خَليلَ ألاعبُه
~فوالله ! لولا الله ، أني أراقبُه لحُرِّك من هذا السرير جوانبُه
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنهما : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت ستة أشهر أو أربعة أشهر . فقال عمر : لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك . وقال محمد بن إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيراً إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول :
~تطاول هذا الليل وازورّ جَانِبُه وأرّقَني ألا ضجيعَ ألاعبُه
~ألاعبه طوراً وطوراً كأنما بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبُه
~يُسَرُّ به من كان يلهو بقربه لطيف الحشا لا يحتويه أقاربُه
~فوالله ! لولا الله ، لا شيء غيره لنُقِّض من هذا السرير جوانبه
~ولكنني أخشى رقيباً موكَّلاً بأنفاسنا ، لا يفتر الدهرّ كاتبُه
~مخافة ربي ، والحياء يصدّني وإكرام بعلي ، أن تنال مراكبه
ثم ذكر بقية ذلك - كما تقدم أو نحوه - وقد روي هذا من طرق ، وهو من المشهورات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } [ 228 ]
.
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } ، هذا أمر للمطلقات بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ، ثم تتزوج إن شاءت . وأريد بالمطلقات : المدخول بهن من ذوات الأقراء ، لما دلت الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر . أما غير المدخولة فلا عدة عليها لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } [ الأحزاب : 49 ] ، وأما التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى : { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] ، وأما الحامل فعدتها وضع الحمل لقوله تعالى : { وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] .
فهذه الآية من العام المخصوص .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى الإخبار عنهن بالتربص ؟ قلت : هو خير في معنى الأمر ، وأصل الكلام وليتربص المطلقات ، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله . فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص . فهو يخبر عنه موجوداً . ونحوه قولهم في الدعاء : " رحمك الله " أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة . كأنما وجدت الرحمة ، فهو يخبر عنها . وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل توكيد . ولو قيل : ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة . . فإن قلت : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ، كما قيل تربص أربعة أشهر ، وما معنى ذكر الأنفس ؟ قلت : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن . وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال . فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص .
و القرء : من الأضداد . يطلق على الحيض والطهر . نص عليه من أئمة اللغة : أبو عبيدة والزجاج وعمرو بن العلاء وغيرهم . والبحث في ترجيح أحدهما طويل الذيل ، استوفاه الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فانظره . ولمن نظر إلى موضوعه اللغوي أن يقول : تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض . فأيهما اعتبرته المعتدة خرجت عن عهدة التكليف به . والله أعلم { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ } ، - أي : المطلقات - : { أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } ، من الحيض أو الولد ، استعجالاً في العدة أو إبطالاً لحق الزوج في الرجعة : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ } ، أي : إن جرين على مقتضى الإيمان به ، المخوف من ذاته : { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، المخوف من جزائه . ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ، ويتعذر إقامة البينة على ذلك . فرد الأمر إليهن ، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق . وهذه الآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه ، فأمره عند الله شديد { وَبُعُولَتُهُنَّ } - أي : أزواجهن - : { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } ، أي : يرجعتهن ، والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها : { فِي ذَلِكَ } ، أي : في زمان التربص ، وهي أيام الأقراء . أما إذا انقضت مدة التربص فهي أحق بنفسها ، ولا تحل له إلا بنكاح مستأنف بولي وشهود ومهر جديد . ولا خلاف في ذلك : { إِنْ أَرَادُواْ } ، أي : بالرجعة : { إِصْلاَحاً } ، لما بينهم وبينهن ، وإحساناً إليهن ، ولم يريدوا مضارتهن . وإلا فالرجعة محرمة لقوله تعالى : { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا } [ البقرة : 231 ] ، { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . أي ولهن على الرجال مثل ما للرجال عليهن . فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف . كما ثبت في " صحيح مسلم " : عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : < فاتقوا الله في النساء . فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه . فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف > .
وعن معاوية بن حيدة قال : قلت : يا رسول الله ! ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : < أن تطعمها إذا طعمتَ ، وتكسوها إذا اكتسيتَ ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت > . رواه أبو داود وقال : معنى لا تقبح : لا تقل قبحك الله .
وعن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه > متفق عليه .
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .
والأمير راع ، والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده . فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته > . متفق عليه .
وعن طَلْق بن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته ، وإن كانت على التنور > . رواه الترمذي والنسائي .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه ، فلم تأته ، فبات غضبان عليها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح > . متفق عليه .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إني لأحبُّ أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي ، لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
تنبيه :
المعروف : ما عرفته الطباع السليمة ولم تنكره ، مما قبله العقل ، ووافق كرم النفس ، وأقره الشرع . وقد قال بعض الفقهاء : لا يجب عليها خدمة زوجها في عجن وخبز وطبخ ونحوه ، لأن المعقود عليه منفعة البضع ، فلا يملك غيرها من منافعها . . ! ولكن مفاد الآية يرد هذا ويدل على وجوب المعروف من مثلها لمثله ؛ وبه أفتى الإمام ابن تيمية وفاقاً للمالكية . وإليه ذهب أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني ، واحتجا بما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت وعلى ما كان خارجاً من البيت من عمل . رواه الجوزجاني من طرق .
واستدل بالآية أيضاً على وجوب إخدامها ، إذا كان مثلها لا يخدم نفسها .
{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } : أي : زيادة في الحق وفضيلة . كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها > . رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح { وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } أي : غالب في انتقامه ممن عصاه ، حكيم في أمره وشرعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 229 ]
.
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ، الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ، وهو متبدأ بتقدير مضاف ، خبره ما بعده . أي : عدد الطلاق الذي يستحق الزوج فيه الرد والرجعة مرتان ، أي : اثنتان ، وإيثار ما ورد به النظم الكريم عليه للإيذان بأن حقهما أن يقعا مرة بعد مرة لا دفعة واحدة ، وإن كان حكم الرد ثابتاً حينئذ أيضاً .
قال ابن كثير : هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام : من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة مادامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات ، قصرهم الله تعالى على ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة الثانية [ في المطبوع : وثنتين ] ، وأبانها بالكلية في الثالثة ، فقال : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية .
قال الإمام أبو داود في " سننه " : باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث . ثم أسند عن ابن عباس في هذه الآية قال : إن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثاً . فنسخ ذلك ، فقال : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية . ورواه النسائي وغيره . وروى الترمذي عن عائشة قالت : كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر ، حتى قال رجل لامرأته : والله لا أطلقك فتبينين مني ولا أؤويك أبداً . . ! قالت : وكيف ذاك ؟ قال : أطلقك . فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك . فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها ، فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية . قالت عائشة فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً . من كان طلق ومن لم يكن طلق . ثم أسند عن عروة ولم يذكر عائشة ، وقال : هو أصح .
وقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ، أي : فالحكم بعد تطليق الرجل امرأته تطليقتين : أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ؛ أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ، ولا ينفر الناس عنها .
قال الرازي : الحكمة في إثبات حق الرجعة : أن الْإِنْسَاْن ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا ؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر . فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الْإِنْسَاْن بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة ، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ؛ وعند ذلك قد جرب الْإِنْسَاْن نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب . فإن كان الأصلح إمساكها راجعها و [ في المطبوع : أو ] أمسكها بالمعروف . وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه . وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده .
{ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } ، - أي : أيها المطلقون : { أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } - من المهر وغيره - : { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } أي : فيما يلزمها من حقوق الزوجية - : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ، أي : نفسها عن ضرره ؛ أي : لا إثم على الزوج في أخذ ما افتدت به ، ولا عليها في إعطائه . وهذه الآية أصل في الخلع .
وقد ذكر ابن جرير : أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس وكانت زوجته لا تطيقه بغضاً . ففي " صحيح البخاري " عن ابن عباس : أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! ما أعيب عليه في خلق ولا دين . ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أتردين عليه حديقته ؟ > قالت : نعم ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اقبل الحديقة وطلقها تطليقة > . وقد بسط طرق هذا الحديث مع أحكام الخلع الإمام ابن كثير في " تفسيره " ، وكذا شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " فلتنظره ثمه .
{ تِلْكَ } - أي : الأحكام العظيمة المتقدمة للطلاق والرجعة والخلع وغيرها . . . - : { حُدُودُ اللّهِ } - شرائعه - : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } - بالمخالفة والرفض - : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، أي : لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه . وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 230 ]
.
{ فَإِن طَلَّقَهَا } - أي : بعد التطليقتين - : { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ } - برجعة ولا بنكاح جديد : { مِن بَعْدُ } - أي : - من بعد هذا الطلاق - : { حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } أي : حتى تذوق وطء زوج آخر ، وهي العسيلة التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح صحيح . وفي جعل هذا غاية للحل ، زجر لمن له غرض ما في امرأته عن طلاقها ثلاثاً ، لأن كل ذي مروءة يكره أن يفترش امرأته آخر .
فروع مهمة تتعلق بهذه الآية :
الأول : قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثاً لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني . ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن امرأة رِفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إن رِفاعة طلقني فبتّ طلاقي . وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي ، وإن ما معه مثل الهدبة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لعلك تريدين أن ترجعي إلى رِفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك > . وفي " سنن النسائي " . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < العسيلة الجماع ولو لم ينزل > . وفيها عن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ًفيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ؟ قال : < لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر > . فتضمن هذا الحكم أموراً :
أحدها : أنه لا يقبل قول المرأة على الرجل : أنه لا يقدر على جماعها .
الثاني : أن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول ، خلافاً لمن اكتفى بمجرد العقد ، فإن قوله مردود بالسنة التي لا مردّ لها .
الثالث : أنه لا يشترط الإنزال بل يكفي مجرد الجماع الذي هو ذوق العسيلة .
الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل مجرد العقد المقصود - الذي هو نكاح رغبة - كافياً ، ولا اتصال الخلوة به وإغلاق الأبواب وإرخاء الستور حتى يتصل به الوطء... . وهذا يدل على أنه لا يكفي مجرد عقد التحليل الذي لا غرض للزوج والزوجة فيه سوى صورة العقد وإحلالها للأول بطريق الأَولى .
فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غير كافٍ حتى يوجد فيه الوطء ، فكيف يكفي عقد تيس مستعار ليحلها ، لا رغبة له في إمساكها ، وإنما هو عارية كحمار الفرس المستعار للضراب ! .
وقال - عليه الرحمة - قبل ذلك : وأما نكاح المحلل ، ففي " الترمذي " و " المسند " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : < لعن الله المحلل والمحلل له > , قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي " المسند " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : < لعن الله المحلل المحلل له > ، وإسناده حسن . وفيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وفي " سنن ابن ماجة " من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ > قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : < هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له > . فهؤلاء الأربعة من سادات الصحابة رضي الله عنهم ، وقد شهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعنه أصحاب التحليل ، وهم المحلل والمحلل له . وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق . وإما دعاء مستجاب قطعاً . وهذا يفيد أنه من الكبائر الملعون فاعلها . ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ والقصد . فإن المقصود [ في المطبوع : القصود ] في العقود عندهم معتبرة . والأعمال بالنيات . والشرط المتواطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم . والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني ، فإذا ظهرت المعاني والمقاصد فلا عبرة بالألفاظ ، لأنها وسائل قد تحققت غاياتها فترتب عليها أحكامها .
وقد ساق ابن كثير الأحاديث الواردة في ذلك : منها ما قدمناه ، ومنها ما رواه الحاكم في " مستدركه " : عن نافع قال : جاء رجل إلى ابن عمر . فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له ، من غير مؤامرة منه ، ليحلها لأخيه : هل تحل للأول ؟ فقال لا . إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن عمر أنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما . وروى البيهقي : أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ، ففرق بينهما . وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم .
وبالجملة : فالتحليل غير جائز في الشرع . ولو كان جائزاً لم يلعن فاعله والراضي به . وإذا كان لعن الفاعل لا يدل على تحريم فعله لم تبق صيغة تدل على التحريم قط . وإذا كان هذا الفعل حراماً غير جائز في الشريعة فليس هو النكاح الذي ذكره الله تعالى في قوله : { حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } . كما أنه لو قال : لعن الله بائع الخمر لم يلزم من لفظ بائع أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } والأمر ظاهر .
فصل
قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " :
إلزام الحالف بالطلاق والعتاق ، إذا حنث ، بطلاق زوجته وعتق عبده - مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة - فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبداً . وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء - الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط - كما في " صحيح البخاري " عن نافع قال : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت . فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه ، وإن لم تخرج فليس بشيء . فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقاً . وأما من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع ، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب . فإنه صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور . وصح عنهم عدم الوقوع في صور . والصواب : ما أفتوا به في النوعين . ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها . فأما الوقوع : فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر ، وما رواه الثوري عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته : إن فعلت كذا وكذا فهي طالق ، ففعلته . قال : هي واحدة وهو أحق بها . على أنه منقطع . وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته : هي طالق إلى سنة . قال : يتمتع بها إلى سنة . ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر فقال : إن عدت سألتيني فأنت طالق . فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق . وأما الآثار عنهم في خلافه : فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة - رضي الله عنهم - فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفّر عن يمينها ولا تفرق بينهما . رواه الأثرم في " سننه " والجوزجاني في " المترجم " والدارقطني والبيهقي .
وقاعدة الإمام أحمد : أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه ، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه . فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه ، يلزمه القول بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته . قال أبو محمد بن حزم : وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة - أمي المؤمنين - أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امراتك ,كفارة يمين واحة . وإذا صح هذا عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف في قول الحالف : عبده حر إن فعل ، أنه يجزيه كفارة يمين ، ولم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله ، فأن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى . كيف وقد أفتى علي بين أبي طالب رضي الله عنه : الحالف بالطلاق ، أنه لا شيء عليه . . . ولم يعرف له في الصحابة مخالف ؟ . قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التَّيمي المعروف بابن بريرة الأندلسي في شرحه لأحكام عبد الحق, الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك منه : وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك ، هل يلزم أم لا ؟ فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وشريح وطاوس : لا يلزم من ذلك شيء ، ولا يقضي بالطلاق على من حلف به فحنث . ولا يعرف في ذلك مخالف من الصحابة - هذا لفظه بعينه - فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق .
وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط - ولا تعارض بين ذلك - فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه . . إلى أن قال : وإذا دخلت اليمين بالطلاق في قول الحالف : أيمان البيعة تلزمني - وهي الأيمان التي رتبها الحجاج - فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فإن كانت يمين الطلاق يميناً شرعية - بمعنى أن الشرع اعتبرها - وجب أن تعطى حكم الأيمان . وإن لم تكن يميناً شرعياً كانت باطلة في الشرع فلا يلزم الحالف بها شيء ، كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه : ليس الحلف بالطلاق شيئاً . وصح عن عكرمة من رواية سُنَيْد بن داود في " تفسيره " عنه : إنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شيء . وصح عن شريح - قاضي عليّ - وابن مسعود : إنها لا يلزم بها الطلاق . وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه . فهذه أقوال أئمة المسمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
فصل
وقال الإمام ابن القيّم - أيضاً - في " أعلام الموقعين " :
إن المطلّق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزمن أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر ، كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة . كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس . فروى مسلم في " صحيحه " عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة . فقال عُمَر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم في أناة . فلو أمضيناه عليهم ؛ فأمضاه عليهم . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : طلق رُكانة بن عبد يزيد أخو بني مطّلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً . قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقها ؟ قال : طلقها ثلاثاً ، قال : فقال : في مجلس واحد ؟ قال نعم . قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ، قال : فرجعها . كان ابن عباس يرى : إنما الطلاق عند كل طهر . وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه . ثم إن عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يَخفَ عليه . أن هذا هو السنة ، وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة . وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع كله جملة واحدة . كاللعان فإنه لو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين ، كان مرة واحدة . ولو حلف في القسامة وقال : أقسم بالله خمسين يميناً إن هذا قاتله ، كان يميناً واحدة . ولو قال المقر بالزنا : أنا أقر أربع مرات أني زنيت ، كان مرة واحدة . فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك الإقرار إلا واحداً . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : < من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر > . فلو قال : سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة . وكذلك قوله : < من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمده ثلاثاً وثلاثين وكبّره ثلاثاً وثلاثين > . . الحديث ، لا يكون عاملاً به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة ، لا يجمع الكل بلفظ واحد . . وكذلك قوله : < من قال في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي > . لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة . وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء . كقوله تعالى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } [ التوبة : 101 ] ، إنما هو مرة بعد مرة . وكذا قول ابن عباس : رأى محمد ربه بفؤاده مرتين ، إنما هو مرة بعد مرة . وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : < لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين > . فهذا هو المعقول من اللغة والعرف . فالأحاديث المذكورة ، وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى : { } كلها من باب واحد ومشكاة واحدة . والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } . فهذا كتاب الله ، وهذه سنة رسوله ، وهذه لغة العرب ، وهذا عرف التخاطب ، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة كلهم معه في عصره ، وثلاث سنين من عصر عمر رضي الله عنه ، على هذا المذهب ، فلو عدّهم العادّ لزادوا على الألف قطعاً . ولهذا ادّعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ، ولم تجمع الأمة - ولله الحمد - على خلافه . بل لم يزل فيهم من يفتي به قرناً بعد قرن ، وإلى يومنا هذا . فأفتى به من الصحابة ابن عباس والزبير وابن عوف . وعن علي وابن مسعود روايتان ، ومن التابعين عِكْرِمَة وطاوس . ومن تابعيهم : محمد بن إسحاق وغيره . وممن بعدهم دواد إمام أهل الظاهر ، وبعض أصحاب مالك ، وبعض الحنفية ، وأفتى بعض أصحاب أحمد - حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه - قال : وكان الجد يفتي به أحياناً .
والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم . ولم يأتي بعده إجماع يبطله . ولكن رأى أمير المؤمنين عمر ، رضي الله عنه ، أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ، ليعلموا أن أحدهم ، إذا أوقعه جملة ، بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإنه كان من أشد الناس فيه ، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق . فرأى عمر هذا مصلحة لهم في زمانه . ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدراً من خلافته - كان اللائق بهم ، لأنهم لم يتتابعوا فيه . وكانوا يتقون الله في الطلاق . وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً . فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم . فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة . ولم يشرعه كله مرة واحدة . فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله ، وظلم نفسه ، ولعب بكتاب الله . فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه ، ولا يقر على رخصة الله وسعته ، وقد ضيعها على نفسه . ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له ، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه ، رحمة وإحساناً . واختار الأغلظ والأشد . فهذا ما تغيرت به البلوى لتغير الزمان ، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك ، فوافقوه على ما ألزم به ، ثم قال : فلما تغير الزمان ، وبعد العهد بالسنة وآثار القوم ، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس ، فالواجب أن يُردَّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل ويقللها ويخفف شرها . وإذا عُرض إلى من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه . مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ، ووازن بينهما - تبين له التفاوت ، وعلم أي : المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين .
ثم قال عليه الرحمة : ويمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر رضي الله عنه من وجهين :
أحدهما : أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام ، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه ، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرماً عند نفسه ؟
الثاني : أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدوداً على عهد الصحابة رضي الله عنهم . والعقوبة - إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه - كان تركها أحب إلى الله ورسوله . ولا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أولى من الرجوع إلى التحليل ، والله الموفق .
فصل
وأما طلاق الغضبان ففي " أعلام الموقعين " ما نصه :
إن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به . والله سبحانه رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل ، كما رفعها عمن تلفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة . ولهذا لم يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقاً من غير قصد ، لفرح أو دهش أو غير ذلك ، كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد ، وضرب مثل ذلك : من فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال : اللهم ! أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ، ولم يؤاخذ بذلك وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ . ومن هذا قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] ، قال السلف : هو دعاء الْإِنْسَاْن على نفسه وولده وأهله في حال الغضب ، لو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه ، ولكنه لا يستجيبه لعلمه أن الداعي لم يقصده . ومن هذا رفعه صلى الله عليه وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق . قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية حنبل : هو الغضب .
وبذلك فسره أبو داود . وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق - أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم - وهي عنده من لغو اليمين أيضاً . فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق . وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه - وهو ابن بريرة الأندلسي - قال : وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما من الصحابة : أن الإيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم . وفي " سنن الدارقطني " بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه : لا يمين في غضب ، ولا عتاق فيما لا يملك . وهو ، إن لم يثبت رفعه ، فهو قول ابن عباس . وقد فسر الشافعي لا طلاق في إغلاق بالغضب ، وفسره مسروق به . فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل كلهم فسروا الإغلاق بالغضب . وهو من أحسن التفسير . لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد لشدة غضبه . وهو كالمكره . بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره ، لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر الذي هو دونه ، فهو قاصد حقيقة . ومن ههنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه . وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون . فإن غول العقل يغتاله الخمر بل أشد . وهو شعبة من الجنون ، ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه . ولهذا قال حبر الأمة - الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، بالفقه في الدين : إنما يقع الطلاق من وطرٍ . ذكره البخاري في صحيحه ، أي : عن غرض من المطلق في وقوعه . وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ، وإجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له ؛ إذ الألفاظ إنما تترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها . والله لم يؤاخذنا باللغو في أيماننا . ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجمهور السلف : إنه قول الحالف : لا والله ، وبلى ، والله . في عرض كلامه من غير عقد لليمين ، كذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق كقول الحالف في عرض كلامه : عليّ الطلاق لا أفعل و الطلاق يلزمني لا أفعل من غير قصد لعقد اليمين . بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو ، فيمين الطلاق أولى أن لا ينعقد ، ولا تكون أعظم حرمة من الحلف بالله . وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وهو الصواب . فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة ، وتنسب إليها ما هي بريئة منه ، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به . فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال . وقد رفع الله المؤاخذة بهذا . وهذا كما قال المؤمنون : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] ! فقال ربهم تبارك وتعالى : قد فعلت .
وفي [ زاد المعاد ] قال شيخنا : حقيقة الإغلاق : أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته .
قال أبو العباس المبرد : الغلق ضيق الصدر وقلة الصبر حتى لا يجد له مخلصاً .
قال شيخنا : ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال .
والغضب على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال . وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع .
الثاني : ما يكون في مباديه ، بحيث لا يمنع صاحبه من تصوّر ما يقول وقصده ، فهذا يقع طلاقه .
الثالث : أن يستحكم ويشتد به ، فلا يزيل عقله بالكلية ، ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال . فهذا محل نظر . وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه .
فصل
وأما طلاق الحائض والنفساء والموطوءة في طهرها ، ففي الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسأل عُمَر بن الخطاب ، عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : < مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسكها بعد ذلك وإن شاء طلقها قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء > . ولمسلم : < مره فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل > وفي لفظ : < إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمس ، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى > . وفي لفظ للبخاري : < مره فليراجعها ثم ليطلقها في قُبُلِ عدتها > . وفي لفظ لأحمد وأبي داود والنسائي ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : طلق عبد الله بن عُمَر امرأته وهي حائض فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئاً وقال : < إذا طهرت فليطلق أو ليمسك > . وقال ابن عمر رضي الله عنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } في قبل عدتهن ، فتضمن هذا الحكم أن الطلاق على أربع أوجه : وجهان حلالان ووجهان حرامان .
فالحلال : أن يطلق امرأته طاهراً من جماع . أو يطلقها حاملاً مستبيناً حملها . والحرام : أن يطلقها وهي حائض . أو يطلقها في طهر جامعها فيه . هذا في طلاق المدخول بها . وأما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضاً وطاهراً .
ثم إن الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتاً بين السلف والخلف . وقد وهم من ادعى الإجماع على وقوعه وقال بمبلغ علمه وخفي عليه من الخلاف ما اطلع عليه غيره . وقد قال الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فهو كاذب . وما يدريه لعل الناس اختلفوا ؟ كيف والخلاف بين الناس في هذه المسألة معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين . . ؟ ! .
وقال محمد بن عبد السلام الخُشَنِي : ثنا محمد بشار : ثنا عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي . ثنا عبيد الله بن عُمَر عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال ، في رجل يطلق امرأته وهي حائض ، قال ابن عمر : لا يعتد بذلك . ذكره أبو محمد بن حزم في " المحلى " بإسناده إليه .
وقال عبد الرزاق في " مصنفه " عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه : أنه كان لا يرى طلاق ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة . وكان يقول : وجه الطلاق أن يطلقها طاهراً من غير جماع أو إذا استبان حملها .
قال أبو محمد بن حزم : العجب من جراءة من ادعى الإجماع على خلاف هذا وهو لا يجد فيما يوافق قوله - في إمضاء الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي جامعها فيه - كلمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، غير رواية عن ابن عمر . وقد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر .
وقال أبو محمد : بل نحن أسعد بدعوى الإجماع ههنا لو استجزنا ما يستجيزون - ونعوذ بالله من ذلك - وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة ، ومن جملتهم جيع المخالفين . لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض ِأو في طهر جامعها فيه بدعة . فإذاً لا شك في هذا عندهم ، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعة وضلالة ؟ أليس بحكم المشاهدة ، مجيز البدعة مخالفاً لإجماع القائلين بأنها بدعة . . ؟ ! .
قال أبو محمد : وحتى لو لم يبلغنا الخلاف لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده ، ولا بلغه عن جميعهم كاذباً على جميعهم .
هذا ما أفاده الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " . ثم ذكر حجج المانعين من وقوعه ، وحجج من أوقعه ، والمناقشة فيها ، فراجعه إن شئت .
وذكر في خلال البحث : أنه لا دليل في قوله : < مره فليراجعها > على وقوع الطلاق ، لأن المراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان : منها : ابتداء النكاح كقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } ، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق - ههنا - هو الزوج الثاني . وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول . وذلك نكاح مبتدأ . ومنها : الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولاً كقوله لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلاماً خصه به دون ولده : ردّه . فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائرة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جوراً ، وأخبر أنها لا تصح ، وأنها خلاف العدل . ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع ، فنهاه عن ذلك ورد البيع . وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع ، فإنه بيع باطل ، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا . وهكذا الأمر ، بمراجعة ابن عمر امرأته ، ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق ، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة ، وثمة وجوه أخرى ، والله أعلم .
فصل
وأما الخلع : فالتحقيق أنه فسخ لا طلاق . وأن العدة فيه حيضة ، روى أبو داود في " سننه " عن ابن عباس ؛ أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد حيضة ، ففي ذلك دليل على حكمين : أحدهما : أنه لا يجب عليها ثلاث حيض بل تكفيها حيضة . وهذا كما أنه صريح السنة فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وعبد الله بن عُمَر بن الخطاب ، والربيع بنت معوذ وعمها رضي الله عنهم - وهو من كبار الصحابة - فهؤلاء الأربعة من الصحابة لا يعرف لهم مخالف منهم - وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهويه والإمام أحمد ، في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية . قال : هذا القول هو مقتضى قواعد الشريعة . فإن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة ويتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة . فإذا لم تكن عليها رجعة ، فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل . وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء . ولا ينتقض هذا بالمطلقة ثلاثاً . فإن باب الطلاق جعل حكم العدة فيه واحداً بائنة ورجعية . قالوا : وهذا دليل على أن الخلع فسخ ، وليس بطلاق . وهو مذهب ابن عباس وعثمان وابن عمر والربيع وعمها . ولا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة . فروى الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن عَمْرو ، عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه قال : الخلع تفريق وليس بطلاق . وذكر عبد الرزاق عن سفيان عن عَمْرو ، عن طاوس : أن إبراهيم ابن سعد سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه ، أينكحها ؟ قال ابن عباس رضي الله عنه : نعم ! ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها ، والخلع بين ذلك .
والذي يدل على أنه ليس بطلاق ، أن الله سبحانه وتعالى رتب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده ، ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع :
أحدها : أن الزوج أحق بالرجعة فيه .
الثاني : أنه مسحوب من الثلاث فلا يحل بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة .
الثالث : أن العدة فيه ثلاثة قروء .
وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع . وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة . وثبت بالنص جوازه بعد طلقتين ووقوع ثالثة بعده . وهذا ظاهر جداً في كونه ليس بطلاق ؛ فإنه سبحانه قال : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] ، وهذا - وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين - فإنه يتناولها وغيرها . ولا يجوز أن يعود الضمير إلى من لم يذكر ، ويخلى عنه المذكور ، بل إما أن يختص بالسابق ، أو يتناوله وغيره . ثم قال : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } ، وهذا يتناول من طلقت بعد فدية تطليقتين قطعاً ؛ لأنها هي المذكورة . فلا بد من دخولها تحت اللفظ . فهذا فهم ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يعلمه الله تأويل القرآن ، وهي دعوة مستجابة بلا شك . وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق ، دلّ على أنها غير جنسه . فهذا مقتضى النص والقياس وأقوال الصحابة . انتهى .
هذه خلاصة الحجج في هذه الفروع المهمة معرفتها . ولا يعرف قدرها إلا من صغى فهمه عن التعصبات . ومن نظر إلى ما عمت به البلوى - من التفرقة بين المرء وزوجه بمجرد الانتحال للقيل والقال ، وترك ما حققه بالدلائل الأئمة الأبطال - قضى العجب ، وبالله التوفيق .
{ فَإِن طَلَّقَهَا } - أي : الزوج الثاني - : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : على المرأة ومطلقها الأول : - : { أَن يَتَرَاجَعَا } أي : إلى ما كانا فيه من النكاح بعقد جديد بعد عدة طلاق الثاني - المعلومة مما تقدم من قوله : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } الآية - : { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } ، أي : التي أوجب مراعاتها على الزوجين من الحقوق : { وَتِلْكَ } أي : الأحكام المذكورة : { حُدُودُ اللّهِ } ، أي : أحكامه المحمية من التغيير والمخالفة : { يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون } ، أي : يكشف اللبس عنها لقوم فيهم نهضة وجد في الاجتهاد ، فيجددون النظر والتأمل بغاية الاجتهاد في كل وقت ، فبذلك يعطيهم الله ملكة يميزون بها ما يلبس على غيرهم : { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانا } [ الأنفال : 29 ] ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 282 ] - أفاده البقاعي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 231 ]
.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء } ، أي : طلاقاً رجعياً : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، أي : قاربن انقضاء العدة : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } أي : بالمراجعة إن أردتم : { بِمَعْرُوفٍ } ، من غير ضرار : { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، أي : بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ } ، أي : بالرجعة : { ضِرَاراً } ، أي : مضارة بإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة : { لَّتَعْتَدُواْ } ، اللام للعاقبة ، أي : لتكون عاقبة أمركم الاعتداء ؛ أو للتعليل متعلقة بالضرار فيكون علة للعلة ، أي : لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ، أي : بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه .
{ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ } ، أي : أوامره ونواهيه : { هُزُواً } أي : مهزواً بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } ، أي : في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم : { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } ، أي : السنة : { يَعِظُكُم بِهِ } أي : بما أنزل . أي : يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على المخالفة : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تأكيد وتهديد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ 232 ]
.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، أي : انقضت عدتهن . وقد دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين ، إذ الأول دل على المشارفة للأمر بالإمساك ، وهذا على الحقيقة للنهي عن العضل : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } أي : لا تمنعوهن : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } ، الذين طلقوهن ، والآن يرغبن فيهم : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } ، أي : النساء والأزواج : { بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } ، أي : بما يحسن في الدين من الشرائط : { ذَلِكَ } ، أي : النهي عن العضل : { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ } ، أي : الاتعاظ بترك العضل والضرار : { أَزْكَى لَكُمْ } ، أي : أصلح لكم : { وَأَطْهَرُ } ، لقلوبكم وقلوبهن من الريبة والعدواة : { وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، أي : يعلم ما فيه صلاح أموركم فيما يأمر وينهى ومنه ما بيّنه هنا وأنتم لا تعلمونه ، فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون . وقد روي : أن هذه الآية نزلت في مَعْقِل بن يسار المزني وأخته .
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن مَعْقِل بن يسار : أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين ، فكانت عنده ، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها ، حتى انقضت العدة فهويها وهويته . فخطبها مع الخطاب . فقال له : يا لكع ! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ، والله لا ترجع إليك أبداً . فعلم رسول الله حاجته إليها وحاجتها إليه ، فأنزل الله الآية ، فلما سمعها مَعْقِل قال : سمعٌ لربي وطاعة ! ثم دعاه وقال : أزوجك وأكرمك . زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 233 ]
.
{ وَالْوَالِدَاتُ } ، أي : من المطلقات : { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ، أي : سنتين كاملتين : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } ، أي : هذا الحكم لمن أراد أن يتم رضاع الولد ، فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك ، وأنه لا رضاع بعد التمام .
قال الحرالي : وهو - أي : الذي يكتفي به دون التمام - هو ما جمعه قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ، فإذا كان الحمل تسعاً كان الرضاع أحداً وعشرين شهراً . وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثاً وثلاثين شهراً ، فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود ، فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع .
{ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } - أي : الأب - وعبّر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه ، لأن الوالدات إنما ولدن للآباء ، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم . قال بعضهم :
~وإنما أمهات الناس أوعيةٌ مستودَعَاتٌ وللآباء أبناء
{ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ، أي : على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع ، أي : طعامهن ولباسهن : { بِالْمَعْرُوفِ } ، وهو قدر الميسرة كما فسره قوله تعالى : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } ، يعني طاقتها . والمعنى : أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا قدر ما تتسع به مقدرته ، ولا يبلغ إسراف القدرة : { لا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } ، أي : يأخذ ولدها منها بعد رضاها بإرضاعه ورغبتها في إمساكه وشدة محبتها له : { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ } ، يعني الأب : { بِوَلَدِهِ } ، بطرح الولد عليه . يعني : لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها ، تضاره بذلك . وهذا التأويل على تقدير كون تضار مبنياً للمفعول ، وأما على بنائه للفاعل ، فالمفعول محذوف والتقدير . لا تضارِر - بكسر الراء الأولى - والدة زوجها بسبب ولدها ، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد أن ألفها الصبي : اطلب له ظئراً ، وما أشبه ذلك ، ولا يضارر مولود له امرأته بسبب ولده ، بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه . والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد : وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } ، أي : على وارث الأب أو وارث الصبي مثل ما على الأب من النفقة وترك الضرار إذا لم يكن الأب : { فَإِنْ أَرَادَا } ، يعني الزوج والمرأة : { فِصَالاً } ، أي : فصال الصبي عن اللبن قبل الحولين - يعني : فطاماً : { عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا } ، بتراضي الأب والأم : { وَتَشَاوُرٍ } بمشاورتهما : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } ، أي : على الأب والأم إن لم يرضعا ولدهما سنتين : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ } . يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها أو إرادتها أن تتزوج : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } - يعني إلى المراضع - : { مَّا آتَيْتُم } أي : ما أردتم إيتاءه إليهن من الأجر : { بِالْمَعْرُوفِ } متعلق بسلمتم أي : سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور . والمقصود : ندبهم أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه ، ناطقين بالقول الجميل ، مطيبين لأنفس المراضع ، حتى يؤمن من تفريطهن بمصالح الرضيع : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، فيه من الوعيد والتحذير عن مخالفة أحكامه ما لا يخفى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 234 ]
.
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } ، أي : يموتون من رجالكم : { وَيَذَرُونَ } ، أي : يتركون : { أَزْوَاجاً } بعد الموت : { يَتَرَبَّصْنَ } ، أي : ينتظرن : { بِأَنفُسِهِنَّ } في العدة : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } يعني عشرة أيام : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، أي : انقضت عدتهن : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } ، أي : على الأولياء في تركهن : { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ } من التعرض للخطاب والتزين : { بِالْمَعْرُوفِ } ، أي : بوجه لا ينكره الشرع . وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع ، فعليهم أن يكفوهن عن ذلك . وإلا فعليهم الجناح : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
الأولى : خص من عموم الآية الحامل المتوفى عنها زوجها ، فإن عدتها بوضع الحمل لقوله تعالى : { وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] ولما في الصحيحين عن سبيعة الأسلمية : أنها كانت تحت سعد بن خولة - وهو من بني عامر بن لؤي ، وكان ممن شهد بدراً - فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل . فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجمّلت للخطّاب . فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال : ما لي أراك تجمّلت للخطّاب ، لعلك ترجين النكاح ؟ وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي . وأمرني بالتزويج إن بدا لي . وفيه قال ابن شهاب : ولا أرى بأساً بأن تتزوج حين وضعت ، وإن كانت دمها ، غير أنه لا يقربها حتى تطهر .
الثانية : المراد من تربصها بنفسها : الامتناع عن النكاح ، والامتناع عن التزين ، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه . فالأول مجمع عليه .
والثاني : روي فيه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش وعائشة - أمهات المؤمنين - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة وأشهر وعشراً > . متفق عليه . وعن أم سلمة أن امرأة قالت : يا رسول الله ! إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ قال : لا . كل ذلك يقول : لا . مرتين أو ثلاثاً - ثم قال : < إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة > . متفق عليه .
وعن نافع : أن صفية بنت عبد الله اشتكت عينها - وهي حادّ على زوجها ابن عمر ، فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان ، أخرجه مالك في " الموطأ " .
وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تلبس المتوفى عنها زوجها ، المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب > أخرجه أبو داود والممشقة : المصبوغة بالمشق وهي : المغرة .
وقد استنبط بعضهم وجوب الإحداد من قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ } ، أي : من زينة وتطيب - كما قدمنا - فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو الإحداد .
وأما الامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي فيه زوجها : فروى فيه أحمد وأهل السنن حديث فريعة بنت مالك قالت : خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طريق القدوم فقتلوه ، فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة عن دار أهلي ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت : إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي ، ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له ، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني ؟ قال : تحولي ، فلما خرجتُ إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني - أو أمر بي فدعيت - فقال : امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله . قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً . وفي بعض ألفاظه : أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته ، فأخذ به . وقد أُعِلّ هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به .
الثالثة : أكثر الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداء بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة ، فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول ، بل هو توفيقي . وذهب مجاهد إلى أنهما محكمتان . كما سيأتي بيانه .
الرابعة : أبدى المهايمي الحكمة في تحديد عدة المتوفى عنها بهذا القدر ، فقال : لئلا يتعارض في قلبها حب المتوفى وحب الجديد ، فأخذت مدة صبرها - وهو أربعة أشهر - وزيد عليه العشر ، إذ بذلك ينقطع صبرها فتميل إلى الجديد ميلاً كلياً ، فينقطع عن قلبها حب المتوفى ، على أنه يظهر في حق المدخول بها حركة الحمل إذ تكون بعد أربعة أشهر ، لكنها تبتدئ ضعيفة وتتقوى بمضي عشر أخر . ثم قال : ولم يكتف بالأقراء الدالة على عدمه ههنا ، بخلاف الفراق حال الحياة ، لأن الفراق الاختياري شاهد عدمه مع شهادة الأقراء ، فثمة شاهدان ، وههنا واحد ، وعدم الحركة بعد هذه المدة يقوي شهادة الأول فيكون كالشاهد مع اليمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 235 ]
.
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء } ، أي : لا حرج عليكم أيها الخاطبون ، في التعريض بخطبتكم النساء المتوفى عنهن أزواجهن قبل انقضاء العدة لتتزوجوهن بعد انقضائها . والتعريض : إفهام المقصود بمالم يوضع له حقيقة ولا مجازاً . كأن يقال لها : إنك جميلة أو صالحة ، أو ربَّ راغب فيك ، أو من يجد مثلك . والخطبة - بالكسر - : طلب المرأة { أَوْ } - فيما : { أَكْنَنتُمْ } ، أي : أضمرتم من نكاحهن : { فِي أَنفُسِكُمْ } أي : قلوبكم ، وإن كان حقه التحريم فضلاً عن التعريض باللسان ، لكن أباحه الله لكم ، إذ : { عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ، أي : لا تصبرون عن النطق برغبتكم فيهن ، فرخص لكم في التعريض دون التصريح ، وفيه طرف من التوبيخ على قلة التثبت ، كقوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] { وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } هذا الاستدراك من قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } . و : { سِرّاً } مفعول به ، لأنه بمعنى النكاح . أي : لا تواعدوهن نكاحاً . أو هو بمعنى ضد الجهر والإعلان ، فيكون مصدراً في موضع الحال تقديره : مستخفين بذلك والمفعول محذوف تقديره : لا تواعدوهن النكاح سراً . أو صفة لمصدر محذوف ، أي : مواعدة سراً ، أو التقدير في سر فيكون ظرفاً . وإنما نهى عن ذلك ؛ لأن المواعدة بذكر الجماع والرفث بين الأجنبي والأجنبية غير جائز إجماعاً ، كالمواعدة بينهما على وجه السر إذ لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات .
قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز . وقال أيضاً : أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، وللسيد في أمته .
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ، أي : لا يستحيي منه عند أحدٍ من الناس . فآل الأمر إلى أن المعنى : لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيى من ذكره فيسر ، وهو التعريض ؛ فنصت هذه الآية على تحريم التصريح . بعد إفهام الآية الأولى لذلك ، اهتماماً به لما للنفس من الداعية إليه - أفاده البقاعي .
وقال الرازي : لما أذن تعالى في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة ، استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف . وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفل بمصالحها ، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض . والله أعلم .
تنبيه :
ما قدمناه من أن قوله تعالى : { وَلَكِن } إلخ ، استدراك من قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُم } قاله أبو البقاء .
وجعل الزمخشري المستدرك محذوفاً دل عليه : { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ، أي : فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سراً .
قال الناصر : وقويت دلالة هذا المذكور على ما حذف ؛ لأن المعتاد في مثل هذه الصيغة ورود الإباحة عقيبها . ونظير هذا النظم قوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] الآية ، ولهذا الحذف سر - والله أعلم - وهو أنه اجتنب ؛ لأن الإباحة لم تنسحب على الذكر مطلقاً . بل اختصت بوجه واحد من وجوهه . وذلك الوجه المباح عسر التميز عما لم يبح . فذكرت مستثناة بقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } تنبيهاً على أن المحل ضيق والأمر فيه عسر ، والأصل فيه الحظر . ولا كذلك الوطء في زمن ليل الصوم . فإنه أبيح مطلقاً غير مقيد ؛ فلذلك صدر الكلام بالإباحة والتوسعة . وجاء النهي عن مباشرة المعتكفة في المسجد تلواً للإباحة وتبعاً في الذكر ؛ لأنها حالة فاذّة . والمنع فيها لم يكن لأجل الصوم ولكن الأمر يتعلق به من حيث المصاحب ، وهو الاعتكاف . فتفطن لهذا السر فإنه من غرائب النكت .
{ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } ، العقدة بالضم من النكاح وكل شيء من البيع ونحوه ، وجوبه . قال الفارسي : هو من الشد والربط ، وقال الرازي : أصل العقد الشد . وسميت العهود والأنكحة عقوداً ؛ لأنها تعقد كما يعقد الحبل . وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح ؛ لأن العزم على الفعل يتقدمه . فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى . ومعناه : ولا تعزموا وجوب النكاح لأن القصد إليه حال العدة يفيد مزيد تحريك من الجانبين ، بحيث لا يطاق معه الصبر إلى انقضاء العدة .
وقوله : { حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } ، أي : العدة المكتوبة المفروضة آخرها { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من الميل إليهن قبل الأجل : { فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ } يغفر ذلك الميل إذ لم يتعد العزم عقدة النكاح : { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة ، فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة . . . .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ 236 ]
.
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } { ما } شرطية ، أي : إن لم تسموهن ولم تفرضوا لهن فريضة . يعني : ولم تعينوا لهنَّ صداقاً . فـ : { أو } بمعنى الواو - وحينئذ فلا مهر لهن ، ولكن المتعة بالمعروف كما قال تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ } أي : من مالكم جبراً لوحشة الفراق : { عَلَى الْمُوسِعِ } أي : الغني الذي يكون في سعة من غناه : { قَدَرُهُ } - بسكون الدال وبفتحها قراءتان سبعيتان - أي : يجب على الموسر قدر ما يليق بيساره : { وَعَلَى الْمُقْتِرِ } أي : المعسر الذي في ضيق من فقره ، وهو المقل الفقير ، يقال : اقتر إذا افتقر : { قَدْرُهُ } أي : قدر ما يليق بإعساره : { مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ } تأكيد لـ : { متعوهنَّ } يعني : متعوهنّ تمتيعاً بالمعروف - أي : بالوجه المستحسن ، فلا يزاد إلى نصف مهر المثل ولا ينقص إلى ما لا يعتد به - : { حَقّاً } ، أي : ثبت ذلك ثبوتاً مستقراً : { عَلَى الْمُحْسِنِينَ } ، أي : المؤمنين لأنه بدل المهر ؛ وذكرهم بهذا العنوان ترغيب وتحريض لهم على الإحسان إليهن بالمتعة . وإنما كانت إحساناً لأن ملاك القصد فيها ما تطيب به نفس المرأة ويبقى باطنها وباطن أهلها سلماً ذا مودة ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً . أفاده الحرالي .
وروى الثوري عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاها الخادم ، ودون ذلك الورق . ودون ذلك الكسوة . وعنه : إن كان موسراً متعها بخادم ونحوه ، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب .
وروى عبد الرزاق أن الحسن بن علي - عليهما السلام - متع بعشرة آلاف . فقالت المرأة : متاع قليل من حبيب مفارق .
تنبيه :
أخذ بعض المفسرين يحاول البحث بأن عنوان نفي الجناح - عما ذكر هنا - يفيد ثبوته فيما عداه ، مع أنه لا جناح أيضاً فيه . وتكلف للجواب - سامحه الله - ولا يخفاك أن مثل هذا العنوان كثيراً ما يراد به في التنزيل الترخيص والتسهيل ، كما تكلف بعضٌ بجعل أو بمعنى إلا أو حتى ؛ وجعل الحرج بمعنى المهر ، مع أن الآية بينة بنفسها لا حاجة إلى أن تتجاذبها أطراف هذه الأبحاث . وعدولهم عن أقرب مما سلكوه - أعني : كون أو بمعنى الواو - مع شيوعها في آيات كثيرة - عجيب . وأعجب منه تخطئة من جنح لهذا الأقرب ، مع أن مما يرشحه مساق الآية بعدها .
وما روي في سبب نزول هذه الآية : قال الخازن : نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها صداقاً ثم طلقها قبل أن يمسها ، فنزلت : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } الآية . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أمتعها ولو بقلنسوتك > . وهذه الرواية - إن ثبتت - كانت شاهدة لما اعتمدناه ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 237 ]
.
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، - أي : الزوجات : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } ، أي : تجامعوهن . قال أبو مسلم : وإنما كنى تعالى بقوله : { تَمَسُّوهُنَّ } عن المجامعة ، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } ، أي : سميتم : { لَهُنَّ فَرِيضَةً } ، أي : مهراٌ مقدراً : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ، أي : فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر ، أو فالواجب عليكم ذلك : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } ، أي : المطلقات عن أزواجهن ، فلا يطالبنهم بنصف المهر . وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا أستمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً . . ؟ : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وهو الزوج ، فيسوق إليها المهر كاملاً ، أو الولي ، يعني : إذا كانت صغيرة - أو غير جائزة التصرف - فيدرك نصيبها للزوج .
قال مالك في " موطأه " في هذه الآية : هو الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته . وكلا التأويلين مرويّ عن عدة من الصحابة والتابعين .
قال الحرالي : إذا قرن هذا الإيراد بقوله : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } خطاباً للأزواج قوي . فسر من جعل : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وهو الزوج معادلة للزوجات . ومن خص عفوهن بالمالكات - أي : الرشيدات - خص هذا بالأولياء .
ونقل ابن جرير : أن الشعبي رجع إلى أنه الزوج ، وكان يباهل عليه .
وقال الزمخشري : القول بأنه الولي ظاهر الصحة .
وقال الناصر في " حواشيه " : وصدق الزمخشري أنه قول ظاهر الصحة ، عليه رونق الحق وطلاوة الصواب لوجوه ستة . ساقها بألطف بيان ، فانظرها ، والله أعلم .
{ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ، هذا خطاب للرجال والنساء جميعاً ، وغلب التذكير نظراً للأشرف . وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : أقربهما للتقوى الذي يعفو ، وذلك لأن من سمح بترك حقه كان محسناً ، وذلك عنوان التقوى : { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ، أي : التفضل بالإحسان لما فيه من الألفة وطيب الخاطر . فهو حث على العفو ، فمن عفا منهما فله الفضل على الآخر . ومعلوم أن النسيان ليس في الوسع حتى ينهى عنه . فالمراد منه الترك ، أي : لا تتركوه ترك المنسي . فالتعبير بالنسيان آكد في النهي . والخطاب هنا أيضاً للقبيلين بالتغليب ، كالذي قبله . وخصه الحرالي بالرجال ، قال :
فمن حق الزوج - الذي له فضل الرجولة - أن يكون هو العافي . وأن لا يؤخذ النساء بالعفو ، ولذلك لم يأت في الخطاب أمر لهن ولا تحريض . فمن أقبح ما يكون حمل الرجل على المرأة في استرجاع ما آتاها بما يصرح به قوله : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] . فينبغي أن لا تنسوا ذلك الفضل فتجرون عليه حيث لم تلزموا به .
وقد حكى الزمخشري عن جبير بن مطعم ، أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو . . ! وعنه : أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوجها . فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً ، فقيل له : لم تزوجتها ؟ فقال : عرضها عليّ فكرهت رده . قيل : فلم بعثت بالصداق ؟ قال : فأين الفضل .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، أي : فلا يضيع تفضلكم وإحسانكم . ولما كانت الحقوق المشروعة قبل ، مما قد يشق القيام بها على بعض الناس ؛ أمروا بما يخفف عنهم عبئها ويحبب إليهم أداءها . وذلك بالمحافظة على الصلوات فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذا أمر بها تعالى - إثر ما تقدم - بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } [ 238 ]
.
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } ، أي : داوموا على أدائها لأوقاتها مع رعاية فرائضها وسننها من غير إخلال بشيء منها : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } أي : الوسطى بين الصلوات بمعنى المتوسطة أو الفضلى منها ، من قولهم للأفضل : الأوسط . فعلى الأول : يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين . وهل هي الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ؟ ! أقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين . وعلى الثاني : فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطول والقصر . أقوال أيضاً عن كثير من الأعلام . والقول الأخير جيد جداً كما لو قيل بأنها ذات الخشوع لآية : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } .
وأما علماء الأثر : فقد ذهبوا إلى أن المعنيّ بالآية صلاة العصر لما في الصحيحين عن علي رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب وفي رواية ، يوم الخندق : < ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس > . وفي رواية : < شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر > . وذكر نحوه وزاد في أخرى : ثم صلاها بين المغرب والعشاء . أخرجاه في الصحيحين ورواه أصحاب السنن والمسانيد والصحاح من طرق يطول ذكرها...
وأجاب عن هذا الاستدلال من ذهب إلى غيره بأنه لم يرد الحديث مورد تفسير الآية حتى يعينها . وإنما فيه الإخبار عن كونها وسطى ، وهو كذلك لأنها متوسطة وفضلى من الصلوات .
وما رواه مسلم عن أبي يونس - مولى عائشة - قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } قال : فلما بلغتها آذنتها ؛ فأملت عليّ : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين . قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى ابن جرير عن حفصة نحو ذلك . قال نافع : فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو . وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير ، أنهما قرآ كذلك .
فهذا من عائشة رضي الله عنها إعلام بالمراد من الوسطى عندها . ضمت التأويل إلى أصل التنزيل لأمن اللبس فيه ، لأن القرآن متواتر مأمون أن يزاد فيه أو ينقص . وكان في أول العهد بنسخه ربما ضم بعض الصحابة تفسيراً إليه ، أو حرفاً يقرؤه . ولذا لما خشي عثمان رضي الله عنه أن يرتاب في كونه من التنزيل - مع أنه ليس منه - أمر بأن تجرد المصاحف في عهده مما زيد فيها من التأويل وحروف القراءات التي انفرد بعض الصحب ، وأن يقتصر على المتواتر تنزيله وتلقيه من النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين ، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلغاء ما ليس كذلك ، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل أثبت مع تنزيل ، ولا منسوخ تلاوته ، كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه ؛ خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد . . . .
هذا وقد أيد علماء الأثر ما ذهبوا إليه من أنها صلاة العصر ، بأنها خصت بمزيد من التأكيد والأمر بالمحافظة عليها ، والتغليظ لمن ضيعها . فقد قال أبو المليح : كنا مع بريدة في غزوة ، فقال في يوم ذي غيم : بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله > . أخرجه البخاري . وقوله : < كروا بصلاة العصر > ، أي : قدموها في أول وقتها .
وروى الشيخان عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله . . ! > أي : نقص وسلب أهله وماله فبقي فرداً فاقدهما . والمعنى : ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله .
وقد ساق الحافظ عبد المؤمن الدمياطي في كتابه " كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى " ما امتازت به صلاة العصر من الخصائص والفضائل ، قال عليه الرحمة :
فمنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلّظ المصيبة في فواتها بذهاب الأهل والمال في الحديث المتقدم .
ومنها : حبوط عمل تاركها المضيّع لها في الحديث السالف أيضاً .
ومنها : أنها كانت أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم .
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : < من حافظ عليها كان له أجرها مرتين > . رواه مسلم .
ومنها : أن انتظارها بعد الجمعة كعمرة - رواه أبو يعلى . وروى الحاكم : كمن أتى بحجة وعمرة .
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم . . - إلى أن قال - ورجل أقام سلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أخذها بكذا وكذا ، فجاء رجل فصدقه فاشتراها > . متفق عليه . ثم قال : قلت وقد عظم الله الأيمان التي يحلف بها العباد فيما شجر بينهم بعدها فقال : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } [ المائدة : 106 ] .
قال عامة المفسرين : بعد صلاة العصر ، ولذلك غلّظ العلماء اللعان وسائر الأيمان المغلظة بوقت صلاة العصر لشرفه ومزيته .
ومنها : أن سليمان - عليه السلام - أتلف مالاً عظيماً من الخيل لما شغله عرضها عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس . فمدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه قوله تعالى : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ } [ ص : 30 - 31 ] . الآيات .
ومنها : أن الساعة التي في يوم الجمعة قد قيل : إنها بعد العصر .
ومنها : أن وقتها وقت ارتفاع الأعمال .
ومنها : الحديث المرفوع : إن الله تعالى يوحي إلى الملكين : لا تكتبا على عبدي الصائم بعد العصر سيئة .
ومنها : ما جاء في قوله تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ } [ العصر : 1 - 2 ] .
قال مقاتل : العصر : هي الصلاة الوسطى ، أقسم بها - حكاه ابن عطية .
ومنها : ما روي في الحديث ، أن الملائكة تصفّ كل يوم بعد العصر يكتبها في السماء الدنيا فينادى الملك : ألق تلك الصحيفة . فيقول : وعزتك ما كتبت إلا ما عمل . فيقول الله عز وجل : لم يرد به وجهي . وينادي الملك الآخر : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقول الملك : وعزتك إنه لم يعمل ذلك . فيقول الله عز وجل : إنه نواه .
ومنها : أن وقتها وقت اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم في الغالب .
وقد أفرد الكلام على تفسير هذه الآية بمؤلفات . وذكر العلامة الفاسي - شارح " القاموس " - فيما نقله عنه الزبيدي ، أن الأقوال فيها أنافت على الأربعين ، فرضي الله عن العلماء المجتهدين وأرضاهم .
سنح لي وقوي بعد تمعّن - في آوخر رمضان سنة 1323 - احتمال قوله تعالى [ في المطبوع : تعال ] : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } بعد قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } لأن يكون إرشاداً وأمراً بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسطاً : لا طويلاً مملاً ولا قصيراً مخلاً . أي : والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر . ويؤيده الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، قولاً وفعلاً .
ثم مر بي في " القاموس " - في 23 ربيع الأول سنة 1324 - حكاية هذا قولاً . حيث ساق في مادة " و س ط " الأقوال في الآية ، ومنها قوله أو المتوسطة بين الطول والقصر قال شارحه الزبيدي : وهذا القول رده أبو حيان في " البحر " .
ثم سنح لي احتمال وجه آخر : وهو أن يكون قوله : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } أريد به توصيف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنه فضلى ، أي : ذات فضل عظيم عند الله . فالوسطى بمعنى الفضلى ، من قولهم للأفضل : الأوسط . وتوسيط الواو بين الصفة والموصوف مما حققه الزمخشري واستدل له بكثير من الآيات . وفي سوق الصفة بهذا الأسلوب ، من الاعتناء بالموصوف ما لا يخفى . وأسلوب القرآن أسلوب خاص انفرد به في باب البلاغة ، لم ينفتح من أبواب عجائبه إلا قطرة من بحر . ولعل هذا الوجه هو ملحظ من قال : هي الصلوات الخمس ، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فكأنه أشار إلى أن المعطوف عين المعطوف عليه . إلا أنه أتى بجملة تفيد التوصيف .
وقوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلّهِ } - في الصلاة : { قَانِتِينَ } خاشعين ساكتين . روى الشيخان عن زيد بن أرقم : إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته . حتى نزلت : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت . هذا لفظ البخاري . ولفظ مسلم : عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة ، حتى نزلت : { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .
وروى أبو يعلى عن ابن مسعود قال : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فلم يرد علي ، فوقع في نفسي إنه نزل فيّ شيء ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال : < وعليك السلام - أيها المسلم - ورحمة الله ، إن الله يحدث في أمره ما يشاء ، فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا > .
وروى الطبراني في " الأوسط " والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في " مسنديهما " وابن حبان في " صحيحه " عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كل حرفٍ ذكر من القنوت في القرآن فهو الطاعة > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ 239 ]
{ فَإنْ خِفْتُمْ } أي : فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره : { فَرِجَالاً } ، أي : فصلُّوا راجلين ، أي : ماشين على الأقدام - يقال : رَجِلَ - كَفَرِح - فهو راجل ، ورَجُل - بضم الجيم - ورَجِل - بكسرها - ورَجَل - بفتحها - ورَجيل ورَجْلان إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه فمشى على قدميه . والجمع رجال ورجَّالة ورُجَّال - كرمان - : { أَوْ رُكْبَاناً } ، أي : راكبين ، فيعفى عن كثرة الأفعال وإتمام الركوع والسجود واستقبال القبلة . وهذا من رخص الله تعالى التي رخص لعباده ، ووضعه الآصار والأغلال عنهم . وقد رويت صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفات مختلفة مفصلة في كتب السنة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى في كل موطن ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة .
قال الرازي : صلاة الخوف قسمان :
أحدهما : أن تكون في حال القتال - وهو المراد بهذه الآية .
والثاني : في غير حال القتال ، وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } [ النساء : 102 ] .
وقد روى مالك عن نافع : أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف ، وصفها ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلّوا رجالاً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها .
قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه الشيخان .
ولمسلم أيضاً عن ابن عمر قال : فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكباً أو قائماً تومئ إيماءً .
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود ، بإسناد جيد ، عن عبد الله بن أنيس الجُهَنِي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي - وكان نحو عرنة وعرفات - فقال : < اذهب فاقتله > . قال ، فرأيته - وحضرت صلاة العصر - فقلت : إني لا أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة ، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه ، فلما دنوت منه قال لي : من أنت ؟ قلت : رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل ، فجئتك في ذلك ، قال : إني لفي ذلك ، فمشيت معه ساعة ، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد . وهذا نص أبي داود .
وأخرج الطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، فشغلنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك . وذلك قوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال } [ الأحزاب : 25 ] . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام لكل صلاة إقامة ، وذلك قبل أن ينزل عليه : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } .
تنبيه :
هذه الآية قد أطلقت الخوف . فيدخل فيه أي : مخافة من عدو أو سبع أو جمل صائل ، وهذا قول الأكثر . وشذ قول الوافي وبعض الظاهرية : إن الخوف مختص بأن يكون من آدمي . وقد أفادت هذه الآية أن فعلها بالإيماء هو فرضهم ، فلا قضاء بعد الأمن . قال في التهذيب خلاف ما يقوله بعضهم : ولكن هذا إذا أتوا بما يسمى صلاة ، وإن لم يمكنهم شيء من الأفعال ، وإنما أتوا بالذكر فقط . فقال الناصر زيد وابن أبي الفوارس وأبو جعفر : هذا لا يسمى صلاة فيجب القضاء . وقال الراضي بالله والأمير الحسين : هو بعض الصلاة ، فلا قضاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : < إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم > . وإذا ثبت الترخيص في هذه الصلاة - يترك كمال الفروض - رخص فيها بفعل ما تحتاج إليه ، وبلباس ما فيه نجس إذا احتيج إليه - كذا في تفسير بعض علماء الزيدية .
{ فَإِذَا أَمِنتُمْ } أي : زال خوفكم : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ } ، أي : فصلوا صلاة الأمن . عبّر عنها بالذكر ؛ لأنه معظم أركانها . وقوله : { كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } ، أي : مثل ما علمكم من صلاة الأمن ، أو لأجل إنعامه عليكم ، فالكاف للتعليل . وهذه الآية كقوله تعالى : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] . والفائدة في ذكر المفعول فيه ، وإن كان الْإِنْسَاْن لا يعلم إلا ما لم يعلم : التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقلوا عنها ، فإنه أوضح في الامتنان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 240 ]
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } ، أي : يقبضون من رجالكم : { وَيَذَرُونَ } ، أي : يتركون : { أَزْوَاجاً } بعد الموت : { وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم } خبر الذين أي : يوصون ، أو ليوصوا ، أو كتب الله عليهم وصية . وفي قراءة بالرفع ، أي : عليهم وصية لأزواجهم في أموالهم : { مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ } بدل من وصية ، على قراءة من نصبها . وعلى قراءة الرفع فمنصوب بوصية أو بفعله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } حال من أزواجهم ، أي : غير مخرجات . والمعنى : يجب على الذي يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى من غير أن يخرجن من مسكن زوجهن : { فَإِنْ خَرَجْنَ } عن منزل الأزواج من قبل أنفسهن : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } على أولياء الميت : { فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } لا ينكره الشرع - كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرّض للخطّاب - وفيه دلالة على أن المحظور إخراجها عند إرادتها القرار ، وملازمة مسكن الزوج ، والحداد من غير أن يجب عليها ذلك ، وأنها مخيرة بين الملازمة مع أخذ النفقة ، وبين الخروج مع تركها : { وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . ثم ليعلم أن اختيار جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهو قوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] . قالوا : كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدت زوجته حولاً ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة ، وليس لها من الميراث شيء ، ولكنها تكون مخيرة . فإن شاءت اعتدت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى ، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى ؛ وكان يجب على الرجل أن يوصي بذلك . فدلت هذه الآية على مجموع أمرين ، أحدهما : أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة . والثاني : أن عليها عدة سنة ، ثم نسخ هذان الحكمان .
أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخت بآية الميراث . فجعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى . ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر .
وقد روى البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان بن عفان : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها . . ؟ قال : يا ابن أخي ! لا أغير شيئاً منه من مكانه .
وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : نسخت بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن ، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشراً .
هذا ، وقد ذهب مجاهد إلى أن هذه الآية محكمة كالأولى . أخرجه عنه البخاري . قال مجاهد : دلت الآية الأولى وهي : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها . ودلت هذه الآية ، بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول ، أن ذلك من باب الوصية بالزوجات أن يمكَّن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً ، ولا يمنعن من ذلك ، لقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فإذا نقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر - أو بوضع الحمل - واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل ، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ } إلخ . الإمام ابن كثير : وهذا القول له اتجاه ، وفي اللفظ مساعدة له . وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية .
ومنهم أبو مسلم الأصفهاني قال : معنى الآية : من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج : { فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } ، أي : نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة . قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً . وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول . فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب . واحتج على قوله بوجوه ساقها الفخر الرازي عنه - إلى أن قال : فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل . ثم قال : وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية ، فالشرط هو قوله : : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فهذا كله شرط ، والجزاء هو قوله { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } الخ ، هذا تقرير قول أبي مسلم .
قال الرازي : وهو في غاية الصحة ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ 241 ]
.
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } ، أي : للمطلقات متعة من جهة الزوج بقدر الإمكان ، جبراً لوحشة الفراق ، وأما المهر فوق حق البضع .
قال ابن كثير : وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ، سواء كانت مفوضة ، أو مفروضاً لها ، أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولاً بها .
وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف ، واختاره ابن جرير .
وقد أخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : لكل مؤمنة طلقت ، حرة أو أمة ، متعة . وقرأ الآية .
وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة . أتت النبي صلى الله عليه وسلم . فقال لزوجها : < متعها > . قال : لا أجد ما أمتعها قال : < فإنه لا بد من المتاع ، متعها ولو نصف صاع من التمر > .
وأخرج البيهقي عن قتادة قال : طلق رجل امرأته عند شريح . فقال له شريح : متعها ! ! فقالت المرأة : إنه ليس لي عليه متعة . إنما قال الله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } . وليس من أولئك ! ! .
وأخرج البيهقي عن شريح أنه قال لرجل فارق امرأته : لا تأبى أن تكون من المتقين . لا تأبى أن تكون من المحسنين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 242 ]
.
{ كَذَلِكَ } ، أي : مثل ذلك البيان الشافي : { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ } ، في جميع المواضع : { آيَاتِهِ } الدالة على أحكامه : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لكي تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [ 243 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ } أي : ممن تقدمكم من الأمم : { مِن دِيَارِهِمْ } أي : التي ألفوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به من الموت . ولفظة : { أَلَمْ تَرَ } قد تذكر لمن تقدم علمه ، فتكون للتعجيب والتقرير والتذكير - كالأحبار وأهل التاريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك . فتكون لتعريفه وتعجيبه .
قال الراغب : " رأيت " يتعدى بنفسه دون الجار . لكن لما استعير " ألم تر " لمعنى " ألم تنظر " عدى تعديته بـ " إلى " وفائدة استعارته : أن النظر قد يتعدى عن الرؤية ، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له ، وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال : رأيت إلى كذا .
{ وَهُمْ أُلُوفٌ } أي : في العدد جمع ألف ، أو وهم مؤتلفون ومجتمعون مع آلف ، بالمد - كشاهد وشهود - أي : إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن : { حَذَرَ الْمَوْتِ } مفعول له - أي : قرار منه . وقوله : { فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ } ، معناه : فأماتهم ، وإنما جيء به على هذه العبارة ؛ للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك مشيته خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
{ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } عطف . إما على مقدر يستدعيه المقام ، أي : فماتوا ثم أحياهم - وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته ، وإما على " قال " لما أنه عبارة عن الإماتة : { إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قاطبة . أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة ، وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار ، فقد تفضل على الجميع ليشكروه : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } ، أي : فضله كما ينبغي .
تنبيه :
روي عن ابن عباس : أن الآية عُني بها قوم كثيرو العدد ، خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم . فكأنها كرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
ومعلوم أن سورة البقرة مما نزل في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة . وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة ، فأمر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله . وقص لهم من الأنباء ما فيه بعث لهم على الجهاد وتبشير لهم بالفوز والعاقبة . وأن يكونوا في قلة وضعف ، ما داموا مستمسكين بحبل الوفاق والصبر والمصابرة . وقد ذهب بعض الرواة إلى أن هذه الآية عني بها ما قص في التوراة عن حزقيل - أحد أنبياء بني إسرائيل - أنه أوحى إليه أن يخرج إلى فلاة واسعة قد ملئت عظاماً يابسة من موتى بني إسرائيل . وأن يناديها باسمه تعالى . فجعلت تتقارب ثم كسيت لحماً . ثم نادى أرواحها فعادت إلى أجسامها واستووا أحياء على أقدامهم بأمره تعالى . وهم جيش كثير جداً . وأوحى إلى حزقيل أنهم سيعودون إلى وطنهم بعد أن أجلوا عنه . وهذه القصة مبسوطة في توراتهم في الفصل السابع والثلاثين من نبوة حزقيل .
وممن روي عنه أنه عني بهذه الآية نبأ حزقيل ، وهب بن منبه وأشعث بن أسلم البصري والحجاج بن أرطاة والسدي وهلال بن يساف وغيرهم . أخرجه عنهم ابن جرير . فإن صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات حزقيل في إحياء الموتى له ، كما أحيي لعيسى عليه السلام . فيرى قومه ما لا ييأسون معه من جهاد عدوهم ليسترجعوا وطنهم الذي أجلاهم عنه عدوهم ، لأن حزقيل كان فيمن أجلي إلى بابل . قالوا ونبوته تتضمن القضاء المنزل على بني إسرائيل وبشرى السلام الذي يعقب ذلك القضاء . وقد نقل ابن كثير عن عطاء أنه قال في هذه الآية : إنها مَثَلٌ . ولعل مراده : أنها مثل في تكوينه تعالى أمة قوية تقهر وتغلب وتسوس غيرها بعد بلوغها غاية الضعف والخمول . فكان حياتها وموتها تمثيلاً لحالتيها قبل وبعد . فيكون إشعاراً بما ستصير إليه العرب من القوة العظيمة والمدنية الفخيمة ، وتنبيهاً على أن الوصول إلى ذلك إنما يكون بجهاد الظالمين واتفاق المتقين على دحر المتغلبين الباغين والله أعلم .
ثم إنه لا خفاء في أن ما قص من حوادث الإسرائيليين كان معروفاً في الجملة لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة .
قال ولي الله الدهلوي في " الفوز الكبير " : واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله ، يعني : الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى : كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة ، ما قرع سمعهم . وذكر لهم إجمالاً مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود . وكانت العرب تتلقاها أباً عن جد ، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل فإنها كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطة اليهود العرب في قرون كثيرة ، وانتزع من القصص المشهورة جملاً تنفع في تذكيرهم . ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها . والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة ، أو استقصى بين أيديهم ذكر الخصوصيات ، يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصلي فيها . ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين : إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 244 ]
.
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال المفسرون : في إتباع القصة المتقدمة الأمر بالقتال ، دليل على أنها سيقت بعثاً على الجهاد . فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : 168 ] ، وأصل السبيل هو الطريق . وسميت المجاهدة سبيلاً إلى الله تعالى من حيث إن الْإِنْسَاْن يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى ، ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله . فالقتال : دفاع في سبيل الله لإزالة الضرر العام . وهو منع الحق وتأييد الشرك . وذلك بتربية الذين يفتنون الناس عن دينهم وينكثون عهودهم لا لحظوظ النفس وأهوائها ، والضراوة بحب التسافك وإزهاق الأرواح ، ولا لأجل الطمع في الكسب . وفي قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } بعث على صدق النية والإخلاص . كما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي : ذلك في سبيل الله ؟ فقال : < من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 245 ]
.
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } - هذا حث من الله تعالى لعباده على الصدقة ، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع .
قال القرطبي : طلب القرض في هذه الآية لما هو تأنيب وتقريب للناس بما يفهمون . والله هو الغني الحميد . لكنه تعالى شبه إعطاءه المؤمنين ، وإنفاقهم في الدنيا الذي يرجون ثوابه في الآخرة ، بالقرض . كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة ، بالبيع والشراء . حسبما يأتي بيانه في سورة براءة ، وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة ، كما كنى عن المرض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة ، ففي صحيح الحديث إخباراً عن الله تعالى : < يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني . استطعمتك فلم تطعمني ، استسقيتك فلم تسقني . . قال : يا رب ! كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي > وكذا فيما قبله . أخرجه الشيخان . وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيباً لمن خوطب به . وقد أخرج سعيد بن منصور والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية ، قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ! وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : < نعم يا أبا الدحداح > قال : أرني يدك ، يا رسول الله ! فناوله يه . قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي وحائط له ، فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيها وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها ! قالت : لبيك ، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قد قبله منك > . فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اليتامى الذين في حجره . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < رب عذق لأبي الدحداح مدلى في الجنة > وفي رواية : < كم من عذق > الخ . وقوله تعالى : { حَسَناً } أي : طيبة به نفسه من دون منٍّ ولا أذى . وقوله سبحانه : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } كما قال سبحانه : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] . ولما رغب سبحانه في إقراضه أتبعه جملة مرهبة مرغبة فقال : { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي : يضيّق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين . أي : فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم ، لئلا يبدِّل السعة الحاصلة لكم بالضيق .
{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم القيامة فيجازيكم .
قال المهايمي : وكيف ينكر بسط الله وقبضه ، وهو الذي يعطي الفقير الملك ويسلبه من أهله ، ويقوي الضعفاء من الجمع القليل ويضعف الأقوياء من الجمع الكثير ؟ ! يعني كما قصه تعالى في قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ 246 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ } ، وهم القوم ذو الشارة والتجمع : { مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ } إنما نكر لعدم مقتض لتعريفه ، وزعم الكتابيون أنه صموئيل : { ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً } ، أي : أقم لنا أميراً : { نُّقَاتِلْ } ، أي : معه عن أمره : { فِي سَبِيلِ اللّهِ } وذلك حين ظهرت العمالقة ، قوم جالوت على كثير من أرضهم : { قَالَ } لهم نبيهم : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } .
قال الزمخشري : خبر عسيتم ألا تقاتلوا . والشرط فاصل بينهما . والمعنى : هل قاربتم ألا تقاتلوا : يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون ؟ . أراد أن يقول عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال ، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون ، وأراد بالاستفهام التقدير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَاْن } [ الإنسان : 1 ] ، معناه التقرير . وقرئ عسيتم بكسر السين ، وهي ضعيفة .
{ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ } ، أي : وأي سبب لنا في ترك قتال عدونا : { فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } ، أي : والحال أنه قد عرض ما يوجب القتال إيجاباً قوياً من أخذ بلادنا وسبي أولادنا : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } بعد إلحاحهم في طلبه : { تَوَلَّوْاْ } ، أي : أعرضوا عن قتال عدوهم جبناً : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وعيدٌ لهم على ظلمهم بالتولي علن القتال وترك الجهاد وعصياناً لأمره تعالى .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذه الآية الكريمة أنها دلت على أحكام :
الأول : وجوب الجهاد ، لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل وما نالهم تحذيراً من سلوك طريقهم . وأيضاً : شرائع من قبلنا تلزمنا .
الثاني : أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمورهم ، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً . قال في " الكشاف " : وروي أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم .
الثالث : وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة وتدبير الحرب ، لأن سياق الآية يقضي بذلك ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : < أطيعوا الأمير ولو كان عبداً حبشياً > . وقد ذكر أهل علم المعاملة : أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميراً ودليلاً وإماماً ، وهذا محمود ؛ إذ بذلك ينقطع الجدال وتنتظم [ في المطبوع : وينتظم ] أمورهم . ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء ، نحو أمور الأوقاف والمساجد والإمامة لكل مسجد ونحو هذا .
قال الحاكم : وفيه دلالة على أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم ووجه ذلك أنه قال : هل عسيتم وهذا نوع من التأكيد عليهم . وكذا يأتي في الإمام قياس ما ذكر الحاكم في النبي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 247 ]
.
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } هذا شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال ، إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم . أي : قال لهم بعد ما أوحى إليه ما أوحى إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً أي : ملّكه عليكم ، فانتهوا في تدبير الحرب إلى أمره ، وكان طالوت من سبط لم يكن الملك فيهم . وطالوت اسم أعجمي كجالوت وداود ، ولذلك لم ينصرف . وزعم قوم أنه عربي من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم . ولكنه ليس من أبنية العرب ، فمنع صفه للعلمية وشبه العجمة . وقد زعم الكتابيون أن طالوت هو المعروف عندهم بشاول { قَالُوَاْ } معترضين على نبيهم بل على الله تعالى : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } أي : من أين يكون أو كيف يكون ذلك : { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ } أي : لأن فينا من هو سبط الملوك دونه .
قال الحرالي : فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم . فكان فيه حظّ من فخر إبليس ، حيث قال حين أمر بالسجود لآدم : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } [ الأعراف : 12 ] .
{ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ } ، أي : فصار له مانعان :
أحدهما : أنه ليس من بيت الملك .
والثاني : أنه مملق . والملك لا بد له من مال يعتضد به .
قال الحرالي : فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال ، وأنه مما يقام به ملك . وإنما الملك بإيتاء الله . فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك ، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم .
{ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } ، لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره . رد عليهم ذلك أولاً : بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم . وثانياً : بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة . وجسامة البدن ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب . وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر . قاله أبو السعود .
{ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء } ، في الدنيا من غير إرث أو مال ؛ إذ لا يشترط في حقه تعالى شيء ، فهو الفعال لما يريد : { وَاللّهُ وَاسِعٌ } يوسع على الفقير ويغنيه : { عَلِيمٌ } بمن يليق بالملك ممن لا يليق به . وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث وأن الغنى والصيانة من الحرف الدنيئة ، لا تشترط في أمير ولا إمام ولا قاض . أي : لما روي أن طالوت كان دباغاً أو سقاء مع فقره . قال الحاكم : فيبطل قول الإمامية أنها وراثة ، والمعروف من قولهم : أن الإمامة طريقها النص ، وتدل الآية أيضاً على أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولاه . فيكون سليماً من الآفات عالماً بما يحتاج إليه ، لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم رداً على ما اعتبروا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 248 ]
.
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ } ، أي : علامة : { مُلْكِهِ } أنه من الله تعالى : { أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } أي : يرد الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة ، على ما سنذكره : { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ، أي : وقار وجلال وهيبة . أو فيه سكون نفوس بني إسرائيل يتقوون به على الحرب : { وَبَقِيَّةٌ } ، أي : فضلة جملة ، ذهب جلُّها : { مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } ، أي : من آثارهم الفاضلة : { تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ } ، أي : في رد التابوت إليكم : { لآيَةً لَّكُمْ } أن ملكه من الله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } بآيات الله وأنبيائه .
قال العلامة البقاعي عليه الرحمة : التابوت والله أعلم الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات ، ويسمى تابوت الشهادة ، وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم ، موظفون لحمله ، ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم . وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم . وكان عهدهم به قد طال . فذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملاً على الانقياد لطالوت . فقال : { فِيهِ سَكِينَةٌ } الآية .
وفي الأصحاح الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه :
( 1 ) وكلم الرب موسى قائلاً .
( 2 ) كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة من كل من يحثه قلبه تأخذون تقدمتي .
( 3 ) وهذه هي التقدمة التي تأخذونها منهم : ذهب وفضة ونحاس .
( 4 ) وأسما نجوني وأرجوان وقرمز وبوص وشعر معزى .
( 5 ) وجلود كباش محمرة وجلود نخس وخشب سنط .
( 6 ) وزيت للمنارة وأطياب لدهن المسحة وللبخور العطر .
( 7 ) وحجارة جزع ، وحجارة ترصيع للرداء والصدرة .
( 8 ) فيصنعون لي مقدساً لأسكن في وسطهم .
( 9 ) بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته ، هكذا تصنعون .
( 10 ) فتصنعون تابوتاً من خشب السنط طوله ذراعان نصف ذراع وعرض ذراع ونصف ، وارتفاعه ذراع ونصف .
( 11 ) وتغشيه بذهب نقي من داخل ومن خارج تغشيه . وتصنع عليه إكليلاً من ذهب حواليه .
( 12 ) وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع . على جانبه الواحد حلقتان . وعلى جانبه الثاني حلقتان .
( 13 ) وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب .
( 14 ) وتدخل العضوين في الحلقات على جانب التابوت ليحمل التابوت بهما .
( 15 ) تبقي العصوان في حلقات التابوت ، لا تنزعان منها .
( 16 ) وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك .
وفي الأصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج :
( 18 ) ثم أعطي موسى عند فراغه من الكلام معه من جبل سيناء لوحي الشهادة : لوحي حجر مكتوبين بأصبع الله .
وفي الأصحاح الرابع والثلاثين منه : أن موسى لما كسر اللوحين أمره الله أن ينحت لوحين مثل الأولين ، وأمره أن يكتب عليهما كلمات العهد الكلمات العشر . ونصه :
( 1 ) ثم قال الرب لموسى : انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين . فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما .
وفي حواشي التوراة : أن تابوت الشهادة هو التابوت الذي كان فيه لوحا الشريعة الإلهية المسماة : شهادة .
وزعموا أن السكينة معربة عن شكينا في اللغة العبرانية . وفي سفر صموئيل من سفر الملوك الأول في الأصحاح الرابع وما بعده نبأ انكسار الإسرائيليين أمام الفلسطينيين ، وأخذ التابوت من الإسرائيليين ، وأنه بقي التابوت في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر ، في قصص مسهبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 249 ]
.
وقوله تعالى :
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } ، أي : خرج بالجيش ، لما رد إليهم التابوت وقبلوا ملكه ، وخرجوا معه ، وكان طالوت أخذ بهم في أرض قفرة ، فأصابهم حر وعطش شديد : { قَالَ } لهم طالوت : { إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي : من أشياعي الذين يقاتلون معي عدوي ، ولا يجاوزه : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } ، أي : لم يذقه . من : طعم ، كعَلِمَ الشيء ، إذا ذاقه مأكولاً كان أو مشروباً وفي إيثاره على لم يشربه إشعار بأنه محظور تناوله ولو مع الطعام . ذكره الراغب : { إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } الواحدة فإنه لا يخرج بذلك عن كونه مني ، لأنه في معنى من لم يذقه .
قال الحرالي في قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها ، آخذة ما أخذت من قليل أو كثير ، وفي الضم ، إعلام بمثلها .
{ فَشَرِبُواْ مِنْهُ } ، أي : إلى حد الارتواء : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } لم يشربوا إلا كما أذن الله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } ، أي : النهر : { هُوَ } أي : طالوت : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ } ، أي : المفرطون في الشراب : { لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } لأنه سلبت شجاعتهم
وجاء في التوراة تسميته بجُليات . على ما سنذكره : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ } ، أي : يعلمون : { أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ } يرجعون إليه بعد الموت : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 250 ]
.
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ } ظهروا : { لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } إذ دنوا منه : { قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } ، أي : أفضه علينا وأكرمنا به لقتالهم فلا نجزع للجراحات ، وإنما طلبوه أولاً لأنه ملاك الأمر : { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } في ميدان الحرب فلا نهرب منه : { وَانصُرْنَا } لأنا مؤمنون بك : { عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } بك . وهم : جالوت وجنوده ، وهذا الآية تدل على أن من حزبه أمر ، فإنه ينبغي له سؤال المعونة من الله ، والتوفيق ، والانقطاع إليه تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 251 ]
.
{ فَهَزَمُوهُم } ، أي : هؤلاء القليلون ، أولئك الكثيرون : { بِإِذْنِ اللّهِ } بنصره إذ شجع القليلين وجبَّن الكثيرين : { وَقَتَلَ دَاوُدُ } وكان في جيش طالوت : { جَالُوتَ } ، الذي هو رأس الأقوياء : { وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ } أي : أعطى الله داود ملك بني إسرائيل : { وَالْحِكْمَةَ } ، أي : الفهم والنبوة : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } من صنعة الدروع وغيرها : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ } من أهل الشر : { بِبَعْضٍ } من أهل الخير : { لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } ، أي : بغلبة الكفار وظهور الشرك والمعاصي ، كما قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً } [ الحج : 40 ] الآية .
{ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } ، أي : منّ عليهم بالدفع . ولذلك قوّى سبحانه هؤلاء الضعفاء وأعطى بعضهم الملك والحكمة ومن سائر العلوم ، ليدفع فساد الأقوياء بالسيف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 252 ]
.
{ تِلْكَ } ، أي : المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام جالوت وقتل داود إياه وتملكه : { آيَاتُ اللّهِ } إذ هي أخبار غيوب تدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته ولطفه : { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } ، أي : ننزل عليك جبريل بها : { بِالْحَقِّ } ، أي : اليقين الذي لا يرتاب فيه : { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } بما دلت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير معلم من البشر ، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر . وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة . كما أن فيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين . فكأنه قيل : قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم . فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم . وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع ، لا على سبيل الإكراه . فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم . والوبال في ذلك يرجع عليهم . وقوله : { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } كالتنبيه على ذلك . أشار له الرازي .
قال البقاعي : ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة ، لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة رسالته ، لأنه مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل .
قلت : يرحم الله البقاعي ، فإنه لم يطلع على هذه القصة من التوراة ، مع أنها مسوقة في الأصحاح السابع عشر من سفر صموئيل الأول ونصه :
( 1 ) وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب فاجتمعوا في سوكوه التي ليهوذا ونزلوا بين سوكوه وعريقة في أفس دميم .
( 2 ) واجتمع شاول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطم واصطفوا للحرب للقاء الفلسطينيين .
( 3 ) وكان الفلسطينيون وقوفاً على جبل من هنا وإسرائيل وقوفاً على جبل من هناك والوادي بينهم .
( 4 ) فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جُليات من جَتَّ طوله ست أذرع وشبر .
( 5 ) وعلى رأسه خوذة من نحاس ، وكان لابساً درعاً حرشفياً ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس .
( 6 ) وجرموقاً نحاساً على رجليه ، ومزراق نحاس بين كتفيه .
( 7 ) وقناة رمحه كنول النساجين ، وسنان رمحه ست مائة شاقل حديد ، وحامل الترس كان يمشي قدامه .
( 8 ) فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم : لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب . أما أنا الفلسطيني وأنتم عبيد لشاول . اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إليّ .
( 9 ) فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نُصَيْر لكم عبيداً . وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم عبيداً وتخدموننا .
( 10 ) وقال الفلسطيني : أنا عيّرت صفوف إسرائيل هذا اليوم . أعطوني رجلاً فنتحارب معاً .
( 11 ) ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني هذا ارتاعوا وخافوا جداً .
( 12 ) وداود هو ابن ذلك الرجل الأفراتي من بيت لحم يهوذا الذي اسمه : يسَّى وله ثمانية بنين . وكان الرجل في أيام شاول قد شاخ وكبر بين الناس .
( 13 ) وذهب بنو يسّى الثلاثة الكبار وتبعوا شاول إلى الحرب . وأسماء بنيه الثلاثة الذين ذهبوا إلى الحرب أليآب البكر ، وأبينادابُ ثانيه ، وشمَّة ثالثهما .
( 14 ) وداود هو الصغير ، والثلاثة الكبار ذهبوا وراء شاول .
( 15 ) وأما داود فكان يذهب ويرجع من عند شاول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم .
( 16 ) وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحاً ومساء أربعين يوماً .
( 17 ) فقال يسَّى لداود ابنه خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك ، وهذه العشر الخبرات واركض إلى المحلة إلى أخوتك .
( 18 ) وهذه العشر القطعات من الجبن قدمها لرئيس الألف ، وافتقد سلامة إخوتك وخذ منهم عربوناً .
( 19 ) وكان شاول وهم وجميع رجال إسرائيل في وادي البطم يحاربون الفلسطينيين .
( 20 ) فبكَّر داود صباحاً وترك الغنم مع حارس وحمّل ، وذهب كما أمره يسَّى وأتى إلى المتراس والجيش خارج إلى الاصطياف وهتفوا للحرب .
( 21 ) واصطف إسرائيل والفلسطينيون صفاً مقابل صف .
( 22 ) فترك داود الأمتعة التي معه بيد حافظ الأمتعة وركض إلى الصف وأتى وسأل عن سلامة إخوته .
( 23 ) وفيما هو يكلمهم إذا برجل مبارز اسمه جليات الفسطيني من جت صاعد من صفوف الفلسطينيين ، وتكلم بمثل هذا الكلام فسمع داود .
( 24 ) وجميع رجال إسرائيل لما رأوا الرجل هربوا منه وخافوا جداً .
( 25 ) فقال رجال إسرائيل : أرأيتم هذا الرجل الصاعد . ليُعيِّر إسرائيل هو صاعد . فيكون أن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنى جزيلاً ، ويعطيه بنته ويجعل بيت أبيه حراً في إسرائيل .
( 26 ) فكلم داود الرجال الواقفين معه قائلاً : ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل ، لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعيّر صفوف الله الحي .
( 27 ) فكلمه الشعب بمثل هذا الكلام قائلين : كذا يُفعل بالرجل الذي يقتله .
( 28 ) وسمع أخوه الأكبر أليآب كلامه مع الرجال ، فحمي غضب أليآب على داود وقال : لماذا نزلت وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية . أنا علمت كبريائك وشر قلبك ، لأنك نزلت لكي ترى الحرب .
( 29 ) فقال داود : ماذا عملت الآن . أما هو كلام .
( 30 ) وتحول من عنده نحو آخر وتكلم بمثل هذا الكلام ، فرد له الشعب جواباً كالجواب الأول .
( 31 ) وسمع الكلام الذي تكلم به داود وأخبروا به أمام شاول ، فاستحضره .
( 32 ) فقال داود لشاول : لا يسقط قلب أحد بسببه . عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني .
( 33 ) فقال شاول لداود : لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني لتحاربه لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه .
( 34 ) فقال داود لشاول : كان عبدك يرعى لأبيه غنماً فجاء أسد مع دبّ وأخذ شاة من القطيع .
( 35 ) فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فيه ، ولما قام علي أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته .
( 36 ) قتل عبدك الأسد والدب جميعاً . وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عيّر صفوف الله الحي .
( 37 ) وقال داود : الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني . فقال شاول لداود : اذهب وليكن الرب معك .
( 38 ) وألبس شاول داود ثيابه ، وجعل خوذة من نحاس على رأسه وألبسه درعاً .
( 39 ) فتقلد داود بسيفه فوق ثيابه ، وعزم أن يمشي لأنه لم يكن قد جرّب . فقال داود لشاول : لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها . ونزعها داود عنه .
( 40 ) وأخذ عصاه بيده ، وانتخب له خمسة حجارة ملس من الوادي وجعلها في كنف الرعاة الذي له أي : في الجراب ومقلاعه بيده وتقدم نحو الفلسطيني .
( 41 ) وذهب الفلسطيني ذاهباً واقترب إلى داود والرجل حامل الترس أمامه .
( 42 ) ولما نظر الفلسطيني ورأى داود استحقره لأنه كان غلاماً وأشقر جميل المنظر .
( 43 ) فقال الفلسطيني لداود : ألعلِّي ، أنا كلب حتى أنك تأتي إليّ بعصيّ ، ولعن الفلسطيني داود بآلهته .
( 44 ) وقال الفلسطيني لداود تعال إليّ فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية .
( 45 ) فقال داود للفلسطيني : أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس . وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذي عيرتهم .
( 46 ) هذا اليوم يحبسك الرب في يدي ، فأقتلك وأقطع رأسك ، وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض ، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل .
( 47 ) وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يُخَلِّص الرب لأن الحرب الرب وهو يدفعكم ليدنا .
( 48 ) وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني .
( 49 ) ومد داود يده إلى الكنف وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع ، وضرب الفلسطيني في جبهته ، فارتزّ الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض .
( 50 ) فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطيني وقتله . ولم يكن سيف بيد داود .
( 51 ) فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده وقتله وقطع به رأسه . فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا .
( 52 ) فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا ولحقوا الفلسطينيين حتى مجيئك إلى الوادي وحتى أبواب عقرون . . . إلخ .
وتتمة شأن داود بعد ذلك إلى أن آتاه الله الملك ، مذكور في الفصول بعد هذا الفصل من التوراة . فانظره إن شئت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ 253 ]
.
{ تِلْكَ الرُّسُلُ } إشارة إلى من ذكر منهم في هذه السورة أو المعلومة للنبي صلى الله عليه وسلم : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } بأن خص بمنقبة ليست لغيره : { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ } تفصيل التفضيل أي : منهم من فضله الله ، بأن كلمه من غير سفير ، وهو موسى عليه السلام : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } كإبراهيم اتخذه الله خليلاً . وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك .
قال الزمخشري : أي : ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة .
والظاهر : أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر . ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائرة المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشبّه والمتميز الذي لا يلتبس ؛ يقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم . تريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال . فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه . وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه . ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يخفم أمره .
ثم قال : ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم .
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } سبق الكلام فيه .
قال الزمخشري : فإن قلت : فلِمَ خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة . ولقد بين الله وجه التفضيل ، حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات . فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات ، خُصَّا بالذكر في باب التفضيل . وهذا دليل بيّن أن من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره . ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها ، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع .
{ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } ، أي : من بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وتكفير بعضهم بعضاً : { مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .
قال الزمخشري : كرره للتأكيد . قال الناصر في حواشيه : ووراء التأكيد سر أخص منه . وهو أن العرب متى ثبت أول كلامهم على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول ، قصدت ذكره : إما بتلك العبارة أو بقريب منها . وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك . وفي كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى . منها قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } [ النحل : 106 ] ، ومنها قوله تعالى : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم } إلى قوله : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } [ الفتح : 25 ] . وهذه الآية من هذا النمط . لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ، ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص ، وهو اقتتال هؤلاء ، فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعنى المعبر عنه في قوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام ، ويعرف كل بشكله . فهذا سر ينشرح له الصدر ، ويرتاح له السر . والله الموفق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 254 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } ، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال . قيل : هو أمر إيجاب وأنه أراد بذلك : الإنفاق الواجب وهو الزكاة ، لأنه تعالى عقبه بالوعيد بقوله : { وَالْكَافِرُونَ } الخ . حيث عنى بهم مانعوها كما يأتي . وقال الأصم وأبو علي : أراد النفقة في الجهاد . وقال أبو مسلم وابن جريج : أراد الفرض والنفل . وهو المتجه . وقوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ } هو يوم القيامة : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } ، أي : فتحصلون ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب : { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى يعينكم الأخلاء { الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] { وَلاَ شَفَاعَةٌ } حتى تتكلوا على شفعاء : { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [ طه : 109 ] : { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أراد : والتاركون الزكاة هم الظالمون وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد . كما في قوله تعالى في آخر آية الحج : { وَمَنْ كَفَرَ } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، مكان ومن لم يحج وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار . قال تعالى : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 - 7 ] . ذكره الزمخشري .
ويحتمل أن يكون المعنى : والكافرون هم الظالمون لأنفسهم ، بوضع الأموال في غير مواضعها . فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم ، في أن لا تنفقوا فتضعوا أموالكم في غير مواضعها . وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها بهجوم ما يخشى معه الفوت : من موت أو غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ 255 ]
.
{ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ } أي : الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء : { الْقَيُّومُ } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ، وقرئ : القيام والقيم .
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } تأكيد للقيوم . أي : لا يغفل عن تدبير أمر الخلق تعالى وتقدس . والسنة كعِدة والوسَن محركة ، وبهاء والوسنة : شدة النوم أو أوله ، أو النعاس . كذا في القاموس .
قال المهايمي : السنة : فتور يتقدم النوم . والنوم : حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه من رطوبات أبخرة متصاعدة تمنع الحواس الظاهرة عن الإحساس . فهما منقصان للحياة منافيان للقيومية ، لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم . ونفي النوم أولاً التزاماً ، ثم تصريحاً ، ليدل كمال نفيه على ثبوت كمال ما ينافيه . ومن كمال قيوميته : اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليه بقوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ } من الملائكة والشمس والقمر والكواكب : { وَمَا فِي الأَرْضِ } من العوالم المشاهدات . وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه . كقوله : { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } [ مريم : 93 - 94 ] { مَن ذَا } من الأنبياء والملائكة ، فضلاً عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام : { الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } فضلاً عن أن يقاومه أو يناصبه : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي : بتمكينه تحقيقاً للعبودية ، كما قال تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ االنجم : 26 ] . وكقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] . وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بأذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة : < آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني . ثم يقال : ارفع رأسك وقل يسمع ، واشفع تشفع ، قال : فيحدّ لي حدّاً فأدخلهم الجنة > .
قال أبو العباس بن تيمية : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون . فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً لله ، ولم يبق إلا الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولاً . ثم قال له : ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع . وقال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : < من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه > . فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله . ولا تكون لمن أشرك بالله . وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ، ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك . ولهذا أثبتت الشفاعة بإذنه في مواضع . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي : ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم ، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسّه ، وما علمه أيضاً . فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه : { وَمَا خَلْفَهُمْ } وهو ما لم ينله علمهم ، لأن الخلف هو ما لا يناله الحس . فأنبأ أن علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا . أفاده الحرالي . فهذه الجملة كقوله تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة } [ الأنعام : 73 ] ، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } أي : لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل . كما قال تعالى : { فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 - 27 ] . أي : ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلاً على نبوته { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المعنيّ بالكرسي : العلم . وذلك لدلالة قوله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي : لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السموات والأرض . وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] ، فأخبر أن علمه وسع كل شيء ، فكذلك قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } قال ابن جرير : وقول ابن عباس هذا يدل على صحة ظاهر القرآن لما ذكر . ولأن أصل الكرسي العلم . ومنه قيل للصحيفة يكون فهيا علم مكتوب : كراسة . ومنه قول الراجز في صفة قانص :
~حتى إذا ما احْتَازها تكرّساً
يعني : علم ، ومنه يقال للعلماء : الكراسي ، لأنهم المعتد عليهم . كما يقال : أوتاد الأرض ، يعني أنهم الذي تصلح بهم الأرض . ومنه قول الشاعر :
~يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسيّ بالأحداث حين تنوب
يعني بذلك : علمه بحوادث الأمور ونوازلها . وروى ابن جرير أيضاً عن الحسن أن الكرسي في الآية : هو العرش . وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيها مترادفان ، ولذلك قال تعالى على لسان سليمان : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 38 ] ، فالعرش والكرسي هما شيء واحد ، وإنما سماه هنا كرسياً ، إعلاماً باسم له آخر { وَلاَ يَؤُودُهُ } أي : لا يثقله ولا يشق عليه . يقال : آده الأمر أوداً وأُوُوداً كقعود بلغ منه المجهود والمشقة { حِفْظُهُمَا } أي : السموات والأرض فلا يفتقر إلى شريك ولا ولد . وكيف يشق عليه : { وَهُوَ الْعَلِيُّ } قال ابن جرير قال بعضهم : يعني بذلك : علوّه عن النظير والأشباه . وقال آخرون : معناه العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه ، وخلقه دونه . كما وصف به نفسه أنه على العرش ، فهو عالٍ بذلك عليهم { الْعَظِيمُ } أي : أعظم كل شيء بالجلال والكبرياء والقهر والقدرة والسلطان .
تنبيه :
آية الكرسي هذه لها شأن عظيم وفضل كبير . وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أعظم آية في كتاب الله ، وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم ، وقد ساق ما ورد في فضلها الإمام ابن كثير في " تفسيره " والجلال السيوطي في " الدر المنثور " فانظرهما .
قال الزمخشري : فإن قلت : لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد ؟ ! . قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة . فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار .
وقد حكى السيوطي في " الإتقان " عن الأشعري والباقلاني وابن حبان المنع من أن يقال في القرآن فاضل وأفضل . قالوا : وما ورد مما يفيد ذلك محمول على الأعظمية في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض . وقد ردّ ذلك غير واحد ، حتى قال ابن الحصار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل . وقال الغزالي في " جواهر القرآن " : لعلك أن تقول : قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض ، والكلام كلام الله . فكيف يتفاوت بعضها بعضاً . وكيف يكون بعضها أشرف من بعض ؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات ، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت ، وترتاع على اعتقاد نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد ، فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال : < يس قلب القرآن ، وفاتحة الكتاب أفضل سور القرآن > .
وآية الكرسي سيدة آي القرآن . وقل هو الله أحد ، تعدل ثلث القرآن . والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 256 ]
.
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } قال ابن كثير : أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيّن واضح جلي دلائله وبراهينه . لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه . بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة . ومن عمي قلبه فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرهاً مقسوراً ، فالنفي بمعنى النهي .
وهو ما ذهب إليه في تأويل الآية كثير . وذهب آخرون إلى أنه خبر محض . أي : أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكين والاختيار . قال القفال - موضحاً له - لما بيّن تعالى دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر ، أخبر بعد ذلك أنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر . إلا أن يُقسر على الإيمان ويجبر عليه . وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء ؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . وقوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] . وقوله تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3 - 4 ] .
تنبيه :
علم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين . ولكن لحماية الدعوة إلى الدين والإذعان لسلطانه وحكمه العدل .
{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } أي : بالشيطان . أي : بما يدعو إليه من عبادة الأوثان : { وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا } أي : فقد تمسك من الدين بأقوى سبب . وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم . هي في نفسها محكمة مبرمة قوية ، وربطها قوي شديد . وجملة : لا انفصام لها إما استئناف مقرر لما قبلها ، وإما حال من العروة, والعامل استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى وإما صلة لموصول محذوف أي : التي . نقله الرازي .
وقد روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال : رأيت رؤيا على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . رأيت كأني في روضة خضراء وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء . في أعلاه عروة . فقيل لي : اصعد عليه . فقلت : لا أستطيع ، فجاءني منصف أي : وصيف فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد فصعدت حتى أخذت بالعروة . فقال : استمسك بالعروة ، فاستيقظت وإنها لفي يدي . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه . فقال : < أما الروضة : فروضة الإسلام ، وأما العمود : فعمود الإسلام . وأما العروة : فهي العروة الوثقى . أنت على الإسلام حتى تموت > { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } اعتراض تذييلي حامل على الإيمان ، رادع عن الكفر والنفاق ، بما فيه من الوعد والوعيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 257 ]
.
{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : حافظهم وناصرهم : { يُخْرِجُهُم } تفسير للولاية أو خبر ثان : { مِّنَ الظُّلُمَاتِ } أي : ظلمات الكفر والمعاصي : { إِلَى النُّوُرِ } أي : نور الإيمان الحق الواضح . وإفراد النور لوحدة الحق . كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال ، كما قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } أي : الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق : { يُخْرِجُونَهُم } بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال والإغواء : { مِّنَ النُّورِ } أي : الإيمان الفطري الذي جبل عليه الناس كافة . أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم : { إِلَى الظُّلُمَاتِ } أي : ظلمات الكفر والغي : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
ثم استشهد تعالى على ما ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 258 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ } أي : جادل : { إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ } أي : كيف أخرجه الطاغوت من نور نسبة الإحياء والإماتة إلى ربه ، إلى ظلمات نسبتهما إلى نفسه : { أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ } أي : لأن آتاه الله . يعني : أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر . فحاج لذلك ، أو حاجه لأجله . وضعاً للمحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه الشكر ، كما يقال : عاداني فلان لأني أحسنت إليه . تريد : أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان . ونحوه قوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .
قال الحرالي : وفي إشعاره أن الملك بلاء وفتنة على من أوتيه .
{ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } حين سأله من ربك الذي تدعونا إليه { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منها : { قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } أي : بالقتل والعفو عنه . ولما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع ، كان بطلان جوابه من الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على أحد ، والتصدي لإبطاله من قبيل السعي في تحصيل الحاصل ، انتقل إبراهيم عليه السلام ، إرسالاً لعنان المناظرة معه إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج مكابرة أو مشاغبة أو تلبيس على العوام . وهو ما قصه تعالى بقوله : { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي : إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود ، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته . فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق ، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فأت بها من المغرب : { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } تحير ودهش وغلب بالحجة ، لما علم عجزه وانقطاعه ، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام .
{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يلهمهم حجة ولا برهاناً { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ الشورى : 16 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 259 ]
.
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } استشهاد على ما ذكر تعالى من ولايته للمؤمنين وتقرير له ، معطوف على الموصول السابق ، وإيثار أو الفارقة على الواو الجامعة للاحتراز عن توهم اتحاد المستشهد عليه من أول الأمر . والكاف : إما اسمية جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر ، وإما زائدة . والمعنى : أو لم تر إلى مثل الذي . أو إلى الذي مرّ على قرية ، كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } خالية ساقطة حيطانها على سقوفها : { قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها . فكان منه كالوقوف في الظلمات . فأراه الدليل على الإحياء الحقيقي في نفسه مبالغة في قلع الشبهة ، إخراجاً له منها إلى النور : { فَأَمَاتَهُ اللّهُ ماِئَةَ عَامٍ } ليندرس بالكلية : { ثُمَّ بَعَثَهُ } أي : أحياه ببعث روحه إلى بدنه وبعض أجزائه إلى بعض بعد تفرقها : { قَالَ } الله له : { كَمْ لَبِثْتَ } أي : مكثت ميتاً : { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قاله بناء على التقريب والتخمين ، أو استقصاراً لمدة لبثه : { قَالَ } الله : { بَل لَّبِثْتَ ماِئَةَ عَامٍ } وإنما سأله تعالى ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشؤونه . وأن إحياه ليس بعد مدة يسيرة ، ربما يتوهم أنه هين في الجملة ، بل بعد مدة طويلة . وينحسم به مادة استبعاده بالمرة . ويطلع في تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى ، وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع ، على ما كان عليه دهراً طويلاً ، من غير تغير ما ، كما قال سبحانه : { فَانظُرْ } لتعاين أمراً آخر من دلائل قدرتنا : { إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي : لم يتغير في هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد . والهاء يجوز أن تكون هاء سكت زيدت في الوقف . وأصل الفعل على هذا فيه وجهان :
أحدهما : يتسنن من قوله : { حَمَإٍ مَسْنُونٍ } . فلما اجتمعت ثلاث نونات قلبت الأخيرة ياء كما قلبت في تظنيت ثم أبدلت الياء ألفاً ثم حذفت للجزم . والثاني : أن يكون أصل الألف واواً من قولهم : أسنى يسني إذا مضت عليه السنون . واصل سنة سنوة ، لقولهم : سنوات ، أي : لم تمر عليه السنون . والمعنى على التشبيه . أي : كأنه لم تمر عليه المائة سنة لبقائه على حاله وعدم تغيره . ويجوز أن تكون الهاء أصلاً ويكون اشتقاقه من السنة ، بناء على أن لام السنة هاء وأصلها سنهة . لقولهم : سنهاء وعاملته مسانهة . فعلى هذا تثبت الهاء وصلاً ووقفاً . إذ الفعل مجزوم بسكونها . وعلى الأول تثبت في الوقف دون الوصل . ومن أثبتها في الوصل أجراه مجرى الوقف . وقد قرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وصلاً وإثباتها وقفاً والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً . فإن قيل : ما فاعل يتسنى ؟ قيل : يحتمل أن يكون ضمير الطعام والشراب ؛ لاحتياج كل واحد منهما إلى الآخر ، فكانا بمنزلة شيء واحد . فلذلك أفرد الضمير في الفعل . ويحتمل أن يكون جعل الضمير لـ " ذلك " و " ذلك " يكنى به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد . ويحتمل أن يكون الضمير للشراب فقط ، لأنه أقرب . وثم جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها . والتقدير : وانظر إلى طعامك لم يتسنه ، وإلى شرابك لم يتسنه . ويجوز أن يكون أفرد في موضع التثنية كما قال الشاعر :
~فَكَأَنَّ في العينين حبَّ قَرَنْفُلٍِ أو سنبلاً كُحِلَت به فَانْهَلَّتِ
أشار لذلك أبو البقاء : { وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } كيف هو ، فرآه صار عظاماً نخرة : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ } عطف على مقدر متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق . أي : فعلنا ما فعلنا ، من إحيائك بعد ما ذكر ، لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل . ولنجعلك آية للناس على البعث . أو متعلق بفعل مقدر بعده . أي : ولنجعلك آية للناس ، فعلنا ما فعلنا : { وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ } أي : عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء : { كَيْفَ نُنشِزُهَا } قرأ بالزاي ، أي : نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه . من النشز وهو المرتفع من الأرض . وفيها على هذا وجهان : ضم النون وكسر الشين من أنشزته وفتح النون وضم الشين من نشزته وهما لغتان . وقرأ بالراء . وفيها وجهان :
الأول : فتح النون وضم الشين وماضيه نشر فيكون إما مطاوع أنشر الله الميت فنشر ، وحينئذ نشر بمعنى أنشر . فاللازم والمتعدي بلفظ واحد . وإما من النشر الذي هو ضد الطي ، أي : يبسطها بالإحياء . والثاني : ضم النون وكسر الشين ، أي : نحييها ، كقوله : { ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } [ عبس : 22 ] . قاله أبو البقاء { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } أي : نسترها به : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أي : اتضح له إعادته مع طعامه وشرابه وحماره ، بعد التلف الكلي ، وظهر له كيفية الإحياء : { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فخرج من الظلمات إلى النور .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 260 ]
.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } قال المهايمي : واذكر لتمثيل قصة المارّ على القرية ، في الإخراج من الظلمات إلى النور ، بالإحياء ، قصة إبراهيم .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } إنما سأل ذلك ليصير علمه عياناً .
{ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي : بلى آمنت ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء ، فوق سكونه بالوحي . فإن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين . وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكّاً في إحياء الموتى قط . وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : < ليس الخبر كالمعاينة > . وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك ، لأنه شك في قدرة الله . واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم . وفي الصحيحين وغيرهما من قوله : < نحن أحق بالشك من إبراهيم > . وبما روي عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن عندي آية أرجى منها ؛ إذ رضي الله من إبراهيم قوله : { بَلَى } . قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان . أخرجه عنه الحاكم في المستدرك وصححه . ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له .
قال ابن عطية : وهو عندي مردود . يعني قول هذه الطائفة . ثم قال : وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : < نحن أحق بالشك من إبراهيم > فمعناه : أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، فإبراهيم أحرى أن لا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم . وأطال ابن عطية البحث في هذا . وأطاب .
قال القرطبي : ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام مثل هذا الشك . وقد أخبر الله سبحانه أن أصفياءه ليس للشيطان عليهم سبيل ، فقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الإسراء : 65 ] . وقال اللعين : { إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 83 ] وإذا لم تكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم ؟ وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفرقها ، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزقها . فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين .
وقال الناصر في " الانتصاف " : الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها ، من المباحث الممتحنة بالفكر المحرر ، والنكت المفصحة بالرأي المخمر ، فنقول : أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له : { كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } فليس عن شك ، والعياذ بالله ، في قدرة الله على الإحياء . ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء . ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها . فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه . ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف وموضوعها السؤال عن الحال . ونظير هذا السؤال أن يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس ؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ، ولكنه سأل عن كيفية حكمه ، لا ثبوته . ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخاطر فيطرِّق إلى إبراهيم شكاً من هذه الآية . وقد قطع النبي عليه السلام دابر هذا الوهم بقوله : < نحن أحق بالشك من إبراهيم > أي : ونحن لم نشك ، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى . فإن قلت : إذا كان السؤال مصروفاً إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالإيمان ولا تخلّ به ، فما موقع قوله تعالى : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ } ؟ قلت : قد وقعتُ لبعض الحذاق فيه على لطيفة ، وهي أن هذه الصيغة تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية كما مر . وقد تستعمل في الاستعجاز . مثاله : أن يدعي مدعٍ أنه يحمل ثقلاً من الأثقال ، وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا ؟ فلما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم الله تعالى بأن إبراهيم مبرأ منه - أراد بقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ } أن ينطق إبراهيم بقوله : { بَلَى } آمنت . ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى .
ليكون إيمانه مخلصاً ، نصّ عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهماً لا يلحقه فيه شك . فإن قلت : قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين . فما موقع قول إبراهيم : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ؟ وذلك يشعر ظاهراً بأنه كان عند السؤال فاقداً للطمأنينة . قلت : معناه : ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة ، لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة ، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد . فهذا أحسن ما يجري لي في تفسير هذه الآية . وربك الفتاح العليم . انتهى .
{ قَالَ } أي : إذا أردت الطمأنينة : { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } بضم الصاد وكسرها ، بمعنى : فأملهن واضممهن إليك . يقال : صاره يصوره ويصيره ، إذا أماله ، لغتان .
قال الزمخشري : وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : فصرهن ، بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من : صرّه يصرّه ويصُرّه إذا جمعه ، وعنه : فصرهن من التصرية وهي الجمع أيضاً : وقال اللحياني : قال بعضهم : معنى صرهن : وجِّههُنَّ . ومعنى صِرهن : قطعهن وشققهن . والمعروف أنهما لغتان بمعنى واحد . وكلهم فسروا فصرهن : أملهن ، والكسر فُسّر بمعنى قطعهن . وقال الفيروزابادي في " البصائر " : قال بعضهم : صرهن بضم الصاد وتشديد الراء وفتحها ، من الصر أي : الشد . قال : وقرئ فصرهن بكسر الصاد وفتح الراء المشددة من الصرير أي : الصوت ، أي : صح بهن . وقال أبو البقاء : ويقرأ بضم الصاد وتشديد الراء ، ثم منهم من يضمها اتباعاً ومنهم من يفتحها تخفيفاً ومنهم من يكسرها على أصل التقاء الساكنين .
أقول : قد تقرر في العربية أن المضاعف إذا لحقته هاء الضمير يلزم وجه واحد في المؤنث ، وهو فتح ما قبلها ، نحو ردها مراعاة للألف اتفاقاً ، وفي المذكر ثلاثة أوجه :
أفصحها الضم ، ويليه الكسر وهو ضعيف ، ويليه الفتح وهو أضعفها .
وممن ذكره ثعلب في " الفصيح " لكن غلطوه لكونه أوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً } أي : ثم اذبحهن وجزئهن وضع على كل جبل منهن بعضاً : { ثُمَّ ادْعُهُنَّ } أي : بأسمائهن : { يَأْتِينَكَ سَعْياً } أي : مسرعات : { وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟ قلت : ليتأملها ويعرف أشكالها وهيآتها وحلاها ؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك . ولذلك قال : { يَأْتِينَكَ سَعْياً } أي : ولم يقل طيراناً ، لأنه إذا كانت ساعية كانت أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مّاِئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 261 ]
.
{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : في طاعته : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } أي : مثل نفقتهم كمثل حبة ، أو مثلهم كمثل باذر حبة . فالحذف إما من جانب المشبه أو المشبه به لتحصيل المناسبة ، أي : وتلك الحية ألقيت في الأرض ثم : { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ ماِّئَةُ حَبَّةٍ } أي : أنبتت ساقاً انشعب سبع شعب ، خرج من كل شعبة سنبلة فيها مائة حبة ، فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها . قال ابن كثير : وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة . فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة . انتهى .
أقول : مصداق هذا فما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله يتقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه ، حتى تكون مثل الجبل > .
{ وَاللّهُ يُضَاعِفُ } أي : هذا التضعيف أو أكثر منه : { لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف . ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به > وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن ابن مسعود قال : جاء رجل بناقة مخطومة فقال : هذه في سبيل الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة > . وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله . الدرهم بسبعمائة ضعف > . وثمة آثار أخرى في ابن كثير و الدر المنثور . ثم مدح تعالى من حفظ نفسه من المن والأذى فيما أنفق بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 262 ]
.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ } أي : لا يعقبون : { مَاأَنفَقُواُ مَنّاً } وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقاً : { وَلاَ أَذًى } وهو ذكره لغيره ، فيؤذيه بذلك أو التطاول عليه بسببه : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } الموعود به قبل : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على فائت من زهرة الدنيا ، لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك .
لطائف :
الأولى : قال الزمخشري : معنى ثم : إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وفي حواشيه للناصر ما نصه : ثم في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما ، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما ، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك ، كهذه الآية . وحاصله : أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة . وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها : وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه . فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن . ولكن معناها الأصلي : تراخي زممن وقوع الفعل وحدوثه . ومعناها المستعارة إليه : دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه . وعليه حمل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : 30 ] ، أي : داوموا على الاستقامة دواماً متراخياً ممتد الأمد ، وتلك الاستقامة هي المعتبرة ، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات ، وكذلك قوله : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } أي : يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية ، وتقليد المنن بسببه ، ثم يتوبون . والله أعلم . وقريب من هذا أو مثله ، أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه . ثم ورد قوله تعالى حكاية على الخليل عليه السلام : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] . وقد حكى الله تعالى في مثل هذه الآية : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] . فليس إلى حمل السين على تراخي زمان وقوع الهداية له من سبيل . فيتعين المصير إلى حملها على الدلالة على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها . انتهى .
الثانية : قال الزمخشري : فإن قلت : أي : فرق بين قوله : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } وقوله فيما بعد : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ؟ ! قلت : الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط ، وضمنه ثمّه . والفرق بينهما من جهة المعنى : أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر ، وطرحها عار عن تلك الدلالة .
وقال أبو السعود : وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها ، للإيذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى - أمر بيّن لا يحتاج إلى التصريح بالسببية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ 263 ]
.
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي : من كلمة طيبة ودعاء لمسلم : { وَمَغْفِرَةٌ } أي : غفر عن ظلم قولي أو فعلي : { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } إذ لا يحصل للصدقة ثواب ويحصل إثم الأذى ، وقد دخل في قوله قول معروف الرد الجميل للسائل . و مغفرة العفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول { وَاللّهُ غَنِيٌّ } عن طلب صدقة لعبيده مع الأذى لهم أو المن عليهم : { حَلِيمٌ } عن معالجة من يمنّ ويؤذي بالعقوبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ 264 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى } أي : لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما . فإنهما إساءتان ينافيان الإحسان المعتبر في الصدقة . والمنافي مبطل كالرياء .
فيصير المانّ والمؤذي : { كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } في بطلان صدقته . و رئاء إما مفعول له أو حال . أي : مرائياً . والهمزة الأولى في رئاء عين الكلمة لأنه من : راءى . والأخيرة بدل من الياء ؛ لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة كالقضاء . ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فراراً من ثقل الهمزة بعد الكسرة . وقد قرئ به . قاله أبو البقاء .
{ فَمَثَلُهُ } أي : هذا المنفق رياء ، في إنفاقه مقارناً لما يفسده . ومثل نفقته : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو حجر أملس : { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } أي : مطر كثير : { فَتَرَكَهُ صَلْداً } أي : أجرد لا شيء عليه : { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي : المرائي والمانّ والمؤذي ، لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لبطلانه . كقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
فلا يجدون ثواب صدقاتهم كما لا يوجد على الصفا التراب بعد ما أصابه الوابل : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } إلى الخير والرشاد . وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار . ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها . وقد ورد في وعيد المن بالصدقة أحاديث متواترة . ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب > . وفي سنن النسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 265 ]
.
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } مفعول له : { وَتَثْبِيتاً } معطوف عليه . ويجوز أن يكونا حالين . أي : مبتغين ومتثبتين : { مِّنْ أَنفُسِهِمْ } قال أبو البقاء : يجوز أن يكون من بمعنى اللام أي : تثبيتاً لأنفسهم ، كما تقول : فعلت ذلك كسراً من شهوتي ، ويجوز أن تكون على أصلها أي : تثبيتاً صادراً من أنفسهم . والتثبيت مصدر فعل متعد . فعلى الوجه الأول : يكون : { مِنْ أَنْفُسِهِمْ } مفعول المصدر . وعلى
الثاني : يكون المفعول محذوفاً . تقديره : ويثبتون أعمالهم بإخلاص النية ، ويجوز أن يكون تثبيتاً بمعنى تثبت فيكون لازماً . والمصادر قد تختلف ويقع بعضها موقع بعض . ومثله قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] . أي : تبتلاً . انتهى . وعن الشعبي : تثبيتاً تصديقاً ويقيناً : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ } أي : بستان : { بِرَبْوَةٍ } أي : موضع مرتفع : { أَصَابَهَا وَابِلٌ } مطر كثير : { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي : أخرجت ثمرها : { ضِعْفَيْنِ } أي : بالنسبة إلى غيرها من الجنان : { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } وهو المطر الضعيف ، أو أخف المطر ، أو أضعفه أو الندى . ولا بد من تقدير مضاف هنا كما تقدم : إما من جانب المشبه أو المشبه به . أي : ومثل نفقة الذين ... الخ . أو كمثل غارس جنة الخ . رعاية للتناسب .
قال الشهاب : وفي التشبيه وجهان :
أحدهما : أنه مركب ، والتشبيه لحال النفقة بحال الجنة بالربوة في كونها زاكية متكثرة المنافع عند الله ، كيفما كانت الحال .
والثاني : أن تشبيه حالهم بحال الجنة على الربوة في أن نفقتهم ، كثرت أو قلت ، زاكية زائدة في حسن حالهم . كما أن الجنة يضعِّف أكلها قويُّ المطر وضعيفه . وهذا أيضاً تشبيه مركب . إلا أنه لوحظ الشبه فيما بين المفردات . وحاصله : أن حالهم في اتباع القلة والكثرة تضعيف الأجر ، كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل تضعيف ثمارها . ويحتمل وجهاً ثالثاً : وهو أن يكون من تشبيه المفرد بالمفرد ، بأن تشبه حالهم بجنة مرتفعة في الحسن والبهجة . والنفقة الكثيرة والقليلة : بالطل والوابل ، والأجر والثواب : بالثمرات . والربوة مثلثة الراء . وأُكل بضمتين ، وتسكن للتخفيف . وبه قرئ : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ 266 ]
.
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } أي : كبر السن . فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء } صغار لا قدرة لهم على الكسب : { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } أي : ريح شديدة : { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } تلك الجنة ، وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال . والمعنى : تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ، ويضم إليها ما يحبطها ، كرياء وإيذاء ، في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة ، واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه : { كذَلِكَ } أي : مثل هذا البيان : { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي : فيها . فتعتبرون بها . وروى البخاري في التفسير عن عبيد بن عمير قال : قال عمر رضي الله تعالى عنه يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال عمر : يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ . قال عمر : أي : عملٍ ؟ قال ابن عباس : لعملٍ . قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل . ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي ، حتى أغرق أعماله . قال ابن كثير وهو من أفراد البخاري ولابن جرير من طريق عطاء عن ابن عباس معناه : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير ، حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء ، فأفسد ذلك فأحرقه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ 267 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } هذا بيان الحال ما ينفق منه ، إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته . أي : أنفقوا من جياد ما كسبتم ، لقوله تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عِمْرَان : 92 ] . فمقتضى الإيمان : الإنفاق من الجيد . لا سيما ما يطلب به رضا الله وتثبيت النفس . وفي الأمر إشعار بأنه إنما يمثل بالزرع المنبت سبع سنابل ، أو بالجنة بربوة ، ما أنفق من الجيد : { وَمِمَّا } أي : ومن طيبات ما : { أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ } من الحبوب والثمار : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } أي : لا تقصدوا : { الْخَبِيثَ } أي : الرديء من أموالكم { مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ } أي : بقابليه يعني الرديء إذا أهدي إليكم : { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } أي : إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه . من قولك : أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ، ويقال للبائع : أغمض ، أي : لا تستقص ، كأنك لا تبصر . كذا في " الكشاف " .
قال الرازي : الإغماض في اللغة : غض البصر وإطباق جفن على جفن . والمراد ههنا : المساهلة ، وذلك لأن الْإِنْسَاْن إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك . ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً . فقوله : { وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } يعني : لو أهدي إليكم مثل هذه الأشياء ، لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض . فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم ؟ ! : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ } عن إنفاقكم ، وإنما يأمركم به لمنفعتكم : { حَمِيدٌ } يجازي المحسن أفضل الجزاء . وفي الأمر بأن يعلموا ذلك ، مع ظهور علمهم به ، توبيخ على إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى . ولما رغب تعالى في إنفاق الجيد حذر من وسوسة الشيطان في ذلك فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 268 ]
.
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } في الإنفاق : { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء } أي : يغريكم على البخل ومنع الصدقات ، إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب : البخيل . قال طرفة :
~أَرَى المَوتَ يَعتَامُ الكرامَ وَيَصطَفي عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحش المتشدِّد
قال الحرالي : الفحشاء : كل ما اجتمعت عليه استقباحات الشرع . وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء . لمناسبة ذكر الفقر . وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة . ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله .
{ وَاللّهُ يَعِدُكُم } بالإنفاق لا سيما من الجيد : { مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } للذنوب : { وَفَضْلاً } خلفا ًوثواباً في الآخرة : { وَاللّهُ وَاسِعٌ } قدرة وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه : { عَلِيمٌ } بصدقاتكم ، فلا يضيع أجركم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [ 269 ]
.
{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } قال كثيرون : الحكمة إتقان العلم والعمل . وبعبارة أخرى : معرفة الحق والعمل به . قال أبو مسلم : الحكمة : فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل ، ورجل حكيم إذا كان ذا حجاً ولبّ وإصابة رأي . وهي في هذا الموضع في معنى الفاعل . ويقال : أمر حكيم ، أي : محكم ، وهو فعيل بمعنى مفعول . قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 4 ] .
{ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } إذ بها انتظام أمر الدارين . والإظهار في مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها . وفي إيلاء هذه الآية لما قبلها إشعار بأن الذي لا يغتر بوعد الشيطان ويوقن بوعد الله ؛ هو من آتاه الله الحكمة : { وَمَا يَذَّكَّرُ } أي : يتعظ بأمثال القرآن والحكمة : { إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } أي : ذوو العقول من الناس ، الخالصة من شوائب الهوى ، وهم : الحكماء . والمراد به : الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ 270 ]
.
{ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ } أي : يؤول إلى الإنفاق : { فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ } أي : الذين ينفقون رئاء الناس ، أو يضعون الإنفاق في غير موضعه . أو بضم المنّ والأذى إليه ، أو بالإنفاق من الخبيث ، أو يمنعون الصدقات ، أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو لا يفون بالنذور : { مِنْ أَنصَارٍ } أي : من أعوان ينصرونهم من عقاب الله .
قال الحرالي : ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر ، فيجد له نصيراً ، ولا يجد الظالم ، بوضع القهر موضع البر ، ناصراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 271 ]
.
{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية . وبيان له . ولذلك ترك العطف بينهما . أي : إن تظهروا الصدقات فنعم شيئاً إبداؤها ، لأنه يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع : من محتاج وغيره ، ويفيد اتباع الناس إياه : { وَإِن تُخْفُوهَا } أي : تسروها مخافة الرياء ، وستراً لعار الفقراء : { وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } أي : من العلانية ، لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات : { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } ذنوبكم بقدر صدقاتكم : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ترغيب في الإسرار . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل . وشاب نشأ في عبادة ربه . ورجل قلبه معلق في المساجد . ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه . ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين . ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه . ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه > . وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أي : الصدقة أفضل ؟ قال : < سرّ إلى فقير ، أو جهد من مقل > .
لطائف :
قال أبو البقاء في قوله تعالى : فنعما هي : نِعْمَ فعل جامد لا يكون فيه مستقبل ، وأصله نَعِمَ ، كعلم . وقد جاء على ذلك في الشعر . إلا أنهم سكنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون ، ليكون دليلاً على الأصل . ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل . ومنهم من يكسر النون والعين إتباعاً . وبكل قد قرئ . وفاعل نعم مضمر و ما بمعنى شيء . ثم قال : ونكفر عنكم يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عز وجل ، ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضاً ، وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء . ويقرأ وتكفر بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة . ويقرأ بجزم الراء عطفاً على موضع : { فَهُوَ خَيْرٌ } بالرفع على إضمار مبتدأ أي : ونحن أو هي ، و من هنا زائدة عند الأخفش ، فيكون سيئاتكم المفعول . وعن سيبويه : المفعول محذوف ، أي : شيئاً من سيئاتكم . والسيئة فيعلة ، وعينها واو لأنها من : ساء يسوء ، فأصلها سيوئة ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها . انتهى .
وفي " غيث النفع " : قرأ فنعما الشامي والإخوان بفتح النون . والباقون بالكسر . وقرأ قالون والبصري وشعبة بإسكان العين ، واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين ، يريدون الاختلاس فراراً من الجمع بين الساكنين ، والباقون بكسر العين ، واتفقوا على تشديد الميم . ثم ناقش الشاطبي في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف عليه إلا الإخفاء ، مع أنه روي عنهم الإسكان المحض أيضاً . ثم قال : وقد صرح المحقق في نشره أن الداني روى الوجهين جميعاً . ثم قال : والإسكان آثر والإخفاء أقيس وهو قراءة أبي جعفر والحسن . وغاية ما فيه الجمع بين الساكنين وليس أولهما حرف مد ولين ، وهو جائز قراءة ولغة . ولا عبرة بمن أنكره ولو كان إمام البصرة . والمنكر له هنا يقرأ به لحمزة في قوله تعالى : { فَمَا اسْطَاعُوا } [ الكهف : 97 ] . بالكهف إذ فيه الجمع بين الساكنين وصلاً بلا شك ؛ إذ السين ساكن والطاء مشدد وهذا مثله . والله أعلم . وبه يعلم ردّ ما قيل إن راوي التسكين لم يضبط القراءة لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكاناً ، فإنه غفلة عن جوازه لغة ، كما حكاه أبو عبيد . وعن القراءة بنظيره في استطاعوا وبالله التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ 272 ]
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } أي : لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمن والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل : { وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها ، لا على سبيل الوجوب . بل على سبيل الاختيار ، أفاده المهايمي .
قال أبو السعود : والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين ، مبالغة في حملهم على الامتثال . فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ } أي : بالحقيقة ، لأن المنفَق عليه إنما يقضي بها حاجته الفانية ويحصل لكم بها الثواب الأبدي ، فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم ؟ ونظائر هذا في القرآن كثير ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِه } [ فصلت : 46 ] ، { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ } نفي في معنى النهي . أي : فلا تستطيلوا به على الناس ولا تراؤوا به { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه أضعافاً مضاعفة : { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تنقصون من حسناتكم ، كما لا يزاد على سيئاتكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ 273 ]
.
{ لِلْفُقَرَاء } متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام . أي : اجعلوا ما تنفقونه للفقراء . أو صدقاتكم للفقراء . أي : المحتاجين إلى النفقة : { الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً } أي : ذهاباً : { فِي الأَرْضِ } لاكتساب أو تجارة : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ } بحالهم : { أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ } أي : من أجل تعففهم عن السؤال . والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم ، ورضاً عنه ، وشرف نفس : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] ، وقال : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] . وفي الحديث الذي في السنن : < اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله > ثم قرأ : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] قاله ابن كثير .
قال الغزالي : ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة ، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل ، ممن يكون مستتراً مخفياً حاجته لا يكثر البث والشكوى . أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته . فهو يتعيش في جلباب التجمل . فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال . كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة ، كأن يكون أهل علم . فإن ذلك إعانة له على العلم . والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية . وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم . فقيل له : لو عممت ! فقال : إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء . فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم . فتفريغهم للعلم أفضل .
لطيفة :
السيما مقصور ، كالسيمة . والسيماء والسيمياء ممدودين بكسرهن . والسومة بالضم : العلامة . قال أبو بكر بن دريد : قولهم : عليه سيما حسنة ، معناه علامة وهي مأخوذة من وسمت أَسِمُ . والأصل في سيما وسمي . فحولت الواو من موضع الفاء فوضعت في موضع العين ، كما قالوا : ما أطيبه وأيطبه ، فصار سومي . وجعلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، قال السمين : فوزن سيما عفلاً . وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق . إما واو أو ياء . فهي كعلباء ، ملحقة بسرداح . فالهمزة للإلحاق ، لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك . انتهى .
{ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } مصدر في موضع الحال . أي : ملحفين . يقال : ألحف عليه الخ . قال الزمخشري : الإلحاف الإلحاح وهو اللزوم . وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه ، من قولهم : لحفني من فضل لحافه . أي : أعطاني من فضل ما عنده . قيل : معنى الآية : إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا . فيكون النفي متوجهاً إلى القيد وحده . والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعاً . فمرجع النفي إلى القيد ومقيده ، كقوله : { وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ غافر : 18 ] ، وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، واستيجاب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف ، اقرؤا إن شئتم : { لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } > . وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم > . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وصححه ، والنسائي وابن حبان عن سَمُرة بن جُنْدب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه . فمن شاء أبقى ومن شاء ترك . إلا أن يسأل ذا سلطان ، أو في أمر لا يجد منه بداً > . وأخرج أحمد عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة . فمن شاء استبقى على وجهه > . وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر > . وأخرج أحمد وأبو داود ، وابن خزيمة عن سهل بن الحنظلية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من سال شيئاً وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم > . قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : < ما يغديه أو يعشيه > . وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلنا علام نبايعك ؟ قال : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، والصلوات الخمس ، وتطيعوا ولا تسألوا الناس . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه .
وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه > . وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < الله يحب المؤمن المحترف > . وأخرج أحمد والطبراني وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من استغنى أغناه الله . ومن استعف أعفه الله . ومن استكفى كفاه الله . ومن سأل وله قيمة أوقيةٍ فقد ألحف > . وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني . فقال : < خذه ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله . فإن شئت كله وإن شئت تصدق به . وما لا فلا تتبعه نفسك > .
قال سالم بن عبد الله : فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً ، ولا يرد شيئاً أعطيه : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } أي : ولو على الملحين وعلى من لم يتحقق فقرهم أو لم تشتد حاجتهم : { فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره ، فيجازي بحسبه . ثم أشار تعالى إلى أنه لا يختص الإنفاق بوقتٍ أو حالٍ بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 274 ]
.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بمزية الإخفاء على الإظهار .
قال الحرالي : فأفضلهم المنفق ليلاً سراً . وأنزلهم المنفق نهاراً علانية . فهم بذلك أربع أصناف .
لطائف :
لا يخفى أن في حضه تعالى على الإنفاق في هذه الآية الوافرة ، وضربه الأمثال في الإحسان إلى خلقه ترغيباً وترهيباً ، ما يدعو كل مؤمن إلى أن يتزكى بفضل ماله .
قال الإمام الغزالي عليه الرحمة في " الإحياء " ما نصه : في وجه الامتحان بالصدقات ثلاثة معاني : الأول : أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد ، وشهادة بإفراد المعبود . وشرط تمام الوفاء به ، أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد . فإن المحبة لا تقبل الشركة ، والتوحيد باللسان قليل الجدوى . وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب . والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا . وبسببها يأنسون بهذا العلام وينفرون عن الموت ، مع أن فيه لقاء المحبوب . فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب ، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم . ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] . وذلك بالجهاد . وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل . والمسامحة بالمال أهون . ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم . فلم يدّخروا ديناراً ولا درهماً . وقسم درجتهم دون من قبلهم ، وهم الممسكون أموالهم ، المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات . فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم . وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها . وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة . وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقاً سوى الزكاة . كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد . قال الشعبي بعد أن قيل له : هل في المال حق سوى الزكاة ؟ قال : نعم . أما سمعت قوله عز وجل : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } ... الآية [ البقرة : 177 ] ، واستدلوا بقوله عز وجل : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] . وبقوله تعالى : { وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم } [ المنافقون : 10 ] . وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة ، بل هو داخل في حق المسلم على المسلم . ومعناه أنه يجب على الموسر ، مهما وجد محتاجاً ، أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة . وقسم يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه . وهي أقل الرتب . وقد اقتصر جميع العوام عليه . لبخلهم بالمال وميلهم إليه ، وضعف حبهم للآخرة . قال الله تعالى : { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 37 ] . يحفكم أي : يستقصي [ في المطبوع : يستقص ] عليكم . فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة ، وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله . فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال .
المعنى الثاني : التطهير من صفة البخل ، فإنه من المهلكات . قال صلى الله عليه وسلم : < ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه > . وقال تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] . وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال . فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتياداً . والزكاة ، بهذا المعنى : طهرة . أي : تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك . وإنما طهارته بقدر بذله ، وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه لله تعالى .
المعنى الثالث : شكر النعمة . فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله . فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن . والمالية شكر لنعمة المال ، وما أخس من ينظر إلى الفقير ، وقد ضيّق عليه الرزق ، وأحوج إليه ، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه .
فصل
وللغزالي رحمه الله أيضاً بحث في المنّ والأذى المتقدم ذكرهما . يجدر ذكره هنا ، لما فيه من الفوائد لطالب الآخرة .
قال رحمه الله : الوظيفة الخامسة يعني من وظائف مرد طريق الآخرة بصدقته : أن لا يفسد صدقته بالمنّ والأذى ، قال الله تعالى : { لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [ التغابن : 16 ] . واختلفوا في حقيقة المنّ والأذى . فقيل : المن أن يذكرها . والأذى أن يظهرها . وقال : سفيان : من منّ فسدت صدقته . فقيل له : كيف المنّ ؟ فقال : أن يذكره ويتحدث به . وقيل : المنّ أن يستخدمه بالعطاء . والأذى أن يعيره بالفقر . وقيل : المنّ أن يتكبر عليه لأجل عطائه . والأذى : أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة . وقد قال صلى الله عليه وسلم : < لا يقبل الله صدقة منان > . وعندي أن المن له أصل ومغرس . وهو من أحوال القلب وصفاته . ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح . فأصله : أن يرى نفسه محسناً إليه ومنعماً عليه . وحقه أن يرى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله عز وجل منه ، الذي هو طهرته ونجاته من النار . وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهناً به . فحقه أن يتقلد منة الفقير ؛ إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل > . فليتحقق أنه مسلَّم إلى الله عز وجل حقه . والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل . ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه ، لكان اعتقاد مؤدي الدين كون القابض تحت منته سفهاً وجهلاً . فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه . أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه . فهو ساع في حق نفسه ، فلم يمنّ به على غيره ؟ ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها قبل ، أو أحدها ، لم ير نفسه محسناً إلا إلى نفسه . إما ببذل ماله إظهاراً لحب الله ، أو تطهيراً لنفسه عن رذيلة البخل ، أو شكراً على نعمة المال طلباً للمزيد . وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه . ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره . ما ذكر في معنى المنّ ، وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء ، والخدمة والتوقير والتعظيم ، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس ، والمتابعة في الأمور . فهذه كلها ثمرات المنة . ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه . وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار ، وفنون الاستخفاف وباطنه ، وهو منبعه أمران : أحدهما : كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه ، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة ، والثاني : رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه ، وكلاهما منشؤه الجهل . أما كراهيته تسليم المال فهو حمق ، لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يسوي ألفاً فهو شديد الحمق ، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل ، والثواب في الدار الآخرة ، وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل ، أو شكره لطلب المزيد . وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها . وأما الثاني : فهو أيضاً جهل ، لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته ، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام .
وقد أطال الغزالي رحمه الله من هذا النفس العالي . فليراجع .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة والصدقة
قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في " زاد المعاد " : هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة أكمل هديٍ في وقتها ، وقدرها ونصابها ، ومن تجب عليه ، ومصرفها . ويراعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين ، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه . وقيد النعمة به على الأغنياء . فما أزال النعمة بالمال على من أدى زكاته . بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات ، ويجعلها سوراً عليه وحصناً له وحارساً له .
ثم قال في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع : كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده . وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى ولا يستقله . ولا يسأله أحدٌ شيئاً عنده إلا أعطاه ، قليلاً أو كثيراً . وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر . وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه . وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه . وكان أجود الناس بالخير . يمينه كالريح المرسلة . وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه ، تارة بطعامه وتارة بلباسه . وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته . فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء شيء ، ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعاً كما فعل بجابر . وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه ، وأفضل وأكبر ، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه . ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفاً وتنوعاً في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن . وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله ، فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها وبحاله وقوله . فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء . وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى . وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً . فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدور ، وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره للنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها . وشرح صدره حسّاً وإخراج حظ الشيطان منه .
ولما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات من الزكوات والصدقات في جميع الأحوال والأوقات ، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات . فأخبر عن حالهم يوم خروجهم من قبورهم ، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 275 ]
.
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } وهو فضل مال خال عن العوض في معارضة مال بمال . وكتب الربا بالواو على لغة من يفخم . كما كتبت الصلوة والزكوة . وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع : { لاَ يَقُومُونَ } أي : يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } في القاموس خبطه : ضربه شديداً ، كتخبطه واختبطه . وفي " العباب " : كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه . وأصله [ في المطبوع : وأصل ] : المس باليد ، ثم استعير للجنون ، لأن الشيطان يمس الْإِنْسَاْن فيجنه . والجار يتعلق إما بلا يقومون أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بيتخبطه أي : من جهة الجنون . والمعنى : أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين . تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكاً لهم وفضيحة .
قال الحرالي : في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة . ففي إعلامه إيدان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخُرق لا بعقل . يقبل في محل الإدبار ، ويدبر في محل الإقبال .
قال البقاعي : وهو مؤيد بالمشاهدة . فإنا لم نرَ ولم نسمع قط بآكل ربا ينطلق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة ، بل هم أدنى الناس وأدنسهم .
تنبيه :
قال في الكشاف : وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الْإِنْسَاْن فيصرع . والمس : الجنون ، ورجل ممسوس . وهذا أيضاً من زعماتهم . وأن الجني يمسه فيختلط عقله . وكذلك : جُنّ الرجل ، معناه : ضربته الجن .
وتبعه البيضاوي في قوله وهو : أي : التخبط والمس ، وارد على ما يزعمون الخ .
قال الناصر في " الانتصار " : معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي : كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها . وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية ، من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع . ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار : وقال بعده : واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها . وإنما القدرية خصماء العلانية . فلا جرم أنهم ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . من ذلك : السحر ، وخبطة الشيطان ، ومعظم أحوال الجن . وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة ، وينبئ عنه ظاهر الشرع ، في خبط طويل لهم .
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في " شرح المقاصد " : وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشيطان مما انعقد عليه إجماع الآراء . ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء .
وقال : الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية . ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف ، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الْإِنْسَاْن ، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات .
قال العلامة البقاعي ، بعد نقله ما ذكرنا : وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الشيطان يجري من الْإِنْسَاْن مجرى الدم > . وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب . ونحو ذلك . وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك . وأما مشاهدة المصروع ، يخبر المغيبات وهو مصروع غائب الحس ، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق ، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع - فكثير جداً . لا يحصى مشاهدوه . إلى غير ذلك من الأمور الموجب للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطيين . وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق .
روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : إن ابني به جنون ، وأنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا ، فيخبِّث علينا . فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا . فثعّ ثعّةً . وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى . وقوله : ثعّ ، بمثلثة ومهملة ، أي : قاء .
وللدارمي أيضاً وعبد بن حميد بسند حسن أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر . فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير ، تظلنا . فعرضت له امرأة معها صبي لها . فقالت : يا رسول الله ! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار . فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل . ثم قال : اخسأ ، عدو الله ! أنا رسول الله ثلاثاً ثم دفعه إليها .
وأخرجه الطبراني من وجه آخر . وبيَّن أن السفر غزوة ذات الرقاع ، وأن ذلك كان في حرَّة واقم . قال جابر : فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان . فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما . فقالت : يا رسول الله ! اقبل مني هديتي . فوالذي بعثك بالحق ! ما عاد إليه بعد . فقال : خذوا منها واحداً ، وردوا عليها الآخر .
ورواه البغوي في " شرح السنة " عن يعلى بن مرة رضي الله عنه .
ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل . قال : وذلك كثير جداً . يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك . وبعد أن ساق ذلك قال : وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً ، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان .
وقد أجاد بيان تسلط الأرواح الخبيثة الإمام شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " وذكر علاج دفعها فقال عليه الرحمة :
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رَبَاح قال : قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء . أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع . وإني أتكشف . فادع الله لي . فقال : < إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك > . فقالت : أصبر . قالت : إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف . فدعا لها .
قلت : الصرع صرعان :
صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية . وصرع من الأخلاط الردية .
والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء ، في سببه وعلاجه . وأما صرع الأرواح ، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه . ويعترفون بأنه علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة . فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها . وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه . فذكر بعض علاج الصرع وقال : هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة . أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج . وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع . وليس معهم إلا الجهل . وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك . والحس والوجود شاهدٌ به . وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها . وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي . وقالوا : إنه من الأرواح . وأما جالينوس وغيره . فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا : إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ . وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها . وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده . ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم . وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج . فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها . والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان . فإن هذا نوع محاربة ، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً ، وأن يكون الساعد قوياً . فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل ، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً ، بكون القلب خراباً من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ، ولا سلاح له .
والثاني : من جهة المعالج بأن يكونوا فيه هذان الأمران أيضاً . حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله : اخرج منه . أبو بقول : بسم الله ، أو بقول : لا حول ولا قوة إلا بالله . والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : < اخرج عدو الله ! أنا رسول الله > . وشاهدت شيخنا يعني الإمام ابن تيمية رضي الله عنه يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول : قال لك الشيخ اخرجي . فإن هذا لا يحل لك . فيفيق المصروع . وربما خاطبها بنفسه . وربما كانت الروح ماردة ، فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع . ولا يحس بألم . وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً . وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع ، فقالت الروح : نعم . ومد بها صوته . قال : فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى مجلت يداي من الضرب . ولم يشكّ الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب . ففي أثناء الضرب قالت : أنا أحبّه . فقلت لها : هو لا يحبك . قالت : أنا أريد أن أحج به . فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك . فقالت : أنا أدعه كرامة لك . قال قلت : لا . ولكن طاعة لله ولرسوله . قالت : فأنا أخرج منه .
قال : فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً . وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟ قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى أي : شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ؟ ولم يشعر بأنه وقع ضربٌ البتة . وكان يعالج بآية الكرسي . وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها . وبقراءة المعوذتين . وبالجملة ، فهذا النوع من الصرع ، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة . وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم ، من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية . فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه . وربما كان عرياناً فيؤثر فيه هذا . ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة ، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها . وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة . فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة . وبالله المستعان .
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل . وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه . ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات [ في المطبوع : المثلاث ] والآفات بهم . ووقوعها خلال ديارهم ، كمواقع القطر . وهم صرعى لا يفيقون . وما أشد أعداء هذا الصرع ! ولكن لما عمت البلية بحيث لا يرى إلا مصروعاً لم يصر مستغرباً ولا مستنكراً . بل صار ، لكثرة المصروعين ، عين المستنكر المستغرب خلافه . فإذا أراد الله بعبد خيراً أفاق من هذه الصرعة ، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يميناً وشمالاً على اختلاف طبقاتهم . فمنهم من أطبق به الجنون . ومنهم من يفيق أحياناً قليلة ويعود إلى جنونه . ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى . فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل . ثم يعاوده الصرع فيقع التخبط .
ثم قال : وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعاً غير تام . وسببه : خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ ، سدة غير تامة . فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذاً ما ، من غير انقطاع بالكلية . وقد يكون لأسباب أخر : كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح . أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء . أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء . ولا يمكن أن يبقى الْإِنْسَاْن معه منتصباً بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالباً . وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجود المؤلم خاصة . وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن جاوز في السن خمساً وعشرين سنة . وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره . فإن صرع هؤلاء يكون لازماً ، قال بقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا . إذا عرف هذا ، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف ، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع . فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض ، ودعا لها أن لا تنكشف . وخيّرها بين الصبر والجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان . فاختارت الصبر والجنة . وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي . وإن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء . وإن تأثيره وفعله وتأثير الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها . وقد جربنا هذا مراراً نحن وغيرنا . وعقلاء الأطباء معترفون بأن في فعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب . وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم . والظاهر : أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع . ويجوز أن يكون من جهة الأرواح . ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيَّرها بين الصبر على ذلك مع الجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء . فاختارت الصبر والستر . والله أعلم .
{ ذَلِكَ } أي : القيام المخبط : { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ } أي : بسبب قولهم : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي : نظيره في أن كلاً منهما معاوضة . فإن قلت : هلا قيل : إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع . وحل البيع متفق عليه . فيقاس عليه الربا . وحق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؟ أجيب : بأنه جيء به على طريق المبالغة . وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانونا ً في الحل . حتى شبهوا به البيع . كذا أجاب الزمخشري .
قال الناصر في " حواشيه " : وعندي وجه في الجواب غير ما ذكر : وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم ، فللقائل أن يسوي بينهما طرداً . فيقول مثلاً : الربا مثل البيع . وغرضه من ذلك أن يقول : والبيع حلال ، فالربا حلال . وله أن يسوي بينهما في العكس فيقول : البيع مثل الربا . فلو كان الربا حراماً كان البيع حراماً ، ضرورة المماثلة . ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول : ولما كان البيع حلالاً اتفاقاً غير حرام ، وجب أن يكون الربا مثله . والأول : على طريقة قياس الطرد . والثاني : على طريقة العكس . ومآلهما إلى مقصد واحد . فلا حاجة ، على هذا التقرير ، إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره . وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح . وإن كان قياساً فاسد الوضع ، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضاً في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما . ولكن إذا استعمل الطريقتين المذكورتين استعمالاً صحيحاً فقل في الأولى : النبيذ مثل الخمر في علة التحريم . وهو الإسكار . والخمر حرام . فالنبيذ حرام . وقل في الثانية : إنما الخمر مثل النبيذ . فلو كان النبيذ حلالاً لكان الخمر حلالاً . وليست حلالاً اتفاقاً . فالنبيذ كذلك . ضرورة المماثلة المذكورة . فهذا الوجيه أولى أن تحمل الآية عليه . والله أعلم . وقوله : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } إنكار لتسويتهم بينهما . إذ الحل مع الحرمة ضدان . فأنى يتماثلان ؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص ، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه .
قال الرازي : إن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف . قالوا : لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة . فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس . وذكر القفال رحمه الله الفرق بين البابين فقال : من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين ، فقد جعل ذات الثوب مقابلاً بالعشرين . فلما حصل التراضي على هذا التقابل ، صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما . فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض . أما إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يمكن أن يقال : إن عوضه هو الإمهال في مدة الأجل ، لأن الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة . فظهر الفرق بين الصورتين . وقد أخرج أبو نعيم في " الحلية " عن جعفر بن محمد أنه سئل : لم حرم الله الربا ؟ قال : لئلا يتمانع الناس المعروف . أي : الإحسان الذي في القرض ؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله .
{ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ } أي : بلغه وعظ وزجر ، كالنهي عن الربا : { مِّن رَّبِّهِ } متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية : { فَانتَهَىَ } عطف على جاءه أي : فاتعظ بلا تراخ ، وتبع النهي : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي : ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه : { وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } إن شاء أخذه لظهور الفرق وإن شاء عفا عنه ، لأن الفرق ، وإن ظهر لأرباب النظر ، يجوز أن يخفى على العوام : { وَمَنْ عَادَ } أي : إلى تحليل الربا بعد النص : { فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لكفرهم بالنص ، وردهم إياه بقياسهم الفاسد ، بعد ظهور فساده . ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر . فلذا استحق الخلود . وبهذا تبين أن لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق . حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة . ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به . فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم ، كأنه قال : ومن عاد إلى ما سلف ذكره ، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع . ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلاً لها مكابراً في تحريمها ، مسنداً إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات ، بما يتوهمه من الخيالات - فقد كفر ثم ازداد كفراً . وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن . وهذا لا خلاف فيه ، وفلا دليل إذاً للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية . والله الموفق . أشار لذلك في " الانتصاف " .
قال في فتح البيان : والمصير إلى هذا التأويل واجب ، للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } [ 276 ]
.
{ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا } أي : يذهب ريعه ويمحو خيره ، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه } [ الروم : 39 ] ، وقال تعالى : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } [ الأنفال : 37 ] : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أي : يكثرها وينميها ,إن كانت نقصاناً في الشاهد .
فوائد :
الأولى : قال القاشاني : لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين . والمال الحاصل من الربا لا بركة له ؛ لأنه حصل من مخالفة الحق . فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي ؛ إذ كل طعام يولّد في آكله دواعي وأفعالاً من جنسه . فإن كان حراماً يدعوه إلى أفعال محرمة ، وإن كان مكروهاً فإلى أفعال مكروهة . وإن كان مباحاً فإلى مباحة . وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات ، وكان في أفعاله متبرعا ًمتفضلاً . وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية . وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك . فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله . فتزداد عقوباته وآثامه أبداً . ويتلف الله ما له في الدنيا ، فلا ينتفع به أعقابه وأولاده . فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو المحق الكلي . وأما المتصدق فلكون ماله مزكّى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل . وآكله لا يكون إلا مطيعاً في أفعاله . ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعاً به . وذلك هو الزيادة في الحقيقة . ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة . وأي زيادة أفضل مما تبقّى عند الله ؟ ! ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصاناً . وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله ؟ !
الثانية : قال القاشاني عليه الرحمة قبل ذلك : آكل الربا أسوأ حالاً من جميع مرتكبي الكبائر . فإن كل مكتسب له توكل ما فيه كسبه ، قليلاً كان أو كثيراً . كالتاجر والزارع والمحترف . إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولن تتعين لهم قبل الاكتساب . فهم على غير معلوم في الحقيقة . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم > . وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه . سواء ربح الآخذ أو خسر . فهو محجوب عن ربه بنفسه ، وعن رزقه بتعيينه . لا توكل له أصلاً . فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله . وأخرجه من حفظه وكلاءته . فاختطفه الجن وخبلته . فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل ، فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه ، لا يهتدي إلى مقصد .
الثالثة : قال بعض العلماء العمرانيين : يشترط لجواز التموّل أن يكون من وجه مشروع كما في مقابلة عمل أو معاوضة . وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير . ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها . وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا ، قصداً لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية ، لأن الربا هو كسب بدون مقابل ماديّ ؛ ففيه معنى الغصب . وبدون عمل ، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق . وبدون تعرض لخسائر طبيعية ، كالتجارة والزراعة والأملاك . ومن المشاهد : أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس .
ثم قال : وقد نظر الماليون والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا : إن المعتدل منه نافع بل لا بد منه . أولاً : لأجل قيام المعاملات الكبيرة . وثانياً : لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول ، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسماً منها أيضاً ؟ ! وثالثاً : لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح ، أو لا يقدرون عليها . كما أن كثيراً من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان .
فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم . أما السياسيون والأخلاقيون : فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها ، لأن هذه الثروات الإفرادية تمكن الاستبداد الداخلي . فتجعل الناس صنفين : عبيداً وأسياداً . وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالاً وعدة . وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة . ولذلك حرمت الأديان الربا تحريماً مغلظاً . انتهى .
الرابعة : قال الرازي : لما بالغ تعالى في الزجر عن الربا ، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ، ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا ، وكشف عن فساده . وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات . والصارف عن الصدقات : الاحتراز عن نقصان الخيرات . فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في الحقيقة . وإن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى . ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف . بل يعول على ما ندبه الشرع إليه منهما .
وقال القفال : ونظير قوله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } ، المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً . ونظير قوله : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } ، المثل الذي ضربه بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة .
{ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } صيغتا مبالغة من الكفر والإثم ، لاستمرار مستحل الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك . وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار ، لا من فعل المسلمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 277 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } بالله ورسوله وكتبه وبتحريم الربا ، ورجح إيمانهم أمر الله بالإنفاق ، على جمعهم للمال : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيما بينهم وبين ربهم التي من جملتها الجود وترك الربا : { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، كالشح والربا : { وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ } أعطوا زكاة أموالهم التي هي أجل أسباب فضيلة الجود : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } ثوابهم الكامل : { عِندَ رَبِّهِمْ } في الجنة : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يوم الفزع الأكبر
{ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لأنهم فرحون بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 278 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ } أي : اخشوا الله في الربا ، لأن فيه إبطال حكمته تعالى في خلق الأموال : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي : اتركوا ما بقي لكم من الربا على الغرماء : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } على الحقيقة . فإن ذلك مستلزم لما أمرتم به البتة .
قال الحرالي : فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ 279 ]
.
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي : لم تتركوا ما بقي : { فَأْذَنُواْ } أي : اعلموا : { بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } قال المهايمي : أي : إن لم تفعلوا ترك ما بقي كنتم متهاونين بأمره . ومن تهاون بأمر ملك حاربه .
والحرب نقيض السلم . ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً . وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكله { وَإِن تُبْتُمْ } من الربا : { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } أي : أصولها : { لاَ تَظْلِمُونَ } بطلب الزيادة : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقص والمطل . بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص فيه . ثم أمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 280 ]
.
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } أي : بالكل أو البعض : { فَنَظِرَةٌ } أي : فالواجب إمهال بقدر ما أعسر : { إِلَى مَيْسَرَةٍ } أي : بذلك القدر . لا كما كان أهل الجاهلية ، يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الذين : إما أن تقضي وإما أن تربي . ثم ندب تعالى إلى الوضع من المعسر ووعد عليه الخير والثواب الجزيل فقال : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي وأن تتركوا للمعسر قدر ما أعسر بإبرائه منه ، لأنه ربما لا يحصل البدل في الحال ، فيأخذ ما يساويه في الآخرة . والصدقة تتضاعف الأضعاف المذكورة .
وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < كان رجل يداين الناس ، فكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه ، لعل الله أن يتجاوز عنا ، فلقي الله فتجاوز عنه > . وأخرج مسلم والترمذي نحوه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه .
وعن أبي قتادة الحارث بن رِبْعيالأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من نفَّس عن غريمه أو محا عنه ، كان في ظل العرش يوم القيامة > . رواه الإمام أحمد ومسلم . وعن بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة . قال : ثم سمعته يقول : من أنظر معسراً فله لكل يوم مثلاه صدقة > . فسألته عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : < له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين . فإذا حل الدين فأنظره ، فله بكل يوم مثلاه صدقة > . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : < من أنظر معسراً أو وضع عنه ، وقاه الله من فيح جهنم > . رواهما الإمام أحمد ، ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها ، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ، ويحذرهم عقوبته ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 281 ]
.
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً } أي : اخشوا عذاب يوم : { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ما عملت من خير أو شر .
قال المهايمي : فإن استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون استوفى الله منه حقوقه بالتضييق . وإن سامحه فالله أولى بالمسامحة . والمديون ، إن لم يوف حق الدائن مع قدرته على الأداء استوفى الله منه حقه . وأما من لا يقدر ، فيرجى أن يعفوا الله عنه ، ويرضى خصمه بعوض من عنده : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم .
تنبيه :
من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه ، أكبر جرمه وإثمه . فقد ترتب عليه قيامهم في المحشر مخبلين وتخليدهم في النار ونبزهم بالكفر . والحرب من الله ورسوله واللعنة . وكذا الذم والبغض وسقوط العدالة وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة ودعاء من ظلم بأخذ ماله على ظالمه . وذلك سبب لزوال الخير والبركة . فما أقبح هذه المعصية وأزيد فحشها . وأعظم ما يترتب من العقوبات عليها ! وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوى التصريح به في تلك الآيات من العقوبات والقبائح الحاصلة لأهل الربا في أحاديث كثيرة . فمنها : ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < اجتنبوا السبع الموبقات أي : المهلكات قالوا : يا رسول الله ! وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات > . وأخرج البخاري عن سَمُرة بن جُنْدب عن النبي صلى الله عليه وسلم : < رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة . فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم . فيه رجل قائم . وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة . فأقبل الرجل الذي في النهر . فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان . فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان . فقلت : ما هذا الذي رأيته في النهر ؟ قال : آكل الربا > . وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه . وقال : < هم سواء > . وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله . وثمة آثار وافرة ، ساقها السيوطي في الدر المنثور :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 282 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين ، إذا تعاملوا معادلات مؤجلة ، أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها . وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } وفي قوله : { تَدَايَنتُم } دليل على جواز السلم ، لأن المداينة فعل اثنين وهو السلم نفسه ، لأنه دين من الجانبين جميعاً . وعلى ذلك روي عن ابن عباس قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى ، أن الله تعالى أحلّه وأذِنَ فيه ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم } الآية . رواه البخاري .
وقال آخرون : قوله : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } هو بيع كل دين إلى أجل مسمى . فهو يسمى التداين . كما يسمى البائع والمشتري المتبايعين ، لأن كل واحد منهما بائع في وجه . فعلى ذلك, المداينة : التداين . وإنما لم نؤمر بالكتابة في بيع الأعيان ، لأنه في المداينات ، وصل أحدهما إلى حاجته يقبض راس المال والآخر لم يصل . فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود . فإذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه ارتدع عن الإنكار والجحود . لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس ، ولا كذلك مع العين بالعين ، لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر . فليس هنالك للإنكار معنى ، وثمة وجه آخر : وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك . أو ينسى بعضه ويذكر بعضاً ، فأمر بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة . ولا كذلك في بيع العين بالعين . فافترقا . كذا في التأويلات للماتريدي : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ } أي : الدين المذكور : { كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } الجار متعلق إما بالفعل أي : وليكتب بالحق . أو بمحذوف صفة لكاتب ، أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين . لا يزيد ولا ينقص . وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه ديّن ، حتى يجيء كتابه موثوقاً به معدلاً بالشرع : { وَلاَ يَأْبَ } أي : ولا يمتنع : { كَاتِبٌ } من : { أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ } أي : كما بينه بقوله تعالى : { بِالْعَدْلِ } . أو لا يأبى أن ينفع الناس بكتابته ، كما نفعه الله بتعليم الكتاب ، كقوله تعالى : { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك } [ القصص : 77 ] . وفي الحديث : < إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق > . وفي الحديث الآخر : < من كتم علماً يعلمه ، ألجم بلجام من نار > .
قال الرازي : ظاهر هذا الكلام نهيٌ لكل كاتب عن الامتناع من الكتابة . وإيجابها على كل من كان كاتباً : { فَلْيَكْتُبْ } أي : تلك الكتابة المعلمة . أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } الإملال : الإملاء . وهما لغتان نطق القرآن بهما . قال تعالى : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } [ الفرقان : 5 ] . أي : وليكن المملي على الكاتب المدين وهو الذي عليه الحق ، لأنه المقر المشهود عليه : { وَلْيَتَّقِ } أي : وليخش المملي : { اللّهَ رَبَّهُ } جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل ، للمبالغة في التحذير : { وَلاَ يَبْخَسْ } أي : لا ينقص : { مِنْهُ } أي : مما عليه : { شَيْئاً } مما عليه من الدين : { فَإن كَانَ } المدين وهو : { الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً } أي : خفيف الحلم أو جاهلاً بالإملاء لا يحسنه : { أَوْ ضَعِيفاً } صبياً أو شيخاً هرماً : { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } أي : أو غير مستطيع للإملاء بنفسه - لعيّ به أو خرس أو عجمة . ولفظ هو هنا توكيد للفاعل المضمر - والجمهور على ضم الهاء لأنها كلمة منفصلة عما قبلها ، فهي مبدوء بها . وقرأ بإسكانها على أن يكون أجري المنفصل مجرى المتصل بالواو أو الفاء أو اللام . نحو : وهو ، فهو ، لهو . قاله أبو البقاء , : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } يعني الذي يلي امره من قيّم أو وكيل أو ترجمان : { بِالْعَدْلِ } من غير نقص ولا زيادة : { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ } أي : اطلبوهما ليتحملا الشهادة على المداينة : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } أي : الشاهدان : { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ } أي : في العدالة : { مِنَ الشُّهَدَاء } ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال ، العدد من النساء ، علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن ، فقال : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } أي : تغيب عنها الشهادة : { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } الضالة : { وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } أي : لأداء الشهادة التي تحملوها أو لتحملها . وتسميتهم شهداء قبل التحميل من تنزيل المشارف منزلة الواقع : { وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ } أي : الدين : { صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ } أي : المذكور من الكتابة : { أَقْسَطُ } أي : أعدل : { عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } أي : أعون لإقامتها ؛ إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ : { وَأَدْنَى } أي : أقرب : { أَلاَّ تَرْتَابُواْ } أي : لا تشكو في جنس الدين وقدره وأجله بتشكيك أحد المتداينين : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } أي : حالة : { تُدِيرُونَهَا } أي : تكثرون إدارتها : { بَيْنَكُمْ } فتصعب عليكم كتابتها مع قلة الحاجة إليها : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } لأنها مناجزة فيبعد فيها التنازع والنسيان . قال أبو البقاء : تجارة يقرأ بالرفع على أن تكون التامة وحاضرة صفتها . ويجوز أن تكون الناقصة ، واسمها تجارة ، وحاضرة صفتها ، وتديرونها الخبر . وقرأ بالنصب على أن يكون اسم الفاعل مضمراً فيه ، تقديره إلا أن تكون المبايعة تجارة : { وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً ، لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف . ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع . يعني التجارة الحاضرة ، على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة . وعن الضحاك . هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل . كذا في الكشاف . وأخرج ابن المنذر عن جابر بن زيد أنه اشترى سوطاً فأشهد وقال : قال الله : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } .
قال أبو القاسم بن سلامة في كتابه الناسخ والمنسوخ : قد كان جماعة من التابعين يرون أنهم يشهدون في كل بيع وابتياع . فمنهم الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي .
كانوا يقولون : إنا نرى أن نشهد ولو في جرزة بقل .
{ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يحتمل البناء للفاعل والمفعول . ويدل عليه أنه قرئ : ولا يضارر بالكسر والفتح والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما ، وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم . قال الحرالي : في الإحنة تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده ، ويعينه على الائتمار لأمر بما يدفع من ضرر ، عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه . ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه .
{ وَإِن تَفْعَلُواْ } أي : ما نهيتم عنه من الضرار : { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي : خروج بكم عن الشرع الذي نهجه الله لكم . قال الحرالي : وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } أن يعذبكم بالخروج عن طاعته : { وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } أحكامه المتضمنة لمصالحكم : { وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ولما كان التقدير : هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد ، عطف عليه قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ 283 ]
.
{ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ } أي : مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أي : فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق ، وثيقة لدينه . هذا إذا لم يأمن البعضُ البعضَ بلا وثيقة : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ } وهو المدين . وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ، ولحمله على الأداء : { أَمَانَتَهُ } أي : دينه . وإنما سمي أمانة : لائتمانه عليه بترك الارتهان به : { وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ } في رعاية حقوق الأمانة . وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير مالا يخفى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ } أيها الشهود : { الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .
قال الزمخشري : فإن قلت هلا اقتصر على قوله فإنه آثم . وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتلكم بها . فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه ، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ . ألا تراك تقول ، إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي . ولأن القلب هو رئيس الأعضاء ، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله . فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه . ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط . وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح . وهي لها كالأصول التي تتشعب منها . ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب . فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب . وقرأ قلبه بالنصب . كقوله : سفه نفسه . وقرأ ابن أبي عبلة : أثم قلبه . أي : جعله آثماً : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم : { عَلِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 284 ]
.
{ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ } أي : تظهروا : { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح : { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال : { لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ومعنى هذا الملك ، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه . ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد أن يكون عالماً بها . إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به . فكأن الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض ، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان ، على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها .
قال الشعبي : إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه ، بيّن أن له ملك السماوات والأرض ، فيجازي على الكتمان والإظهار . وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْدُوا } الخ نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها .
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا > . قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال : قد فعلت : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال : قد فعلت : { وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا } قال : قد فعلت . وفي مسند عبد الله بن حميد والطبراني : قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها . وصار الأمر إلى أن قضى الله تعالى أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل . أقول إن ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة ، فإنما جاءه من عمومها ومن قوله : { يُحَاسِبْكُمْ } إذ حمله على حساب المؤاخذة ، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه . إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولاً وبالذات . وغيرها ثانياً وبالعرض . وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفياً أو لغوياً فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره . كنفاق وريب في الدين . ولا إشكال في الآية . وقد يؤيده ذكر الإيمان بعده . ويكون ختام السورة بالإبداء والإخفاء بمثابة رد العجز على الصدر . لافتتاح السورة بالمؤمنين والكافرين وما لكل منهما . وإن لم يكن الحساب حقيقة فيما ذكر بل كان معناه إيقافه تعالى العبد على عمله خيراً أو شراً وإراءته عاقبته الحسنى أو السوءى ، وهو الذي يظهر ، فلا إشكال أيضاً . فما روي عن بعض الصحب عليهم الرضوان منشؤه قوة اليقين وشدة الخوف من هول المطلع مع ورود الحساب في كثير من الآيات في معرض أخطار القيامة مما يحق أن يخفق له فؤاد كل مؤمن . ولا تنس ما أسلفنا في المقدمة وفي غير موضع ، أن قولهم : نزلت في كذا ، قد يراد أن كذا مما يشمله لفظ الآية لعمومها له ولغيره . وهكذا هنا . فالآية وإن كان سياقها في الشهادة وكتمانها ، إلا أنها تتناول غيرها بعمومها . ولذلك دخل فيها الوسوسة وتوهم ما توهم . وقوله في الرواية : فأنزل الله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } لا يتوهم التراخي بين ما دخل قلوبهم وبين نزولها ، بل المراد ، كما أسلفنا في سبب النزول ، أن لفظ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ } الخ الذي نزل معها مبين أن لا حرج في مثل الوسوسة ونحوها . فافهم فإنه نفيس جداً . وبه يزاح عنك ما يبحث فيه الكثيرون في هذه الآية ويرونه من المعضلات . وبالله التوفيق .
هذا وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي ما وسوست بها صدورها ، ما لم تعمل أو تكلم > . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < قال الله عز وجل : إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه . فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن علمها فكاتبوها عشراً > { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } وقرئ برفع الفعلين على الاستئناف أي : فهو يغفر الخ . وبجزمهما عطفاً على جواب الشرط . وفي تقديم المغفرة على التعذيب إشعار بسبق رحمته تعالى على غضبه : { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال الرازي : قد بين بقوله : { لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أنه كامل الملك والملكوت . وبين بقوله : { وَإِنْ تُبْدُوا } الخ . أنه كامل العلم والإحاطة . ثم بين بقوله : { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أنه كامل القدرة مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام . ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات . والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له ، خاضعاً لأوامره ، ونواهيه ، متحرزاً عن سخطه . وبالله التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ 285 ]
.
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } أي : صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة : " كان خلقه القرآن " والترقي بمعانيه والتحقق : { وَالْمُؤْمِنُونَ } أي : كذلك آمنوا .
قال الزجاج رحمه الله : لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدين ، ختمها بقوله : { آمَنَ الرَّسُولُ } لتعظيمه وتصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله ، وغيره ليكون تأكيداً له وفذلكة .
لطيفة :
قوله : والمؤمنون إما مبتدأ والجملة بعده خبر . أعني : كلٌّ آمن . والعائد إلى المبتدأ التنوين القائم مقام الضمير في " كل " ، لأن من جملة العائد إلى المبتدأ التنوين النائب مناب الضمير . وإما معطوف على الرسول ، فيكون التنوين راجعاً إلى الرسول والمؤمنين . وقد اختار كثيرون الأول . ومنهم العلامة أبو السعود ، وأطال في توجيهه . وعندي أن الوجه هو الثاني ، لأن المقام لتعداد المؤمن به . وذلك يشترط فيه الرسول وأتباعه . وإن كان كنه إيمان الرسول لا يشاركه فيه غيره . فالمقام ليس مقام الخصوصية . والله أعلم .
{ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ } أي : يقولون : لا نفرق : { بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } أي : برد بعض وقبول بعض ، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا } أي : قولك وفهمناه : { وَأَطَعْنَا } أي : امتثلنا أمرك وقمنا به واستقمنا عليه . ولما علموا أنهم لا يخلون من تقصير ، وأن الرب يغفر لمن يشاء قالوا : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي اغفر لنا غفرانك . أو نسألك غفرانك ذنوبنا . وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك ، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى لمغفرة . لما أن الرجوع للحساب والجزاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 286 ]
.
{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي : لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه .
قال الرازي : يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله . ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } على نسق الكلام في قوله : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } . وقالوا : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح . وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها .
ثم قال الرازي : في كيفية النظم : إن قلنا : إن هذا من كلام المؤمنين ، فوجه النظم أنهم لما قالوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فكأنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا . فإذا كان هو تعالى ، بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين ، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين . وإن قلنا : إن هذا من كلام الله تعالى ، فوجه النظم أنهم لما قالوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم قالوا بعده : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } ، دل ذلك على أن قولهم : { غُفْرَانَكَ } ، طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد . فملا كان قولهم غفرانك ، طلب للمغفرة في ذلك التقصير ، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم . وقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . والمعنى : أنكم إذا سمعتم وأطعتم ، وما تعمدتم التقصير ، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه ، فإن الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم : غفرانك ربنا .
قال زين العابدين بير محمد درة في " المدحة الكبرى " : وعلى احتمال أن يكون قوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ } الخ حكاية ، فهو من قبيل العطف بلا عاطف . أو الكلام على تقدير قالوا . قال بعضهم : ولك أن تجعل : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ } الخ في حيز القول . وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ، يكون مدحاً لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه . حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم . وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير ، بل هو لهم ، ولا يتضرر بعملهم الشر ، بل هو عليهم .
وقال البقاعي : وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه من ذلك ، خوفاً من أن يكلفوا بما لله تعالى ، أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس ، لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه .
ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم . ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفه عنهم . ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ، الآية . فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس . فانتفى ما شق عليهم من قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } ، الآية . بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم : سمعنا وعصينا ؛ من الآصار في الدنيا والآخرة . فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن ، كأنه قال : هل أجاب دعائهم ؟ ! . ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } قال العلامة أبو السعود : قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } الخ . للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ، ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة ، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها . ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها . فإن اختصاص المنفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله . واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته . أي : لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله ، لا لغيرها . وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه . وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه .
قال الحرالي : وصيغة فَعَلَ مجردة ، تعرب عن أدنى الكسب ، فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة .
لطيفة :
وقال الجاربردي في " شرح الشافية " : معنى الكسب تحصيل الشيء على أي : وجه كان . والاكتساب : المبالغة والاعتمال فيه . ومن ذلك قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه ، إذ أثبت لهم ثواب الفعل على أي : وجه كان . ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه .
قال الزمخشري : لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه . ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله ، وصفت بما لا دلالة له على الاعتمال والتصرف . انتهى .
قال العلامة ابن جماعة في " حواشيه " : تفرقته بين الكسب والاكتساب هو ما قال الزمخشري وغيره ، ونص عليه سيبويه . قال الحلبي : وهو الأظهر . وقال قوم : لا فرق . قالوا : وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد . قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] { وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَة } [ البقرة : 81 ] .
وقال تعالى : { بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } [ الأحزاب : 58 ] . فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر . وقال الواحدي : الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد . وفي القاموس : كسبه يكسبه كسباً ، وتكسب واكتسب : طلب الرزق . أو كسب أصاب ، واكتسب تصرف واجتهد . ثم قال ابن جماعة : ما ذكره من تنبيه الآية على لطف الله بخلقه إلى آخره ، قاله ابن الحاجب في شرح المفصل . وبمعناه قول بعضهم : في الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرماً من الله على عبده ، بخلاف العقوبة ، فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدّ فيها واجتهد ، وقريب منه قول آخر : للنفس ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله ، سواء كان بإصابة مجردة أو بتحصيل ، وعليها ما حصلته وسعت فيه لا ما حصل من غير اختيار وسعي . نبّه تعالى أن الثواب حاصل لها سواء كان بسعيها واختيارها أو لم يكن كذلك . وأما العقاب فلا يكون عليها إلا بقصدها وتحصيلها .
وما قالوه من الفرق يحتاج إلى ثبت . وقد قال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] أي : يرى جزاءه . وقال : : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] . على أن ترتب الثواب على ما حصل من غير سعي واختيار ، إن كان لمباشرة سببه مع الغفلة عنه ، فالعقاب أيضاً كذلك . فمن عمل سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها ، وإن صوّر بالإصابة عند أول الالتفات فلا مانع أن يكون العقاب مثله . ومدعي خلافه وعليه البيان . نعم الإصرار شرط ، لأن الرجوع يمحوه لكنه قدر زائد على الفعل . وبالجملة فما قاله جار الله حسن ، وقد ذكره البيضاوي أيضا . وفي الإعراب الحلبي : الذي يظهر في هذا ، أن الحسنات مما تكسب دون تكلف ؛ إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب بتكلف ؛ إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتجاوز إليها . فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى والله اعلم . ثم قال ابن جماعة : والمبالغة : من بالغ مبالغة اجتهد ولم يقصر . والاعتمال : من اعتمل أي : عمل بنفسه وأعمل رأيه وآلته . انتهى .
قال البقاعي ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه من دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي ، إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً ، ولا بما قارفوه خطأ ، ولا حمل عليهم ثقلاً ، بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاء . ولا حملهم فوق طاقتهم . مع أن له جميع ذلك . وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم . ثم رحمهم بأن أحلّهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة . فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر . ويظهر دينهم على كل دين . وإذ كان سبحانه هو الداعي عنهم . وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } أي : لا تعاقبنا : { إِن نَّسِينَا } أمرك ونهيك : { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : ففعلنا خلاف الصواب ، تفريطاً ونحوه .
وقد ولع كثير من المفسرين ههنا بالبحث في أن النسيان الخطأ معفو عنهما ، فما فائدة طلب العفو عنهما ؟ وأجابوا عن ذلك بوجوه . وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في " المدحة الكبرى " : لما كان طالب العفو الرسول والأنصار والمهاجرون ، ومن كان على شاكلتهم ، فكأنهم يعدّون النسيان من العصيان ، والخطأ من الخطيئة . كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] .
وقيل في معنى الآية : لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة . على أن يكون النسيان بمعنى الترك . والخطأ من الخطيئة . وعليه فلا إيراد ، والله أعلم .
{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً } أي : عهداً يثقل علينا .
قال الحرالي : الإصر : العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة : { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } وهو ما كلَّفه بنو إسرائيل مما يهدّ الأركان . ولا بأس بالإشارة إلى جمل مما حملوه من الآصار . ننقله عن أسفارهم تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا ، وتعظيماً لمنته تعالى ، فلله الحمد فنقول : في سفر الخروج في الأصحاح الثاني عشر :
( 15 ) سبعة أيام تأكلون فطيراً . اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم . فإن كل من أكل خميراً من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل .
وكل هذا الأصحاح آصار شاقة .
وفي السفر المذكور ، في الأصحاح الحادي والعشرين .
( 15 ) ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً .
( 16 ) ومن سرق إنساناً وباعه أو وجد في يده يقتل قتلاً .
( 17 ) ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلاً .
( 27 ) وإن أسقط سن عبده أو سن أمته يطلقه حراً عوضاً عن سنه .
( 28 ) وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه ، وأما صاحب الثور فيكون بريئاً .
( 29 ) ولكن إن كان ثوراً نطاحاً من قبل وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلاً أو امرأة ، فالثور يرجم وصاحبه أيضاً يقتل .
وفي السفر المذكور ، في الأصحاح الثالث والعشرين .
( 10 ) وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها .
( 11 ) وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك . وفضلتهم تأكلها وحوش البرية ، كذلك تفعل بكرمك وزيتونك .
( 12 ) ستة أيام تعمل عملك . وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب .
( 19 ) أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك .
وفي سفر العدد ، في الصحاح الخامس عشر .
( 37 ) وكلم الرب موسى قائلاً .
( 38 ) كلم بني إسرائيل وقل لهم : أن يصنعوا لهم أهداباً في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجوني .
( 39 ) فتكون لكم هدباً فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها .
وفي السفر المذكور ، في الأصحاح التاسع عشر :
( 11 ) من مس ميتاً ميتة إنسان ما يكون نجساً سبعة أيام .
( 12 ) يتطهر به في اليوم الثالث ، وفي السابع يكون طاهراً . وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهراً .
( 13 ) كل من مس ميتاً ميتة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجّس مسكن الرب . فتقطع تلك النفس من إسرائيل ، لأن ماء النجاسة لم يرش عليها تكون نجسة . نجاستها لم تزل فيها .
( 14 ) هذه هي الشريعة . إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً سبعة أيام .
( 15 ) وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس .
( 16 ) وكل من مسّ على وجه الصحراء قتيلاً بالسيف أو ميتاً أو عظم إنسان أو قبراً يكون نجساً سبعة أيام . وتمام الفصل المذكور كيفية الطهارة من هذه النجاسة الشاقة جداً .
وفي السفر المذكور في الأصحاح الخامس والثلاثين :
( 31 ) ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل .
وفي سفر التثنية ، في الأصحاح الخامس عشر .
( 19 ) كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدسه للرب إلهك . لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجزَّ بكر غنمك .
وفي سفر الخروج ، في الأصحاح الرابع والثلاثين :
( 20 ) وأما بكر الحمار فتفديه بشاة . وإن لم تفده تكسر عنقه . كل بكر من بنيك تفديه .
وفي سفر اللاويين ، في الأصحاح الرابع :
( 1 ) وكلم الرب موسى قائلاً .
( 2 ) كلم بني إسرائيل قائلاً : إذا أخطأت نفس سهواً في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها .
( 3 ) إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرّب عن خطيئته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحاً للرب . ذبيحة خطية .
وكيفية ذلك حرجة جداً . انظرها .
وفيه ، في الأصحاح الخامس :
( 1 ) أو إذا مس أحد شيئا ًنجساً جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة ديبٍ نجس وأخفى عنه فهو نجس ومذنب .
( 5 ) فإن كان يذنب في شيء من هذه يقرّ بما قد أخطأ به .
( 6 ) ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيئته التي أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزاً من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيئته .
والأصحاح المذكور كله آصار .
وكذا الأصحاح السادس بعده كله آصار .
وفي الأصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفي آصار كثيرة ، منها :
( 33 ) وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس ، وأما هو فتكسرونه .
وفي الأصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكراً وأنثى . وإنها في الأول تكون نجسة أسبوعاً ، ثم ثلاثاً وثلاثين يوماً . وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوماً .
وعن تمام أيام طهرها تأتي بكيس كفارة عنها .
وفي الأصحاح الخامس عشر تشريعات لذوي الجراحات .
وفي ذلك آصار كبرى . انظرها .
وفيه أيضاً أحكام الحائض والآصار في شأنها . ومنها :
( 19 ) وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء .
( 20 ) وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً ، وكل ما تجلس عليه يكون نجساً .
( 21 ) وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء .
وفي الأصحاح السابع عشر :
( 15 ) وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنياً كان أو غريباً يغسل ثيابه ويستحم بماء ويبقى نجساً إلى المساء .
وفي الأصحاح التاسع عشر :
( 23 ) ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غلتها . ثلاث سنين تكون لكم غلفاء ، لا يؤكل منها .
( 24 ) وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدساً لتمجيد الرب .
( 25 ) وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها ، لتزيد بكم غلتها . أنا الرب إلهكم .
( 27 ) لا تقصروا رؤوسكم مستديراً ولا تفسد عارضيك .
وفي الأصحاح الخامس والعشرين :
( 3 ) ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما .
( 4 ) وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتاً للرب . لا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك .
( 5 ) زريع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف . سنة عطلة تكون للأرض .
( 6 ) ويكون سبت الأرض لكم طعاماً . لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك .
( 7 ) ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاماً .
وفي سفر التثنية ، في الأصحاح الحادي والعشرين .
( 18 ) وإذا كان لرجل ابنٌ معاندٌ وماردٌ ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما .
( 19 ) يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه .
( 20 ) ويقولون لشيوخ مدينته : ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكّير .
( 21 ) فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت .
وفيه ، في الأصحاح الثاني والعشرين :
( 10 ) لا تحرث على ثور وحمار معاً .
( 11 ) لا تلبس ثوباً مختلطاً صوفاً وكتاناً معاً .
وفيه ، في الأصحاح الرابع والعشرين :
( 1 ) إذا أخذ رجل امرأة ، وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه ؛ لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته .
( 2 ) ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر .
( 3 ) فإذا أبغضها الرجل الأخير ، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة .
( 4 ) لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود بأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست ؛ لأن ذلك رجس لدى الرب .
وهذه نبذة يسيرة من الآصار التي كانت على الإسرائيليين ولم يشرعها لنا مولانا بفضله وكرمه له الحمد ، إنه أرحم الراحمين .
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : من بليات الدنيا والآخرة . فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف ، وهذا في رفع شدائد البليات . ويقال : هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة { وَاعْفُ عَنَّا } أي : تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبا : { وَاغْفِرْ لَنَا } أي : غطّ على ذنوبنا واعف عنها : { وَارْحَمْنَآ } أي : تفضل علينا بالرحمة مع كوننا مقصرين مذنبين : { أَنتَ مَوْلاَنَا } أي : ولينا وناصرنا : { فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى أمره على الأعداء .
وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله تعالى ، حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة ، غاية مطلبهم .
قال البقاعي : فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين . وأنهم أعدى الأعداء . وأن قوله : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ليس ناهياً عن ذلك ، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه . بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب . فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله ، ومن أبى دخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام .
وقد ورد في " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات : قد فعلت > .
وقد روى البخاري والجماعة عن أي : مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه > .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش ، لم يعطهن نبي قبلي > .
وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم : انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة . إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها ، فيقبض منها . قال : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ االنجم : 16 ] ، قال : فراش من ذهب قال ، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغُفِر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً ، المقحمات .
وعن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه فقال : < هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض . لم ينزل قط إلا اليوم . فسلّم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة . لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته > . رواه مسلم والنسائي . وهذا لفظ مسلم .
وأخرج الترمذي والنسائي والدرامي والحاكم وصححه ، عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات الأرض بألفي عام . أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة . ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان > .
وأخرج عبد بن حميد في " مسنده " عن الحسن : أنه كان إذا قرأ آخر البقرة قال : يا لك نعمة . . ! يا لك نعمة .
هذا ، وقد روي في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة . . . منها ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمه سورة البقرة وآل عِمْرَان > وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : < كأنهما عمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق . أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما > .
وأخرج أحمد والحاكم والدارمي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < تعلموا سورة البقرة . فإن أخذها بركة . وتركها حسرة . ولا تستطيعها البطلة . تعلموا البقرة وآل عِمْرَان فإنهما هما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غماماتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما > .
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تجعلوا بيوتكم مقابر . إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة > . ولفظ الترمذي : < وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان > .
وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة . وفيها آية هي سيدة آي القرآن . آية الكرسي > .
فائدة :
قال ابن القيم : تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله ، وله الحمد كله ، أزمّة الأمور كلها بيده ، ومصدرها منه ، وموردها إليه ، مستوياً على العرش ، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته ، عالماً بما في نفوس عبيده ، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم ، منفرداً بتدبير المملكة ، يسمع ويرى ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب ، ويكرم ويهين ، ويخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويقدر ويقضي ويدبر ، الأمور نازلة من عنده ، دقيقها وجليلها ، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه . فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ، ويمجد نفسه ، ويحمد نفسه ، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه ، ويحذرهم مما فيه هلاكهم ، ويتعرف إليهم بأسمائهم وصفاته ، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه ! يذكرهم بنعمه عليهم ، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها . ويحذّرهم من نقمه ، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه ، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه ، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء ، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم ، ويضرب الأمثال ، وينوّع الأدلة والبراهين ، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة ، ويصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويقول الحق ، ويهدي السبيل ، ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها ، ويحذر من دار البوار ، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها . ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه . وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين ، ويذكرهم غناءه عنهم وعن جميع الموجدات . وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه . وكل ما سواه فقير إليه . وأنه لا ينال أحدٌ ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته . ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته . وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب .
وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم ، وغافر زلاتهم ، ومقيم أعذارهم ، ومصلح فسادهم ، والدافع عنهم ، والحامي عنهم ، والناصر لهم ، والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب ، والموفي لهم بوعده .
وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه ، فهو مولاهم الحق ، وينصرهم على عدوهم ، فنعم المولى ونعم النصير .
وإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً جواداً رحيماً جميلاً هذا شأنه ، فكيف لا تحبه ، وتنافس في القرب منه ، وتنفق أنفاسها في التودد إليه ، ويكون أحب إليها من كل ما سواه ، ورضاه آثر عندها من رضى كل من سواه ؟ وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها ، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها ؟ ! .
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء حزننا ، وأعنِّا على إكمال ما قصدناه بفضلك . يا أرحم الراحمين .

(/)


بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } [ 1 - 3 ]
{ الم } سلف الكلام على ذلك أول البقرة
{ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } سبق تأويله في آية الكرسي .
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } أي : القرآن . عبر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس ، كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه ، كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل : { بِالْحَقِّ } أي : الصدق الذي لا ريب فيه : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة قبله .
قال المهايمي : أي : معرفاً صدق الكتب السالفة . وقال أبو مسلم : المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان . فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك : { وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } تعيين لما بين يديه وتبين لرفعة محله . تأكيداً لما قبله ، وتمهيداً لما بعده . إذ بذلك يترقى شأن ما يصدقه رفعة ونباهة ، ويزداد في القلوب قبولاً ومهابة ، ويتفاحش حال من كفر بهما في الشناعة ، واستتباع ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام . قاله أبو السعود .
والتوراة اسم عبراني معناه : الشريعة . والإنجيل لفظة يونانية معناها : البشرى أي : الخبر الحسن . هذا هو الصواب كما نص عليه علماء الكتابين في مصنفاتهم . وقد حاول بعض الأدباء تطبيقهما على أوزان لغة العرب واشتقاقهما منها . وهو خبط ، بغير ضبط .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } [ 4 ]
.
{ مِن قَبْلُ } متعلق بـ : { أَنزَلَ } ، أي : أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، والتصريح به مع ظهور الأمر ، للمبالغة في البيان : { هُدًى لِّلنَّاسِ } أي : لقوم موسى وعيسى . أو ما هو أعم ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع : { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } وهو الكتب السماوية التي ذكرها ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل . أو هو القرآن . وإنما كرر ذكره بما هو نعت له ، ومدح له ، من كونه فارقاً بين الحق والباطل ، بعد ما ذكره باسم الجنس ، تعظيماً لشأنه ، وإظهاراً لفضله ، قال الرازي : أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل . وعلى هذا التقدير فلا تكرار . ثم استظهر حمل الفرقان على المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الفارقة بين دعواهم ودعوى الكذابين . قال : فالفرقان هو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينهما وبين سائر الكتب المختلفة . انتهى .
ويجوز أن يكون المراد بالفرقان : الميزان المشار إليه في قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] . والميزان : هو العدل في الأمور كلها ؛ واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : جحدوا بها : { لَهُمْ } بسبب كفرهم بها : { عَذَابٌ شَدِيدٌ } وهذا الوعيد ، جيء به إثر ما تقدم حملاً على الإذعان ، وزجراً عن العصيان : { وَاللّهُ عَزِيزٌ } لا يغالب يفعل ما يشاء : { ذُو انتِقَامٍ } أي : معاقبة ، يقال : انتقم الله منه : عاقبه . والنقمة : المكافأة بالعقوبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } [ 5 ]
.
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } أي : هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه . .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 6 ]
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء } أي : يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى ، وحسن وقبيح ، وشقي وسعيد { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }[ 7 ] .
{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } واضحات الدلالة : { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام : { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } وهي ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها ، أو ما احتملت أوجهاً . وجعله كله محكماً في قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] ، بمعنى أنه ليس فيه عيب ، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني .
ومتشابها في قوله : { كِتَاباً مُتَشَابِهاً } [ الزمر : 23 ] ، بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ، ويصدق بعضه بعضاً : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي : ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } أي : طلب الإيقاع في الشبهات واللبس : { وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } وحده : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أي : الثابتون المتمكنون مبتدأ ، خبره : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي : بالمتشابه على ما أراد الله تعالى : { كُلٌّ } من المحكم والمتشابه : { مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } أي : العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة . وهو تذييل سيق منه تعالى مدحاً للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر .
تنبيه :
للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة ، ومباحث واسعة ، وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان . يقول في خلالها :
المحكم في قرآن ، تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله ، وتارة يقابل بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان .
ومن الناس من يجعله مقابلاً لما نسخه الله مطلقاً حتى يقول : هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكماً ، وإن كان الله أنزله أولاً إتباعاً للظاهر من قوله : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ } .
فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها .
وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل . فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان . فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله ، أي : فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه ، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحي . أو يقال : وهو أشبه : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخاً ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف ، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلِّغ ، وقد يكون في مسمع المبلِّغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] . ومعلوم أن من سمع ، سمع النص الذي قد رفع حكمه ، أو دلالة له ، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم ، وبان المراد . وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه والمنسوخ ، بهذا الاعتبار . والله أعلم .
وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا . فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه : ولا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله ، وإنما قال : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع . فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو . والوقف هنا ، على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة . ولكن لم ينفِ علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] . وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات . وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ، وقال : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } [ النساء : 82 ] .
ولم يستثن شيئاً منه نهى عن تدبره . والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه الله ، بل أمر بذلك ومدح عليه .
يبين ذلك أن التأويل ، قد روي أن اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كحيي بن أحطب ، وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور بقاء هذه الأمة ، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين ، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاماً ، لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل ، بعد إسقاط المكرر . وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر . وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول " أنا ونحن " على أن الآلهة ثلاثة ، لأن هذا الضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله . فأولئك تأولوا في اليوم الآخر . وهؤلاء تأولوا في الله . ومعلوم أن " أنا ونحن " من المتشابه . فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ، ويراد الواحد المعظم نفسه ، الذي يقوم مقامه من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى .
فصار هذا متشابهاً لأن اللفظ واحد ، والمعنى متنوع ، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه ، وبعض المتواطئ أيضاً من المتشابه . ويسميها أهل التفسير : " الوجوه والنظائر " وصنفوا كتب الوجوه والنظائر . فالوجوه في الأسماء المشتركة ، والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعاً في الأسماء المشتركة ، فهي نظائر باعتبار اللفظ ، ووجوه باعتبار المعنى ، وليس الأمر على ما قاله ، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله ، والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد } [ البقرة : 163 ] { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [ طه : 14 ] { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } [ المؤمنون : 91 ] : { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } [ الفرقان : 2 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 3 - 4 ] . ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه ، وحرفوا الكلم عن مواضعه . وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها . وذلك أن الكلام نوعان : إنشاء في الأمر ، وإخبار .
فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به ، كما قال من قال من السلف : إن السنة هي تأويل الأمر . قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك الله وبحمدك ، اللهم اغفر لي . يتأول القرآن ، تعني قوله : : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [ النصر : 3 ] . وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ، ليس تأويله فهم معناه ، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع . وهذا معناه . قال الله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 52 - 53 ] فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ، ثم قال : { هَلْ يَنظُرُونَ } ، أي : ينتظرون { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } . إلى آخر الآية . وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها ، كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفاً صفاً ، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك . فحينئذ يقولون : { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } . وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله ، فإن الله يقول : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] . ويقول : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمراً ولبناً وماء وحريراً وذهباً وفضة وغير ذلك . ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه ، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه . كما في قوله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] ، على أحد القولين ، أي : يشبه ما في الدنيا ، وليس مثله ، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق ، كما أشبهت الحقائقُ الحقائقَ من بعض الوجوه ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما ، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به ، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم . فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن . ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين , تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني ، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وإن كان من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد ، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة ، كل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته . وكان في هذا أيضاً متبعاً للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء ، والمسميات تشبه المسميات ، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق ، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } ، فإن تلك الحقائق قال الله فيها : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 7 ] ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل .
وقوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } : إما أن يكون الضمير عائداً على الكتاب أو على المتشابه . فإن كان عائداً على الكتاب لقوله : منه ، ومنه : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } ، فهذا يصح ، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به ، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله ، وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع أخباره أنه مفصل بقوله : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } . فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل ، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتاً وقدراً ونوعاً وحقيقة إلا الله ، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا ، وكذلك قوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه } وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك ، ارتفعت الشبهة ، وصار هذا بمنزلة قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } - إلى قوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ } [ الأعراف : 187 ] . وكذلك قوله : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] . فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به ، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله . وهذا واضح بيّن ، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها . فهذا هذا .
وإن كان الضمير عائداً إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس ، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه ، بخلاف الأمر والنهي . ولهذا في الآثار : العمل بمحكمه [ في المطبوع : بمحكمة ] ، والإيمان بمتشابه ، لأن المقصود في الخبر الإيمان . وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه . بخلاف الأمر والنهي ، فإنه متميز غير مشتبه بغيره ، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع ، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها .
ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] . والكتابة عائدة على القرآن ، أو على ما لم يحيطوا بعلمه ، وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 37 - 40 ] .
فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله . كما تحداهم وطالبهم لما قال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] ، فهذا تعجيز لجميع المخلوقين . قال تعالى : { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [ يونس : 37 ] ، أي : مصدق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب ، أي : مفصل الكتاب ، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب . والكتاب اسم جنس . ولما تحدى القائلين : افتراه ، ودل على أنهم هم المفترون ، قال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } . ففرق بين الإحاطة بعلمه ، وبين إتيان تأويله .
فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله ، فإن الإحاطة بعمله معرفة معاني الكلام على التمام ، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به . وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به . فعمرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن , ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم .
إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابه ، وإن لم يعلم تأويله ، ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [ الإسراء : 45 - 46 ] . فقد أخبر فقد أخبر ، ذماً للمشركين ، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور ، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : { أَن يَفْقَهُوهُ } يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه ، ولهذا قال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها . وما استثنى من ذلك لا متشابهاً ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات ، أقفه عند كل آية وأسأله عنها . فهذا ابن عباس حبر الأمة ، وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا الله ، يجيب مجاهداً عن كل آية في القرآن ، وهذا هو الذي جعل مجاهداً ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عن قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل ، لأن مجاهد تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه . فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله . وأصل ذلك أن لفظ التأويل ، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف ، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين ، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن .
ومجاهد إمام التفسير ، قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .
وأما التأويل فشأن آخر . ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم . وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس ، وهذا لا ريب فيه ، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك ، فلقبوها ، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ؟ فجوّز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية ، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ، ومنعها طوائف يتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ . أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] . وهؤلاء معتدون ، بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال : لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئاً ، خلافاً للحشوية ، وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له ، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه . وبين نفي المعنى عند المتكلم ، ونفي الفهم عن المخاطب ، بون عظيم . ثم احتج بما يجري على أصله ، فقال : هذا عبث ، والعبث على الله محال ، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلاً ، بل يجوز أن يفعل كل شيء ، وليس له أن يقول العبث صفة نقص ، فهو منتف عنه ، لأن النزاع في الحروف ، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة ، فلا نقل صريح ، ولا عقل صحيح .
ومثال الفتن بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطأوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل ، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه . فإن الأولين ، لعلمهم بالقرآن والسنن ، وصحة عقولهم ، وعلمهم بكلام السلف ، وكلام العرب ، علموا يقيناً أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن . فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر . وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر ، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء . وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ، ويتأولون آيات الصفات . وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات ، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر . وآخرون من أصناف الأمة ، وإن كان يغلب عليهم السنة ، فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريم الكلم عن مواضعه .
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة ، وأكثر أهل الكلام والبدع ، رأوا أيضاً أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن . ورأوا عجزاً وعيباً وقبيحاً أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه . وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ، لكن أخطأوا في معنى التأويل الذي نفاه الله ، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل ، وصار الآخرون أكثر كلاماً وجدالاً ، ولكن بفرية على الله ، وقولٍ عليه ما لا يعلمونه ، وإلحاد في أسمائه وآياته ، فهذا هذا .
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل ، فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجع إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل . والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، يترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم ، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع .
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان :
أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً أو مترادفاً ، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير .
والمعنى الثاني : في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقاً هو نفس المراد بالكلام . فإن الكلام إن كان طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وإن كان خبراً أن تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة .
فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف .
الثالث : هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } [ يوسف : 6 ] . وقوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 - 37 ] . وقول الملأ : { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] . وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ يوسف : 99 ] { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } [ يوسف : 100 ] .
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه ، كما قال يوسف : { هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] . والعالم بتأويلها الذي يخبر به . كما قال يوسف : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أي : في المنام { إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } . أي : قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] . قالوا : أحسن عاقبة ومصيراً . فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عِمْرَان . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] . إلى قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 82 ] .
فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها . ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قول ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوّله يؤوله تأويلاً ، مثل حول تحويلاً ، وعول تعويلاً . و أول يؤول تعدية آل يؤول أولاً ، مثل حال يحول حولاً وقولهم آل يؤول أي : عاد إلى كذا ورجع إليه ، ومنه المأل [ في المطبوع : المال ] ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فإنه وَأَلَ ، وهذا من أول ، والموئل المرجع ، قال تعالى : { لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف : من الآية 58 ] .
ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل ، فإن آل الشخص من يؤول إليه ، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم ، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل . كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون . بخلاف الأهل . والأول أفعل ، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى ، كما قالوا جمادى ، وفي القصص : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ } . ومن الناس من يقول فوعل ويقول أوّله إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل . فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف . سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه ، فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من أحمر وحمراء ، ولهذا يقولون : جئته أول من أمس وقال : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [ التوبة : 108 ] { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 163 ] { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] . ومثل هذا أول هؤلاء . .
فهذا الذي فضل عليهم في الأول ، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله ، فيعتمد عليه ، وهذا السابق ؛ كلهم يؤول إليه . فإن من تقدم من فعل ، فاستبق به من بعده ، كان السابق الذي يؤول الكل إليه . فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود . والأول مشعر بالابتداء . والمبتدي خلاف العائد ، لأنه إنما كان أولاً لما بعده ، فإنه يقال : أول المسلمين ، وأول يوم ، فما فيه من معنى الرجوع والعود , هو للمضاف إليه لا للمضاف . وإذا قلنا : آل فلان فالعود في المضاف ، لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلاً ومرجعاً لغيره ، لأنه كونه مفضلاً دل عليه أنه مآل ومرجع ، لا آيل راجع ، إذ لا فضل في كون الشيء راجعاً إلى غيره . آيلاً إليه ، وإنما الفضل في كونه هو الذي يُرجع إليه ويُؤال . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلاً ومرجعاً ، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ . والله أعلم .
فتأويل الكلام ما أوّله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم . فإن التفضيل يجري على غير فعّل كقوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] ، فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلاً ، والمصدر واقع موقع الصفة ، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل ، كعدل وصوم وفطر ، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله . فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه ، أو تأول هو إليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويَؤُول ويُؤوَّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به ، كما قال بعض السلف في قوله : { لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 67 ] . قال : حقيقة . فإن كان خبراً فإلى الحقيقة الخبر بها يؤول ويرجع ، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع ، بل كان كذباً ، وإن كان طلباً فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع ، وإلا لم يكن مقصوده موجوداً ولا حاصلاً ، ومتى كان الخبر وعداً أو وعيداً فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول . كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [ الأنعام : 65 ] . قال : إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد .
فصل
وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم ، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم ، فالكلام على هذا من وجهين :
الأول : من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه ، ما الدليل على ذلك ؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة ، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه ، وجعلوا أسماء الله وصفاتهم بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم . ولا قالوا إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه . وإنما قالوا : كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها . التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه . ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه ، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت في أحاديث الوعد . مثل : < من غشنا فليس منا > . وأحاديث الفضائل . ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلاً ، بالعرف المتأخر .
فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل . وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن . وتكلم أحمد على ذلك المتشابه ، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية . وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله ، فهذا اتفاق من الأئمة على أنه يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره . بل يبين ويفسر . فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .
ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب ، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل : إن هذا هو التأويل المذكور في الآية ، وأنه لا يعلمه إلا الله ، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها ، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله . وليس هذا مذهب السلف والأئمة ، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ، لا التوقف عنها . وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني . لا تحرف ولا يلحد فيها .
والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه ، أن تقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والقدير والرؤوف ونحو ذلك ، ووصف نفسه بصفات ، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، و : { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، و : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عِمْرَان : من الآية 76 ] و : { الْمُقْسِطِينَ } ، و : { الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : من الآية 58 ] ، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، و : { لَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } [ محمد : 28 ] { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } [ التوبة : 46 ] { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [ الزخرف : 84 ] { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] { ا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [ ص : 75 ] { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [ المائدة : 64 ] { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طه : 39 ] . إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جمع ما سمى الله ووصف به نفس أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع كان هذا عناداً ظاهراً ، وجحد لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . معنى . ونفهم من قوله : { أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } معنى ليس هو الأول . ونفهم من قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] . معنى ، ونفهم من قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ إبراهيم : 47 ] ، معنى . وصبيان المسلمين ، بل وكل عاقل يفهم هذا .
وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث ، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة ، من يقول : إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علماً محضاً من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط ، وكذلك في قوله : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } . يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم ، وهذا الغلو في الظاهر ، من جنس غلو القرامطة في الباطن . لكن هذا أيبس وذاك أكفر .
ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود ، أو على حق موجود . أم لا ؟ فإن قال : لا ، كان معطلاً محضاً . وما أعلم مسلماً يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب ، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم ، وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : لأن ثبوت الصفات محال في العقل ، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث ، بخلاف الذات .
فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره . وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه ؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع ، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة ، بخلاف الآخر . أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر ، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع ، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليٌّ عظيم ، كدلالته على أنه عليم قدير ، ليس بينهما فرق من جهة النص . وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته .
وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئاً ونفى آخر : لم نفيت ، مثلاً ، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى أرادته ؟
فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله ، قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه . قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه . وكذلك محبته . وإن قال وهو حقيقة قوله : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع ، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل . وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين ، لأن افعل دل على القدرة ، والإحكام دل على العلم ، والتخصيص دل على الإرادة . قيل له : الجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضاً على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء . وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة ، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا .
الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة ؟ مع أن النصوص تفرق . فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .
الثالث : يقال له : إذا قال لك الجهمي : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذوراً إن قال بقدمها ، ومحذوراً إن قال بحدوثها .
وهنا اضطربت المعتزلة . فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم . ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم مع تناقضهم .
فصاروا حزبين :
البغداديون : وهم أشد غلواً في البدعة في الصفات وفي القدر ، نفوا حقيقة الإرادة . وقال الحافظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه . وقال الكعبي : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده .
والبصريون : كأبي علي وأبي هاشم . قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة . فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضاً . فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعل مسفسطاً أو مقرمطاً ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي .
ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فإن ذلك لا يستلزم حدوثاً ولا تركيباً مقتضياً حاجة إلى غيره .
ويعارضون أيضاً بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية ، والضرورة العقلية ، والقواطع العقلية ، واتفاق الأمم ، وغير ذلك من الدلائل . ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده ، أو بوجود يعلمون كيفيته ، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمي ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى .
ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئاً مما دل عليه الكتاب والسنة ، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى ، وانتفاء المانع . وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى ، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتضٍ ولا مانع ، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم ، كما أنه فيما أثبته قائم . إما من كل وجه ، أو من وجه يجبب به الإثبات . فإن كان المقتضى هناك حقاً ، فكذلك هنا . وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا . وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته ، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجوداً على التقديرين لم ينج من محذروه بإثبات أحدهما ونفي الآخر ، فإنه إن كان حقاً نفاهما ، وإن كان باطلاً لم ينف واحداً منهما ، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ، ولا سبيل إلى النفي ، فتعين الإثبات . فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئاً . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئاً أو يجب عليه إثباته ، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة, وإن لم يعرف فسادها على التفضيل, وأما من حيث التفصيل ، فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غير مرة .
فإن قال : من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي . فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضاً أو تسميتها أعراضاً لا يمنع ثبوتها ، قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيباً وأبعاضاً أو تسميتها تركيباً وأبعاضاً لا يمنع ثبوتها .
فإن قال : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء ، قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض .
فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية . قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال ، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقاً ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .
فإن قال : ذلك تجسيم والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف .
فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضاً بغير متحيز ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير . قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير .
فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك ، وإن كان بينهما نوع فرق ، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع . ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضاً مستلزم لنفي الذات ، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء ، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة ، وهذا أيضاً ليس هو معقول النص ، ولا مدلول العقل ، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق .
وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة . مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب ، ونحو ذلك ، ونفوا مدلولها ، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلّمة ، ومدلولاً عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء ، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح ، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزاباً ، تارة يغلّبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة ، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي ، فإنه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفياً وإثباتاً من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف . فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس . وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس ، واعتقد الأولون إحالة ثبوته ، واعتقد هذا إحالة نفيه ، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض .
فما أعلم أحداً من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ، ويوجب ما أحال نظيره ، إذ كلامهم من عند غير الله ، وقد قال الله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
والصواب ما عليه أئمة الهدى ، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث ، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين ، أهل العلم والإيمان . والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه . ولا يعرض عنها ، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً . ولا يترك تدبر القرآن ، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلى أماني . فهذا أحد الوجهين . وهو منع أن تكون من المتشابه .
الوجه الثاني : أنه إذا قيل هذه من المتشابه ، أو كان فيها ما هو من المتشابه ، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابهاً ، ، فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله ، إما المتشابه ، وإما الكتاب كله كما تقدم . ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة . وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران ، أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنا ونحن " ونحو ذلك ، ويؤيده أيضاً أنه قد ثبت أن في القرآن متشابهاً ، وهو ما يحتمل معنيين ، وفي سائر الصفات ما هو من هذا الباب ، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى ، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا ، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولاً أن نفي علم التأويل ليس نفياً لعلم المعنى ، ونزيده تقريراً أن الله سبحانه يقول : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 27 - 28 ] ، وقال تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 1 - 2 ] ، فأخبر أنه أنزله ليعقلوه ، وأنه طلب تذكرهم . وقال أيضاً : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] ، فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه ، ولم يستثن من ذلك شيئاً . بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه ، مثل قوله : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد : 24 ] ، وقوله : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله ، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر . وقال علي عليه السلام لما قيل له : هل ترك عندكم رسول لله صلى الله عليه وسلم شيئاً ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة . فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة ، والفهم أخص من العلم والحكم ، قال الله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 79 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : < رب مبلغ أوعى من سامع > ، وقال : < بلغوا عني ولو آية > . وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ، آيات الصفات وغيرها ، وفسروها بما يوافق دلالتها ، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن . وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم . مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول : لو أعلمُ أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته . وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتاً للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا ، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة ، أصحاب زيد بن ثابت ، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به ، بل أخذوا عن غيره مثل عمر ، وابن عمر ، وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفياً أو مسكوتاً عنه ، لم يكن ربانيّو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاماً فيه ، ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ، ولم يذكر أحدٌ منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية .
قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيه من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل . وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئاً من ذلك لم ينفوا معناه ، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية . كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة . وكذلك ربيعة قبله . وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول .
فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ، ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك : الكيف معدوم ، وإنما قال : الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة ، غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال ، ولا تجري ماهيته في مقال . ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فإن قيل : معنى قوله الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه ، قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضاً فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن ، ولا إخبار الله بالاستواء ، وإنما قال : الاستواء معلوم ، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم ، لم يخبر عن الجملة ، وأيضاً فإنه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه . لو قال في قوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول . ولو قال : كيف كلم موسى تكليماً ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضاً فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة ، وأن ذاته فوق ذات العرش ، لا ينكرون معنى الاستواء ، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش : علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى . وهذه ثابتة عن السلف . وقد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخره ، في كتاب الرد على الجهمية .
وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك ، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضاً قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ، بل في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : < يا عائشة ! إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ فأولئك الذي سمى الله ، فاحذريهم > ، وهذا عام . وقصة صبيغ بن عسل مع عُمَر بن الخطاب من أشهر القضايا ، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر ، فسأل عمر عن : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] ، فقال : ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، وضربه الضرب الشديد . وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول : ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : < إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ... > . وكما قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد ، كالذي يعارض بين آيات القرآن . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله ، فكان مقصودهم مذموماً ، ومطلوبهم متعذراً ، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها . ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغاً سأل عن الذاريات وليست من الصفات . وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها ، كره سؤاله ، لما رآه من قصده ، لكن عليّ كان رعيته ملتوية عليه ، لم يكن مطاعاً فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه ، والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه ، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك ، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر . وكذلك في الجاريات والمقسمات ، فهذا لا يعمله إلا الله تعالى . وكذلك في قوله : " أنا ونحن " ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى ، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه ، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة ، مثل العليم والقدير والسميع والبصير ، فإن المسمى واحد ، ومعاني الأسماء متعددة ، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به ، فحقيقة ذاته وصفاته ، كما قال مالك : والكيف مجهول فإذا قالوا : ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره ؟ قيل : هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : < اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل > . قيل : أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه ، واللام هنا للتأويل المعهود ، لم يقل تأويل كل القرآن . فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله ، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله . وهذا كقوله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] ، وقوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] ، فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل ، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي ، ولما يأتهم . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر ، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر ، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق . انتهى كلام الشيخ تقي الدين . وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ قدس سره . ومع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب " إيثار الحق على الخلق " في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه :
وأما الأصل الثاني وهو السمع فهو اختلافهم في أمرين :
أحدهما : في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم .
وثانيهما : اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه .
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولاً ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ . وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق ، فإن العوائد التجربية, والأدلة السمعية, دلت على امتناع الإتفاق في تفلصيل الحكم, وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ ص : 69 ] ، وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر . وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس ، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافاً . خصوصاً من المقلدين . وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليه [ في المطبوع : عليهما ] السلام . وهذه فائدة نفيسة جداً ، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه ، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع ، كما هو دين القرامطة والزنادقة . وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] . وقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [ الحجرات : 7 ] . وكيف يستنكر اختلاف الْإِنْسَاْن الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم ؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفته : أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله ، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه ، والإيمان بالغيب في تأويله . ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز .
أما الأمر الأول : وهو اختلافهم في ماهيتهما . فمنهم من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحداً ، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى . فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي ، وما عداه متشابه ، وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية . ومنهم من قال : المحكم ما كان إلى معرفته سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال ، نحو قيام الساعة ، والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش ، وخزنة النار . ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة . ثم اختلفوا فمنهم من قال : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ، ومنهم من قال : المنسوخ . ومنهم من قال : القصص والأمثال . ومنهم من عكس فقال : المحكم آيات مخصوصة ، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه ، إلى غير ذلك - حكى الجميع الإمام يحيى في " الحاوي " - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي ، والمتشابه به : ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد ، مثل قيام الساعة والأعداد للمبهمة . وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجهاً آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح ، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه ، مثل خلق أهل النار ، وترجيح عذابهم على العفو ، مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء . والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلاً له ، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر ، فإن قوله : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] ، صريح في ذلك ، وهذا مراد في الآية ، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك ، وهم لا يبتغون علم العاقبة ، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد ، وما يؤول إليه ، على ما فسره الشيخ . فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان ، إنما يستقبحون شيئاً من الظواهر بعقولهم ، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها ، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال ، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه ، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه ، والذي وضح لي في هذا وضوحاً لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور :
أحدها : أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصوير والتفصيل ، أو على جهة الإحاطة على حد علم الله ، كلاهما باطل ، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ، ولقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها . ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله ، والأمر في التفكير في آلاء الله ، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه ، حتى رواه عنه الخصوم . ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عز وجل على العقول : امتنع منها بها ، وإليها حاكمها . ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه ، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه . ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم ، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضاً ، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء ، الجميع ، ومهم الباطنية ، ودونهم الجهمية . ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض . فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أُتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون . ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا . فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم ، فطلبوا العلم من غير مظانه ، بل طلبوا علم ما لا يعلم ، فتعارضت أنظارهم العقلية ، وعارض بعضهم بعضاً في الأدلة السمعية . فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ، ويدعون فيها ما ليس من التشبيه . والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعاً إلى التشبيه ، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة . والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار ، والاقتداء بالسلف الأخيار ، والاقتصار على جليات الأبصار ، وصحاح الآثار . وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم : أن رجلاً سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حباً ؟ فغضب عليه السلام ونادى : " الصلاة جامعة " فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله : فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته ، وطول ولههم إليه ، وتعظيم جلال عزته ، وقربهم من غيب ملكوت قدرته ، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم ، وهم من ملكوت القدس كلهم . ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ البقرة : 32 ] . فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته . فأتم به واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عن أئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنه منتهى حق الله عليك . وقد روى السيد في " الأمالي " أيضاً الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : < ستكون فتنة > ! قلت : فما المخرج منها ؟ قال : < كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وفصل ما بينكم ,فهو الفاصل بين الحق والباطل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله > إلى قوله : < من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم > . ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه .
ورواه ابن الأثير في " الجامع " عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث ، متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه ، لبيانهم فيها ، على زعمهم ، المحكم من المتشابه . فمنهم من صرح بذلك وقال : إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى ، وكتبه أهدى من كتب الله ، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني ، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون ، وقيل : لم يصح عنه . ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به . فهذا الأمر الأول من المتشابه ، وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى ، وما يؤدي إليه .
الأمر الثاني : من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه ، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء . وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] . ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 33 ] ، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه ، من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير ، فالخلق كلهم كالشجرة ، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة ، وإليه الإشارة بقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة ، قال الله : كفّ عن عبادي ، إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث : إما أن يتوب فأتوب عليه ، أو يستغفرني فأغفر له ، أو أخرج من صلبه من يعبدني - رواه الطبراني - .
وقال الإمام الغزالي في كتاب العلم في " الإحياء " في أقسام العلوم الباطنة : ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق ، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش ، وكما يضر ريح الورد بالجعل . وكيف يبعد هذا ، وقولنا : إن كل شيء بقضاء من الله وقدر - حق في نفسه ، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه ، ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم . وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك . وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزاً ، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم .
وقال في شرح أسماء الله الحسنى في شرح الرحمن الرحيم : والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيراً ، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى ، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين ، فإنك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شراً محضاً . والغبي الذي يرى القصاص شراً محضاً ، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ، وأنه في حقه شر محض ، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله . هذا أو قريب من هذا .
وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في " العواصم " والسر في ذلك : أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شراً قطعاً ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 179 ] وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدرة في الجملة . وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما . ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة ، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزاً ، ويسمونه غير مقدور . ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار . وقد تقصيتُ الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في " العواصم " ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علمي . فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثاً ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية . وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخرويّ ، وتبعه تلميذه ابن قيّم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه " حادي الأرواح إلى ديار الأفراح " ، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدت عليه . ومضمون كلامهم : أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شراً ، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى . وطردوا ذلك في شرور الدارين معاً . ونصر ذلك الغزالي في شرح " الرحمن الرحيم " . ولنورد في ذلك حديثاً واحداً ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول : قال البيهقي في كتابه " الأسماء والصفات " عن عَمْرو بن ميمون ، عن ابن عباس : لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم ! أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تُعصى ، فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما افعل ، وهم يسألون . فانتهى موسى .
ورواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " ، وعزاه إلى الطبراني ، وزاد فيه : فلما بعث الله عزيراً سأل الله مثل ما سأل موسى ، ثلاث مرات ، فقال الله تعالى له : أتستطيع أن تصرّ صرة من الشمس ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور ؟ قال : لا . قال : فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه ، أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء ، فلا تذكر فيهم . فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك ، كموسى ، وأجيب عليه بمثل ذلك ، وقال الله تعالى : لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ، فجمع عيسى من معه فقال : القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه .
وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر ؟ فقال : وجدت أطول الناس فيه حديثاً أجهلهم به . وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلما ازداد فيه نظراً ازداد تحيراً . قلت : ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] . والجواب الجملي عليهم كما مر .
وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث ، رجال بعضهم ثقات ، وبعضها شواهد لبعض ، كما أوضحته في " العواصم " وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك ، يكفي المنصف . وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة .
الأمر الثالث : من المتشابه : الحروف المقطعة أوائل السور ، فإن الجهل بالمراد بها معلوم ، كالألم والصحة ، والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ، ونحو ذلك ضروري ، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتاباً من كتبه الكريمة ، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ، ونحو ذلك ، وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام ، والقاسم والهادي عليهما السلام ، وهو نص في تفسيرهما المجموع . وكذلك الإمام يحيى عليه السلام ، ذكره في " الحاوي " . وقولهم : إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها ؛ مقلوب .
وصوابه : أن لا نفهمها ، فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها . وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن .
الأمر الرابع من المتشابه : المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن ، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه ، أو لغرابته ، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع ، أو غير ذلك . فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام ، كيف لغيره ؟ وذلك قوله : : { إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 45 - 46 ] .
وأما المحكوم فهو ما عدا المتشابه ، وغالبه النص الجلي ، والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم والصحيح الذي لم يعارض ، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق . ويلحق بهذا فوائد :
الأولى : الصحيح في قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } الوقف على الله ، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية . وهو اختيار الإمام يحيى في " الحاوي " واحتج بأن " أمّا " للتفصيل على بابها ، والتقدير : و " أما الراسخون " بدليل قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } كما تقول : أما زيد فعالم وعمرو جاهل ، أي : وأما عَمْرو جاهل ، يوضحه أن المخالف مسلم أن هذا هو الظاهر منها ، لكنه يقول : إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل ، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة ، ويجعلها من المتشابه ، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه ، وهذا خلف .
وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ : " ويقول الراسخون " وقال : صحيح . ورواه الزمخشري في كشافه قراءة عن أبيّ وغيره ، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن علي عليه السلام ، ولم يتأوله ولم يطعن فيه . وهو في " النهج " أيضاً ، وهو نص لا يمكن تأويله . فإن لفظه عليه السلام : اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق ، فيما لم يكلفهم البحث عنه ؛ رسوخاً . فاقتصر على ذلك . انتهى بحروفه .
وأيضاً فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم ، إذ في المتكلفين الأمي والعجمي ونحوهم . وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث ؛ جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده . والله سبحانه أعلم .
الفائدة الثانية : إذا تعارض العام والخاص ، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب ، وفيه الجمع بينهما ، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية ، وهي قاعدة كبيرة فاحفظها . ولا خلاف فيها في الاعتقاد ، لعدم القاعدة في التاريخ فيه ، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين ، وتأويل نفي الخلة المطلق ، فتأمل ذلك .
الفائدة الثالثة : إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم ، والمتشابه مخالفه ، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل ، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بيّن وضلال كبير ، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد - إن شاء الله تعالى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...