روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 5. و6.محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

 

مجلد 5. محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلمونَ فَإِنّهُمْ يَأْلمونَ كَمَا تَأْلمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 104 ]
{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ } أي : لا تضعفوا فحيث طلب عدوكم بالقتال بل جدوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد ، ثم ألزمهم الحجة بقوله سبحانه : { إِن تَكُونُواْ تَأْلمونَ فَإِنّهُمْ يَأْلمونَ كَمَا تَأْلمونَ } أي : ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ، كما قال تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } [ آل عِمْرَان : 140 ] ، ثم زاد في تقرير الحجة ، وبيّن أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين بقوله تعالى : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } يعني وتأملون من القرب من الله واستحقاق الدرجات من جناته وإظهار دينه ، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ما لا يأملونه ، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأجدر بإقامة كلمة الله .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : فلا يكلفكم إلا بما يعلم أنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم ، فجدوا في الامتثال بذلك فإنه فيه عواقب حميدة .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة وجوب الجهاد وأنه لا يسقط لما يحصل من المضرة بالجراح ونحوه ، وأن التجلد وطلب ما يقوّى لازم ، وما يحصل به الوهن لا يجوز فعله ، وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله : { فَإِنّهُمْ يَأْلمونَ } وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } فجعل هذا سبباً باعثاً على الجهاد ، هذا معنى كلام الحاكم ، ونظير هذا : لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب ، وقد ذكر في ذلك خلاف .
فعن الراضي بالله : يجزي ذلك ، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد ، وعن أبي مضر : لا يجزي ، لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ 105 - 109 ]
{ إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }
رَوَى الحافظ اِبْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيق الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ نَفَراً مِنْ الْأَنْصَار غَزَوْا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض غَزَوَاته ، فَسُرِقَتْ دِرْع لِأَحَدِهِمْ ، فَأُظِنّ ( أي : اتهم ) بِهَا رَجُل مِنْ الْأَنْصَار ، فَأَتَى صَاحِب الدِّرْع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ طُعْمَة بْن أُبَيْرِق سَرَقَ دِرْعِي ، فَلَمَّا رَأَى السَّارِق ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْت رَجُل بَرِيء ، وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَته : إِنِّي غَيَّبْت الدِّرْع وَأَلْقَيْتهَا فِي بَيْت فُلَان وَسَتُوجَدُ عِنْده ، فَانْطَلَقُوا إِلَى نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلاً فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه ، إِنَّ صَاحِبنَا بَرِيء وَإِنَّ صَاحِب الدِّرْع فُلَان ، وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْماً ، فَاعْذُرْ صَاحِبنَا عَلَى رُءُوس النَّاس وَجَادِلْ عَنْهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْصِمهُ اللَّه بِك يَهْلِك ، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرَّأَهُ وَعَذَرَهُ عَلَى رُءُوس النَّاس فَأَنْزَلَ اللَّه : { إِنّا أَنزَلْنَا } الْآيَة ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ، لِلَّذِينَ أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ : { يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاس وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّه } .
يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ يُجَادِلُونَ عَنْ الْخَائِنِينَ ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَنْ يَعْمَل سُوءاً } الْآيَة .
يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْسِب خَطِيئَة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } .
يَعْنِي السَّارِق وَاَلَّذِينَ جَادَلُوا عَنْ السَّارِق .
قال ابن كثير : وَهَذَا سِيَاق غَرِيب وَقَدْ ذَكَرَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالسُّدِّىّ وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ ( فِي هَذِهِ الْآيَة ) أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَارِق بَنِي أُبَيْرِق عَلَى اِخْتِلَاف سِيَاقَاتهمْ وَهِيَ مُتَقَارِبَة .
وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّة مُحَمَّد بْن إِسْحَاق مُطَوَّلَة ، ورواها عنه ، من طريقه ، أبو عيسى الترمذيّ في " جامعه " في كتاب التفسير ، عَنْ قَتَادَة بْن النُّعْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : كَانَ أَهْل بَيْت مِنَّا يُقَال لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِق : بِشْر وَبَشِير ( قال أبو ذر الخُشَنِي : بشير بن أبيرق ، كذا وقع هنا : بشير بفتح الباء ، وقال الدارقطني : إنما هو بشير بضم الباء ) وَمُبَشِّر ، وَكَانَ بَشِير رَجُلاً مُنَافِقاً ، وَكان يَقُول الشِّعْر يَهْجُو بِهِ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْحَلهُ لِبَعْضِ الْعَرَب ثُمَّ يَقُول : قَالَ فُلَان كَذَا وَكَذَا وَقَالَ فُلَان كَذَا ، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْر قَالُوا : وَاَللَّه مَا يَقُول هَذَا الشِّعْر إِلَّا هَذَا [ الرَّجُل ] الْخَبِيث ، فقال :
~أَوْ كَلمَا قَالَ الرَّجُال قصيدة أضِمُوا وَقَالُوا : اِبْن الْأُبَيْرِق قَالَهَا !
قَال : وَكَانُوا أَهْل بَيْت فَاقَة وَحَاجَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ، وَكَانَ النَّاس إِنَّمَا طَعَامهمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْر وَالشَّعِير ، وَكَانَ الرَّجُل إِذَا كَانَ لَهُ يَسَار ، فَقَدِمَتْ ضَافِطَة مِنْ الشَّام مِنْ بالدَّرْمَك ، اِبْتَاعَ الرَّجُل مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسه ، فأَمَّا الْعِيَال فَإِنَّمَا طَعَامهمْ التَّمْر وَالشَّعِير ، فَقَدِمَتْ ضَافِطَة مِنْ الشَّام فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَة بْن زَيْد حِمْلاً مِنْ الدَّرْمَك فَجَعَلَهُ فِي مَشْرُبَة لَهُ وَفِي الْمَشْرُبَة سِلَاح له : درعان وسيفان وما يصلحهما ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْت الْبَيْت فَنُقِبَتْ الْمَشْرُبَة وَأُخِذَ الطَّعَام وَالسِّلَاح ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَة فَقَالَ : يَا اِبْن أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتنَا فَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحنَا .
قال : فتحسست في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى ، فيما نراه ، إلا على بعض طعامكم .
قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : ونحن نسأل في الدار : والله ! ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل ، رجل منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع بذلك لَبِيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال : وَاَللَّه لَيُخَالِطَنكُمْ هَذَا السَّيْف أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي ! لو أتيت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فذكرت ذلك له .
قال قتادة : فأتيت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكرت ذلك له ، فقلت : يا رسول الله ! إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رِفاعة فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردوا علينا سلاحنا ، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه .
فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أنظر في ذلك > ، فلما سمع بذلك بنو أبيرق ، أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقالوا : يا رسول الله ! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا ، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة في غير بينة ولا ثَبَت ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فكلمته ، فقال عمدت إلى أهل بيت ذُكر منه إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت ؟ قال فرجعت ، لوددتُ أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في ذلك ، فأتيت عمي رِفاعة ، فقال : يا ابن أخي ! ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال : الله المستعان :
فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } يعني : بني أبيرق .
{ وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ } أي : مما قلت لقتادة : { إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } أي : بني أبيرق : { إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ } إلى قوله : { ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يجدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً } أي : إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } قولهم للبيد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ } يعني : أسيراً وأصحابه : { وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
فلما نزل القرآن : آتي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالسلاح فرده إلى رِفاعة .
قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح ، وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً ، فلما أتيته بالسلاح ، قال : يا أبن أخي ! هو في سبيل الله ، قال فعرفت أن إسلامه صحيحاً .
فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيْد ، فأنزل الله فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ } إلى قوله : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } .
فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلَافَة ، رمَاها حَسَّان بْن ثَابِت بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْر ، فَأَخَذَتْ رَحْله فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسهَا ، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ فَرَمَتْهُ فِي الْأَبْطُح ، ثُمَّ قَالَتْ : أَهْدَيْت لِي شِعْر حَسَّان مَا كُنْت تَأْتِينِي بِخَيْرٍ .
وقال الترمذيّ : هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني ، وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عُمَر بن قتادة مرسلاً ، لم يذكروا فيه : عن أبيه عن جده .
ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ، ببعضه ، ورواه ابن المنذر في " تفسيره " بسنده عن محمد بن سلمة ، فذكره بطوله .
ورواه أبو الشيخ الأصفهاني في " تفسيره " بسنده عن محمد بن سلمة به ، ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل .
ورواه الحاكم في كتابه " المستدرك " بسنده عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه ، أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، كذا نقله ابن كثير .
قال السيوطيّ في " اللباب " : وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لَبِيد قال : عدا بشير بن الحارث على علِّيّة رِفاعة بن زيد ، عم قتادة بن النعمان ، فنقبها من ظهرها وأخذ طعاماً له ودرعين بأداتهما ، فأتى قتادة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأخبره بذلك ، فدعا بشيراً فسأله فأنكر ، ورمى بذلك لَبِيد بن سهل ، رجلاً من أهل الدار ذا حسب ونسب ، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لَبِيد : { إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ } الآيات ، فلما نزل القرآن في بُشير وعثر عليه ، هرب إلى مكة مرتداً ، فنزل على سلافة بنت سعد ، فجعل يقع في النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وفي المسلمين ، فنزل فيه : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرّسُولَ } [ النساء : من الآية 115 ] الآية ، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع ، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة . انتهى .
وأما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها فنقول : قوله تعالى : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } أي : بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك ، سمي ذلك العلم بالرؤية ، لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية ، في القوة والظهور .
قال الزمخشريّ : وعن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولكن ليجتهد رأيه ، لأن الرأي من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان مصيباً ، لأن الله كان يريه إباه ، وهو منا الظن والتكلف .
قلت : روى هذا الأثر البيهقيّ في " المدخل " وابن عبد البر ، بنحو ما ذكر .
قال ابن الفرس : في هذه الآية إثبات الرأي والقياس ، وتعقبه السيوطيّ بما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : إياكم والرأي ، فإن الله تعالى قال لنبيه : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } ولم يقل : بما رأيت .
ثم قال السيوطيّ : وقال غيره : يحتمل قوله : { بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } الوحي والاجتهاد معاً . انتهى .
وقال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين عَنْ أُمّ سَلَمَة ، أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ جَلَبَة خَصْم بِبَابِ حُجْرَته ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : < أَلَا إِنَّمَا أَنَا بَشَر ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَع ، وَلَعَلَّ أَحَدكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض ، فَأَقْضِي لَهُ ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ مُسْلِم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة مِنْ النَّار ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ لِيَذَرهَا > .
ورواه الإمام أحمد عنها أيضاً بلفظ : جَاءَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَار يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِث بَيْنهمَا قَدْ دُرِسَتْ ، لَيْسَ بينهمَا بَيِّنَة ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَر ، وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَلْحَن بِحُجَّتِهِ ( أو قد قال : لحجته ) مِنْ بَعْض ، فَإني أَقْضِي بَيْنكُمْ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلَا يَأْخُذهُ ، فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ قِطْعَة مِنْ النَّار ، يَأْتِي بِهَا إِسطَاماً فِي عُنُقه يَوْم الْقِيَامَة > .
فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلّ مِنْهُمَا : حَقِّي لِأَخِي ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَمَا إِذَا قُلْتُمَا ، فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقّ بَيْنكُمَا ، ثُمَّ اِسْتَهِمَا ، ثُمَّ لِيَحْلِل كُلّ مِنْكُمَا صَاحِبه > .
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَزَادَ : < إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنكُمَا بِرَأْيِي ، فِيمَا لَمْ يَنْزِل عَلَيَّ فِيهِ > . انتهى .
قال السيوطيّ : وفي الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم ، لأن الله تعالى فوّض الحكم إلى الاجتهاد ، ومن لا علم عنده كيف يجتهد ؟ انتهى .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ } أي : لأجلهم والذب عنهم ، وهم طعمة و من يعينه من قومه على ما تقدم .
{ خَصِيماً } أي : مخاصماً ، وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق .
وقوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ } أي : مما قلت لقتادة ، كما تقدم مفسراً .
قال الرازيّ : تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء ، وقالوا : لو لم يقع من الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذنب لما أمر بالاستغفار ، ثم أجاب عن ذلك بوجوه .
وقال القاضي عياض في " الشفا " : إن تصرف الأنبياء عليهم السلام بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها ، ثم عوتبوا بسببها ، أو أتوها على وجه التأويل - إنما هي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم وإلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم ، وأطال في هذا المقام وأطاب ، ثم قال : وأيضاً ، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفاً أشار إليه بعض العلماء ، وهو استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى : { إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ المتَطَهّرِينَ } [ البقرة : من الآية 222 ] . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } أي : يخونونها بالمعصية ، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم ، كما جعلت ظلماً لها لرجوع ضررها إليهم .
قال الرازيّ : واعلم أن في الآية تهديداً شديداً ، وذلك لأن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طعمة ، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقاً ، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب ، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ، ثم يعينه على ذلك الظلم ، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب ؟ وإنما قيل للخائنين ( ويختانون ) مع أن الخائن واحد ، لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه ، وهم يعلمون أنه سارق ، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خانه خيانته ، كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً } لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم ، ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتد ، كما أسلفنا ، قيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنها لها أخوات ، وعن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه ، فقال : كذبتِ ، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة .
وقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ } أي : يستترون حياءً منهم وخوفاً من ضررهم .
{ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ } فلا يستحيون منه : { وَهُوَ مَعَهُمْ } أي : وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليهم خافٍ من سرهم .
قال الزمخشريّ : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم ، إن كانوا مؤمنين ، أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح .
وقوله تعالى : { إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } أي : يدبرون ويزورون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور .
وقوله تعالى : { هَاأَنتُمْ هَؤُلاء } ، الآية .
المجادلة : أشد المخاصمة ، والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا ، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه ؟ .
وقوله تعالى : { أَم مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذه الآيات وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل ، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص ، ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم ، على إباحة المجادلة . انتهى .
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب ، أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلم نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يجدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً } [ 110 ]
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً } أي : قبيحاً متعدياً ، يسوء به غيره ، كما في القصة .
{ أَوْ يَظْلم نَفْسَهُ } فيخصها بالمعصية .
{ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ } بالتوبة الصادقة : { يجدِ اللّهَ غَفُوراً } لذنوبه كائنة ما كانت : { رّحِيماً } أي : متفضلاً عليه .
قال أبو السعود : وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار ، لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 111 ]
{ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : فليتحرز عن تعريضها للعقاب : { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } [ 112 ]
{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً } الخطيئة الذنب ، أو ما تعمد منه ، والإثم الذنب أيضاً ، وأن يعلم ما لا يحل له ، كذا في " القاموس " .
قال الراغب : الإثم أعم من العدوان ، وقال غيره : هو فعل مبطئ عن الثواب .
{ ثُمّ يَرْمِ بِهِ } أي : يقذف به : { بَرِيئاً } أي : مما رماه به ، كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ، ذلك الرجل الصالح ، وهو لَبِيد بن سهل ، كما تقدم ، وقد كان بريئاً .
{ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً } وهو الكذب على الغير بما يبهت منه .
{ وَإِثْماً مّبِيناً } أي : بَيِّناً فاحشاً ، لأنه بكسب الإثم ، آثم ، وبرمي البريء ، باهت ، فهو جامع بين الأمرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلمكَ مَا لم تَكُنْ تَعْلم وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ 113 ]
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق .
{ لَهَمّت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ } برمي البريء والمجادلة عن الخائنين ، يعني أسير بن عروة وأصحابه ، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برءاء ، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
{ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ } لأن وباله عليهم .
{ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ } لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك ، ولما أنزل تعالى فصل القضية وجلاها لرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال بقوله : { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : القرآن والسنة .
{ وَعَلمكَ } من أمور الدين والشرائع : { مَا لم تَكُنْ تَعْلم } أي : قبل نزول ذلك عليك ، كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ } [ الشورى : من الآية 52 ] الآية ، وقال تعالى : { وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلّا رَحْمَةً مّن رّبّكَ } [ القصص : 86 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } أي : فيما علمك وأنعم عليك .
قال الرازيّ : هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب ، ثم أشار تعالى إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ 114 ]
{ لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ } أي : مساررتهم ، والسياق ، وإن دل على مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض ، إلا أنها في المعنى عامة ، والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث ، ثم استثنى النجوى في أعمال الخير بقوله سبحانه وتعالى : { إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } أي : إلا في نجوى من أمر ، بخفية عن الحاضرين ، بصدقة ليعطيها سراً ، يستر به عار المتصدق عليه .
{ أَوْ مَعْرُوفٍ } أي : بطاعة الله وأعمال البر كلها معروف ، وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به .
{ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ } يعني الإصلاح بين المتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع ، على ما أذن الله فيه وأمر به ، وسر النجوى فيه أنه لو ظهر أولاً ربما لم يتم .
قال المهايمي : قيل في الحصر : الخير إما نفع جسماني وهو في الأمر بالصدقة ، أو روحاني وهو في الأمر بالمعروف ، وإما دفع وهو في الإصلاح ويمكن أن يقال : الخير إما نفع متعد من المأمور وهو الصدقة : أو لازم له وهو المعروف ، أو دفع ضرر متعد أو لازم له ، وهو الإصلاح ، وإنما تتم خيريتها إذا ابتغى بها رضاء الله تعالى كما قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء } أي : طلب .
{ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } يعني في الآخرة .
{ أَجْراً عَظِيماً } يساوي أجر الفاعل أو يفوقه ، وقد دلت الآية على الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ، وقد أكد تعالى الترغيب بقوله : { عَظِيماً } وأن النية فيها شرط لنيل الثواب ، لقوله تعالى : { ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } وعلى أن كلام الإِنسَاْن عليه لا له ، إلا ما كان في هذا ونحوه ، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه بسنده إلى مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ [ في المطبوع حنيش ] قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى سُفْيَان الثَّوْرِيّ نَعُودهُ فَدَخَلَ عَلَيْنَا سَعِيد بْن حَسَّان ، فَقَالَ لَهُ الثَّوْرِيّ : الْحَدِيث الَّذِي كُنْت حَدَّثْتنِيهِ عَنْ أُمّ صَالِح ارَدَّدَهُ عَلِيّ فَقَالَ : حَدَّثَتْنِي أُمّ صَالِح عَنْ صَفِيَّة بِنْت شَيْبَة عَنْ أُمّ حَبِيبَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < كَلَام اِبْن آدَم كُلّه عَلَيْهِ لَا لَهُ ، إِلَّا ذِكْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ أَمْر بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْي عَنْ مُنْكَر > .
فَقَالَ سُفْيَان : أَوَمَا سَمِعْت اللَّه فِي كِتَابه يَقُول : { لَا خَيْر فِي كَثِير مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلَاح بَيْن النَّاس } فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ ، أَوَمَا سَمِعْت اللَّه يَقُول : { يَوْم يَقُوم الرُّوح وَالْمَلَائِكَة صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبا : 38 ] ، فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ ، أَوَمَا سَمِعْت اللَّه يَقُول فِي كِتَابه : { وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر } إِلَخْ [ العصر : 1 - 2 ] فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ .
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيث التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث ابْنِ خُنَيْسٍ عَنْ سَعِيد بْن حَسَّان بِهِ ، وَلَمْ يَذْكُر أَقْوَال الثَّوْرِيّ إِلَى آخِرهَا .
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث غَرِيب [ حسن ] لَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ حَدِيث اِبْن خُنَيْس
قلت : هو مقبول ، كما في " التقريب " لابن حجر ، فحسن حديثه .
وروى الجماعة عن أُمّ كُلْثُوم بِنْت عُقْبَة أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : < لَيْسَ الْكَذَّاب الَّذِي يُصْلِح بَيْن النَّاس فَيَنْمِي خَيْراً أَوْ يَقُول خَيْراً > .
وَقَالَتْ : لَمْ أَسْمَعهُ يُرَخِّص فِي شَيْء مِمَّا يَقُولهُ النَّاس إِلَّا فِي ثَلَاث : فِي الْحَرْب ، وَالْإِصْلَاح بَيْن النَّاس ، وَحَدِيث الرَّجُل اِمْرَأَته ، وَحَدِيث الْمَرْأَة زَوْجهَا .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَلَا أُخْبِركُمْ بِأَفْضَل مِنْ دَرَجَة الصِّيَام وَالصَّلَاة وَالصَّدَقَة ؟ >
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُول اللَّه .
قَالَ : < إِصْلَاح ذَات الْبَيْن > .
قَالَ : < وَفَسَاد ذَات الْبَيْن هِيَ الْحَالِقَة > .
قال الترمذيّ : حسن صحيح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ 115 ]
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ } أي : يخالفه ويعاديه .
{ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى } أي : اتضح له الحق .
{ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ } أي : غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل ، وهو الدين القيّم .
{ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى } أي : نجعله والياً مرجحاً ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فنزينه له تزين الكفر على الكفرة ، استدراجاً له ليكون دليلاً على شدة العقوبة في الآخرة ، كما قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لَا يَعْلمونَ } [ القلم : 44 ] ، وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] وقال سبحانه : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .
{ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ } أي : ندخله إياها .
{ وَسَاءتْ مَصِيراً } وجعل النار مصيره في الآخرة ، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ سورة الصافات : 22 ] ، وقال تعالى : { وَرَأَى المجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَنّهُم مّوَاقِعُوهَا وَلم يجدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً } [ الكهف : 53 ] .
قال الإمام ابن كثير : قوله تعالى : { وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ } هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً ، فإنه قد ضمنت لهم العصمة ، في اجتماعهم ، من الخطأ ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عوّل عليه الشافعيّ رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته ، هذه الآية الكرمية ، بعد التروّي والفكر الطويل ، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها ، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : الآية دلت على أن مشاقة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كبيرة ، وقد تبلغ إلى الكفر ، ودلت على أن الجهل عذر ، لقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى } ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة ، وأنه دليل كالكتاب والسنة لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعياً ، لا آحادياً . انتهى .
وقال المهايمي : في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع ، لأنه عز وجل رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع ، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل ، إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد ، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه ، أولحرمة الجمع بينهما وهو أيضاً باطل ، لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها ، أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب . انتهى .
ونقل الخفاجي قصة استدلال الشافعيّ من هذه الآية عن الإمام المزني قال : كنت عند الشافعيّ يوماً ، فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا ، فلما رآه ذا مهابة استوى جالساً ، وكان مستنداً لأسطوانة ، فاستوى وسوى ثيابه ، فقال له : ما الحجة في دين الله ؟ قال : كتابه قال : وماذا ؟ قال : سنة نبيه ، قال وماذا ؟ قال : اتفاق الأمة ، قال : من أين هذا الأخير ؟ أهو في كتاب الله ؟ فتدبر ساعة ساكتاً ، فقال له الشيخ : أجّلتك ثلاثة أيام بلياليهن ، فإن جئت بآية ، وإلا فاعتزل الناس .
فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر ، وقد تغير لونه ، فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس ، وقال : حاجتي ، فقال : نعم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله عز وجل : { وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ } - إلى آخر الآية ، لَمْ ُيصله جهنم ، على خلاف المؤمنين ، إلا واتباعهم فرض ، قال : صدقت ، وقام وذهب .
وروي عنه أنه قال : قرأت القرآن في يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات ، حتى ظفرت بها .
وأورد الراغب عليه ، أنه لا حجة فيها على ما ذكره ، بأن كل موصوف علق به ، حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف ، فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته ، فكذا سبيل المؤمنين ، يعني به سبيلهم في الإيمان ، لا غير ، فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره .
ورُدَّ بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول ، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف ، تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضاً ، فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه ، فسبيل المؤمنين ، وإن فسر بما هم عليه من الدين ، يعمّ الأصول والفروع ، الكل والبعض ، على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط ، لا على المجموع ، للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد ، معنى على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين ، لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل ، البتة . انتهى .
ورأيت للإمام تقي الدين ابن تيمية في كتابه " الفرقان بين الحق والباطل " مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع ، أجال فيها جواد قلمه وأجاد ، وأطال وأطاب ، قال رحمه الله : ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه ، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان ، فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بيّن ذلك ، وقد قاله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] .
وقال تعالى : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 111 ] ، وقال تعالى : { وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلمسْلمينَ } [ النحل : 89 ] ، وقال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّى يُبَيّنَ لَهُم مّا يَتّقُونَ } [ التوبة : 115 ] ، فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه ، كما قال : { وَقَدْ فَصّلَ لَكُم مّا حَرّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } [ النساء : 59 ] ، وهو الرد إلى كتاب الله ، أو إلى سنة الرسول ، بعد موته .
وقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } شرط ، والفعل نكرة في سياق الشرط ، فأي شيء تنازعوا فيه ردُّوه إلى الله والرسول ، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلاً للنزاع لم يؤمروا بالرد إيه ، وقد جاء عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك > .
وعن عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - كلام نحو هذا ، والحاصل أن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين ، وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق ، لا تجتمع الأمة على ضلالة ، وكذلك القياس الصحيح حق ، فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب ، والميزانُ يتضمن العدل وما يعرف به العدل ، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك ، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح ، وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل ، وبين بالقياس الصحيح وهي الأمثال المضروبة ، ما بينه من الحق ، لكن القياس الصحيح يطابق النص ، فإن الميزان يطابق الكتاب ، والله أمر نبيه أن يحكم بالعدل ، فهو أنزل الكتاب ، وإنما أنزل الكتاب بالعدل ، قال تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] .
{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 42 ] .
وأما إجماع الأمة فهو حق ، لا تجتمع الأمة ، ولله الحمد ، على ضلالة ، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة ، فقال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [ آل عِمْرَان : 110 ] ، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، والوسط العدل الخيار وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً ، فقال : < وجبت > .
ثم مُرّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً ، فقال : < وجبت > .
قالوا : يا رسول الله ! ما قولك وجبت ؟ قال : < هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً ، فقلت : وجبت لها الجنة ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً ، فقلت : وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض > .
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدا أن الله أمر بشيء فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ، ولو كان يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض .
وقال تعالى : { وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ } [ لقمان : 15 ] ، والأمة منيبة إلى ربها فيجب اتباع سبيله . وقال تعالى : { وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ المهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] ، فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة ، فدل على أن متابعتهم عامل بما يرضي الله ، والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل ، وقال تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } والشافعي ، - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع ، كما كان يسمع هو وغيره من مالك ، ذكر ذلك عن عُمَر بن عبد العزيز ، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين ، مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، مستحق للوعيد ، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده ، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره ، وهنا للناس ثلاثة أقوال :
قيل : اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرده مخالفة الرسول المذكورة في الآية .
وقيل : بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم ، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم .
وقيل : بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية .
لكن هذا لا يقتضي مفارقته للأول بل قد يكون مستلزماً له ، فكل متابع غي سبيل المؤمنين هو نفس الأمر مشاق للرسول مبتغ غير سبيل المؤمنين ، وهذا كما في طاعة الله والرسول ، فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة ، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم ، وهما متلازمان ، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني > .
ثم قال تقي الدين رحمه الله ( بعد ثلاثة أوراق ) : ومن الناس من يقول : إنها لا تدل على مورد النزاع ، فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين ، وهذا لا نزاع فيه ، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين ، وهي متابعة الرسول ، وهذا لا نزاع فيه ، أو إن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة ، وهذا لا نزاع فيه ، فهذا ونحوه قول من يقول : لا تدل على محل النزاع ، وآخرون يقولون : بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقاً ، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه ، كما قد عرف كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية ، والقول الثالث الوسط : إنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا ، كما تقدم ، لكن لا ينفي تلازمهما ، كما ذكر في طاعة الله والرسول ، وحينئذ يقول : الذم إما أن يكون حقاً لمشاقة الرسول فقط ، أو باتباع غير سبيلهم فقط ، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما ، بل بهما إذا اجتمعا ، أو لحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر ، أو بكل منهما لكونه مستلزماً للآخر ، والأولان باطلان ، لأنه لو كان المؤثر بأحدهما فقط ، كان ذكر الآخر ضائعاً لا فائدة فيه ، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعاً ، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه ، ولحوق الذم بكل منها وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية ، فإن الوعيد فها إنما هو على المجموع ، بقي القسم الآخر ، وهو أن كلاً من الوصفين يقتضي الوعيد ، لأنه مستلزم للآخر ، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام ، فيقال : من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ، ومثله قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } فإن الكفر بكل واد من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره ، فمن كفر بالله كفر بالجميع ، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل ، فكان كافراً بالله ، إذ كذب رسله وكتبه ، وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل ، فكان كافراً ، وكذلك قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لم تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنتُمْ تَعْلمونَ } [ آل عِمْرَان : 71 ] ذمهم على الوصفين ، وكل منهما مقتض للذم ، وهما متلازمان ، ولهذا نهى عنهما جميعاً في قوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنتُمْ تَعْلمونَ } فإن من لبس الحق بالباطل فغطاه به ، فغلط به ، لزم أن يكتم الحق الذي تبين أن هذا باطل ، إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق ، فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ، من شَاقَّهُ ، فقد اتبع غير سبيلهم ، وهذا ظاهر ، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضاً فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد ، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم ، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعاً ، والآية توجب ذم ذلك ، وإذا قيل : هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول ، قلنا : لأنهما متلازمان ، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصاً عن الرسول ، فالمخالف لهم مخالف للرسول .
كما أن المخالف للرسول مخالف لله ، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه الرسول قد بينه الرسول ، وهذا هو الصواب ، فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ، ويعلم الإجماع فيستدل به ، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص ، وهو دليل ثان مع النص ، كالأمثال المضروبة في القرآن ، وكذلك الإجماع دليل آخر ، كما يقال : قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة ، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ، ولا توجد مسالة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص ، وقد كان بعض الناس يذكر فيها الإجماع بلا نص كالمضاربة ، وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية ، لا سيما قريش ، فإن الأغلب كان عليهم التجارة ، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال ، ورسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد سافر بمال غير مضاربة مع أبي سفيان وغيره ، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ، ولم ينه عن ذلك ، والسنة قوله وفعله وإقراره ، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة ، والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ، ويعتمد عليه الفقهاء ، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لا بنيه واتّجرا فيه وربحا ، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش ، فقال له أحدهما : لو خسر المال لكان علينا ، فكيف يكون الربح وعلينا الضمان ؟ فقال له بعض الصحابة : اجعله مضاربة ، فجعله مضاربة

وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم ، والعهد بالرسول قريب ، لم يحدث بعده ، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول ، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والخرازة ، وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصاً فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص ، لكن كان النص عند غيرهم ، وابن جرير وطائفة يقولون : لا ينعقد الإجماع إلا من نص نقلوه عن الرسول ، مع قولهم بصحة القياس ، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى ، كما نقل الأخبار ، ولكن استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة ، وكثر من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة ، كما أنه قد يحتج بقياس ، وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع ، كما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم ، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [ الطلاق : 4 ] وقال ابن مسعود : سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى ، أي : بعد البقرة .
وقوله : { أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } يقتضي انحصار الأجل في ذلك ، فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها ، وعليّ وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين ، وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود ، وكذلك ، لما تنازعوا في المفوضة إذا ما تزوجها هل لها مهر المثل ، أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ، ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك ، وقد خالفه عليّ وزيد وغيرهما ، فقالوا : لا مهر لها ، فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ، ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ، ولا يُعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها ، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص وأولئك يحتجون بنص ، كالمتوفى عنها الحامل ، هؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها ، والآخرون قالوا : إنما تدخل في آية الحمل فقط ، وإن آية الشهور في غير الحامل ، كما أن آية القروء في غير الحامل ، وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يميناً بقوله : { لم تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 1 - 2 ] .
وكذلك تنازعوا في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى ، احتج هؤلاء بحديث فاطمة وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية ، وأولئك قالوا : بل هي لهما ، ودلالات النصوص قد تكون خفية ، فخص الله بفهمها بعض الناس ، كما قال عليّ : إلاّ فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه ، وقد يكون النص بيّناً ويذهل المجتهد عنه ، كتيمم الجنب ، فإنه بيّن في القرآن في آيتين ، ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر : ما درى عبد الله ما يقول ، إلا أنه قال : لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد البرد أن يتيمم ، وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر : إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله : { لَا تَدْرِي لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ الطلاق : 1 ] وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة ؟ وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقولهن : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، واحتج بهذه الآية من منع الفسخ ، وآخرون يقولون : إنما أمر بالإتمام فقط ، وكذلك أمر الشارع أن يتم ، وكذلك في الفسخ قالوا : من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها ، أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه فإنه شرع صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أصحابه عام حجة الوداع ، وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } [ النساء : 43 ] ، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه ، وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفي ، فهذا ما أعرفه ، والجدّ ، لما قال أكثرهم : إنه أب ، واستدلوا على ذلك بالقرآن بقوله : { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنّةِ } [ الأعراف : 27 ] ، وقال ابن عباس : لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمى أبا الأب جداً لما قالت : { وَأَنّهُ تَعَالَى جَدّ رَبّنَا } [ الجن : 3 ] ، نقول : إنما هو أب ، لكن أب أبعد من أب .
وقد روي عن عليّ وزيد أنهما احتجا بقياس ، فنم ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقاً فقط غلط ، ومن ادعى أن المسائل ما لم يتكلم أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط ، بل كان كل منهم يتلكم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها ، والدلائل الصحيحة لا تتناقض ، لكن قد يخفى وجه اتفاقهما أو ضعف أحدهما على بعض العلماء ، وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين ، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين ، فإنهم شهدوا التنزيل وعاينوا الرسول ، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله ما يستدلون به على مرادهم ، ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس ، ومن قال من المتأخرين : إن الإجماع مستند معظم الشريعة ، فقد أخبر عن حاله ، فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك ، وهذا كقوله : إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها ، فإنما هذا من قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام .
وقد قال الإمام أحمد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها ، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام ، حدثت جميع أجناس الأعمال ، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة ، وإنما تكلم بعضهم بالرأس في مسائل قليلة ، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه ، إذ هم أهل الإجماع ، فلا إجماع قبلهم ، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح : اقض بما في كتاب الله ، فإن لم تجد ، فبما في سنة رسول الله ، فإن لم تجد ، فبما قضى به الصالحون قبلك ، وفي رواية : فبما أجمع عليه الناس .
فقدّم عمر الكتاب ثم السنة : وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر ، قدّم الكتاب ثم السنة ، ثم الإجماع ، وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر ، لقوله : < اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر > .
وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء ، وهذا هو الصواب ، ولكن طائفة من المتأخرين قالوا : يبدأ المجتهد ينظر أولاً في الإجماع ، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره ، وإن وجد نصاً خالفه اعتقد أنه منسوخ لم يبلغه ، وقال بعضهم : الإجماع نسخه .
والصواب طريقة السلف ، وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة ، وحفظت النص المنسوخ ، فهذا لا يوجد قط ، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه ، وإضاعة ما أمرت باتباعه ، وهي معصومة عن ذلك ، ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيراً أو غالباً ، فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين ؟ بخلاف النصوص ، فإن معرفتها ممكنة متيسرة ، وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولاً ، لأن السنة لا تنسخ الكتاب ، فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة ، بل إن كان فيه منسوخ ، كان في القرآن ناسخه ، فلا يقدم غير القرآن عليه ، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة ، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته ، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره ، ولا تعارَض السنة بإجماع ، وأكثر ألفاظ الآثار ، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة ، مع أنها فيها ، وكذلك في القرآن ، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة ، وإذا كان في السنة لم يكن ما فيه السنة معارضاً لما في القرآن ، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتاباً ولا سنة . انتهى كلامه قدس الله روحه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 116 ]
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } قد مر الكلام على هذه الآية الكريمة في أوائل هذه السورة مطولاً ، قالوا : تكريرها إما تأكيداً وتشديداً أو لتكميل قصة طعمة ، وقد مر موته كافراً ، أو إن لها سبباً آخر في النزول ، على ما رواه الثعلبي عن ابن عباس قال : جاء شيخ ، إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وقال : إني شيخ منهمك في الذنوب ، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه ولياً ، ولم أوقع المعاصي جراءة ، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً ، وإني لنادم تائب ، فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى ؟ فنزلت ، واستظهر بعضهم الوجه الأخير قال : لأن التأكيد ، مع بعد عهده ، لا يقتضي تخصص هذا الموضع ، فلا بد له من مخصص .
وأغرب المهايميّ حيث جعلها مشيرة إلى شقي الآية الكريمة ، حيث قال : ثم أشار إلى أن وعيد مشاقة الرسول جازم دون مخالفة الإجماع ، لأن مشاقة الرسول دليل تكذيبه ، وهو مستلزم للشرك بالله ، إذ خلق المعجزات لا يكون إلا لكامل القدرة ، ولا يكون إلا لإله ، فإذا نفاها عن الله فقد أثبت له شريكاً وأن الله لا يغفر أن يشرك به ، ومخالفة الإجماع يجوز أن تكون مغفورة ، لأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، إذا لا تنتهي إلى الشرك ، وكل هذه المناسبات دالة دون ذلك قطعاً على دلالة هذه الآية ، على أن ما سوى الشرك مغفور قطعاً ، سواء حصلت التوبة أو لم تحصل .
وقد روى الترمذيّ عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } - الآية : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : عن الحق ، فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة ، وإنما ذكر في الآية الأولى : { فَقَدِ افْتَرَى } لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء ، وهو دعوى التبني على الله تعالى بقولهم : { نحن أبناؤ الله وأحباؤه } قاله القاضي .
وفي ( السمين ) : ختمت الآية المتقدمة بقوله : { فَقَدِ افْتَرَى } وهذه بقوله : : { فَقَدْ ضَلّ } لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته ، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله ، وهذه في شأن قوم مشركين ليس لهم كتاب ولا عندهم علم ، فناسب وصفهم بالضلال ، وأيضاً قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً } [ 117 ]
{ إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } ما يعبد مشركو مكة ونحوهم من دون الله .
{ إِلاّ إِنَاثاً } قال الرازيّ : ( يدعون ) بمعنى ( يعبدون ) لأن من عبد شيئاً فإنه يدعوه عند احتياجه إليه . انتهى .
وقد روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وأصحاب السنن وغيرهم ، عن النعمان بن بشير ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَة > ، ورواه أبو يعلى عن البراء ، ورواه الترمذيّ عن أنس بلفظ : < الدُّعَاءَ مُخ الْعِبَادَة > .
وفي قوله تعالى : { إِلاّ إِنَاثاً } وجوه :
الأولى : ما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : يعني أوثاناً ، وعليه فمرجع التسمية بالإناث كون أسماء غالبها مؤنثة ، كمناة والعزى واللات ونحوها ، ولأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحلي ويزينونها على هيئات النسوان .
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل نحو ما لعائشة .
الوجه الثاني : أنه عنى الملائكة ، لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها : بنات الله .
روى ابن جرير عن الضحاك في الآية : قال المشركون ، للملائكة : بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : فاتخذوهن أرباباً وصوروهن جواري فحكوا وقلدوا وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نبعده ، يعنون الملائكة .
قال ابن كثير : وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللّاتَ وَالْعُزّى } [ النجم : 27 ] الآيات وقال تعالى : { وَجَعَلُوا الملَائِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . . . . الآية ، وقال : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنّةِ نَسَباً } [ الصافات : 137 ] انتهى .
وقال تعالى : { إِنّ الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمّونَ الملَائِكَةَ تَسْميةَ الْأُنثَى } .
الوجه الثالث : ما رواه ابن أبي حاتم عن أُبي بن كعب في الآية قال : مع كل صنم جنية .
الرابع : قال عليّ بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس والحسن : إناثاً يعني موتى ، قال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وفي " القاموس ، وشرحه " : الإناث جمع الأنثى ، وهو خلاف الذكر من كل شيء ، والموات الذي هو خلاف الحيوان ، كالشجر والحجر والخشب ، عن اللحياني ، وعن الفراء : تقول العرب اللات والعزى وأشباههما من الآلهة المؤنثة . انتهى .
وقال الإمام أبو البقاء : قوله تعالى : { إِلاّ إِنَاثاً } هو جمع أنثى على ( فعال ) ويراد به كل ما روح فيه من صخرة ومس ونحوهما ، ويقرأ ( أنثى ) على الإفراد ، ودل الواحد على الجمع ، ويقرأ ( أُنُثَاً ) مثل رسل يجوز أن تكون صفة مفردة مثل امرأة جنب ، ويجوز أن يكون جمع أنيث كقليب وقُلُب ، وقد قالوا : حديد أنيث ، من هذا المعنى ، ويقرأ أُنُثاً والواحد وثن وهو الصنم وأصله وثن ، في الجمع كما في الواحد إلا أن الواو قلبت همزة لما انضمت ضماً لازماً وهو مثل أسَد وأسُد ، ويقرأ بالواو على الأصل جمعاً ، ويقرأ بسكون الثاء مع الهمزة والواو . انتهى .
قال البيضاوي : ولعله تعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيهاً على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثاً ، لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ، ليكون دليلاً على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم .
{ وَإِن يَدْعُونَ } أي : ما يعبدون من دون الله .
{ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً } وهو إبليس لعنه الله لطاعتهم له في عبادتها ، وإذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه ، كما قال تعالى : { أَلم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشّيْطَانَ } [ يس : 60 ] وقال تعالى : { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكْثَرُهُم بِهِم مّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] والمريد المتمرد العاتي الطاغي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مّفْرُوضاً } [ 118 ]
{ لّعَنَهُ اللّهُ } صفة ثانية لـ ( شيطاناً ) أي : أبعده الله عن رحمته ، فأراد إبعاد مَنْ أبعد بسببه .
{ وَقَالَ } حين أُبْعَد : { لَأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ } أي : الذي أبعدتني بسببهم أي : لأجعلن لي منهم : { نَصِيباً } أي : حظاً .
{ مّفْرُوضاً } أي : مقطوعاً ومقدراً من عبادتهم بأن يعبدوا غيرك ، أو يراؤا فيها ، أو يعجبوا بها ، أو يتلفوها في المظالم ، أو يحبطوها بالكفر بعدها .
قال العلامة أبو السعود ، قوله تعالى : { وَقَالَ } إلخ عطف على الجملة المتقدمة : أي : شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله ، وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن ، ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلاً اختيارياً ، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة ، ثم استدل عليه بأن ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة :
الأول : أنه منهمك في الغي لا يكاد يعلق بشيء من الخير والهدى ، فتكون طاعته ضلالاً بعيداً عن الحق .
والثاني : أنه ملعون لضلاله ، فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال .
والثالث : أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالهم ، فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال ، فضلاً عن عبادته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّا مّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً } [ 119 ]
{ وَلأُضِلّنّهُمْ } أي : عن الهدى .
{ وَلأُمَنّيَنّهُمْ } أي : الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال ، قال الرازيّ : إن الشيطان لما ادعى أنه يضل الخلق قال : { وَلأُمَنّيَنّهُمْ } وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من الأماني في قلوب الخلق ، وطلب ما يورث شيئين : الحرص والأمل ، والحرص والأمل يستلزم أكثر الأخلاق الذميمة ، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإِنسَاْن ، قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان : الحرص والأمل > .
والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين ، فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق ، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقاً في الدنيا ، فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة .
{ وَلآمُرَنّهُمْ } أي : على خلاف أمرك إضلالاً لهم .
{ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأَنْعَامِ } أي : فليقطعنها ويشقنها سِمَة وعلامة للبحائر والسوائب ليحرموها ، بعدما أحللتها ، قال الواحدي رحمه الله : التبتيك : ههنا هو قطع آذان البحيرة ، بإجماع المفسرين ، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، وجاء الخامس ذكراً ثم تسيب وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ، فأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ، ولا يردونها عن ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيى المنقطع به لم يركبها ، وسوّل لهم إبليس أن هذا قربة وهي البحيرة .
قال ابن سيده : بحر الناقة والشاة يبحرها : شق أذنها بنصفين ، وقل بنصفين طولاً .
{ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } أي : دين الله عز وجل ، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وكثيرين ، وهذا كقوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ } [ الروم : 30 ] على قول من جعل ذلك أمراً ، أي : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على فطرتهم .
كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَا تولد الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ، هَلْ تُجدُّونَ بهَا مِنْ جَدْعَاءَ ؟ > .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : قال : الله عز وجل : < إِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء فَجَاءَتْهُمْ الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينهمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ > .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < رأيت عَمْرو بن عامر الخُزَاعِي يجر قُصْبَه في النار ، وكان أول من سيّب السوائب وَبَحَر البحيرة > .
وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً : < أول من غير دين إبراهيم عَمْرو بن لُحيّ بن قمعة بن خندف ، أبو خزاعة > .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : أنه عنى بالآية خصي الدواب ، وقال أنس : منه الخصا .
وقد روى ابن عساكر عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن الإخصاء .
ورواه الإمام أحمد أيضاً عنه بلفظ : نهى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن خصاء الخيل والبهائم .
وروى الطبراني عن ابن مسعود : نهى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يخصى أحد من ولد آدم .
وروى البيهقيّ عن ابن عباس : نهى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن صبر الروح وخصاء البهائم .
وقال الحسن : عنى بالآية الوشم ( بالشين المعجمة ) أخرجه ابن أبي حاتم .
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة : نهى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن الوشم .
وفي الصحيح عن ابن مسعود : < لَعَنَ اللَّه الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالنَّامِصَات وَالْمُتَنَمِّصَات وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّرَات خَلْق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ > ثُمَّ قَالَ : أَلَا أَلْعَن مَنْ لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَعْنِي قَوْله : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما يجري مجراه ، من الوصل في الشعر ، والتفلج ، وهو تفريق الأسنان ، والتنميص ، وهو نتف الشعر في الوجه . انتهى .
قال بعض الزيدية : ويحلق بالوشر ما يفعل في الخد من الشرط للزينة ، وحكى الزجاج عن بعضهم ، في معنى الآية : إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها ، فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل ، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها ، فعبدها المشركون فغيروا خلق الله ، ولا يخفى أن عموم الآية يصدق على جميع المعاني ، إذ كلها من تغيير خلق الله ، فلا مانع من حمل الآية عليها .
قال البيضاوي : قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } أي : عن وجهه وصورته ، أو صفته ، ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي ، وخصاء العبيد ، والوشم والوشر ، واللواط ، والسحق ، ونحو ذلك ، وعبادة الشمس والقمر ، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ، ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى . انتهى .
وهذه الجملة المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالاً أو حالاً ، وما فيها من ( اللامات ) كلها للقسم ، والمأمور به في الموضعين محذوف ، ثقة بدلالة النظم عليه ، ثم حذر تعالى عن متابعته فقال : { وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّا مّن دُونِ اللّهِ } بإيثار ما يدعو إليه ، مجاوزاً ولاية الله ، بترك ما يدعو إليه .
{ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً } أي : بيناً لمصيره إلى النار المؤبدة عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً } [ 120 ]
{ يَعِدُهُمْ } بأنهم الفائزون .
{ وَيُمَنّيهِمْ } أي : ما لا ينالونه .
{ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً } باطلاً وضلالاً ، وإيهام نفعٍ مما ليس فيه إلا الضرر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَلاَ يجدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } [ 121 ]
{ أُوْلَئِكَ } أي : أولياء الشيطان : { مَأْوَاهُمْ } مصيرهم ومآلهم يوم القيامة .
{ جَهَنّمُ وَلاَ يجدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } معدلاً ومفَرّاً ، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومآلهم من الكرامة فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [ 122 ]
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ } أي : صدقت قلوبهم .
{ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } أي : عملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات .
{ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } أي : من تحت غرفها ومساكنها .
{ الأَنْهَارُ } أنهار الخمر والماء واللبن والعسل .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } مقيمين في الجنة ، لا يموتون ولا يخرجون منها .
{ أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّا } صدقاً واقعاً لا محالة ، وكيف لا يكون وعد الله حقاً .
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } وعد وخيراً ، وهو استفهام بمعنى النفي ، أي : لا أحد أصدق منه قيلاً ، لا إله إلا هو لا رب سواه ، وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول في خطبته : < إِنَّ أَصْدَق الْحَدِيث كَلَام اللَّه ، وَخَيْر الْهَدْي هَدْي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرّ الْأُمُور مُحْدَثَاتهَا ، وَكُلّ مُحْدَثَة بِدْعَة ، وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة ، وَكُلّ ضَلَالَة فِي النَّار > .
والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه ، بوعد الله الصادق لأوليائه ، والمبالغة في توكيده ترغيباً للعباد في تحصيله ، و ( القيل ) مصدر ، كالقال والقول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ وَلاَ يجدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلاَ نَصِيراً } [ 123 ]
{ لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ } أي : ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام .
{ وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ } ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] : { لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ } أي : من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله : { وَلاَ يجدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلاَ نَصِيراً } وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلمونَ نَقِيراً } [ 124 ]
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } جملة حالية ، و ( من ) الأولى زائدة عند الأخفش ، وصفة عند سيبويه ، أي : شيئاً من الصالحات .
{ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلمونَ نَقِيراً } أي : لا ينقص من حسناتهم قدر نقير ، وهو النقرة التي على ظهر النواة ، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ، ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان ، والراجع في : { وَلاَ يُظْلمونَ } لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً ، وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلاً على ذكره عند الآخر ، وقوله تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ } وقوله : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ } بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله سبحانه : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } [ البقرة : 81 ] وقوله : { وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } عقيب قوله : { وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً } .
تنبيه :
ما قدمناه من أن الخطاب في قوله تعالى : { لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ } للمشركين وأن قوله تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً } أي : من أهل الكتاب والمشركين - هو الذي يدل عليه سياق الآية ونظمها الكريم كما بينا .
ورواه الطبري عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ، قال الأولان رضي الله عنهما : ( السوء ) ههنا هو الشرك .
وقال الحسن : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً } هو الكافر ، ثم قرأ : { وَهَلْ نُجَازِي إِلّا الْكَفُورَ } .
ولما كان لعموم هذا الخطاب روعة ، وأيّ روعة ، أشفق كثير من الصحابة لأجله .
قال ابن كثير : وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أُخْبِرْت أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه كَيْف الْفَلَاح بَعْد هَذِهِ الْآيَة : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيّ أَهْل الْكِتَاب مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ } ، فَكُلّ سُوء عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < غَفَرَ اللَّه لَك ، يَا أَبَا بَكْر ، أَلَسْت تَمْرَض ؟ أَلَسْت تَنْصَب ؟ أَلَسْت تَحْزَن ؟ أَلَسْت تُصِيبك اللَّأْوَاء > . قَالَ : بَلَى قَالَ : < هُوَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ > .
وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : لما نزلت : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ } شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، فَإِنَّ فِي كُلّ مَا يُصَاب بِهِ الْمُسْلِم كَفَّارَة حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكهَا ، وَالنَّكْبَة يُنْكَبهَا > ، رواه سعيد بن منصور وأحمد ومسلم والترمذيّ والنسائي .
وقال عطاء بن يسار عَنْ أَبِي سَعِيد وَأَبِي هُرَيْرَة إِنَّهُمَا سَمِعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : < مَا يُصِيب الْمُسْلِم مِنْ نَصَب ، وَلَا وَصَب ، وَلَا سَقَم ، وَلَا حَزَن ، حَتَّى الْهَمّ يُهِمّهُ إِلَّا كَفَّرَ اللَّه عنْ سَيِّئَاته > . أَخْرَجَاهُ .
وروى ابن مردويه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قِيلَ يَا رَسُول اللَّه : مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ . قَالَ : < نَعَمْ ، وَمَنْ يَعْمَل حَسَنَة يُجْزَ بِهَا عَشْراً ، فَهَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَاحِدَتُهُ عَشَرَاتِهِ > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مّمّنْ أَسْلم وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ 125 ]
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مّمّنْ أَسْلم وَجْهَهُ لله } أي : أخلص نفسه له تعالى فلم يتخذ رباً سواه .
{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : آت بالحسنات تارك للسيئات ، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفيّ المستلزم لحسنها الذاتيّ ، وقد فسر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الإحسان بقوله : < أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ > .
{ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ } الموافقة لدين الإسلام ، المتفق على صحتها وقبولها .
{ حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الشرك قصداً ، أي : تاركاً له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته ، لا يصده عنه صادّ ، ولا يرده عنه رادّ .
قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمناً ، شرح الإيمان وبين فضله من وجهين :
أحدهما : أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى .
والثاني : أنه الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه [ الصلاة ] والسلام ، وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام .
أما الوجه الأول : فاعلم أن دين الإسلام مبنيّ على أمرين : الاعتقاد ، والعمل .
أما الاعتقاد [ في المطبوع : العتقاد ] : فإليه الإشارة بقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع ، والوجه أحسن أعضاء الإنسان ، فالإنسان إذا عرف بقلبه ربه ، وأقر بربوبيته وعبودية نفسه ، فقد أسلم وجهه لله .
وأما العمل : فإليه الإشارة بقوله : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات ، فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض ، وأيضاً فقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يفيد الحصر ، معناه أنه أسلم نفسه لله ، وما أسلم لغير الله ، وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق ، وإظهار التبرئ من الحول والقوة ، وأيضاً ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله ، فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها .
واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم : إنهم من أولاد الأنبياء ، والنصارى كانوا يقولون : ثالث ثلاثة ، فجميع الفرق استعانوا بغير الله .
وأما الوجه الثاني : في بيان فضيلة الإسلام فهو أن محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه [ الصلاة ] والسلام ، وقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال : { وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 19 ] ، وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ، ولا سجدة لصنمٍٍ ، ولا استعانة بطبيعةٍٍ ، بل كان ديدنه الدعوة إلى الله والإعراض عن كل ما سوى الله ، وهكذا دعوة محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل ، وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم ، وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به ، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولاً عند الكل .
{ وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } أي : صفيّاً خالص المحبة له ، وإظهاره ، عليه السلام ، في موضع الإضمار ، لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح ، وسر هذه الجملة الترغيب في اتباع ملته عليه الصلاة والسلام ، فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغاً مصححاً لتسميته خليلاً ، حقيق بأن يكون اتّباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم ، وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم ، فإن درجة الخلة أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه [ صفه ] به في قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى } [ النجم : 37 ] .
قال كثير من علماء السلف : أي : قام بجميع ما أمر به ، وفي كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير ، وقال تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلماتٍٍ فَأَتَمّهُنّ } [ البقرة : 124 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلم يَكُ مِنَ المشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] الآية .
والخليل ، لغةً : الصديق المختص ، وقال ابن الأعرابيّ : الخليل الصادق .
وقال الزجاج : هو المحب الذي لا خلل في محبته ، وبه فسر الآية ، أي : أحبه محبة تامة لا خلل فيها .
وقال ابن دريد : الخليل من أصفى المودة وأصحّها ، قال : ولا أزيد فيه شيئاً لأنها في القرآن . انتهى .
قال الرازيّ : ذكروا في اشتقاق الخليل وجوهاً :
منها أن خليل الإِنْسَاْن هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره ، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه ، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة ، قيل : لما أطلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ، ودعا القومَ مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس ، ومنعهم عن عبادة الأوثان ، ثم سلّم للنيران ، وولده للقربان ، وماله للضيفان ، جعله الله إماماً للخلق ورسولاً إليهم ، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته ، فلهذه الاختصاصات سماه خليلاً ، لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه . انتهى .
وقوله : ( لأن محبة الله لعبده إلخ منزع كلاميّ لا سلفيّ ) .
ثم قال الرازيّ : وعندي وجه آخر ، وهو أن جوهر الروح ، إذا كان مضيئاً مشرقاً علوياً قليل التعلق بالذات الجسمانية والأحوال الجسدانية ، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف ، أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسماني ، أفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية ، صار مثل هذا الإِنسَاْن متوغلاً في عالم القدس والطهارة ، متبرئاً عن علائق الجسم والحسّ ، ثم لا يزال هذا الإِنسَاْن يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله ، ولا يسمع إلا الله ، ولا يتحرك إلا بالله ، ولا يسكن إلا بالله ، ولا يمشي إلا بالله ، فكأن نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية ، وتخلل فيها وغاص في جواهرها ، وتوغل في ماهياتها ، فمثل هذا الإِنسَاْن هو الموصوف ، حقاً ، بأنه خليل ، لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه ، وإليه الإشارة بقول النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، في دعائه : < اللَّهُمَّ ! اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً ، وَفِي سَمْعِي نُوراً ، وَفِي بَصَرِي نُوراً ، وفي عَصبي نوراً > . انتهى .
قال الإمام العلامة شمس الدين بن القيّم في كتابه " الجواب الكافي " : الخُلَّة تتضمن كمال المحبة ونهايتها ، بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه ، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجهٍٍ ما ، وهذا المنصب خاص للخليلين صلوات الله وسلامه عليهما : إبراهيم ومحمد ، كما قال صلى الله عليه وسلم : < إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً > .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لو كنتُ متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل الله > .
وفي حديث آخر : < إني أبرأ إلى كل خليل من خلته > .
ولما سأل إبراهيم عليه السلام الولد ، فأُعْطِيه ، فتعلق حبه بقلبه ، فأخذ منه شعبة ، غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره ، فأمر بذبحه ، وكان الأمر في المنام ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاءً وامتحاناً ، ولم يكن المقصود ذبح الولد ، ولكن المقصود ذبحه من قلبه ، ليخلص القلب للرب ، فلما بادر الخليل عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال ، وقدم محبة الله على محبة ولده ، حصل المقصود ، فرفع الذبح وفدي بذبح عظيم ، فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأساً ، بل لا بد أن يبقى بعضه أو بدله ، كما أبقى شريعة الفداء ، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة ، وكما أبقى الخمس الصلوات بعد رفع الخمسين ، وأبقى ثوابها ، وقال : { مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ } [ ق : 29 ] ، هي خمس في الفعل وخمسون في الأجر .
ثم قال ابن القيّم قدس سره : وأما ما يظنه بعض الظانين ؛ أن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله ومحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حبيب الله ، فمن جهله ، فإن المحبة عامة والخلة خاصة ، والخلة نهاية المحبة ، وقد أخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، ونفى أن يكون له خليل غير ربه ، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم .
وأيضاً فإن الله سبحانه : { يُحِب التّوّابِينَ } [ البقرة : 222 ] ، { وَيُحِبّ المتَطَهّرِينَ } [ البقرة : 222 ] ، و : { يُحِبّ الصّابِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 146 ] و : { يُحِبّ المحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] ، و : { يُحِبّ المتّقِينَ } [ آل عِمْرَان : 76 ] ، و : { يُحِبّ المقْسِطِينَ } [ الممتحنة : 8 ] ، وخلته خاصة بالخليلين عليهما الصلاة والسلام ، والشاب التائب حبيب الله ، وإنما هذا عن قلة العلم والفهم عن الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
وقد تمسك من زعم أن المحبة أصفى من الخلة بما رواه ابن مردويه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍٍ رضي الله عنهما قَالَ : جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ ، فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ ، وإذا بَعْضُهُمْ يَقُولَ : عَجَباً إِنَّ اللَّهَ [ عَزَّ وَجَلَّ ] اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلاً ، فإِبْرَاهِيمَ خَلِيلهُ .
وَقَالَ آخَرُ : مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أن كَلمِ مُوسَى تَكْلِيماً .
وَقَالَ الآخَرُ : فَعِيسَى رُوح اللَّهِ وَكَلِمَته .
وَقَالَ آخَرُ : آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ : < قَدْ سَمِعْتُ كَلاَمَكُمْ وَتعَجَبَكُمْ ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَمُوسَى كَليمه ، وَعِيسَى رُوحُه وَكَلِمَتُه ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وكذلك محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : أَلاَ وَأَني حَبِيبُ اللَّهِ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍٍ وَلاَ فَخْرَ ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَة الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِيَ وَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يوم القيامة وَلاَ فَخْرَ > .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها . انتهى .
قلت : ورواه الترمذيّ أيضاً في جامعه في فضائله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ثم قال : هذا حديث غريب .
وظاهر أن قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : ألا وإني حبيب الله ، لا يدل على أن درجة المحبة أرفع ، لأنه لم يورد للتفاضل بينهما ، وإنما سيقت هذه الجملة مع ما بعدها للتعريف بقدره الجسيم ، وفضله العظيم ، وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبلُ في مخلوق ، وما يُدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق : { لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً } [ المدثر : 31 ] .
وروى ابن أبي حاتم عن إسحاق بن يسار قال : " لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل ، حتى إن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء" ، وهكذا جاء في صفة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل ، إذا اشتد غليانها ، من البكاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ مّحِيطاً } [ 126 ]
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } جملة مبتدأة ، سبقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السماوات والأرض ، ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات ، له تعالى خلقاً وملكاً ، لا يخرج عن ملكوته شيء منها ، فيجازي كلاًّ بموجب أعماله خيراً وشرّاً .
وقيل : لبيان أن اتخاذه عز وجل لإبراهيم عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين ، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم ، بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام .
وقيل : لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية .
وقيل : لبيان أن اصطفاءه عليه السلام للخلة ، بمحض مشيئته تعالى ، أي : له تعالى ما فيهما جميعاً ، يختار منهما ما يشاء لمن يشاء ، ، أفاده أبو السعود .
{ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ مّحِيطاً } يعني عالماً عِلْمَ إحاطة ، لا تخفى عليه خافية من عباده : { لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ } [ يونس : 61 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاء الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } [ 127 ]
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء } أي : ويسألونك الإفتاء في النساء ، والإفتاء تبيين المبهم .
{ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } ذكروا في ( ما ) وجوهاً : المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ ، وهو لفظ الجلالة ، أي : والمتلوّ في الكتاب يفتيكم فيهن أيضاً ، أو بالعطف على ضميره في : { يُفْتِيكُمْ } وساغ ، لمكان الفصل بالمفعول والجار والمجرور ، وذلك المتلوّ في الكتاب هو قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } .
قال الرازي : وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء ، فما كان منها غير مبين الحكم ، ذكر أن الله يفتيهم فيها ، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ، ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها ، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاءً من الكتاب ، ألا ترى أنه يقال في المشهور : إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم ، وكما جاز هذا ، جاز أيضاً أن يقال : إن كتاب الله أفتى بكذا .
قال أبو السعود : وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامِهَا ، وفي " الكتاب " إما متعلق بـ ( يتلى ) أو بمحذوف وقع حالاً من المستكنّ فيه ، أي : يتلى كائناً فيه : { فِي يَتَامَى النّسَاء } متعلق بـ ( يتلى ) أي : ما يتلى عليكم في شأنهن ، وهذه الإضافة بمعنى ( من ) لأنها إضافة الشيء إلى جنسه ، وقيل : من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : النساء اليتامى .
{ الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ } أي : ما وجب لهن من الميراث وغيره .
{ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ } روى البخاريّ ومسلم عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت ، في هذه الآية : هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ ، هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا ، فَأَشْرَكَتْهُ في مَالِهِ حَتَّى في الْعِذْقِ ، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلاً ، فَيَشْرَكُهُ في مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ .
وعنها أيضاً قالت : وقول الله عز وجل : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ } رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عن يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ في حَجْرِهِ ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا في مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ ، أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ .
وهذا المروي عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة ، وأن الجار المقدّر مع ( أن ) هنا هو ( عن ) ، وقد تأولها سعيد بن جبير على المعنيين ، أي : تقدير ( عن ) و ( في ) فقال نزلت في المعدمة والغنية .
قال الحافظ ابن حجر : والمرويّ عن عائشة أوضح ، في أن الآية الأولى ، أي : التي في أول السورة ، نزلت في الغنية ، وهذه الآية نزلت في المعدمة .
قال ابن كثير : وَالْمَقْصُود أَنَّ الرَّجُل إِذَا كَانَ فِي حِجْره يَتِيمَة يَحِلّ لَهُ تَزْوِجهَا ، فَتَارَة يَرْغَب فِي أَنْ يَتَزَوَّجهَا ، فَأَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُمْهِرهَا ، أُسْوَة أَمْثَالهَا مِنْ النِّسَاء ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَلْيَعْدِلْ إِلَى غَيْرهَا مِنْ النِّسَاء ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَة الْأُولَى الَّتِي فِي أَوَّل السُّورَة ، وَتَارَة لَا يَكُون له فِيهَا رَغْبَة ، لِدَمَامَتِهَا عِنْده ، أَوْ فِي نَفْس الْأَمْر ، فَنَهَاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْضُلهَا عَنْ الْأَزْوَاج خَشْيَة أَنْ يُشْرِكُوهُ فِي مَاله الَّذِي بَيْنه وَبَيْنهَا ، كَمَا قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الْآيَة ، وَهِيَ قَوْله : { فِي يَتَامَى النِّسَاء } الْآيَة : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة تَكُون عِنْده الْيَتِيمَة فَيُلْقِي عَلَيْهَا ثَوْبه ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِر أَحَد أَنْ يَتَزَوَّجهَا أَبَداً ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَة وَهَوِيَهَا تَزَوَّجَهَا وَأَكَلَ مَالهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَة مَنَعَهَا الرِّجَال أَبَداً حَتَّى تَمُوت ، فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا ، فَحَرَّمَ اللَّه ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ .
تنبيه
ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين ، أي : أن حرف الجر المقدرّ مع ( أن ) هو ( عن ) و ( في ) ، وأن كلاًّ منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين .
قال الخفاجيّ : مثله لا يعدّ لبساً بل إجمالاً ، كما ذكره بعض المحققين . انتهى .
قلت : وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد ، والإجمال أن لا تتضح الدلالة ، وبعبارة أخرى : إيراد الكلام على وجه يحتمل أموراً متعددة ، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال :
~والفرق بين اللِّبس والإجمال مما به يُهتم في الأقوال
~فاللفظ ، إن أفهم غير القصد فاحكم على استعماله بالرد
~لأنه اللِّبس ، وأما المجمل فربما يفهمه من يعقل
~وذاك أن لا تفهم المخالفا ولا سواه بل تصير واقفا
~وحكمه القبول في الموارد فحفظه نظماً أعظم الفوائد
{ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } عطف ( على يتامى النساء ) ، وما يتلى في حقهم : قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } إلخ ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم ، كما لا يورثون الرجال القوّام .
قال ابن عباس ، في الآية : كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : { لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فنهى الله عن ذلك ، وبيّن لكل ذي سهم سهمه .
فقال : { لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } صغيراً أو كبيراً ، وكذا قال سعيد بن جُبير .
{ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } بالجر ، عطف على ما قبله ، وما يتلى في حقهم : قوله تعالى : { وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر .
قال سعيد بن جبير : المعنى : كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال ، فأنكحها واستأثر بها ، والخطاب للولاة ، أو للأولياء أو الأوصياء .
تنبيه :
استنبط من آية أحكام :
الأول : جواز نكاح الصغيرة ، لأن اليتيم : الصغير الذي لم يبلغ ، وفي الحديث عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < لا يُتْمَ بَعْدَ احتِلام > ، رواه أبو داود .
وعن الأصم : أراد البوالغ قبل التزوج ، وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم ، والأول أظهر ، لأنه الحقيقة ، قالوا : قد يطلق اليتيم على البالغة ، وبدليل قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < تُستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إِذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها > ، رواه أهل السنن ، والاستئمار لا يكون إلا من البالغة ، وقد ورد قول الشاعر :
~إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى
فسمى البالغات يتامى ، لانفرادهن عن الأزواج ، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم ، كقولهم : درة يتيمة ، وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء :
الأولى : جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء ، وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه .
الثاني : للناصر والشافعي : لا يجوز ذلك إلا للأب والجد .
والثالث : لا يجوز ذلك إلا للأب فقط ، وهذا قول الأوزاعي ، ومروي عن القاسم ، دليل الأولين ، ما اقتضاه قوله تعالى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } وهي نزلت في شأن اليتيمة بنكحها وليها ولا يقسط لها في المهر ، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يقسطوا في المهر بقوله في سورة النساء : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } واليتم الحقيقيّ مع الصغر ، وغيره مجاز ، وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح ، ابن العم ، فإذا صح فيه صح ، وحجة القول الثاني قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < تُستأمر اليتيمة > ، الحديث المتقدم ، والإذن لا يكون إلا بعد البلوغ .
وروى الإمام أحمد والدارقطنيّ : أن قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍٍ زوج ابنة أخيه ، وكان وصيها ، ممن أبته ، فرفع ذلك إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال : < هِيَ يَتِيمَةٌ وَلاَ تُنْكَحُ إِلاَّ بِإِذْنِهَا > ، كذا ذكره بعض مفسري الزيدية .
وتخريج الأحاديث من زيادتي ، وما نقله من أن الإذن لا يكون إلا بعد البلوغ يحتاج إلى دليل ، إذ لا يدل عليه الخبر بمنطوقه ولا مفهومه .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وفي حديث : < لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ > : ظاهر الحديث اشتراط رضاء المزوجة ، بكراً كانت أو ثيباً ، صغيرةً أو كبيرةً . انتهى .
قال الترمذيّ في " جامعه " : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْيَتِيمَةِ حَتَّى تَبْلُغَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : إِذَا بَلَغَتِ الْيَتِيمَةُ تِسْعَ [ في المطبوع سبع ] سِنِينَ فَزُوِّجَتْ فَرَضِيَتْ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلاَ خِيَارَ لَهَا إِذَا أَدْرَكَتْ . وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِهَا وَهِىَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ . وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ . انتهى .
الحكم الثاني : أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح ، لقوله : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ } وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد ، أن أُمِّ حَكِيمٍٍ بِنْتِ قَارِظٍٍ قالت لعبد الرحمن بن عوف : إنه قد خطبني غير واحد ، فزوجني أيّهم رأيت ، قال : وتجعلين ذلك إليّ ؟ فقالت : نعم ، قال : قد تزوجتك ، قال ابن أبي ذئب : فجاز نكاحه .
وروى عبد الرزاق ووكيع والبيهقيّ أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليّها ، فأمر أبعد منه ، فزوجه .
وروى عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : امرأة خطبها ابن عم لها ، لا رجل لها غيره ، قال : فلتشهد أن فلاناً خطبها ، وإني أشهدكم أني قد نكحته ، ولتأمر رجلاً من عشيرتها .
أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاريّ في " صحيحه " تعليقاً في ( باب إذا كان الولي هو الخاطب ) أي : هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى وليّ آخر .
قال ابن المنير : ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معاً ، ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد .
قال الحافظ ابن حجر : لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز ، فإن الآثار التي فيها أسر الوليّ غيره أن يزوجه - ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه .
ثم قال : وقد اختلف السلف في ذلك ، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه : يزوج الوليّ نفسه : ووافقهم أبو ثور .
وعن مالك : لو قالت الثيب لوليها : زوجني بمن رأيت ، فزوجها من نفسه ، أو ممن اختار ، لزمها ذلك ، ولو لم تعلم عين الزوج .
وقال الشافعيّ : يزوجهما السلطان أو وليّ آخر مثله ، أو أقعد منه ، ووافقه زفر وداود ، وحجتهم أن الولاية شرط في العقد ، فلا يكون الناكح منكحاً ، كما لا يبيع من نفسه . انتهى .
الحكم الثالث : أنه يجوز للأولياء التصرف في المال ، لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك .
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍٍ } لا سيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم .
{ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } فيجزيكم به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 128 ]
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا } أي : زوجها .
{ نُشُوزا } : أي : تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها ، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها .
{ أَوْ إِعْرَاضاً } أي : تطليقاً ، أو أن يقلّ محادثتها ومجالستها ، كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها .
{ فَلاَ جُنَاْحَ } أي : لا إثم : { عَلَيْهِمَا } حينئذ .
{ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } بحطِّ شيء من المهر أو النفقة : أو هبة شيء من مالها أو قَسْمِها ، طلباً لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك ، وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها .
قال في " الإكليل " : الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القَسْم وغيره ، استدل به من أجاز لها بيع ذلك .
{ وَالصّلْحُ خَيْرٌ } أي : من الفرقة والنشوز والإعراض .
قال ابن كثير : بَلْ الطَّلَاق بَغِيض إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَبْغَض الْحَلَال إِلَى اللَّه الطَّلَاق > .
قال بعض مفسري الزيدية : وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة ، لقوله تعالى : { وَالصّلْحُ خَيْرٌ } أي : من الفرقة وسوء العشرة ، أو خير من الخصومة ، أو خير من الخيور ، كما أن الخصومة شر من الشرور ، وقد كان من كرم أخلاقه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها ، وعنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إنَّه مِنْ أبَرَّ البِرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أهْلُ وُدِّ أبيه > ، وهذا فيه صبر ، وفي الصبر ما لا يحصر من المحاسن والفضائل ، والصلح فيه من أنواع الترغيب .
روى عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد > ، وعن أنس : < من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة > . انتهى .
وفي " الإكليل " قوله تعالى : { وَالصّلْحُ خَيْرٌ } عام في كل صلح ، أصل فيه .
وفي الحديث : < الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، إلاَّ صُلْحاً ، أحلّ حراماً ، أو حرَّمَ حلالاً > .
واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول : { وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشّحّ } بيان لما جبل عليه الإِنسَاْن ، أي : جعلت حاضرة له مطبوعة عليه ، لا تنفك عنه أبداً ، فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز ، والإعراض ، وحقوقها من الرجل ، ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي ، إذا كرهها أو أحب غيرها ، والجملة الأولى للترغيب في المصالحة ، والثانية لتمهيد العذر في المشاحة وللحث على الصلح ، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبليّة بغيرها استمالة ، مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته ، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قِبَلِهَا بشيء يسير ، ولا يكلفها بذل الكثير ، فيتحقق بذلك الصلح .
{ وَإِن تُحْسِنُواْ } في العشرة .
{ وَتَتّقُواْ } النشوز والإعراض ونقص الحق .
{ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من تحمل المشاق في ذلك .
{ خَبِيراً } فيجازيكم ويثيبكم ، قال أبو السعود : وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات ، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ، ولفظ : ( التقوى ) المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه ، وترتيب الوعد الكريم عليه - من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة ، ما لا يخفى .
وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف ، صحابة وتابعين في معناها .
قال ابن كثير : ولا أعلم في ذلك خلافاً .
وفي البخاريّ عن عائشة ، في هذه الآية قَالَتِ : الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ المُسنة ، لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍٍ مِنْهَا ، يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا ، فَتَقُولُ : أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي في حِلٍٍّ . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ .
وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال : جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فسأله عن قول الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } الآية ، قَالَ عَلِيّ : يَكُون الرَّجُل عِنْده الْمَرْأَة ، فَتَنْبُو عَيْنَهُ عَنْهَا مِنْ دَمَامَتهَا ، أَوْ كِبَرهَا ، أَوْ سُوء خُلُقهَا ، أَوْ قُذَذهَا ، فَتكَرِهَ فِرَاقه ، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرهَا شَيْئاً حَلَّ لَهُ ، وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ أَيَّامهَا فَلَا حَرَج .
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ واِبْن جَرِير .
وَرَوَى اِبْن جَرِير أيضاً عن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ، وروى سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ عُرْوَة قَالَ : أَنْزَلَ فِي سَوْدَة وَأَشْبَاههَا : { وَإِنْ اِمْرَأَة } الآية ، وَذَلِكَ أَنَّ سَوْدَة كَانَتْ اِمْرَأَة قَدْ أَسَنَّتْ ، فَفَرَقَتْ أَنْ يُفَارِقهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَضَنَّتْ بِمَكَانِهَا مِنْهُ وَعَرَفَتْ مِنْ حُبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَة وَمَنْزِلَتهَا مِنْهُ ، فَوَهَبَتْ يَوْمهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وروى نحوه أبو داود الطيالسي والترمذيّ عن ابن عباس .
وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له : يا ابن أختي ! كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا يُفضِّل بعضَنا على بعض في القَسْم من مُكثه عندنا ، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا ، فيدنو من كل امرأة من غير مَسيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها ، فيبيت عندها ، ولقد قالت سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، حين أَسَنَّت وفَرَقَتْ أن يُفارقها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : يا رسول الله ! يومي هذا لعائشة ، فَقَبِلَ ذلك رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم منها ، قالت : نقول في ذلك أنزل الله تعالى ، وفي أشباهها ، أراه قال : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } الآية .
وكذلك رواه أبو داود ، وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعائشة ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِها بِيَوْمِ سَوْدَة .
ولا يخفى أن قبوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذلك من سودة ، إنما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام .
وقول بعض المفسرين في هذه القصة : أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان عزم على طلاق سودة - باطل وسوء فهم من القصة ، إذ لم يُرْوَ عزمه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على ذلك ، لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد ، غاية ما روي في السنن ؛ أن سودة خشيت الفراق لكبرها ، وتوهمته ، وجلي أن للنساء في باب الغيرة أوهاماً منوعة ، فتقدمت للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بقبول ليلتها لعائشة ، فقبل منها .
وما رواه ابن كثير عن بعض المعاجم من كونه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعث إليها بطلاقها ، ثم ناشدته فراجعها - فهو ( زيادة عن إرساله وغرابته ، كما قاله ) فيه نكارة لا تخفى .
لطيفة :
حكى الزمخشري هنا ؛ أن عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ الخارجيّ كان من أدمّ بني آدم ، وامرأتهُ من أجملهم ، فأجالت في وجهه نظرها يوماً ، ثم تابعت الحمد لله ، فقال : مالكِ ؟ قال : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة ، قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرتَ ، ورزقت مثلك فصبرتُ ، وقد وعد الله الجنة ، عباده الشاكرين والصابرين . انتهى .
قلت : عِمْرَان المذكور ممن خرج له البخاريّ في صحيحه ، ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته ؟ فقالت : أوجز أم أطنب ؟ فقيل : أوجزي ، فقالت : ما قدمت له طعاماً بالنهار ، وما مهدت له فراشاً بالليل ، تعني أنه كان صواماً قواماً رحمه الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَميلُواْ كُلّ الميلِ فَتَذَرُوهَا كَالمعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } [ 129 ]
{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء } أي : تساووا بينهن في جميع الوجوه ، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن ، في شأن من الشؤون ، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع ، كما قاله ابن عباس وغيره .
{ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي : على إقامة العدل ، وبالغتم في ذلك ، لأن الميل يقع بلا اختيار في القلب .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ، ثم يَقُولُ : < اللَّهُمَّ ! هَذِهِ قِسْمَِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ > . يعني القلب ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن .
{ فَلاَ تَميلُواْ كُلّ الميلِ } أي : إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل إليها ، وقال المهايميّ : فلا تميلوا ، أي : عن امرأة كل الميل فتتركوا المستطاع من القسط .
{ فَتَذَرُوهَا } أي : التي ملتم عنها .
{ كَالمعَلّقَةِ } بين السماء والأرض ، لا تكون في إحدى الجهتين ، لا ذات زوج ولا مطلقة .
وروى أبو داود الطيالسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فمال إلى إِحْدَاهُمَا ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وأَحَدَ شِدقَّيْهِ سَاقِط > .
كذا رأيته في ( ابن كثير ) شدقيه ، بشين معجمة ثم دال .
ورواية أصحاب السنن المنقولة : وشقه ( بمعجمة ثم قاف ) ساقط ، وفي رواية : مائل .
{ وَإِن تُصْلِحُواْ } أي : نفوسكم بالتسوية والقسمة والعدل فيما تملكون : { وَتَتّقُواْ } الحيف والجور : { فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } فيغفر لكم ما سلف من ميلكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً } [ 130 ]
{ وَإِن يَتَفَرّقَا } أي : الزوج والمرأة بالطلاق ، بأن لم يتفق الصلح بينهما ، فاختاروا الفرقة .
{ يُغْنِ اللّهُ كُلاّ } أي : منهما ، أي : يجعله مستغنياً عن الآخر .
{ مّن سَعَتِهِ } أي : غناه وجوده وقدرته ، وفيه زجر لهما عن المفارقة رغماً لصاحبه ، وتسلية لهما بعد الطلاق .
{ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً } أي : واسع الفضل : { حَكِيماً } في جميع أفعاله وأقداره وشرعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّا حَميداً } [ 131 ]
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته أي : كيف لا يكون واسعاً وله ما فيهما من الخلائق والأرزاق وغيرهما ؟ فله أن يعطي ما شاء منهما لمن شاء من عبيده ، وعلى هذا ، فهي متعلقة بما قبلها ، أو أتى بها تمهيداً لما بعدها من العمل بوصيته ، إعلاماً بأنه مالك ما في السماوات والأرض والحاكم فيهما ، ولهذا قال : { وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : من الأمم السابقة .
و : { الْكِتَابَ } اسم جنس يتناول الكتب السماوية : { وَإِيّاكُمْ } معطوف على ( الذين ) .
{ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ } أي : وصينا كلاً منكم ومنهم بالتقوى ، وهي عبادته وحده ، لا شريك له ، والمعنى : أن وصيته قديمة ما زال يوصي الله بها عباده ، ولستم بها مخصوصين ، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده .
{ وَإِن تَكْفُرُواْ } أي : بالله .
{ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أي : فهو مالك الملك كله ، لا يضره كفركم ، لغناه المطلق ، فما الوصية إلا لفلاحكم رحمة بكم ، كما في الآية الأخرى .
{ إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَميعاً فَإِنّ اللّهَ لَغَنِيّ حَميدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، وقال تعالى : { فَكَفَرُوا وَتَوَلّوا وّاسْتَغْنَى اللّهُ } [ التغابن : 6 ] : { وَكَانَ اللّهُ غَنِيّا } عن عباده : { حَميداً } أي : محموداً في ذاته ، حمدوه أو لم يحمدوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } [ 132 ]
{ وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ذكره ثالثاً ، إما لتقرير كونه تعالى غنياً حميداً فإن جميع المخلوقات تدل ، بحاجتها على غناه ، وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات ، على كونه حميداً ، وإما تمهيداً للاحقه من الشرطية ، وهو بيان كونه تعالى قادراً على جميع المقدورات ، أي : له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقاً وملكاً ، فهو قادر على الإفناء والإيجاد ، فإن عصيتموه ، أيها الناس ، فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية ، وعلى أن يُوجِدَ قوماً آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه ، فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور في سياقها ، كما بيّنا .
قال الرازيّ : إذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة ، فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل له على المدلول الثالث ، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ، لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى ، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال ، وأيضاً ، فإذا أعدته ثلاث مرات ، وفرعّت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله ، تنبِّه الذهن حينئذ لكون تخليق السماوات والأرض دالاً على أسرار شريفة ومطالبه جليلة ، فعند ذلك يجتهد الإِنسَاْن في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام ، عن الاشتغال بغير الله ، إلى الاستغراق في معرفة الله ، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده ، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال . وانتهى .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } أي : رباً حافظاً توكل بالقيام بجميع ما خلق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً } [ 133 ]
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي : يُفْنِكم ويستأصلكم بالمرّة .
{ أَيّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } أي : ويوجد ، دفعة مكانكم ، قوماً آخرين من البشر ، أو خلقاً آخرين مكان الإنس ، يعني أن إبقائكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم بالبالغة بإفنائكم ، لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِك } أي : إهلاككم بالمرة وتخليق غيركم : { قَدِيراً } بليغ القدرة ، كما قال تعالى : { وَإِن تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : 38 ] ، وقال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍٍ جَدِيدٍٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍٍ } [ إبراهيم : 19 ] ، ففيه تقرير لغناه وقدرته ، وتهديد لمن كفر به ، قال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره !

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَميعاً بَصِيراً } [ 134 ]
{ مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا } كالمجاهد يجاهد للغنيمة : { فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : فما له يطلب أخسهما ، فيطلبهما ، أو الأشرف منهما ، كما قال تعالى : { فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍٍ وِمِنْهُم مّن يَقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ البقرة : 200 - 202 ] ، وقال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } [ الشورى : 20 ] الآية ، وقال تعالى : { مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لمن نّرِيدُ } [ الإسراء : 18 ] الآية ، قال بعضهم : عُني بالآية مشركو العرب ، فإنهم كانوا يقرون بالله تعالى ، خالقهم ، ولا يقرون بالبعث يوم القيامة ، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها .
{ وَكَانَ اللّهُ سَميعاً بَصِيراً } فلا يخفى عليه خافية ، ويجازي كلاً بحسب قصده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّا أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 135 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامينَ بِالْقِسْطِ } أي : مقتضى إيمانكم المبالغة والاجتهاد في القيام بالعدل والاستقامة ، إذ به انتظام أمر الدارين الموجب لثوابهما ، ومن أشده القيام بالشهادة على وجهها ، فكونوا : { شُهَدَاء لِلّهِ } أي : مقيمين للشهادة بالحق ، مؤدين لها لوجهه تعالى .
{ وَلَوْ } كانت الشهادة : { عَلَى أَنفُسِكُمْ } فاشهدوا عليها بأن تقروا بالحق عليها ولا تكتموه .
{ أَوِ } على : { الْوَالِدَيْنِ } أي : الأصول : { وَالأَقْرَبِينَ } أي : الأولاد والإخوة وغيرهم ، فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد .
{ إِن يَكُنْ } أي : من تشهدون عليها : { غَنِيّا } يبتغي في العادة رضاه ويتقي سخطه .
{ أَوْ فَقَيراً } يترحم عليه غالباً ، أو يخاف من الشهادة عليه أن يلجئ الأمر إلى أن يعطي ما يكفيه .
{ فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي : من المشهود عليه ، واعلم بما فيه صلاحهما ، فلولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها ، لأن أنظر لعباده من كل ناظر .
{ فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } أي : إرادة العدول عن أمر الله الذي هو مصلح أموركم ، وأمور المشهود عليهم ، لو نظرتم ونظروا إليه .
قال ابن كثير : أي : لَا يَحْمِلَنكُمْ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّة وَبُغْض النَّاس إِلَيْكُمْ ، عَلَى تَرْك الْعَدْل فِي شُؤُونكُمْ ، بَلْ اِلْزَمُوا الْعَدْل عَلَى أي : حَال كَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنكُمْ شَنَآن قَوْم عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَب لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] .
وَمِنْ هَذَا قَوْل عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُص عَلَى أَهْل خَيْبَر ثِمَارهمْ وَزَرْوعهمْ ، فَأَرَادُوا أَنْ يُرْشُوهُ لِيَرْفُق بِهِمْ ، فَقَالَ : وَاَللَّه ! لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْد أَحَبّ الْخَلْق إِلَيَّ ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَض إِلَيَّ مِنْ أَعْدَائكُمْ مِنْ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير ، وَمَا يَحْمِلنِي حُبِّي إِيَّاهُ ، وَبُغْضِي لَكُمْ عَلَى أَنْ لَا أَعْدِل فِيكُمْ ، فَقَالُوا : بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض .
{ وَإِن تَلْوُواْ } أي : تحرفوا ألسنتكم عن الشهادة على وجهها : { أَوْ تُعْرِضُواْ } أي : عنها بكتمها .
{ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فيجازيكم على ذلك ، قال تعالى : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : لهذه الآية ثمرات ، هي أحكام :
الأول : وجوب العدل على القضاة والولاة ، وأن لا يعدل عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب من غنى أو فقر أو قرابة ، بل يستوي عنده الدنيء والشريف والقريب والبعيد ، ويروى أن عمر أقام حداً على ولد له ، فذاكره في حق القرابة ، فقال : إذا كان يوم القيامة شهدت عند الله أن أباك كان يقيم عليك الحدود .
الحكم الثاني : أنه يجب الإقرار على من عليه الحق ولا يكتمه ، لقوله تعالى : { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } والمراد بالشهادة على النفس الإقرار ، وهذا ظاهر .
وقيل المعنى : ولو كانت الشهادة وبالاً ومضرة على أنفسكم وآبائكم ، بأن تكون الشهادة على سلطان ظالم ، وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء إذا خشي مضرة دون القتل ، هل يجب عليه الشهادة أم لا ؟ فقيل : يجب لأنه لا يحفظ ماله بتلف مال غيره .
وعن الشافعية والمتكلمين ، وصحح للمذهب ، أنه لا يجب ، لأن الشهادة أمر بمعروف ، وشرطه أن لا يؤدي إلى منكر ، ولكن إنما يسقط عنه أداء الشهادة بحصول الظن لمضرته ، لا بمجرد الخشية ، وقد قال المؤيد بالله في " الإفادة " : على الشاهد أن يشهد وإن خشي على نفسه وماله ، لأن الذي يخشاه مظنون ، ولعله غير كائن ، يؤول على أن مراده مجوَّز لا أنه قد ظن حصول المضرة ، وهذا يجوز له الشهادة مع الخشية على نفسه ، قال في " شرح الإبانة " : يجوز إذا كان قتله إعزازاً للدين ، كالنهي عن المنكر ، أما لو كتم لغير عذر فلا إشكال في عصيانه ، وعن ابن عباس : ذلك من الكبائر .
الحكم الثالث : يتعلق بقوله تعالى : { شُهَدَاء لِلّهِ } أي : تشهدون لوجه الله كما أمركم ، وفي هذا دلالة على أن أخذ الأجرة على تأدية الشهادة لا يجوز ، لأنه لم يقمها لله ، وقد استثنى أهل الفقه صوراً جوزوا أخذ الأجرة على تأدية الشهادة ، منها : إذا طلب إلى موضع ، لأن الخروج غير واجب عليه ، ومنها : إذا كان غيره يشهد ويحصل به الحق ، فإن شهادته غير لازمة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 136 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } أي : اثبتوا على إيمانكم : { بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى رَسُولِهِ } محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يعني القرآن : { وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } على الرسل ، بمعنى الكتب : { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : خرج عن الهدى وبعد عن القصد كل البعد ، ما الكفر بالله فظاهر ، وأما بالملائكة فلأنهم المقربون إليه ، وأما بالكتب فلأنها الهادية إليه ، وأما بالرسل فلأنهم الداعون ، وأما باليوم الآخر فلأن فيه نفع إقامته وضرر تركه ، فإذا أنكر لزم إنكار النفع الحقيقي والضرر الحقيقي فهو الضلال البعيد ، ثم الكفر بالملائكة كفر بمظاهر باطنة ، وبالكتب كفر بمظاهر صفة كلامه ، وبالرسل كفر بأتم مظاهره ، وباليوم الآخر كفر بدوام ربوبيته وعدله ، ثم الكفر بالملائكة يدعو إلى الإيمان بالشياطين ، ويكتب الله إلى الإيمان بكتب الكفرة ، وبالرسل إلى تقليد الآباء ، وباليوم الآخر إلى الاجتراء على القبائح ، وكل ذلك ضلال بعيد ، أفاده المهايميّ .
ولما أمر تعالى بالإيمان ورغب فيه ، بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } [ 137 ]
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } في الآية وجوه :
الأول : أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد ، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه ، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف ، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله ، لأن قول أولئك الذين هذا ديدنهم ، قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه ، حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى ، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ، ونصحت توبتهم ، لم يقبل منهم ولم يغفر لهم ، لأن ذلك مقبول ، حيث هو بذلٌ للطاقة واستفراغ الوسع ، ولكنه استبعاد له واستغراب ، وإنه أمر لا يكاد يكون ، وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ، ثم يتوب ثم يرجع ، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات ، والغالب أنه يموت على الفسق ، فكذا هنا .
الثاني : قال بعضهم : هم اليهود ، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل ، ثم آمنوا بعد عوده إليهم ثم كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفراً بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليسوا مؤمنين بموسى ، ثم كافرين بالعجل ، ثم مؤمنين بالعود ، ثم كافرين بعيسى ، بل هم إما مؤمنون بموسى وغيره ، أو كفار لكفرهم بعيسى والإنجيل ، والجواب : أن هذا إنما يرد لو أريد قوم بأعيانهم للموجودين وقت البعثة ، أما لو أريد جنس ونوع ، باعتبار عدّ ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم ، فلا إيراد ، والمقصود حينئذ استبعاد إيمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم .
الثالث : قال آخرون : المراد المنافقون ، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام ، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم ، وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم ، والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعاً من المسلمين قالوا إنا مؤمنون ، والكفر الثاني هو أنهم : { إِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } [ البقرة 14 ] ، وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين ، وإظهار الإيمان قد يسمى إيماناً ، قال تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ المشْرِكَاتِ حَتّى يُؤْمِنّ } [ البقرة : 221 ] .
قال القفال رحمه الله : وليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم ، كما قال : { مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } قال : والذي يدل عليه ، قوله تعالى بعد هذه الآية : { بَشّرِ المنَافِقِينَ } .
الرابع : قال قوم : المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر تارة أخرى ، على ما أخبر الله تعالى عنهم : { آمِنُواْ بِالّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عِمْرَان : 72 ] ، وقوله : { ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً } معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام .
نقل هذه الوجوه الزمخشريّ والرازيّ وغيرهما ، وكلها مما يشمله لفظ الآية .
تنبيه :
في الآية مسائل :
الأولى : قال في " الإكليل " : استدل بها من قال : تقبل توبة المُرتد ثلاثاً ، ولا تقبل في الرابعة .
وقال بعض الزيدية ( تفسيره ) : دلت على أن توبة المرتد تُقبل ، لأنه تعالى أثبت إيماناً بعد كفر ، تقدمه إيمان .
وأقول : دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة ، وأما معه ، فلا ، كما لا يخفى .
ثم قال : وعن إسحاق : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته ، وهي رواية الشعبيّ عن عليّ عليه السلام . انتهى .
وذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته ، كما أسلفنا ذلك في آل عِمْرَان في قوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً } [ آل عِمْرَان : 86 ] ، الآية .
وقوله بعدها : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً } [ آل عِمْرَان : 90 ] ، وذكرنا ثمةَ ، أن هذه الآية كتلك الآية ، وأن ظاهرهما يشهد لما ذهب إليه إسحاق وأحمد ، وأما الوجوه المسوقة هنا فهي من تأويل أكثر العلماء القائلين بقبول توبة المرتد ، وإن تكررت ، وبعد ، فالمقام دقيق ، والله أعلم .
الثانية : دلت على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان ، فوجب أن يكون الإِيمَان نصّاً كذلك ، لأنهما ضدان متنافيان ، فإذا قبل أحدهما التفاوت ، قبله الآخر ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَشّرِ المنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 138 ]
{ بَشّرِ المنَافِقِينَ } من باب التَّهَكُّمِ : { بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } فإنهم آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن ، ويدل على مقارنة إيمانهم للكفر ترجيحهم جانب الكفرة في المحبة إذ هم :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ فَإِنّ العِزّةَ لِلّهِ جَميعاً } [ 139 ]
{ الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ } أي : يتخذونهم أنصاراً مجاوزين موالاة المؤمنين .
{ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ } أي : أيطلبون بموالاتهم القوة والغلبة ، وهذا إنكار لرأيهم وإبطال له ، وبيان لخيبة رجائهم ، ولذا علله بقوله : { فَإِنّ العِزّةَ لِلّهِ جَميعاً } أي : له الغلبة والقوة ، فلا نصرة لهم من الكفار ، والنصرة والظفر كله من الله تعالى ، وهذا كما قال تعالى في آية أخرى : { وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
قال ابن كثير : وَالْمَقْصُود مِنْ هَذَا التَّهْيِيجُ عَلَى طَلَب الْعِزَّة مِنْ جَنَاب اللَّه ، وَالْإِقْبَال عَلَى عُبُودِيَّته ، وَالِانْتِظَام فِي جُمْلَة عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ ، الَّذِينَ لَهُمْ النُّصْرَة فِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُوم الْأَشْهَاد ، وَيُنَاسِب هُنَا أَنْ نَذْكُر الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ أَبِي رَيْحَانة ، أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَنْ اِنْتَسَبَ إِلَى تِسْعَة آبَاء كُفَّار ، يُرِيد بِهِمْ عِزّاً وكرماً ، فَهُوَ عَاشِرهمْ فِي النَّار > . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَد .
وَأَبُو رَيْحَانَة هَذَا : هُوَ أَزْدِيّ وَاسْمه ( شَمْعُونَ ) بِالْمُعْجَمَةِ فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيّ ، وَقَالَ غَيْره : بِالْمُهْمَلَةِ وَاَللَّه أَعْلَم .
تنبيه :
قال الحاكم : دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ، والنهي عن موالاة الكفار ، قال : والمنهي عن موالاتهم في الدين فقط ، وقد ذكر المؤيد بالله ، قدس الله روحه ، معنى هذا ، وهي : أن تحبه لما هي عليه ، وهذا ظاهر ، وهو يرجع إلى الرضا بالكفر ، وما أحبه لأجله .
فأما الخلطة فليست موالاة ، وقد جوز العلماء رحمهم [ في المطبوع رحمه ] الله نكاح الفاسقة ، وكذلك الإحسان ، فقد مدح الله من أطعم الأسارى ، وجوّز كثير منهم الوصية لأهل الذمة ، وكذلك الاغتمام بغمه في أمر ، كاغتمام المسلمين لغلب فارس للروم ، كذا في تفسير بعض الزيدية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ المنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَميعاً } [ 140 ]
{ وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } قال المفسرون : إن المشركين بمكة كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به ، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم بقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] ، وهذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية ، فامتنع المسلمون عن القعود معهم ، ولما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين ، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن ، فنزلت هذه الآية : { وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } يعني في سورة الأنعام .
{ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا } يعني يجحد بها .
{ وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍٍ غَيْرِهِ } وفيها دلالة على أن المنزل على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وإن خوطب به خاصة ، منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم ، هو العلم بخوضهم في الآيات ، ولذلك عبّرَ عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع ، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم ، لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط .
{ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } أي : إذا قعدتم معهم دل على رضاكم بالكفر بالآيات والاستهزاء بها ، فتكونون مثلهم في الكفر واستتباع العذاب ، فاجتماعكم بهم ههنا سبب اجتماعكم في جهنم ، كما قال : { إِنّ اللّهَ جَامِعُ المنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَميعاً } لأنهم لما شاركوهم في الكفر ، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا ، جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : اعلم أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة ، إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راضٍٍ ، ولا خلاف أنه يحرم إذا خشي الافتتان ، ولا خلاف أنه يجوز القعود للتنكير عليهم والدفع لهم .
قال الحاكم : ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم ، ولهم بذلك الثواب العظيم ، وأما إذا خلا عما ذكرنا ، وكان لا يوهم بالرضا ولا يفتتن ولا ينكر عليهم ، فاختلف العلماء في ذلك ، فمنهم من أوجب المثل ، لظاهر الآية .
قال الحاكم : روي أن قوماً أُخذوا على شراب في عهد عُمَر بن عبد العزيز ، فأمر بضربهم الحدّ ، فقيل : فيهم صائم ، فتلا قوله تعالى : { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ } إلى قوله : { إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } وهذا أيضاً ظاهر حديث : < لا يحل لعين ترى الله يُعصى ، فتطرف حتى تغير وتنتقل > .
وقال أبو عليّ وأبو هاشم : إن أنكر بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك ، وجاز له القعود ، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو باللسان ، وعدم تأثير ذلك .
أقول : ما قالاه مخالف لظاهر الآية ، فلا عبرة به .
وقال القاضي والحاكم : أما لو كان له حق في تلك البقعة ، فله أن لا يفارق ، كمن يحضر الجنائز مع النوح ، أو الولائم ، فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد ، والنكير على قدر الإمكان واجب عليه .
وعن الحسن : لو تركنا الحق للباطل لبطل الشرع ، وقد كان خرج إلى جنازة ، خرجت النساء فيها فلم يرجع ، ورجع ابن سيرين . انتهى .
أقول : من له حق في البقعة ، فعليه أن يفارق كغيره ، إذ ليس في مفارقته ضياع حقه ، وعموم الآية يشمله ، ولا تخصيص إلا بمخصص ، والمسألة المقيس عليها غير ما نحن فيه ، على ما فيها من الخلاف ، كما حَكَى ، ولا قياس مع النص ، وقد حكى الحاكم أقوالاً كلها ترجع إلى تخصيص الآية ، ولا مستند فيها إلا الرأي ، والاحتمال ، فلذا أعرضنا عنها .
قال أبو عليّ : تحريم القعود في المجلس لما فيه من الإبهام ، فإذا أظهر الكراهة جاز القعود في مكان آخر ، وإن قرب ، وإما إذا خاضوا في حديث غيره ، جاز القعود ، بمفهوم الآية ثم إن الآية محكمة عند الجمهور .
وروي عن الكلبي ، أنها منسوخة بقوله تعالى : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابهمْ مِنْ شَيْء } [ الأنعام : 69 ] ، وهو مردود ، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها .
قال الحاكم : دلت الآية على أن الراضي بالاستهزاء بالرسول والدين ، كافر ، لأنه تعالى قال : { إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } ودلت على أن الرضا بالكفر كفر .
وقال السمرقندي : في هذه الآية دليل على أن من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم ، فيكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم ، إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها ، فإن لم يقدر أن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية .
وروى ابن جرير عن الضحاك أنه قال : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين ، وكل مبتدع إلى يوم القيامة .
وقال في " فتح البيان " : وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب ، دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء ، للدلالة الشرعية ، كما يقع كثيراً من أُسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى ( قال إمام مذهبنا : كذا ) و ( قال فلان من أتباعه بكذا ) أو إذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي ، سخروا منه ، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً ، ولا بالوا به بالة ، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، مع أن الأئمة ، الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم ، برءاء من فعلهم ، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم . انتهى .
وفي " الإكليل " : قال ابن الفرس ، واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب اجتناب أهل المعاصي والأهواء ، وفي هذه الآية أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر ، والتنبيه عليه . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلم نَكُن مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلم نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مّنَ المؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يجعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ 141 ]
{ الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ } إما بدل من : { الّذِينَ يَتّخِذُونَ } وإما صفة للمنافقين : أي : ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو هزيمة .
{ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ } أي : نصر وتأييد وظفر وغنيمة : { قَالُواْ } لكم : { أَلم نَكُن مّعَكُمْ } أي : مظاهرين لكم ، فَلَنَا دخل في فتحكم ، فليكن لنا شركة في غنيمتكم .
{ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } أي : [ إدالة ] على المؤمنين في بعض الأحيان ، كما وقع يوم أحد ، فإن الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة .
{ قَالُواْ } أي : الكفرة تودداً إليهم ، ومصانعة لهم ، ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم لضعف إيمانهم .
{ أَلم نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم .
{ وَنَمْنَعْكُم مّنَ المؤْمِنِينَ } بأن ثبطناهم عنكم ، وتَوَاَنَيْنَا في مظاهرتهم حتى انتصرتم عليهم ، وإلا لكنتم نهبة للنوائب ، وتسمية ( ظفر المسلمين ) فتحاً ، و ( ما للكافرين ) نصيباً ؛ لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين .
قال في " الانتصاف " : وهذا من محاسن نكت القرآن ، فإن الذين كان يتفق للمسلمين فيه ، استئصالٌ لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها ، وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحاً ، فالتفريق بينهما أيضاً مطابق للواقع ، والله أعلم .
قال بعض الزيدية : في الآية دلالة على وجوب محبة نصرة المؤمنين وكراهة أن تكون اليد عليهم ، وتحريم خذلانهم ، وإن المنافق لا سهم له ، لأن في الآية إشارة إلى أنهم طلبوا لما منعوا ، فقالوا : ألم نكن معكم ؟ ثم قال ، يجوز التأليف من الغنيمة للمنافقين ، كما فعل الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم حنين ، حتى أعطى الواحد منهم مائة ناقة ، والواحد من المسلمين الشاة أو البعير .
{ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : حكماً يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب ، أي : فلا يغتر المنافقون بحقن دمائهم في الدنيا لتلفظهم بالشهادة ، لما له تعالى في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا ينفعهم ظواهرهم .
وقوله تعالى : { وَلَن يجعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤْمِنِينَ سَبِيلاً } ردٌّ على المنافقين فيما أمَّلُوُه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم ، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : { فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } إلى قوله : { نَادِمينَ } [ المائدة : 52 ] ، أي : لن يسلط الله الكافرين على المؤمنين فيستأصلوهم بالكية ، وإن حصل لهم ظفر حيناً ما ، أفاده ابن كثير .
وهذا التأويل روعي فيه سابق الآية ولاحقها ، وأن السياق في ( المنافقين ) وهو جيد ، ويقرب منه ما في تفسير ابن عباس من حمل ( الكافرين ) على يهود المدينة ، ومن وقف مع عمومها ، قال : المراد بالسبيل الحجة ، وتسميتها ( سَبيلاً ) لكونها موصلاً للغلبة ، أو المراد : ما دام المؤمنون عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مّن مّصِيبَةٍٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] قال : فلا يراد أنه قد يُدال للكافرين .
تنبيه :
قد يستدل بهذه الآية على أن الكافر لا ينكح مؤمنة ، وأنه لا يلي على مؤمنة في نكاح ولا سفر ، وأن الكافر لا يشفع المؤمن ، وهذا قول الهادي في " الأحكام " والنفس الزكية والراضي بالله ، وروي مثله عن الحسن الشعبي وأحمد .
وقال في " المنتخب " والمؤيد بالله والحنفية والشافعية : له الشفعة ، لعموم أدلة الشفعة ، وبالقياس على رد المعيب فيما شرى من مسلم ، ويستدل بأن المرتد تبين منه امرأته المسلمة ، والخلاف : هل بنفس الردة كما يقول الحنفية ، أو بانقضاء العدة كما يقول المؤيد بالله والشافعية ؟ وكذلك بيع العبد المسلم من الذمي ، أجازه الحنفية ومنعه المؤيد والشافعية ، لكن على الأول ، يجبر على بيعه ، فلا يستخدمه ، قيل : أو الأمة مجمع على تحريم بيعها من الكافر إذا كانت مسلمة .
ولا خلاف أن الآية مخصوصة بأمور ، منها : الدَّين يثبت للكافر على المؤمن ، ومنها : أنه ينفق المؤمن على أبويه الكافرين ونحو ذلك ، وإذا خص العموم فقد اختلف الأصوليون : هل تبقى دلالته على الباقي حقيقة أم مجازاً ؟ انتهى .
وزاد بعض المفسرين : إن الكافر لا يرث المسلم ، وإن المسلم لا يقتل بالذمي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ المنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 142 ]
{ إِنّ المنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي : يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان ، وإبطان الكفر ، والله يفعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ، حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة .
{ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّلاَةِ } أي : أتوها : { قَامُواْ كُسَالَى } أي : متثاقلين كالمكر على الفعل ، قال ابن كثير : هَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَف الْأَعْمَال وَأَفْضَلهَا وَخَيْرهَا وَهِيَ الصَّلَاة ، إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّة لَهُمْ فِيهَا ، وَلَا إِيمَان لَهُمْ بِهَا ، وَلَا خَشْيَة وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا .
كَمَا رَوَى اِبْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يُكْرَه أَنْ يَقُوم الرَّجُل إِلَى الصَّلَاة وَهُوَ كَسْلَان ، وَلَكِنْ يَقُوم إِلَيْهَا طَلْق الْوَجْه ، عَظِيم الرَّغْبَة ، شَدِيد الْفَرَح ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي اللَّه ، وَإِنَّ اللَّه تُجَاهه يَغْفِر لَهُ ، وَيُجِيبهُ إِذَا دَعَاهُ ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى } . انتهى .
قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أن من علامات المنافق الكسل في الصلاة ، والكسل : التثاقل عن الشيء لمشقته ، فهذه الآية في صفة ظواهرهم كما قال : { وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى } [ التوبة : 54 ] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة : { يُرَآؤُونَ النّاسَ } أي : يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين ، لا لإخلاصه ومطاوعة أمر الله ، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً ، كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِما ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍٍ ، إِلَى قَوْمٍٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ > .
وفي رواية : < وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقاً سَمِيناً أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ ، وَلَوْلَا مَا فِي الْبُيُوت مِنْ النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة لَحَرَّقْت عَلَيْهِمْ بُيُوتهمْ [ بِالنَّارِ ] > .
وروى الْحَافِظ [ في المطبوع زيادة واو ] أَبُو يَعْلَى : عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < مَنْ أَحْسَن الصَّلَاة حَيْثُ يَرَاهُ النَّاس ، وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو ، فَتِلْكَ اِسْتِهَانَة ، اِسْتَهَانَ بِهَا رَبّه عَزَّ وَجَلَّ > .
وقوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً } فيه وجوه :
الأول : معناه ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم إنما يصلون رياءً ما دام من يرقبهم ، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا وتأويل ( الذكر ) بالصلاة ، روي في غير ما آيةٍٍ عن السلف .
الثاني : ولا يذكرون الله في صلاتهم إلا قليلاً ، لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون ، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون ، وقد روى الإمام مَالِكٍٍ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍٍ قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : < تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق ، تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق ، تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق : يَجْلِس يَرْقُب الشَّمْس حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْن قَرْنَيْ الشَّيْطَان ، قَامَ فَنَقَرَ [ في المطبوع فقر ] أَرْبَعاً لَا يَذْكُر اللَّه فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً > . وكذا رَوَاهُ مُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ .
الثالث : معناه : ولا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكراً قليلاً في الندرة ، على أن الذكر بمعناه المتبادر منه ، وعليه ، فمن علامات النفاق استغراق الأوقات بحديث الدنيا ، وقلة ذكره تعالى بتحميد أو تهليل أو تسبيح ، كما أن من صفات المؤمنين ذكر الله تعالى كثيراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [ 143 ]
{ مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ } حال من فاعل ( يراؤن ) أو منصوب على الذم و ( ذلك ) إشارة إلى الإيمان والكفر ، المدلول عليهما بمعونة المقام ، أو إلى ( المؤمنين والكافرين ) ، فيكون ما بعده تفسيراً له ، أي : مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى ، وحقيقة المذبذب الذي يُذب عن كلا الجانبين ، أي : يذاد ويدفع ، فلا يقر في جانب واحد ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذُبّ عنه .
{ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } أي : لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين ، وقال مجاهد : { لاَ إِلَى هَؤُلاء } يعني أصحاب محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } يعني اليهود .
{ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ } عن دينه وحجته : { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً إلى الصواب والهدى ، روى الشيخان عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَثَل الْمُنَافِق كَمَثَلِ الشَّاة الْعَائِرَة بَيْن الْغَنَمَيْنِ ، تُعِير إِلَى هَذِهِ مَرَّة ، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّة > .
والعائرة المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } [ 144 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } هذا نهي عن موالاة الكفرة ، يعني مصاحبتهم ، ومصادقتهم ، ومناصحتهم ، وإسرار العودة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم ، كما قال تعالى : { لاّ يَتّخِذِ المؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ المؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [ آل عِمْرَان : 28 ] ، أي : يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه ، ولهذا قال ههنا : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } أي : حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم ، وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين .
قال الحاكم : وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه ، لا المخالفة والإحسان .
قال الزمخشري : وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له : خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر ، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن ، وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن .
قال أبو السعود : وتوجيه توجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال : أتجعلون . . . . إلخ ، للمبالغة في إنكار ذلك ، وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته ، فضلاً عن صدور نفسه ، كما في قوله عز وجل : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ } [ البقرة : 108 ] .
لطيفة :
اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كُلّ سُلْطَان فِي الْقُرْآن حُجَّة ، وكذا قال غيره من أئمة التابعين .
قال محمد بن يزيد : هو من ( السليط ) ، وهو دهن الزيت لإضاءته ، أي : فإن الحجة من شأنها أن تكون نيرة ، وفي " البصائر " إنما سمي الحجة سلطاناً لما يلحق من الهجوم على القلوب ، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ المنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } [ 145 ]
{ إِنّ المنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ } قرئ بسكون الراء وفتحها : { الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ } أي : الطبق الذي في قعر جهنم ، والدرك كالدرج ، إلا أنه يقال باعتبار الهبوط ، والدرج باعتبار الصعود ، وإنما عوقبوا بذلك لأنهم أخبث الكفرة ، إذ ضموا إلى الكفر استهزاءً بالإسلام وخداعاً للمسلمين .
قال الرازي : وبسبب أنهم لمَّا كانوا يظهرون الإسلام ، يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك ، فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين ، فلهذه الأسباب عوقبوا بذلك .
ونقل عن ابن الأنباريّ أنه قال : إنه تعالى أخبر عن آل فرعون بقوله : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، وعن المنافقين بما في هذه الآية ، فأيهما أشد عذاباً ؟
فأجاب : بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل ، وقد اجتمع فيه الفريقان ، والله أعلم .
روى الترمذيّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : قَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ ، إِنّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < إِنَّ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ لَتُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَتَهْوِى فِيهَا سَبْعِينَ عَاماً ، وَمَا تُفْضِي إِلَى قَرَارِهَا > .
وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ : أَكْثِرُوا ذِكْرَ النَّارِ ، فَإِنَّ حَرَّهَا شَدِيدٌ ، وَإِنَّ قَعْرَهَا بَعِيدٌ ، وَإِنَّ مَقَامِعَهَا حَدِيدٌ .
وروى الترمذيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < وَيْلٌ وَادٍٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ > .
{ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } : أي : ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ المؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } [ 146 ]
{ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ } أي : عن النفاق : { وَأَصْلَحُواْ } أي : أعمالهم .
{ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ } أي : وثقوا به بترك موالاة الكفار : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ } فلم يبق لهم فيه تردد ، ولم يريدوا بطاعتهم إلا وجهه سبحانه ، لا رياء الناس كما كانوا قبل .
{ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤْمِنِينَ } إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيّز الصلة ، وما فيه من معنى البعد ، للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة ، أي : لعلو رتبتهم بهذه الأمور لا يكونون في درك من النار فضلاً عن الأسفل ، بل مع المؤمنين المستمرين على الإيمان بلا نفاق ، أي : معهم في درجات الجنان ، وقد بيّن ذلك بقوله سبحانه : { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ المؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } ثواباً وافراً في الجنة ، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم ، وحذفت ( الياء ) في الخط هنا اتباعاً للفّظ ، لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله : { يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ } [ القمر : 6 ] ، و : { سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ } [ العلق : 18 ] ، و : { يَوْمَ يُنَادِ المنَادِ } [ ق : 41 ] ونحوها ، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين ، فجاء الرسم تابعاً للفظ ، والقراء يقفون عليه دون ياء ، اتباعاً للخط الكريم ، إلا يعقوب والكسائيّ وحمزة ، فإنهم يقفون بالياء نظراً إلى الأصل ، كذا في " الفتح " .
تنبيه :
قال الزمخشري : فإن قلت : من المنافق ؟ قلت : هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر ، وأما تسميته من ارتكب ما يفسق به بـ ( المنافق ) فللتغليظ ، كقوله : من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : < ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان > .
وقيل لحذيفة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : من المنافق ؟ فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به .
وقيل لابن عمر : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه ، فقال : كنا نعده من النفاق . انتهى كلامه .
أقول : قول الزمخشري ( فللتغليظ ) يوجد مثله لثّلة من شراح الحديث وغيرهم ، وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله : هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه ، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر . انتهى .
وقال بعض المحققين : عليك أن تقر الأحاديث كما وردت ، لتنجوا من معرة الخطر ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً } [ 147 ]
{ مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } قال أبو السعود : هو استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم ، وجوداً وعدماً ، إنما هو كفرهم ، لا شيء آخر ، فيكون مقرراً لما قبله من إثابتهم عند توبتهم .
و ( ما ) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده ، أي : أي : شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم ؟ أيتشفى به من الغيظ ؟ أم يدرك به الثار ؟ أم يستجلب به نفعاً ؟ أم يستدفع به ضرراً ؟ كما هو شأن الملوك ، وهو الغني المتعالي عن أمثال ذلك ، وإنما هو أمر يقتضيه كفركم ، فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر ، انتفى التعذيب لا محالة ، وتقديم ( الشكر ) على ( الإيمان ) لما أنه طريق موصل إليه ، فإن الناظر يدرك أولاً ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكراً مبهماً ، ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه .
{ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً } الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل ، كما في " القاموس " ويرحم الله ابن القيم حيث يقول في " الكافية الشافية " :
~وهو الشكور ، فلن يضيّع سعيهم لكن يضاعفه بلا حِسْبان
~ما للعباد عليه حق واجب هو أوجب الأجر العظيم الشان
~كلا ولا عملٌ لديه ضائع إن كان بالإخلاص والإحسان
~إن عذّبوا فبعدله أو نعِّموا فبفضله ، والحمدُ للرحمن

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلم وَكَانَ اللّهُ سَميعاً عَلِيماً } [ 148 ]
{ لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ } أي : لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول .
{ إِلاّ مَن ظُلم } إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه ، أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء ، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه ، حتى إنه يجيب دعاءه ، ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة .
فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه ، فليس المراد حصر معنى الآية فيه ، بل القصد تنبيه المستمع على النوع ، فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلاّ مَن ظُلم } وإن صبر فهو خير له .
ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق وابن إسحاق وهنّاد بن السري عن مجاهد قال : هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قِراه ، فتحول عنه ، فجعل يثني عليه بما أولاه ، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه .
وفي رواية عنه : وهو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن .
وفي رواية : هو الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .
قال ابن كثير : وقد روى الجماعة ( سوى النسائي والترمذيّ ) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍٍ [ رضى الله عنه ] قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى ؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : < إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ > .
وروى الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ أَبِي كَرِيمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : < أَيُّمَا مُسْلِمٍٍ ضَافَ قَوْماً فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُوماً ، فَإِنَّ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍٍ نَصْرُهُ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ > .
وروى هو وأبو داود عنه أيضاً ، سمع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < لَلَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍٍ ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُوماً كَانَ دَيْناً عَلَيْهِ ، فإِنْ شَاءَ اقْتَضَاه ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَه > .
ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بَكْر الْبَزَّار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّ لِي جَاراً يُؤْذِينِي ، فَقَالَ لَهُ : < أَخْرِج مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ > .
فَأَخَذَ الرَّجُل مَتَاعه فَطَرَحَهُ عَلَى الطَّرِيق ، فَكُلّ مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ : مَا لَك ؟ قَالَ : جَارِي يُؤْذِينِي ، فَيَقُول : اللَّهُمَّ ! اِلْعَنْهُ ، اللَّهُمَّ ! أَخْزِهِ .
قَالَ : فَقَالَ الرَّجُل : اِرْجِعْ إِلَى مَنْزِلك ، وَاَللَّه ! لَا أُوذِيك أَبَداً .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَاب الْأَدَب .
وقال عبد الكريم بن مالك الجزريّ ، في هذه الآية ، هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ، لقوله تعالى : { وَلمنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلمهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مّن سَبِيلٍٍ } [ الشورى : 41 ] .
وقال قطرب : معنى الآية : إلا من أكره على أنه يجهر بسوء من القول ، من كفر أو نحوه ، فهو مباح له ، وسئل المرتضى عنها فقال : لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله ، إلا من ظلم وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعله بأصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، من العقاب والضرب ، ليشتموا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ويتبرؤا منه ، ففعل ذلك عمار ، فخلوه وصلبوا صاحبه ، فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه ، وفي عمار وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] ، فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنة بالإيمان . انتهى .
وكل هذا مما تشمله الآية بعمومها ، وما نقله السمرقندي وغيره عن الفراء في قوله تعالى : { إِلاّ مَن ظُلم } أن : { إِلاّ } بمعنى ( لا ) يعني : ولا من ظلم - فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه : فإن الآية صريحة في أنه في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجد والحاكم ، عن الرشيد بن سويد عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ، وأما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة .
فوائد :
قال بعض مفسري الزيدية : أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم والجهر بمساويه ، ودلت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرها ، لم يكفر ، لأنه مظلوم ، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ ( الكفر ) مع الظلم ، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار ، ثم قال : والمحبة ههنا بمعنى الإباحة ، لا أن ذلك يريده الله تعالى .
أقول : هذه نزعة اعتزالية .
ثم قال : وتسميته سوءاً ، لكونه يسوء المقول فيه ، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال .
ثم قال : وقول من قال ( إلا ) هنا بمعنى ( الواو ) أي : ومن ظلم ، مثل :
~وكلُّ أَخٍٍ مُفَارِقُهُ أَخوهُ لعَمْرُ أَبِيكَ إِلا الفَرْقَدَانِ
فخلاف الظاهر . انتهى .
وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة ، قال الشعبيّ : يعجبني الرجل إذا سيم هوناً ، دعته الأنفة إلى المكافأة ، وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فيلغ كلامه الحجاج فقال : لله دره ! أي : رجل بين جنبيه ! وتمثل :
~ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه
وقال أعرابي لابن عباس رضي الله عنهما : أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته ؟ فقال له : العفو أقرب للتقوى ، فقال : { وَلمنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلمهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مّن سَبِيلٍٍ } .
وقال المتنبي :
~مِنَ الحِلم أن تستعمل الجهل دُونهُ إذا اتَّسَعَتْ في الحِلمِ طُرْقُ المَظَالِمِ
لطيفة :
الاستثناء في قوله تعالى : { إِلاّ مَن ظُلم } إما متصل أو منقطع ، فعلى الأول فيه وجهان :
الأول : قول أبي عبيدة : هذا من باب حذف المضاف ، أي : إلا جهر من ظلم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
والثاني : قول الزجاج : المصدر ههنا بمعنى الفاعل ، أي : لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم ، وعلى أنه منقطع ، فالمعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته .
وقوله تعالى : { وَكَانَ اللّهُ سَميعاً عَلِيماً } فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالمونَ } [ إبراهيم : 42 ] ، ووعيد له أيضاً بأن يتعدى في الجهر المأذون فيه ، بل ليقل الحق ولا يقذف بريئاً بسوء فإنه يصير عاصياً لله بذلك ، ثم حث سبحانه على العفو بعد ما جوّز الجهر بالسوء وجعله محبوباً ، حثاً على الأحب إليه والأفضل عنده ، وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا قَدِيراً } [ 149 ]
{ إِن تُبْدُواْ خَيْراً } أي : طاعة وبراً : { أَوْ تُخْفُوهُ } أي : تعملوه سراً : { أَوْ تَعْفُواْ } أي : تتجاوزوا .
{ عَن سُوَءٍٍ } أي : ظلم : { فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا قَدِيراً } أي : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله بالعفو مع القدرة ، فثمرة هذه الآية الحث على العفو ، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء ، وإن كان على وجه هذه الانتصار ، حملاً على مكارم الأخلاق ، وإنما كان المقصود العفو لأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به ، فمقتضى السياق ، لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم ، فإن عفا المظلوم عنه ، ولم يدعُ على ظالمه ويتظلم منه ، فإن الله عفو قدير ، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء ، لأنه يعلم من مدح حالَيِ الخير : السر والعلانية ، أن السوء ليس كذلك جهراً وإخفاءً ، فينبغي العفو عنه وتركه ، وإنما عطف ( العفو ) بـ ( أو ) مع دخوله في الخير بقسمية ، للاعتداد به ، والتنبيه على منزلته ، وكونه من الخير بمكان مرتفع ، وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود وأنه من قبيل : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] ، لأن مثله يعطف بالواو لا بـ ( أو ) ولذا حمل الخير على الطاعة والبر مما هو عبادة وقربة فعلية ، لتغاير العفو ، فالمراد بالتوطئة ذكر ما هو مناسب وقدم عليه ، كذا في " العناية " .
قال ابن كثير : وَرَدَ فِي الْأَثَر : < أَنَّ حَمَلَة الْعَرْش يُسَبِّحُونَ اللَّه ، فَيَقُول بَعْضهمْ : سُبْحَانك عَلَى حِلْمك بَعْد عِلْمك ، وَيَقُول بَعْضهمْ : سُبْحَانك عَلَى عَفْوك بَعْد قُدْرَتك > .
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : < مَا نَقَصَت صَدَقَة مِنْ مَال ، وَمَا زَادَ اللَّه عَبْداً بَعْفُو إِلَّا عِزّاً ، وَمَا تَوَاضَعَ أحد لِلَّهِ إلا رَفَعَهُ الِلَّهِ > .
وقال الرازي : اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين : صدق مع الحق وخُلق مع الخلق ، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين : إيصال نفع إليهم ، ودفع ضرر عنهم ، ققوله : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ } إشارة إلى إيصال النفع إليهم .
وقوله : { أَوْ تَعْفُواْ } إشارة إلى دفع الضرر عنهم ، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر .
ثم نزل في اليهود إلى أواخر السورة قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } [ 150 ]
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } قال ابن عباس : يعني كعباً وأصحابه .
{ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ } أي : في الإيمان : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍٍ } من الرسل .
{ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ } منهم ، كما قالوا : نؤمن بموسى والتوراة ، ونكفر بما وراء ذلك ، وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان ، لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بكل نبي يأتي مصدقاً لما معهم ، ونصره ، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل ، وبالله تعالى من حيث لا يحتسب ، لأنهم لما تساووا في المعجزات والدعوة إلى الحق ، والقيام بالخيرات في أنفسهم ، كان الكفر بواحد منهم كفراً بالكل ، بل وبالله ، إذ يعتقدون فيه أنه صدق الكاذب بخلق المعجزات ، كذا في " التبصير " .
{ وَيُرِيدُونَ } بقولهم ذلك : { أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ } أي : بين الإيمان ببعض ، والكفر ببعض : { سَبِيلاً } ديناً يسلكونه ، مع أنه لا واسطة بينهم قطعاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } [ 151 ]
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّا } أي : الذين كفروا كفراً ثابتاً لا ريب فيه ، فلا عبرة بمن ادعوا الإيمان به ، لأنه ليس شرعياً ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله ، لآمنوا بنظيره ، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } يهانون به ، وهو عذاب جهنم ، أي : كما استهانوا بمن كفروا به ، إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه ، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا ، وإما حيث جسدوه على ما أتاه الله من النبوة العظيمة ، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه ، فسلط الله عله الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخرويّ ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلم يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } [ 152 ]
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } كلهم : { وَلم يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍٍ مّنْهُمْ } يعني بهم أمة محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فإنهم يؤمنون بكل نبي بعثه الله ، ولا يفرقون بين أحد منهم ، بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين ، كما فعله الكفرة .
{ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ } أي : يعطيهم : { أُجُورَهُمْ } ثواب إيمانهم بالله ورسله في الآخرة : { وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً } أي : لما فرط منهم : { رّحِيماً } مبالغاً في الرحمة عليهم ، بتضعيف حسناتهم .
ثم بين تعالى ما جُبِل عليه اليهود من اللجاج والعناد ، والبعد عن طريق الحق ، بقوله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلمهِمْ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مّبِيناً } [ 153 ]
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ } قال ابن عباس : كعب وأصحابه .
{ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَاء } أي : كما أنزلت التوراة على موسى جملة في الألواح ، مع أنه لا حاجة لهم إلى طلب ذلك بعد ما وضحت البراهين على نبوتك ، لا سيما بإعجاز ما نزل عليك من الفرقان ، إلا أن الذي حملهم على سؤالهم هو التعنت والكفر ، كما قال قبلهم كفار قريش نظير ذلك : { وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات .
ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ } أي : مما سألوك .
{ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً } أي : رؤية ظاهرة : { فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ } أي : النار النازلة من السماء : { بِظُلمهِمْ } أي : جراءتهم على الله وعتوهم وعنادهم ، إذ لا يرون آية إلا يطلبون أكبر منها ، حتى يروا آية ملجئة إلى الإيمان ، بحيث لا يفيد الإيمان معها ، فلا يكادون يؤمنون إيماناً يفيدهم أصلاً ، ولا يبعد منهم الكفر ، بعد رؤية الآيات ، فإنهم رأوا آيات موسى .
{ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ } أي : إلهاً وعبدوه : { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَاتُ } أي : الدلائل القاطعة على نفي الشرك ، ثم تابوا عنه .
{ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ } أي : تركناهم ولم نستأصلهم : { وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مّبِيناً } أي : حجة بينة وتسلطاً ظاهراً على إهلاك من خالفه ، وفي ذلك بشارة للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بنصره ، وإن بالغوا في العناد والإلحاد ، ثم أشار إلى أنهم مع رؤيتهم الآيات ، لم ينقادوا لأوامر موسى ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِميثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم ميثَاقاً غَلِيظاً } [ 154 ]
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ } أي : الجبل ليتحملوا التكليف : { بِميثَاقِهِمْ } أي : بسبب أخذ ميثاقهم ، ليخافوا فلا ينقضوه .
قال ابن كثير : وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وظهر منهم إباءً على ما جاءهم به موسى عليه الصلاة والسلام ، رفع الله على رؤوسهم جبلاً ، ثم ألزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رؤوسهم ، خشية أن يقسط عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّواْ أَنّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍٍ } [ الأعراف : 171 ] الآية .
{ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً } أي : ادخلوا باب إيلياء مطأطئين - عند الدخول - رؤوسكم ، فخالفوا ما أمروا به ، وقد تقدم في سورة البقرة إيضاح هذه الآيات مفصلاً .
{ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السّبْتِ } أي : وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم مادام مشروعاً لهم .
{ وَأَخَذْنَا مِنْهُم ميثَاقاً غَلِيظاً } أي : عهداً شديداً ، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : { واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } [ الأعراف : 163 ] ، ثم بين تعالى ما أوجب لعنهم وطردهم ومسخهم من مخالفتهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 155 ]
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ } ( ما ) مزيدة للتأكيد ، أو نكرة تامة ، و ( نقضهم ) بدل منها ، والباء متعلقة بفعل محذوف ، أي : فبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم ، فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم ، أو على أعقابهم .
{ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ } أي : حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليه السلام : { وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء } كزكريا ويحيى عليهما السلام .
قال العلامة البقاعي : وهو أعظم من مطلق كفرهم ، لأن ذلك سدٌّ لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم ، لأن الأنبياء سبب الإيمان ، ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة ، ومبرأين من كل رزية ، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه ، قال تعالى : { بِغَيْرِ حَقّ } أي : كبير ولا صغير أصلاً ، وهذا الحرف لكونه في سياق طعنهم في القرآن ، الذي هو أعظم الآيات ، وقع التعبير فيه بأبلغ مما في آل عِمْرَان ، لأن هذا مع جمع الكثرة ، وتنكير الحق ، عبر فيه بالمصدر ، المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة ، بخلاف ما مضى ، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض ، ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع ( أغلف ) أي : هي مغشاة بأغشية جبلّية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍٍ مّمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] أي : فلا ذنب لنا : لأن قلوبنا خلقت بعيدة عن فهم ما يقول الأنبياء ، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم ، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم ويشهدون له بالرسالة ، وبأنه خاتم الأنبياء ، ويصفونه بأشهر صفاته ويترقبون إتيانه ، لا جرم رد الله عليهم بقوله ، عطفاً على ما تقديره ( وقد كذبوا ) لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً .
{ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } أي : ليس كفرهم ، وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفاً بحسب الجبلّة ، بل الأمر بالعكس ، حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم ، لأنه خلقها أولاً على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر ، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقص عن الخير ، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم ، وتركوا ما تدعو إليه عقولهم ، طبع سبحانه عليهم فجعلها قاسية محجوبة ، ولذا سبب عنه قوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } منهم ، كعبد الله بن سلام وأضرابه ، أو : إلا إيماناً قليلاً لا يعبأ به لتمرن قلوبهم على الكفر والطغيان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } [ 156 ]
{ وَبِكُفْرِهِمْ } أي : بعيسى عليه السلام ، وهو عطف على ( قولهم ) وإعادة الجار لطول ما بينهما ، وقد جوز عطفه على ( بكفرهم ) فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع ، وقيل هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله ، تكرير الكفر للإيذان بتكرر كفرهم ، حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام ، كذا في أبي السعود .
{ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } أي : مع قولهم الذي يجترئون به على مريم عليها السلام ، بعد ظهر كراماتها وإرهاصات ولدها ومعجزاته ، يبهتونها به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } [ 157 ]
{ وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ } .
قال أبو السعود : نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نُعيِتَ عليهم ليس لمجرد كونه كذباً بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبي عليه السلام والاستهزاء به ، فإن وصفهم له عليه السلام بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه السلام ، كما في قوله تعالى : { وَقَالُواْ يَا أَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ } [ الحجر : 6 ] ، ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيح ، على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى ، مكان ذكرهم القبيح ، وقيل : هو نعت له عليه الصلاة والسلام من جهته تعالى ، مدحاً له ، ورفعاً لمحله ، وإظهاراً لغاية جراءتهم ، في تصديهم لقتله ، ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك .
لطيفة :
قال الراغب : سمي عيسى بالمسيح لأنه مسحت عنه القوة الذميمة ، من الجهل والشره والحرص وسائر الأخلاق الذميمة ، كما أن الدجال مسحت عنه القوة المحمودة من العلم والعقل والحلم والأخلاق الحميدة ، وقال شمر : لأنه مسح بالبركة ، وهو قوله تعالى : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ } [ مريم : 31 ] ، أو لأن الله مسح عنه الذنوب .
وذكر المجد في كتابه " البصائر " في اشتقاقه ستة وخمسين قولاً ، وتطرّق شارح القاموس لبعضها ، فانظره .
{ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } أي : لا يصح لهم الفخر بقتله ، لأنهم ما قتلوه ، ولا متمسك لهم فيما يزعمونه من صلبهم إياه ، لأنهم ما صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من ألقى عليه شبهه .
{ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي : في شأن عيسى : { لَفِي شَكّ مّنْهُ } أي : من قتله ، وسنبينه بعد .
{ مَا لَهُم بِهِ } أي : بقتله : { مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } استثناء منقطع ، أي : لكن يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه .
{ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي : قتلاً يقيناً بمعنى متيقنين أنه عيسى عليه السلام ، بل فعلوه شاكين فيه ، أو المعنى : انتفى قتله انتفاء يقيناً بمعنى انتفائه على سبيل القطع .
قال البرهان البقاعي : وهو أولى لقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 158 ]
{ بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } ردٌّ وإنكار لقتله ، وإثبات لرفعه ، أي : اليقين إنما هو في رفعه إليه .
{ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي : لا يبعد رفعه على الله ، لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده ، وحكيم اقتضت حكمته رفعه ، فلا بد أن يرفعه ، وهي حفظه لتقوية دين محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال ، فيقتله ، أفاده المهايمي .
تنبيه :
لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى ، ولتبرئة ساحة مقام عيسى عليه السلام مما توهموه في ذلك ، ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين ، ومعارك الفرقتين - أردت بسط الكلام في هذا المقام ، انتهاجاً للحق ، وأخذاً بناصر الصدق ، ورد أباطيل المكذبين ، وتزييف أقوال الملحدين ، نورد أولاً ما زعموه ورَوَوْه ، مما نفاه التنزيل الكريم ، ثم بطلان المرويّ عندهم وتهافته بالحجج الدامغة ، ثم ما رواه أئمة سلفنا رضي الله عنهم في هذه القصة ، ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة ، ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب ، ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية ، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه ، مع ذكر من رفض عقيدة المسلمين ، ويطابق هذه الآية ، ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في هذه الآية ، وأبدع ، على عادته قدس سره ، فهذا المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب ، إذ تفرعت إلى مباحث فائقة ، وفوائد شائقة ، فنقول وبالله التوفيق :
ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم
جاء في الفصل الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما نصه :
2 - كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب .
38 - أي : لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل ( وهو الكنيسة ) ليستمعوه .
إنجيل لوقا
الإصحاح الحادي والعشرون
( 37 ) وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون .
( 38 ) وكان كل الشعب يبكرون إليه في الهيكل ليسمعوه .
37 - وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل المسمى جبل الزيتون ، كما ذكر لوقا قبل الفصل .
3 - فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطيّ وهو أحد الاثني عشر .
4 - فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يُسْلمه إليهم .
5 - ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة .
6 - فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجميع .
7 - وبلغ يومُ الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفِصح .
8 - فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً : امضيا فأَعِدَّا لنا الفِصح لنأكل .
9 - فقالا له : أين تريد أن نعِِدَّ .
10 - فقال لهما : إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء ، فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله .
الإصحاح الثاني والعشرون
1 - وقرب عيد الفطير الذي يقال له : الفصح .
2 - وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه ، لأنهم خافوا الشعب .
3 - فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثني عشر .
4 - فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم .
5 - ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة .
6 - فواعدهم ، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليه خِلْواً من جمع .
7 - وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح .
8 - فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً : اذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل .
9 - فقالا له : أين تريد أن نُعِدّ .
10 - فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جَرّة ماء ، اتبعاه إلى البيت حيث يدخل .
11 - وقولا لرب البيت : المعلم يقول لك أين المنزل الذي آكل فيه الفِصح مع تلاميذي .
12 - فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة ، فأعِدَّا هناك .
13 - فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفِصح .
14 - ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه .
15 - فقال لهم : لقد اشتهيتُ شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم .
16 - فإني أقول لكم : إني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله .
17 - ثم تناول كأساً وشكر وقال : خذوا فاقتسموا بينكم .
18 - فإني أقول لكم : إني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله .
19 - وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً : هذا هو جسدي الذي يُبْذَل لأجلهم ، اصنعوا هذا لذكري .
20 - وكذلك الكاس من بعد العشاء قائلاً : هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم .
21 - ومع ذلك فها إن يَدَ الذي يُسلمني معي على المائدة .
22 - وابن البشر ماضٍٍ كما هو محدود ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه .
23 - فطفقوا يسألون بعضهم بعضاً : من كان منهم مزمعاً أن يفعل ذلك .
24 - ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يُحسب الأكبر .
25 - فقال لهم : إن ملوك الأمم يسودونهم والمسلطين عليهم يدعون محسنين .
26 - وأما أنتم فلستم كذلك ، ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر ، والذي يتقدم كالذي يَخْدُم .
27 - وأنتم الذي ثبتُّم معي في تجاربي .
28 - فأنا أُعِدُّ لكم الملكوت كما أعده لي أبي .
29 - لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر .
30 - وقال يسوع : سمعان سمعانُ هو ذا الشيطان سأل أن يُغربلكم مثل الحنطة .
31 - لكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك وأنت متى رجعت فَثَبِّتْ إخوتك .
32 - فقال له : أنا مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت .
33 - قال : إني أقول لك يا بطرس إنه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني .
34 - ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ .
35 - فلما انتهى إلى المكان قال لهم : صلوا لئلا تدخلوا في تجربة .
36 - ثم فَصَل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى .
37 - قائلاً : يا رب إن شئت فأجِزْ عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك .
38 - وتراءى له ملاك من السماء يشدّده .
39 - ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض .
40 - ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجده نياماً من الحزن .
41 - فقال لهم : ما بالكم نائمين ، قوموا فصلوا لئلا تدخلوا في تجربة .
42 - وفيما هو يتكلم إذ بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبله .
43 - فقال له يسوع : يا يهوذاً أبقبلةٍٍ تُسلم ابن البشر .
44 - فما رأى حوله ما سيحدث قالوا له : أنضرب بالسيف .
45 - وضرب أحدهم عبدَ رئيس الكهنة فقط أذنه اليمنى .
46 - فأجاب يسوع وقال : قفوا لا تزيدوا ، ثم لمس أذنه فأبرأه .
47 - ثم قال يسوع للذين جاؤوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ : كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي .
48 - إني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا عليّ أيديكم ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة .
حينئذ تركه تلاميذه وهربوا .
49 - فارتموا على يسوع قبضوا عليه وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة .
وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين ، وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهماً التي أخذها رشوة على تسليم المسيح .
وكان بطرس يتبعه من بعيد . . .
50 - وأضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم .
51 - فرأته جارية جالساً عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت : إن هذا أيضاً كان معه .
52 - فكفر أمام الجميع وأنكره قائلاً : إني لست أعرفه .
53 - وبعد قليل رآه آخر فقال : أنت أيضاً منهم ، فأخذ بطرس يحلف لا أعرف هذا الرجل ولست منهم .
54 - وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلاً : في الحقيقة هذا أيضاً كان معه فإني جليلي .
55 - فقال بطرس : يا رجل لا أدري ما تقول .
قال مفسروهم : إن خطأ بطرس هذا كان ثقيلاً : لأن المسيح قال : من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السماوات .
60 - وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك .
61 - فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال : إنك قبل أن يصيح الديك ، تنكرني ثلاث مرات .
62 - فخرج بطرس وبكى بكاءً مراً .
63 - وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزؤون به ويضربونه .
64 - وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين : تنبأ من الذي ضربك .
65 - وأشياء آخر كانوا يقولونها عليه مجدفين .
66 - ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة عليه ليميتوه وأحضروا إلى محفلهم .
67 - وقالوا : إن كنت أنت المسيح فقل لنا ، فقال لهم : إن قلت لكم لا تؤمنون .
68 - وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني .
69 - ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله .
70 - فقال الجميع : أفأنت ابن الله ، فقال لهم : أنتم تقولون إني أنا هو .
71 - فقالوا ما حاجتنا إلى شهادة إنا قد سمعنا من فمه .
فأوثقوه ، وأما يهوذا الأسخريوطي الدافع ، لما رأى يسود قد دِينَ ندم ومضى فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلاً : لقد أخطأت بتسليم دماً زكياً ، فقالوا له : ما علينا أنت أخبر ، فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه ، وأما رؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا لا يحل لنا أن نضعها في بيت التقدمة لأنها ثمن دم .
1 - ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطُسَ .
2 - وطفقوا يشكونه قائلين : إنا وجدنا هذا يفسد أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر ويدعي أنه هو المسيح الملك .
3 - فسأله بيلاطُس قائلاً : هل أنت ملك اليهود ؟ فأجابه قائلاً : أنت قلت .
4 - فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع : إني لم أجد على هذا الرجل علة .
5 - فلجّوا وقالوا : إنه يهيج الشعب إذ يعلم في اليهودية كلها مبتدئاً من الجليل إلى هنا .
6 - فلما سمع ببلاطس ذكر الجليل سأل : هل الرجل جليلي .
7 - ولما علم أنه من إيالة هيرؤدس أرسله إلى هيرؤدس وكان في تلك الأيام في أورشليم .
8 - فلما رأى هيرؤدس يسوع فرح جداً لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ويرجو أن يعاين آية يصنعها .
9 - فسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء .
10 - وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة .
11 - فازدراه هيرؤدس مع جنوده وهزأ به وألبسه ثوباً لامعاً وردّه إلى بيلاطيس .
12 - وتصادق هيردؤس وبيلاطُس في ذلك اليوم ، وقد كانا من قبل متعاديين .
13 - فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب .
14 - وقال لهم : قد قدمتم إليّ هذا الرجل كأنه يفتن الشعب ، وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة مما تشكونه به .
15 - ولا هيرؤدس أيضاً لأني أرسلتكم إليه وهو ذا لم يُصنع به شيء من حكم الموت .
16 - فأنا أؤدبه وأطلقه .
17 - وكان لا بد له أن يطلق لهم في كل عيد رجلاً .
18 - فصاحوا كلهم جملة قائلين : ارفع هذا وأطلق لنا بَرْأبّا .
19 - كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتلٍٍ .
20 - فنادم بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع .
21 - فصرخوا قائلين : اصلبه ، اصلبه .
22 - فقال لهم مرة ثالثة : وأي شر صنع هذا ؟ إني لم أجد عليه علة للموت فأنا أؤدبه وأطلقه .
23 - فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم .
24 - فحكم بيلاطس أن يُجْرَي مطلبهم .
25 - فأطلق لهم الذي طلبوه ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب .
قال مفسروهم : ولذا يظهر أن اللصين اللذين صلبا معه جلدا أيضاً ، والجلادون كانوا ستين نفراً ، وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد خشية أن يطلقه بيلاطس ونزعوا ثيابه وألبسوه لباساً قرمزياً وضفروا إكليلاً من شوك العوسج ، ووضعوه على رأسه ، وأنشبوا في رأسه عنفاً أشواكه الحادة ، ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على إبقاء إكليلاً من شعر في رأس الكهنة تذكاراً لإكليل المسيح الشوكي ، ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين : السلام يا ملك اليهود وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه ، ولما هزؤا به نزعوا ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستقاوه ليصلب ، وكان يتقدمه مُبَوّق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود ، وخشبة الصلب على منكبيه .
32 - وانطلق معه بآخرين مجرمين ليُقتلا .
ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمين ، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار . . . . .
وناولوه خلّاً بمرارة أو خمراً ممزوجاً بعلقم بعد أن طلب الماء فذاقه ولم يشرب .
ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها ، وكانت المسامر في راحة اليدين والرجلين ، ضربوا جنبه بالحرية فنفذت من صدره ، وفي الصليب محل يسند إليه رجليه ، واقتسموا ثيابه بالقرعة وهي ثلاثة : القميص والرداء والجبة ، ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد ، وجلسوا هناك يحرسون لئلا يسرقه أحد .
وكان الشعب واقفين ينظرون ، والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين : قد خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار .
36 - وكان الجند أيضاً يهزؤون به .
37 - وقائلين : إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك .
38 - وكان عنوان فوقه مكتوباً بالحروف اليونانية واللاتينة والعبرانية : هذا هو ملك اليهود .
44 - ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة .
45 - وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه .
46 - ونادى يسوع بصوت عظيم قائلاً : إيل إيل لِمَ شبقتني ؟ أي : إلهي إلهي لم ذا تركتني ؟ فكان أناس من القائمين يقولون : دعوا ننظر هل يإتي إيليا فيخلصه ، ثم صرخ أيضاً بصوت عالٍٍ وأسلم الروح .
47 - فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلاً : في الحقيقة كان هذا الرجل صديقاً .
48 - وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر ، لما عاينوا ما حدث ، رجعوا وهم يقرعون صدروهم .
49 - وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك .
50 - وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق .
51 - ولم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم .
52 - فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه .
53 - فأنزله ولفه في كتان ووضعه في قرب منحوت لم يكن وضع فيه أحد .
54 - وكان يوم التهيئة أي : الجمعة وقد أخذ السبت يلوح . . . . .
وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له : قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حيّ : إني أقوم بعد ثلاثة أيام ، فمر أن يحرسوا القبور حتى اليوم الثالث ، لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلاً ويقولوا للشعب : إنه قام من بين الأموات ، فتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى ، فأمر لهم بجنود يحرسونه وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود ، وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر .
قال مفسروهم : إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها والتوفيق بين أجزائها وبين أقوال باقي الإنجيلين . انتهى .
وإذا بزلزلة عظيمة قد ضارت لأن ملك الرب انحدر من السماء ، وكان الملك جبريل ظهر بهيئة شاب وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه ، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج ، ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات .
فقال للنسوة : لا تخفن ، فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب ، إنه ليس ههنا ، فإنه قد قام .
وقال لوقا :
55 - كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل ، يتبعن ، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده .
56 - ثم رجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً ، وفي السبت قررن على حسب الوصية .
1 - وفي أول الأسبوع باكراً جداً أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه .
2 - فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر .
3 - فدخلن فلم يجدن جسد يسوع .
4 - وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس برّاق .
5 - وإذ كن خائفات ونكسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن : لماذا تطلبن الحي بين الأموات .
6 - إنه ليس ههنا لكنه قام ، اذكرن كيف كلمكن وهو في الجليل .
7 - إذ قال إنه ينبغي لابن البشر أن يُسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب ويقوم في اليوم الثالث .
فذكرن كلامه .
ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله .
وقلن لهم : قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه .
10 - ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا .
فكان عندهم عند الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن .
12 - فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجباً في نفسه مما كان .
13 - وإن اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عِمّاوْسُ بعيدة عن أورشليم ستين غلوة .
14 - وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها .
15 - وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما .
16 - ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته .
17 - فقال لهما : ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين .
18 - فأجاب أحدهما : أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام .
19 - فقال لهما : وما هو ؟ قالا له : ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلاً نبياً ذا قوة في العمل والقول أما الله والشعب كله .
20 - وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه .
21 - واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك .
22 - إلا أن نساء منا أدهشننا لأنهن بكرن إلى القبر .
23 - فلم يجدن جسده فأتين وقلن : إنهن رأين مظهر ملائكة قالوا إنه حي .
24 - فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه .
25 - فقال لهما : يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء .
26 - أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده .
27 - ثم أخذ يفسر لهما ، من موسى ومن جميع الأنبياء ، ما يختص به في الأسفار كلها .
28 - فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق إلى مكان أبعد .
29 - فألزماه قائلين : امكث معنا لأن المساء مقبل وقد مال النهار ، فدخل ليمكث معهما .
30 - ولما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما .
31 - فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما .
32 - فقال أحدهما للآخر : أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب .
34 - وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين .
وهم يقولون : لقد قام يسوع في الحقيقة وتراءى لسِمعان .
35 - فأخذا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز .
36 - وبينما هم يتحدون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام لكم ، أنا هو لا تخافوا .
37 - فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحاً .
38 - فقال لهم : ما بالكم مرتعدين ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم .
39 - انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو جسُّوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي .
40 - ثم أراهم يديه ورجليه .
41 - وإذ كانوا غير مصدقين بعدُ من الفرح ومتعجبين قال : أعندكم ههنا طعام .
42 - فأعطوه قطعة من سمك مشوي وشهد عسل .
43 - فأخذ وأكل أمامهم .
ثم أخذ الباقي وأعطاهم .
وبعد مفاوضته معهم .
50 - خرج بهم إلى بيت عَنْيَا ورفع يديه وباركهم .
51 - وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء .
هذا ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجاً ببعض تفاسيرهم ، وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح ، وأشد انسجاماً من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد ، كما في " ذخيرة الألباب " من كتبهم .
فصل
في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة
اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القفصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها ، كما قال تعالى : { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } [ النساء : 157 ] .
قال البرهان البقاعي رحمه الله في " تفسيره " بعد ( أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم ، وقال : أحسن ما رُدّ على الإِنسَاْن بما يعتقده ) ما نصه : فقد بان لك أن أناجيلهم كلها أتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد ، وهو الأسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه ، وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو ، وأن الوقت كان ليلاً ، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه : كلكم تشكون فيّ هذه الليلة ، وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره ، وإن بطرس [ في المطبوع : بطس ] إنما تبعه من بعيد ، وإن الذي دل عليه خنق نفسه ، وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات ، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد ، وما يدري النسوة الملك من غيره ، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن ، وأما الآيات التي وقعت على تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها . . . . وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه ، ويدل على أن المصلوب ، إن صح أنهم صلبوه ، من ظنوه إياه ، هو الذي دل عليه .
قال بعض العلماء ، إنه ألقى شبهه عليه ، ويؤيد ذلك قولهم إنه خنق نفسه ، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه : فجزموا به ، والله أعلم . انتهى .
وقال العلامة خير الدين الآلوسي في " الجواب الفسيح " : اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح عليه السلام مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم أنزل ودفن ، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد ، ثم انبعث حياً بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات ، وظهر بعد لحواربيه . . . . إلى آخر ما قاله - هو ما أجمع عليه النصارى ، ويرد ذلك العقل والنقل ، وإن صدقتهم اليهود في قتله ، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية ، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية ، على أن المقتول هو الشبه ، وأن الحال عند صالبيه اشتبه ، وأن المسيح رفعه الله تعالى ، قبل القتل ، إليه ، لشرفه عنده ومكانته لديه ، قال الله تعالى في بيان حال اليهود : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } الآية ، وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أءنت المسيح بن الله ؟ فقال له : أنت قلت ، ولم يجبه بأنه المسيح ، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له : نعم ، ولم يُوَرّ ولم يتلعثم ، وهو محلف بالله ، لا سيما وهو بزعمهم الإله ، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه .
وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله .
28 - إن المسيح صعد قبل الصليب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا .
29 - فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق .
30 - وإذا موسى بن عِمْرَان وإيليا .
31 - قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم .
32 - وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا .
وهذا من أوضح الدلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به ، إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه ، ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه ، عليه السلام ؛ أن إيليا يأتي ، فلما رفعوه على الخشبة ، كما في الأناجيل ، قالوا : دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه ، فصاروا في شك يريدون تحقيقه ، فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح ، وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم ، فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره ، ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم ، يجوز أن يكون طوراً من أطوار روحه ، لأنه عليه السلام لا يبعد أن يكون له قوة التطور ، وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن ، لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك ، كإحياء الموتى وكثرة الخبز والحيتان وإبراء الأكمه والأبرص .
وقال يوحنا التلميذ :
1 - كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهودي في طلبه .
4 - فخرج إليهم يسوع وقال لهم : من تريدون ؟
قالوا : يسوع ( وقد خفي شخصه عنهم ) ، قال : أنا يسوع ، وفعل ذلك مرتين وقد أنكروا صورته .
فانظر أيها العاقل كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم ، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء ، وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه ، فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضاً على ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق .
ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها ، كدعواهم الألوهية مع قوله عليه الصلاة والسلام ( عند صلبه بزعمهم ) : إلهي ! إلهي ! لم تركتني ، وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من نجيل متى :
يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس أي : الموت ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك ، وقام يصلي ، وقوله لرئيس الكهنة : إنكم من الآن لا ترون ابن الإِنسَاْن حتى ترونه جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء ، يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه ، وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا : إن المريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شرطاً ليقبضوا على المسيح ( يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم ) قال : أنا ماكث أيضاً معكم زماناً ، ثم انطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدونني ، وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلاً ، قال اليهود في ذواتهم : فإلى أين ؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن ، قال مفسروهم أي : يصعد إلى السماء ، وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث .
ثم نقل خير الدين نحواً مما أسلفناه عن أناجيلهم وقال بعض ذلك : فَأجِل في تناقضها قداح فكرك ، وفي تهافتها خيول ذهنك ، لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلاً ونقلاً ، كما قال تعالى : { وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } وليتبين لك عبوديته ورسالته عليه السلام ، فإن ذلك ظاهر من العبارات ، ولنزدك في البيان وضوحاً بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحاً ومشروحاً .
منها : قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها ، ولما جاءت النسوة عشية السبت المفسر صباحه عن الأحد ، وجدنه فارغاً ، وقد قام منه المدفون ، مع أن النصارى يزعمون كما في أناجيلهم ، أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام ، كما بقي يونان ، أي : يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بليالهيا ، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في الأمر .
ومنها : سؤالة اليهود مرتين من تطلبون ؟ وهم يقولون : يسوع الناصري ، فلم يعرفوه وهو يقول لهم : أنا .
ومنها : أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه ، وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده ، فلو كان معلوماً لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال ، مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم .
ومنها : أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له : أنا المسيح ، بل قال له : أنت قلت .
ومنها : إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله ، وإنكاره كفر .
ومنها : أنه لما سأله الوالي : أنت هو ؟ لم يردّ له جواباً ، فلو كان هو لاعترف وأقرّ .
ومنها : أنه لما كان أخذه ليلاً ، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال ، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه ، فكيف بين الشيء وشبهه ؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو ؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة ، ويحتمل أن المسيح ذهب من الجماعة الذين أطلقهم الأعوان ، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح ، فألقى الله تعالى عليه الشبه ، واتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم ، وهذا فدى نفسه لإلهه ، بزعم النصارى .
ومنها : أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه ، وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح ، والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح .
ومنها : قوله عليه السلام الذي تقدم آنفاً : أنا ماكث معكم زماناً ، ثم أنطلق إلى من أرسلني ، فتطلبوني فلا تجدوني ، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلاً ، فهذا صريح في الثاني عشر من " إنجيل يوحنا " ما لفظه : قال له الجموع : نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد ، فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع من هو هذا ابن البشر ؟ قال لهم يسوع : إن النور معكم زماناً آخر يسيراً ، امشوا ما دام لكم النور ، لئلا يدرككم الظلام ، ومن يمش في الظلام فلا يدري أين يذهب ، آمنوا بالنور ما دام لكم النور ، قال يسوع هذا وذهب متوارياً عنهم . انتهى .
ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى : { بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } [ النساء : 158 ] .
منها : أن اليهود قالوا لعيسى : إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد .
أي : فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان ، بل تبقى إلى قيام الساعة ، ولم يكذبهم في نقلهم ذلك ، والمسلمون يقولون : إنه رفع حياً إلى السماء وهو الآن حي فيها ، وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة ، ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية ، ويتوفى ويدفن عند النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهو حي إلى الأبد ، يعني إلى قرب قيام الساعة ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى ، وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضاً على أنه ليس بإله :
أحدها : أنه قال : ابن البشر ، يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى ، لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يديه للإيمان بنبوته .
ثانيها : لو كان إلهاً لما توارى منهم خائفاً من قتلهم له ، لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم ، وعالم بزمن قدرتهم عليه ، فكيف يفر وهو يعلم وقت موته ؟ وهو خالق الموت والحياة ؟ ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه ، ويرفعه إليه محفوظاً مكرماً ، كما أجري عليه يديه إحياء الموتى ، وخلقه من غير أب ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، لا سيما وهو بزعمهم إنه العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم ، فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب ، على ما زعموا ، لرب الأرباب ، مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب .
~عجباً للمسيح بين النصارى وإلى أي : والد نسبوه
~أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم بعد ضربه صلبوه
~فإذا كان ما يقولون حقاً وصحيحاً ، فأين كان أبوه ؟
~حين خلى ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه ؟
~فلئن كان راضياً بأذاهم فاحمدوهم لأنهم عذبوه
~ولئن كان ساخطاً فاتركوه واعبدوهم لأنهم غلبوه
وفي كتاب " الفاصل بين الحق والباطل " ما نصه : وفي الذي اتخذتموه شهيداً على صلبه من كلام عاموص النبي ، أن الله تعالى قال على لسانه : ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل ، والرابعة لا أقبلها ، بيعهم الرجل الصالح - حجة عليكم لا لكم ، لأنه لم يقل بيعهم إياي ، ولا قال بيعهم إلها متساوياً معي .
ويجري تأويل ذلك على وجهين : إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه ( الرجل الصالح ) كما قال عاموص ، وليس بالإله المعبود ، وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه ، ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى عليه السلام ، كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى عليه السلام ، ووقوع الشبه على غيره ، وذلك من وجوه :
أحدها : يوجد في الإنجيل أن عيسى عليه السلام صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا ، فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق ، وإذا بموسى بن عِمْرَان وإيليا قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم ، فوقع النوم على الذين معه ، فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود ، وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك ، وغيرتم الكلم عن مواضعه ، وظهور الأنبياء عليه السلام وتظليل السحابة ، ووقوع النوم على التلاميذ ، يكون حينئذ دليلاً ظاهراً على الرفع إلى السماء وعدم الصلب ، وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات .
وثانيها : ما في الإنجيل أيضاً أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلاً مضافاً بمر ، فذاقه ولم يشربه ، فنادى : إلهي إلهي لم خذلتني ؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه عليه السلام كان يطوي أربعين يوماً وأربعين ليلة ، ويقول للتلاميذ : إني لي طعاماً لستم تعرفونه ، ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوماً وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد ؟ هذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء ؟ أو كيف بالرب على ما تدعونه ؟ فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره ، وهو الذي شبه لكم .
وثالثها : قوله : إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني ؟ هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء ، وعدم التسليم لأمر الله تعالى ، وعيسى عليه السلام منزه عن ذلك ، فيكون المصلوب غيره ، لا سيما وأنتم تقولون : إن المسيح عليه السلام إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه ، ويخلّصه من الشيطان ورجسه ، فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك ، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون ، عليهم السلام ، لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم ، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم ، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه ، ولم يهابوا مذاقه ، مع أنهم عبيده ، والمسيح بزعمكم وَلَدٌ وَرَبٌّ ، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم ، ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره ، وهو الذي شبه لكم .
فصل
فيما روي عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم في تفسير هذه الآية .
قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى في " تفسيره " هنا ما نصه : وَكَانَ مِنْ خَبَر الْيَهُود عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه وَسَخَطه وَغَضَبه وَعِقَابه ، أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّه عِيسَى اِبْن مَرْيَم بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ النُّبُوَّة وَالْمُعْجِزَات الْبَاهِرَات ، الَّتِي كَانَ يُبْرِئ بِهَا الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه ، وَيُصَوِّر مِنْ الطِّين طَائِراً ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَائِراً يُشَاهِد طَيَرَانه بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّه بِهَا وَأَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ ، وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ حَتَّى جَعَلَ نَبِيّ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يُسَاكِنهُمْ فِي بَلْدَة بَلْ يُكْثِر السِّيَاحَة هُوَ وَأُمّه عَلَيْهِمَا السَّلَام ، ثُمَّ لَمْ يُقْنِعهُمْ ذَلِكَ حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِك دِمَشْق فِي ذَلِكَ الزَّمَان ، وَكَانَ رَجُلاً مُشْرِكاً مِنْ عَبَدَة الْكَوَاكِب وَكَانَ يُقَال لِأَهْلِ مِلَّته الْيُونَان ، وَأَنْهَوْا إِلَيْهِ أَنَّ فِي بَيْت الْمَقْدِس رَجُلاً يَفْتِن النَّاس وَيُضِلّهُمْ وَيُفْسِد عَلَى الْمَلِك رَعَايَاهُ فَغَضِبَ الْمَلِك مِنْ هَذَا وَكَتَبَ إِلَى نَائِبه بِالْقُدْسِ أَنْ يَحْتَاط عَلَى هَذَا الْمَذْكُور ، وَأَنْ يَصْلُبهُ وَيَضَع الشَّوْك عَلَى رَأْسه ، وَيَكُفّ أَذَاهُ عَنْ النَّاس ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَاب اِمْتَثَلَ وَالِي بَيْت الْمَقْدِس ذَلِكَ ، وَذَهَبَ هُوَ وَطَائِفَة مِنْ الْيَهُود إِلَى الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، وَهُوَ فِي جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه اِثْنَيْ عَشَر أَوْ ثَلَاثَة عَشَر وَقَيلَ سَبْعَة عَشَر نَفَراً .
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة بَعْد الْعَصْر لَيْلَة السَّبْت فَحَصَرُوهُ هُنَالِكَ . فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَا مَحَالَة مِنْ دُخُولهمْ عَلَيْهِ ، أَوْ خُرُوجه إِلَيْهِمْ ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ شَابّ مِنْهُمْ ، فَكَأَنَّهُ اِسْتَصْغَرَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَعَادَهَا ثَانِيَة وَثَالِثَة ، وَكُلّ ذَلِكَ لَا يُنْتَدَب إِلَّا ذَلِكَ الشَّابّ ، فَقَالَ : أَنْتَ هُوَ ، وَأَلْقَى اللَّه عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ ، وَفُتِحَتْ رَوْزَنَة مِنْ سَقْف الْبَيْت ، وَأَخَذَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام سِنَةٌ مِنْ النَّوْم فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاء ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : { إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعك إِلَيَّ } الْآيَة .
فَلَمَّا رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَر ، فَلَمَّا رَأَى أُولَئِكَ ذَلِكَ الشَّابّ ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى فَأَخَذُوهُ فِي اللَّيْل وَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْك عَلَى رَأْسه ، وَأَظْهَرَ الْيَهُود أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي صَلْبه وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ وَسَلَّمَ لَهُمْ طَوَائِف مِنْ النَّصَارَى ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّة عَقْلهمْ ، مَا عَدَا مَنْ كَانَ فِي الْبَيْت مَعَ الْمَسِيح فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا رَفْعه .
وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَّ الْيَهُود أَنَّ الْمَصْلُوب هُوَ الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَرْيَم جَلَسَتْ تَحْت ذَلِكَ الْمَصْلُوب وَبَكَتْ ، وَيُقَال إِنَّهُ خَاطَبَهَا وَاَللَّه أَعْلَم .
وَهَذَا كُلّه مِنْ اِمْتِحَان اللَّه عِبَاده لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّه الْأَمْر وَجَلَّاهُ وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي الْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُوله الْكَرِيم ، الْمُؤَيَّد بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَات ، وَالدَّلَائِل الْوَاضِحَات ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ ، وَرَبّ الْعَالَمِينَ الْمُطَّلِع عَلَى السَّرَائِر وَالضَّمَائِر ، الَّذِي يَعْلَم السِّرّ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض ، الْعَالِم بِمَا كَانَ وَمَا يَكُون ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْف يَكُون : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } أي : رَأَوْا شَبَهه فَظَنُّوهُ إِيَّاهُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَإِنَّ الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلَّا اِتِّبَاع الظَّنّ } يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ اِدَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ مِنْ الْيَهُود وَمَنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ جُهَّال النَّصَارَى ، كُلّهمْ فِي شَكّ مِنْ ذَلِكَ وَحَيْرَة وَضَلَال وَسُعُر وَلِهَذَا قَالَ : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي : وَمَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بَلْ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ .
{ بَلْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزاً } أي : مَنِيع الْجَنَاب لَا يُرَام جَنَابه ، وَلَا يُضَام مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ { حَكِيماً } أي : فِي جَمِيع مَا يُقَدِّرهُ وَيَقْضِيه مِنْ الْأُمُور الَّتِي يَخْلُقهَا ، وَلَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْحُجَّة الدَّامِغَة وَالسُّلْطَان الْعَظِيم وَالْأَمْر الْقَدِيم .
قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سِنَان حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ الْمِنْهَال بْن عَمْرو عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَرْفَع عِيسَى إِلَى السَّمَاء خَرَجَ عَلَى أَصْحَابه ، وَفِي الْبَيْت اِثْنَا عَشَر رَجُلاً مِنْ الْحَوَارِيِّينَ ، يَعْنِي فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْن فِي الْبَيْت وَرَأْسه يَقْطُر مَاء ، فَقَالَ : إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُر بِي اِثْنَيْ عَشْر مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِي ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَيَكُون [ يكن في المطبوع ] مَعِي فِي دَرَجَتِي ؟ فَقَامَ شَابّ مِنْ أَحْدَثهمْ سِنّاً فَقَالَ لَهُ : اِجْلِسْ . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابّ فَقَالَ : اِجْلِسْ . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابّ فَقَالَ : أَنَا فَقَالَ : هُوَ أَنْتَ ذَاكَ ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى ، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَة فِي الْبَيْت إِلَى السَّمَاء .
قَالَ : وَجَاءَ الطَّلَب مِنْ الْيَهُود فَأَخَذُوا الشَّبَه فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضهمْ اِثْنَتَيْ [ اثني ] عَشْرَة مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِهِ ، وَافْتَرَقُوا ثَلَاث فِرَق :
فَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ اللَّه فِينَا مَا شَاءَ ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاء وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّة .
وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا اِبْن اللَّه مَا شَاء ثُمَّ رَفَعَهُ [ اللَّه ] إِلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّة .
وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا عَبْد اللَّه وَرَسُوله مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ .
فَتَظَاهَرَتْ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَة فَقَتَلُوهَا ، فَلَمْ يَزَلْ الْإِسْلَام طَامِساً حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى اِبْن عَبَّاس ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي كُرَيْب عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة ِنَحْوِهِ .
وَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ السَّلَف أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ؟ .
وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد حَدَّثَنَا يَعْقُوب الْقُمِّيّ عَنْ هَارُون بْن عَنْتَرَة عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه قَالَ : أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَة عَشَر مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْت ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ صَوَّرَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كُلّهمْ عَلَى صُورَة عِيسَى ، فَقَالُوا لَهُمْ : سَحَرْتُمُونَا ، لَتَبْرُزَن لَنَا عِيسَى أَوْ لنقْتُلَنكُمْ جَمِيعاً ، فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ : مَنْ يَشْرِي نَفْسه مِنْكُمْ الْيَوْم بِالْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْهُمْ : أَنَا ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ، وَقَالَ : أَنَا عِيسَى ، وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّه عَلَى صُورَة عِيسَى ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ، فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى ، وَظَنَّتْ النَّصَارَى مِثْل ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى ، وَرَفَعَ اللَّه عِيسَى مِنْ يَوْمه ذَلِكَ .
قال ابن كثير : وَهَذَا سِيَاق غَرِيب جِدّاً .
ثَم قَالَ اِبْن جَرِير : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْب نَحْو هَذَا الْقَوْل وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، حدثنا إسحاق حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل عَنْ عَبْد الْكَرِيم حَدَّثَنِي عَبْد الصَّمَد بْن مَعْقِل أَنَّهُ سَمِعَ وَهْباً يَقُول : إِنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُ خَارِج مِنْ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنْ الْمَوْت ، وَشَقَّ عَلَيْهِ ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَاماً فَقَالَ : اُحْضُرُونِي اللَّيْلَة فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَة ، فَلَمَّا اِجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْ اللَّيْل عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدُمهُمْ ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الطَّعَام أَخَذَ يَغْسِل أَيْدِيهمْ وَيُوَضِّئهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَح أَيْدِيهمْ بِثِيَابِهِ فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ .
فَقَالَ : أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ اللَّيْلَة شَيْئاً مِمَّا أَصْنَع فَلَيْسَ مِنِّي ، وَلَا أَنَا مِنْهُ ، فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : أَمَّا مَا صَنَعْت بِكُمْ اللَّيْلَة مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَام وَغَسَلْت أَيْدِيكُمْ بِيَدِي ، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَة ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْركُمْ فَلَا يَتَعَاظَم بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض ، وَلْيَبْذُلْ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍٍ نَفْسه كَمَا بَذَلْت نَفْسِي لَكُمْ ، وَأَمَّا حَاجَتِي اللَّيْلَة الَّتِي اِسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا ، فَتَدْعُونَ اللَّه لِي ، وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاء أَنْ يُؤَخِّر أَجَلِي ، فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسهمْ لِلدُّعَاءِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا ، أَخَذَهُمْ النَّوْم حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاء ، فَجَعَلَ يُوقِظهُمْ وَيَقُول : سُبْحَان اللَّه ! أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَة وَاحِدَة تُعِينُونَي فِيهَا ، فَقَالُوا : وَاَللَّه مَا نَدْرِي مَا لَنَا ، لَقَدْ كُنَّا نَسْمُر فَنُكْثِر السَّمَر ، وَمَا نُطِيق اللَّيْلَة سَمَراً ، وَمَا نُرِيد دُعَاء إِلَّا حِيلَ بَيْننَا وَبَيْنه ، فَقَالَ : يَذْهَب بالرَّاعِي وَتتُفَرَّق الْغَنَم ، وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍٍ نَحْو هَذَا يَنْعِي [ بِهِ ] نَفْسه .
ثُمَّ قَالَ : الْحَقّ ، لَيَكْفُرَن بِي أَحَدكُمْ قَبْل أَنْ يَصِيح الدِّيك ثَلَاث مَرَّات ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدكُمْ بِدَرَاهِم يَسِيرَة وَلَيَأْكُلَن ثَمَنِي ، فَخَرَجُوا فَتَفَرَّقُوا ، وَكَانَتْ الْيَهُود تَطْلُبهُ ، وَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَد الْحَوَارِيِّينَ وَقَالُوا : هَذَا مِنْ أَصْحَابه فَجَحَدَ وَقَالَ : مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ ، فَتَرَكُوهُ . ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْت دِيك فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَد الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُود ، فَقَالَ : مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيح ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَماً ، فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْل ذَلِكَ ، فَأَخَذُوهُ فَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ ، وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ ، وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ كُنْت تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتهَر الشَّيْطَان ، وَتُبْرِئ الْمَجْنُون ، أَفَلَا تُنْجِي نَفْسك مِنْ هَذَا الْحَبْل ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْك ، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَة الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا ، فَرَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ فَمَكَثَ سَبْعاً ، ثُمَّ إِنَّ أُمّه وَالْمَرْأَة الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأَبْرَأهَا اللَّه مِنْ الْجُنُون ، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ الْمَصْلُوب فَجَاءَهُمَا عِيسَى فَقَالَ : عَلامَا تَبْكِيَانِ ؟ فَقَالَتَا عَلَيْك ، فَقَالَ : إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّه إِلَيْهِ ، وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْراً ، وَإِنَّ هَذَا شَيء شُبِّهَ لَهُمْ ، فَأْمُرِا الْحَوَارِيِّينَ أن يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَان كَذَا وَكَذَا ، فَلَقُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَان أَحَد عَشَر ، وَفَقَدُوا [ وفقد في المطبوع ] الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُود فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابه ، فَقَالَوَا : إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ ، فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسه ، فَقَالَ : لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّه عَلَيْهِ . ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَام يتَبِعَهُمْ يُقَال لَهُ يُحَنَّى ، فَقَالَ : هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ َيُصْبِحُ كُلّ إِنْسَان يُحَدِّث بِلُغَةِ قَوْمه ، فَلْيُنْذِرهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ .
قال ابن كثير : سِيَاق غَرِيب جِدّاً .
وقال ابن جريج عن مجاهد : صلبوا رجلاً شبه بعيسى ، ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حياً .
فصل
في رد زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة
قال خير الدين في " الجواب الفسيح " قال النصارى : القول بإلقاء الشبه على عيسى عليه السلام قول يفضي إلى السفسطة ، والدخول في الجهالات ، وما لا يليق بالعقلاء ، لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإِنسَاْن ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته ، وكذلك سائر المعارف ، لا يثق الإِنسَاْن بأحد منهم ولا يسكن إليه ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإِنسَاْن يقطع بأن ولده هو ولده ، وإن كل واحد من معارفه هو ، من غير شك ولا ريبة ، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإِنسَاْن ووطنه إذا دخله ، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه ، بل إذا غمض الإِنسَاْن عينيه عن صديقه بين يديه لحظة ، ثم فتحها ، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه ، لجواز إلقاء الشبه على غيره ، وكل ذلك خلاف الضرورة ، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة ، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلاً ، فلا يسمع .
والجواب عنه من وجوه :
أحدهما : أن هذا تهويل ليس عليه تعويل ، بل البراهين القاطعة ، والأدلة لساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإِنسَاْن وجملة أجزاء العالم ، وإن حكم الشيء حكم مثله : فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله ، لتعذر خلقه في نفسه ، فيلزم أن يكون خلق الإِنسَاْن مستحيلاً ، بل جملة العالم ، وهو محال بالضرورة ، وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم ، فجميع صفات جسد عيسى عليه السلام لها أمثال في حيز الإمكان في العدم ، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح ، فيحصل الشبه قطعاً ، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن ، لا بما هو خلاف الضرورة ، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى عليه السلام ، وهو أعظم من الشبه ، فإن جَعْلَ حيوان يشبه حيواناً ، وإنسان يشبه إنساناً - أقرب من جعل نبات يشبه حيواناً ، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى ، كما أجمعوا على قلب النار برداً وسلاماً ، وعلى قلب لون يد موسى عليه السلام ، وعلى انقلاب الماء خمراً وزيتاً للأنبياء عليهم السلام ، وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة ، على أن عيسى عليه السلام قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماءٍٍ واحدٍٍ ، ونفخ جبريل في جيب مريم ، فجعلُ شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة ، من خلقه ، على أن إحياءه للموتى ، وإبراءَه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره ، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها ، ليس بأهون من ذلك ، على أن رد الشمس ليوشع بن نون ، ومشي عيسى وحواريّه على الماء ، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل ، ليس بأهون مما هنالك ، وإذا صح عند النصارى انقالب الخبز إلى جسد المسيح ، والخمر إلى دمه في العشاء السرّي ، لِمَ لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم ؟ كما لا يخفى .
وثانيها : أن الإنجيل ناطق بأن المسيح عليه السلام نشأ بين ظهراني اليهود ، وحضر مراراً عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم ، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم ، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله ، حتى إنهم ( كما في الإنجيل ) يقولون : أليس هذا ابن يوسف ؟ أليست أمه مريم ؟ أليس إخوته عندنا ؟ فمن أين له هذه الحكمة ؟ وإذاً ، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم .
وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه ، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهماً ليدلهم عليه ، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلاً من تلاميذه ليعرفهم شخصه ؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به .
وثالثها : أنه كما تقدم في الأناجيل ، أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شُوِّهت صورته وغُيّرت محاسنه وهيئته ، بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال ، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه ، فكيف بين الشيء وشبهه ؟ حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله ؟ فلم يجبه ، ولو كان هو لأجابه ، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه ؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } .
رابعها : قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال : من تريدون ؟ قالوا : يسوع ، وقد خفي شخصه عليهم ، ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته ، وهذا دليل الشبه ، ورفع عيسى عليه السلام ، ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح عليه السلام كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة .
خامسها : قول متى في ( الفصل الخامس والعشرين ) من ( إنجيله ) ما لفظه : حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ هذه الليلة ، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية ، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل ، فأجاب بطرس وقال له : وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً ، قال له يسوع : الحق أقول لك ، إنك هذه الليلة ، قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات . انتهى .
فقد شهد عليهم بالشك ، بل خيّرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم ، شك فقد انخرمت الثقة بأقوالهم ، وصح قوله تعالى : { وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } .
سادسها : إن في ( الفصل السابع والعشرين ) من " إنجيل متى " ما لفظه : حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دِينَ ، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ ، قائلاً : قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً ، فقالوا : ما علمنا ، أنت أبصر ، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ، ثم مضى وخنق نفسه . انتهى .
فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه ، بل فيها اختلافات ، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله ( هو هذا ) ويدل على وقوع ذلك ، ويقربه ظهور ندمه بعد هذا ، ولا سيما وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية ، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم ، فيلزم إما أن يهوذا ما دل عليه ، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة ، أو أن أناجيلهم محرفة مبدلة ، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام ، وادعى أنه هو ، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء ، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه ، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه ، وأخذوا بدله ، كما أن يهوذا ، مع أنه صديقه ورسوله ، أخذ رشوة ودلهم عليه ، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطاناً على صورته وصلبوه ، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه ، كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم ، صار فداء له ، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه ، لأنه لو كان نازلاً لتقويته لقواه ، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء ، أو فدى نفسه له .
وقال بعض الأفاضل : ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من " إنجيل لوقا " ما لفظه : أن المسيح صعد إلى جبل ليصلي ، وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه ، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجه متغيرة ، ولباسه مضيئاً لامعاً . . . . إلخ .
فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به ، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء ، ووقوع النوم على أصحابه ، وتغير وجهه وإضاءة لباسه ، إلا رفعه . . . .
ورؤيتهم له بعد ذلك ، إنما هو من تطور روحه ، لأنه عليه السلام كان له قوة التطور : وهذا من أحكام الروح والنفس .
ولئن قلنا إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام ، غير أنا نتنزل ونقول : ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجه ولباسه ، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت ، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياساً ، ومبدأ لتقويته وإيناساً ، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح ، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك ، ويهوذا قوله قول فرد ، وغير صالح للاحتجاج ، للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك ، فلم يبق في قول الفرقتين حجة أن المصلوب هو المسيح عليه السلام ، لا شبهه ، وأناجيلهم حالها معلوم لديك ، وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن ، لا يخفى عليك . انتهى .
وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو : أن عيسى عليه السلام إذا كان لم يصلب حقيقة ، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه ، ورفع هو إلى السماء ، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده ؟
والجواب : أن عيسى عليه السلام لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناساً سيفترون عليه ويقولون بألوهيتيه ، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبداً من عبيد الله ، لا يقر على جلب نفع ولا دفع ضر ، بخلاف ما لو أخبر [ في المطبوع : أخير ] بأنه لا يصلب ، أو لم يصلب ، وأن المصلوب شبهه ، فإنه ربما كان ذلك مقوياً لشبهة أولئك الجماعة ، ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل ، إذ لو اعتقد أحدٌ ، قبل إرسال نبينا عليه الصلاة والسلام ، بصلب عيسى ، لم يضره ذلك ، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى ، أَبَان خطأ النصارى في الوجهين :
أحدهما : اعتقاد أن عيسى إله .
والآخر : اعتقاد أنه قد قتل وصلب .
وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى تولاه بالرسالة ، واصطفاه وحفظه من أيدي أعدائه وحماه ، كذا في " منية الأذكياء في قصص الأنبياء " .
فصل
في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب
قال القرافي : اعلم أن النصارى قالوا : إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها ، وكلهم يخبر أن المسيح عليه السلام صلب ، وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب ، والإنجيل أيضاً مخبر عن الصلب ، فإن جوزتم كذبهم ، وكذب ما يدعي أنه الإنجيل ، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب - لزم المحال من وجوه :
أحدها : أنه يتعذر عليكم أيها المسلمون ، جعل القرآن متواتراً .
وثانيها : أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية .
فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا .
وثالثها : أن إنكار الأمور المتواترة ، جحد للضرورة فلا يسمع ، فلو قال إنسان : الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب ، لم يسمع ذلك منه ، وعدّ خارجاً عن دائرة العقلاء ، وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق ، وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك ، مشكل .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه ، وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها ، دون غيرها ، كما هو مسلم عند كل دريّ ( كذا ) مصنف ، وها نحن نوضح ذلك إن شاء الله تعالى فنقول : إن التواتر له شروط :
الشرط الأول : أن يكون المخبر عنه أمراً محسوساً ، ويدل على اعتبار هذا الشرط ، أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة ، كإخبار المعطلة عن عدم الصانع والفلاسفة عن قدم العالم ، مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة ، وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ ، فلا يثق الإِنسَاْن بالخير عن العقليات ، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر ، فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر ، أما الأمور المحسوسة ، مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد على الخطأ ، وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب ، فإذا كان المخبرون يستحيل تواطئهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر .
الشرط الثاني : استواء الطرفين والواسطة ، وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا ، إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس ، المخبر عنه ، حصل العلم بخبرهم ، وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمور المحسوس ، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك ، فلا بد أن يكون الغير المباشر عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فإنه إن جاز الكذب عليه ، وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا ، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه ، فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم ، لجواز فساد أصلهم المعتمدين عليه ، فيتعين أن يكون الأصل عدداً يستحيل تواطؤهم [ في المطبوع : توطؤهم ] على الكذب ، فهذا معنى قولنا : ( استواء الطرفين ) في كونهما عدداً يستحيل تواطؤهما على يستحيل تواطؤهم على الكذب ، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك ، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس ، بل ينقل عن غيره أيضاً ، فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضاً ، لما تقدم ، وفي هذه الصورة حمل طرفان وواسطة ، فالطرفان المخبر لنا ، والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما ، فيجب استواء الطرفين والواسطة ، والوسائط تكثرت في كونهم عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فينقسم ، بهذا التحرير ، التواتر إلى طرف فقط ، وإلى طرفين بلا وساطة ، وإلى طرفين وواسطة ، والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط ، فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول : الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة ، وأما أنه عيسى عليه السلام نفسه أو غيره ، فهذا لا يفيده الحس البتة ، بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت ، أو بأخبار الأنبياء عليهم السلام عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات ، أنا لو وضعنا في إناء رطلاً من الماء مثلاً ، وأريناه لإنسان ، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلاً آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإِنسَاْن ، وقلنا له : هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله ؟ فإنه إذا أنصف يقول : الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة ، أما أنه عين الأول أو غيره مماثلاً له ، فلا أعلم ، لكونه الحس لا يحيط بذلك ، هذا في المائعات ، وكذلك كف من تراب أو أوراق الأشجار أو أنواع الحبوب ، كالحنطة مثلاً ، إذا أخص منها حفنتان ونحو ذلك ، وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس ، إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ ، وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها .
مطلب :
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري ، والحيوان الإنسي يختلف ذلك فيه ، بحسب مقتنيه ، اختلافاً كثيراً ، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق ، وإيثار نوع من العلف على غيره ، ومكان مخصوص على غيره ، وإلزام الحيوان أنواعاً من الأعمال والرياضة دون غيرها ، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك ، ثم يتصل ذلك بالنُّطف في التوليد ، مضافاً إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف ، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك ، فتشابهت أفراد نوعه ، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة ، فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين ، ولا التمييز بين الشيئين ، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى عليه السلام دون شبهه أو مثله - ليس مدركاً بالحس ، وإذا لم يكن مدركاً بالحس ، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى عليه السلام شبهه في غيره ، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها ، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه ، وهو اللائق بكريم آلائه ، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك ، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالماً عن المعارض ، مؤيداً بكل حجة ، وسقط السؤال بالكلية .
وثانيها : سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين ، والتمييز بين الشبهين ، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب ، ويدل على أنهم ليسوا كذلك ، أن الحواريين فروا عنه ، لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود ، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم ، لا يفيد علماً بل هو ظن وتخمين لا عبرة به ، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } أي : هم لا يتيقنون ذلك ، بل يحزرون بالظن والتخمين ، وأما من جهة الملة اليهودية ، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة ، وذلك في مجرى العادة يكون نفراً قليلاً ، كالاثنين أو الثلاثة ونحوها ، يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر ، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد ، سقط اعتبارها في إفادة العلم ، لجواز كذب الناقل ، فلا يكون عدد التواتر حاصلاً في نفس الأمر ، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل ، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل ، عدلاً عن عدل ، إلى موسى وعيسى عليهما السلام ، وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل ، فأولى أن يتعذر التواتر ، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جداً ، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها ، لقرب عهدها ، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ ، فضلاً عن أصول الأديان ، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد ، في غاية الضعف - كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف ، لأن الفرع لا يزيد على الأصل .
وثالثها : أن نصوص الإنجيل مُشعرة بعدم صلب عيسى عليه السلام بخصوصه ، كما نقلنا بعضاً آنفاً .
وقال في " تخجيل الأناجيل " : فيقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه ، أتنقلونه من تواتر أم آحاداً ؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة ، ولم يثبت العلم الضروري ، إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب ، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك ، فلا يحتج بهم في القطعيات ، وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم : شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط ، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به ، وهو المصلوب ، وعلموا أنه هو ضرورة ، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر ، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة ، أكذبتم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم ، إذ قال لهم نقلتها الذين دوّنوها لهم وعليها معولهم : إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه ، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم ، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد ، ولما دخل الدار اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته ، فقالت : هذا كان مع يسوع ، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله ، وخادعهم حتى تركوه ، وذهب ولم يكد يذهب ، وأن شاباً آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به ، فترك إزاره بأيديهم وذهب عرياناً ، فهؤلاء أصحابه وأتباعه ، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم ، وأما أعداؤه اليهود ، الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر ، فلم يبلغوا عدد التواتر ، بل كانوا آحاداً وأفراداً ، لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصاً على خشبة ومعه لصان مصلوبان ، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم ، وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضاً ، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من " إنجيل لوقا " ما لفظه : فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم ، وقالوا له : إن كنت أنت المسيح فقل لنا : فقال لهم : إن قلت لكم لم تؤمنوا لي ، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني . انتهى .
وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته ، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم يمكن تواطؤهم على الكذب ، لأنهم لما لم يجدوه هو ، ولم يعلموا محل المسيح ، وكان ذلك من تلاميذه ، واستحلوا قتله أيضاً ، أشاعوا أنه هو المسيح ليترك الناس متابعته ، ولئلا يتخذوا المسيح نبياً ، وصمموا ، أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضاً ، يعملون به كما عملوا بصاحبه ، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراساً لئلا ينبش القبر ويُرى أنه غير المسيح ، ومما يزيد الأمر وضوحاً قول " إنجيل متى " في ( الإصحاح الثامن والعشرين ) : أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكاً قد نزل من السماء برّجة عظيمة ، فدحرج الحجر عن فم القبر ، وجلس عنده ، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته ، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة ، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام ، فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود ، كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم ، صلبوا شخصاً من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح ، فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود ، والنصارى الآن على صلبه ، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية ، فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده ، وهم اليهود ، ويضربونه ويعملون به ما هو محرر في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة ، مع أنه يفرّ منهم مرات كثيرة ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله : أجز عني هذه الكاس ، ويصرخ ويقول : إلهي ! إلهي ! لم تركتني ؟ ويسلم روحه ، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه ، فيعطوه خلاً بدله ، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة ، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة ، بل صار موقعاً لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به ، فكيف يكون مخلصاً بنفسه ؟
وأما النقل ، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها ، والدلالة على عدم المعرفة به ، وعدم وجوده في قبره ، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سُلَيم قوله تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } وأما قول متى في ( الإصحاح السابع والعشرين ) : فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم واسلم الروح ، وإذا حجاب الهيكل قد انشقت إلى اثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، والصخور تشققت والقبور تفتحت ، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ، وخرجوا من القبور بعد قيامته ، ودخلوا المدينة المقدسة ، وظهروا للكثيرين - فهو قول بهت ومحال ، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال ، لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ، ولم يتفق إخفاء مثله ، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع ، فحيث داموا على الجحد له والتكذيب ، دلّ على كذب ما نقله عَبَّاد الصليب ، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة ، كما علمت سابقاً ، لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع ، كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه ، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة ؟ وتقوم الأموات من قبورها ؟ ويدخلون المدينة ؟ ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك ؟ وأيضاً ، ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم ؟ فهل كان استبشاراً بمصابه ؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه ، أو كان جزعاً على مماته ؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته ؟ فواعجباً لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات ، ولم يعينوه حتى قضى ومات ، وأحيي الرمم ، وصرخ عند تسليم الروح ، ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح ، وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون ؟ أبقوا في المدينة المقدسة ؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون ؟ وهل التأم الهيكل والصخور ؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور ؟
فإن قيل : إنما لم يشتهر ذلك ، لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفاً من اليهود ، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسداً وبغياً ، قلنا : مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت ، علمها من حضر ومن غاب ، من الأعداء والأحباب ، لأنها آيات نهارية ، ومعجزات تشتهر في البرية ، ويتناقلها أهل البلدان ، وتبقى مؤرخة بكل لسان ، في سائر الملل بكل أرض وزمان ، فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال ، مما اخترعها وحررها أئمة الضلال ، ليخدعوا بها ضعفاء العقول ، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول . انتهى .
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله فكتابه " الملل " عند الكلام على النصارى : وممّا يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكوافّ ( جمع كافة ) من سائر الملحدين : أن قال قائلهم : قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل ، وجاء القرآن بأنه ( ص ) لم يقتل ولم يصلب . فقولوا لنا كيف كان هذا ؟
فإن جوّزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل ، فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه .
فإن قلتم : اشتبه عليهم ، فلم يتعمدوا نقل الباطل ، فقد جوّزتم التلبيس على الكواف ، فلعل كافتكم أيضاً ملتبس عليها . فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم .
وقولوا لنا : كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله ؟ فإن قلتم : كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه ، وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل ، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدّين به ، وفي هذا ما فيه .
وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه ، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف ، وفي هذا إبطال قول كافتكم ، بل إبطال جميع الشرائع ، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم ؛ ووقعتم ، وفي هذا ما فيه .
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى . ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بياناً لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته .
فنقول وبالله التوفيق : إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافَّةٌ ، ولا صحَّ بالخبر قط ؛ لأن الكافّة التي يلزم قبول نقلها هي : إمَّا الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لِتَنَابُذِ طرقهم ، وعدم التقائهم ، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة ، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعداً .
وإمّا أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤوا عليه ، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه ، فما نقله [ في المطبوع : نقلوه ] أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما ، وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة ، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه ، وسواء كانوا عدولاً أو فساقاً أو كفَّاراً [ وما عدا هذا من الخبر فليس كافة ، ولا يضطر سامعه إلى تصديقه ، وسواء أكانوا عدولاً أم غير عدول زيادة في الأصل ] ولا يقطع على صحته إلا ببرهان . فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلاً بعد جيل إلى الذين ادّعوا مشاهدة صلبه ، فإنَّ هنالك تبدّلت الصفة ورجعت إلى شُرَطٍٍ مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل .
والنصارى مقرّون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهاراً خوف العامة ، وإنما أخذوه ليلاً عند افتراق الناس عن الفصح ، وأنه لم يبق في الخشبة إلاَّ ست ساعات من النهار ، وأنه أنزل إثر ذلك ، وأنه لم يصلب إلاَّ في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار ، ليس موضعاً معروفاً بصلب من يصلب ، ولا موقوفاً لذلك ، وأنه بعد هذا كله رُشِيَ الشُّرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك ، وإن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة ، لم تقدم على حضور موضع صلبه ، بل كانت واقفة على بعد تنظر ، هذا كله في نص الإنجيل عندهم ، فبطل أن يكون صلبه منقولاً بكافة ، بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه .
وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم ، غُيَّباً عن ذلك المشهد ، هاربين بأرواحهم مستترين . وأنَّ "شمعون الصفا" غُرِّر ودخل دار "قيقان" الكاهن أيضاً بضوء النهار فقال له : أنت من أصحابه ؟ فانتفى وجحد ، وخرج هارباً عن الدار . فبطل أن ينقل خبرَ صلبه أحدٌ تطيب النّفس عليه على أن تظن به الصدق ، فكيف أن ينقله كافة ؟ وهذا معنى قوله تعالى : { وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق ، الذين دبروا هذا الباطل ، وتواطؤوا عليه ، هم شبهوا على من قلدهم ، فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه ، وهم كاذبون في ذلك ، عالمون أنهم كذبة ، ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة ، لبطلت النبوات كلها ، إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ، ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ، لأمكن أن يكون كل واحد مما يشبه عليه فيما يأكل ويلبس ، وفيمن يجالس ، وفي حين هو فلعله نائم ، أو مشبه على حواسه ، وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة ، وقد شاهدنا نحن مثل ذلك ، وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر ، فرأيت أنا وغيري نعشاً فيه شخص مكفن ، وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة ، في بيت ، وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد ، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ، ثم لم يلبث شهوراً نحو السبعة حتى ظهر حياً ، وبويع بعد ذلك بالخلافة ، ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه ، ورأيته ، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام .
قال أبو محمد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : وأما قوله : قد جوزتم التمويه على الكافة ، فقد بينا أنها لم تكن كافة قط ، وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس ؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات ، فلو صح أنها كانت كافة ، لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم ، حاكماً على حواسهم ومحيلاً لها ، كخروج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش ، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه ، وأما ما لم يأت خبر عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة ، فلا يجوز أن يقال ذلك ، لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعية ، وحالة الطبائع لا تدخل في الممكن ، إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل ، فيلزم قبوله ، وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز ، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك ، ولا يجوز على الجماعة كلها ، وقوله تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليداً لأسلافهم من النصارى واليهود أنه عليه السلام قتل وصلب ، فهؤلاء شبه لهم القول ، أي : أدخلوا في شبهة منه ، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت ، وشُرَطهم المدَّعون أنهم قتلوه ، وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك ، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومع من حضور الناس ، ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامة التي شبه الخبر لها .
ثم نقول لليهود النصارى ، بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسالة : إن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقاً ووطء إماء ، وهو حرام عندكم ، وعن هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه ، وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره ، وعن الأمر بذلك ، وعن كل معصية ورذيلة ، فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء ، منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم - كان كل ما أمروهم به ، مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته ، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم ، لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يحور بطبعه ، وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه كافة ، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه ، وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره ، لا أنه خار بطبعه قط ، وحتى لو صح أنه خار بطبعه ، لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل عليه السلام ، والذي يعتمد فهو قول ابن عباس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - الذي ذكرناه ، وبالله تعالى التوفيق .
وأما قوله : كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه ؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له ؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية ، قد حذر منها الأوائل كثيراً ، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام ، وذلك أنهم أوجبوا فرضاً ثم قسموه على قسمين : إما فرض بإنكار ، وإما فرض بإقرار ، وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه ، وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه ، غاش لمن اغتر به ، وإن الحقيقة ههنا أن يقول ، هل يلزم الناس ، قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بالصلب المسيح ، أو بإنكار صلبه ، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك ؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح ، وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط ، قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك ، لا بإقرار ولا بإنكار ، وإنما كان خبراً لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري ، ممكن صدق قائله ، فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك ، وهو بمنزلة شيء مغيب في دار ، فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد : ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار ؟ الإقرار بأن فيها رجلاً أم الإنكار لذلك ؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء ، ولم ينزل الله عز وجل كتاباً قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولا بإنكاره ، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه ، فإن قالوا : قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول ، قيل لهم وبالله التوفيق : الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام ، هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى ، مفتر عليه ، كافر به ، فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقاً أو كانوا كافة ، فما كان "يوحنا" و"متّى" و"بولس" إلاَّ كفاراً كاذبين ، وما كانوا قط من صالحي الحواريين .
وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذباً ، فالكاذب لا يقوم بنقله حجة ، فبطل التمويه المتقدم ، والحمد لله رب العالمين .
فصل
أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد ، فطفق يرد على المسيحيين قوله بتثليث الآلهة ، وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي ، أخذ يسلم بحقية القرآن وكذا التوراة والإنجيل الموجودين وأنهما لم يحرفا تحريفاً جوهرياً ، واعتقد بصلب المسيح يقيناً ، وصار بناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة ، أعني آية الصلب ، زاعماً أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبه الفعل لهم توبيخاً لتهكمهم وازدرائهم ، وَرَدَّ فعل الصلب إليه تعالى ، وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتاباً سماه " المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح " ولما كان مبحثه غريباً جداً ، أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته ، وأعقبها بما فوِّق عليه من سهام ردود تهافته .
قال في أول رسالته : إن التباس فهم آية الصلب هو غالباً في تقدير نائب الفاعل لفعل ( شبه لهم ) فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدراً مأخوذاً من الفعل السابق المذكور في الآية : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } وكان التقدير شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه ، أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه ، والمعنى أنه مثل أو خيل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين - انحلت المسألة تقريباً ، وزالت كل صعوبة تأويل ، حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلاً ، ولا صلب قهراً ، أو مات جبراً ، أو اضطراراً ، بل هو من نفسه ( على زعمه ) قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه ، فكأن اليهود لم يفعلوا شيئاً بقدرتهم ومجرد إرادتهم ، حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه ، وأما إن قدِّر المسيح نائب الفاعل لـ ( شبه ) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي ، لأنه لا وجه ، لغوياً ، في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره ، إذ لم يذكر صريحاً ولا إشارة .
ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى ، ولا مرة ، على ضلال اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته ، ولا كذب الإنجيل أو الحواريين ، ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح ، حال كونه نبههم مراراً على غير ضلالات عندهم .
وذكر فيه أيضاً : لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بنفي صلبه ، وفيه أيضاً : أن هذه الآية يصح تأويلها إيجابياً طبقاً لما في الإنجيل ، بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أولت بخلاف ظاهرها اللفظي ، كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك ، التي نسبت صريحاً لغيرها فاعلها الظاهر .
وقال في الفصل العاشر : أما قولنا إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة ، فهو استناد على قوله : { فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَميتَ إِذْ رَميتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] ، وقوله : { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] ، فهنا الفاعل الظاهر حساً وفعلاً إنما هو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل .
ثم قال : وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى ، وإنه تعالى هو المبايع ، فنقول : كذلك في آي الصلب وإخباره مراراً عديدة صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جل جلاله .
ثم قال : نقول أخيراً : إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماماً وكمالاً ، ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن ، ولكل فّحْوى أسفار الميثاقين أو العهدين ، بكل بيان ، إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطاً وضد الحقيقة والذوق اللغوي ، وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن ، ومن نصوص سائر الكتب المنزلة ، ولا سيما الإنجيل ، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء ، وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمداً مبلغ القرآن العظيم ، الحاوي روح الصدق والحق ، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف .
ثم قال : إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين ، ولا هو محرِّم قطعاً الاختلاف في تفسير بعض آيات ، وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين ، وليس ذلك محرماً إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات ، أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي ، ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك ، بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية .
هذا خلاصة ما أورده في رسالته ، وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر ، في تآليف بديعة ، منها كتاب " السيوف البتارة " اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها ، فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم ، وأبعد من مظنة التشيّع في شهادتهم على أنفسهم ، في أمر دينهم .
قال رعاه الله : يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموماً ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصاً ، فإنهم كانوا غالباً يرفضون حصول الصلب رفضاً باتاً ، لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف المسيح ، ونقصاً فاضحاً ، والبعض الآخر كان يجحده ارتكاناً على الأدلة التاريخية ، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة ، منها : الساطر نيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون والتاتيانيسيون والكاربو كراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيون والبوليسيون ، إذ كلهم اعتقدوا ، مع كثيرين غيرهم ، بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع ، أن المسيح سمر فعلاً ، أو مات على الصليب حقيقة ، حتى استَخَفُّوا بالصليب والصلب ، وقال بعض المؤرخين الأفاضل : إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر الذي كان سبباً في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين ، ولكن هذه الطوائف المضطهدة الهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلاً ونقلاً ، بخلاف أفكار مضطهديهم ، فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام أنهلا يجوز أن يمتهن ، واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعاً ، وأن ألفاظ التوجع والتضجر ، التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين ، لم يتفوه بها ولا تصح نسبتها إليه ، وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعاً ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم تسلط عليه أيدي مضطهديه ، بل رفع إلى السماء ، ومن القائلين ، بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية ، وغير خاف أنه حتى على فرض البنوة فقط ، لا يمكن عقلاً أن يتصور صلبه . انتهى .
ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير الموسيو إدوار سيوس ، أحد أعضاء " الانستيتو دي فرنس " في باريس ، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه ( عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية ) صحيفة ( 49 ) : إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه ، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه ، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منه الباسيليديون ، كانوا يعتقدون ، بغاية السخافة ، أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب ، ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماماً ، وألقي شبه سيمون عليه ، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين ، ومنهم السيرنتيون ، فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى ، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين ، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين ، وقد صرح " إنجيل القديس برنابا " باسم الذي صلب بدل عيسى قال : إنه يهوذا . انتهى .
ولم يردّ المؤرخ ، المترجم كلامه ، على هذا الإنجيل ، إلا بدعوى أنه كلام لا يعول عليه ، وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف ، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جماً غفيراً من طوائف النصارى ذوات البال والأهمية ، كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذاً ، وتفندها تفنيداً وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجاً ، لإنكار القرآن ، وما أنكروه من الصلب وغيره ، وبالجملة إن أغلب الشعوب الشرقية ، قبل الفتح الإسلامي ، رفضت القتل والصلب ، حتى قال ياسيليوس الباسليدي : إن نفس حادثة القيامة ، المدعى بها بعد الصلب الموهوم ، هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب ، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم ، فهم أقرب الناس إلى العمل بحقيقتها ، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم ، لحصول الجواز وقرب المسافة ، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب ؟ وبذلك يتبين أن دعوى ( صاحب جريدة شهادة الحق ) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه - غير مسلمة ، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب ، وقد صرح القرآن بأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود ، والنصارى مع بعضهم بعضاً ، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرز أقوالهم ، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم ، فكان من مبادئهم ، العاملين عليها في سياستهم العمومية ، بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود ، لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية ، والضغط على شعائرهم الملية ، يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير ( أرنست رنان ) العضو في ( الأكاديمية الفرنساوية ) المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893 ، معنونة بـ ( اليهود تحت حكم الرومان ) حيث قال : إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطى غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهرياً ، ويجعلون شعائرهم الملية شيناً ، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية ، فكان من ضغط الرومان ومن تزلف اليهود إليهم ، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب ، أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي ، وكان الواحد منهم يخف الاختتان بعملية شاقة جداً ( ذكرها سلسل المؤرخ الروماني الشهير ) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيهاً وإعجاباً بنفسه وبعوائد الرومان ، وازدراء واحتقاراً لبني جلدته وذوي ملته ، فرحاً بلقمة يلتقمها ، أو مرتبة يتربع في دستها ، وما زالت اليهود تَتَرَوْمَنُ حتى أن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع ، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية ، وأخيراً آل الأمر ، قبل وجود عيسى عليه السلام ، إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه ، بحيث أن القربانات كانت تعمل أمامه ، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود ، ووقع ذلك سيء الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها . انتهى .
وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود ، فليس من المعقول أن الحكومة ، وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود ، تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب ، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية ، خصوصاً والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت ، كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار ، وهم يكرهونه أشد من ذلك ، دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى " حياة المسيح " حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غيّر التوراة ، وكان ذلك على زعمهم ليستوجب قتله ، حيث قال : إن حاكم فلسطين المسمى ( بونسيوس ) الملقب ( بيلاطس ) - أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم ، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة ، وبالإجمال ، كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم ، لأنهم كانوا يجدونه قاسياً ذا أنفة وكبر ، غير مكترث بهم ، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل ، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا ، سحق أثر الشريعة الموسوية سحقاً ومحوها محواً ، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم ، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية ، التي كانت نهاية فخر كل رومانيّ في ذلك الحين ، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية ، لأنه كلما هي بجلب النافع العام ، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية ، قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير ، فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية ، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم ، فانشغب الأمر ودام الفشل ، وأخيراً اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه ، ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق ، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى عليه الصلاة والسلام ، حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه ، وعيسى ضد اليهود ، ويعيب التوراة كما يقولون ، فكان ذلك عن رغبة الحاكم ، وجل ما يتمنى ، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله ؟ مع أنه كان قادراً على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم ، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالاً كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة ، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة ، فَرَاقه ذلك ، زيادة عن كراهته لليهود ، فعمل على خلاصه من الصلب ، كما يتضح من " إنجيل متى " 27 و 24 ، " ولوقا " 23 و 12 ، " ويوحنا " 13 - 23 وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة ( كما هو مذكور في " إنجيل متى " 27و 19 ) : إياك وهذا البارّ ، لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله ، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة ، والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قضرها المطلة على أفنية هيكل سليمان عليه السلام ، فظهر لها بكماله الحقيقي فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور ، وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد ، أن بيلاطس كان محباً لعيسى عليه السلام حباَ شديداً ، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته . انتهى .
فيؤخذ من كلام ( رنان ) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ ، كان مضاداً للصلب ، فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح عليه السلام ، وتبديله بآخر ، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح ، حتى إن ترتوليانوس ، أحد آباء الكنيسة النصرانية ، جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانياً في الباطن ، وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلف ( ملمن ) : إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام ، فيستنتج من ذلك أيضاً إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس ، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم ، كما اعتقد بعض الطوائف ، وصدقهم القرآن ، ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين ( كالمسيوشارل بيكار ) و ( أرنست دي بونس ) وغيرهما ، فإن الأول قال : إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير ، لتوافق اعتقادات قديمة ، مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم ، وكانت اليهود تقدم أولادها قرباناً للذبح استجلاباً لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه ويقول : إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه ، ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء ، بدل ذبح الآدمي قرباناً بذبح الحيوان ، وأطال المسيو ( بيكار ) في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مع هذه العوائد القديمة ، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملاً رمزاً عن شيء عندهم اسمه ( اللنجام ) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما .
وأما المسيو ( أرنست دي بونس الألماني ) فإنه قال في كتابه المسمى بـ " النصرانية الحقة " صحيفة 142 ما معناه : إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء ، هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه ، من الذين لم يروا المسيح عليه الصلاة والسلام ، لا من أصول النصرانية الأصلية .
فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ ، فضلاً عن كونه لم يثبت مسألة الصلب والقتل ، يرجح نفي حصوله رجحاناً لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي ، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى ، لأنهم أبناء جلدتها ، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية ، فيؤخذ من كل ذلك :
أولاً : أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح عليه الصلاة والسلام ، وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية ، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها .
ثانياً : وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم .
وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيداً لا مزيد عليه ، ومن ضمنها ، أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة ، ومن المعلوم أن الحكم ، في ذلك الموضوع ، الرجم لا الصلب ، فهذا مما يرتكن عليه مثل المرسيو ( شارل بيكار ) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزاً لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة وهي مسألة الفدا . انتهى كلام صاحب السيوف البتارة .
ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه ، أعياه الرد من الطريقة التاريخية ، فأخذ يرد عليها تشبثاً بأسباب واهية فعدّ ، كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول ، هرطوقياً ، أي : مارقاً من الدين ، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج ، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية وقال : أنه لا يمكنه أن يزيف شيئاً منها ما دامت شاهدة من أولها إلى آخرها بحصول الصلب حقيقة ، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق .
فعاد صاحب " السيوف البتارة " وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه ، تكملة للأول ، فتوسع جزاه لله خيراً في هذا الموضوع ثم قال ( في الكلام على الإنجيل ) ما لفظه : أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير ، إذ لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة ، ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل ، مختلفة كل الاختلاف ، متضاربة كل التضارب ، ولا يدري لماذا عدلوا عن " إنجيل برنابا " مثلاً الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية ، فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح نبي ، عبد ، مخلوق ، ليس بإله ، وأنه لم يصلب ، وفيه البشارة بسيدنا محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مذكوراً بلفظه ( كذا ) ، وهاك ما قاله السيد المسيح في الإنجيل المذكور ( وإني وإن كنت برياً ، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي إنه الله وابن الله ، كره الله هذا القول واقتضت مشيئه بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة عليّ ولا يستهزؤون ، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا ، ويظن كل شخص أني صلبت ، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله ، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط ، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس ) .
وقد استشهد العلامة ( سيل ) الإنكليزي ، المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف ، بهذه الآية الإنجيلية ، تفسيراً لقوله تعالى في سورة آل عِمْرَان : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 54 ] وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة ، حتى أن العالم الإنكليزي ( تولاند ) قال : وعلى النصرانية السلام ، بمجرد رؤيته هذا الإنجيل ، ثم قال : قال العلامة ( هيردر ) وجماعة آخرون : إن الإنجيل الأصلي كان واحداً ، إلا أنه لم يكتب ، بل قال المسيح مشافهة ، وروه الحواريون عنه للناس شفاهياً أيضاً ، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص ، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم ، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر ، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت ، وكتب أخيراً منها أناجيل شتى ، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية .
ثم قال مؤلف " السيوف البتارة " : فوضح وضوحاً تاماً لذي بصيرة ، أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطاً لا تقوم بعده أبداً ، سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان ، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم ، لذهاب أصلها أدراج الرياح ، بثبوت التحريف والتغيير لها .
ثم قال : وأما قوله ( يعني المذبذب ) ، بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة - فغريب ، لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح ، وهل الاقتصار ، في الرد من باحث ، على قوله ( كفرة ) يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة ؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح ، وإذا جاز إطلاق ( كفرة ) على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية - جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني ، وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم ، وتكون في ردك بكلمة ( هراقطة ، كفرة ) أشبه لمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة ( لا ) فقط ، فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها ، ثم قال : فقد برح الخفاء وانكشف الغطاء وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن ، وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا ، وذهبوا فيه كل مذهب ، فلا تكاد تجد قولاً لأحدهم في أي : عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم ، حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات ، فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه ، ولا اجتمع فيه رأيان ، كان ذلك من باب التقليد والتسليم ، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال : إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصورٍٍ ، هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم ( كما يقولون ) وأساس معتقدهم ، حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين ، ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى علها ديننا في شيء ، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين ، كالإخبار عن نوح وإبراهيم وموسى ، مما سبق لنحو الوعظ والاعتبار - فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلب أو قتل ، ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحدٌ منهم في كل عصر ومكان ، وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته ، ولو حكّمنا غير متدين في هذه المسالة ، ونظر لأهميتها عند النصارى ، مع عدم قدرتهم على إثباتها ، ولفرعيتها عند المسلمين ، مع إجماعهم على نفيها إجماعاً لا مثيل له في العالم - لا نبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم ، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره ، وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم ، على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له ، ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف ، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم ، لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين ، من غير استناد على دليل نقلي صحيح ، أو عقلي مسلم ، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد ، ناشدين الحقيقة ، فانجلت ، لكثير منهم ، عن تدمير هذا البناء التقليدي ، والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم ، ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم ، أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء ، وألوهية عيسى إلى غير ذلك - قد أَبَان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين ، كما جاء في رسالته لأهل غلاطية ، حيث قال : أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوباً ، وقال في رسالته لأهل رومية : نحن نقوم بشبه موته ، إلى أن قال : فدفنا معه بالمعمودية ، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته ، نصيراً أيضاً بارتفاعه ، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه إلخ ، فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة ، وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب ، كما جاء في إنجيل برنابا ، وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق ، وأنت لاهٍٍ عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال ، وإنما أتينا بكلامه تنزلاً معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية ، فنقول : حتى على فرض صحة ما روي عن بولس نفسه ، فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل ، لا لحصولهما حقيقة ، هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها ( الشرير فدية الصديق ) لكان معناه ، على مقتضى زعمك ، أن عيسى شرّ بالإضافة لكل أحد ، وهذا لا يجوز لا عقلاً ولا شرعاً ، فوجب ، أخذاً من عبارة التوراة ، أن يكون المصلوب شريراً فداءً لصديق ، هو عيسى عليه الصلاة والسلام ، كما جاء في إنجيل برنابا انتهى ملخصاً .
ولن يعدم الحق أنصاراً ، والباطل خزياً وانكساراً .
فصل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في كتابه " الفرقان " وهو من آخر مصنفاته ، صنفه بقلعة دمشق ، ما لفظه : ( فإن قيل ) فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب ، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم ، وقال لهم : أنا المسيح ، ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته - فالشيطان ليس هو لحم وعظم ، وهذا أثر المسامير ، أو نحو هذا الكلام - فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 47 ] ، وقال قبل هذا : { وَقَفّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لّلمتّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لم يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 46 - 47 ] ، وقال قبل هذا : { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمؤْمِنِينَ إِنّا أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلمواْ لِلّذِينَ هَادُواْ وَالرّبّانِيّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } [ المائدة : 43 - 44 ] وقال أيضاً : { وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] ، وقال أيضاً : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍٍ حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ ألمائدة : 68 ] ، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأهل الكتاب ، الذين بعث إليهم ، وهو من كان في وقتهم ، ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة ، لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم ، وكذلك قوله : { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ } [ المائدة : 43 ] ، إخبار عن اليهود الموجودين ، وأن عندهم التوارة فيها حكم الله ، وكذلك قوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه } [ المائدة : 47 ] ، هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل ، ومن لا يؤمر على لسان محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قيل قبل هذا : إنه قد قيل ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدّل ، فإن التوراة انقطع تواترها ، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة ، ثم من هؤلاء من زعم أن كثيراً مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله ، ومنهم من قال : بل ذلك قليل ، وقيل : لم يحرف أحد شيئاً من حروف الكتب وإنما حرَّفوا معانيها بالتأويل ، وهذان القولان ، قال كلاً منهما كثير من المسلمين ، والصحيح القول الثالث ، وهو أن في الأرض نسخاً صحيحة ، وبقيت إلى عهد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ونسخاً كثيرة محرّفة ، ومن قال : إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه .
ومن قال : جميع النسخ بعد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ويخبر أن فيهما حكمه ، وليس في القرآن خبر أنهم غيّروا جميع النسخ ، وإذا كان كذلك فنقول : هو سبحانه قال : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه } [ المائدة : 47 ] ، وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح ، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى عليه السلام ، ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل ، من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما ، ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى ، بل هو مما كتبوه [ في المطبوع : كبتوه ] مع ذلك التعريف بحال توفيهما ، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما ، ليس هو مما أنزله الله عليهما ، ولا هو مما أمرا به في حياتهما ، ولا مما أخبرا به الناس وكذلك : { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍٍ حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ } [ المائدة : 68 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] ، فإن إقامة الكتاب ، العمل بما أمر الله به في الكتاب ، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول .
وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك ، ليس هو مما أنزله الله على الرسول ، ولا مما أمر به ، ولا أخبر به ، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة ، يصنف الشخص كتاباً فيذكر ناسخه ، في آخره ، عمر المصنف ونسبه وسنه ، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف ، ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن ، وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن ، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا ( آمين ) ، ولا غير ذلك .
والمصاحف القديمة والتي كتبها أهل العلم ، على هذه الصفة ، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء ، وكتب في آخر المصحف تصديقه ، ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك ، وليس هذا من القرآن ، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى [ في المطبوع : إلي ] الحواريين ، ليس هو مما قاله المسيح ، وإنما هو مما رآه من بعده ، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله ، فإن قيل : فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب ، وأنه أتاهم بعد أيام ، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين ، فقد دخلت الشبهة .
قيل : الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء ، إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء ، فإن الحجة في كلام الأنبياء ، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة ، إن كان حقّاً قُبِلَ وإِلاَّ رُدّ ، ولهذا كان ما نقله الصحابةُ عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من القرآن والحديث يجب قبوله ، لا سيما المتواتر ، كالقرآن وكثير من السنن .
وأما ما قالوه ، فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم ، وما تنازعوا فيه ، رُدَّ إلى الله والرسول ، وعُمَرُ قد كانَ أَوَّلاً أنكر موت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حتى ردَّ ذلك عليه أبو بكر ، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه ، وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة ، وتنازعوا في قتال مانعيّ الزكاة ، فلم يكن هذا قادحاً فيما نقلوه عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح ، ولم يشهد أحد منهم صلبه ، فإن الذي صُلِبَ إنما صلبه اليهود ، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضراً ، وأولئك اليهود الذين صلبوه ، قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح ، وقد قيل إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح ، ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس ، والأول هو المشهور ، وعليه جمهور الناس ، وحينئذ فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب ، ولكن عمدتهم على ذلك ، الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال ، أنا المسيح ، وذاك شيطان ، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيراً ما تجيء ويدّعي ( كذا ) إنه نبي أو صالح ، ويقول ، أنا فلان النبي والصالح ، ويكون شيطاناً ، وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاءٍٍ وقال : أنا المسيح جئت لأهديك ، فعرف أنه الشيطان ، فقال : أنت قد بلغت الرسالة ، ونحن نعمل بها ، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك ، فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب ، كما قال تعالى : { وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } [ النساء : 157 ] ، وأضاف الخبر عن قتله ، إلى اليهود بقوله : { وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ } [ النساء : 157 ] ، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة ، إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح .
ومن جوز قتله فهو كمن قتله ، فهم في هذا القول كاذبون ، وهم آثمون ، وإذا قالوه فخراً لم يحصل لهم الفخر ، لأنهم لم يقتلوه ، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه ، وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إذا التقى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ > ، قالوا : يا رسول [ الله ] ! فما بال المقتول ؟ قال : < إِنَّهُ كان حريصاً عَلى قَتْلَ صَاحِبِهِ > .
وقوله : { وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ } : قيل هم اليهود والنصارى والآية تعم الطائفتين .
وقوله : { لَفِي شَكّ مّنْهُ } من قتله ، وقيل : منه ، أي : في شك منه ، هل صلب أم لا ؟ كما اختلفوا فيه ، فقالت اليهود : هو ساحر ، وقالت النصارى : إنه إله ، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا ؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم ، فإذا كان هذا في الصلب فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال إنه هو المسيح ؟
فإن قيل : كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم ، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ } [ آل عِمْرَان : 55 ] ، وقوله : { فَأَيّدْنَا الّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [ الصف : 14 ] ، قيل : ظنٌّ من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه ، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح ، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه ، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين ، وغاية الصلب أن يكون قتلاً له ، وقتل النبي لا يقدح في نبوته ، وقد قتل بنو إسرائيل كثيراً من الأنبياء ، قال تعالى : { وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ } [ آل عِمْرَان : 146 ] الآية ، وقال تعالى : { وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [ آل عِمْرَان : 143 ] ، وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم ، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم جاءهم في اليقظة ، فإنهم لا يكفرون بذلك ، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعاً للسنة وأتباعاً لها ، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره ، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله فهذا غلط منه لا يوجب كفره ، فكذلك ظنُّ من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح ، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه ، وعُمَرُ - لما كان يعتقد أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يمت ، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه - لم يكن هذا قادحاً في إيمانه ، وإنما كان غلطاً ورجع عنه ، وقوله تعالى : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلم } هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم . انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه .
ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري رحمه الله ، قصيدة في هذا المقام ، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام ، قال قدس سره :
~جاء المسيح من الإله رسولاً فأبى أقل العالمين عقولا
~قوم رأوا بشراً كريماً فادعوا من جهلهم لله فيه حلولا
~وعصابة ما صدقته وَأكثرت ، بالإفك والبهتان ، فيه القيلا
~لم يأت فيه مُفْرِط ومُفَرِّط بالحق تجريحاً ولا تعديلا
~فكأنما جاء المسيح إليهم ليكذبوا التوراة والإنجيلا
~فاعجب لأمته التي قد صيرت تنزيهها لإلهها التنكيلا
~وإذا أراد الله فتنة معشر وأضلهم ، رَأوُا القبيح جميلا
~هم بجّلوه بباطل فابتزّه أعداؤه بالباطل التبجيلا
~وتقطعوا أمر العقائد بينهم زمراً ، ألَمْ تَرَ عقدها محلولا
~هو آدم في الفضل إلا أنه لمن يُعْطَ حال النفخة التكميلا
~أسمعتموا أنه الإله لحاجة يتناول المشروب والمأكولا ؟
~وينام من تعب ويدعو ربه ويروم من حر الهجير مقيلا
~ويمسُّه الألم الذي لم يستطع صرفاً له عنه ولا تحويلا
~يا ليت شعري ، حين مات بزعمهم من كان بالتدبير عنه كفيلا ؟
~هل كان هذا الكون دبر نفسه من بعده أم آثر التعطيلا ؟
~زعموا الإله فدى العبيد بنفسه وأراه كان القاتل المقتولا
~أجْزُوا اليهود بصلبه خيراً ، ولا تجزوا ( يهوذا ) الآخذ البرطيلا
~أيكون قوم في الجحيم ويصطفى منهم كليماً ربُّنا ، وخليلا
~وإذا فرضتم أن عيسى ربكم ، أفلم يكن لفدائكم مبذولاً ؟
~وأجل روحاً قامت الموتى به عن أن يرى بيد اليهود قتيلا
~فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم من كتبكم ما وافق التنزيلا
~شهد الزبور بحفظه ونجاته ، أفتجعلون دليله مدخولاً ؟
~أيكون من حفظ الإله مضيعاً أو من أشيد بنصره مخذولاً ؟
~أيجوز قول منزه لإلهه سبحان قاتل نفسه مقتولا ؟
~أو جل ّمن جعل اليهودُ بزعمكم شوك القتاد لرأسه إكليلا
~ومضى لحبل صليبه مستسلماً للموت مكتوف اليدين ذليلا
~كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا
~ضل النصارى في المسيح وأقسموا لا يهتدون إلى الرشاد سبيلاً

وهي سابغة الذيل ، كلها من هذا النفس البديع .
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم ، وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام ، وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود ، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجلُّ المراتب - بيّن تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة ، من القطع بكذبهم ، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عداوته ، سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره ، الذي منه التصديق بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، مؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } [ 159 ]
{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي : ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان ، إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي : موت عيسى عليه السلام ، أي : لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام ، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل ، إشارة إلى أن موسى عليه السلام ، إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً ، فالنبي الذي ينسخ شريعة موسى ، وهو عيسى عليهما السلام ، هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربيّ ، في تجديد شريعته ، وتمهيد أمره ، والذود عن دينه ، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة ، وأتباع مستكثرة ، أمر قضاه الله تعالى في الأزل ، فاقصروا أيها اليهود ، فمعنى الآية إذن ، والله أعلم : إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه السلام على شك ، إلا وهو يوقن بعيسى عليه السلام قبل موته ، بعد نزوله من السماء ، أنه ما قتل وما صلب ، ويؤمن به عند زوال الشبهة ، أفاده البقاعي .
روى البخاريّ عن أبي : < وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدلاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْراً لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا > .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } .
وأخرجه مسلم أيضاً وابن مردويه وزاد بعد قوله ( قبل موته ) : موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات .
ورواه الإمام أحمد عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيضاً مَرفوعاً وَلفظه : < يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَمْحُو الصَّلِيبَ وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلاَةُ وَيُعْطَى الْمَالُ حَتَّى لاَ يُقْبَلَ وَيَضَعُ الْخَرَاجَ وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ أَوْ يَجْمَعُهُمَا > .
قَالَ : وَتَلاَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } فَزَعَمَ حَنْظَلَةُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى ، فَلاَ أَدْرِي هَذَا كُلُّهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ شَىْءٌ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ .
ورواه حامد أيضاً عن عبد الرحمن عن أبي هريرة وفيه : < وَيُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الإِسْلاَمِ ، وَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ > .
وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم : < فينزل عند المنارة شرقي دِمشق > .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير ، هنا الأَحَادِيث المُتَوَاتِرَة في نزوله عليه السلام وَسَلَّمَ ، مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ وَأَبِي أُمَامَة وَالنَّوَّاس بْن سَمْعَان وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَمُجَمِّع بْن جَارِيَة وَأَبِي سَرِيحَة وَحُذَيْفَة بْن أُسَيْد رَضي الله عنهم ، وَفِيهَا دِلَالَة عَلَى صِفَة نُزُوله وَمَكَانه مِنْ أَنَّهُ بِالشَّامِ بَلْ بِدِمَشْق عِنْد الْمَنَارَة الشَّرْقِيَّة ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُون عِنْد إِقَامَة صَلَاة الصُّبْح .
قَال ابن كَثير : وَقَدْ بُنِيَتْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَار ، فِي سَنَة إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعمِائَةِ ، مَنَارَة لِلْجَامِعِ الْأُمَوِيّ بَيْضَاء مِنْ حِجَارَة مَنْحُوتَة عِوَضاً عَنْ الْمَنَارَة الَّتِي هُدِمَتْ بِسَبَبِ الْحَرِيق الْمَنْسُوب إِلَى صَنِيع النَّصَارَى ، عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه الْمُتَتَابِعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، وَكَانَ أَكْثَر عِمَارَتهَا مِنْ أَمْوَالهمْ ، وَقَوِيَتْ الظُّنُون أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَنْزِل عَلَيْهَا الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِما السَّلَام ، وَهَذَا إِخْبَار مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ .
قلت : وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى .
وَذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بْن عَسَاكِر فِي " تَارِيخه " عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، بَعدَ نزولهِ ، يُدْفَن مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَته ، فَاَللَّه أَعْلَم .
والتأويل المذكور في الآية رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير والعوفي ، كلاهما عن ابن عباس .
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس في الآية قال : يعني الْيَهُود خَاصَّة ، وبه إلى الْحَسَن : يعني النجاشي [ و ] أصحابه .
وبه إليه قال : إِنَّ اللَّه رَفَعَ إِلَيْهِ عِيسَى وَهُوَ بَاعِثه قَبْل يَوْم الْقِيَامَة مَقَاماً يُؤْمِن بِهِ الْبَرّ وَالْفَاجر .
وكذا قال قَتَادَة وعبد الرحمن بن زَيْد بْن أَسْلَم وغير واحد .
قال ابن كثير : وهذا القول هو الحق .
وروي عن ابن عباس أيضاً ومحمد بن الحنفية ومجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين والضحاك وجُوَيْبِر ؛ أن المعنى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت ذلك الكتابيّ عند الغرغرة ، حين لا ينفعه الإيمان ، ذهاباً إلى أنه إذا عاين عَلِمَ الحق من الباطل ، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه .
قال عِكْرِمَة : قال ابن عباس : لا يموت اليهوديّ حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عجل بالسلاح .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم ؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم - بعثاً لهم وتنبيهاً على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاماً للحجة لهم انتهى .
قال الأصبهانيُّ : ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أُبَيّ بْن كَعْب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : ( إلا ليؤَمُننَّ به قبل موتهم ) بضم النون وإلحاق ميم الجمع .
والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلها [ في المطبوع : كلهم ] صحيحة ، كما قاله ابن كثير .
وثمة وجه آخر ، وهو أن الضمير الأول : للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، والثاني : للكتابيّ . رواه ابن جرير : عن عِكْرِمَة قال : لَا يَمُوت النَّصْرَانِيّ وَلَا الْيَهُودِيّ حَتَّى يُؤْمِن بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلا الآية .
قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول ، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب ، بعد نزول عيسى عليه السلام ، إلا آمن به قبل موته أي : قبل موت عيسى عليه السلام .
قال ابن كثير : ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح ، لأنه المقصود من سياق الْآي ، في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سَلَّمَ لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شُبِّهَ لهم فقتلوا الشَّبَه ، وهم لا يَتَبَيَّنُونَ ذلك ، ثم إنه رفعه إليه ، وإنه باق حيٌّ ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة ، فيقتل مَسِيح [ في المطبوع : مسح ] الضَّلَالَة ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ( يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف ) .
فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم .
ثم قال : فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى : أن كل كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما السلام - فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له ، إذا كان قد شاهد الملك ، كما قال تعالى : في أول هذه السورة : { وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ } [ النساء : 18 ] ، وقال تعالى : { فَلما رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ } الآية .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ } أي : عيسى عليه السلام : { عَلَيْهِمْ } أي : على أهل الكتاب : { شَهِيداً } أي : بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء ، وبعد نزوله إلى الأرض .
قال قَتادة : يشهد عليهم أنه قد بلَّغهم الرسالة من الله ، وأقرّ بعبوديته لله عز وجل ، وهكذا كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ } إلى قوله : { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 116 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِظُلم مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً } [ 160 ]
{ فَبِظُلم } أي : بسبب ظلم عظيم ؛ فالتنوين للتفخيم ، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه ، بعد أن حرمته التوراة .
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ } أي : تلبسوا باليهودية ، وفيه تعظيم ظلمهم أيضاً ، إذ صدر عنهم بعدما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق .
{ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍٍ أُحِلّتْ لَهُمْ } قال ابن كثير : هَذَا التَّحْرِيم قَدْ يَكُون قَدَرِيّاً ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَهُمْ لِأَنْ تَأَوَّلُوا فِي كِتَابهمْ ، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا أَشْيَاء كَانَتْ حَلَالاً لَهُمْ ، فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسهمْ تَضْيِيقاً وَتَنَطُّعاً ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون شَرْعِيّاً ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة أَشْيَاء كَانَتْ حَلَالاً لَهُمْ قَبْل ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلّ الطَّعَام كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزَّل التَّوْرَاة قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ } [ آل عِمْرَان : 93 ] ، أي : ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، من لحوم الإبل وألبانها ، ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : { وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] ، أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه .
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى : { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم : { كَثِيراً } أي : ناساً كثيراً ، أو صَداً كثيراً ، فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق ، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ، ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقاً من الأنبياء ، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 161 ]
{ وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } أي : في التوراة : { وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ } بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ } أي : من اليهود المصرّين على الكفر ، لا لمن تاب وآمن من بينهم : { عَذَاباً أَلِيماً } وجيعاً يخلص إلى قلوبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلم مِنْهُمْ وَالمؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالمقِيمينَ الصّلاَةَ وَالمؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالمؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } [ 162 ]
{ لّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلم مِنْهُمْ } أي : الثابتون في العلم المستبصرون فيه ، كَعَبْد اللَّه بْن سَلَام [ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ] .
قال الرازي : الثابتون فيه ، وهم في الحقيقة المستدلون ، لأن المقلد يكون بحيث إذا شُكِّكَ يَشُكُّ ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة ، فالراسخون هم المستدلون .
{ وَالمؤْمِنُونَ } أي : من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ بصحبة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ } من القرآن .
{ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك ، وأنه صدق ما أنزل من قبلك ، فلا بد من الإيمان به أيضاً .
{ وَالمقِيمينَ الصّلاَةَ } قال ابن كثير : هكذا هو في مصاحف الأئمة ، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بْن كَعْب .
قال الزمخشري : ارتفاع ( الراسخون ) على الابتداء ، و : { يُؤْمِنُونَ } خبره و : { وَالْمُقِيمِينَ } نصب على المدح ، لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد . ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف . وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم في النصْبِ على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مَثَلُهُمُ في التوراة ومَثَلُهُم في الإنجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذب المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم .
وقيل : هو عطف على : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي : يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء .
وفي مصحف عبد الله ( والمقيمون ) بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ .
وجوز عطف ( المقيمين ) على الضمير في ( منهم ) وعطفه على الضمير في و ( إليك ) ، والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه ، قال تعالى : { يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ } [ يونس : 57 ] كذا في حواشي الشذور ، وقد أشار الزمخشري بقوله ( كانوا أبعد همة ) إلى ردّ ما نقل ، أن عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، لما فرغ من المصحف أتى به إليه ، فقال : قد أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، ولو كان المُمْلي من هذيل والكاتب من قُريش ، لم يوجد فيه هذا .
قال الحافظ السخاوي : هذا الأثر ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع ، لأن عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - جُعَلَ للناس إماماً يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط ، إلا فيما هو من وجوه القراءات ، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ، كيف يقيمه غيرهم ؟
وتأول قوم اللحن في كلامه ( على تقدير صحته عنه ) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله :
~مَنْطِقٌ رائع وتلحن أحيا ناً ، وخير الكلام ما كان لحنَا
أي : المراد به الرمز ، بحذف بعض الحروف خطّاً ، كألف ( الصابرين ) مما يعرفه القراء إذا رأوه ، وكذا زيادة بعض الحروف ، كذا في " عناية الراضي " .
{ وَالمؤْتُونَ الزّكَاةَ } رفعه بالعطف على : { الرّاسِخُونَ } أو على الضمير في : { يُؤْمِنُونَ } أو على أنه مبتدأ ، والخبر : { أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ } والوجوه المذكورة تجري في : { المقِيمينَ } على قراءة الرفع : { وَالمؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يعني : والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب ، وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع ، لأنه المقصود في هذا المقام ، لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم ، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه ، فبيّن لهم ما يلزمهم ويجب عليهم .
{ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } يعني الجنة ، لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح .
لطيفة :
في الآية وجوه من الإعراب ، أحسنها ما اعتمده أبو السعود ، من أن جملة : { أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ } إلخ ، خبر للمبتدأ الذي هو : { الرّاسِخُونَ } وما عطف عليه ، وأن جملة : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ } إلخ حال من : { المؤْمِنُونَ } مبينة لكيفية إيمانهم ، أو اعتراض مؤكد لما قبله .
قال : وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد الآخرون بالأجر العظيم ، كأنه قيل إِثْرَ قوله تعالى : : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجراً عظيماً ، وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ } إلخ خبراً للمبتدأ ، ففي كمال السداد ، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ 163 ]
{ إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ } اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشاداً ، ولكن للتعنت واللجاج ، وبيّن أنواعاً من فضائحهم - أشار إلى رد شبهتهم ، فاحتج عليهم بأنه ليس بدعاً من الرسل ، وأمرُه في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم ، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى ، وإذا لم يكن هذا من شرط النبوة ، وَضَحَ أن سؤالهم محض تعنت .
تنبيه :
قيل : بدأ بنوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام ، والحلال والحرام ، وفي " العناية " بدأ به تهديداً لهم ، لأنه أول نبيّ عوقب قومه ، لا أنه أول مشرع ، كما توهم ، وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لا أنه غير موحى إليه أصلاً ، كما قيل . انتهى .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } وهم أولاد يعقوب عليهم السلام .
{ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلم اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [ 164 ]
{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي : في السور المكية .
{ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } أي : لم نسمهم لك في القرآن ، وقد أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين .
روي في عدتهم أحاديث تُكُلِّم في أسانيدها ، منها :
حديث أَبِي ذَرّ : < إن الْأَنْبِيَاء مِائَة أَلْف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَلْفاً ، والرُّسُل ثَلَاثمِائَةٍ وَثَلَاثَة عَشَر > ، صححه ابن حبان ، وخالفه ابن الجوزي فذكره في " موضوعاته " واتهم به إبراهيم بن هاشم ، وقد تكلم فيه غير واحد .
{ وَكَلم اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة ، لأن تأكيد ( كلَّم ) بالمصدر يدل على تحقيق الكلام ، وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك ، لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر ، فلا يقال : أراد الحائط يسقط إرادة ، وهذا رد على من يقول : إن الله خلق كلاماً في محلٍ ، فسمع موسى ذلك الكلام .
قال الفراء : العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإِنسَاْن كلاماً ، بأي طريق وصل ، لكن لا تحققه على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة .
قال بعضهم : كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء ، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحاً في نبوة من أنزل عليه كتابه منجماً من الأنبياء ، كذا في " اللباب " .
تنبيه :
يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام ، فإنها من أعظم مسائل الدين ، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين ، واضطربت فيها الأقوال ، وكثرت بسببها الأهوال ، وأثارت فتناً وجلبت محناً ، وكم سجنت إماماً ، وبكت أقواماً ، وتشعبت فيها المذاهب ، واختلفت فهيا المشارب ، ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة ، المقتفين لأثر الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، فنقول : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عليه رحمة الرحيم السلام ، في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه :
فصل
ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان ، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات ، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة : أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدا وإليه يعود ، هكذا قال غير واحد من السلف .
روي عن سفيان بن عيينة عن عَمْرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال : ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك ، القرآن الذي أنزله الله على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم ، وهو كلام الله لا كلام غيره ، وإن تلاه العباد وبلّغوه بحركاتهم وأصواتهم ، فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً ، لا لمن قاله مبلغاً مؤدباً ، قال الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } [ التوبة : 6 ] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ فِي لَوْحٍٍ مّحْفُوظٍٍ } [ البروج : 21 - 22 ] ، وقال تعالى : { يَتْلُو صُحُفاً مّطَهّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ } [ البينة : 2 - 3 ] ، وقال : { إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍٍ مّكْنُونٍٍ } [ الواقعة : 77 - 78 ] .
والقرآن : كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه .
كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله ، وإعرابُ الحروف هو من تمام الحروف ، كما قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ قَرَأَ الْقُرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات > .
وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : حفظ إعراب القرآن أحبُّ إلينا من حفظ بعض حروفه .
ثم قال رحمه الله : والتصديق بما ثبت عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت ، إلى أمثال لك من الأحاديث ، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة .
وقال أئمة السنة : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، حيث تلي ، وحيث كتب ، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل ، ولا يقال غير مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد ، ولم يقل أحد قط من أئمة السلف : إن أصوات العباد بالقرآن قديمة ، بل أنكروا على على من قال ( لفط العبد بالقرآن مخلوق ) .
وأما من قال : إن المداد قديم - فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة ، قال الله تعالى : { قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلماتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلماتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ الكهف : 109 ] ، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته ، وكذلك من قال ( ليس القرآن في المصحف ، وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة ) فهو مبتدع ضال ، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هو ما بين الدفتين ، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس ، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء ، وكذلك من زاد على السنة فقال : إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة ، مبتدع ضال ، كمن قال : إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت - فإنه أيضاً مبتدع منكر للسنة ، وكذلك من زاد وقال : إن المداد قديم - فهو ضال ، كمن قال : ليس في المصاحف كلام الله ، وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون : إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط ، كلام الله - فهو بمنزلة من يقول : ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه ، هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي ، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة .
وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة ، نفياً وإثباتاً ، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل .
فإن من قال : إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديمٌ ، فهو ضال جاهل .
ومن قال : إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن - فهو ضال مبتدع .
بل الواجب أن يقال : هذا القرآن العربيّ هو كلام الله ، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها ، كما دخلت معانيه ، ويقال : وما بين اللوحين جميعه كلام الله ، فإن كان المصحف منقوطاً مشكولاً أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله ، فإن كان غير منقوط ولا مشكول ، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة ، كان أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله ، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاعٍ لفظيّ لا حقيقة له ، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه .
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما : القرآن حرف وصوت ، وقال الآخر ليس هو بحرف ولا صوت ، وقال أحدهما : النقط التي في المصحف والشكل من القرآن ، وقال الآخر : ليس ذلك من القرآن ، فما الصواب في ذلك ؟
فأجاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : الحمد لله رب العالمين ، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس ، ويخلطون الحق بالباطل ، فالذي قال : إن القرآن حرف وصوت ، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يُقرأ للمسلمين هو كلام الله ، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين ، وأن جبرئيل سمعه من الله ، والنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قال تعالى : { قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رّبّكَ بِالْحَقّ } [ النحل : 102 ] ، وقال : { وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلمونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ } [ الأنعام : 114 ] - فقد أصاب في ذلك ، فإن هذا مذهب من سلف الأمة وأئمتها ، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع .
ومن قال : إن القرآن العربيّ لم يتكلم الله به ، وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره ، عبّر به عن المعنى القائم بذات الله ، كما يقول ذلك ابن كلاّب والأشعريّ ومن وافقهما - فهو قول باطل من وجوه كثيرة .
فإن هؤلاء يقولون : إنه معنى واحد قائم بالذات ، وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد ، وإنه لا يتعدد ولا يتبعض ، وإنه إن عبر عنه بالعربيّة كان قرآناً ، وبالعبرانية كان توراة ، وبالسريانية كان إنجيلاً ، فيجعلون معنى آية الكرسي ، وآية الدَّين ، و : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص : 1 ] ، و : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } [ سورة المسد : 1 ] ، والتوراة والإنجيل وغيرهما - معنى واحداً ، وهذا قولٌ فاسدٌ بالعقل والشرع ، وهو قول أحدثه ابن كلّاب ، لم يسبقه إليه غيره من السلف ، وإن أراد قائل بالحرف والصوت ، أن الأصوات المسموعة من القراء ، والمِداد الذي في المصاحف قديم أزلي - أخطأ وابتدع ، وقال ما يخالف العقل والشرع ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ > ، فبيّن أن الصوت صوت القارئ ، والكلام كلام الباري ، كما قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } [ التوبة : 6 ] .
فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله لا كلام غيره ، كما ذكر الله ذلك .
وفي السنن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ في الْمَوْقِفِ فَقُال : < أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ ؟ فَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي > .
قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم : { الم غُلِبَتِ الرّومُ } : هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ، ولكنه كلام الله تعالى .
والناس إذا بلّغوا كلام النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كقوله : < إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ > - يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه ، والمحدّث بلَّغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله [ في المطبوع : اللله ] ، إذا بلَّغته الرسل عنه ، وَقَرَأهُ الناس بأصواتهم ، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه ، ونادى موسى بصوت نفسه ، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف ، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ، ولا مثل صورته ، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
وقد نص أئمة الإسلام - أحمد ، ومن قبله من الأئمة - على ما نَطق به الكتاب والسنة : من أن الله ينادي بصوت ، وإن القرآن كلامه تكلم بحروفٍ وصوتٍ ، ليس منه شيء كلاماً لغيره ، لا جبرئيل ولا غيره ، وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم ، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ ، والكلام الباري ، وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب ، بل يجعل هذا هو هذا ، فينفيهما جميعاً ، ويثبتهما جميعاً ، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربيّ كلام الله ، وأن يكون منادياً لعباده بصوته ، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله ، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله ، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً ، لا فرق بين القديم والحادث ، وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني ، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل ، حيث جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً لا حقيقة له عند التحقيق ، وإذا أثبت ، جَعَلَ صوت الرب هو صوت العبد ، أو سكت عن التمييز بينهما ، مع قوله : إن الحروف متعاقبة في الوجود ، مقترنة في الذات ، قديمة أزلية الأعيان ، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد ، ويتحد بصفته ، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل ، وقد علم أن نفي الفرق والمباينة ، بين الخالق وصفاته ، والمخلوق وصفاته ، خطأ وضلال ، لم يذهب إليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها ، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد ، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حروفه ومعانيه ، وأنه ينادي عباده بصوته ، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد ، وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد ، ولا مداد المصاحف ، قديماً ، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين ، مقروء بألسنتهم ، محفوظ بقلوبهم ، وهو كلام الله ، والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط ، لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون ، ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها ، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز ، وإن كتبت بنقط وشكل جاز ، ولم يكره ، في أظهر قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وحكم النقط والشكل حكم الحروف فإن الشكل يبين إعراب القرآن ، كما يبين النقط الحروف ، والمدادُ الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط ، مخلوق ، وكلام الله العربيّ الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط ، وبغير شكل ونقط ، ليس بمخلوق ، وحكم الإعراب حكم الحروف ، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المنقوطة ، والشكل والنقط لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المرسومة ، فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام ، بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله : معانيه وحروفه وإعرابه ، والله تكلم بالقرآن العربيّ الذي أنزله على محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم ، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله ، وهو القرآن العربيّ الذي أنزل على نبيه ، سواء كتب بشكل ونقط ، أو بغير شكل ونقط ، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق ، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل ، غير مخلوق ، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين ، لأن كلام الله مكتوب فيها ، واحترام النقط والشكل ، إذا كتب المصحف مشكلاً منقوطاً ، كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين ، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين ، ولهذا قال أبو بكر وعمر : حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه ، فجميعه كلام الله .
فلا يقال : بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله ، وهو سبحانه نادى موسى ، بصوت سمعه موسى ، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن ، كما قال تعالى : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِالْوَادِ المقَدّسِ طُوىً } [ النازعات : 15 - 16 ] ، والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة ، وقد قال تعالى : { إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلم اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [ النساء : 163 - 164 ] ، فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى ، فمن قال : إن موسى لم يسمع صوتاً ، بل أُلهم معناه - لم يفرق بين موسى وغيره ، وقد قال تعالى : { تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍٍ مّنْهُم مّن كَلم اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍٍ } [ البقرة : 253 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍٍ أَن يُكَلمهُ اللّهُ إِلّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنّهُ عليّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] ، فقد فرّق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب ، كما كلم الله موسى ، فمن سوّى بين هذا وهذا ، كان ضالاً ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره : لم يزل الله متكلماً إذا شاء ، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته ، يتكلم بشيء بعد شيء ، كما قال تعالى : { فَلما أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى } [ طه : 11 ] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك ، وقال تعالى : { فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍٍ فَلما ذَاقَا الشّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَنَادَاهُمَا رَبّهُمَا أَلم أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشّجَرَةِ وَأَقُل لّكُمَا إِنّ الشّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوّ مّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ] ، فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة ، ولم ينادهما قبل ذلك ، وكذلك قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلملآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } [ الأعراف : 11 ] ، بعد أن خلق آدم وصوّره ، ولم يأمرهم قبل ذلك ، وكذا قوله : { إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، فأخبر أنه قال له : { كُن فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، بعد أن خلقه من تراب ، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير ، يخبر أنه تكلم في وقت معين ، ونادى في وقت معين ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى : { إِنّ الصّفَا وَالمرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } [ البقرة : 158 ] ، قال : < نبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ > ، فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة .
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين .
ثم قالت طائفة : هو معنى واحد ، وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي ، والخبر بكل مُخْبَر ، إن عبر عنه بالعربيّة كان قرآناً ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً ، وهذا القول مخالف للشرع والعقل .
وقالت طائفة : هو حروف وأصوات قديمة الأعيان ، لازمة لذات الله ، لم تزل لازمة لذاته ، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً ، أزلاً وأبداً ، لم تزل ولا تزال ، لم يسبق منها شيء شيئاً ، وهذا أيضاً مخالف للشرع والعقل .
وقالت طائفة : إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، وإنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذي سمعه موسى ، وإنما تجدد استماع موسى ، لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس ، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ، ولكن تلك الساعة سمع النداء ، وهؤلاء وافقوا الذين قالوا : إن القرآن مخلوق ، في أصل قولهم ، فإن أصل قولهم : إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته ، وقالوا : هذه حوادث ، والرب لا تقوم به الحوادث ، فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول .
واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم ، وأخطأوا في ذلك ، فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا ، وادعوا أن الرب لم يكن قادراً في الأزل على كلام يتكلم به ، ولا فعل يفعله ، وأنه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً ، بغير أمر حدث ، أو يغيّرون العبارة فيقولون : لم يزل قادراً ، لكن يقولون : إن المقدور كان ممتنعاً ، وإن الفعل صار ممكناً له ، بعد أن صار ممتنعاً عليه ، من غير تجدد شيء ، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا : كان قادراً في الأزل على ما يمكن ، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل ، فيجمعون بين النقيضين ، حيث يثبتونه قادراً في حال كونه المقدور عليه ممتنعاً عندهم ، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل ، وبين عينيه كما لم يفرّق الفلاسفة بين هذا وهذا ، بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه ، فضلّوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول ، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم ، بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث ، بعد أن لم يكن ، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته ، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية ، والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازماً ، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء ، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازماً لذاته ، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له ، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة ، فكيف بالفاعل بالإرادة ؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته ، إنما يصح فما كان من العلل يجري مجرى الشروط ، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط ، بل قد يقارنه ، كما تقارن الحياة العلم ، وأما ما كان فاعلاً ، سواء سمي علة أو لم يسم ، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين ، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته ، ولا يعرف العقلاء فاعلاً قط يلتزمه مفعول معين ، وقول القائل ( حركت يدي فتحرك الخاتم ) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين ، ولأنه لو كان العالم قديماً لكان فاعله موجباً بذاته في الأزل ، ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه ، ولو كان كذلك لم يحدث شيئاً من الحوادث ، وهذا خلاف المشاهدة ، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل ، بل لم يزل متكلماً إذ شاء ، فاعلاً لما يشاء ، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال ، منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام ، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب ، وفيه من الاختصاص ما دَل على مشيئته ، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته ، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته ، وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى ، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته ، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود ، لا نقص فيه ، منزه عن كل نقص ، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره ، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل ، منزه فيها ، عن التشبيه والتمثيل ، ومنزه عن النقائص مطلقاً ، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل ، وكماله من لوازم ذاته المقدسة ، لا يستفيده من غيره ، بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء ، وما جعله فيهم من صفات الأحياء ، وخالقُ صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله ، أن الجهمية والمعتزلة ، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم ، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً ، بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده ، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام ، بل كان ذلك ممتنعاً عليه ، وكان معطلاً عن ذلك ، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال ، مع امتناع الفعل عليه في الأزل ، فيجمعون بن النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته ، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولاً ، والأزل لا أول له ، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام ، بل هذا يكون دائماً ، وإن كان كلٌّ من آحاده حادثاً ، كما يكون دائماً في المستقبل ، وإن كان كل من آحاده فانياً : بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً ، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل ، ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك ، لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة ، كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب الوجود بغيره ، فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء ، مع مخالفتهم لسلفهم ، أرسطو وأتباعه ، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك ، وإن قالوا بقدم الأفلاك ، وأرسطوا أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين ، بناءً على إثبات علة غاية لحركة الفلك ، بتحرك الفلك للنسبة بها ، لم يثبتوا له فاعلاً مبتدعاً ، ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره ، وهم ، وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم ، فهم يسلمون لجمهور العقلاء ، أن ما كان ممكناً بذاته فلا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم ، فاحتاجوا أن يقولوا : كلامه مخلوق منفصل عنه .
وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له ، لكن قالوا : تقوم به الأمور الاختيارية ، فقالوا : إنه في الأزل لم يكن متكلماً ، بل ولا كان الكلام مقدوراً له ، ثم صار متكلماً بلا حدوث حادث ، بكلام يقوم به ، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم .
وطائفة قالت : إذا كان القرآن غير مخلوق ، فلا يكون إلا قديم العين ، لازماً لذات الرب ، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ثم منهم من قال : هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، ومنهم من قال : إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات ، وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته ، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية ، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض ، ولن يأتي يوم القيامة ، ولم يناد موسى حين ناداه ، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ، ولا تفرحه توبة التائبين ، وقالوا في قوله : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمؤْمِنُونَ } [ التوبة : 105 ] ، ونحو ذلك ، أنه لا يراها إذا وجدت ، بل إما أنه لم يزل رائياً لها ، وإمَّا أنه لم يتجدد شيء موجود ، بل تعلق معدوم ، إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة ، مع مخالفة صريح العقل ، والذي ألجأهم لذلك ، موافقتهم للجهمية على أصل قولهم : في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام ، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم : لم يزل الله متكلماً إذا شاء ، ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم : الخلقية ، والحدوثية ، والاتحادية والاقترانية ، وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة الذين يقولون : إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته ، لا قديم النوع ولا قديم العين ، ولا حادث ولا مخلوق ، بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء ، ويقولون : إنه كلم موسى من سماء عقله ، وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات ، فإنه إنما يعلمها على وجه كلي ، ويقولون ، مع ذلك : أنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله ، وقولهم ( يعلم نفسه ومفعولاته ) حق ، كما قال تعالى : { أَلَا يَعْلم مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] ، لكن قولهم ، من ذلك ( إنه لا يعلم الأعيان المعينة ) جهل وتناقض ، فإن نفسه المقدسة معينة ، والأفلاك معينة ، وكل موجود معين ، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات ، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات : تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وهم ، إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى ، إن هؤلاء يقولون : إن الحوادث تقوم بالقديم ، وإن الحوادث لا أول لها ، لكن نفوا ذلك عن الباري ، لاعتقادهم أنه لا صفة له ، بل هو وجود مطلق ، وقالوا : إن العلم نفس عين العالِمْ ، والقدرة نفس عين القادر ، والعلم والعالم شيء واحد ، والمريد والإرادة شيء واحد ، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى ، وجعلوا الصفات هي الموصوف ، ومنهم من يقول : بل العلم كل المعلوم ، كما يقوله الطوسي صاحب " شرح الإشارات " فإنه أنكر على ابن سينا إثبات لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه ، وابن سينا أقرب إلى الصواب ، لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به ، وجعل الصفة عين الموصوف ، وكل صفة هي الأخرى ، ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول : معاني الكلام شيء واحد ، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا : إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئاً واحداً ، جاز أن يكون العلم هو القدرة ، والقدرة على الإرادة ، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه ، ثم قالوا : وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى ، جاز أن تكون الصفة هي الموصوف ، فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوي ونحوهم ، فقالوا : إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف ، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق ، هو الموجود الممكن المحدث المخلوق ، فقالوا : إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق ، وقالوا : الوجود واحد ، ولم يفرّقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين ، كما لم يفرّق أولئك بين الكلام الواحد بالعين ، والكلام الواحد بالنوع ، وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام ، إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد ، الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات ، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه ، وقالوا : هو يتكلم بحرف وصوت قديم ، قالوا : أولاً إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ولا تسبق الباء السين ، بل لما نادى موسى فقال : { إِنّنِي أَنَا اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْني إِنّي أَنَا اللّهُ رَبّ الْعَالمينَ } كانت الهمزة والنون وما بينهما موجوداً في الأزل ، يقارن بعضها بعضاً ، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله ، ثم قال فريق منهم : إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء .
وقال بعضهم : بل المسموع صوتان : قديم ومحدث ، وقال بعضهم : أشكال المداد قديمة أزلية ، وقال بعضهم : محل المداد قديم أزليّ ، وحكي عن بعضهم أنه قال : المداد قديم أزليّ وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ، ولا يفهمون معناه ، بل منهم من يظن أنه قديم في علمه ، ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره ، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق ، ومنهم من لا يميز بين ما يقول ، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات ، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات ، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل .
والصواب في هذا الباب وغيره ، مذهب سلف الأمة وأئمتها : أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء ، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وأن كلماته لا نهاية لها ، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى ، وإنما ناداه حين أتى ، لم يناده قبل ذلك ، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم ، وقدرته لا تماثل قدرتهم ، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال - باطلة ، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات - باطلة ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، وقد بسطناها في " الواجب الكبير " ، والله أعلم بالصواب .
( وقال تقي الدين أيضاً في مقالة له في هذا البحث ) : أول من أظهر إنكار التكليم والمُخَالَّة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية ، وأمر علماء الإسلام ، كالحسن البصري وغيره ، بقتله ، فضحّى به خالد بن عبد الله القسريّ ، أمير العراق بواسط ، فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً ، تعالى الله عما يقول الجعد علوّاً كبيراً .
ثم نزل فذبحه ، وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان ، فأنكر أن يكون الله يتكلم ، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام ، وقال : كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر ، ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل ، من المنتسبين إلى الإسلام ، من المعتزلة ونحوهم ، في بعض مقالة الصابئة والمشركين ، متابعة [ في المطبوع : متاقبعة ] للجعد والجهم ، وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين : منهم من يقول : إن السماوات مخلوقة بعد أن لم تكن ، كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى ، ومنهم من ابتدع فقال : بل هي قديمة أزلية ، لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه ، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية ، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب ، في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد ، لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى يجمعهم ، والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور ، التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى ، وهم إنما يناظر بعضهم بعضاً بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية ، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء ، والحيوان والمعدن والنبات ، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله ، وعلم ما فوق السماوات ، أول الأمر وآخره ، وهذا غلط بيّن ، اعترف أساطينُهم بأن هذا غير ممكن ، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين ، وأنهم إن يتبعون إلا الظن ، فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى ، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله ، من أهل الكلام والجدل - صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم ، كما أخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بقوله : < لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع > ، قالوا : يا رسول الله ! فارس الروم ؟ قال : ومَن الناس إلا فارس والروم ؟ فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة ، وهو الكلام في الأجسام والأعراض ، بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام ، ثم حدوثها ، ثم يقال ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم ، فلما رأوا أن الأعراض ، التي هي الصفات ، تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض - التزموا نفيها عن الله ، لأن ثبوتها مستلزم حدوثه ، وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبي ، لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقاً وأتبع للأدلة العقلية والسمعية ، لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن ، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل ، لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها ، فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم ، كما وافقهوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات ، ورأوا أن إثباته متكلماً يقتضي أن يكون جسماً ، والجسم حادث ، لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف ، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره ، لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره ، ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره ، ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم ، والقرآن مملوء من إثبات ذلك صاروا تارة يقولون : متكلم مجازاً لا حقيقة ، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة ، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود ، ثم إنهم رأوا هذا شنيعاً فقالوا : بل هو متكلم حقيقة ، وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع ، وليس عندهم كذلك ، بل حقيقة قولهم وأصله ، عند من عرفه وابتدعه : إن الله ليس بتمكلم ، وقالوا المتكلم من فعل الكلام ، ولو في محل منفصل عنه ، ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم ، لا حقيقة ولا مجازاً ، وهذا قول من يقول : القرآن مخلوق : وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم ، وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل ، فليس هو في الكفر مثل القول الأول ، لأن هؤلاء لا يقولون : إن الله أراد أن يبعث رسولاً معيناً ، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه ، وأنكروا أن يكون متكلماً على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية ، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة ، ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة ، وبين المؤمنين أتباع الرسل ، الخلاف ، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم ، واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن ، وأن كلم موسى تكليماً ، وأنه يتكلم ، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كم فعل الأولون ، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان ، الذي علموا به مراد الرسل من أخبارهم برسالة الله وكلامه ، وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء ، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى ، حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول : إنا لنحكي ، كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية ، وكان قد كثر ظهور هؤلاء ، الذين هم فروع المشركين ، ومن اتبعهم ، من مبدلة الصابئين ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة ، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين ، الذين كانوا قبل النصارى ، ومن أشبههم من فارس والهند ، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم ، وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين ، كما يقال : المعتزلة مخانيث الفلاسفة ، فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام ، وفي أهل السيف والإمارة ، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء ، ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ، ولم يبدلوا ويبتدعوا ، وذلك لقصورٍٍ وتفريطٍٍ من أكثرهم ، في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه .
فصل
فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة ، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية ، وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضاً وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضاً ، لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى ، أو ما يقوم بمتحيز أو جسم وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام ، وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية ، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم ، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها ، كالصفات السبع ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام ، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية ؟ ولهم اختلاف في البقاء والقدم ، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات ، ولهم أيضاً اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية ؟ كالوجه واليد ، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها ، وكثير من متأخريهم لا يثبتها ، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها ، ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقلي عنده ، ومنهم من يفوض معناها ، وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات ، وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله ، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية ، قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته ، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين ، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة ، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة ، تركيب ، وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة ، لكن أولئك أشد اتباعاً للأثارة النبوية ، وأقرب إلى مذاهب أهل السنة ، من المعتزلة ونحوهم ، من وجوه كثيرة ، ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف ، لوجوه :
أحدها : كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم .
الثاني : لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضهما موروث عن الصابئة وبعضها مما ابتدع في الإسلام ، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم ، وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه .
الثالث : ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم .
الرابع : العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث ، تارة يرون ما يعلمون صحته ، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور .
فلما كان هذا منهاجهم ، وقالوا : إن القرآن غير مخلوق ، لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف ، ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات ، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية ، وبين القياس العقلي ، لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائماً بنفس الله تعالى كسائر الصفات ، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات ، لا قديماً كسائر الصفات ، ورأوا أنه ليس إلا مخلوقاً أو قديماً ، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته ، وهو دليل على حدوث الموصوف ، ويبطل لدلالة حدوث العالم ، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة ، بل إما معنى واحداً عند طائفة ، أو معاني أربعة عند طائفة ، والتزموا على هذه أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس ، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام ، بل دالة عليه ، فتسمى باسمه إما مجازاً عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة ، وإما مجازاً في كلام الله ، حقيقة في غيره عند طائفة ، وخالفهم الأولون وبعض من يستن أيضاً ، وقالوا : لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات ، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه ، أو الإرادة ونوعها ، فصار النزاع بين الطائفتين ، وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية ، ليست أنواعاً له وأقساماً ، وأن كلام الله معنى واحد ، إن عبر عنه بالعربيّة فهو قرآن ، وبالعبرية فهو توارة ، وبالسريانية فهو إنجيل ، وقال لهم أكثر الناس : هذا معلوم الفساد بالضرورة ، كما قال الأولون : إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلماً به ، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذاتٍٍ غير ذاته ، وقال لهم أكثر الناس : إن هذا معلوم الفساد بالضرورة ، وقال الجمهور من جميع الطوائف : إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعاً ، كما أن الإِنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعاً ، وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة ، وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة ، كتنوّع ألفاظه ، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع ، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق ، والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة ، وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقاً ، وفرّقوا بين كتاب الله وكلامه ، فقالوا : كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق ، وكلام الله هو معناها غير مخلوق ، وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون : إنه مخلوق ، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف ؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل ، أو أن جبرئيل هو الذي أحدثها أو محمد ؟ .
وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم ، وهم المتبعون للرسالة اتباعاً محضاً ، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين ، وهو أن القرآن كله كلام الله ، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله ، والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن ، حروفه ومعانيه ، والأمر والنهي ، هو الفظ والمعنى جميعاً ، ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ، إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء ، إذا تكلموا في الأمر والنهي ، ذكروا ذلك ، وخالفوا من قال : إن الأمر هو المعنى المجرد ، ويعلمون أهل الأثارة النبوية أهل السنة والحديث وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة ؛ أن قوله تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لّلمتّقِينَ } [ البقرة : 1 - 2 ] ، ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره ، وكلام الله هو ما تكلم به ، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به .
( وسئل تقي الدين أيضاً ) : ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين ، فيمن يقول : الكلام غير المتكلم ، والقول غير القائل ، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى ، بينوا لنا ذلك بياناً شافياً ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد ، أثابكم الله بمنه .
( فأجاب رحمه الله ) : الحمد لله ، من قال : إن الكلام غير المتكلم ، والقول غير القائل ، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه ، فهذا خطأ وضلال ، وهو من يقول : إن القرآن مخلوق ، فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره ، ويهمون الناس بقولهم : العلم غير العالم ، والقدرة غير القادر ، والكلام غير المتكلم .
ثم يقولون : وما كان غير الله فهو مخلوق ، وهذا تلبيس منهم ، فإن لفظ ( الغير ) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له ، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال : علم الله غيره ولا كلامه غيره ، ولا يقال : إن الواحد من العشرة غيرها ، وأمثال ذلك ، وقد يقال بلفظ ( الغير ) ما ليس هو الآخر ، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف ، ولكن على هذا المعنى ، لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته - مخلوقاً ، لأن صفاته ليست هي الذات ، لكن قائمة بالذات ، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله ، وليس الاسم اسماً لذات لا صفات لها ، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها ، والصواب في مثل هذا أن يقال : الكلام صفة المتكلم .
والقول صفة القائل ، وكلام الله ليس مبائناً منه ، بل أسمعه لجبرئيل ونزّله به على محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قال تعالى : { وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلمونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ } ولا يجوز أن يقال : إن كلام الله فَاَرق ذَاَته وانتقل إلى غيره .
بل يقال كما قال السلف : إنه كلام الله غير مخلوق ، منه بدا وإليه يعود .
فقولهم ( منه بدا ) رد على من قال ( إنه مخلوق في بعض الأجسام ، ومن ذلك المخلوق ابتدأ ) فبينوا أنه الله هو المتكلم به ، ومنه بدا ، لا من بعض المخلوقات .
( وإليه يعود ) أي : فلا يبقى في الصدور منه آية ، ولا في المصاحف حرف ، وأما القرآن فهو كلام الله ، فمن قال : إن القرآن ، الذي هو كلام الله ، غير الله - فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال : إن الكلام غير المتكلم .
وكذلك من قال : إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به ، فخطؤه ظاهر .
وكذلك : أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون - فقد أخطأ ، وإن أراد بالقرآن مصدر ( قرأ يقرأ قراءة وقرآناً ) وقال : أردت القراءة غير المقروء ، فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن ، وقد يراد بالقراءة المصدر ، فمن جعل القراءة التي هي المصدر ، قال : القارئ غير المقروء ، كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول ، وأراد بـ ( الغير ) أنه ليس هو إياه - فقد صدق ، فإن الكلام الذي يتكلم به الإِنسَاْن يتضمن فعلاً كالحركة ، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني ، ولهذا يجعل القول قسيماً للفعل تارة ، وقسيماً منه أخرى ، فالأول كما يقال : الإيمان قول وعمل .
ومنه قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ، أَوْ تَكَلَّمْ > .
ومنه قوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلم الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
[ فاطر : 10 ] .
ومنه قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍٍ } [ يونس : 61 ] .
وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل .
وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى : { فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] ، وقد فسروه بقوله : لا إله إلا الله .
ولما سئل : أي : الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قال : < الإِيمَانٌ بِاللَّهِ > .
مع قوله : < الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً [ شُعْبَةً كذا في البخاري ] ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ، أَفْضَلُهَا وأعلاها قَوْلُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ > .
ونظائر ذلك متعددة ، وقد تتوزع فيمن حلف لا يعمل عملاً ، إذا قال قولاً كالقراءة ، هل يحنث ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره ، بناء على هذا ، فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها ، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام تقي الدين رحمه الله تعالى .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب " الرد على الجهمية " : سألت أبي عن قوم يقولون ( لما كلم الله موسى ) : لم يتكلم بصوت ، فقال أبي : بلى ، تكلم جل ثناؤه بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت ، وقال أبي : حديث ابن مسعود : إذا تكَلَّمَ اللّه تَعَالى سَمِعَ لَهُ صوت كمر السّلْسِلَةِ على الصَّفَوان .
قال : وهذه الجهمية تنكره ، وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس ، ثم قال : حدثنا المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبيد الله قال : إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي ، سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً .
وقال السفاريني في " شرح العقيدة " : روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثاً ، وأخرج الإمام أحمد غالبها ، واحتج به .
وأخرج الحافظ ابن حجر أيضاً في " شرح البخاريّ " واحتج بها البخاريّ وغيره من أئمة الحديث ، على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت ، وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه ، واعتمدوا على ذلك ، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله ، من شبهات الحدوث وسمات النقص ، كما قالوا في سائر الصفات ، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة المعصوم في أقواله ، الذي لا ينطق عن الهوى صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وقال الإمام الواسطي ابن شيخ الحرمين الشافعيّ في " عقيدته " : إنني : كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد ، وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك ، من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها ، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ، ولا تشبيه ولا تمثيل ، فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات ، وكذلك في إثبات العلو والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت ، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم ، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء ، وتأول النزول بنزول الأمر ، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين ، وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم ، وأمثال ذلك ، ثم أحدهم مع ذلك يجلون كلام الله معنى قائماً بالذات ، بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم ، ومعنى ذلك إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة ، مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين ، لأني على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ، عرفت فرائض ديني وأحكامه ، فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال ، وهم شيوخي ، ولي فيهم الاعتقاد التام ، لعلمهم وفضلهم ، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها ، وأجد الكدر والظلمة منها ، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقروناً بها ، فكنت كالمتحير ، المضطرب في تحيره ، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره ، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول ، مخافة الحصر والتشبيه ، ومع ذلك ، فإذا طالعت النصوص والواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ، وأجد الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد صرح بها مخبراً عن ربه ، واصفاً له بها ، ثم لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون ، ثم قال : والذين أولوا ما أولوا ، هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين ، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه ، وعطلوا ما وصفه الحق به نفسه ، ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له ، كما يليق بجلاله وعظمته ، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين ، لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل .
ثم قال : ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق ، فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه ، فقال تعالى : { آلمص } [ الأعراف : 1 ] وقال : { ق وَالْقُرْآنِ المجِيدِ } [ ق : 1 ] ، وكذلك جاء في الحديث : فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بُعد كما يسمعه من قرب ، وفي الحديث : < لاَ أَقُولُ : { الم } حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ > .
فهؤلاء ما فهموا من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين ، قالوا : إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات ، وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة ، فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات ، والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر - والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات ، وكذلك له صوت يليق به يسمع ، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والخنجرة ، فكلام الله كما يليق به ، وصوته كما يليق به ، ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه ، لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات ، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك ، وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإِنسَاْن به من التعسف والتكلف بقوله : هذا عبارة عن ذلك ، فإن قيل : هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو ؟ قلنا : لا ، بل القارئ يؤدي كلام الله ، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئاً ، لا إلى من قاله مؤدياً مبلغاً ، ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق ، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه ، ولهذا منع السلف من قول ( لفظي بالقرآن مخلوق ) لأنه لا يتميز ، كما منعوا عن قول ( لفظي بالقرآن غير مخلوق ) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه ، كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن ، وما أمر السلف بالسكوت عنه ، يجب السكوت عنه ، والله الموفق والمعين .
تنبيه :
قال في " العناية " : القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة ، وقرئ بنصبها في الشواذ . انتهى .
قال الحافظ ابن كثير : روى الْحَافِظ أَبُو بَكْر بْن مَرْدَوَيْهِ أن رجلاً جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش ، فَقَالَ : سَمِعْت رَجُلاً يَقْرَأ : { وَكَلَّمَ اللَّه مُوسَى تَكْلِيماً } ، فَقَالَ أَبُو بَكْر : مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِر ، قَرَأْت عَلَى الْأَعْمَش ، وَقَرَأَ الْأَعْمَش عَلَى يَحْيَى بْن وَثَّاب ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب عَلَى أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ عَلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب ، وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَكَلم اللهُ موسَى تَكْلِيماً } .
وَإِنَّمَا اِشْتَدَّ غَضَب أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش رَحِمَهُ اللَّه عَلَى مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ حَرَّفَ لَفْظ الْقُرْآن وَمَعْنَاهُ ، وَكَانَ هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَة الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُون اللَّه كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، أَوْ يُكَلِّم أَحَداً مِنْ خَلْقه ، كَمَا رُوِّينَاهُ عَنْ بَعْض الْمُعْتَزِلَة أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْض الْمَشَايِخ : { وَكَلَّمَ اللَّه مُوسَى تَكْلِيماً } ، فَقَالَ لَهُ : يَا اِبْن اخْنَا ! كَيْف تَصْنَع بِقَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبّه } [ الأعراف : 143 ] يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِل التَّحْرِيف وَلَا التَّأْوِيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 165 ]
{ رّسُلا } أي : كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلاً : { مّبَشّرِينَ } بالجنة لمن آمن .
{ وَمُنذِرِينَ } من النار لمن كفر : { لِئَلاّ } لكيلا .
{ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ } يوم القيامة أي : معذرة يعتذرون بها قائلين : لولا أرسلت إلينا فيبين لنا شرائعك ، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك ، لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح ، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها ، كما في قوله عز وجل : { وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ } [ طه : 134 ] الآية .
وإنما سميت حجة ، مع استحالة أن يكون لأحد عليه ، سبحانه ، حجة في فعل من أفعاله ، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء - للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى ، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده ، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها ، ولذلك قال تعالى : { وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ، أفاده أبو السعود .
وفي الصحيحين عن المغيرة : < لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المرسلين مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ > .
وقوله تعالى : { بَعْدَ الرّسُلِ } أي : بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب .
متعلق بـ ( حجة ) أو بمحذوف وقع صفة لها ، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى ، لا تثبت إلا بالسمع : { وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً } يعني في انتقامه ممن خاف أمره وعصى رسله : { حَكِيماً } في بعث الرسل للإنذار .
تنبيه :
أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل ، وإلى وظيفتهم عليه السلام ، قال العلامة السيد محمد عبده ، مفتي مصر في " رسالة التوحيد " في هذا المبحث : أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإِنسَاْن على قاعدة الإرشاد والتعليم ، الذي خلق الإِنسَاْن وعلمه البيان ، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعِدّ لها ، بمحض فضله ، بعض من يصطفيه من خلقه ؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يلقون معه للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم ، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه ، فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها ، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره عن جلاله ، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة ، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه ، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية ، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه ، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ، ولا يبعد عن متناول أفهامهم ، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة ، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم ، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله ، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله ، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة ، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات ، حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة ، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه ، مبشرين ومنذرين .
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأبدع في كل كائن صنعه ، وجاد على كل حي بما إليه حاجته ، ولم يحرم من رحمته حقيراً ولا جليلاً من خلقه - يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه ، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره - أن ينقذه من حيرته ، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه والضلال في أفضل حاليه .
يقول قائل : ولِمَ لَمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم ، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل ، وسلوك الطريق والمؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة ؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم ؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل ، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإِنسَاْني ، ذلك النوع ، على ما به ، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر ، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده ، وأن لا يكون كل فرد منه مستعداً لكل حال بطبعه ، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال ، فلو أُلْهِمَ حاجاته كما تلهم الحيوانات ، لم يكن هو ذلك النوع ، بل كان إما حيواناً آخر ، كالنحل والنمل ، أو مَلَكاً من الملائكة ، ليس من سكان هذه الأرض .
ثم قال : إن كان الإِنسَاْن قد فطر على أن يعيش في جملة ، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلاً ؛ من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك ، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه ، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته ، ولم يفض عليه ، مع ذلك الشعور ، عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته ، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها ، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري ، وفي كل ذلك الويل على جامعته ، والخطر على وجوده ، أفهل مني هذا النوع بالنقص ، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود ؟ أنعم ، هو كذلك ، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه .
الْإِنْسَاْن عجيب في شأنه : يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت ؛ ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت ، ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم ، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع ، متى عرض له أمرٌ ما ، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه ، ذلك لسر عرفه المستبصرون ، واستشعرته نفوس الناس أجمعين .
من ذلك الضعف قيد إلى هواه ، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته ، أكمل الواهب الجواد لجملته ، ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه ، بما يميزه عن غيره أن ينقص من أفراده ، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس ، لينظر في طلب اللقمة ، وستر العورة والتوقي من الحر والبرد - جاد على الجملة بما هو أمس بالحاجة في البقاء ، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء ، وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع ، من عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة ، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها ، لم يخالف سنته فيه ، من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد ، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه ، وهي جهة الخضوع والاستكانة ، فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين ، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم ، وأيد ذلك ، زيادة في الإقناع ، بآيات باهرات تملك النفوس ، وتأخذ الطريق على سوابق العقول ، فيستخذي الطامح ، ويذل الجامح ، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده ، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه ، يطرقون القول بقوارع من أمر الله ، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته ، فيحيطون العقول بما لا مندوحة من الإذعان له ، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك ، والسطلان والصعلوك ، والعاقل والجاهل ، والمفضول والفاضل ، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري ، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم ، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته وأولئك هم الأنبياء والمرسلون ، فبعثه الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، من متممات كون الإِنسَاْن ، ومن أهم حاجاته في بقائه ، ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص ، نعمة أتمها الله : { لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ } .
ثم قال ، في الكلام على وظيفة الرسل عليهم السلام : تبين مما تقدم في حاجة العالم الْإِنْسَاْني إلى الرسل ، أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص ، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية ، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها ، ونعمة من واهب الوجود ميز بها الإِنسَاْن عن بقية الكائنات من جنسه ، ولكنها حاجة روحية ، وكل ما لامس الحس منها ، فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقديم ملكاتها ، أو إيداعها ما فيه سعادتها في الحياتين ، أما تفضيل طرق المعيشة ، والحذق في وجوه الكسب ، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أُعد للوصول إليه ، من أسرار العلم - فذلك مما لا دخل للرسالات فيه ، إلا من وجه العظة العامة ، والإرشاد إلى الاعتدال فيه ، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يُحدث ريباً في الاعتقاد بأن للكون إلهاً واحداً قادراً عالماً حكيماً متصفاً بما أوجب الدليل أن يتصف به ، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته ، وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال ، وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحداً من الناس بشرٍ في نفسه أو عرضه أو ماله ، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة ، على ما حدد في شريعتها .
يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته ، ويبينون الحد الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان ، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه ، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة ، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد لا فرقة معه ، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده ، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات ؛ ويذكرونهم بعظمته ، بفرض ضروب من العبادات ، فيما اختلف من الأوقات ، تذكرة لمن ينسى ، وتزكية مستمرة لمن يخشى ، تُقوي ما ضعف منهم ، وتزيد المستيقن يقيناً .
يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم وتنازعته مصالحهم ولذاتهم ، فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع ، ويؤيدون ، بما يبلغون عنه ، ما تقوم به المصالح العامة ، ولا تفوت به المنافع الخاصة ، يعودون بالناس إلى الألفة ، ويكشفون لهم سر المحبة ، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة ، ويقرضون عليهم مجاهدة أنفسهم ، ليستوطنوها قلوبهم ، ويشعروها أفئدتهم ، يعلمونهم لذلك أن يرعى كلٌّ حق الآخر ، وإن كان لا يغفل حقه ، وأن لا يتجاوز في الطلب حده ، وأن يعين قويهم ضعيفهم ، ويمد غنيهم فقيرهم ، ويهدي راشدهم ضالهم ، ويعلم عالمهم جاهلهم :
يضعون لهم بأمر الله حدوداً عامة ، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم ، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق ، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله ، واحترام الأعراض ، مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع ، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوموا أنفسهم بالملكات الفاضلة كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود والمحافظة على العهود والرحمة بالضعفاء والإقدام على نصيحة الأقوياء والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء .
يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية ، إلى طلب الرغائب السامية ، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله جل شأنه .
يفضلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم ، وما يعرضهم لسخطه عليهم .
ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة ، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى ، لمن وقف عند حدوده ، وأخذ بأوامره ، وتجنب الوقوع في محظوراته ، يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به ؛ مما لو صعب على العقل اكتناهه ، لم يشق عليه الاعتراف بوجوده .
بهذا تطمئن النفوس وتثلج الصدور ، ويعتصم المرزوء بالصبر ، انتظاراً لجزيل الأجر ، أو إرضاء لمن بيده الأمر ، وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الْإِنْسَاْني ، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم .
ليس من وظائف الرسل ما هو عمل المدرسين ومعلمي الصناعات ، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب ، ولا بيان ما اختلف من حركاتها ، ولا ما استكن من طبقات الأرض ؛ ولا مقادير الطول فيها والعرض ، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها ، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في إبقاء أشخاصها وأنواعها . . . . وغير ذلك مما وضعت له العلوم ، وتسابقت في الوصل إلى دقائقه الفهوم ، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة ، هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك ، يزيد في سعادة المخلصين ، ويقضي فيه بالنكد على المقصرين ، ولكن كانت سنة الله في ذلك ، أن يتبع طريقة التدرج في الكمال ، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجماع بالسعي فيه ، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفطر الْإِنْسَاْنية من مراتب الارتقاء .
أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض - فإنما يقصد منه ، النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعه ، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه ، وحالهم ، عليه الصلاة والسلام ، في مخاطبة أممهم ، لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون ، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم ، ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة ، بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة ، وكذلك ما وجه إلى الخاصة ، يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة ، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم ، على كل حال ، لا يجوز أن يقام الدين حاجزاً بين الأرواح ، وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان ، بل يجب أن يكون الدين باعثاً على طلب العرفان ، مطالباً لها باحترام البرهان ، فارضاً عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديه من العوالم ، ولكن مع التزام القصد ، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد ، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين ، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين . انتهى .
ولما تضمن قوله تعالى : { إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية ، إثبات نبوته والاحتجاج على تعنتهم عليه ، بسؤال كتاب نزل عليهم من السماء ، كأنه قيل : إنهم لا يشهدون ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلمهِ وَالملآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } [ 166 ]
{ لّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } من القرآن المعجز الناطق بنبوتك ، قال الزمخشري : معنى شهادة الله بما أنزل إليه ، إثباته لصحته ، بإظهار المعجزات ، كما تثبت الدعاوي بالبينات ، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب ، بالمعجزة .
{ أَنزَلَهُ بِعِلمهِ } أي : وهو عالم به ، رقيب عليه ، فالظرف حال من الفاعل ، والجملة كالتفسير لما قبلها .
{ وَالملآئِكَةُ يَشْهَدُونَ } أي : بذلك : { وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره ، وفيه تسلية للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 167 ]
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ } أي : بما شهد الله بإنزاله ، مع اطلاعهم على إعجازه .
{ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ } وهو دين الإسلام ، من أراد سلوكه : { قَدْ ضَلّواْ } أي : بما فعلوا : { ضَلاَلاً بَعِيداً } لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلمواْ لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } [ 168 ]
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلمواْ } أي : الخلائق بإضلالهم .
{ لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة ، التي هي طريق الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [ 169 ]
{ إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ } أي : المؤدي إليها وهو اكتسابهم الأعمال السيئة .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } أي : هيناً لا يعسر عليه ولا يستعظمه ، ولما قرر أمر النبوة ، وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ، ووعيد من أنكرها ، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد على الرد ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 170 ]
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ } أي : بالهدى ودين الحق والبيان الشافي الذي يجب قبوله .
{ فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ } أي : إيماناً خيراً لكم ، أو ائتوا أمراً خيراً لكم من تقليد المعاندين .
{ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } : أي : فهو قادر على تعذيبكم لعظم ملكوته ، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم ، كما قال تعالى : { إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَميعاً فَإِنّ اللّهَ لَغَنِيّ حَميدٌ } [ إبراهيم : 8 ] .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } في صنعه ، ولما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة ، جرد الخطاب للنصارى ، زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والضلال ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلمتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } [ 171 ]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته ، فإنه تجاوزٌ فوق المنزلة التي أُوتِيَهَا ، وهي الرسالة ، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد .
وفي الصحيح عن عُمَرَ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ > .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن لمة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك أن رجلاً قال : يَا مُحَمَّدُ ! يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا ! وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا ! .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَيُّهَا النَّاسُ ! عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ [ في المطبوع : بِقَوْلِكُمْ ] وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ > ، قال ابن كثير : تفرد به من هذا الوجه .
{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ } أي : لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد ، بل نزهوه عن جميع ذلك .
{ إِنّمَا المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى .
{ رَسُولُ اللّهِ } خبر المبتدأ أعني المسيح ، أي : مقصود على مقام الرسالة لا يتخطاه .
{ وَكَلمتُهُ } أي : مكون بكلمته وأمره الذي هو ( كن ) من غير واسطة أب ولا نطفة .
{ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي : أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام .
{ وَرُوحٌ مّنْهُ } أي : بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة ، وإنما أضافَهُ إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال : بيت الله ، وناقة الله .
وقيل : الروح هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم ، فحملت بإذن الله ، سمى النفخ روحاً لأنه ريح تخرج من الروح ، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه .
قال أبو السعود : ( من ) لابتداء الغاية مجازاً ، لا تبعيضية ، كما زعمت النصارى ، يحكى أن طبيباً نصرانياً للرشيد ، ناظَرَ عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم ، فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ الواقدي : { وَسَخّرَ لَكُم مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَميعاً مّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، فقال : إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً منه ، تعالى علواً كبيراً ، فانقطع النصراني واسلم ، وفرح الرشيد فرحاً شديداً ، ووصل الواقدي بصلة فاخرة .
وقيل : سمي روحاً ، لإحياءه الموتى بإذن الله ، وقيل : لإحيائه القلوب ، كما سمى به القرآن لذلك ، في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
وقيل : أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة .
وقيل : جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة ، قالوا : إنه روح ، فلما كان عيسى عليه السلام متكوناً من النفخ ، لا من النطفة ، وصف بالروح ، وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر ، مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحاً منه ، في الوجود - لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل ، وتعيين مآل ما يحتمله ، وسدّ باب التأويل الزائغ . انتهى .
{ فَآمِنُواْ بِاللّهِ } وخصوه بالألوهية : { وَرُسُلِهِ } أي : جميعهم وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية .
{ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } أي : الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمي إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } [ المائدة : 116 ] .
وقد ذكر السيد عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره ؛ أنه حكى أن فرقة من النصارى تسمى ( كولى ري دينس ) كانت تقول : الآلهة ثلاثة : الأب والابن ومريم ، قال : ولعل هذا الأمر كان مكتوباً في نسخهم ، لأن القرآن كذبهم . انتهى .
أو التقدير : ولا تقولوا : الله ثلاثة ، أي : ثلاثة أقانيم ، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه : أخص أسرار المسيحية سر الثالوث ، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم : الأب والابن وروح القدس .
والأب هو الله ، والابن هو الله ، وروح القدس هو الله ، وليسوا ثلاثة آلهة ، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية ، وذلك لأن لهم جوهراً واحداً ولاهوتاً واحداً ، وذاتاً واحدةً ، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين ، لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء ، ما عدا الأقنومية ، ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري . انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسيّ المطبوع في بيروت سنة ( 1876 ) مسيحية .
فانظر إلى هذا التناقض والتمويه ، يعترفون بأن الثلاثة آلهة ، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك .
ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه " إظهار الحق " عن صاحب " ميزان الحق " النصراني أنه قال : نحن لا نقول : إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد ، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة ، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بُعد السماء والأرض . انتهى .
قال رحمة الله : وهذه مغالطة صرفة ، لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص ، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقي ، كما صرح هو بنفسه في كتبه ، فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة ، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة ، الرائج في كنيسة انكلترة ، المطبوع سنة ( 1818 ) ما ترجمته : أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً ، الذين هم واحد .
يعني ثلاثة أشخاص وإلهاً واحداً ، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحاً ، وكذلك مملوءة بعبارات مصرحة بأن عيسى ابن الله ، وأنه الله ، وأن مريم أم لله وزوجه الله ، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرَّم في كتبهم لغير الله ، كما يسجدون لله ، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان .
ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في " إظهار الحق " فساق ، في الباب الرابع منه ، إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة ، كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر ، وقد انتشر ، والله الحمد ، في ذلك مؤلفات نافعة ، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم .
فقد جاء في كتاب " الرأي الصواب وفصل الخطاب " للقس جبارة ما صورته : إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ ( 80 ) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية ، وكذلك لهم في انكلترا ثلاثمائة كنيسة وتآليف عديدة معتبرة ، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتباً إلهية - لا يؤمنون بتثليث الآلهة ، أي : أنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقي ، كالله الواجب الوجود ، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق . انتهى .
وفيه أيضاً ما لفظه : كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة ، أو كون الله ثلاثة ، وتعلن صريحاً بأوضح العبارة ؛ أن الله واحد أحد ، وأنه لا إله حقاً سواه . انتهى .
وفي كتاب " سوسنة سليمان " ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس ، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب ، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير ، من أن لهم آراء مختلفة وأقوالاً غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً . انتهى .
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في " الرسالة القبرصية " : فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقاً وتشتتوا تشتيتاً لا يقر به عاقل ، ولم يجيء نقل ، إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب ، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبل ، كلها تنطلق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ، ودعائه وتضرعه ، ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله ، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله ، فأرباب التثليث في الوحدانية ، والاتحاد في الرسالة ، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها ، وبكتب الله التي أنزلها . انتهى .
وقد اجتمع لديّ ، بحمده تعالى ، حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفاً في الرد عليهم ، وكلها ، ولله الحمد ، مطبوعة منتشرة ، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها ، لسهولة الوقوف عليها .
قال الماردوي في " أعلام النبوة " : فأما النصارى فقد كانوا ، قبل أن تنصر قسطنطين الملك ، على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام ، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين ، وهو أول من تنصر من ملوك الروم ، أي : لأن الروم كانت صابئة ، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم .
فقال أوائل النسطورية : إن عيسى هو الله .
وقال أوائل اليعاقبة : إنه ابن الله .
وقال أوائل الملكانية : إن الآلهة ثلاثة : أحدهم عيسى .
ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر ، حين استنكرته النفوس ، ودفعته العقول ، فقالوا : إن الله تعالى جوهر واحد ، هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنها واحدة في الجوهرية ، وأن أقنوم الأب هو الذات ، وأقنوم الابن هو الكلمة ، وأقنوم روح القدس هو الحياة ، واختلفوا في الأقانيم ، فقال بعضهم : هي خواص ، وقال بعضهم : هي أشخاص ، وقال بعضهم : هي صفات ، وقالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى ، واختلفوا في الاتحاد .
ثم قال : وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول ، وفسادها ظاهر في المعقول .
وقوله تعالى : { انتَهُواْ } أي : عن التثليث : { خَيْراً لّكُمْ } أي : انتهاء خيراً ، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد .
{ إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : بالذات ، لا تعدد فيه بوجه ما .
وبقوله : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تنزيه لمقامه جل شأنه ، عما زعموه من نبوة عيسى ، حيث قالوا : إنه الله وابن الله ، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة ، والورطة الجسيمة ، ما ورد موهماً من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن ، فلم يحملوها على ما أريد منها ، وحملوها على ظاهرها ، فضلُّوا وأضلُّوا .
وفي " منية الأذكياء " ما نصه : وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن ، من إطلاق ابن الله على عيسى عليه السلام ، فهو - إن لم يكن مما حرف ، يكون مجازاً ، بمعنى ابن المحبة ، كما يقال : فلان من أبناء الدنيا ، ونظير ذلك قول عيسى عليه السلام لليهود ، حين ادعوا أن لهم أباً واحداً هو الله : ( لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني ) ، ثم قال لهم ، ( أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا ) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم ، أي : أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب ، فكذبهم عيسى عليه السلام وجعلهم أبناء الشيطان ، أي : أنهم مطيعون له ، ولا يخفي أن الابن والأب هنا مجازان .
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى ، واسم الابن على العبد الصالح ، ي الكتب السالفة ، فهو إما من الخبط في الترجمة ، وإما مؤول بما ذكرنا ، فلا تغفل ، لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية ، تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام ، وهذا هو الطريق الرشد .
وقوله تعالى : { لّهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ } تعالى للتنزهه مما نسب إليه ، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه ، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه ؟ إذ البنوة والملك لا يجتمعان .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } أي : إليه يكل كل الخلق أمورهم ، وهو غنيّ عنهم ، فأَنَّى يتصور في حقه اتخاذ الولد ، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّن يَسْتَنكِفَ المسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لّلّهِ وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَميعاً } [ 172 ]
{ لّن يَسْتَنكِفَ المسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لّلّهِ } جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه ، أي : لن يأنف من أن يكون عبداً لله ، فإن عبوديته شرف يتباهى به .
{ وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } من أن يكونوا عبيداً له تعالى ، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء .
قال الزمخشري : أي : ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً ، وهم الملائكة الكروبيون ، الذين حول العرش ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومَن في طبقتهم .
ثم قال : فإن قلت : من أين دل قوله : { وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } على أن المعنى : ولا من فوقه ؟ قلت : من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة ، كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية ، فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقربين ، لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة ، ومثاله قول القائل :
~وما مثله من يُجَاِوِدُ حَاتِمٌ ولا البحر ذو الأمواج يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج ، ما هو فوق حاتم في الجود ، ومن كان له ذوق فليذق ، مع هذه الآية قوله : { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى } [ البقرة : 120 ] ، حتى يعترف بالفرق البين . انتهى .
قال البيضاوي : وجوابه أن الآية : للرد على عَبْدة المسيح والملائكة ، فلا يتجه ذلك ، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير ، كقولك : أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس ، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة ، وهم الكروبيون الذين هم حول العرش ، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة ، على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه . انتهى .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء ، وذهب القاضي أبو بكر ، منّا ، والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة ، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة ، من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشريّ ، ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية ، فنقول : أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة :
أحدها : أن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام ، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح ، أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدّع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء ، أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة ، وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف ( السؤال الثاني ) أن قوله : { وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } صيغة جمع ، تتناول مجموع الملائكة ، فهذا يقتضي كونه مجموع الملائكة أفضل من المسيح .
ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، وفي هذا السؤال أيضاً نظر ، لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة ، فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل ، كما أن النبيّ عليه الصلاة والسلام ، لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء ، كان أفضل من كلهم ، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل ، والتفضيل على الجملة أحدٌ ممن صنف في هذا المعنى .
وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين ، وادعى أنه لا يلزم منه ، على التفصيل ، تفضيل على الجملة ، ولم يثبت عنه هذا القول ، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف ، وهو : أن التفضيل المراد ، جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة ، والأحاديث متوافرة بذلك ، وحينئذ لا يخلوا إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم ، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه ، لا سبيل إلى الأول ، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل ، فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ، ضرورة ، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم ، قطعاً ، الثالث : أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو ، وهي لا تقتضي ترتيباً ، وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة ، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك ، كقول القائل : ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عَمْرو ، قلت : وكقولك لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً ، فإن هذا الترتيب وجه الكلام ، والثاني أدنى وأخفض درجة ، ولو ذهبت تعكس هذا ، فقلت لا تؤذ ذمياً ولا مسلماً ، ليجعل الأعلى ثانياً ، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة ، وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر ، ولكن الحق أولى من المراء ، وليس بين المثالين تعارض ، ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء ، فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة ، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى ، وفي مواضع تأخيره ، وتلك النكتة مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول ، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولاً بالنسبة إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجاً في الأول ، قد أفاده ، وأنت مستغن عن الآخر فأعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافاً لفائدة لم يشتمل عليها الأول ، مثاله الآية المذكورة ، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة ، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه ، لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح ، على هذا التقدير ، عبداً لله غير مستنكف من العبودية - لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبداً لله ، وهم الملائكة على هذا التقدير ، فلم يتجدد إذاً بقوله : { وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } إلا ما سلف أول الكلام ، وإذا قدرت المسيح مفضولاً بالنسبة إلى الملائكة ، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبداً له ، إلا أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك ، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل ، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة ، إذ لم يستلزم الأول الآخر ، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد ، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز ، لأن الغاية في البلاغة ، وبهذه النكتة يجب أن نقول : لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً ، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية ، لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم ، فقد يقال ذاك من خواصه احتراماً للإسلام ، فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية ، فإذا قلت : ولا ذميّاً - فقد جددت فائدة لم تكن في الأول ، وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى ، إلى النهي عن أكثر منه ، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية ، فقلت : لا تؤذ ذمياً ، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي ، إذ يساوي الذمي في سبب الاحترام وهو الْإِنْسَاْنية مثلاً ، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام ، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم .
فإن قلت : ولا مسلماً ، لم تجدد له فائدة ، ولم تعلمه غير ما علمه أولاً ، فقد علمت أنها نكتة واحدة ، توجب أحياناً تقديم الأعلى ، وأحياناً تأخيره ، ولا يميز لك ذلك إلا السياق ، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى ، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ } [ الإسراء : 23 ] ، استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه ، بتقدير الأدنى ، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهياً عن أعلى من التأفيف والإنهار ( كذا ) ، لأنه مستغني عنه ، وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها ، { مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍٍ } [ الأنعام : 38 ] ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة ، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك ، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف ، وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار ، قال : وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية ، لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام ، مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، وصدرت على يديه الخوارق ، لا يستنكف عن عبادة الله ، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً ، كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام ، وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه ، فقلب عاليها سافلها ، فيكون تفضيل الملائكة ، إذاً ، بهذا الاعتبار ، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر ، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء ، وليس في الآية عليه دليل ، ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقاً ، أي : موجوداً من غير أب ، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب ، لا يستنكف من عبادة الله ، بل ولا الملائكة المخلوقون من غير أب ولا أم ، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى ، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام ، فنظر الغريب بالأغرب ، وشبه العجيب من قدرته بالأعجب ، إذ عيسى مخلوق من أم ، وآدم من غير أم ولا أب ، ولذلك قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها ، فمتى استقام اشتمال المذكور أياماً على فائدة ، لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان ، من تفضيل أو غيره ، من الفوائد - فقد استدّ النظر وطابق صيغة الآية والله أعلم ، وعلى الجملة فالمسألة سمعية ، والقطع فيها معروف بالنصر الذي لا يحتمل تأويلاً ، ووجوده عسر ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . انتهى .
{ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : يأنف منها ويمتنع .
{ وَيَسْتَكْبِرْ } أي : يتعظم عنها ويترفع .
{ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَميعاً } أي : فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم ، ويفصل بينهم بحكمه العدل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مّن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يجدُونَ لَهُم مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلاَ نَصِيراً } [ 173 ]
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ } فلم يستكبروا عن عبودتيه : { وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } فلم يستنكفوا عن عبادته .
{ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي : ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيء .
{ وَيَزيدُهُم } أي : على أجورهم شيئاً عظيماً : { مّن فَضْلِهِ } بتضعيفها أضعافاً مضاعفة ، مبالغة في إعزازهم .
{ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ } أي : عن عبادة الله عز وجل : { فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً } هو عذاب النار .
{ وَلاَ يجدُونَ لَهُم مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّا } يواليهم ليعزهم : { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم ويدفع عنهم العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً } [ 174 ]
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ } لما بيّن تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال ، عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام ، وسماه برهاناً لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه ، ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته ، فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل .
قال أبو السعود : التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ، لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيئه إليه لتربيتهم وتكميلهم .
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً } أي : ضياء واضحاً على الحق ، يهتدي به من ظلمات الضلال ، وهو القرآن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍٍ مّنْهُ وَفَضْلٍٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } [ 175 ]
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ } أي : عصموا به أنفسهم مما يُردِيها من زيغ الشيطان .
{ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍٍ مّنْهُ } وهي الجنة : { وَفَضْلٍٍ } يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة ، كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهبه الجليلة .
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } فيسلكهم ، بتمسكهم بالبرهان والنور المبين ، الطريق الواضح القصد ، وهو الإسلام ، وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة ، على الوعد بالهداية إليها ، على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين - للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصليّ ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لم يَكُن لّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلّواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ عَلِيمٌ } [ 176 ]
{ يَسْتَفْتُونَكَ } : أي : في ميراث الكلالة ، استغنى عن ذكره لوروده في قوله سبحانه : { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة .
والمستفتي جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما - .
روى الشيخان وغيرهما عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما - قَالَ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ - أَوْ قَالَ : صُبُّوا عَلَيْهِ - فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ : لاَ يَرِثُنِى إِلاَّ كَلاَلَةٌ ، فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ .
{ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } أي : مات ، واختصاص الهلاك بميتة السوء عُرْفٌ طارئ لا يعتد به ، بدليل ما لا يحصى من الآي والأحاديث ، ولطروّ هذا العرف قال الشهاب في " شرح الشفاء " : إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا يعتد بأصل اللغة القديمة ، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية والله أعلم ، كذا في " تاج العروس " .
{ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } أي : الميت ، من المال .
قال ابن كثير : تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد ، وهو رواية عن عُمَر بن الخطاب ، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح ، ولكن الذي يرجع إليه ، قول الجمهور .
وقضى الصديق رضي الله عنه ؛ أنه الذي لا ولد له ولا والد ، ويدل على ذلك قوله : ( وَلَهُ أُخْتٌ ) ولو كان معها أب لم ترث شيئاً ، لأنه يحجبها بالإجماع ، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ، ولا والد بالنص أيضاً ، عند التأمل أيضاً ، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد ، بل ليس لها ميراث بالكلية .
وروى الإمام أحمد عَنْ زَيْد بْن ثَابِت أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ زَوْج وَأُخْت لِأَبٍ وَأُمّ ؟ فَأَعْطَى الزَّوْج النِّصْف ، وَالْأُخْت النِّصْف .
فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : حَضَرْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ .
وَقَدْ نَقَلَ اِبْن جَرِير وَغَيْره عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ ( فِي الْمَيِّت تَرَكَ بِنْتاً وَأُخْتاً ) : إِنَّهُ لَا شَيْء لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ : { إِنْ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَد وَلَهُ أُخْت فَلَهَا نِصْف مَا تَرَكَ } ، قَالَ : فَإِذَا تَرَكَ بِنْتاً فَقَدْ تَرَك وَلَداً فَلَا شَيْء لِلْأُخْتِ .
وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُور فَقَالُوا ( فِي الْمَسْأَلَة ) : لِلْبِنْتِ النِّصْف بِالْفَرْضِ ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْف الْآخَر بِالتَّعْصِيبِ ، بِدَلِيلٍ غَيْر هَذِهِ الْآيَة ، وَهَذِهِ الْآيَة نَقصَّتْ أَنْ يُفْرَض لَهَا فِي هَذِهِ الآية ، وَأَمَّا وِرَاثَتهَا بِالتَّعْصِيبِ ، فَلِمَا [ في المطبوع : فما ] رَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيق سُلَيْمَان عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَد قَالَ : قَضَى فِينَا مُعَاذ بْن جَبَل ، عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، النِّصْف لِلْبِنْتِ وَالنِّصْف لِلْأُخْتِ ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَان ( قَضَى فِينَا ) وَلَمْ يَذْكُر ( عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ أَيْضاً عَنْ هُزَيْل بْن شُرَحْبِيل قَالَ : سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ ِبْنت ، وبْنت اِبْن ، وَأُخْت ؟ فَقَالَ : لِلبْنَت النِّصْف ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْف ، وَائتِ اِبْن مَسْعُود فَسَيُتَابِعُنِي ، فَسُئِلَ اِبْن مَسْعُود فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فأخبرناه بقول ابن مسعود فَقَالَ : لَقَدْ ضَلَلْت إِذاً ، وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : النِّصْف لِلْبِنْتِ [ في المطبوع اللبنت ] ، وَلِبِنْتِ الِابْن السُّدُس تَكْمِلَة للثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود فَقَالَ : لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْر فِيكُمْ .
وَقَوْله : { وَهُوَ يَرِثهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد } أي : وَالْأَخ يَرِث جَمِيع مَا لَهَا إِذَا مَاتَتْ كَلَالَة وليس لها ولد أي : ولا والد ، لأنها لو كان لها ولد لم يرث الأخ شيئاً ، فإن فرض أن معه من له فرض ، صرف إليه فرضه ، كزوج أو أخ من أم ، وصرف الباقي إلى الأخ .
لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < أَلْحِقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا ، فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِض فَلِأَوْلَى رَجُل ذَكَر > .
وقوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ } أي : فإن كان ، لمن يموت كلالة ، أختان - فرض لهما الثلثان ، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين ، كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله : { فَإِن كُنّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] .
قوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ } أي : من يرث بطريق الأخوة : { إِخْوَةً } أي : مختلطة .
{ رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذّكَرِ } أي : منهم : { مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } أي : مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث .
{ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلّواْ } أي : كراهة أن تضلوا في ذلك ، أو على تقدير ( اللام ولا ) في طرفي ( أن ) أي : لئلا تضلوا ، وقيل : ليس هناك حذف ولا تقدير ، وإنما هو مفعول ( يبين ) أي : يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم ، لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه ، ورجحه بعضهم بأنه من حسن الختام ، والالتفات إلى أول السورة وهو : { يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ } [ النساء : 1 ] فإنه أمرهم بالتقوى ، وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية ، ولما تم تفصيله قال لهم : إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم ، فإن الشر إذا عرف اجتنب ، والخير إذا عرف ارتكب .
قال العلامة أبو السعود : وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى على طريقة تعيين مواقع الخطأ والضلال ، من غير تصريح بما هو الحق والصواب وليس كذلك .
{ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ } من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم .
{ عَلِيمٌ } مبالغ في العلم ، فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم .
تنبيهات :
الأول : اعلم أنه تعالى لما بيّن في أول السورة أحكام الأموال ، ختم آخرها بذلك أيضاً ليكون الآخر مشاكلاً للأول ، وأما وسط السورة فقد اشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفة للدين .
الثاني : أنزل في الكلالة آيتان : إحداهما في الشتاء ، وهي التي في أول هذه السورة ، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية ، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف .
الثالث : روى البخاريّ ومسلم عن الْبَرَاءَ بْنَ عَازِب رضي الله عنهما قال : آخِرَ سُورَةٍ نزِلَتْ بَرَاءَة ، وَآخِرَ آيَةٍ نزِلَتْ : يَسْتَفْتُونَكَ ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وهو الموفق والمعين .
وقد تم بحمده تعالى ما تيسر من " محاسن تأويل " هذه السورة الكريمة ضحوة الجمعة ، غرة صفر الخير عام ( 1320 ) في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية ، على يد كاتبه وجامع العبد الضعيف الذليل الجهول ، محمد جمال الدين القاسميّ ، غفر المولى له وأعانه على الإتمام .
بمنه وكرمه
ويليه الجزء الرابع ، وأوله : ( سورة المائدة ) .

(/)


سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [ 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } روى ابن أبي حاتم ؛ أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إليّ ! فقال : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعها سمعك ، فإنه خير يُأمر به ، أو شر يُنهى عنه .
و ( الوفاء ) ضد الغدر ، كما في " القاموس " وقال غيرة : هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء . يقال : وفى بالعهد وأوفى به .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : ورد في الكتاب العزيز : { وَفَّى } بالتضعيف في قوله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ االنجم : 37 ] ، ورد : { أَوْفَى } كثيراً . ومنه : أوفوا العقود . وأما : { وَفَّى } ثلاثياً ، فلم يرد إلا في قوله تعالى : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [ التوبة : 111 ] ، لأنه بنى أفعل التفضيل من : { وَفَّى } إذ لا يبنى إلا من ثلاثيّ .
و ( العقود ) جمع عقد وهو العهد الموثق . شبه بعقد الحبل ونحوه ، وهين عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف .
قال عليّ بن طلحة : قال ابن عباس : يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم ، وما فرض ، وما حدّ في القرآن كلّه ، ولا تغدروا ولا تنكثوا . وقال زيد بن أسلم : العقود ستة : عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين . قال الزمخشريّ : والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه ، من تحليل حلاله وتحريم حرامه . وأنه كلام قديم مجملاً . ثم عقب بالتفصيل . وهو قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } البهيمة ما لا عقل له مطلقاً ، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع .
قال الراغب : خص في المتعارف بما عدا السباع والطير ، وإضافتها للأنعام ، للبيان كثوب الخز . وإفرادها لإرادة الجنس . أي : أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام . جمع ( نَعَم ) محركة وقد تسكن عينه . هي الإبل والبقر والشاء والمعز : { إِلَّا مَا يُتْلَى } يعني : رخصت لكم الأنعام كلها . إلا ما حرم عليكم في هذه السورة ، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك .
وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبَحيرة .
فأخبر الله تعالى أنهما حلالان ، إلا ما بين في هذه السورة ، ثم قال : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُم ْحُرُم } يعني : أحلت لكم هذه الأشياء . من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون . فـ : { غَيْرَ } صب على الحالية من ضمير ( لكم ) . قال في " لعناية " : ولا يرد ما قيل : إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد هم حرم . وهي قد أحلت لهم مطلقاً . ولا يظهر له فائدة ، إلاَّ إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره ، لأنه - عدم اطراد اعتبار المفهوم - يعلم منه غيره بالطريق الأولى . لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها ، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم ، فكيف في غير هذه الحال ؟ فيكون بياناً لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك .
وبياناً لأنهم في غنيةٍ عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم . وفي " الإكليل " : في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم . لأن : { حُرُماً } بمعنى محرمين ، ويقال : أحرم أي : بحجٍّ وعمرةٍ . وأحرمََ : دخل في الحرم . انتهى .
قال بعض الزيدية : والمراد بالصيد المحرّم على المحرم . هو صيد البر . لقوله في هذه السورة : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] ، هذا إذا جعل ( حرم ) جمع ( محرم ) وهو الفاعل للإحرام ، وإن جعل للداخل في الحرم ، استوى تحريم البحريّ والبرّي . وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم ، لقوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } [ آل عِمْرَان : 97 ] . لأنه يقال لمن دخل الحرم ، أنه محرم . كما يقال : أعرق وأنجد : إذا دخل العراق ونجداً . ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها . نحو : المدينة حرم من عير إلى ثور . انتهى . : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من تحليل وتحريم . وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 2 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } أي : معالم دينه . وهي المناسك . وإحلالها أن يتهاون بحرمتها ، وأن يُحال بينها وبين المتنسكين بها . وقد روى ابن جرير عن عِكْرِمَة والسّدّي قالا : نزلت في الحُطَم ، واسمه شريح بن هند البكريّ . أتى المدينة وَحْدَهُ . وخَلّفَ خيله خارج المدينة . ودخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : إلامَ تدعو الناس ؟ قال صلى الله عليه وسلم : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . فقال : حسن . إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم . ولعلي أُسْلِمُ وآتي بهم . فخرج من عنده ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان . فلما خرج شريح قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرجل بمسلم ، فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :
~قد لَفَّهَا الليلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ لَيْسَ بِرَاعيِ إِبلٍ وَلاَ غَنَمْ
~وَلاَ بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ الْوَضَمْ بَاتُوا نيَاماً وَابنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ
~بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
فتبعوه فلم يدركوه . فلما كان العام القابل ، خرج شريح حاجاً مع حُجاج بكر ابن وائل ، من اليمامة . ومعه تجارة عظيمة . وقد قلّد الهدي . فقال المسلمون : يا رسول الله ! هذا الحطم قد خرج حاجَّاً فَخَلِّ بيننا وبينه . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلّد الهدي . فقالوا : يا رسول الله ! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية . فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } . قال ابن عباس : هي المناسك . كان المشركون يحجون ويهدون . فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم . فنهاهم الله عن ذلك .
وعن ابن عباس أيضاً : لا تحلوا شعائر الله : هي أن تصيد وأنت محرم . ويقال : شعائر الله ، شرائع دينه التي حدها لعباده . وإخلالها الإخلال بها . وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع .
{ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } المراد به الجنس . فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم .
وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب . أي : لا تحلوها بالقتال فيها . وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية . فلما جاء الإسلام لم يَنْقُضْ هذا الحكم . بل أكده . كذا في " لباب التأويل " .
قال ابن كثير : يعني بقوله : { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } ، تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال . كما قال تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] . وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً } [ التوبة : 36 ] . وفي صحيح البخاريّ عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، في حجة الوداع : < إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً . منها أربعة حرم . . . > الحديث ، وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آ خر وقت . كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } : يعني لا تستحلوا القتال فيه . وكذا قال مقابل وعبد الكريم بن مالك الجزري . واختاره ابن جرير أيضاً . وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ . وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم . واحتجوا بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . والمراد أشهر التسيير الأربعة .
قالوا : فلم يستثن شهراً حراماً من غيره . انتهى . وفي كتاب " الناسخ والمنسوخ " لابن حزم : إن الآية نسخت بآية السيف . ونقل بعض الزيدية في " تفسيره " عن الحسن أنه ليس في هذه السورة منسوخ . وعن أبي ميسرة : فيها ثماني عشرة فريضة . وليس فيها منسوخ . ( انتهى ) .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .
وقال الإمام ابن القيّم في " زاد المعاد " في " فصل سرية الخبط " كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح ، وكانت في رجب ، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في " عيون الأثر " .
ثم قال ، في فقه هذه القصة : إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام . إن كان ذِكْرُ التاريخ فيها برجب ، محفوظاً . والظاهر ، والله أعلم ، أنه وهم غير محفوظ . إذ لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام ، ولا أغار فيه ، ولا بعث فيه سرية . وقد عيرّ المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب ، في قصة العلاء بن الحضرمي ، فقالوا : استحل محمد الشهر الحرام . وأنزل الله في ذلك : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] . ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه ، ولا اجتمعت الأمة على نسخه . وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . ولا حجة في هذا . لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سيّر الله فيها المشركين في الأرض يأمنون فيها . وكان أولها يوم الحج الأكبر ، عاشر ذي الحجة . وآخرها عاشر ربيع الآخر . هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة ، ليس هذا موضعها . انتهى . وقوله تعالى : { وَلاَ الْهَدْيَ } أي : لا تحلوه بأن يُتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله . والهدي : ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء . وفي " الإكليل " : هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت . وتحريم الإغارة عليه . وذبحه قبل بلوغ محله . واستبدل بالآية أيضاً على منع لأكل منه .
{ وَلاَ الْقَلآئِدَ } جمع قلادة . وهي ما يقلد به الهدي . من نعل أو لحاء شجر ، ليعلم أنه هدي ، فلا يتعرض له . والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي . وهي البدن . وعطفها على ( الهدي ) مع دخولها فيه ، لمزيد التوصية بها ، لمزيتها على ما عداها . إذ هي أشرف الهدي . كقوله تعالى : { وَجِبْريلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] عطفاً على الملائكة . كأنه قيل : والقلائد منه ، خصوصاً . أو النهي عن التعرض لنفس القلائد ، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها . على معنى : لا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها . كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُن } [ النور : 31 ] . مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . كذا لأبي السعود .
وقال الحافظ ابن كثير : يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام . فإن فيه تعظيم شعائر الله . ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام .
وليعلم أنه هدي إلى الكعبة . فيجتنبها من يريدها بسوء . وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها . فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء . ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُليَفة . وهو وادي العقيق . فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعاً . ثم اغتسل وتطّيب وصلى ركعتين . ثم أشعر هديه وقلّده . وأهلّ للحج والعمرة ، وكان هديه إبلاً كثيرة تُنيف على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] .
قال بعض السلف : إعظامها استحسانها واستسمانها . قال عليّ بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن . وقال مقاتل : ولا القلائد ، فلا تستحلوه . وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم . قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر . وتقلد مشركوا الحرم من لحاء شجره ، فيأمنون به . رواه أبي حاتم .
وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون . فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مُطَرِّف بن عبد الله . وأمانهم بذلك منسوخ . كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نُسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد وقوله : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] . وبسنده إلى ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } أي : لا تحلوا قوماً قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم ، لأنه من دخله كان آمناً . وقوله تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من المستكن في : { آمِّينَ } أي : قاصدين زيارته حال كونهم طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم . ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة . قال : كما تقدم في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] . وقد ذكر عِكْرِمَة والسدي وابن جرير أن الآية نزلت في الحُطَم بن هند البكري . وتقدمت قصته . وقال ابن طلحة عن ابن عباس : كان المؤمنون والمشركون يحجون ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافرٍ . ثم أنزل الله بعده : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] الآية . وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } [ التوبة : 17 ] . وقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِرِ } [ التوبة : 18 ] . فنفى المشركين من المسجد الحرام . وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله : { وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } قال : منسوخ . كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد . فإذا رجع تقلد قلادة من شعر ، فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يُصدّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت . فنسخها قوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { وَلاَ الْقَلآئِدَ } يعني أن من تقلد قلادة من الحرم ، فأمنوه . قال : ولم تزل العرب تعيِّر من أخفر ذلك . قال الشاعر :
~ألمْ تقتلا الْحِرجَيْنِ إِذْ أَعْوَرَاكُمَا يُمِرَّانِ بِالأَيْدِي اللَّحَاءَ الْمُضَفَّرَا
أفاده ابن كثير . وهذه الروايات توضح أنه عنى : ( الآمين ) : المشركين خاصة . إذا هم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم . وكذا الرضوان من تشريفهم ، والإشعار بحصول مبتغاهم . فالسر فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه . قال الزمخشري وأبو السعود : قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى . فوصفهم الله تعالى بظنهم . وذلك الظن الفاسد ، وأن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى ، لكن لا بُعْدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصد الدنيوية ، وخلاصهم عن المكاره العاجلة . لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره . ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بالآية ، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . فلما زال العهد بسورة براءة ، زال ذلك الخطر ، ولزم المراد بقوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } . انتهى . : { و وَإِذَا حَلَلْتُمْ } أي : خرجتم من الإحرام ، أو خرجتم من الحرم إلى الحل : { فَاصْطَادُواْ } أي : فلا جناح عليكم في الاصطياد : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : لا يحملنكم على الجريمة ، شدةُ بغض قوم : { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } . أي : لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة . وقرئ بكسر الهمزة من ( إِن ) على أنها شرطية : { أَن تَعْتَدُواْ } أي : عليهم . قال أبو السعود : وإنما حذف ، تعويلاً على ظهوره ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي ، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين ، محافظة على تعظيم الشعائر . لا منع وقوعه على القوم ، مراعاة لجانبهم ، وهو ثاني مفعولي : { يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم ، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام ، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفّي .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : لا يحملنكم بغض قوم ، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] . أن : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل . فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد ، في كل حال .
وقال بعض السلف : ما عاملتَ من عصى الله فيك ، بمثل أن تطيع الله فيه . والعدل ، به قامت السماوات والأرض . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان ، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه ، حين صدهم المشركون عن البيت . وقد اشتد ذلك عليهم . فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون لعمرة . فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل إليه هذه الآية .
الثاني : قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } نهيٌ عن إحلال قوم من الآمين ، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة ، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم ، داعية إليه .
الثالث - لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } ، مع ظهور تعلقه بما قبله ، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام ، كانتهاء حرمة الاصطياد به ، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية . وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمّين ، بالطريق الأول . أفاده أبو السعود .
الرابع - دلت الآية على أن المضارّة ممنوعة . ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : < لا ضرر ولا ضرار في الإسلام > . وقوله عليه الصلاة والسلام : < أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك > . ذكره بعض الزيدية . وفي " الإكليل " : في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يُؤخذ أحد بذنب أحد .
الخامس - ( جرم ) جار مجرى ( كسب ) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد ، وإلى اثنين ، يقال : جرم ذنباً ، نحو كسبه . وجرمته ذنباً ، نحو كسبته إياه ، خلا أن ( جرم ) يستعمل غالباً في كَسْب ما لا خير فيه . وهو السبب في إيثاره ههنا على الثاني . وقد ينقل الأول من كل منها بالهمزة إلى معنى الثاني . فيقال : أخرجته ذنباً وأكسبته إياه . وعليه قراءة من قرأ : { يَجْرِمَنَّكُمْ } بضم الياء . أفاده أبو السعود .
{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } لما كان الاعتداء غالباً بطريق التظاهر والتعاون ، أمروا ، إِثر ما نهوا عنه ، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى . ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى . فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم ، دخولاً أولياً . ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي . فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني : أفاده أبو السعود .
قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله . والعدوان : جواز ما حدّ الله في الدين ، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير . وفي معنى الآية أحاديث كثيرة . منها عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الدال على الخير كفاعله > . رواه البزار . وعن أبي مسعود البدريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من دل على خير فله مثل أجر فاعله > . رواه مسلم . وعن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه . لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه . لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً > . رواه مسلم . وعن سهل بن سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعليّ عليه السلام ، يوم خيبر : < فوالله ! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من حمر النعم > ، متفق عليه .
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً . قيل : يا رسول الله هذا ! نَصَرْتُه مظلوماً ، فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال : تحجزه وتمنعه من الظلم . فذاك نصرك إِياه > . رواه الإمام أحمد والشيخان . وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : < المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم > ، رواه الإمام أحمد . وروى الطبراني والضياء المقدسي عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام > ، وعن النوّاس ابن سمعان قال : < سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ؟ فقال : البر حسن الخلق . والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس > . رواه مسلم .
تنبيه : في فروع مهمة .
قال بعض الزيدية : من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص ، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه ، من قولٍ أو فعلٍ أو أخذ ولايةٍ أو مساكنةٍ . وفي " الإكليل " : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه ، لحمل خمر ونحوه ، وبيع العنب لعاصره خمراً والسلاح لمن يعصي به ، وأشباه ذلك . انتهى وهو مُتّجِهٌ . و قال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتابه " السياسة الشرعية " : ولا يحل للرجل أن يكون عوناً على ظلم . فإن التعاون نوعان : نوع على البر والتقوى ، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا ما أمر الله به ورسوله . ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة ، فقد ترك فرضاً على الأعيان أو على الكفاية ، متوهم أنه متورع . وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع ، إذا كان كل منهما وإمساك .
والثاني - تعاون على الإثم والعدوان ، كالإعانة على دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، وضرب من لا يستحق الضرب ، ونحو ذلك . فهذا الذي حرمه الله ورسوله . نعم ، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق ، وتعذر ردها إلى أصحابها ، ككثير من الأموال السلطانية ، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين ، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ، ونحو ذلك ، من الإعانة على البر والتقوى ، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال ، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها مع التوبة ، إن كان هو الظالم ، إلى مصالح المسلمين . وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك . وكذلك لو امتنع السلطان من ردها ، كان الإعانة على المسلمين . فإن مدار الشريعة على قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] . المفسر لقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عِمْرَان : 102 ] . وعلى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم > . أخرجاه في الصحيحين .
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ، وتبطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تعارضت ، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما - هو المشروع ، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالماً على ظلمه . أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على أداء المظلوم ، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم . بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم . مثال ذلك : وليّ اليتيم والوقف ، إذا طلب منه مالاً ، فاجتهد في دفع ذلك بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع - فهو محسن ، وما على المحسنين من سبيل . وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتّاب وغيرهم ، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم ، لا يتوكل للظالمين في الأخذ . وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة ، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان ، وقسّطها بينهم على قدر طاقتهم ، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ، ولا ارتشاء ، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء -كان محسناً . لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابياً مرتشياً مخفراً لمن يريد ، وآخذاً ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نارٍ هم وأعوانهم وأشباههم ، ثم يقذفون في النار ، انتهى .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : اخشوه فيما أمركم ونهاكم : { إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . يعني لمن خالف أمره . ففيه وعيد وتهديد عظيم . ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى : { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 3 ]
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ . لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر ، من ذكر اسم الله تحقيقاً أو تقديراً ، كإسلام الذابح . كذا في " التبصير " . وقد خص من ( الميتة ) السمك بالسنّة : فإنه حلال . مات بتذكية أو غيرها . لما رواه مالك في موطئه ، والشافعي وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في سننهم ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ؟ فقال : < هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته > . وهكذا الجراد . لما سيأتي . قال الرازيّ : تحريم الميتة موافق لما في العقول . لأن الدم جوهر لطيف جداً . فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه ، وتعفن وفسد ، وحصل من أكله مضار عظيمة . انتهى .
اخرج ابن منده في كتاب ( الصحابة ) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة . فأنزل تحريم الميتة فاكفأت القدر : { وَالدَّمَ } أي : المسفوح منه . لقوله تعالى في الأنعام : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] . وقد روى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال ؟ فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم . فقال إنما حرم عليكم الدم المسفوح . وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت : إنما نهى عن الدم السافح .
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن بن عُمَر مرفوعاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أحل لنا ميتتان ودمان . فأما الميتتان فالسمك والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال > . وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدار قطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم . وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقيّ : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس ، عن أسامة ، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، مرفوعاً . قال الحافظ ابن كثير : وثلاثتهم كلهم ضعفاء . ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان ابن بلال ، أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه ، قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح . نقله ابن كثير .
أقول : أقوى مما ذكر في الحجة ، ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد . وفيهما أيضاً من حديث جابر ، إن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش . فلما قدموا قالوا للنبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : كلوا رزقاً أخرج الله لكم . أطعمونا منه إن كان معكم . فأتاه بعضهم بشيء . وفي البخاري عن عمر في قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] . قال : صيده ما اصطيد . وطعامه ما رمي به . وفيه عن أبن عباس قال : طعامه ميتته .
قال ابن كثير : روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صُدَيّ بن عجلان قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم . فبينما نحن كذلك ، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها . فقالوا : هلم ، يا صديّ ! فكل . قال ، قلت : ويحكم ، إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم ، فأقبلوا عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ } الآية . ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه . وزاد بعد هذا السياق قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي . فقلت : ويحكم ! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش . قال ، وعلي عباءتي فقالوا : لا . ولكن ندعك حتى تموت عطشاً . قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء . ونمت على الرمضاء في حرّ شديد . قال ، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج . لم ير الناس أحسن منه . وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه . فأمكنني منه فشربته . فلما فرغت من شرابي استيقظت ، فلا ، والله ! ما عطشت ولا عربت ( عرب كفرح فسدت معدته . قاموس ) بعد تيك الشربة .
ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد ، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة . واد بعد قوله ( بعد تيك الشربة ) : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تُمْجِعُوهُ بمذقة ؟ فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها . إن الله أطعمني وسقان . وأريتهم بطني ، فأسلموا عن آخرهم . انتهى .
قال الزمخشري : كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات : البهيمة التي تموت حتف أنفها . والفصيد ، وهم الدم في المباعر ، يشوونها ويقولون : لك يُحْرَمْ من فُزْدَ لَهُ . وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ } [ البقرة : 173 ] الآية .
قال المهايمي : حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة . فأشبه النجس بالذات ، ، لا يؤثر فيه المطهر { وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي ، وإن زالت بالموت ، فهو منجَّس ولم يقبل التطهير . لأنه لما كان نجساً حال الحياة والموت ، أشبه النجس بالذات ، فكأنه زيد تنجيسه بالموت . وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه ، وإن لم يكن موصوفاً في الحياة بالصفات المنجسة لروحه ، كان متنجساً بنجاسة روحه ، ثم بزوال الروح . انتهى .
قال ابن كثير : وقوله تعالى : { وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } يعني إنسيّه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطَّرد . وفي صحيح مسلم عن بُرَيْدَةَ بن الخَصِيب الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < من لعب بالنردشير ، فكأنما صبغ يده بلحم الخنزير ودمه > ، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس ، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره . وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام : فقيل : يا رسول الله ! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا هو حرام > : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } أي : نودي عليه غير اسم الله ، كما في " الصحاح " وأصل الإهلال رفع الصوت ، وكان العرب في الجاهلية يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح ، فحرم الله ذلك بهذه الآية .
وبقوله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه } [ الأنعام : 121 ] .
قال ابن كثير في الآية : أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام . لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم . فمن عدل بها عن ذلك ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية ، إما عمداً أو نسياناً ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام ، إن شاء الله تعالى . وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سَبْرة قال : كان رجل من بني رياح يقال له : ابن نائل . وكان شاعراً . نافر غالباً ، جدَّ الفرزدق بماء بظهر الكوفة . على أن يعقر هذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء . قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم . وعليّ بالكوفة . قال : فخرج عليّ . على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو ينادي : يا أيها الناس ! لا تأكلوا من لحومها . فإنما أهل بها لغير الله . هذا أثر غريب . يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : < نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب > . ثم أسند عن عِكْرِمَة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل . أفاده ابن كثير .
وفي " القاموس وشرحه " : وعاقره : فاخره وكارمه في عقر الإبل . ويقال : تعاقرا إذا عقرا إبلهما ، يتباريان بذلك ، ليرى أيهما أعقر لها . ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة . أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر . فعقر سُحَيم خمساً ثم بدا له . وعقر غالب مائة .
وفي حديث ابن عباس : لا تأكلوا من تعاقر الأعراب . فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله .
قال ابن الأثير : هو عقرهم الإبل ، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء . فيعقر هذا وهذا . حتى يعجز أحدهما الآخر . وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخراً . ولا يقصدون به وجه الله تعالى . فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى . انتهى .
وروى الإمام مسلم عن عليّ رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : < لعن الله من ذبح لغير الله . لعن الله من لعن والديه . لعن الله من آوى محدثاً . لعن الله من غير منار الأرض > .
وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < دخل الجنة رجل في ذباب ، ودخل النار رجل في ذباب . قالوا : وكيف ذلك ؟ يا رسول الله ! قال : مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً . فقالوا لأحدهما : قرب قال : ليس عندي شيء أقرب . قالوا له : قرب ولو ذباباً . فقرب ذباباً ، فخلوا سبيله ، فدخل النار . وقالوا للآخر : قرب . فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل . فضربوا عنقه . فدخل الجنة > . وفي هذه القصة ترهيب من وجوه : منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصاً من شرهم . ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم . مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر . ومنها أن في هذا شاهداً للحديث الصحيح : < الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك > . كذا في كتاب " التوحيد " .
{ وَالْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي بالخنق إما قصداً وإما اتفاقاً . بأن تتخبل في وثاقها فتموت به . قال الحسن وغيره : هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره . وبأي وجه اختنقت فهي حرام . وقال ابن عباس : كانت الجاهلية يخنقون الشاة . حتى إذا ماتت أكلوها . والمنخنقة من جنس الميتة ، لأنها لما ماتت ، وما سال دمها ، كانت كالميت حتف أنفه . إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق ، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب .
قال المهايمي : المنخنقة ، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها ، مع تنجسها بالموت : { وَالْمَوْقُوذَةُ } يعني المقتولة بالخشب . وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصيّ . حتى إذا ماتت أكلوها . وفي " القاموس وشرحه " الوقذ شدة الضرب . وقذه يقذه وقذاً : ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت . وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب . وقال أبو سعيد : الوقذ الضرب على فأس القفا . فيصير هدتها إلى الدماغ ، فيذهب العقل . فيقال : رجل موقوذ . وفي الصحيح أن عديّ ابن حاتم قال : < قلت يا رسول الله ! إني أرى بالمعراض الصيد ، فأصيب . قال : إذا رميت بالمعراض فخرق فكله . وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ . فلا تأكله > .
{ وَالْمُتَرَدِّيَةُ } هي الساقطة من جبل أو في بئر ، فتموت . والتردي السقوط فهي مهواة . وهذه الثلاثة في معنى الميتة . فإنها ماتت ولم يسل دمها { وَالنَّطِيحَةُ } هي التي نطحتها أخرى فماتت . فهي حرام . وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها . وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله . لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع ، ولم تخل من خباثة .
فائدة :
قال التبريزي في " تهذيبه " وابن قتيبة في " أدب الكاتب " : ما كان على فعيل ، نعتاً للمؤنث وهو في تأويل مفعول ، كان بغير هاء . نحو كف خضيب وملحفة غسيل . وربما جاءت بالهاء يُذْهَبُ بها مذهب الأسماء . نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع . . . وقالوا : ملحفة جديدة . لأنها في تأويل مجدودة أي : مقطوعة . وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء . نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة . وجاءت أشياء شاذة . فقالوا : ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خُصَيف .
وقال ابن السكيت : قد تأتي فعيله بالهاء وهي في تأويل مفعول بها . تخرج مخرج الأسماء ولا يُذْهب بها مذهب النعوت . نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ، ومررت بقتيلة بني فلان .
وقال الجوهري : إنما جاءت النطيحة بالهاء ، لغلبة الاسم عليها . وكذلك الفريسة والأكيلة والرميّة . لأنه ليس هو ( نَطَحْتُها ، فهي منطوحة ) وإنما هو الشيء في نفسه مما يُنطح والشيء مما يفرس ويؤكل .
{ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } أي : ما عدا عليها فأكل بعضها . قال قتادة : كان أهل الجاهلية ، إذا جرح السبع شيئاً فقتله أو أكل منه ، أكلوا ما بقي منه . فحرمه الله تعالى .
قال المهايميّ : هو ، وإن أشبه الصيد ، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه ، فسرت خباثته فيها . انتهى . و ( السبع ) بضم الباء وفتحها وسكونها : المفترس من الحيوان . مثل الأسد والذئب والنمر والفهد . وما أشبهها مما له ناب ، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها . وسمي ذلك لتمام قوته . وذلك أن ( السبع ) من الأعداد التامة ، وفي الآية محذوف تقديره : وما أكل السبع بعضَه . ما ذكرنا . لأن ما أكله فقد فُقِدَ .
فلا حكم له ، إنما الحكم للباقي منه . وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } أي : ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها . بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره ، فإنه يتحقق فيه المطهر ، ولا يؤثر فيه السابق . لأن اللاحق ينسخه . بل هو واقع قبل تأثير السابق . إذ لا يتم التأثير إلا بالموت . أفاده المهايمي . قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه فهو ذكيّ . وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدّي . وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ ، في الآية قال : إن مصعت بذنبها ، أو ركضت برجلها ، أو طرفت بعينها ، فكل . وروى ابن جرير عن الحارث عن علي أيضاً قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يداً أو رجلاً ، فكله . وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد ؛ أن المذكاه متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء . أفاده ابن كثير .
وفي " الموطأ " : سئل مالك عن شاة تردت فتكسرّت ، فأدركها صاحبها فذبحها ، فسال الدم منها ولم تتحرك ؟ فقال مالك : إذا كان ذبحها ونَفَسُها يجري وهي تطرف ، فليأكلها .
والتذكية الذبح ، كالذكاة والذكاة . قال الراغب : حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية . ولكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه . أي : وهو قطع الحلقوم والمريء . بمُنْهرٍ للدم : من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب ، له حد يقطع كما السلاح المحدد . ما لم يكن سناً أو ظفراً . لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال : < قلت يا رسول الله ! إنا لاقو العدوّ غداً . وليس معنا مدى . أفنذبح بالقصب ؟ فقال : ما أنْهَرَ الدم وذُكِر اسم الله عليه ، فكلوه ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم . وأما الظفر فمدى الحبشة > .
وأما حديث أبي العشراء عن أبيه : < قلت : يا رسول الله ! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة ؟ قال : لو طعنت في فخذها لأجزأك > ، أخرجه أحمد وأهل السنن - ففي إسناده مجهولون . وأبو العشراء لا يعرف من أبوه . ولم يَرْو عنه غير حماد بن سلمة . فهو مجهول . كذا في " الروضة " .
وقال الحافظ ابن حجر في " التلخيص " : أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه . وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح . ولا يعرف حاله .
وقال في " التقريب " : أعرابيّ مجهول .
قال الترمذيّ في جامعه ، بعد سوقه لذا الحديث : قال أحمد بن منيع : قال يزيد بن هارون : هذا في الضرورة . وفي الباب عن رافع بن خديج . انتهى .
وقال ابن كثير : وهذا الحديث صحيح . ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة . انتهى .
وتصحيحه له ، مع جهالة راويه المذكور ، فيه نظر . فإن حد الصحيح كما في " التقريب " ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة . قال ( شارحه السيوطي ) : فخرج بقيد ( العدول ) ما نقله مجهول عيناً أو حالاً . أي : فليس بصحيح بل ضعيف .
وفي " النخبة " أن خبر الآحاد مقبول ومردود ، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راوٍ . والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك . إلى أن قال : أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معيّن . فتبصرّ .
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال الزمخشريّ : كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت . يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها . يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها . تسمى الأنصاب .
قال ابن كثير : فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم عليهم أكل هذه الذبائح ، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله . لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله . انتهى .
وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى . فروى أبو داود بإسناد على شرط الشيخين ، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : < نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا . قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك . فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللهِ . ولا فيما لا يملك ابن آدم > .
ففيه ، انتهى المعصية قد تؤثر في الأرض . وكذلك الطاعة . وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله . أو عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله أيضاً . وإنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ، ولو لم يقصده . كذا في " كتاب التوحيد " .
لطيفة :
( النُّصب ) بضمتين ، وضم فسكون ، إما جمعٌ ، واحده نِصَاب . ككتاب وكتب . أو مفرد جمعه أنصاب كعُنُق وأعناق . وقُفْل وأقفال . وفي " القاموس وشرحه " : النُّصُبُ : كل ما نصب وجعل علَماً . وكل ما نُصب فعبد من دون الله تعالى . والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فَيُهَلُّ عليها ويذبح لغير الله تعالى . وقال القتيبيّ : النصب صنم أو حجر . وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده ، فيحمرّ بالدم . ومنه حديث أبي ذر في إسلامه قال : فخرجت مغشياً عليّ ثم ارتفعت كأني نُصُبٌ أحمر . يريد أنهم ضربوه حتى أَدْمَوْهُ . فصار كالنصب المحمّر بدم الذبائح . انتهى .
قال ابن جريح : كانت النصب ثلاثمائة وستين نصباً . وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت ، بدماء تلك الذبائح . ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب .
{ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ } أي : وحرم عليكم ، أيها المؤمنون ، الاستقسام بالأزلام ، أي : طلب القسمْ والحكم بها . والأزلام جمع زَلم ( محركة ) . و ( كصُرَد ) وهي : قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية . مكتوب على أحدها : ( افعلْ ) وعلى الآخر ( لا تفعل ) والثالث غفل ، ليس عليه شيء . وقد زُلِّمت وسُوِّيت ووضعت في الكعبة . يقوم بها سدنة البيت ، فإذا أراد رجل سفراً أو نكاحاً . أتى السادن وقال : أخْرِجْ لي زلماً . فيجيلها ثم يُخرج زلماً منها . فإذا خرج قدح الأمر ، مضى على ما عزم عليه . أو النهي قعد عما أراده . أو الفارغ أعاد .
قال الزهريّ ( في معنى الآية ) : أي : تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين . فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر ، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح . وذكر محمد بن إسحاق وغيره ؛ أن أعظم أصنام قريش ، صنم كان يقال له هُبَل . منصوب على بئر داخل الكعبة ، فيها توضع الهدايا ، وأموال الكعبة فيه . وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم . فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه . وفي " اللباب " : كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها : ( أمرني ربي ) وعلى واحد : ( نهاني ) وعلى واحد ( منكم ) وعلى واحد ( من غيركم ) وعلى واحد : ( ملصق ) وعلى واحد ( العقل ) وعلى واحد غفل . أي : ليس عليه شيء . وكانت العرب ، في الجاهلية ، إذا أرادوا سفراً أو تجارة أو نكاحاً ، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل ، أو تحمل عقل ، أو غير ذلك من الأمور العظام -جاءوا إلى هُبَل . وكانت أعظم صنم لقريش بمكة . وجاؤوا بمائة درهم . وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم . فإن فرج ( أمرني ربي ) فعلوا ذلك الأمر . وإن خرج ( نهاني ربي ) لم يفعلوه . وإن أجالوا على نسب ، فإن خرج ( منكم ) كان وسطاً منهم . وإن خرج ( من غيركم ) كان حلفاً فيهم . وإن خرج ( ملصق ) كان على حاله . وإن اختلفوا في العقل . وهو الدين ، من خرج عليه قدح العقل تحمّله . وإن خرج غفل أجالوا ثانياً . حتى يخرج المكتوب عليه . فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقاً . كما يأتي : وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصوريْن فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال : < قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما أبداً > . وفي الصحيح أن سُرَاقَة بن مالك بن جعشم ، لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة . مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام : هل أضرّهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال فعصيت الأزلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان كذلك . وكان سُرَاقَة لم يُسلم إذ ذاك . ثم أسلم بعد ذلك .
وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائراً > : { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } أي : خروج عن الأخذ بالطريق المشروع . والإشارة إلى الاستقسام . أو إلى تناول ما حرم عليهم . لأن المعنى : حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا . فإن قلت : لم كان استقسام المسافر غيره بالأزلام ، لتعرف الحال -فسقاً ؟ قلت : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب . وقال : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [ النمل : 65 ] . واعتقاد أن إليه طريقاً وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي -افتراء على الله . وما يدريه أنه أمره أو نهاه ؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة . وإن كان أراد بالرب الصنم ، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم -فأمره ظاهر . كذا في الكشاف .
تنبيه :
في " الإكليل " استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك . وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام ، وهو مردود . انتهى . أي : لتباين القصد فيهما . فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها ، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض . ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة . كما " في العناية " .
قال الحاكم : وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم . فأما التفاؤل بالخير فمباح . قال الأصمّ : ومن هذا قول المنجم : إذا طلع نجم كذا فاخرج ، وإن لم يطلع فلا تخرج .
قال الراضي بالله : ومن عمل بالأيام في السعد والنحس ، معتقداً أن لها تأثيراً ، كفر . وإن لم يعتقد أثم . وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قَبِيصَة ، عن أبيه ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت > .
قال عوف أحد رواته : العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض . وفي " القاموس " عِفْتُ الطير عيافة : زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها ، فَتَسَعَدّ أو تَتَشَأَّم ، وهو من عادة العرب كثيراً .
وقال أبو زيد : الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع .
وقال ابن الأثير : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء . وقيل : هو الخط بالرمل . والجبت : كل ما عبد من دون الله تعالى . وقد روى مسلم في صحيحه ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً > . وروى الإمام احمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم > . وعن عِمْرَان بن حصين مرفوعاً : < ليس منا من تَطَيَّر أو تُطُيِّرَ له ، أو تُكُهَّنَ له ، أو سَحَر أو سُحِرَ له . ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الله > . رواه البزار بإسناد جيد . ورواه الطبراني في " الأوسط " بإسناد حسن من حديث ابن عباس . دون قوله : وَمَنْ أتَى الخ .
قال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك . وقيل : هو الكاهن . والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل . وقيل : الذي يخبر عما في الضمير . وقال أبو العباس بن تيمية : العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق . وقال ابن عباس ( في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم ) : ما أرى من فعل ذلك ، له عند الله من خلاق . وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فيها من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن ، والتصريح بأنه كفر . وعن ابن مسعود مرفوعاً . < الطيرة شرك . الشرك الطيرة . ما منا إلا . . . ولكن الله يذهبه بالتوكل > . رواه أبو داود والترمذي وصححه . وجعل آخره من قول ابن مسعود .
ولأحمد من حديث ابن عَمْرٍو : من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك . قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللَّهم ! لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك . وعن أنسم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل . قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة > . رواه الشيخان .
ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال : ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < أحسنها الفأل ولا تردّ مسلماً . فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللَّهم ! لا يأتي بالحسنات إلا أنت . ولا يدفع السيئات إلا أنت . ولا حول ولا قوة إلا بك > .
فائدة :
قال الحافظ ابن كثير : قد أمر الله المؤمنين ، إذا ترددوا في أمورهم ، أن يستخيروه ، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه . كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور ، كما السورة من القرآن : ويقول : < إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم ! إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم . فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب . اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر ( ويسميه باسمه ) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ( أو قال عاجل أمري ) وآجله فأقدره لي ، ويسره لي ثم بارك لي فيه . وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ، فاصرفني عنه واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به > . هذا لفظ الإمام أحمد { الْيَوْمَ يَئِسَ } أي : قنط : { الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم . وكذا روي عن عطاء بن أبي رَبَاح والسدّيّ ومقاتل بن حيان . وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم > . نقله ابن كثير . وعليه فـ ( من ) تعليلية . أي : يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها . ودخلوا فيه أفواجاً . وللزمخشري تأويل بديع ، تابعه عليه مِن بعده ، ونحن نسوقه أيضاً . قال رحمه الله : لم يُرَدْ بقوله : { الْيَوْمَ } يوم بعينه . وإنما أريد به الزمان الحاضر ، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية . كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب . فلا تريد ( بالأمس ) اليوم الذي قبل يومك ولا ( باليوم ) يومك . وقيل : أريد يوم نزولها . وقد نزلت يوم الجمعة ، وكان يوم عرفة ، بعد العصر في حجة الوداع . وقوله تعالى : { يَئِسَ } . الخ . أي : يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث ، بعد ما حرمت عليكم . وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه . لأن الله عز وجل وفَّى بوعده من إظهاره على الدين كله .
{ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } بعد إظهار الدين ، وزوال الخوف من الكفار ، وانقلابهم مغلوبين مقهورين ، بعدما كانوا غالبين : { وَاخْشَوْنِ } وأخلصوا لي الخشية . انتهى كلامه .
وأوضح الوجه الأول ، الرازي فقال : ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه ، حتى يقال : إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه : لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم .
ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو : إكماله لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه . ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحلّه ، ولا حرام إلا ما حرّمه ، ولا دين إلا ما شرعه . فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة . ولهذا قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يعني أحكامه وفرائضه ، فلا زيادة بعده ، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام . هذا ما روي عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير وقتادة : معنى ( الإكمال ) أنه لم يحج معهم مشرك . وخلال الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين . وقيل : معناه كفايتهم أمر العدوّ ، وجعل اليد العليا لهم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم . وبما ذكرنا أولاً -من أنّ المراد بالإكمال عدم الزيادة -يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولاً . ولذا قال ابن الأنباريّ ( في الآية ) : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ } شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت . وذلك أنّ الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر . فيكون الوقت الأول تامّاً في وقته . وكذلك الوقت الثاني تامّاً في وقته . فهو كما يقول القائل : عندي عشرة كاملة ، ومعلوم أنَّ العشرين أكمل منها . والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده ، في الأوقات المختلفة ، مختلفة .
وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبّد بها . فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره -وهو يوم عرفة -ولم يوجب ذلك ، أنَّ الدين كان ناقصاً في وقت من الأوقات .
وللإمام القفّال نحو ذلك ، نقله عنه الرازيّ واختاره . قال : إنَّ الدين ما كان ناقصاً البتة ، بل كان أبداً كاملاً . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلاّ أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في أخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة ، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة . فالشرع أبداً كان كاملاً . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } يعني بإكمال الدين والشريعة . لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام . أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين . وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وأن لم يحج معكم مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . أو بإنجاز ما وعدهم بقوله : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } . فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضيّ وحده { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه } [ آل عِمْرَان : 85 ] ، أو معناه : الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم . ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيّاً للحق تعالى منذ القدم ، إلاّ أن المعنيّ به ، في الآية ، الصفة التي هو اليوم بها . وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته . أي : فالزموه ولا تفارقوه : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ } [ آل عِمْرَان : 19 ] . . !
روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < قال جبريل : قال الله عز وجلّ : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلاّ السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه > .
فوائد :
الأولى : روى الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عُمَر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ! إنكم تقرؤون آيةً في كتابكم ، لو علينا ، معشر اليهود ، نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأيّ آية ؟ قال : قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } . فقال عمر : والله ! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة .
قال ابن كثير : وقد روي هذا من غير وجه عن عمر . وروى ابن جرير عن قَبِيصَة بن أبي ذئب قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه . فقال عمر : أي : آية يا كعب ؟ فقال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه . نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة . وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ . وروى ابن جرير القصة أيضاً عن ابن عباس ، وأنه قال : نزلت يوم عيدين إثنين . يوم عيد ويوم جمعة . . . وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن عليّ قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . ورواه أيضاً عن سمرة . وروى ابن جرير نحوه عن معاوية . وروي عن السدّي قال : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . فقالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة . فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن . فنزلت . فأتيته فسجيت عليه بردِاً كان عليّ .
وقال ابن جرير وغيره : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً .
وقال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وكيع : حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } -وذلك يوم الحج الأكبر -بكى عمر . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا .
فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : صدقت .
قال ابن كثير : ويشد لهذا المعنى الحديث الثابت : < إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء > . انتهى .
قلت : والحديث المذكور رواه مسلم عن أبي هريرة . والترمذي عن ابن مسعود . وابن ماجة عنهما أيضاً وعن أنس ، والطبراني عن سلمان وسهل وابن عباس .
هذا ، وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال : ليس ذلك بيومٍ معلوم عند الناس . ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع . وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدّي عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ .
حين قال لعليّ : من كنت مولاه فعلي مولاه . ثم ورواه عن أبي هريرة وفيه : إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة -يعني مرجعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع .
قال ابن كثير : ولا يصح لا هذا ولا هذا . بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما قدمنا عن عمر وعلي ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم ، وعن ثلّة من التابعين .
الثانية : استدلّ نفاة القياس بهذه الآية ، على أنَّ القياس باطل . وذلك لأنّ الآية دلت على أنه تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع ، إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملاً ، وإذا حصل النص في جميع الوقائع ، فالقياس -إن كان على وفق ذلك النص -كان عبثاً وإن كان على خلافه كان باطلاً .
وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازيّ . فانظره .
الثالثة : قال صاحب " فتح البيان " : لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع . إمَّا بالنص على كل فرد ، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة . ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] وقوله : { وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < تركتكم على الواضحة ، ليلها كنهارها > . وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين . وبما يفيد هذا المعنى ، ويصحح دلالته ، ويؤيد برهانه ، ويكفي في دفع الرأي ، وأنه ليس من الدين -قول الله تعالى هذا . فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين -في اعتقادهم -فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم ، وهذا فيه ردَّ للقرآن . وإن لم يكن من الدين ، فأيّ فائدة في الاشتغال بما ليس منه ؟ وما ليس منه فهو ردّ بنص السنة المطهرة . كما ثبت في " الصحيح " -وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبداً . فاعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي ، وترغم به آنافهم ، وتدحض به حجتهم . فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه . ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل . فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له : إنّ الله أصدق منك : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } [ النساء : 122 ] . اذهب لا حاجة لنا في رأيك . وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا . وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أن القرآن أحاط بكل شيء فقال : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء } [ الأنعام : 38 ] . وقال : { تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً } [ النحل : 89 ] . ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] . وقال : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } [ النساء : 105 ] . وقال : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [ الأنعام : 57 ] . وقال : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] . وفي آية . . { هُمُ الظَّالِمُون } [ المائدة : 45 ] . وفي أخرى . . { هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] . وأمر عباده أيضاً في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ] . وهذه أعمّ آية في القرآن ، وأبْيَنُها في الأخذ بالسنة المطهرة ، وقال : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [ النساء : 59 ] . وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز . وقال : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : 51 ] . وقال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }
[ الأحزاب : 21 ] . والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة . ولا فائدة زائدة ، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك . ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين . وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة ، والبينات العظيمة تلييناً لقب الملّقد الذي قد جمد ، وصار كالجلمد . فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية ، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، طاعة لأوامره . فإن هذه الطاعة ، وان كانت معلومة لكل مسلم ، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية ، فإذا ذُكِّرَ بها ذَكرَ . ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه . فإنه يقع في قلبه ، أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه . وما كان مخالفاً له فليس من الإسلام في شيء . فإذا راجع نفسه رجع .
ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ، ثم سمع - قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس - خلاف ذلك المألوف ، استنكره وأباه قلبه ، ونفر عنه طبعه . وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر . ولكن إذا وازن العاقل بعقله ، بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألةٍ من مسائله التي رواها عنه المقلّد -ولا مستند لذلك العالم فيها ، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل -وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة ؛ أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل ، لا جامع بينهما ، لأنّ من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به ، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة : أولها وآخرها ، وحيّها وميتها . . . ! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره . والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة ، واسترواء النص ، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة . فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحدة إذا دل عليها ، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها . فهم رواة وهو مستروٍ ، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي ؛ والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية . لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة . وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي ، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه . وهما من هذه الحيثية متقابلان ، فانظر كم الفرق بين المنزلتين ؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة . وهو مبسوط في مواطنه ، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ ، وبالله التوفيق . انتهى كلامه . الرابعة : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور ، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بملّة الإسلام .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ } متصل بذكر المحرمات . وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه . وهو أنَّ تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإسلام المرضيّ . ومعناه : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات : الميتة وما بعدها ، أي : أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها : { فِي مَخْمَصَةٍ } أي : مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه -و ( المخمصة ) : مصدر مثل المَغْضبة والمَعْتبةً . يقال : خمصه الجوع خمصاً ومخمصة ، وخمص البطن ( مثلثة الميم ) خلا { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } أي : غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة ، أو العصيان بالسفر . كقوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } [ البقرة : 173 ] { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لتناوله الحرام -فلا يؤاخذه به : { رَّحِيمٌ } أي : بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي " المسند " و " صحيح " ابن حبان عن ابن عمر -مرفوعاً -قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته > . لفظ ابن حبان . وفي لفظ لأحمد : < من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة > ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها . وقد يكون مندوباً ، وقد يكون مباحاً ، بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع ويتزود ؟ على أقوال . وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً -كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم -بل متى اضطر إلى ذلك جاز له . وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي ؛ أنهم قالوا : يا رسول الله ! إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة . فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : < إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلاً ، فشأنكم بها . > . إسناده صحيح على شرط الشيخين ، والاصطباح : شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ، ومعنى لم تحتفئوا : أي : تقتلعوا . وفي اللفظة عدة روايات وروى أبو داود عن الفجيع العامريّ : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : ما طعامكم ؟ ، قلنا : نصطبح ونغتبق ! قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة وقدح عشية ، قال : ذاك ، وأبي ! الجوع . فأحل لهم الميتة على هذه الحال > . تفرد به أبو داود . وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم . فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم . وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حدّ الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق . والله أعلم .
وروى أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلاً نزل الحَرَّة ومعه أهله وولده . فقال رجل : إنّ ناقة لي ضلت . فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت . فقالت له امرأته : انحرها ! فأبى ، فنفقت ، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتاه ، < فسأله ، فقال له : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال : لا ! قال : فكلوها ! قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك ! > تفرد به .
وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزود منها مدة ، يغلب على ظنه الاحتياج إليها . والله أعلم . أفاده ابن كثير . وقوله : ( فَنَفَقَتْ ) . أي : ماتت . ( من باب نصر وفرح ) قال ابن برّي : أنشد ثعلب :
~فما أشياء نشريها بمال فإن نفقت فأكسد ما تكون ؟
تنبيه :
قال بعض المفسرين : ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها . والفقهاء يقولون : يقدم الأخف تحريماً ، فميته المأكول على ميتة غيره . انتهى .
وفي " رحمة الأمة " أنّ المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير ، ومالكه غائب ، أنّ له أكله بشرط الضمان ، دون الميتة . عند مالك وأكثر أصحاب الشافعي وجماعة من الحنفية . وعند أحمد وآخرين : يأكل الميتة .
قال ابن كثير : قد استدل بقوله تعالى : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } من يقول بأنّ العاصي بسفره لا بترخص بشيءٍ من رخص السفر ، لأنَّ الرخص لا تنال بالمعاصي . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 4 ] .
{ يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُم } أي : من المطاعم : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } أي : ما ليس بخبيث منها . وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتابه أو سنة . و ( الطيِّب ) في اللغة هو المستلذ . و ( الحلال ) المأذون فيه ، يسمى طيباً تشبيهاً بما هو مستلذ . لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ } عطف على ( الطيبات ) بتقدير مضاف . أي : وصيد ما علمتموه . أو مبتدأ ، على أنَّ ( ما ) شرطية وجوابها ( فكلوا ) . و ( الجوارح ) : الكواسب من سباع البهائم والطير -كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين -لأنها تجرح لأهلها أي : تكسب لهم . الواحدة جارحة . تقول العرب : فلان جرح أهله خيراً ، أي : كسبهم خيراً . وفلان لا جارح له .
أي : لا كاسب . ومنه قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] . أي : كسبتم . وقيل : سميت ( جوارح ) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه . وقوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } أي : معلمين لها أن تَسْتَشْليَ إذا أُشْلِيَتْ ، وتنزجر إذا زجرت ، وتجتنب عند الدعوة ، ولا تنفر عند الإرادة ، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن . إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم ، فلا يحل صيدها .
قال الزمخشري : ( المكلّب ) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك ، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف . واشتقاقه من ( الكلب ) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب . فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه . أو لأن السبع يسمى كلباً . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : < اللهم سلط عليه كلباً من كلابك . فأكله الأسد > . ( الحديث حسن ، أخرجه الحاكم ) ، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به . وانتصاب ( مكلّبين ) على الحال من ( علمتم ) . فإذا قلت : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بـ ( علمتم ) ؟ قلت : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه ، مدرّياً فيه ، موصوفاً بالتكليب . وقوله تعالى : { تُعَلِّمُونَهُنَّ } حال ثانية أو استئناف ، وفيه فائدة جليلة . وهي أن على كل آخذٍ علماً أن لا يأخذه إلا من أَقْتَلِ أهله علماً ، وأنحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه . وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل . فكم من آخذٍ ، عن غيره متقن ، قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله : { مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ } أي : من علم التكليب ، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل . أو مما عرفكم أن تعلموه من إتباع الصيد بإرسال صاحبه . وانزجاره بزجره . وانصرافه بدعائه . وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه . انتهى .
وقال الناصر في " الانتصاف " : وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم . لأن تعليمها ، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه . خلافاً لمنكري ذلك .
{ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } أي : صِدْنَ لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه : { وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } الضمير يرجع إلى ( ما علمتم من الجوارح ) أي : سموا عليه عند إرساله ، كما بيّنه حديث أبي ثعلبة وعدي الآتي . وجوز رجوعه إلى ( ما أمسكن ) على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم زكاته : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالاً إليها : { إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : المجازاة على كل ما جلّ ودقّ .
تنبيهات :
الأول : روى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، عن عدّي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيّيْن . سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : < يا رسول الله ! قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها > ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ؛ قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم ؛ وقال مقاتل : ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه ، وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهريّ عن شرب البول للتداوي ؟ فقال : ليس هو من الطيبات ، رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس ؟ فقال ليس هو من الطيبات . وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثراً آخر ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ، فسكت . فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ } الآية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه ، فليأكل مما لم يأكل > .
وعند ابن جرير عن أبي رافع قال : < جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه ، فأذن له فقال : قد أذنّا لك يا رسول الله ! قال : أجل . ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب . قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة . حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها . ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته . فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأنزل الله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ } > . رواه الحاكم في " مستدركه " وقال : صحيح ولم يخرجاه .
وروى ابن جرير أيضاً عن عِكْرِمَة : < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي . فجاء عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله > ؟ فنزلت الآية : رواه الحاكم أيضاً عن عِكْرِمَة . وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزولها : أنه في قتل الكلاب -أفاده ابن كثير .
قال بعض المفسرين : لما نزلت الآية ، أذن صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها . وأمر بقتل العقور وما يضر . انتهى .
أقول : روى الإمام أحمد ومسلم عن جابر قال : < أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب . حتى أن امرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطين فإنه شيطان > .
وروى الشيخان عن ابن عمر : < أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، إلا كلب صيدٍ أو كلب غنم أو ماشية > .
وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لولا أنَّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها . فاقتلوا منها كل أسود بهيم > . رواه أبو داود والدارمي ، وزاد الترمذي والنسائي : < وما من أهل بيت يرتبطون كلباً إلاَّ نقص من عملهم كل يوم قيراط . إلاَّ كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم > . وظاهر هذه الأحاديث ، أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر بقتلها كلها . ثم رخص في استبقائها . إلاَّ الأسود فإنه مستحق القتل .
وقول إمام الحرمين : ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم -يحتاج إلى برهان .
قال ابن عبد البر : في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية .
وكذلك للزرع . لأنها زيادة حافظ . وكراهة اتخاذها لغير ذلك . إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر ، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياساً ، فمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة ، لما فيه من ترويع الناس ، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه .
ثم قال : ووجه الحديث عندي ؛ أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعاً ، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها ، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك .
وروي أن المنصور بالله سأل عَمْرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث ؟ فلم يعرفه . فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ويروّع السائل . انتهى .
وقال الخطابي : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : < لولا أن الكلاب أمة من الأمم . . . الخ > . أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق ، لأنه ما من خلق لله تعالى إلاَّ وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة . يقول : إذا كان الأمر على هذا ، ولا سبيل إلى قتلهن ، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهُم . وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة .
وقال الطيبي : قوله : < أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ > إشارة إلى قوله تعالى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] . أي : أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له . قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] . أي : يسبح بلسان القال أو الحال . حيث يدل على الصانع وعلى قدرتة وحكمته وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه ، فبالنظر إلى هذا المعنى ، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء . ولكن إذا كان لدفع مضرةٍ -كقتل الفواسق الخمس -أو جلب منفعةٍ -كذبح الحيوانات المأكولة -جاز ذلك .
الثاني : ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنّ الجوارح التي يحل صيدها ، ما قَبِلَ التعليم من ذي ناب كالكلب والفهد والنمر ، أو ذي مخلب كالطيور المذكورة قبل . قال في " النهاية " : حتى الهرّ إن تعلّم ، واحتجوا بعموم الآية .
وروى أحمد وأبو داود عن مجالد عن الشعبيّ عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ما علمت من كلب أو بازٍ ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه ، فكل ما أمسك عليك . قلت : وإن قتل ؟ قال : وإن قتل ولم يأكل منه شيئاً . فإنه أمسكه عليك > .
قال البيهقي : تفرد مجالد بذكر الباز فيه ، وخالف الحافظ .
أقول : روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال : < سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ؟ فقال : ما أمسك عليك فكل > . وعن ابن عمر ومجاهد : < لا يحل إلاَّ صيد الكلب فقط > . وروى ابن جرير بسنده ، أن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير ( والبراة من الطير ) فما أدركت فهو لك . وإلاَّ فلا تطعمه وقال ابن أبي حاتم : كره مجاهد صيد الطير كلَّه ، وقرأ قوله : { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } . أي : فإن قوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } يشير إلى قصر ذلك على الكلب . وقال الحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق : يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم . لأنه قد أمر بقتله .
الثالث : قدمنا أن انتصاب : { مُكَلِّبِينَ } على الحال من : { عَلَّمْتُم } . قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول وهو ( الجوارح ) أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد . وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها .
فيستدل بذلك ، والحالة هذه ، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره ، أنه يحل . كما هو أحد قول الشافعي وطائفة من العلماء . ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا استشلاه استُشْلِيَ ، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ، ولا يمسكه لنفسه . ولهذا قال تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } . فمتى كان الجارح معلّماً وأمسك على صاحبه -وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله -حلّ الصيد وإن قتله ، بالإجماع .
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة . كما ثبت في " الصحيحين " عن عديّ بن حاتم قال : قلت : < يا رسول الله ! إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله ؟ فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك . قلت : وإن قتلن ؟ قال : وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس منها . فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره . قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد ؟ فقال : إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض ، فإنه وقيذ ، فلا تأكله > .
وفي لفظ لهما : < إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله . فإن أمسك عليك فأدركته حيّاً . فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه ، فكله وإنّ أخذ الكلب ذكاته > . وفي رواية لها : < فإن أكل فلا تأكله . فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه > . فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقاً . ولم يستفصلوا . كما ورد بذلك الحديث . وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقاً . أَكَلَ أو لم يأكل .
روى ابن جرير عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا : كُلْ وإن أكل ثلثيه . وعن سعد بن أبي وقاص : < وإن أكل ثلثيه > . وعنه : < وإن لم يبق إلا بضعة > . وعن ابن عمر : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك . أكل أو لم يأكل . وحكاه عن عليّ وابن عباس وغير واحد من التابعين .
وروي ذلك مرفوعاً أيضاً . أخرج أبو داود عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابياً ، يقال له أبو ثعلبة ، قال : < يا رسول الله ! إنّ لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك . فقال : ذكيّ وغير ذكي ، وإن أكل منه ؟ قال : نعم وإن أكل منه . فقال : يا رسول الله ! أفتني في قوسي ! فقال : كلّ ما ردت عليك قوسك . قال : ذكي وغير ذكي ؟ قال : وإن تغيب عنك ما لم يَضِلّ أو تجد فيه أثراً غير سهمك . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : اغسلها وكُلْ فيها > . هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي . وكذا رواه أبو داود عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله ، فكُلْ وإن أكل منه ، وكُلْ ما ردت عليك يدك > .
وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم . لحديث عديّ ، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم . وأما إن أمسكه ، ثم انتظر صاحبه ، فطال عليه ، وجاع فأكل منه لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة . وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين ، صحيح .
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه " النهاية " : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل . وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب . أفاده ابن كثير .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقاً منها للقائلين بالتحريم ( الأولى ) حبل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه ، و ( الثانية ) الترجيح ، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما . ومختلف في تضعيفها . وأيضاً ، فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم . وهو خوف الإمساك على نفسه ، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم . فإذا شككنا في السبب المبيح ، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة . فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح ، ويتقوى أيضاً بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد : إ ذا أرسلت الكلب فأكل الصيد ، فلا تأكل . فإنما أمسك على نفسه . فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل ، فكُلْ . فإنما أمسك على صاحبه . وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس . وابن أبي شيبة من حديث أبى رافع ، نحوه بمعناه . ولو كان مجرّد الإمساك كافياً لما احتيج إلى زيادة ( عليكم ) في الآية . وأما القائلون بالإباحة ، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه ، وحديث الأعرابي على بيان الجواز . قال بعضهم : ومناسبة ذلك أن عدّياً كان موسراً .
فاختير له الحمل على الأولى . بخلاف أبي ثعلبة ، فإنه كان بعكسه . ولا يخفى ضعف هذا التمسك ، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه . وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة : إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يُعْلَّمُ ما عَلَّمته . وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله ، دلَّ على أنه ليس يعلم التعليم المشروط .
الرابع : في الآية مشروعية التسمية . قال ابن كثير : قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } أي : عند إرساله له ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : < إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك > . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في " الصحيحين " أيضاً : < إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله . وإذا رميت بسهمك > . ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة ، كالإمام أحمد رحمه الله ، في المشهور عنه ، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث . وهذا القول المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال . كما قال السدّي وغيره . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : < إذا أرسلت جارحك فقل : بسم الله . وإن نسيت فلا حرج > . انتهى .
قال بعض الزيدية : والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة . فمن قائلٍ بوجوبها على الذاكر لا الناسي . لحديث : < رفع عن أمتي الخطأ والنسيان > . ومن قائل بأنها مستحبة . ومن قائلٍ بأنها شرط مطلقاً . المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة . فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث . ثم قال : لقائلٍ أن يقول : يحتمل أن يرجع قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } إلى الأكل . أي : فسموا عند الأكل . فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية . انتهى . وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصّه :
وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل . كما ثبت في " الصحيحين " ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم ربيبه ، عمر ابن أبي سلمة ، فقال : < سم الله وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك > . وفي " صحيح البخاري " عائشة ؛ أنهم قالوا : < يا رسول الله ! إن قوماً يأتوننا ، حديث عهدٍ بكفرٍ ، بلحمانٍ ، لا ندري أذْكِرَ اسم الله عليها أم لا ؟ فقال : سموا الله أنتم وكلوا أنتم > . وقال الترمذي : حسن صحيح .
الخامس : في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة . لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك . كذا في " الإكليل " . وتقدم عن الزمخشري والناصر ما في الآية أيضاً من الأخذ عن النحرير ، وأن البهائم لما علم . واستدلّ بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة ، بالسنة : كما تقدم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 5 ]
وقوله تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } أي : من الذبائح والصيد . تكريره تأكيد للمنة . قال أبو السعود : قيل المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد . وإنما كرر للتأكيد . ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسْنُ تكريره . والمراد بالطيبات ما مرّ .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ . قال في " الروضة والغدير " : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى ، كما فعله عليّ عليه السلام وغيره من الفضلاء . فقد روي أن عليّاً عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام . فرأى بعضُ أصحابه طعامَهُ . وهو خبز شعير غير منخولٍ ، وملح جريش ، وهو مختوم عليه لئلا يبدل . ومن كلامه عليه السلام : والله ! لأروضنّ نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوماً ، وإلى الملح إن وجدته مأْدوماً . ولما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين . انتهى .
{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد ابن جبير وغيرهم : يعني ذبائحهم .
قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ؛ أن ذبائحهم حلال للمسلمين . لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلاّ اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه ، تعالى وتقدس . انتهى .
قال المهايمي : وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله ، لكنهم لما ذكروه ، أشبه ما يعتد بذكره ، فأشبه طعامهم الطيبات .
مباحث :
الأول : ما ذكرناه من أن المعنيّ بالطعام الذبائح ، هو الذي قاله أئمة السلف : صحابةً كابن عباس وأبي أمامة ، وأتباعاً كمجاهد وثمانية غيره ، كما في ابن جرير وابن كثير . وفي " اللباب " : أجمعوا على أن المراد ؛ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ذبائحهم خاصة . لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أنْ كانت لهل الكتاب وبعد أنْ صارت لهم . فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة . ولأنّ ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح . فحمل هذه الآية عليه أولى . لأن سائر الطعام لا يختلف ، من تولاّه من كتابّيٍ أو غيره . وإنما تختلف الذكاة . فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دلّ على أن المراد بطعامهم ذبائحهم . انتهى .
الثاني : استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم . وهو قول الجمهور .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وعن مالك وأحمدَ ، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم . قال ابن القاسم : لأن الذي أباحه الله طعامهم . وليس الشحوم من طعامهم . ولا يقصدونها عند الذكاة . وتعقب بأن ابن عباس فسّر ( طعامهم ) بذبائحهم ، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح . والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض . وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة . وأيضاً فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر . فكان يلزم ، على قول هذا القائل ، إن اليهوديّ ، إذا ذَبَح ما له ظفر ، لا يحل للمسلم أكله . ثم قال ابن حجر : وقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } يستدل به على الحلّ ، لأنه لم يخص لحماً من شحم ، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر ، لأنها محرمة عليهم لا علينا . وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال ، أنّ الذي حرم عليهم منها مسكوتٌ في شرعنا عن تحريمه علينا . فيكون على أصل الإباحة . انتهى .
وفي " الصحيح " عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال : < كنا محاصرين قصر خيبر . فرمى إنسان بجراب فيه شحم . فنزوت لآخذه . فالتفتّ فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه > . وفي رواية : < أُدْلِيَ بجراب من شحم يوم خيبر . فحضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحداً . والتفتّ فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم > .
قال الحافظ ابن حجر : فيه حجة على من منع ما حرّم عليهم كالشحوم . لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ ابن مُغَفَّل على الانتفاع بالجراب المذكور . وفيه جواز أكل الشحم ، مما ذبحه أهل الكتاب ، ولو كانوا أهل حرب . انتهى . وقال الحافظ ابن كثير : استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث . وفي ذلك نظر . لأنه قضية عين . ويحتمل أن يكون شحماً يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما . والله أعلم .
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في " الصحيح " أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصليةٌ . وقد سموّا ذراعها -وكان يعجبه الذراع -فتناوله فنهش منه نَهشةً . فأخبره الذراع أنه مسموم ، فَلفَظَهُ وأثّر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره . وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور ، فمات . فقتل اليهودية التي سمّتها ، وكان اسمها زينب . ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا ؟ وفي الحديث الآخر : < إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ على خبز شعير وأهالة سنخة . يعني ودكاً زنخاً > .
الثالث : تمسك ابن العربيّ -من أئمة المالكية -بهذه الآية على حلّ ما يقتله الفرنج ، وإن رأينا ذلك ، لأنه من طعامهم . نقله عنه الشيخ خليل في " توضيحه " واستبعده . وقال الإمام ابن زكري : صنف ابن العربيّ في إباحة مذكّى النصراني بغير وجه ذكاتنا . والمحققون على تحريمه . وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليميّ السوسيّ المالكي في " فتاويه " ، وقد سئل عن ذبيحة الكتابيّ : هل تحل المذكيّ كيف كانت . سواء وافقت ذكاتنا أم لا ؟ بقوله مجيباً : قال الإمام ابن العربي : إذا سلّ النصراني عنق دجاجة حلّ للمسلم أكلها . لأن الله تعالى أحلّ لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم . وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم ، حل لنا أكله . ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا . وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا . ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرّم الله تعالى على الخصوص . فإنه ، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه ، فلا يحل لنا أكله . انتهى .
الرابع : قال الرازي : نُقل عن بعض أئمة الزيدية ؛ أن المراد بـ ( الطعام ) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه الذكاة . انتهى .
وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه : اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء : ما أريد بـ ( الطعام ) ؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله ، ورواية عن زيد : أن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز . لقوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } وهذا خطاب للمسلمين ، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية . واختاره الأمير ح والأمير يحيى : جواز ذبائح أهل الكتاب . ويفسرون ( الطعام ) بالذبائح وغيرها . وهذا مرويّ عن الحسن والزهري والشعبي وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين . وأخذوا بالعموم في إطلاق ( الطعام ) . فأجاب الأولون بأن ( الطعام ) يطلق على الحبوب يقال : سوق الطعام . قال القاضي : الأقرب الحِلّ . لأن ذلك بفعلهم يصير طعاماً . ولأنه خص أهل الكتاب أجيب : بأنه خصّهم لئلا يظن أنَّ طعامهم الذي لم يذكّوه محرم . ثم عند الهادي والقاسم ، عليهما السلام ، تنجس رطوباتهم . لقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] . فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم ، إلا ما أخذناه قهراً . وعند المؤيد بالله ومن معه : إن رطوبتهم طاهرة . والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار . انتهى .
وفي " الروضة الندية " ما نصه : وأما ذبيحة أهل الذمة ، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية . ومن قال : إن اللحم لا يتناوله ( الطعام ) فقد قصر في البحث ، ولم ينظر في كتب اللغة ، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب . كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمّاً ، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها . ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلي بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع . فإن قلت : قد يذبحونه لغير الله ، أو بغير تسمية ، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح . قلت : إن صح شيءٌ من هذا ، فالكلام في ذبيحته ، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه . وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعاً ، لا كونه أخذ بشرط معتبر . انتهى . الخامس : أريد بـ : { أَهْلِ الْكِتَابِ } اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -وهم متنصّرو العرب من بني تغلب -فلا تحلّ ذبيحته . روي عن عليّ بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب . فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر . وبه قال ابن مسعود . وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ؟ فقال لا بأس به . ثم قرأ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم } [ المائدة : 51 ] . هذا قول الحسن وعطاء والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد -كذا في " اللباب " .
قال ابن كثير : وأما المجوس فإنهم -وإن أخذت منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب -فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم . خلافاً لأبي ثور ، إبراهيم بن خالد الكلبي ( أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي, وأحمد بن حنبل ) ولما قال ذلك ، واشتهر عنه ، أنكر عليه الفقهاء ذلك . حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه -يعني في هذه المسألة -وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب .
ولكن لم يثبت بهذا اللفظ . وإنما الذي في " صحيح " البخاري عن عبد الله الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر . ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } فدلّ بمفهوم المخالفة ، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل . . . !
السادس : قيل : هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى . وعن ابن عمر : لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى ، لا يحل ذلك . وهو قول ربيعة . وسئل الشعبي وعطاء ، عن النصراني يذبح باسم المسيح ؟ فقال : يحلّ . فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون . وقال الحسن : إذا ذبح اليهوديَّ أو النصراني وذكر اسم الله ، وأنت تسمع ، فلا تأكل . وإذا غاب عنك فكُلْ . فقد أحله الله لك . كذا في " اللباب " . وقول الحسن -في هذا البحث -هو الحسن .
وفي " النهاية " من كتب الزيدية : أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم . فكرهه مالك ، وأباحه أشهب ، وحرمه الشافعي . وذلك لتعارض عموم قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } وعموم قوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [ البقرة : 173 ] ، فتخصيص كل واحد للآخر محتمل . ثم قال : والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ . وأجازها إسحاق ، وكرهها الثوري . وسبت الخلاف : هل المرتد يتناول اسم ( الكتاب ) أم لا ؟ قال : وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب ، هل اسم ( الكتاب ) يتناول المتنصرّ والمتهوّد من العرب ، كما روي عن ابن عباس ؟ أوْ لا يتناول ، كما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام . انتهى .
وقوله تعالى : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } يعني : ذبائحكم حلال لهم . فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين . كذا في " التفسير " المنسوب لابن عباس .
ونقل بعض مفسّري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء ، وبقية التابعين السالف ذكرهم ، وأكثر المفسرين والفقهاء ، أن المراد ذبائح المسلمين .
وقال الزجاج : تأويله : حلّ لكم أن تطعموهم . لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة .
وقال ابن كثير : أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم . وليس إخباراً عن الحكم عندهم . اللهم ! إلاَّ يكون خبراً عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه . سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها . والأول أظهر في المعنى . أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم . وهذا من باب المكافأة والمجازاة . كما ألبس النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أُبَيِّ ، ابن سلول حين مات ودفنه فيه . قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه . فجازاه النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذلك بذلك . فأمّا الحديث الذي فيه < لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاَّ تقيّ > فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم . انتهى .
وقال الرازيّ : أي : ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم . لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا . وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين ، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين . انتهى .
وقال البرهان البقاعيّ في " تفسيره " : وقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } أي : تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم ، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية . ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم . زاده تأكيداً بقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } أي : فلا عليكم في بذله لهم ، ولا عليهم في تناوله . انتهى .
وفي " أمالي " الإمام السهيلي رحمه الله تعالى : قيل : ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا ؟ فعنه جوابان : أحدهما أن المعنى : انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم ، فإن أَطْعَمُوكُمُوهُ فكلوه ، ولا تنظروا إلى ما كان محرماً عليهم ، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم . ثم نسخ ذلك في شرعنا . والآية بيان لنا لا لهم ، أي : اعلموا أن ما كان محرماً عليهم ، مما هو حلال لكم قد أباح الله لكم طعامنا -كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا ، لا غيره . فالمعنى -طعامهم حل لكم ، إذا كان الطعامَ الذي أحللته لكم . وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره .
الثاني : للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين ، أن المعنى : جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم . لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم . لأن دينهم باطل . إلا أنه لم يقل : وإطعامكم ، بل ( طعامكم ) -والطعام المأكول -وأما الفعل فهو الإطعام . فإن زعموا أن ( الطعام ) يقوم مقام ( الإطعام ) توسعاً ، قلنا : بقي اعتراض أخر . وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ . وهو ممتنع بالإجماع . لا يجيزون ( إطعام زيد حسنٌ للمساكين ) ولا ( ضربك شديدٌ زيداً ) فكيف جاز ( وطعامكم حلّ لهم ) ؟ انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشيعة . لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } كما علق الحكم بالمؤمنين . وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ } [ الممتحنة : 10 ] ، فإنّ لقائل أن يقول : في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم . ولا يستطيع ذلك في آية ( المائدة ) هذه . لأن الحكم فيها مثبت ، والله أعلم .
ثم قال : ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك ، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة -أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين ، أي : لا جناح عليكم -أيها المسلمون ! -أن تطعموا أهل الكتاب . انتهى .
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } عطف على ( الطيبات ) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه . أي : حلٌّ لكم . والمراد بـ ( المحصنات ) العفيفات عن الزنى . كما قال تعالى في الآية الأخرى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] . وهو المروي عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد . وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال : المحصنات الحرائر . فقيل : عني بهن غير الإماء . وقيل : أراد بهن العفيفات ، كقول الجمهور . وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد ، وعلى خيار كل شيء ، كما في " القاموس " .
قال الزمخشري : وتخصيصهن بعثٌ على تخير المؤمنين لنطفهم . والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق . وكذلك نكاح غير العفائف منهن . انتهى .
أقول : جواز نكاح الأمَة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة ، لآية : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } [ النساء : 25 ] الخ . وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون . وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زانٍ وغيره ، حتى تتوب وتنقضي عدتها . لقوله تعالى : { وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] . ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات ، والطبراني في " الكبير " و " الأوسط " من حديث عبد الله بن عَمْرو : أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه . فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم : { وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } . وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنّه ، من حديث ابن عمر : أن مرثد الغَنَوِي كان يحمل الأسارى بمكة . وكان بمكة بغي يقال لها عناق . وكانت صديقته . قال : فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! أنكح عناقاً ؟ قال ، فسكت عني . فنزلت الآية : { وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } [ النور : 3 ] . فدعاني فقرأها عليّ وقال : لا تنكحها . وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات, من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله > . قال ابن القيّم : أخذ بهذه الفتاوى -التي لا معارض لها -الإمام أحمد ومن وافقه -وهي من محاسن مذهبه -فإنه يجوز أن ينكح الرجل زوجاً تحبه . ويعضد مذهبَه بضعة وعشرون دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر .
وأخرج ابن ماجة والترمذي وصحة, من حديث عَمْرو بن الأحوص, أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال : < استوصوا في النساء خيراً . فإنما هنّ عندكم عوان . ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك . إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينّةٍ . فإن فعلن , فاهجروهنَّ في المضاجع , واضربوهنّ ضرباً غير مبرّح , فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً > . وأخرج أبو داود والنسائيّ , من حديث ابن عباس قال : < جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي لا تمنع يد لامس, قال : غرّبها, قال : أخاف أن تتبعها نفسي . قال : فاستمتع بها > . قال المنذري : ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين .
قال ابن القيّم : عورض بهذا الحديث المتشابه , الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا . واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه, فقالت طائفة : المراد بـ ( اللامس ) ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة . وقالت طائفة : بل هذا في الدوام غير مؤثر . وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام , وقالت طائفة : بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما . فإنه لما أُمِرَ بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراماً, فأمره حينئذ بإمساكها . إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فساداً من مواقعتها بالسفاح . وقالت طائفة : بل الحديث ضعيف لا يثبت . وقالت طائفة : ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية . وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك, فهي تعطي الليان لذلك . ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى . ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة . فأَمَرَهُ بفراقها, تركاً لما يريبه إلى ما لا يريبه . فلما أخبره بأن نفسه تتبعها, وأنه لا صبر له عنها, رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك . والله تعالى أعلم . وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور .
فائدة :
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها, أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر . رواه ابن جرير عنهم .
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : هنّ أيضاً حلّ لكم . والجمهور : على أن المراد بـ ( المحصنات ) العفائف عن الزنى, كما قدمنا .
قال ابن كثير : وهو الأشبه . لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة, فيفسد حالها بالكلية, ويتحصل زوجها على ما قيل, حشفاً وسوء كلية .
وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف -ممن فسّر ( المحصنات ) بالعفيفات ؛ أن الآية تعم كل كتابية عفيفة . سواء كانت حرة أو أمة . ومن فسرها بـ ( الحرائر ) قال : لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحالٍ, إِذْ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق, على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولدّ المسلم .
تنبيهات
الأول : ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية . وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين .
ورواية عن زيد والصادق والباقر, واختاره الإمام يحيى وقال : إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة, وأنَّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه, وهي نصرانية . وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية . كذا نقله المفسرون . وروى البيهقي وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنّه قال : المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة . وروى عبد الرزاق أيضاً عن سعيد بن المسيب, أن عُمَر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة, ونكح امرأة من أهل الكتاب, فكتب : أن فارِقْها فإنك بأرض المجوس, فإني أخشى أن يقول الجاهل : قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة ! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس . . . ففارقها .
وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة : أن حذيفة نكح يهودية . فقال عمر : طلِّقها فإنها جمرة . فقال : أحرام هي ؟ قال : لا ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن ...
وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال : كتب عُمَر بن الخطاب : إن المسلم ينكح النصرانية ، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة . وروي أيضاً عن جابر قال : نساء أهل الكتاب لنا حلّ ، ونساؤنا عليهم حرام . وروي أيضاً عن معمر عن الزهري قال : نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب . وروي عن ابن عمر كراهية ذلك . ويحتج بقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] وكان يقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها : إن ربها عيسى . وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية, إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات, وإلاّ, فلا معارضة بين الآيتين . لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع . كقوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] . وكقوله : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُم } [ آل عِمْرَان : 20 ] .
الثاني : استدل بعموم الآية من جوز نكاح الحربيات الكتابيات . وروي عن ابن عباس : أن الأذن في الذميات خاصة ، ويقرأ : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ } -إلى قوله - : { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ } . قال : فمن أعطى ، حل . ومن لا ، فلا . وهذا الاستدلال دقيق جداً . فليأمل ! .
الثالث : قال المهايمي : لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطيب -كما قدمنا - اعتبر في باب النكاح ، فأحلّ المحصنات منهم ، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار . وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة ، ولا شبهة لهم في أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن حجة ، ضعفت دعوتهم إليها ، فلم يعتد بها . على أن الرجل مستولٍ على المرأة . فلا تؤثر فيه تأثير الرجل ، فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابيّ . على أن فيه إذلالاً للمسلمة فلا تحتمل .
الرابع : ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من ( المحصنات ) المؤمنات منهن . ذهاباً إلى تحريم نكاح الكافرة . قال بعض مفسري الزيدية ، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم : وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية -وهو مروي عن ابن عمر : إنه لا يجوز لمسلمٍ نكاح كافرة ٍ ، كتابية كانت أو غيرها . واحتجوا بقوله في سورة البقرة : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] . قالوا -يعني الأكثرين - : هذا في المشركات لا في الكتابيات ، قلنا : اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ } . إلى قوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون } [ التوبة : 31 ] . وعن ابن عمر : لا أعلم شركاً أعظم من قول النصرانية : إن ربها عيسى . وعن عطاء : قد كثر الله المسلمات . وإنما رخص لهم يومئذٍ . قالوا : إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غَيْرَيْنِ ، حيث قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } [ البينة : 1 ] . قلنا هذا كقوله تعالى : { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [ البقرة : 180 ] . قالوا : الآية مصرحة بالجواز في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } قلنا : في سورة النور : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] . وقوله في سورة النساء : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء : 25 ] . فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم . فتتأوّل هذه الآية : أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن ، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك ، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه . وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى . قال الله : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ] . وقوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم } [ البقرة : 146 ] . وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [ آل عِمْرَان : 199 ] . قالوا : سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز . وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول : قوله : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } [ البقرة : 221 ] . عام نخصّه بقوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ؛ أو نقول : أراد بـ : { الْمُشْرِكَاتِ } الوثنيات وبـ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } , ما أفاده الظاهر . أو يقول قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ } ناسخاً لتحريم الكتابيات يقوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } . قلنا : نقابل ما ذكرتم بما روي, أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : < إنها لا تحصن ماءك > ؛ وروي أنه نهاه عن ذلك . وبأنا نتأوّل قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } فنجمع ونقول : تخصيص المشركات بـ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } متراخٍ, والبيان لا يجوز أن يتراخى ! قالوا : روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < أحلَّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا > . قال في " الشفا " : قال علماؤنا : هذا حديث ضعيف النقل . قالوا : قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس : < سنوا بهم سنة أهل الكتاب > الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم . قلنا الجواز منسوخ بأدلة التحريم . ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول : كافرة فأشبهت الحربية ، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة . أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس . قالوا : لا حكم للاعتبار مع الأدلة . انتهى بحروفه وهو فقه غريب .
وقوله تعالى : { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : أعطيتموهنّ مهورهن . وتقييد الحلّ بإيتائها ، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى ، مبادرة لفراغ الذمة . فإن شغل الذمة بحق الآدمي أشدّ من شغلها بحق الله تعالى : { مُحْصِنِينَ } متعففين : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي : غير مجاهرين بالزنى : { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } مسرين به ، و ( الخدن ) الصديق ، يقع على الذكر والأنثى . وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار ، لتبادره من الخدن وهو الصديق . وقيل : الأول نهي عن الزنى ، والثاني نهي عن مخالطتهن . كذا في " العناية " .
قال ابن كثير : كما شرط الإحصان في النساء -وهي العفّة عن الزنى -كذلك شرطها في الرجال . وهو أن يكون الرجل أيضاً محصنا عفيفاً . ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وهم الزنات الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهن عمن جاءهم : { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي : ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلاّ معهنّ ، كما تقدم في سورة النساء ، سواء ، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف . وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى ، لهذه الآية وللحديث : < لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله > .
وروى ابن جرير : أن عُمَر بن الخطاب قال : لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشةً في الإسلام أن يتزوج محصنة . فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ! الشرك أعظم من ذلك . وقد يقبل منه إذا تاب .
وقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } يريد بـ ( الإيمان ) شرائع الإسلام . على أنه مصدر أريد به المؤمن به ، كـ ( درهمٌ ضَرْبُ الأمير ) . ( الكفر ) الإباء عنه وجحوده . والآية تذييل لقوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ... تعظيماً لشأن ما أحله الله وما حرّمه ، وتغليظاً على من خالف ذلك . كذلك في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 6 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة ، وكانت مشروطة بالطهارة ، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها .
قال بعض المفسرين : نزلت في عبد الرحمن وكان جريحاً : وقيل لما احتبس صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ليلاً -بسبب عقدٍ ضاع لعائشة ، وأصبحوا على غير ماء . انتهى .
والثاني رواه البخاري -كما في " أسباب النزول " للسيوطي -وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في ( آية التيمم ) ثمة . فانظره .
ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية .
الأولى : وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي : إرادته . فقوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } . كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه } [ النحل : 98 ] . وكقولك : إذا ضربت غلامك فهوّن عليه : في أن المراد إرادة الفعل . قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل ؟ قلت : لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له ، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه . فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطيران والإبصار . ومنه قوله تعالى : { نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني إنا كنا قادرين على الإعادة - كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة . فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما . ولإيجاز الكلام ونحوه ، من إقامة المسبب مقام السبب ، قولهم : كما تدين تدان . عَبّر عن الفعل المبتدأ -الذي هو سبب الجزاء -بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه .
الثانية : ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائمٍ إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً . نظراً إلى عموم : { الَّذِينَ آمَنُوا } من غير اختصاص بالمحدثين . والجمهور على خلافه لما روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال : < كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة . فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال : له عمر : يا رسول الله ! إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله . قال : إني عمداً فعلته يا عمر > . وروى البخاري عن سويد بن النعمان قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عام خيبر . حتى إذا كنا بالصهباء صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر . فلما صلى دعا بالأطعمة . فلم يؤت إلاّ بالسويق . فأكلنا وشربنا . ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب . فمضمض ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ . وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عُمَر ، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله ، لكل صلاة ، طاهراً أو غير طاهر ، عمن هو ؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب ؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمِر بالوضوء لكل صلاة ، طاهراً أو غير طاهر . فلما شقّ ذلك عليه أُمِر يالسواك عند كل صلاة ، ووضع عنه الوضوء إلاّ من حدث . فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك . كان يفعله حتى مات . قال ابن كثير : وفي فعل ابن عمر هذا ، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة ، دلالة على استحباب ذلك . كما هو مذهب الجمهور . وقد روى ابن جرير عن ابن سيرين ، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة . وعن عِكْرِمَة : أن علياً -رضي الله عنه -كان يتوضأ عند كل صلاة , ويقرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية, وعن النزال بن سَبْرة قال : رأيت علياً صلى الظهر . ثم قعد للناس في الرحبة . ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه . ثم مسح برأسه ورجليه وقال : هذا وضوء من لم يحدث ، وفي رواية : أنه توضأ وضوءاً فيه تجوّز فقال : هذا وضوء من لم يحدث ؛ وكذا حكى أنس عن عمر أنه فعله ، والطرق كلّها جيدة . وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء -فهو غريب عنه . ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه ، وأما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنة على ذلك . روى الإمام أحمد عن أنس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة . قيل له : فأنتم كيف تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث ! ورواه البخاري وأهل السنن أيضاً .
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن ابن عمر مرفوعاً : من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات . وضعفه الترمذي .
وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلاّ على المحدث ، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية ، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين .
وفي " العناية " : الإجماع صرفها عن ظاهرها . فأما أن تكون مقيدة -أي وأنتم محدثون -بقرينة دلالة الحال ، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم -فلو لم يكن له مدخل في الوضوء ، مع المدخلية في التيمم ، لم يكن البدل بدلاً . وقوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } صريح في البدلية . وقيل : في الكلام شرط مقدر . أي : إذا قُمْتم إلى الصَّلاَةِ . إن كنتم محدثين . وإن كنتم جنباً فاطهروا . وهو قريب جدّاً . انتهى .
وزعم بعضهم ؛ أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ . واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم . ونظر فيه بحديث : ( المائدة من آخر القرآن نزولاً ) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال : لم أجده مرفوعاً . هذا ، وقال الزمخشري : لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملاً للمحدثين وغيرهم -لهؤلاء على وجه الإيجاب ، ولهؤلاء على وجه الندب -لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية . وفي " الإنصاف " : من جوز أن يراد بالمشترك كلّ واحدٍ من معانيه على الجمع ، أجاز ذلك في الآية . ومن المجوزين لذلك الشافعي -رحمه الله تعالى -وناهيك بإمام الفن وقدوته . وإذا وقع البناء على انتهى صيغة ( أفعل ) مشتركة بين الوجوب والندب ، صح تناولها في الآية الفريقين المحدثين والمتطهرين . وتناولها للمتطهرين من حيث الندب ، والله أعلم .
الثالثة : قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : تمسك بهذه الآية مَنْ قال : إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة, فأمّا ما قبل ذلك, فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة, كما فرضت الصلاة . وأنه لم يصلّ قط إلا بوضوء قال : وهذا مما لا يجله عالم .
وقال الحاكم في " المستدرك " : وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة . ثم ساق حديث ابن عباس : دخلت فاطمة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي تبكي , فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك ! فقال : ائتوني بوضوء فتوضَأ... الحديث .
قال ابن حجر : وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة, لا على من أنكر وجوبه حينئذٍ . وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة, لا مندوباً, وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلاّ بالمدينة, وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في " المغازي " التي يرويها عن أبي الأسود -يتيم عروة -عنه ؛ أن جبريل علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي . وهو مرسل ؛ ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً . لكن قال : عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه, وأخرجه ابن ماجة من رواية رِشْدين بن سعد, عن عقيل, عن الزهري, نحوه . لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند, وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق الليث عن عقيل موصولاً, ولو ثبت لكان على شرط الصحيح, لكن المعروف رواية ابن لهيعة . انتهى .
أي : وابن لهيعة يضعف في الحديث . الرابعة : قيل : في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة . وأيد بما رواه أو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا : ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال : إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة . قال الترمذي : حديث حسن .
وروى مسلم عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم . فأتى الخلاء . ثم إنه رجع فأتي بطعام ، فقيل : يا رسول الله ! ألا تتوضأ ؟ فقال : لم أصلّ فأتوضأ .
وأما اشترط الوضوء لطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف - عنه من أوجبه -فمن أدلةٍ أخر مقررة في فقه الحديث .
الخامسة : ( وجوب غسل الوجه ) والغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه ، هذا هو المحكي عن أكثر الأئمة . زاد بعضهم : مع الدلك . وعن النفس الزكية : أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يَجِْر . وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولاً . ومن الأذن إلى الأذن عرضاً . وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب ، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله ، ومحلها كتب الخلاف .
السادسة : ( وجوب غسل اليدين ) : وهذا مجمع عليه ؛ وأما المرفقان ، تثنية مرفق ( كمنْبَر ومَجْلِس ) موصل الذراع في العضد ، فالجمهور على دخولهما في المغسول ؛ وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما . وسبب الخلاف أن المغيّا بـ ( إلى ) تارةً يتضح دخوله في الغاية ، وطوراً لا ، وآونة يحتمل .
قال الزمخشري : ( إلى ) تفيد معن الغاية مطلقاً ، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] ، لأن الإعسار علة الإنظار ، وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في كلتا الحالتين ، معسراً وموسراً ، وكذلك : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [ البقرة : 187 ] . لو دخل الليل لوجوب الوصال ؛ ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظت القرآن من أوله إلى آخره ، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله تعالى : { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] . لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله ؛ وقوله : { إِلَى الْمَرَافِقِ } و : { إِلَى الْكَعْبَينِ } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط . فحكموا بدخولها في الغسل ، وأخذ زفر وداود بالمتيقن ، فلم يدخلاها . انتهى .
قال الرضي : الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود . فإذا قلت : اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع ، فالموضعان لا يدخلان ظاهراً في الشراء . وجوز دخولهما فيه مع القرينة ؛ وقال بعضهم : ما بعد ( إلى ) ظاهر الدخول فيما قبلها . فلا تستعمل في غيره إلا مجازاً . وقيل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو : أكلت السمكة إلى رأسها ، فالظاهر الدخول وإلاّ فلا ، نحو : أتموا الصيام إلى الليل . والمذهب هو الأول . ثم قيل : بأنها في الآية بمعنى ( مع ) كقوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم } [ النساء : 2 ] . قال : الرضي : والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء . أي : تضيفوها إلى أموالكم ، ومضافة إلى المرافق . انتهى .
قال صاحب " النهاية " : وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح ، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين ، لأن في حديث مسلم مما رواه أبو هريرة : أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد . ثم اليسرى ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق . ثم اليسرى كذلك . واحتج أهل المذاهب بحديث جابر : أنه صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه . قالوا : ودلالة الآية مجملة . وهذا بيان للمجمل . وبيان المجمل الواجب يكون واجباً . انتهى .
وقال المجد ابن تيمية في " المنتقى " : يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله ، وهو مجمل فيه ، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الكتاب ، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال ، ليجب بذلك . انتهى .
وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي . وفي إسناده متروك . وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ . وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب . وقولهم ( هو بيان للمجمل ) فيه نظر . لأن ( إلى ) حقيقة في انتهاء الغاية -كما قدمنا -فلا إجمال . والله أعلم .
السابعة : قال الرازي : يقتضي قوله تعالى : { إِلَى الْمَرَافِقِ } تحديد الأمر ، لا تحديد المأمور به . يعني أن قوله : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } أمر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحدّ فبقي الواجب هو هذا القدر فقط, أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحدّ, لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة . انتهى .
الثامنة : أشعر أيضاً قوله تعالى : { إِلَى الْمَرَافِقِ } أن ينتهي في غسل اليدين بها, ويبتدأ بالأصابع . قال الحاكم : وقد وردت السنة بذلك, وهو الذي عليه الفقهاء, ولدلالة لفظ ( إلى ) لأنها للغاية, وغاية الشيء آخره . وقالت الإمامية : السنة أن يبتدئ بالمرفق . وقالوا : إن ( إلى ) هنا بمعنى ( من ) قال الحاكم : هذا تقدير فاسد .
التاسعة : ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة, مَنْ خالفها فاته الفضل وتم وضوؤه . وذهب العترة والإمامية -كما في " البحر " للمهدي - إلى وجوبه . واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك, فمتى غسلهما مرتباً أو غير مرتب -قدم اليمنى أو اليسرى -فقد امتثل الأمر . وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة, فقد روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم > ! وأجيب : بأن الأمر للندب لقوله : إذا لبستم وإذا توضأتم, فقرن بينه وبين اللبس . فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء, وهم لا يقولون به . أيضاً فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال : ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء . رواه الدارقطني . وروى نحوه البيهقي وابن أبي شيبة . وروى أبو عبيد في الطهور : أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه, فبلغ ذلك علياً فبدأ بمياسره . ورواه أحمد بن حنبل عن عليّ قال الحافظ ابن حجر : وفيه انقطاع . وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً . وكذلك الحديث وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس ، المجمع على عدم وجوبه ، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب . ودلالة الاقتران -وإن كانت ضعيفة -لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لاسيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله .
العاشرة : ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر . ففي " الأحكام " من كتبهم : إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضرراً ، لا يشرع المسح . قال : لأن الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها . والجمهور منهم ومن غيرهم : أنه يمسح ، لحديث جابر : إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه و يغسل سائر جسده . رواه أبو داود والدارقطني . وصححه ابن السكن .
الحادية عشرة : ( وجوب مسح الرأس ) :
والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل ، والباء في قوله تعالى : { بِرُؤُوسِكُمْ } تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق ، فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم قال الزمخشري : وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه . أي : فيكون الواجب مطلق المسح كلاً أو بعضاً -وأيّاً ما كان -وقع به الامتثال . والسنة الصحيحة وردت بالبيان ، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة ، أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه هي الهيئة التي استمرّ عليهما صلى الله عليه وسلم . فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها . وهي : مسح الرأس مقبلاّ ومدبراً . وإجزاء غيرها في بعض الأحوال . ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس . كما في نظائره من الأفعال . نحو : ضربت رأس زيد ، وبرأسه . وضربت زيداً وضربت يد زيد . فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك ، بوجود الضرب على جزءٍ من الأجزاء المذكورة . وهكذا ما في الآية . وليس النزاع في مسمى الرأس لغة ، حتى يقال : إنه حقيقة في جميعه . بل النزاع في إيقاع المسح عليه . وعلى فرض الإجمال ، فقد بينه الشارع تارةً بمسح الجميع ، وتارةً بمسح البعض ، بخلاف الوجه . فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال ، بل غسله جميعاً . وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية . فإن قلت : إن المسح ليس كالضرب الذي مثلث به . قلت : لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال ( مسحت الثوب أو بالثوب . أو مسحت الحائط أو بالحائط ) على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط . وإنكار مثل هذا مكابرة . كذا في " الروضة " .
قال شمس الدين بن القيّم في " الهدى " : ولم يصحّ عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد ، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة . ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة - فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة -فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْقُضْ عمامته حتى يستوعب مسحُ الرأس الشعرَ كله . ولم ينف التكميل على العمامة . وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره . فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه . انتهى .
قال الشوكاني : ليس النزاع إلا في الوجوب . وأحاديث التعميم ، وإن كانت أصح ، وفيها زيادة وهي مقبولة -لكن أين دليل الوجوب ؟ وليس إلاّ مجرد الفعل . وهو لا يدل على الوجوب . ثم قال : وبعد هذا ، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه . ولكن دون الجزم بالوجوب ، مفاوز وعقاب .
فصل
وأما قوله تعالى : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } . فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب . وبالجرّ الباقون ، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين . فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل . ومن ذاهب إلى أنها المسح . ومن مخيّر بينهما . ولكلٍّ من هذه المذاهب حججٌ وتأويلاتٌ وأجوبةٌ ومناقشاتٌ تسوق شذرةً منها . فنقول : قال الأولون : قراءة النصب ظاهرهما يفيد الغسل . وقراءة الجرّ ظاهرهما يفيد المسح . إلا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجرّ في الظاهر . والمرجح للغسل أمور .
منها ما في " الصحيحين " و " السنن " عن عثمان وعليّ وابن عباس ومعاوية عبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرةً وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم . وفي حديث عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به .
و في " الصحيحين " عن عبد الله بن عَمْرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره . فأدركَنا وقد أهنا العصر . فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا . قال ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار . مرتين أو ثلاثاً . وكذلك هو في " الصحيحين " عن أبي هريرة . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أسبغوا الوضوء . ويل للأعقاب من النار > ، وروى البيهقي والحاكم ، بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار > وروى الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في رِجْلِِ رَجُلٍ مثلَ الدرهم لم يغسله ، فقال : < ويلٌ للأعقاب من النار > . قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة . وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنَّه يجوز ذلك ، لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرِّجل . بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف . وروى الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيّ : < أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدر الدرهم ، لم يصبها الماء . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء > . زاد أبو داود : والصلاة . وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : حدثنا عَمْرو بن عَبسَة قال : < قلت : يا رسول الله ! أخبرني عن الوضوء ، قال : ما منكم من أحدٍ يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر ، إلاّ خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلاّ خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء . ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلاّ خرت خطايا يديه من أطراف أنامله . ثم يمسح رأسه إلاّ خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء . ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلاّ خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء . ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه > .
قال أبو أمامة : يا عَمْرو ! انظر ما تقول . سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أَيُعْطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ قال عَمْرو بن عَبَسة : يا أبا أمامة ! لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي . وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مرة أو مرتين أو ثلاثاً . لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك . . قال ابن كثير : وإسناده صحيح وهو في " صحيح مسلم " من وجه آخر ، وفيه : ثم يغسل قدميه كما أمره الله . فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل . وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم . ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبدُ خَير عن عليّ ، < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما . إنما أراد غسلاً خفيفاً وهما في النعلين > . ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها . ويكون في هذا ردّ على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين . وهكذا ما رواه ابن جرير عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قومٍ فبال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه . وهو حديث صحيح . وقد أجاب ابن جرير عنه : بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة : فبال قائماً ثم توضأ ومسح على خفيه . قال ابن كثير : ويحتمل الجمع بينهما . بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان .
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أوس بن أبي أوس قال : < رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة > . ورواه أبو داود عنه بلفظ : < رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه > . ثم قال الجمهور : إن قراءة الجرّ محمولة على الجوّ الجواريّ . ونظيره كثير في القرآن والشعر . كقوله تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ هود : 26 ] و : { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائي عطفاً على : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } [ الواقعة : 18 ] والمعنى مختلف . إذ ليس المعنى : يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين . وكقولهم : جحرٍ ضبٍ خربٍ ، وللنحاة باب في ذلك . حتى تعدوا ، من اعتباره في الإعراب ، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك . وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا . فانظره . وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجواز ( زعماً بأنه خاص بالنعت والتأكيد ) مردود بأنه ورد في العطف كثيراً في كلام العرب . قال الشاعر :
~لم يبق إلاّ أسير غير منفلتٍ وموثقٍ في عقال الأسر مكبول
فخفض ( موثقاً ) بالمجاورة للمنفلت - وحقه الرفع عطفاً على ( أسير ) . وقال :
~فهل أنت - إن ماتت أتانك - راحلٌ إلى آل بسطام بن قيس فخاطبِ
فجرّ ( فخاطب ) للمجاورة . وحقه الرفع عطفاً على ( راحل ) . وكفى في الردّ قراءة ( وحورٍ ) بالجرّ كما قدّمنا . قالوا : وشرط حسن الجرّ الجواريّ عدم الإلباس مع تضمن نكتة . وهنا كذلك . فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح . إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة . والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح . قال الناصر في " الانتصاف " : والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان ، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو . فيسهل عطف الغسول على المسوح من ثَمَّ - كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً . وعلفتها تبناً وماء بارداً - ونظائره كثيرة . وبهذا وجّه الحذاق . ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلاً أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة - بما ذكره الزمخشري - أي : من أنّ الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه ، فعطف على الرابع المسوح ، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صبّ الماء عليها . ثم قال الناصر : وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلاً : واغسلوا أرجلكم غسلاً خفيفاً لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح . ونبه بهذا التشريك ، الذي لا يكون إلاّ في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدّاً ، على أن الغسل المطلوب في الأرجل ، غسل خفيف يقارب المسح . وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة . انتهى .
وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخْذاً بالجمع بين القراءتين . ومراد من ذهب إلى وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما . فحكاه من حكاه كذلك . ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء ، وهو معذور . فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه . وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضاً على المسح وهو الدلك ، ونصباً على الغسل ، فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه . انتهى .
و أما من قال : الواجب هو المسح ، فتمسك بقراءة الجر ، وهو مذهب الإمامية . وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضاً . وقد وقفت على كتاب " شرح المقنعة " من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث ، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل ، الذي هو المسح عليه . قال : وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موقع الرؤوس لا لفظها فينصب ، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب . ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد : فإن قيل : ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل ، فلا تحتمل المسح . لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز . والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع ، قلنا : ليس الأمر على ما توهمتم ، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب ، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن الحقيقة . فالمتكلم مخير بين حمل الأعراب على اللفظ تارةً ، وبين حيله على الموضع أخرى .
قال : وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها ، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة . ثم قال : على أنّا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى ، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى , مع القراءة بالنصب ,لأن نصب الأرجل لا يكون إلاّ على أحد وجهين : إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل ,أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب ,ويكون حكمها المسح . وعطفها على موضع الرؤوس أولى . وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان , أحدهما قريب والآخر بعيد , فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد . وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع . انتهى . فتأمّل جدلهم .
قال الحافظ ابن كثير : وقد روي عن طائفة من السلف بالمسح : فروى ابن جرير عن حميد قال : قال موسى بن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ! إن الحجاج خطبنا بالأهواز ، ونحن معه . فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم . وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه .
فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج . قال الله تعالى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } .
قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما .
قال ابن كثير : إسناده صحيح إليه .
وروى ابن جرير أيضاً عن عاصم عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة بالغسل . وإسناده صحيح أيضاً .
وأسند أيضاً عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : الوضوء غسلان ومسحتان .
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } ، قال : هو المسح . ثم قال : وروى ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن ( في إحدى الروايات ) وجابر بن يزيد ومجاهد ( في إحدى الروايتين ) نحوه . وروى ابن جرير عن أيوب قال : رأيت عِكْرِمَة يمسح على رجليه . وعن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح . ألا ترى أنّ التيمم ، أن يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً ؟
وأمّا من ذهب إلى التخيير ، فقال : لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح ، دل على أنه مخير . قال في " الشفا " : القراءتان لا توجبان الجمع ، بل تثبتان التخيير .
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح . كما قال ابن عباس وغيره . وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم ، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم ، فإنه سنّ في كل فرضٍ سنناً تدعمه وتقويه . في الصلاة والزكاة والصوم والحج . وكذا في الطهارات كما لا يخفى ، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح ، تشريع المسح على الخفين والجوربين . ولا سند له إلا هذه الآية . فإن كل سنة أصلها في كتاب الله ، منطوقاً أو مفهوماً ، فاعرف ذلك واحتفظ به ، والله الهادي .
فصل
فيما قاله الصوفية -قدس الله سرهم -من أسرار طهارة هذه الأعضاء :
فأما الوجه ، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها ، فلا بدّ من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها ، ولسبق الإحساس على العمل ، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي : غير السمع . ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال ، التي منها تلك الآثار -وهي الأيدي إلى المرافق - لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالباً إلاّ بتحريك المرافق ، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة ، فأشبه جامع الحواس الظاهرة ، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرهما . ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر ، ولا بد منه في الزينة ، لاسيّما للمرأة ، فخفف بالمسح . ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل ، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن ، اقتصر على أدنى الغايات ، أعني : الكعبين ، لئلا تبطل فائدة تخصيص الأعضاء ، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب ، والسرّ فيه ما أشرنا إليه . كذا في تفسير " المهايميّ " .
وذكر الشعراني -قُدِّس سره -في سرّ ذلك ، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه ، والشرع قد تبع العرف في ذلك ، وإلاّ فكل جزء من بدن العبد -ظاهراً وباطناً -ظاهر للحق تعالى من العبد . أمر الله تعالى العبد بالتوبة فوراً . مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية . لأن الماء لا يصل إلى القلب . فافهم . ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق . وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات . ووجّه قول زفر وداود ، بأنهما لم يتمحضا للذراعين ، لأنهما مجموع شيئين : إبرة الذراع ورأس العظمين ، ثم وجّه مسح جميع الرأس ، بالأخذ بالاحتياط . فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها ، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة . فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة ، كما ورد ، إذ هي الحضرة الخاصة ، وكذلك القول في حضرة الصلاة . ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل ، وكونهما حاملَيْن للجسم كلّه . وممدين له بالقوة على المشي ، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه ، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل ، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار . فتعين فيهما الغسل دون المسح ، ثم ذكر سرَّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء ، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي ، أو الغفلات ، أو الشهوات ، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة ، مثلاً . وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشاً . ولا حياة تقف بها بين يدي ربها . فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته . هذا حكم غالب الأبدان ، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين ، فلا يحتاجون إلى تشديدٍ في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء . ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم . فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس . ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم .
وسمعت سيدي عليّاً الخوّاص ، رحمه الله تعالى ، يقول : نِعْمَ قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان . فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدّاً . وزيادة البطء في زمن الطهارة ، وفوات أول الوقت ، كأن يغسل وجه في الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح . ثم يغسل يديه ربع النهار . ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس . ثم يغسل رجليه قبيل العصر . مع وقوع ذلك المتوضئ مثلاً ، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة . وغير ذلك من المعاصي والمكروهات . أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات . فمثل هذا الوضوء ، وإن كان صحيحاً في ظاهر الشرع -من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل -فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها . ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء -وجوباً استحباباً -وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة . ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ ، الذي لم يوال ، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء . فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة . فلم يَصِرْ لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته .
وقد كمل أسرار السنن بما يبهج ، فلينظر في " ميزانه " رحمه الله تعالى .
وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف ، ما تضيق عنه الأسفار . وقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } أي : بخروج مني أو التقاء ختانين : { فَاطَّهَّرُواْ } أي : بالماء ، أي : اغتسلوا به . قال المهايمي : أي : بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذاً أغرقه في غير الله ، فأثر فيه بالحدَث : { وَإِن كُنتُم } جنباً : { مَّرْضَى } تخافون من استعمال الماء : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ } أي : رجع من مكان البزار : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } أي : اقصدوا : { صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } تذليلاً للعضوين الشريفين . وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء { مَا يُرِيدُ اللّهُ } أي : ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة . أو بالأمر بالتيمم : { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي : ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء : { وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ } أي : عن الذنوب ، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب . فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله : { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي : بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها ، ومكفر لذنوبكم ، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حالٍ ، حتى حال الحدث : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته ورخصته فيثيبكم .
وقد روى ابن جرير عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه > . ورواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 7 ] .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } بالهداية لهذا الدين القويم لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره : { وَمِيثَاقَهُ } أي : عهده الوثيق : { الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ } أي : أكد عليكم بقوله : { إِذْ قُلْتُمْ } أي : لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في نقض شيء من عهوده ولو بالقلب : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بخفيّاتها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 8 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ } أي : مقتضى إيمانكم الاستقامة ، فكونوا مبالغين في الاستقامة باذلين جهدكم فيها لله . وهي إنما تتم بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه فكونوا : { شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } أي : العدل . لا تتركوه لمحبة أحد ولا لعداوة أحد : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يحملنكم : { شَنَآنُ } أي : شدة عداوة : { قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } في حقهم . قال المهايمي : أي : فإنّا لا نأمركم به من حيث ما فيه من توفية حقوق الأعداء . بل من حيث ما فيه من توفية حقوق أنفسكم في الاستقامة : { اعْدِلُوا هُوَ } أي : العدل - : { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي : لحفظ الأنفس أن تتجاوز حدّ استقامتها : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : أن تطلبوا حقوقه أو حقوق عباده ولو بطريق توهمون فيه العدل : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمال فيجازيكم بذلك . وقد ثبت في " الصحيحين " عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نحلاً . فقالت أمي : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاءه ليشهده على صدقتي فقال : أكلَّ ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا . فقال اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ، وقال : إني لا : أشهد على جور . قال فرجع أبي فردّ تلك الصدقة .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط . يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به . وكذلك الفتوى . وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدوّ ولا صديق . ولا يجوز إتباع الهوى .
قال الزمخشري وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله ، إذا كان بهذه الصفة من القوة ، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه .
القول في تأويل قوله تعالى :

(/)


{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 9 ] .
{ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } التي من جملتها العدل والتقوى : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } يعني ثواباً وافراًَ في الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ 10 ]
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } التي منها ما تلى من الأمر بالعدل والتقوى .
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } أهل النار . ثم بيّن تعالى أن من مقتضى الإيمان ملازمة شكره على ذكر نعمه ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 11 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : في حفظه إيّاكم عن أعدائكم : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } أي : بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك : { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } أي : منعها أن تمدّ إليكم ، وردّ مضرتها عنكم .
قيل : الآية إشارة إلى ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر : < أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها . وعلّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة . فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسلَّه . ثم أقبل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعك مني ؟ قال : الله عزّ وجلّ . قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً : من يمنعك مني ؟ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : الله . قال فشام الأعرابي السيف . فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي . وهو جالس إلى جنبه ، ولم يعاقبه > .
وقال معمر : كان قتادة يذكر نحو هذا ، ويذكر أنّ قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسلوا هذا الأعرابي . وتأوّل هذه الآية .
وأخرج أبو نعيم في " دلائل النبوة " من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله ، < أن رجلاً من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه : أقتل لكم محمداً : فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره فقال : يا محمد ! أأنظر إلى سيفك هذا ؟ قال : نعم . فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى . فقال يا محمد ! أما تخافني ؟ قال : لا . قال : أما تخافني والسيف في يدي ؟ قال : لا يمنعني الله منك . ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله > . فأنزل الله الآية .
وقصة هذا الأعرابي ثابتة في " الصحيح " . وأخرج ابن جرير عن عِكْرِمَة ويزيد بن أبي زيادة واللفظ له أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير ، يستعينهم في عقلٍ أصابه . فقالوا : نعم . اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا ، فجلس . فقال حييّ بن أخطب لأصحابه : لا ترونه أقرب منه الآن . اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه . ولا ترون شرّاً أبداً ، فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه ، فأمسك الله عنها أيديهم . حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت . فأنزل الله الآية . وروى نحوه ابن أبي حاتم .
قال ابن كثير : ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم ، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم . انتهى .
وعلى هذه الروايات ، فالمراد من قوله تعالى : { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم ، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن .
وذكر الزمخشري ، ومن بعده ، من وجوه إشارات الآية ، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم ، لما هموّا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر ، بعد ما رأوهم يصلون الظهر . فندموا على أن لا أكبوا عليهم . فردّ كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف . انتهى .
ولفظ الآية محتمل لذلك ، بيد أني لم أره الآن مسنداً عن أئمة الأثر .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في رعاية حقوق نعمته ولا تخلّوا بشكرها { وَعَلَى اللَّهِ } خاصة دون غيره { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه .
قال أبو السعود : والجملة تذييل مقرر لما قبله . وإيثار صيغة أمر الغائب . وإسنادها إلى المؤمنين ، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهانيّ ، وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان ، داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى ، وازع عن الإخلال بهما .
بحث جليل في التوكل
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية -قدس الله سرّه -في بعض مصنّفاته : قد ظنَّ طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب ، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة . بل ما كان مقدراً بدون التوكل ، فهو مقدر مع التوكل . ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا . وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب . وقول هؤلاء يشبه قول من قال : إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة . بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار ، وآخرون يقولون : بل الدعاء علامة وأمارة . ويقولون ذلك في جميع العبادات ، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر ، ويقول : إن الله يفعل عندها ، لا بها . وهو قول طائفةٍ من متكلمي أهل الإثبات للقدر -كالأشعريّ وغيره ، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية . وأصل هذه البدعة من قول جهم . فإنه كان غالياً في نفي الصفات وفي الجبر ، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات ، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب . حتى أنكر تأثير قدرة العبد ، بل نفى كونه قادراً ، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة . وكان يخرج إلى الجذمي فيقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة . وقوله في القدر ، قد تقرب إليه الأشعري ومن وافقه من الطوائف . والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب . كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، مع دلالة الحسّ والعقل . والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر . والمقصود هنا الكلام على التوكل . فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله ، من جلب المنفعة ودفع المضرة ، ما لا يحصل لغيره . وكذلك الدعاء . والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة . ثم هو سبب عند الأكثرين ، وعلامة عند من ينفي الأسباب : قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . والحسب : الكافي . فبيّن أنه كاف مَنْ توكل عليه . وفي الدعاء : يا حسيب المتوكلين ! فلا يقال : هو حسْب غير المتوكل كما هو حسْب المتوكل ، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط ، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط كعدمه . ولأنه رتب الحكم على الوصف المناسب له . فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيباً له ، ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل ، كما رغب في التقوى . فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره ، لم يكن ذلك مرغِّباً في التوكل . كما جعل التقوى سبباً للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب . وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عِمْرَان : 173 ] فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل ، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة . والله خير من توكل العباد عليه ، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شرّ . وقال تعالى : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 8 - 9 ] . وقال : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً } [ الإسراء : 2 ] . فأمر أن يُتَّخَذ وكيلاً ونهى أن يتخذ من دونه وكيلاً ، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجاتٍ العبد ، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعلٍ يقدر عليه ، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه . فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلاَّ الله . وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته . فليس له أن يتوكل عليه ، وإن وكله . بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه ، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله ، يحصل وإن توكل على غيره ، ويحصل بلا توكّل ، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلاً أنفع من اتخاذ الخالق وكيلاً . وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد . لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] أي : الله كافيك وكافي مَن اتبعك من المؤمنين . فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول -سواء اتبعوه أو لم يتبعوه -لم يكن للإيمان وإتباع الرسول أثر في هذه الكفاية . ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى . وكان هذا نظير أن يقال : هو خالقك وخالق من اتبعك . ومعلوم أنّ المراد خلاف ذلك . وإذا كان الحسب معنى يختص بعضَ الناس ، علم أن قول المتوكل : ( حَسْبِيَ اللهُ ) وقوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أمر مختص لا مشترك . وأن التوكل سبب ذلك الاختصاص ، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعدٍ أو خصّ أهله بكرامة ، فلا بدّ أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة . وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر . فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال . لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين ، فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلاً ، وإن عدم التوكل . وقد قال تعالى : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [ آل عِمْرَان : 173 - 174 ] ، فعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل ، بحرف ( الفاء ) وهي تفيد السبب ، فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من الله وفضل . وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل . وفي الأثر : من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله . فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة ، لم يكن المتوكل أقوى من غيره . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ الأحزاب : 1 3 ] . وقال في أثناء السورة : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ الأحزاب : 48 ] . فأمره سبحانه بتقواه وإتباع ما يوحي إليه وأمره بالتوكل . كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع . كقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 48 ] . وقوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 8 - 9 ] . وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] . وقوله : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } [ الممتحنة : 4 ] . وقوله : { هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] . وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . وقوله في الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين : عبادة الله والتوكل عليه . وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل . فإنه من عبادة الله . كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [ البقرة 21 ] . وقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . وإذا قرن به التوكل كان مأموراً به بخصوصه . وهذا كلفظ الإسلام والإيمان . والإيمان والعمل ، ولفظ الصلاة مع العبادة ومع إتباع الكتاب . ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر . ونظائر ذلك متعددة ، يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعاً . وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأموراً به لخصومه . ثم قد يقال : إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه . وقد يقال : بل الأمر به خاص وعام ، كما في قوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة 98 ] . وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله ، ثم قال : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه . كما يقال في الخطب والدعاء : الحمد لله كافي من توكل عليه . وإذا كان " كَفَى بِهِ وكيلا ً " فهذا مختص به سبحانه ، ليس غيره من الموجودات كَفَى به وَكَيلاً ، فإن من يتخذ وكيلاً من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور ، وهو لا يفعلها إلاَّ بإعانة الله ، وهو عاجز عن أكثر المطالب ، فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه " كفى به وكيلاً " علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره ، من جلب المنافع ودفع المضار ، إذ لو بقي شيء لم يكن " كفى به وكيلاً " وهذا نقيض قول من ظنّ أنّ المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة ولا دفع مضرة ، بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم يتوكل عليه . والذين ظنوا ، أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئاً فلا بد أن يكون ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة - صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه ، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع . وهذا غلظ عظيم ضلّ فيه طوائف : طائفة قالت : لا حاجة إلى الأعمال المأمورة بها . بل من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن . ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن ولم يكفر . وهذه الشبهة سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ما منكم من أحد إلاّ وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا : أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : لا ! اعملوا ، فكل ميسّر لما خلق له . أما من كان من أهل السعادة فسييّسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسّر لعمل أهل الشقاء . وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في " الصحيح " في مواضع تبيّن أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه ، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيها يصير به سعيداً ، والشقاء سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيّاً . فالقدر تضمن الغاية وسببها . لم يتضمن غايةً بلا سبب . كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة ، وهذا تُنْبِت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع . وأمثال ذلك . وكذلك في " السنن " أنه قيل له : يا رسول الله ! أرأيت أدويةً نتداوى بها ، ورقيّ تسترقي بها ، وتقاةً نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال : < هي من قدر الله > . فبيّن أن الأسباب التي تُدفع بها المكاره هي من القدر , ليس القدر مجرّد دفع المكروه بلا سبب . وكذلك قول من قال : ( إن الدعاء لا يؤثر شيئاً والتوكل لا يؤثر شيئاً ) هو من هذا الجنس , لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر , بخلاف تأثير التوكل . لكن الأصل واحد . وهو النظر إلى المقدور مجرداً عن أسبابه ولوازمه . ومن هذا الباب : ( أن المقتول يموت بأجله ) عند عامة المسلمين . إلاّ فرقة من القدرية قالوا : إن القاتل قطع أجله . ثم تكلم الجمهور : لو لم يقتل ؟ قال بعضهم : كان يموت لأن الأجل قد فرغ ، وقال بعضهم : لا يموت لانتفاء السبب . وكلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة ، وكلاهما خطأ . فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره . فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور ، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب ، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره ، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب ، أمكن أن يكون القدر أنه لا يموت . فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه ، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها ، ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر . بخلاف ما ليس له إلاّ سبب واحد . مثل دخول النار ، فإنه لا يدخلها إلاّ من عصى . فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها . وقال تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عِمْرَان : 159 - 160 ] . فأمره إذا عزم ، أن يتوكل على الله ؛ فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه ، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة ، بيّن أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عِمْرَان : 160 ] . فنهى عن التوكل على غيره ، وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره . وإلاَّ فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر ، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى ؛ فإنه على هذا القول : نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه . وهذا يناقض مقصود الآية . بل عند هؤلاء : قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من يتوكل عليه ، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقروناً بقوله : { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وكذلك قوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ... - إلى قوله - : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 36 - 39 ] . فبين أن الله يكفي عبده الذين يعبده ، الذي هو من عِباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، الذي هو من عباده المخلصين ، الذين هو من : { عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] . ومثل هذا قوله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وقوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] . وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] . ونظائر متعددة . ثم أمره بقوله : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] . وقال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } [ يونس : 71 ] . وكذلك قال عن هود لما قال قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 54 - 56 ] فهذا من كلام المرسلين ، مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه . فنوح يقول : { إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ ... } الآية ، فدعاهم ، إذا استعظموا ما يفعله كارهين له ، أن يجتمعوا ثم يفعلون ما يريدونه من الإهلاك . وقال : { فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ } فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة -وهو توكله على الله -يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته ، لكان قد طلب منهم أن يهلكوه . وهذا لا يجوز ، وهذا طلب تعجيز لهم . فدلّ على أنه -بتوكله على الله -يعجزهم عما تحدّاهم به ، وكذلك هود ، يُشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله . ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } . يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب . فهو يدفعكم عني لأني متوكل عليه ، ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا ، لكان قد أغراهم بالإيقاع به ، ولم يكن لذكر توكله فائدة ، إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه . وهم كانوا أكثر وأقوى منه . فكانوا يهلكونه . وهو لو قال : فإنّ الله مولاي وناصري -ونحو ذلك -لعلم أنه مخبر أنّ الله تعالى يدفعهم , وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه , ولأنه عبده ورسوله . فالله مع رسوله وأوليائه , فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين , علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة , تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة . والتوكل من أعظم ذلك . وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضارّ , ليس معلقاً بالأسباب . بل يحصل بدونها , فهو غالط . وكذلك من جعل ذلك مجرّد أمارة وعلامة , لاقتران هذا بهذا , فقد أخطأ , فإن الله أخبر أنّه فعل هذا بهذا في غير موضع من القرآن , في خلقه وأمره . كقوله : { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] . وقوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] . وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] . وأنكر على من ظنّ وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] . وقوله : { أمْ نَجْعَلُ الذِيْنَ ءامَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] . أمثال ذلك . وهؤلاء يقولون بالجبر . قالوا : والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه ، ولا بحكمة . فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر . كما أبطلوا الأسباب والحكمة . وأبطلوا قدرة العباد . وهم ، وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين فساد قول القدرية ، فقد ردوا باطلاً بباطل ، وقاتلوا بدعة ببدعة . كردّ اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقالتهم في المسيح ، وكلتا المقالتين باطلة ، وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في عليّ باطل ، ونظائره متعددة . انتهى . فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة . وقوله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [ 12 ]
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ } كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل -من الخيانة ونقض الميثاق -وما أدى إليه ذلك من التبعات ، مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي واثقهم به . وتحذيرهم من نقضه . أو لتقرير ما ذكر من همّ بني قريظة بالبطش وتحقيقه حسبما مرّ من الرواية ببيان أنّ الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم -أفاده أبو السعود .
زاد الرازي : تقرير الإلزام بالتكليف بأنه سنة الله في الذين خلوا .
{ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } رئيساً . سمي بذلك لأنه يفتش حال القوم ويعلم دخيلة أمرهم : { وَقَالَ اللَّهُ } أي : لهم . وفي الالتفات تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد : { إِنِّي مَعَكُمْ } أي : بالعلم والقدرة والنصرة : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي } أي : الذين يجيئون إليكم { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي : أعنتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ } أي : بالإنفاق في سبيل الخير { قَرْضاً حَسَناً } بلا منّ ولا طلب ربح دنيوي ، من رياء وسمعة { لَأُكَفِّرَنَّ } أي : لأمحون { عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ذنوبكم { وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا } أي : تطرد من تحت شجرها ومساكنها { الْأَنْهَارُ } أنهار الماء واللبن والخمر والعسل { فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد أخذ الميثاق والإقرار به { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : واضح السبيل ، الموصل إلى كل مطلبٍ عال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 13 ]
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [ الباء ] سببيّة و ( ما ) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس . أي : بسبب نقضهم ميثاقهم . أونكرة . أي : بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد ، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم { لَعَنَّاهُمْ } أي : أبعدناهم عن رحمتنا { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر ، ولا تتعظ بموعظةٍ ، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم ، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } أي : كلم الله في التوراة ، بصرف ألفاظه أو معانيه { عَنْ مَوَاضِعِهِ } التي أنزلت .
قال ابن كثير : أي : فسدت فُهومُهم ، وساء تصرّفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل . عياذاً بالله من ذلك . قال أبو السعود : والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم . فإنه لا مرتبة أعظ مما يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل ، والافتراء عليه . وقيل : حال من مفعول ( لعناهم ) .
{ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : تركوا نصيباً وافراً مما أُمروا به في التوراة ، تَرْكَ الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه . أو من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } أي : خيانة . على أنها مصدر كـ ( لاغيةٍ وكاذبة ) . أو طائفة خائنة . يعني : أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم ، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها . فلا تزال ترى ذلك منهم .
قال مجاهد . وغيره بذلك تمالُؤَهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ } وهم المؤمنون منهم { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } أي : لا تعاقبهم .
قال ابن كثير : هذا موجب النصر والظفر . كما قال عمر : ما عاملتَ مَنْ عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . وبهذا ، يحصل لهم تأليف وجمع على الحقّ . ولعلّ الله يهديهم .
ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني به الصفح عمّن أساء ، فإنه من باب الإحسان .
تنبيه :
قال بعض المفسِّرين : في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة . وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل . وفي قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ... } الخ ، دليل على تأكيد الميثاق ، وقبح نقضه ، وأنه قد يسلب اللطف المُبْعد من المعاصي . ويورث النسيان ، ولهذا قال تعالى : { وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } وعن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ 14 ]
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } بعبادة الله وحده ، وأن لا يشركوا به شيئاً ، وحفظ شرعة عيسى عليه السلام . وإنما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم -دون أن يقال ( ومن النصارى ) -إيذاناً بأنهم في قولهم : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه } [ آل عِمْرَان : 52 ] . بمعزلٍ من الصدق . وإنما هو تقولٌ محض منهم . وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء . أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم . فإن ادعاءهم لنصرته تعالى يستدعي ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه . أفاده أبو السعود . قال الناصر في " الانتصاف " : وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم . ولم يتفق ذلك في غيره . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . فالوجه في ذلك -والله أعلم -أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمّهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ، نَاسَبَ ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة . وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها . والله أعلم .
قال الشهاب الخفاجي : الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نُسبِتْ [ في المطبوع : نُسِبتَ ] إلى بلدة ( ناصرة ) أي : التي حبُل فيه المسيح وتربى فيها . ولذلك كان يدعى عليه السلام ( ناصريّاً ) . ثم قال : فلو قيل في الآية : إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لِمَا في الإنجيل من التبشير بنبيّنا صلى الله عليه وسلم - لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه .
{ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا } أي : ألقينا { بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : يتعادون ويتباغضون إلى قيام الساعة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة ، وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرّق فرقاً متباينة ، يلعن بعضها بعضاً ، ويكفر بعضها بعضاً { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ } يخبرهم الله في الآخرة { بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } من المخالفة وكتمان الحق والعداوة والبغضاء . ونسيان الحظ الوافر مما ذكّروا به . وهذا وعيد شديد بالجزاء والعذاب .
لطيفة :
تطرف البقاعي -رحمه الله تعالى -في " تفسيره " هنا إلى ذكر نقباء بني إسرائيل بأسمائهم ، وأن عدتهم طابقت عدة نقباء النصارى -وهم الحواريون -كما طابقت عدة نقباء الأنصار ليلة العقبة الأخيرة ، حين بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار على الحرب ، وأن يمنعوه إذا وصل إليهم ، وقال لهم : أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباًَ - كما اختار موسى من قومه - فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس . وذكر البقاعي : أن بعث النقباء من بني إسرائيل كان مرتين : الأول لما كلّم تعالى موسى في برية سيناء في اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة لخروجهم من أرض مصر . وقد فصلت في الفصل الأول من سفر ( العدد ) . والمرة الثانية : بعثوا لجسّ أرض كنعان . وفصلت أيضاً في الفصل الثالث عشر من سفر ( العدد ) ثم ذكر البقاعي : أن نقباء اليهود في جسّ الأرض لم يوف منهم إلاّ يوشع بن نون وكالب بن يفنا ، وأما نقباء النصارى ، فخان منهم واحد -وهو يهوذا -كما مضى عند قوله تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } . وأما نقباء الأنصار فكلهم وَفى وبرّ بتوفيق الله تعالى .
وقد اقتص البقاعي أسماء تقباء الفرق الثلاث ، ولمعة من نَبَئِهم . فانظره ، والله أعلم .
ثم خاطب تعالى الفريقين من أهل الكتاب إِثْرَ تشديد النكير عليهم بتحريف كتبهم ونبذهم الميثاق , ودعاهم إلى الحنفية حتى يكونوا على نورٍ من ربهم . فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ 15 ]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : من نحو بعثته صلى الله عليه وسلم , وآية الرجم في التوراة ، وبشارة عيسى به ، إظهاراً للحقّ { وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } أي : مما تخفونه . لا يبينه . مما لا ضرورة في بيانه ، صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح . أو يعفو فلا يؤاخذ . وفي هذه الآية بيان معجزة له صلى الله عليه وسلم . فإنه لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً من أحد ، فإخباره بأسرار ما في كتابهم إخبارٌ عن الغيب ، فيكون معجزاً { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } يريد القرآن . لكشفه ظلمات الشرك والشك . ولإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق . أو لأنه ظاهر الإعجاز . أو النور ، محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يهتدي به ، كما سمي سراجاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 16 ]
{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه } أي : رضاه بالإيمان به { سُبُلَ السَّلامِ } أي : طرق السلامة والنجاة من عذاب الله { وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : ظلمات الكفر والشُّبه إلى نور الإيمان والدلائل القطعية { بِإِذْنِهِ } أي : بتوفيقه وإرادته { وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو الدين الحقّ السويّ في الاعتقادات والأعمال ، العَريّ عن الإفراط والتفريط فيها . ثم أشار إلى إفراط بعض النصارى في حق عيسى ، وتفريطهم في حقّ الله جل شأنه فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 17 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } في هذه الآية وجهان :
الوجه الأول : إنّ ما أفادته من الحصر -وإن لم يصرحوا به -إلاّ أنه نسب إليهم لأنه لازم مذهبهم لأن معتقدهم مؤدّ إليه .
قال الرازي : لأنهم يقولون : إن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام . فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتاً أو صفة . فإن كان ذاتاً فذات الله تعالى قَدْ حَلّت في عيسى واتّحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول . وإن قلنا : إنّ الأقنوم عبارة عن الصفة ، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول . ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى ، يلزم خلوّ ذات الله عن العلم . ومن لم يكن عالماً لم يكن إلهاً . فحينئذٍ يكون الإله هو عيسى . على قولهم . فثبت أنّ النصارى -وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول -إلا حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك . انتهى .
وبطلان الاتحاد معلوم بالبداهة .
قال العلامة العضد في ( الموقف الثاني ) : المقصد الثامن : الاثنان لا يتحدان . وهذا حكم ضروري . فإن الاختلاف بين الماهيتن والهويتين اختلاف بالذات فلا يعقل زواله . وهذا ربما يزاد توضيحه فيقال : إنْ عدم الهويتان فلا اتحاد , بل وحدث أمر ثالث غيرهما - وإن عدم أحدهما - فلا يتحد المعدوم بالموجود , وإن وجدا فهما اثنان كما كانا , فلا اتحاد أيضاً . انتهى . الوجه الثاني : إنه عُنِي بهذا الآية قوم يقولون بأن حقيقة الله هو المسيح لا غير .
قال الزمخشري : قيل : كان في النصارى قوم يقولون ذلك . انتهى .
قال الإمام الشهرستاني في " الملل والنحل " عند ذكر فرق النصارى :
ومنهم اليعقوبية أصحاب يعقوب . قالوا بالأقانيم الثلاثة - كما ذكرنا - إلا أنهم قالوا : انقلبت الكلمة لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح , وهو الظاهر بجسده بل هو هو . وعنهم أخبرنا القرآن الكريم : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } . فمنهم من قال : المسيح هو الله . ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق . لا على طريق حلول جزءٍ فيه . ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو . وهذا كما يقال : ظهر المَلك بصورة الإنسان . أو ظهر الشيطان بصورة حيوان . . الخ .
وذكر الإمام الماوردي في " أعلام النبوة " : إنّ أوائل النسطورية قالوا : إن عيسى هو الله . انتهى .
وذكر الإمام ابن إسحاق في " السيرة " : إن نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , كانوا من النصرانية على دين ملكهم ، مع اختلاف من أمرهم . يقولون هو الله : ويقولون هو ولد الله . ويقولون هو ثالث ثلاثة - يعني هو تعالى وعيسى ومريم - وكذلك قول النصرانية . ثم قال : ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن .
{ قُلْ } - أي : تبكيتاً لهم , وإظهاراً لفساد قولهم - : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً } أي : من يستطيع إمساك شيءٍ من قدرته تعالى : { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } أي : يُميتَهُ : { وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } أي : فضلاً عن آحادهم . احتج بذلك على فساد قولهم . وتقريره : أن المسيح حادث بلا شبهة . لأنه تولد من أم . ولذا ذكرت الأم للتنبيه على هذا . ومقهورٌ قابل للفناء أيضاً كسائر الممكنات . ومن كان كذلك كيف يكون إلهاً ؟
قال أبو السعود : وتعميم إرادة الإهلاك للكل - مع حصول المطلوب يقصرها على المسيح - لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز , ببيان أن الكل تحت قهره تعالى وملكوته . لا يقدر أحد على دفع ما أريد به . فضلاً عن دفع ما أريد بغيره . وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك . كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعدم استحقاق الألوهية . : { وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } من الخلق والعجائب - وهذا تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى . إثر بيان انتفائها عن غيره : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح - لولادته من غير أب , وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ولأبرص - أي : يخلق ما يشاء من أنواع الخلق كما شاء بأب أو بغير أب . . . !
قال السمرقندي : وإنما قال : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } لأن النصارى أهل نجران كانوا يقولون : لو كان عيسى بشراً كان له أب . فأخرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقاً بغير أب .
{ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } من خلق الخلق ، والثواب لأوليائه ، والعقاب لأعدائه - : { قَدِيرٌ } .

مجلد 6. محاسن التأويل
المؤلف : محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ 18 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه } حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة . وبيان لبطلانها بعد بطلان ما صدر عن أحدهما . أي : قالوا : نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة . ونحن أحباؤه لأننا على دينه .
قال ابن الكثير : ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري . فحملوا هذا على غير تأويله وحرّفوه . وقد ردّ عليه غيرُ واحدٍ ممن أسلم من عقلائهم . وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام . كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم , يعني ربي وربكم . ومعلوم أنهم لم يدّعوا لأنفسهم من النبوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام , وإنما أرادوا بذلك معزّتهم لديه , وحظوتهم عنده . . . ! انتهى .
وقال الجلال الدواني في " شرح عقائد العضد " : وما نُقِل عن الإنجيل - فعلى فرض صحته وعدم التحريف - يكون إطلاق الأب عليه بمعنى المبدأ . فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء . وأنت تعلم أن المتشابهات في القرآن وغيره من الكتب الإلهية كثيرة . ويردّها العلماء بالتأويل إلى ما علم بالدليل . فلو ثبت ذلك لكان من هذا القبيل . انتهى . وقال الدهلوي في " الفوز الكبير " : إن الله عزّ وجلّ شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملّة بلقب المقرب والمحبوب . وذم الذين ينكرون الملّة بصفة المبغوضية . وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم , فلا عجب أن يكون قد ذكر الأنباء مقام المحبوبين , فظن اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهوديّ والعبرّي والإسرائيلي . ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد والخضوع وتمشية ما أراد الحقّ سبحانه ببعثة الأنبياء لا غير . وكان ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم وأجدادهم ، فأزال القرآن هذه الشبهات على وجه أتم . انتهى .
{ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي : لو كنتم أبناءَه وأحبّاءَه لَما عذبكم , لكن اللازم منتفٍ إذ عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ , واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودة .
لطيفة :
قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يردّ عليه , فتلا عليه الصوفي هذه الآية : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } . وهذا الذي قاله حسن . وله شاهد في " المسند " للإمام أحمد حيث قال : حدثنا ابن أبي عدي . عن حميد ، عن أنس قال : < مر النبيّ صلى الله عليه وسلم في نفرٍ من أصحابه , وصبي في الطريق . فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ! وسعت فأخذته , فقال القوم : يا رسول الله ! ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار , قال : فخفضهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : لا , ولا يلقي الله حبيبه في النار > . قال ابن كثير : تفردّ به أحمد . انتهى .
وقال السمرقندي : في الآية دليل أن الله تعالى إذا أحبّ عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه . لأنه تعالى احتج عليهم فقال : { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم } لو كنتم أحباء إليه ؟ و قد قال في آية أخرى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] ، ففيها دليل أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم ، ولا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] .
وقوله تعالى : { بَلْ أَنتُم بَشَرٌ } عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ، أي : لستم كذلك بل أنتم بشر : { مِّمَّنْ خَلَقَ } أي : من جنس من خلقه من غير مزية لكم عليهم : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } لمن تاب من اليهودية والنصرانية : { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } من مات على اليهودية والنصرانية : { وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع ، مصير من آمن ومن لم يؤمن . فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 19 ]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ } أي : ما أمرتم به وما نهيتم عنه { عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } متعلق بـ ( جاءكم ) أي : جاءكم على حين فتورٍ من إرسال الرسل ، وانقطاعٍ من الوحي . إذا لم يكن بينه وبين عيسى رسولٌ . ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة { أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف . أي : كراهة أن تعتذزوا بذلك يوم القيامة ، وتقولوا : ما جاءنا من رسولٍ -بعد ما درس الدينُ -يبشرنا لنرغب فتعمل بما يسعدنا فنفوز . وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم . وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل -كما سنبيّنه - : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به . أي : لا تعتذروا ( بما جاءنا ) فقد جاءكم بشير أي : بشير ، ونذير أي : نذير { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } من إرسال الرسل ، والصواب لمن أجاب الرسل ، والعقاب لمن لم يُجبْهم .
قال البقاعي : وفي الختم بوصف القدرة ، وأتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوّة والملك ، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل ، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبيّ ، يلزم منه إنكارهم للقدرة .
تنبيه :
قال ابن كثير : كانت الفترة بين عيسى ابن مريم -آخر أنبياء بني إسرائيل -وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق . كما ثبت في " صحيح البخاري " ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبي ّ > . وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان . كما حكاه القضاعي وغيره . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : استدل به - يعني بحديث أبي هريرة - على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم . وفيه نظر لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية - المذكورة قصتهم في سورة ( يس ) - كانوا من أتباع عيسى . وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيَّيْن , وكانا بعد عيسى . والجواب : أن هذا الحديث يضعف ما ورد من ذلك . فإنه صحيح بلا تردد . وفي غيره مقال . أو المراد : إنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة . وإنما بعث بعده , مَنْ بُعِثَ , بتقرير شريعة عيسى . وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في " المستدرك " من حديث ابن عباس , ولها طرق جمعتها في ترجمتها في كتابي في " الصابة " . انتهى .
وقد ذكرت في كتابي " إيضاح الفطرة في أهل الفترة " في الباب الحادي عشر مِنْ كان في الفترة من الأنبياء على ما روي . فارجع إليه .
قال ابن كثير : والمقصود من هذه الآية , أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل , وطموسٍ من السبل , وتغير الأديان , وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان . فكانت النعمة به أتمّ النعم , والحاجة إليه أمر عام , فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد , والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد . إلاّ قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين . كما روى أحمد عن عياض المجاشعي - رضي الله عنه - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب ذات يومٍ فقال في خطبته : < وإن ربّي , أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمنّي في يومي هذا . كلّ مال نحلته عبادي حلال . وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلهم , وأنهم أتتهم الشياطين فأضلّتْهم عن دينهم . وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم , وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ثم إن الله عزّ وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم . عجميهم وعربيهم . إلاّ بقايا من أهل الكتاب . وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك . وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء . تقرؤه نائماً ويقظاناً . . . > انتهى .
وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في " رسالة التوحيد " في بحث رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نصّه : ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلمّ بتاريخ الأمم عامة , وتاريخ العرب خاصة , في زمن البعثة المحمدية , لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسّة إلى قارعة تهزّ عروش الملوك , وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم, وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء , إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء . وإلى ناٍر تنقض من سماء الحق على أدم الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول . وصيحة فصحى تزعج الغافلين , وترجع بألباب الذاهلين , وتنبه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين , والهداة الضالين , والقادة الغارّين , وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيهم الإنسان على الطريق التي سنّها الإله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] . ليبلغ بسلوكها كماله , ويصل على نهجها إلى ما أُعدّ في الدارين له . ولكنا نستعير من التاريخ كلمةً يفهمها من نظر فيها اتفق عليه مؤرّخو ذلك العهد , نظر إمعانٍ وإنصافٍ .
كانت دولتا العالم ( دولة الفرس في الشرق , ودولة الرومان في الغرب ) في تنازعٍ وتجالد مستمرّ دماء بين العالمين مسفوكة , وقوى منهوكة , وأموال هالكة , وظلم من الإحن حالكة . ومع ذلك , فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنّن في الملاذ بالغةً حدّ مالا يوصف في قصور السلاطين والأمراء , والقواد ورؤساء الأديان من كل أمّة , وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حدّ . فزادوا في الضرائب , وبالغوا في فرض الإتاوات , حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم . وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها , وانحصر سلطان القويّ في اختطاف ما بيد الضعيف . وفكّر العاقل , في الاحتيال لسلب الغافل ، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب , لفقد الأمن على الأرواح والأموال . غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم . فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب . يديرها من وراء حجاب , ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب , ففقد بذلك الاستقلال الشخصيّ , وظنّ أفراد الرعايا أنهم لم يخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذّاتهم , كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها . ضلت السادات في عقائدها وأهوائها ، وغلبتها على الحق والعدل شهواتها . ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها . فلم يفارقها الذر من أنّ بصيص النور الإلهي ، الذي يخالط الفطر الإنسانية ، قد يفتق الغُلُفَ التي أحاطت بالقلوب ، ويمزّق الحجب التي أسدلت على العقول . فتهتدي العامة إلى السبيل ، ويثور الجم الغفير على العدد القليل ، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن يُنْشِئوا سحباً من الأوهام . ويهيِّئوا كسفاً من الأباطيل والخرافات ، ليقذفوا بها في عقول العامة . فيغلظ الحجاب ، ويعظم الرَّين ، ويختنق بذلك نور الفطرة . ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم .
وصرّح الدين ، بلسان رؤسائه ، أنه عدوّ العقل وعدوّ كل ما يثمره النظر . إلاّ ما كان تفسيراً لكتاب مقدس . وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب ، ومدد لا ينفد .
هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم ، وذلك كان شأنهم في معايشهم . عبيد أذلاء ، حيارى في جهالة عمياء ، اللهمّ إلاّ بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية ، والشرائع السابقة ، آوت إلى بعض الأذهان ، ومعها مقت الحاضر ، ونقص العلم بالغابر ، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها ، بما انقلب من الوضع ، وانعكس من الطبع ، فكان يُرَى الدنس في مظنة الطهارة ، والشرَه حيث تنتظر القناعة ، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام . مع قصور النظر عن معرفة السبب ، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كلّ ذلك هو الدين . فاستولى الاضطراب على المدارك . وذهب بالناس مذهب الفوضى في العقل والشريعة معاً . وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة ، وكان ذلك ويلاً عليها ، فوق ما رزئت به من سائر الخطوب . وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات ، خاضعة للشهوات ، فخر كل قبيلة في قتال أختها . وسفك دماء أبطالها ، وسبي نسائها . وسلب أموالها . تسوقها المطامع ، إلى المعامع . ويزين لها السيئات ، فسادُ الاعتقادات . وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدّاً صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها . فلما جاعوا أكلوها . وبلعوا من تضعضع الأخلاق وهناً قتلوا فيه بناتهم تخلصاً من عار حياتهن . أو تنصُّلاً من نفقات معيشتهنّ . وبلغ الفحش منهم مبلغاً لم يَعُدْ معه للعفاف قيمة .
وبالجملة : فكانت ربط النظام الاجتماعي قد تراخت عقدها في كل أمة . وانفصمت عراها عند كل طائفة .
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم رجلٍ منهم يوحي إليه رسالته ؟ ويمنحه عنايته ؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم . التي أظلت رؤوس جميع الأمم ؟ نعم ، كان ذلك ، وله الأمر من قبل ومن بعد . انتهى .
ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى ، وتفريطهم في حقه مع حثّه إياهم على شكر الله . ليسارعوا إلى امتثال أمره ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ } [ 20 ]
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : التي هي فوق نعمه على من سواكم ، في تفرّطوا في أمره إذا لم يفرّط في حقكم { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ } أي : وهم أكمل الخلائق ومكملوهم ، ولم يبعث في أمةٍ ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً } يعني : وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط مملوكين ، فأنقذكم الله . فسمى إنقاذهم ملكاً { وَآتَاكُمْ } أعطاكم { مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ } من أنواع الإكرام التي خصكم بها -كفلق البحر لهم ، وإهلاك عدوّهم ، وتوريثهم أموالهم ، وإنزال المنّ والسلوى عليهم ، وإخراج المياه العذبة من الحجرَ ، وإظلال الغمام فوقهم . . . -فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم ، شكراً له . ثم أخبر تعالى عن تحريض موسى عليه السلام لقومه على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي استحوذ عليه الجبابرة ، وأنهم نكلوا وعصوا أمره ، فعوقبوا بالتّيه لتفريطهم ، فقال سبحانه مخبراً عن موسى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ 21 ]
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } يعني : أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء . ثم تلوّثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين . فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي : التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم ، بأن تكون ميراثاً لولده بعد أن جعلها مهاجَره { وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } أي : لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً { فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أي : فترجعوا مغبونين بالعقوبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [ 22 ]
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } أي : متغلبين ليس لنا مقاومتهم { وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا } أي : من غير صنع من قِبَلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها { فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا } أي : بسببٍ من الأسباب التي لا تعلق لنا بها { فَإِنَّا دَاخِلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 23 ]
{ قَالَ رَجُلانِ } هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا { مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } أي : يخافون الله تعالى دون العدوّ ، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه .
وقال العلامة البقاعي : أي : من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين . ومع ذلك لم يخافا { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا } أي : بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ } أي : باب بلدهم ، أي : باغِتُوهم وامنعوهم من البروز إلى الصحراء ، لئلا يجدوا للحرب مجالاً { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ } -أي : باب بلدهم - : { فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } عليهم { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } أي : لا على قوة أنفسكم { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بكمال قدرته ووعده النصر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ 24 ]
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا } -أي : الجبابرة - : { فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ 25 ]
{ قَالَ } أي : موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد ، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى : { رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ } أي : أحداً ألزمه قتالهم { إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي } هارون . قال المهايمي : أي : ومَنْ يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب { فَافْرُقْ } أي : فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق { بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن أمرك ، وهو في معنى الدعاء عليهم . وقد استجاب الله دعاءه ، وفرق بأن أضلّهم ظاهراً كما ضَلّوا باطناً . كما بينه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ 26 ]
{ قَالَ فَإِنَّهَا } أي : الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي : بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم . لا يدخلونها ولا يملكونها . ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد ، فالتحريم تحريم منعٍ لا تحريم تعبد { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم ، و ( التيه ) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده { فَلا تَأْسَ } أي : تحزن { عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين من قيد الطاعات . قال العلامة البقاعي : ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه . وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت على طلب الوفاء بها ، وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ } [ المائدة : 12 ] الآيات ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه ، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم ، وترهيب لمن عصى . ومات في تلك الأربعين ، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة . وكان الغمام يظلَّهم من حرّ الشمس . ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم . وغير هذا من النعم ، لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم . لا غضب . إذ أنهم تابوا . ثم ساق البقاعي -رحمه الله -شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرق . ونحن نأتي على ملخصها تأثراً له ، فنقول :
جاء في سفر " العدد " في الفصل الثالث عشر : إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حَصِيروت ونزلوا ببريّة فاران ، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالاً يجسّون أرض كنعان . من كل سبط رجلاً واحداً ، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل ، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض . أجيدة أم رديئة ؟ وإلى أهلها ، أشديدون أم ضعفاء ؟ قليلون أم كثيرون ؟ وأن يوافوه بشيءٍ من ثمرها . فساروا واجتسّوا الأرض من برية صِينَ إلى رَحُوبَ عند مدخل حماة ، ثم رجعوا بعد أربعين يوماً . وكان موسى وقومه في برية فاران في قاديش ، فأروهم ثمر الأرض ، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض ، وأنها تدرّ لبناً وعسلاً . ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم ؛ فاضطرب قوم موسى . فأخذ كالبُ -أحد النقباء -يسكتهم عن موسى ويقول : نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها . وخالفه بقية النقباء وقالوا : لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا . وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا : شاهدنا أناساً طوال القامات ، سيما بني عَناقَ . فصرنا في عيوننا كالجراد . وكذلك كنا في عيونهم . فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا : ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية . ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة . وخير لنا أن نرجع إلى مصر . وقالوا : لنًقِمْ لنا رئيساً ونرجع إلى مصر . فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين . ومزق ، من النقباء ، يوشع بن نون وكالب ثيابهما . وكلَّما بني إسرائيل قائلين : إن الأرض التي مررنا فيها جيدة ، وإذا كان ربنا راضياً عنا فإنه يدخلنا إياها . فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا . إذ الرب معنا فلما سمع بنوا إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا : لِيُرْجَمَا بالحجارة ، وكاد حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهيّ ، لولا تضرع موسى إلى ربه بأن يعفو عنهم ، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين ، فعفا تعالى عنهم . وأعلم موسى ؛ أنّ قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم ، وأنهم يموتون جميعاً في التيه . إلاّ كالباً . فإنه لحسن انقياده سيدخل لأرض ، وكذلك يوشع ، وأعلمه تعالى أيضاً بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجس النقباء فيها أرض الكنعانيين . كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه ، عز سلطانه ثم هلك النقباء العشرة ، الذين شَنّعوا لدى قومهم تلك الأرض ، بضربة عجلت لهم . ثم همّ قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى . فنهاهم موسى وقال لهم : لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني ، وإن فعلتم فإن العدوّ يهزمكم وتسقطون تحت سيفه . فتجبروا وصعدوا إلى رأس الجبل . فنزل العمالقة والكنعانيون عليهم وحطموهم ، ثم انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع ، كما شرح في " سفره " ، والله أعلم .
تنبيهات :
الأول : قوله تعالى : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } ظرف متعلق بـ ( يتيهون ) . واحتمال كونه ظرفاً لـ ( محرمة ) كما ذكره غير واحد -لا يصح إلا بتكلف ؛ لما شرحناه من سياق القصة .
الثاني : قال الحاكم : دلّ قوله تعالى : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه ، بل يحمد الله إذا أهلك عدواً من أعدائه .
الثالث : قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين ههنا أخباراً من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام . وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع . وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذرعاً وثلث ذراع . تحرير الحساب . وهذا شيء يستحي من ذكره . ثم هو مخالف لما ثبت في " الصحيحين " : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن > . ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافراً ، وأنه كان ولد زِنْية ، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته . وهذا كذب وافتراء ، فإن الله تعالى ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . وقال تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } [ الشعراء : 119 - 120 ] . وقال تعالى : { لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] ، وإذا كان ابنُ نوح ، الكافرُ ، غرق ، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقلٍ ولا شرعٍ . ثم في وجود رجلٍ يقال له عوج بن عنق ، نظر . والله أعلم .
الرابع : قال ابن كثير : تضمنت هذه القصة تقريع النهود ، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصَفيّه من خَلْقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم . هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم ، فرعون , من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون , لتقرَّبه أعينهم ( وما بالعهد من قدم ) . ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم , وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل . وقال -رحمه الله -قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة -رضي الله عنهم -يوم بدر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان . فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب . فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه - فأحسن ، ثم تكلم من الصحابة ، من المهاجرين ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول : أشيروا عليّ أيها المسلمون ! وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار . لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذٍ . فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ؟ فوالذي بعثك بالحقّ ! لو استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته ، لخضناه معك . ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبُرُ في الحرب ، صُدُق في اللقاء . لعل الله أن يُرِيَكَ منّا ما تقرّ به عينك . فَسِرْ على بركة الله . فُسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه لذلك .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : لقد شهدت من المقداد مشهداً ، لأَنَ أكون أنا صاحبه ، أحبّ إليّ مما عدل به . أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله ! يا رسول الله ! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك .
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك . وسرّه ذلك . وهكذا رواه البخاري في " المغازي " .
الخامس : استنبط العمرانيون من هذه الآية أنَّ من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل ، والانقياد لسواهم .
قال الحكيم ابن خلدون في " مقدمة العبر " في الفصل 19 تحت العنوان المذكور : إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها . فإنَّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها ، فما رئموا ( ألفوا ) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة ، ومن عجز عن المدافعة ، فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة ، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام ، وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها ، كيف عجزوا عن ذلك ، قالوا : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا } [ المائدة : 22 ] . أي : يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا ، وتكون من معجزاتك يا موسى ، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا العصيان وقالوا له : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ] وما ذلك إلاَّ لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة ، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها ، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد ، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة . مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى ، من أن الشام لهم ، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم ، بحكم من الله قدره لهم . فأقصروا عن ذلك وعجزوا ، تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة ، لما حصل لهم من خلق المذلة . وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به . فعاقبهم الله بالتيه . وهو أنّهم تاهوا في قَفْر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنةً . لم يأووا فيها لعمران ، ولا نزلوا مصراً ، ولا خالطوا بشراً ، كما قصّه القرآن ، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم ، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه . ويظهر من مساق الآية ومفهومها : أن حكمة ذلك التيه مقصودة . وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به . وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ، ولا يُسَام بالمذلة . فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ، يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر ، سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية . وأنهّا هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة . وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله .
ثم بيّن تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد ، في جزاء ابني آدم لصلبه . تعريضاً باليهود . وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ 27 ]
{ وَاتْلُ عَلَيْهِم } أي : على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم { نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ } هابيل وقابيل ، ملتبساً { بِالْحَقّ } أي : الصدق والصحة موافقاً لما في كتبهم : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانا } أي : ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكةٍ أو صدقة . وكان هابيل راعيَ غنم ، وقابيل يحرث الأرض . فقدّم هابيل شيئاً من أبكار غنمه ومن سمانها . وقدّم قابيل شيئاً رديئاً من ثمر الأرض : { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا } وهو هابيل : { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَر } وهو قابيل : { قَالَ } قابيل لهابيل : { لَأَقْتُلَنَّكَ } على قبول قربانك : { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أي : إنما أُتيتَ من قبل نفسك , لانسلاخها من لباس التقوى . لا من قبلي . فلِمَ تقتلني ؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ؟ فأجابه بكلام حكيمٍ مختصرٍ جامعٍ لمعانٍ ؛ وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلاَّ من مؤمنٍ مُتَّقٍ ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم !
وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة : فقيل له : ما يبكيك فقد كن وكنت ؟ قال : إني أسمع الله يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } . كذا في " الكشاف " .
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال : يحبس الناس في بقيع واحد فينادي منادٍ : أين المتقون ؟ فيقومون في كنفٍ من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر .
قلت : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشركَ وعبادةَ الأوثانَ وأخلصوا العبادة . فيمرون إلى الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ 28 ]
{ لَئِنْ بَسَطْتَ } أي : مددت : { إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي } أي : ظلماً : { مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ } أي : دفعاً : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : من أن أصنَّع كما تريد أن تصنع .
وفي " الصحيحين " : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قالوا يا رسول الله ! هذا القاتل . فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه > . وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ في حديث سعد بن أبي وقاص قال : < قلت يا رسول الله ! أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن كابن آدم -وتلا - : { لَئِنْ بَسَطْتَ } ...الآية > .
قال المهايميّ في تفسير هذه الآية : أي : أني -وإن لم أكن في الدفع ظالماً -أخاف الله انتهى يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين . انتهى .
وهو منزع صوفيّ لطيف .
وقال أبو السعود : فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى ، على أبلغ وجه وآكده ، ما لا يخفى . كأنه قال : إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك ، أن يعاقبني . وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني . فما ظنّك بحالك وأنت البادئ العادي ؟ وفي وصفه تعالى بربوبيّة العالمين تأكيدٌ للخوف . قيل : كان هابيل أقوى منه . ولكن تحرّج عن قتله واستسلم خوفاً من الله تعالى . لأن القتل للدفع لم يكن مباحاً حينئذٍ . وقيل : تحرياً لما هو الأفضل ، حسبما قال صلى الله عليه وسلم : < كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل > . ويأباه التعليل بخوفه تعالى ، إلاَّ أن يدعي أنَّ ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة ، مبالغة في التنزّه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ } [ 29 ]
{ إِنِّي أُرِيدُ } أي : باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك : { أَنْ تَبُوءَ } أي : ترجع إلى الله ملتبساً : { بإِثْمِي } أي : بإثم قتلي : { وَإِثْمِكَ } أي : الذي كان منك قبل قتلي ، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك : { فَتَكُونَ } أي : بالإثْمَيْن : { مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } . قال الناصر في " الانتصاف " : فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه : إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب . ولمَّا لم يكن بدٌّ من إرادة أحد الأمرين ، إمَّا إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه ، وإمَّا إثم أخيه بتقدير أن يستسلم -وكان غيرَ مريدٍ للأول ، اضطر إلى الثاني ، فلم يرد إذاً إثم أخيه لعينه ، وإنما أراد أنّ الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل -ولم تكن حينئذٍ مشروعة -فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه . وهذا ، كما يتمنّى الإنسان الشادة . ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم ، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه ، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمناً وتبعاً . والذي يدل على ذلك ؛ أنّه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفَضِيلَتَها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان ، فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيداً . أعني بقي الإثم على قاتله ، أو حبط عنه ، إذ ذلك لا ينتقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها ، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصوداً لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه ، فدلّ على أنه أمر لازم تبع ، لا مقصود . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 30 ]
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } أي : رخصت وسهلت له نفسه . والتصريح بأخوّته لكمال تقبيح ما سوّلته نفسه . أي : الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه : { فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دِيناً ، إِذْ صار كافراً حاملاً للدماء إلى يوم القيامة . ودُنيا ، إذ صار مطروداً مبغضاً للخلائق .
وقد أخرج الجماعة -غير أبي داود -عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تقتل نفس ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها . لأنه كان أول من سنّ القتل > . انتهى .
ولما قتله لم يدر ما يصنع له من إفراط حيرته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [ 31 ]
{ فَبَعَثَ } أي : أرسل : { اللَّهُ غُرَاباً } فجاء : { يَبْحَثُ } أي : يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً : { فِي الْأَرْضِ } .
قال القتيبيّ : هذا من الاختصار . ومعناه : بعث غراباً يبحث التراب على ميت . وكذا رواه السديّ عن الصحابة ؛ أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا . فقتل أحدهما الآخر . فحفر له . ثم حثى عليه حثياً .
{ لِيُرِيَهُ } الضمير المستكن إمَّا لله تعالى أو للغراب . والظاهر ، للقاتل أخاه : { كَيْفَ يُوَارِي } أي : يستر في التراب : { سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي : جسده الميت . وسمّي سوأة لأنه مما يسوء ناظره : { قَالَ يَا وَيْلَتَا } كلمة جزع وتحسّر ، والألف فيها بدل من ياء المتكلم . ولويل والويلة الهَلَكَة : { أَعَجَزْتُ } أي : أضعفت عن الحيلة : { أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } أي : الذي هو من أخس الحيوانات . والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب : { فَأُوَارِيَ } أي : أغطي : { سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ } أي : صار : { مِنَ النَّادِمِينَ } أي : على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله . فصار أجهل من الحيوانات العجم وأَضَّل منها وأدنى .
وفي " التنوير " : ولم يكن نادماً على قتله .
وقال أبو الليث عن ابن عباس : لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً منه .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول ، وأنه تعلم ذلك من الغراب . ولا مانع من ذلك . إذ مثله مما يجوز خفاؤه . لاسيما والعالم ، في أول طور النشأة ، وأنه أول قتيل ، فيكون أول ميت .
ونقل الرازي احتمال أن يكون عالماً بكيفية دفنه ، قال : فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل ، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به ، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر ، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه . فواراه تحت الأرض ، والله أعلم .
الثاني : في الآية دلالة على أن الندم ، إذا لم يكن لقبح المعصية ، لم يكن توبة . قال الرازيّ : ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة . فكان ندمه لذلك ، لا لأجل الخوف من الله تعالى ، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم .
الثالث : الآية أصل في دفن الميت .
الرابع : قال ابن جرير زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله : يا قابيل ! أين أخوك هابيل ؟ قال ما أدري . ما كنت عليه رقيباً . فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك . فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها ، حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض . انتهى .
الخامس : روى ابن جرير بسنده عن عليَّ بن أبي طالب قال : لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال :
~تغيّرَت البلادُ ومن عليها فلونُ الأرض مغبرّ قبيحُ
~تغيَّرَ كل ذي لونٍ وطعمٍ وقلّ بشاشةُ الوجه المليحِ
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :
~أبا هابيلَ ! قد قُتِلا جميعاً وصار الحيُّ كالميت الذَّبيحِ
~وجاء بِشرَّةٍ قد كان منها على خوف ، فجاء بها يصيحُ
أقول : قد اشتهر البيتان الأولان . وقد فنّد نسبتهما إلى آدم غيرُ واحد .
قال الزمخشري : روي أن آدم رثاه بشعر . وهو كذب بحت . وما الشعر إلا منحول ملحون . وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر . انتهى .
قال الشرّاح : ( المليح ) في النظم المذكور ، إن رفع فخطأ . لأنه صفة الوجه المجرور ، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح ، وإن كثر . وقول من قال ( الوجه فاعل قلّ . وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين ، إجراء للوصل مجرى الوقف ) ألحنُ ، وقيل : إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسريانيّ . فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان - وهو أول من خطّ بالعربية - فقدم وأخّر وجعله شعراً عربياً . انتهى . قال الخفاجي . لاشك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته ، لكن ما استصعبوه من الإقواء ، وترك التنوين ، ليس بصعب ، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله . مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل . لأن الوجه فاعل المصدر ، وهو بشاشة .
السادس : حكمة تخصيص الغراب كون الغراب دأبه المواراة .
قال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء . فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه . انتهى .
والغراب هو الطائر الأسود المعروف . وقسموه إلى أنواع . وفي الحديث : أنه صلى الله عليه وسلم غيرّ اسم غراب لما فيه من البعد . ولأنه من أخبث الطيور . والعرب تقول : أبصر من غراب ، وأحذر من غراب ، وأزهى من غراب ، وأصفى عيشاً من غراب ، وأشد سواداً من غراب ، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب . وإذا نعتوا أرضاً بالخصب قالوا : وقع في أرض لا يطير غرابها . ويقولون وَجَد تمرة الغراب ، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه . ويقولون : أشأم من غراب وأفسق من غراب . ويقولون : طار غراب فلان ، إذا شاب رأسه .
وغراب غاربٌ على المبالغة . كما قالوا : شعر شاعر ، وموت مائت . قال رؤبة :
~فازجر من الطير الغراب الغاربا
قالوا : وليس شيء في الأرض يُتشاءم به إلاَّ والغراب أشأم منه . وللبديع الهمذانيّ فصل بديع في وصفه . ذكره في " المضاف والمنسوب " وأوراد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب . والأبيات في غراب البين كثيرة ، ملئت بها الدفاتر .
وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطيّ -قاضي غرناطة -في شرحه على " مقصورة حازم " أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد .
وأنشد في ذلك مقاطيع . منها :
~غلط الذين رأيهم بجهالة يَلْحَوْنَ كُلُّهم غراباً ينعق
~ما الذنب إلا للأباعر إنها مما يشتَّت جمعَهم ويفرِّق
~إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميعَ الأينُق
وأنشد ابن المنساويّ لابن عبد ربّه :
~زعق الغراب فقلت : أكذب طائر إن لم يصدقه رغاء بعير
كذا في " تاج العروس " شرح القاموس .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [ 32 ]
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ } أي : بسبب قتل قابيل هابيل ظلماً : { كَتَبْنَا } أي : فرضنا وأوحينا : { عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ } وإنما خُصّوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك . وقوله تعالى : { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي : بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص : { أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } أي : أو بغير فساد يوجب إهدار دمها -كالكفر مع الحراب , والارتداد , وقطع الطريق الآتي بعد , وزنا المحصن - : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } أي : من حيث هَتَكَ حرمة الدماء , وسنَّ القتل , وجرّأ الناس عليه . أومن حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء , في استجلاب غضب الله تعالى والعذاب العظيم : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي : ومن تسبب لبقاء حياتها بعفوٍ أو منعٍ عن القتل أو استنقاذٍ من بعض أسباب . فكأنما فعل بالناس جميعاً .
والمقصود منه : تعظيم قتل النفس وإحيائها في قلوب ترهيباً عن التعرض لها ، وترغيباً في المحاماة عليها : أفاده البيضاوي .
وقال أبو مسلم في معنى الآية : من قتل وجب على المؤمنين معاداته . وأن يكونوا خصومه , كما لو قتلهم جميعاً . لأن المسلمين يدٌ واحدةً على من سواهم . ومن أحيا وجب موالاته عليهم ، كما لَوْ أحياهم . انتهى .
وقيل للحسن البصري : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم . ومَا جَعَلَ دِمَاءَهُمْ أكرم من دمائنا .
أقول القاعدة في ذلك ؛ أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم , ولم ينبّه على إفسادهم وافترائهم فيه , فهو حقّ . وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبيّ في " الموافقات " فانظره فإنه مهمّ . وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك . وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين ! فقال : يا أبا هريرة ! أيسرّك أن تقتل الناس جميعاً إياي معهم ؟ قلت : لا ! فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً , فانصرفْ مأذوناً لك , مأجوراً غير مأزور . قال : فانصرفت ولم أقاتل .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو قال : < جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! اجعلني على شيء أعيش به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حمزة ! نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها ؟ قال : بل نفس أحييها . قال عليك بنفسك > .
{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ } يعني : بني إسرائيل : { رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم ، تأكيداً لوجوب مراعاته ، وتأييداً لتحتم المحافظة عليه { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : من بني إسرائيل : { بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد ما كتبنا عليهم ، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم : { لَمُسْرِفُونَ } يعني : بالفساد والقتل . لا يبالون بعظمة ذلك .
قال ابن كثير : هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها . كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج ، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فَدَوْا من أسروه ، وَوَدَوْا من قتلوه . وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في ( سورة البقرة ) حيث يقول : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } [ البقرة : 84 - 85 ] الآيات .
وقال الرازيّ : المقصود من شرح هذه المبالغة -يعني قوله تعالى : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ } الآية -أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسول ، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى . ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأكابر أصحابه -كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة ، المبالغة العظيمة ، مناسباً للكلام ومؤكّداً للمقصود . ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد -أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 33 ]
{ إِنَّمَا جَزَاءُ } أي : مكافأة : { الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : يخالفونهما ويعصون أمرهما : { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً } أي : يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلماً : { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ } أي : أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى : { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } أي : يطردوا منها ويُنَحَّوْا عنها . وهو التغريب عن المدن ، فلا يقرّون فيها : { ذَلِكَ } أي : الجزاء المذكور : { لَهُمْ خِزْيٌ } ذل وفضيحة : { فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 34 ]
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } أي : من المحاربين : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى - روى ابن جرير وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس ، أنها نزلت في المشركين . وروى ابن جرير عن أُبيّ ، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم . وظاهرٌ أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات . كما روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه : عن أنس بن مالك ؛ أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها . فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحّوا ، فارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فجيء بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمَلَ أعينهم وألقاهم في الحرّة . قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً ، حتى ماتوا . ونزلت : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ } ...الآية . ولمسلم عن أنس قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أَعْيَن أولئك لأنهم سملوا أَعْيَن الرعاء . وعند البخاري : قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وبعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله .
الثانية - زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخاً لعقوبة العرنيين المتقدمة .
قال ابن جرير : حدثنا عليّ بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد : ما كان سَمْل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا . فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلَّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم . قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عَمْرو - يعني الأوزاعيّ - فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى . كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم . ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم مِمَّن حارب بعدهم . فرفع عنهم السمل . وروى ابن جرير أيضاً في القصة عن سعيد بن جبير قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعد ، قال : ونهى عن المُثْلة ، قال : < لا تُمَثِّلُوا بشيءٍ . > والنهي عن المُثْلة مرويّ في الصحيح والسنن .
الثالثة -احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء ، في ذهابهم إلى أنّ المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء . لقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً } . وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعيد والشافعيّ وأحمد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال . فقد قيل : إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب . لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس . وقال الأكثرون : إن حكم من في البنيان والصحراء واحد ، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء . لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم ، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ، ولأنهم يسلبون الرجل عي داره جميع ماله ، والمسافر لا يكون معه غالباً إلاّ بعض ماله ؛ وهذا هو الصواب .
حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة . ودمه إلى السلطان لا إلى وليّ المقتول . ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل .
وإنما كان ذلك محاربة ، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرةً ، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه ، بل قد يكون ضرر هذا أشد ، لأنه لا يدري به .
وقيل : إنّ المحارب هو المجاهر بالقتال ، وإنّ هذا المغتال يكون أمره إلى وليّ أمر الدم . والأول أشبه بأصول الشريعة .
الرابعة - ظاهر الآية : أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع . فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحاً . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، في الآية : من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله . وكذا قال سعيد بن المسيّب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النَّخَعِي والضحاك . كما رواه ابن جرير ، وحكي مثله عن أنس .
قال ابن كثير : ومستند هذا القول ظاهر . وللتخيير نظائر من القرآن . كقوله في جزاء الصيد : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاما } [ المائدة : 95 ] ، وقوله في كفارة الترفه : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] . وقوله في كفارة اليمين : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ المائدة : 89 ] ، وهذه كلها على التخيير ، فكذلك فلتكن هذه الآية . وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال .
أخرج الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيي ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، في قطّاع الطريق : إذا قَتَلوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا . وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نُفوا من الأرض . وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن عطية عن ابن عباس بنحوه ، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعيّ والحسن وقتادة والسدّيّ وعطاء الخراساني نحو ذلك . وهكذا قال غير واحدٍ من السلف والأئمة انتهى .
وفي " النهاية " من فقه الزيدية : يرجع في المحارب إلى رأي الإمام ، فإن كان له رأيٌ قتله أو صلبه -لأن القطع لا يدفع المضرة -وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوةٍ قطعه من خلاف ، وإن عدم القوة والرأي ضُربَ ونُفي ؛ وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور ، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام ، على ما ذكر . انتهى .
ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلاً مهمّاً في المحاربين في كتابه " السياسة الشرعية " وقد مثّلهم بقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرةً ، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين أو فَسَقة الجند أو مَرَدة الحاضرة أو غيرهم . ثم ساق رواية الشافعيّ المتقدمة عن ابن عباس وقال :
هذا قول كثير من أهل العلم - كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما -وهو قريب من قول أبي حنيفة -رحمه الله -ومنهم من قال : للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة فيهم وإنْ كان لم يَقْتل مثل أن يكون رئيساً مطاعاً فيهم . ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال . مثل أن يكون ذا جلَد وَقوة في أخذ المال . كما أنّ منهم من يرى أنه إذا يرى أنه إذا أخذوا المال قُتِّلوا وقُطِّعوا وصُلِّبوا . والأول قول الأكثر . فمن كان من المحاربين قد قَتَلَ فإنه يقتله الإمام حدّاً لا يجوز العفو عنه بحال ، بإجماع العلماء . ذكره ابن المنذر . ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول . بخلاف ما لو قتل رجل رجلاً لعداوة بينهما ، أو لخصومة ، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة . فإن هذا دمه لأولياء المقتول . إن أحبوا قتلوا . وإن أحبوا عَفَوْا . وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص . وأما المحاربون فإنما يُقتلون لأخذ أموال الناس ، فضررهم عام بمنزلة السُّرَّاق . فكان قتلهم حدَّ الله . وهذا متفق عليه بين الفقهاء . حتى لو كان المقتول غير مكافيء للقاتل . مثل أن يكون القاتل حرّاً والمقتول عبداً ، أو القاتل مسلماً والمقتول ذمّيّاً أو مستأمناً . فقد اختلف الفقهاء : هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدّاً ، كما يقطع إذا أخذ أموالهم . وكما يحبس بحقوقهم . وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة ، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردءٌ له ، فقد قيل : إنه يقتل المباشر فقط . والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة . والردء والمباشر سواء . وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين . فإن عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه -قتل ربيئة المحاربين . والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكانٍ عال ينظر منه لهم من يجيء .
ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته . والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض ، حتى صاروا ممتنعين ، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين . فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يٌّد على من سواهم ، وَيَرُدّ مُتسَرِّيهم على قاعدتهم > . يعني : أن جيش المسلمين إذا تسرّت منه سرية فغنمت مالاً ، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت ، لأنها بظهره وقُوّته تمكنت . لكن تُنْفَلُ عنه نفلاً . فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية ، إذا كانوا في بدايتهم ، الربع بعد الخمس . فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرّت سرية ، نفلهم الثلث بعد الخمس . وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية ، لأنها في مصلحة الجيش . كما قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر ، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش . فأعوانُ الطائفة المتمنعة وأنصارها منها ، فيما لهم وعليهم . وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه ، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية . كقيس ويمن ونحوهما ، هما ظالمتان . كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار > . قيل : يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : < إنه أراد قتل صاحبه > . أخرجاه في " الصحيحين " وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل . لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد . وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيراً -فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء . كأبي حنيفة والشافعيّ وأحمد وغيرهم . وهذا معنى قوله تعالى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } . تقطع اليد التي يبطش بها ، والرجل التي يمشي عليها ، وتحسم يده ورجله بالزيت المغليّ ونحوه ، لينحسم الدم فلا يخرج فيُفضي إلى تلفه . وكذا تحسم يد السارق بالزيت . وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل . فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم ، إذا رأوا دائماً من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ، ذكروا بذلك جرمه ، فارتدعوا . بخلاف القتل ، فإنه قد يُنسَى . وقد يؤثر في بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف . فيكون هذا أشدّ تنكيلاً له ولأمثاله . وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفساً ولم يأخذوا مالاً ، ثم أغمدوه أو هربوا ، وتركوا الحراب ، فإنهم يُنْفَونَ . فقيل ( نفيهم ) تشريدهم . فلا يتركون يأوون في بلد . وقيل هو حبسهم . وقيل : هو ما يراه الإمام أصلح من نفيٍ أو حبس أو نحو ذلك . والقتل المشروع ضرب الرقبة بالسيف ونحوه . لأن ذلك أَوْحى ( أي : أسرع ) أنواع القتل . وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء . فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة . وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبْحَ . وليًُحِدّ أحدكم شفرته ، ولْيُرحْ ذبيحته > . رواه مسلم . وقال : < إنّ أعف الناس قِتْلَةً أهل الإيمان > . وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم ، وهو بعد القتل ، عند جمهور العلماء . ومنهم من قال يًُصَلَّبُون ثم يقتلون وهم مصلوبون . وقد جوّز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال : يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل .
الخامسة : تتمة الآية . أعني قوله تعالى : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقاً . ولا يكون الحدّ المذكور طهرة لهم ، ولو كانوا مسلمين .
قال السيوطي في " الإكليل " : قال ابن الفرس : ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له ، كما تكون في سائر الحدود .
وقال العارف الشعراني في " ميزانه " : سمعت شيخنا ، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول : لم يرد لنا أحداً يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معاً ، إلاّ المحاربين ، لقوله تعالى : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ } . . الآية .
وقال ابن كثير : هذا يرجح روايةٌ نزولها في المشركين . فأما أهل الإسلام ففي " صحيح مسلم " عن عُبَاْدَة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أخذ على النساء ، ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضاً . فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ، ومن أتى منكم حدَّاً فأقيم عليه فهو كفارته ، ومن ستره الله فأمره إلى الله . إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له .
السادسة : دلّ قوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } على أن توبة المحاربين ، قبل الظفر بهم ، تسقط عنهم حدّ المحاربين المذكور في الآية . سواء كانوا مشركين أو مسلمين . وهو مروي عن علي وأبيّ هريرة والسدّي وغيره . وقد قال الهادي : إذا تاب المحارب قبل الظفر به ، سقط عنه كل تبعة من قتل أودَين ، لعموم الآية .
قال ابن كثير : أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك فظاهر . أي : فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم ، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة . فلا يطالبون بشيءٍ مما أصابوا من مالٍ أو دمٍ . قال أبو إسحاق : جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ، ليكون ذلك داعياً لهم إلى الدخول في الإسلام . وأما المحاربون المسلمون ، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل . وهل يسقط قطع اليد ؟ فيه قولان للعلماء . وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة كما روى ابن أبي حاتم عم الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة -وكان قد أفسد الأرض وحارب - فكلم رجالاً من قريش منهم : الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر .
فكلّموا علياً فيه فلم يؤمنه . فأتى سعيد بن قيس الهمداني ، فخلفه في داره ثم أتى علياً فقال : يا أمير المؤمنين ! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً -فقرأ حتى بلغ : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } . فقال : اكتب له أماناً . قال سعيد بن قيس : فإنه جارية بن بدر . وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي ، فقال حارثة بن بدر :
~إلا أبلغا همدان إما لقيتهَا على النأي لا يَسْلَمْ عدوّ يَعيبها
~لَعَمْرُ أبيها إن همدان تَتقي الإلهَ ويقضي بالكتاب خطيبُها
وروى ابن جرير -من طريق سفيان الثوري عن السدّي ، ومن طريق أشعث -كلاهما . عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى -وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه - بعد ما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ! هذا مقام العائذ بك . أنا فلان بن فلان المرادي . كنت حاربت الله ورسوله ، وسعيت في الأرض فساداً ، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي . فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان . وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً ، وإنه تاب من قبل أن يُقْدر عليه ، فمن لقيه فلا يَعْرِض له إلاَّ بخير ، ( فإن يك صادقاً فسبيل من صدق . وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه ) . فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله . ثم قال ابن جرير : حدثني علي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قال الليث . وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني ، وهو الآمر عندنا ، أنّ علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل ، وأصاب الدم والمال ، فطلبه الأئمة والعامة ، فامتنع ولم يُقْدِرْ عليه حتى جاء تائباً ، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] . فوقف عليه فقال : يا عبد الله ! أعد قراءَتها . فأعادها عليه . فغمد سيفه ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السَّحرَ . فاغتسل . ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فصلَّى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه . فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه . فقال أبو هريرة : صدق . وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم -في إمرته على المدينة في زمن معاوية -فقال : هذا علي جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ولا قتل . قال ، فترك من ذلك كله .
قال : وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر . فلقوا الروم . فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم . فاقتحم على الروم في سفينتهم . فَهُزِموا منه إلى سفينتهم الأخرى . فمالت بهم وبه . فغرقوا جميعاً .
هذا ، وفي تفسير بعض الزيدية -نقلاً عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومالك والشافعي -أنَّ توبة المحارب تُسقط الحدود لله ، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال ، لقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] . وقوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] وقوله تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } [ الإسراء : 33 ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : < على اليد ما أخذت حتى ترد > ، وقوله عليه الصلاة والسلام < لا يحل مال امرئ مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه > . قال في " شرح الإبانة " : وروى زيد بن عليّ بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ؛ أنَّ قاطع الطريق ، إذا تابَ قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام . ضمن المال واقتص منه . ثم قال : أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود . انتهى . وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : نزلت في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل .
وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ ، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 35 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا } -أي اطلبوا - : { إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أي : القربة - كذا فسَّره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد . وقال قتادة : أي : تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه . وقرأ ابن زيد : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } . قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة , لا خلاف بين المفسرين فيه . وفي " القاموس وشرحه " : الوسيلة والواسلة , المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة . وقال الجوهري : الوسيلة , ما يتقرب به إلى الغير . والتوسيل والتوسل الواحد . يقال : وَسَّل إلى الله تعالى توسيلاً , عمل عملاً تقرب به إليه , كتوسل . و ( إلى ) يجوز أن يتعلق بـ ( ابتغوا ) وأن يتعلق بـ ( الوسيلة ) .
قدم عليها للاهتمام به : { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : بسبب المجاهدة في سبيله . وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس .
تنبيه :
ما ذكرناه في تفسير " الوسيلة " هو المعوّل عليه . وقد أوضح إيضاَحاً لا مزيد عليه , تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في " كتاب الوسيلة " فرأينا نقل شذرة منه , إذ لا غنى للمُحَقِّقِ في علم التفسير عنه .
قال رحمه الله بعد مقدّمات :
إن لفظ الوسيلة والتوسل , فيه إجمال واشتباه , يجب أن تعرف معانيه ويعطى كلّ ذي حقٍ حقه . فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه . وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك . ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه . فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها ، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب . فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } وفي قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 56 - 57 ] . فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه ، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه ، هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات ، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب ، وما ليس بواجب ولا مسحب لا يدخل في ذلك ، سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً ، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب واستحباب . وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول . فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها ، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول ، لا وسيلة لأحد إلى الله إلاَّ ذلك .
و الثاني - لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : < سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلاَّ لعبد من عَبَّاد الله . وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد . فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة > . وقوله : < من قال حين يسمع النداء : اللهم ! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ! آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة > . فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة . وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عَبَّاد الله . وهو يرجو أن يكون ذلك العبد ، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة . لأن الجزاء من جنس العمل . فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هُوَ لَهُم . فإن الشفاعة نوع من الدعاء . كما قال : إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً . وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة ، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته . والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به . كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين . ومن يعتقدون فيه الصلاح . وحينئذ ، فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين . ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة . فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء ، فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته . والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم . فهذان جائزان بإجماع المسلمين . ومن هذا قول عُمَر بن الخطاب : اللهمّ إنّا كنا أجدبنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا . أي : بدعائه وشفاعته . وقوله تعالى : { وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } أي : القربة إليه بطاعته . وطاعةُ رسوله طاعته ؛ قال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، فهذا التوسل الأول هو أصل الدين ، وهذا لا ينكره أحدٌ من المسلمين . وأمَّا التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسّل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسّل به إلى التوسل بعمه العباس ؛ ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس . فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس ، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته . بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له ، فإنه مشروع دائماً .
فلفظ التوسل يراد به ثلاث معان :
أحدهما : التوسّل بطاعته . فهذا فرض لا يتمّ الإيمان إلاّ به .
و الثاني : التوسّل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته ، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته .
و الثالث : التوسّل به . بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته . فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا في مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم . وإنما ينقل شيءٌ من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة . أو عن مَن ليس قوله حجة ، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه ، إنه لا يجوز . ونهوا عنه حيث قالوا : لا يسأل بمخلوق ، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بـ " شرح الكرخي " في باب الكراهة : وقد ذكر هذا غير واحدٍ من أصحاب أبي حنيفة . قال بشر بن الوليد : حدّثنا أبو يوسف قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحدٍ أن يدعوا إلاّ به . وأكره أن يقول : بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك . وهو قول أبي يوسف . قال أبو يوسف : بمعقد العز من عرشه هو الله . فلا أكره هذا . وأكره أن يقول : بحق فلانٍ ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام . قال القدوري : المسألة بخلقه لا تجوز . لأنه لاحق للخلق على الخالق . فلا تجوز وفاقاً .
وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه - من أن الله لا يسأل بمخلوق - له معنيان : أحدهما هو موافق السائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق ، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق ، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق ، أولى وأحرى . وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1 ] ، { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً } [ النازعات : 1 ] ، { وَالصَّافَّاتِ صَفّاً } [ الصافات : 1 ] - فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ، ما يحسن معه إقسامه . بخلاف المخلوق ، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها . كما في " السنن " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من حلف بغير الله فقد أشرك > . وقد صححه الترمذي وغيره . وفي لفظ : < فقد كفر > . وقد صححه الحاكم . وقد ثبت عنه في " الصحيحين " أنه قال : < من كان حالفاً فليحلف بالله . وقال : لا تحلفوا بآبائكم . فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم > . وفي " الصحيحين " عنه أنه قال : < من حلف باللات والعزّى فليقل : لا إله إلاَّ الله > . وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة ، أو بما يعتقد هو حرمته -كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وسراويل الفتوّة وغير ذلك . . . - لا ينعقد يمينه ، ولا كفارة في الحنث بذلك . والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد . وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 36 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } من الأموال وغيرها : { جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ } أي : ليفادوا به أنفسهم : { مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم ، وإنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه .
وقد روى البخاري عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم . فيقال له : قد كنتَ سُئلْتَ ما هو أيسر من ذلك : أن لا تشرك بي . فيُؤمر به إلى النار > . ورواه مسلم وغيره بنحوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ 37 ]
{ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } دائم لا ينقطع . وهذا كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } [ السجدة : 20 ] الآية .
روى ابن مردويه عن يزيد بن صهيب الفقير ، عن جابر بن عبد لله . أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة > . قال ، فقلت لجابر بن عبد الله ، يقول الله : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا } قال : اتل أوّل الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } . . الآية ، ألا إنهم الذين كفروا . وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجهٍ آخر . عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقاً .
زاد ابن أبي حاتم : قال جابر : أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى . قد جمعته قال : أليس الله يقول : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] ؟ فهو ذلك المقام ، فإن الله تعالى يحبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء ، لا يكلمهم ، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم .
ولما أوجب تعالى -في الآية المتقدمة -قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة - بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 38 ]
{ وَالسَّارِقُ } أي : من الرجال : { وَالسَّارِقَةُ } أي : من النساء : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } يعني يمين كل منهما ، والمقطع الرسغ ، كما بينته السنّة : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } أي : يقطع الآلة الكاسبة : { نَكَالاً } أي : عقوبةً : { مِنَ اللَّهِ } أي : على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى ، لا في مقابلة إتلاف المال ، فإنه غير السرقة . فلذلك لا يسقط بعفو المالك ، بخلاف العفو عن المال . ولا يبالي فيه بعزة السارق ، لأنه تعالى غالب على أمره يمضيه كيف يشاء ، كما قال : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : فلا يبالي - مع عزته الموجبة لامتثال أمره - عزّة مَنْ دونه : { حَكِيمٌ } في شرائعه ، فيختل أمر نظام العالم بمخالفة أمره ، إذ فيه نفع عام للخلائق .
وفي الآية مسائل :
الأولى - قال أبو السعود : لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال ، صرح بالسارقة أيضاً ، مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريقة الدلالة . لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر . انتهى .
ولما كانت غلبة السرقة في الرجال ، لقوتهم بدأ بالسارق . كما أن غلبة الزنى لما كانت في النساء لفرط شهوتهن - قال في آية الزنى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } .
الثانية - قال ابن كثير : روى الثوري بسنده إلى ابن مسعود ، أنه كان يقرؤها : والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما . وهذه قراءة شاذة . وكان الحكم عند جميع العلماء موافقاً لها لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر ؛ وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام ، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى . كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح ، ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش ، قطعوا رجلاً يقال له ( دويك ) مولى لبني مليح بن عَمْرو من خزاعة ، كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده .
الثالثة : ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به ، سواء كان قليلاً أو كثيراً ، لعموم هذه الآية : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } . فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً . بل أخذوا بمجرد السرقة .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } . أخاص أم عام ؟ فقال : بل عام . . وهذا يحتمل أن يكون موافقة لابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل ذلك ، فالله أعلم .
وتمسكوا بما ثبت في " الصحيحين " عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده > .
وأما الجمهور فاعتبروا النصاب ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره .
فعند الإمام مالك : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة . فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه ، وجب القطع . واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في " الصحيحين " قال مالك رحمه الله : وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قوّمت بثلاثة دراهم . وهو أحب ما سمعت في ذلك .
قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر . فمن مثله يحكي الإجماع السكوتي . وفيه دلالة على القطع الثمار ، خلافاً للحنفية ، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافاً لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم ، وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم . وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار ، أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً ، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان من طريق الزهري عن عَمْرة عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً > . ولمسلم عنها أيضاً : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً > . قال الشافعية : هذا الحديث فاصل في المسألة ، ونصَّ في اعتبار ربع الدينار لا ما سواه . قالوا : وحديث ثمن المجنّ ، وإن كان ثلاثة دراهم ، لا ينافي هذا ، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً . فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق . ويروى هذا المذهب عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وبه يقول عُمَر بن عبد العزيز والليث والأوزاعي وإسحاق ( في رواية عنه ) وأبو ثور وداود الظاهري ، رحمهم الله .
وذهب الإمام أحمد وإسحاق ( في رواية ) إلى أنّ كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مردّ شرعي . فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه قطع ، عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة . ووقع في لفظٍ عند الإمام أحمد عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك . وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهماً . وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل لعائشة : ما ثمن المجنّ ؟ قالت : ربع دينار . فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه ، وكذا سفيان الثوري ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة . واحتجوا بأن ثمن المجنَّ الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم ، وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجنّ > .
وكان ثمن المجنَّ عشرة دراهم . قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عَمْرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجنّ . فالاحتياط الأخذ بالأكثر ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات .
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما بلغ قيمة واحد منهما . يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النَّخَعِي وأبي جعفر الباقر ، رحمهم الله تعالى .
وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلاَّ في خمس . أي : في خمسة دنانير أو خمسين درهماً . وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله .
وقد أجاب الجمهور - عما تمسك بها الظاهرية من حديث أبي هريرة : يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده - بأجوبة :
أحدها - أنه منسوخ بحديث عائشة . وفي هذا نظر لأنه لا بد من بيان التاريخ .
و الثاني - أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن . قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه .
والثالث - أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده . ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في الكثير والقليل . فلعن السارق يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة .
وقد ذكروا أن أبا العلاء المعرّي ، لما قدم بغداد ، اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار في ذلك شعراً فقال :
~يد بخمسِ مئين عسجد وُدِيَتْ ما بالها قطعت في ربع دينار ؟
وقد أجابه الناس في ذلك ؛ فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال : لما كانت أمنية ، كانت ثمينة . ولما خانت هانت ، ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة . فإن في باب الجنايات ، ناسب أن تَعْظُمَ قيمة اليد بخمسمائة دينار ، لئلا يجنى عليها . وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ، ولهذا قال : { جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : مجازاة على صنيعهما السّيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك . كذا في تفسير ابن كثير .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره في كتابه " السياسة الشرعية " : وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع . قال الله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } الآية . ولا يجوز ، بعد ثبوت الحدّ عليه بالبينة أو الإقرار ، تأخير ه . لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره . بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها . فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله . وينبغي أن يعرف أن إقامة الحدّ رحمة من الله بعباده . فيكون الوالي شديداً في إقامة الحدّ ، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات ، لا إشفاء غيظه وإرادة العلوّ على الخلق . بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده . فإنه لو كف عن تأديب ولده ، كما تستر به الأم رقة ورأفة ، لفسد الولد . وإنما يؤدبه رحمةً وإصلاحاً بحاله . مع أنه يودّ ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب . وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه . وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك . بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه ، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة . فكذلك شرعت الحدود . وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها ، فإن من كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات ، بجلب المنفعة لهم ورفع المضرة عنهم وابتغائه بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره -ألان اللهَ له القلوب وتيسرت له أسباب الخير . وكفاه العقوبة اليسيرة . وقد يَرضى المحدود إذا قام عليه الحدّ . وأما إذ كان غرضه العلوّ عليهم وإقامة بأسه ليعطوه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال -انعكس عليه مقصوده .
ويروى أن عُمَر بن عبد العزيز ، رحمه الله ، قبل أن يلي الخلافة كان نائباً للوليد ابن عبد الملك على مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان قد ساسهم سياسة صالحة ، فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب ، فسأل أهل المدينة عن عمر : كيف هيبته فيكم ؟ قالوا : ما نستطيع أن ننظر إليه هيبة له ! قال : كيف محبتكم له ؟ قالوا : هو أحب إلينا من أهلنا ! قال كيف أدبه ؟ قالوا : ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة ... قال : هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه ! هذا أمر من السماء . وإذا قطعت يده حسمت ، ويستحب أن تعلق في عنقه . فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى . فإن سرق ثالثاً أو رابعاً ، ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء :
أحدهما : تقطع أربعته في الثلاثة والرابعة ، وهو قول أبي بكر ، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه ، والكوفيين وأحمد في إحدى الروايتين .
و الثاني : أنه يحبس . وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى . وتتمة مباحث السرقة مقررة في كتب السنة .
الرابعة : قرأ الجمهور برفع ( السارق والسارقة ) على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : وفيما يتلى عليكم - أو فرض عليكم - السارق والسارقة ، أي : حكمها ، أو الخبر قوله تعالى : { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط . إذ المعنى : الذي سرق والتي سرقت . وقرأ عيسى بن عُمَر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة الرفع ، لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بتأويل وإضمار ، كذا اشتهر عن سيبويه .
قال الناصر في " الانتصاف " : المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبداً على العدول عن الأفصح .
وجدير بالقرآن أن يجري على أفصح الوجه ، وأن لا يخلو من الأفصح ، وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها . وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن . ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل . قال سيبويه في ترجمة " باب الأمر والنهي " بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب : وملخصها أنَّه متى بني الاسم على فعل الأمر ، فذلك موضع اختيار النصب . ثم قال كالموضّح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب : وأما قوله عز وجل : { السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } الآية ، وقوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } [ النور : 2 ] . فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [ محمد : 15 ] . ثم قال بعد : فيها كذا وكذا . يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها . ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنياً على الفعل . وأما في هذه الآي فليس بمبنيٍّ عليه . فلا يلزم فيه اختيار النصب .
عاد كلامه قال : وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده . فذكر أخباراً وقصصاً . فكأنه قال : ومن القصص : مثل الجنة . فهو محمول على هذا الإضمار . والله أعلم . وكذلك : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } لما قال جل ثناؤه : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ْ } [ النور : 1 ] . قال في جملة الفرائض : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } -ثم جاء - : { فَاجْلِدُوا } . بعد أن مضى فيهما الرفع ، يريد سيبويه : لم يكن الاسم مبنياً على الفعل المذكور بعد ، بل بني على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئاً .
عاد كلامه قال كما جاء : وقائلة خَوْلانُ فانكِحْ فَتَاتَهُمْ فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر ؛ وكذلك : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وفيما فرض عليكم السارقة والسارق . فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث . وقد قرأ ناس والسَّارقََ والسَّارِقَةََ . بالنصب ، وهو في العربية ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلاّ الرفع .
يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنياً على الفعل غير معتمد على متقدم ، فكان النصب قوياَ بالنسبة إلى الرفع ، حيث يبني الاسم على الفعل لا على متقدم . وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع ، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم ، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب ، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه ، والباب مع القراءتين مختلف ؟ وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب . فالنصب أرجح من الرفع حيث ينبني الاسم على الفعل . والرفع متعين ( لا أقول أرجح ) حيث بنى الاسم على كلام متقدم .
ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار . ولو كان كما ظنّه الزمخشري ، لم يحتج سيبويه إلى تقديرٍ بل كان يرفعه على الابتداء ، ويجعل الأمر خبره ، فالملخّص على هذا : أن النصب على وجه واحد ، وهو بناء الاسم على فعل الأمر . والرفع على وجهين : أحدهما ضعيف وهو الابتداء وبناء الكلام على الفعل . والآخر قوي بالغ كوجه النصب -وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دلّ عليه السياق . وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع ، أحدهما قوي والآخر ضعيف ، تعينّ حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رضي الله عنه . والله أعلم . انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 39 ]
{ فَمَنْ تَابَ } أي : رجع من السُّرَّاق إلى الله : { مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ } أي : سرقته : { وَأَصْلَحَ } أي : علمه : { فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } أي : يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : مبالغ في المغفرة ولذلك يقبل توبته . وهو تعليل لما قبله .
قال أبو السعود : وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة .
وكذا في قوله عزّ وجل :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 40 ]
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فإن عنوان الألوهية مدارُ أحكام ملكوتهما . والاستفهام لتقرير العلم . والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمّه . أي : ألم تعلم أن له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما : { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } وتقديم التعذيب لأن السياق للوعيد . فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ومنه التعذيب والمغفرة .
تنبيه :
ذهب الجمهور إلى أن توبة السارق تُسُقط عنه حدود الله . وأما حقّ الآدمي من القطع وردّ المال أو بدله فلاَ يَسْقط بتوبته .
وقال أبو حنيفة : متى قطع ، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها . وقد بينت السنة أنه إن عفي عنه قبل الرفع إلى الإمام ، سقط القطع .
روى ابن ماجة عن ثعلبة الأنصاري : أن عُمَر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني سرقت جملاً لبني فلان فطهِّرني . فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملاً لنا . فأمر به فقطعت يده . قال ثعلبة ( أحد رجال السند ) : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك . أردت أن تدخلي جسدي النار . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو : أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا . يا رسول الله ! إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها فنحن نفديها ( يعني أهلها ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اقطعوا يدها > . فقطعت يدها اليمنى ، فقالت المرأة : هل لي من توبة ؟ يا رسول الله ! قال : < نعم ، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك > . فأنزل الله عز وجل في سورة المائدة : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } . . الآية .
قال ابن كثير : وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت . وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عائشة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح . ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه . قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها ، تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أتكلمني في حد من حدود الله ؟ قال أسامة استغفر لي ، يا رسول الله ؟
فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد . فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . والذي نفس محمد بيده ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها ، فحسنت توبتها بعد ذلك . وتزوجت .
قالت عائشة : فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجاتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لفظ مسلم . وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها . وعن ابن عُمَر . قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جاراتها وتجحده . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها . رواه الإمام أحمد . وأبو داود النسائي ، وهذا لفظه . وفي لفظ له : إنّ امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا بلال ! فخذ بيدها فاقطعها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 41 ]
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ } نهيٌ . قال أبو البقاء : والجيد فتح الياء وضم الزاي . ويقرأ بضم الياء وكسر الزاي من ( أحزنني ) وهي لغة { الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } أي : في إظهاره بما يلوح منهم آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين : { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : بألسنتهم . متعلق بـ ( قالوا ) : { وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم } وهم المنافقون ، أي : لا تبال بهم فإني ناصرك عليهم : { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } عطف على : { مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ } وهم يهود بني قريظة ، كعب وأصحابه : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } خبر لمحذوف ، أي : هم سماعون . واللام إما لتقوية العمل ، وإما لتضمين السماع معنى القبول ، وإما لام كي ، والمفعول محذوف ؛ والمعنى : هم مبالغون في سماع الكذب الذي افترته أحبارهم أو في قبوله . أو سماعون أخباركم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص إرجافاً وتهويلاً .
وفي " الإكليل " : أن قوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } يدلّ على أن سامع المحظور كقائله في الإثم .
{ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : لم يحضروا مجلسك وتجافَوْا عنه إفراطاً في البغضاء . أي : قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك . قيل : هم يهود خيبر . والسماعون ، بنو قريظة : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } أي : كلم التوراة في الأحكام : { مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : التي وضعه الله عليها .
قال ابن كثير : أي : يتناولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا } أي : إن أوتيتم هذا المحرّف المزال عن مواضعه من جهة الرسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَخُذُوهُ } أي : اعملوا به فإنه الحق : { وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ } . بأن أفتاكم الرسول بخلافه : { فَاحْذَرُوا } أي : من قبوله ، وإياكم وإياه ! فإنه الباطل والضلال . قال ابن كثير : قيل نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً وقالوا تعالوا نتحاكم إلى محمد . فإن حكم بالدية فاقبلوه . وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .
والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا . وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم . فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبَيْن . فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه . فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله . ويكون نبياً من أنبياء الله قد حكم بذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك : فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال : جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما تجدون في شأن الرجم > ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم . إنَّ فيها الرجم . فأَتَوْا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم . فقالوا : صدق , يا محمد , فيها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما . فقال عبد الله بن عُمَر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة . وأخرجاه في الصحيحين . وهذا لفظ الموطأ .
وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال : مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمَّم مجلود . فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقالوا نعم . فدعا رجلاً من علمائهم فقال : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ! هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقال : لا ، والله ! ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم . ولكنه كثر في أشرافنا . فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه . وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد . فقلنا تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع . فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < اللهم ! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه > . قال : فأمر به فرجم قال : فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله - : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } . أي : يقولون : إيتوا محمداً . فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه . وإن أفتاكم بالرجم فأحذروا . قال الحافظ ابن كثير : انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري . أبو داود والنسائي وابن ماجة . وكذلك روى أبو بكر الحميدي في " مسنده " نحوه في سبب نزولها عن جابر . وأبو داود أيضاً ، عن ابن عمر .
{ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } أي : ضلالته : { فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } أي : في دفع ضلالته : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي : من دنس الفتنة ووضر الكفر لانهماكهم فيهما . وإصرارهم عليهما , وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية : { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي : فضيحة وهتك ستر, بظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين . وذل وجزية وافتضاح ، بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود : { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ 42 ]
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : بالباطل . خبر لمحذوف . وكرر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لقوله : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي : الحرام . وهو الرشوة كما قال ابن مسعود .
قال الزمخشري : السحت كل ما لا يحل كسبه . وهو من ( سَحَتَهُ ) إذا استأصله . لأنه مسحوت البركة . كما قال تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا } [ البقرة : 276 ] . والربا باب منه . وقرئ ( السحت ) بالتخفيف والتثقيل ، و ( السحت ) بفتح السين على لفظ المصدر من ( سحته ) ، و ( السحت ) بفتحتين ، و ( السحت ) بكسر السين ، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام . انتهى .
وفي " اللباب " : السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره . وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخيفه لا محالة . ومعلوم أن حال الرشوة كذلك . فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم .
أخرجه الترمذي . وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص .
قال ابن مسعود : الرشوة في كل شيء . فمن شفع شفاعة ليردّ بها حقّاً أو يدفع بها ظلماً . فأهدي بها إليه ، فقبل ، فهو السحت . فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ! ما كنا نرى ذلك إلاّ الأخذ على الحكم ؟ فقال : الأخذ على الحكم كفر ! قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } .
{ فَإِنْ جَاءُوكَ } يعني اليهود لتحكم بينهم : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } لأنهم اتخذوك حكماً : { أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم ، أي : فأنت بالخيار . وقد استدل بالآية من قال : إن الإمام مخيّر في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم . وعن بعض السلف : إنّ التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } والتحقيق أنها محكمة ، والتخيير باق .
وهو مرويّ عن الحسن والشعبيّ والنخعي والزهريّ ، وبه قال أحمد . لأنه لا منافاة بين الآيتين . فإن قوله تعالى : { فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فيه التخيير . وقوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } فيه كيفية الحكم ، إذا حكم بينهم : { وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي : فلن يقدروا على الإضرار بك ، لأن الله تعالى عاصمك من الناس : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ، أي : بالعدل الذي أمرت به ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : العادلين فيما وَلُو وحكموا .
روى مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن . وكلتا يديه . الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماوَلُوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [ 43 ] : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه . مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذين يدعون الإيمان به .
قال بعضهم : معنى : { فِيهَا حُكْمُ اللّهِ } أي : في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهو حكم الله بحسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة . قال : ووجود هذا الحكم الخاص فيها , لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة فيها محرفة . وسمّاها التوراة : إما باعتبار عرفهم . أو باعتبار أصلها , أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية . ولولا ذلك ما صحّ أن تسمى بذلك , كالإنجيل , مع اعتقاد تحريفها وتبديلها وعدم صحة كثير من أجزائها وكتبها . . .
{ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد البيان في التوراة , وحكمك الموافق لما في كتابهم : { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } أي : بالتوراة كما يزعمون .
قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقّاً إلى ما يعتقده غيرَ حقٍّ . وقوله تعالى : { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } يدلّ على أن التوليّ عن حكم الله يخرجه عن الإيمان .
قال بعض الزيدية : إذا كره حكم الشرع وطلب المنع ، هل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان ؟ وهذا ينبغي أن يفصل فيه ، فيقال : إن اعتقد صحته ، أو رأى له مزية أو تعظيماً . أو استهان بحكم الإسلام ، فلا إشكال في كفره . وإن لم يحصل ذلك منه ، بل اعتقد أنه باطل خسيس ، وأنه يعظم شرع الإسلام ، ولكن يميل إلى هوى نفسه ، فهذا لا يكفر على الظاهر . إذا الكفر يحتاج إلى دليل قاطع .
وفي كلام الحاكم ما تقدم : أنه يخرجه عن الإيمان . فإن أوهم أنه حق أو أنه أصلح من شرع الإسلام ، فهذا محتمل للكفر . لأنه كفر إبليس اللعين ، بكونه اعتقد أن أمر الله تعالى له بالسجود لآدم ، غير صلاح . لكونه خلقه من طين ، وإبليس من النار . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرّفونها ، ويقتلون النبيين ، بأنهم خالفوا ما أمرهم الله في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ 44 ]
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً } أي : إرشادٌ إلى الحق : { وَنُورٌ } أي : إظهار لما انْبَهَمَ من الأحكام : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } من بني إسرائيل : { الَّذِينَ أَسْلَمُوا } أي : الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهم السلام . وسنذكر سرّ هذه الصفة : { لِلَّذِينَ هَادُوا } وهم اليهود . و ( هاد ) بمعنى تاب ورجع إلى الحق .
قال المهايميّ : { لِلَّذِينَ هَادُوا } أي : لا لمن يأتي بعدهم . ولم يختص بالحكم بها الأنبياء بل يحكم بها : { وَالرَّبَّانِيُّونَ } أي : الزهّاد العبّاد : { وَالْأَحْبَارُ } أي : العلماء الفقهاء : { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } أي : بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل وأن يقضوا بأحكامه . والضمير في ( اسْتُحْفِظُوا ) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً . ويكون الاستحفاظ من الله ، أي : كلفهم حفظه . أو للربانيين والأحبار ، ويكون الاستحفاظ من الأنبياء : { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي : رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه . أو بأنه حق وصدق من عند الله . فمُعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها ، لشيوعه وتداوله وتواتر العمل به .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : قوله تعالى : { الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح . كالصفات الجارية على القديم سبحانه . لا للتفصلة والتوضيح . وأريد بإجرائها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث ، وأن اليهودية بمعزل منها . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح ، أنَّ الأنبياء لا يكونون إلا متّصفين بها . فذكر النبوّة يستلزم ذكرها . فمن ثَمَّ حمله على المدح ، وفيه نظر . فإن المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة التي يميّز بها الممدوح عمن دونه . والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم . ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلاً مسلماً ؟ فإن أقل متبعيه كذلك . فالوجه - والله أعلم - أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوّه بها إذا وصف لها عظيم القدر . كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها . فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها . وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] . وأمثاله . تنويهاً بمقدار الصلاح . إذ جُعِل صفةَ الأنبياء . وبعثاً لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته . وكذلك قيل في قوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [ غافر : 7 ] . فأخبر ، عن الملائكة المقربين ، بالإيمان . تعظيماً لقدر الإيمان وبعثاً للبشر على الدخول فيه ، ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة . وإلاّ فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلاّ . ولهذا قال : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } يعني من البشر لثبوت حقّ الأخوة في الإيمان بين الطائفتين فكذلك - والله أعلم - جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به . لقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف ، والناظم في مدحه صلى الله عليه وسلم :
~فلئن مدحتُ محمداً بقصيدتي فلقد مدحتُ قصيدتي بمحمّدِ
والإسلام ، وإن كان من اشرف الأوصاف ، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه ، إلاَّ أن النبوة أشرف وأجلّ ، لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة . فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة ، في سياق المدح ، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز ، وفي كلام العرب الفصيح ، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، لا النزول على العكس . ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله :
~شمس ضحاها هلال ليلتها درّ تقاصيرها زبرجدها !
فنزل عن الشمس إلى الهلال ، وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح . فمضغت الألسن عرض بلاغته ، ومزقت أديم صيغته . فعلينا أن نتدبّر الآيات المعجزات ، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوّها في البلاغة المعهود لها . والله الموفق .
وقوله تعالى : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ } قال الزمخشري : نهيٌ للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها ، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء .
وقال أبو السعود : خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات . وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة . والفاء لترتيب النهي على ما فصل من حال التوراة وكونها معتنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ، ومن يقتدي بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملاً وحفظاً . فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأيّ وجهٍ كان . فضلاً عن التحريف والتغيير . ولما كان مدار جراءتهم على ذلك ، خشية ذي سلطان أو رغبة في الحظوظ الدنيوية ، نهوا عن كل منهما صريحاً ، أي : إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائناً من كانوا ، واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم : { وَاخْشَوْنِ } في مخالفة أمري والإخلال بحقوق مراعاتها : { وَلا تَشْتَرُوا } أي : تستبدلوا : { بِآيَاتِي } أي : التي فيها ، بأن تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها : { ثَمَناً قَلِيلاً } من الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، فإنها - وإن جلّت -قليلة مسترذلة في نفسها ، لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } أي : كائناًَ من كان ، دون المخاطبين خاصة ، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أوليّاً . أي : من لم يحكم بذلك مستهيناً به ، منكراً له كما يقتضيه ما فعلوه اقتضاءً بيّناً : { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لاستهانتهم به . والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير عن الإخلال به أشدّ تحذير . حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى . فكيف وقد انضمّ إليه الحكم بخلافه ؟ لا سيما مع مباشرة ما نهموا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه ، وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً . قاله أبو السعود .
تنبيهات :
الأول : في قوله تعالى : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ } دلالة على أنّ على الحاكم أن لا تأخذه في الله لومة لائم .
الثاني : في قوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ ... } الخ دلالة على تحريم الرشا على التبديل . وكتمان الحقّ ، وأنّ فِعْلَ ذلك ، لغرضٍ دنيويٍِ من طلب جَاه ، أو مال - محرّمٌ .
الثالث : في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } الآية ، تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه ، حيث علق عليه الكفر هنا ، والظلم والفسق بعدُ . الرابع : ما أخرجه مسلم عن البراء : أن قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ } . الثلاث الآيات في الكفار كلها . وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس : أنها في اليهود خاصة ، قريظة والنضير - لا يناف تناولها لغيرهم ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكلمة : { مَن } وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم .
الخامس : كفر الحاكم بغير ما أنزل بقيد الاستهانة به والجحود له ، هو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عِكْرِمَة وابن عباس .
وروى الحاكم وابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن ابن عباس وطاوس : أن من لم يحكم بما أنزل الله ، هي به كفر ، وليس بكفر ينقل عن الملة . كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . ونحو هذا روى الثوريّ ، عن عطاء قال : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
ونقل في " اللباب " عن ابن مسعود والحسن والنخعيّ : أن هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة ، فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله ، فقد كفر وظلم وفسق . وإليه ذهب السدّي . لأنه ظاهر الخطاب . ثم قال : وقيل : هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عياناً عمداً ، وحكم بغيره . وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل ، فلا يدخل في هذا الوعيد . . انتهى .
وقال إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " : ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا - يعني اليهود -واخترع حكماً يخالف به حكم الله ، وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور ، حاكماً كان أو غيره .
السادس : روي سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات .
أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } و : { أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } و : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } في الطائفتين من اليهود . وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسين وسقاً ، وكل قتيل قتله الذليلةُ من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلّت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويومئذٍ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح . فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً . فأرسلت العزيزة إلى الذليلة : أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان في حيين قط ، دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ، ديةُ بعضهم نصف دية بعض ؟ إنا إنما أعطيناكم هذا ضمياً منكم لنا وفَرَقاً منكم . فأما إذْ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم . ثم ذكرت العزيزة فقالت والله ! ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منهم ، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم . فدُسّوا إلى محمد من يَخْبُرُ لكم رأيه . إن أعطاكم ما تريدون حكمتوه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ، فَدَسّوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافين ليخبُروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كلِّه وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } -إلى قوله - : { الْفَاسِقُونَ } ثم قال : فيهما ، والله ! نزلت ، وإياهم عنى الله عز وجلّ . ورواه أبو داود بنحوه .
وروى ابن جرير من طريق أخرى عن ابن عباس قال : إن الآيات في المائدة قوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } -إلى - : { الْمُقْسِطِينَ } إنما أنزلت في الدية في بني النضير وقريظة . وذلك أن قتلى بني النضير ، وكان لهم شرف يُؤدِّي الدية كاملة . وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية . فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم . فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء . ورواه أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه .
وروى ابن جرير أيضاً عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير . وكانت النضير أشرف من قريظة . فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قُتِل به . وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ، وُدِيَ بمائة وسق من التمر . فلما بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجلٌ من النضير رجلاً من قريظة . فقالوا : ادفعوا إليه ، فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ورواه أبو داود والنسائيّ وابن حبان والحاكم في " المستدرك " بنحوه . وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد . وقد روى العوفيّ وعليّ بن أبي طلحة الوالبيّ عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في اليهوديين اللذين زنيا , كما تقدمت الأحاديث , وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد . فنزلت هذه الآيات في ذلك كله , والله أعلم . انتهى كلام ابن كثير .
وقد أسلفنا في " المقدمة " في بحث سبب النزول ، ما يزيل الإشكال في تعدد السبب . فتذكر . ومما يقوى أن سبب النزول قضية القصاص - كما قال ابن كثير - قوله تعالى بعد ذلك :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 45 ]
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } أي : فرضنا على اليهود في التوراة : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } . أي : مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق : { وَالْعَيْنَ } مفقوءة : { بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ } مجدوع : { بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ } مقطوعة : { بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ } مقلوعة : { بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } أي : ذات قصاص ، أي : يقتص فيها إذا أمكن . كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا - ككسر عظم وجَرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته - فلا قصاص ، بل فيه حكومة عدل .
تنبيهات :
الأول : هذه الآية مما وُبِّخَتُ به اليهود أيضاً وَقُرِّعت عليه . فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس ، وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً . فأقادوا النضريّ من القرظيّ ، ولم يُقِيدوا القرظي من النضري . وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ، ولهذا قال هناك : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً . وقال ههنا - في تتمة الآية : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه . فخالفوا وظلموا ، وتعدوا على بعضهم بعضاً - أفاده ابن كثير . . الثاني - قوله تعالى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } والمعطوفات بعده ، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة ، والرفع للعطف على محل : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء ( كتبنا ) مجرى ( قلنا ) وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك ( النَّفْسُ بالنَّفْسِ ) مما يقع عليه ( الكتب ) كما تقع عليه ( القراءة ) ، تقول : كتبت الحمد لله ، وقرأت سورة أنزلناها . ولذلك قال الزجاج : لو قُرئ : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } بالكسر لكان صحيحاً . كذا في " الكشاف " . وقد توسع الخفاجي في " العناية " في بحث الرفع - هنا - على عادته في النحويات فانظره إن شئت .
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } نصب النفس ورفع العين ، قال الترمذي : حسن غريب . وقال البخاريّ : تفرد ابن المبارك بهذا الحديث .
الثالث : استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا - إذا حكي مقرراً ولم ينسخ ؛ كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الأسفراييني عن نص الشافعي وأكثر أصحابه - بهذه الآية . حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصريّ : هي عليهم وعلى الناس عامة . رواه ابن أبي حاتم . وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه " الشامل " اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه .
الرابع : قال ابن كثير : احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يُقتل بالمرأة . بعموم هذه الآية الكريمة . وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عَمْرو بن حزم : أن الرجل يُقتل بالمرأة .
وفي الحديث الآخر : المسلمون تتكافأ دماؤهم . وهذا قول جمهور العلماء . وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وحكي عن الحسن وعثمان البستيّ ، ورواية عن أحمد ، أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل يجب ديتها . وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أن يقتل المسلم بالكافر الذميّ ، وعلى قتل الحرّ بالعبد . وقد خالفه الجمهور فيهما . ففي " الصحيحين " عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يقتل مسلم بكافر > . وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة . إنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحرّ ، ولا يقتل حرّ بعبد . وجاء في ذلك أحاديث لا تصح . وحكى الشافعيّ الإجماع . على خلاف قول الحنفية في ذلك . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقدير شرعنا . كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس : كتاب القصاص ؛ استدل بعموم ( النفس بالنفس ) من قال بقتل المسلم بالكافر ، والحرّ بالعبد ، والرجل بالمرأة . وأجاب ابن الفرس بأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون ، لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملّةً واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر ، وكانوا أحراراً لا عبيدَ فيهم ، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين سائر الأنبياء . لأن الاستعباد من الغنائم . ولم تحلّ لغيره . وعقد الذمة لبقاء الكفار . ولم يقع ذلك في عهد نبيّ . بل كان المكذبون يهلكون جميعاً بالعذاب . وأخّر ذلك في هذه الأمة رحمة . وهذا جواب مبين .
وقوله : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } استدل به في كل جرحٍ قيل بالقصاص فيه - كاللسان والشفة وشجاج الرأس والوجه وسائر الجسد -وعلى أن نتف الشعر والضرب لا قصاص فيه ، إذ ليس بجرح . انتهى . وقال بعض الزيدية في " تفسيره " : مذهب أئمة البيت ومالك والشافعي ؛ أنه لا يقتل المسلم بالكافر . وقال أبو حنيفة : يُقتل به ، لا بالحربيّ ولا بالمستأمن من الحربيين أخذاً بعموم الآية . قلنا : هي مخصصة بقوله في سورة الحشر : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } . وهذا يقتضي نفي المساواة عموماً . قالوا : أراد ( في الآخرة ) . قلنا قال الله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ النساء : 141 ] . قالوا : ليس هذا على عمومه فإنَّ له أخذ الدَّين منه ، وذلك سبيل . قلنا قال صلى الله عليه وسلم : لا يقتل المؤمن بكافر . فعمّ . قالوا أراد بكافر حربيّ . بدليل أن في آخر الخبر : ولا ذو عهد في عهد . والمعنى : لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي عوهد ، بالكافر الذي لا عهد له . قلنا قد تمت الجملة الأولى وهي قوله عليه السلام : لا يقتل المؤمن بكافر . وأما قوله : ولا ذو عهد في عهد ، فهذه جملة أخرى . يريد : لا يقتل ما دام في العهد . مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة فالمراد : لا يُقتل مؤمن بأحد من الكفار عموماً . وكذلك المعاهد لا يقتل بأحد من الكفار عموماً . فقامت الدلالة على أن المعاهد ، يُقتل ببعض الكفار . وبقي المؤمن على عمومه . وما قلنا مرويّ عن عليّ عليه السلام وزيد . وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة . انتهى .
الخامس : عموم قوله تعالى : { الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } كعموم قوله تعالى : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } . فما خصص ذلك العام ، خصصه هنا ، لكن ننبه على أطراف :
منها - : أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى ، والوجه عدم المساواة .
ومنها - : عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نصه في " الأحكام " ، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعيّ لعموم الآية . وقال في " المنتخب " ومالك : لا تؤخذ ، لأن نورها أكثر فتطلب المساواة . واحتجوا بأنه مرويّ عن عليّ عليه السلام وعمر وابن عمر وعثمان ؛ قال في " الشرح " : وكان الإمام يحيى لا يصحح هذه الرواية عن عليّ عليه السلام .
ومنها - : في كيفية القصاص . فإن قلعت العين ثبت القصاص بالقلع . وإن ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص . قال في " التهذيب " : فقيل : بالقلع . وقيل : تحمى حديدة ثم تقرب من عينه .
وأما قوله تعالى : { وَالأَنفَ بِالأَنفِ } فالكلام في عمومه كما تقدم . ويذكر هنا تنبيه ، وهو أن القصاص إنما يكون إذا استؤصلت . لأن ذلك كالمفصل ، لا إذا قطع بعضها . والعموم في قوله تعالى : { وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ } أيضاً كما تقدم . والقصاص : إذا قطعت من أصلها لا إذا قطع البعض . ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصمّ .
وكذا عموم قوله تعالى : { وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } والقصاص : إذا قلع من أصله . ولا بد من المساواة . فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ولا بالمكسور . ولا الثنية بالضرس . ونحو ذلك . كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى .
وأما قوله تعالى : { وَالْجُرُوحَ } فهذا فيما تُمْكِنًُ فيه المساواة ، ويؤمن على النفس لتحرج الأمة .
كذا في " تفسير بعض الزيدية " . وتتمة فقه هذه الآية يرجع فيه إلى مطولات كتب السنة وشروحها .
وقوله تعالى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ } أي : من المستحقين : { بِهِ } أي : بالقصاص . أي : فمن عفا عن الجاني . والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب : { فَهُوَ } أي : التصدق { كَفَّارَةٌ لَهُ } أي : للمتصدق يكفر الله بها ذنوبه . وقيل : فهو كفارة للجاني ، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه . وهذا التأويل الثاني روي عن كثير من السلف . كما أخرجه ابن أبي حاتم . واللفظ محتمل . إلا أن الأخبار الواردة في فضل العفو تشهد للأول .
وروى الإمام أحمد عن عن الشعبيّ ؛ أن عُبَاْدَة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلاَّ كفّر الله عنه مثل ما تصدّق به > . ورواه النسائي أيضاً .
وروى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : من أصيب بشيءٍ من جسده فتركه لله ، كان كفارة له .
وروى الإمام ابن جرير عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار . فاندقّت ثنيّته . فرفعه الأنصاريّ إلى معاوية . فلما ألحّ عليه الرجل قال معاوية : شأنَك وصاحبك . قال ، وأبو الدرداء عند معاوية . فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من مسلمٍ يصاب بشيءٍ من جسده ، فيهبه ، إلاَّ رفعه الله به درجةً وحطَ عنه به خطيئة > . فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال سمعتْه أذناي ووعاه قلبي . فخلى سبيل القرشيّ . فقال له معاوية : مروا له بمال .
ورواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال القرشيّ : إن هذا دق سني , فقال معاوية : كلاَّ . إنا سنرضيه . قال فلما ألح عليه الأنصاري . قال معاوية : شأنك بصاحبك - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من مسلم يصاب بشيءٍ من جسده , فيتصدق به , إلاّ رفعه الله به درجة وحطَّ عنه بها خطيئة > . قال فقال الأنصاري : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم . سمعته أذناي ووعاه قلبي . يعني فعفا عنه الأنصاري . وهكذا رواه الترمذي وقال : غريب , ولا أعرف لأبي السفر سماعاًً من أبي الدرداء .
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم حكموا بخلاف حكم الله العدل . وتقدم في أول التنبيهات الخمس , قريباً , سرّ التعبير ههنا بـ ( الظالمون ) قبله بـ ( الكافرين ) فتذكَّر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [ 46 ]
{ وَقَفَّيْنَا } أي : أتبعنا : { عَلَى آثَارِهِمْ } يعني أنبياء بني إسرائيل : { بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } أي : أرسلناه عقبهم : { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : مؤمناً بها حاكماً بما فيها : { وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً } أي : إلى الحق : { وَنُورٌ } أي : بيان للأحكام : { وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : لما فيها من الأحكام . وتكرير ذلك لزيادة التقرير .
قال ابن كثير : أي : متبعاً لها غير مخالف لما فيها ، إلا في القليل . مما بيِّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح . أن قال لبني إسرائيل : { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } . ولهذا كان المشهور من قول العلماء : إن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة . : { وَهُدىً وَمَوْعِظَةً } أي : زاجر عن ارتكاب المحارم والمآثم : { لِلْمُتَّقِينَ } أي : لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه . وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين ، لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 47 ]
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } أمر مبتدأ لهم ، بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها : دلائل رسالته عليه الصلاة والسلام ، وشواهد نبوّته . وقيل : هو حكاية للأمر الوارد عليهم . بتقدير فعلٍ مَعْطوف على ( ءَاتَيْنَاهْ ) : وقلنا ليحكم أهل الإنجيل . وقرئ ( وليحكم ) بالنصب على أن اللام ( لام كي ) أي : آتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم .
قال بعض المحققين : وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر ، لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة وأن شريعته ليست باقية لكل زمان . لأن بعثة عيسى عليه السلام كانت خاصة بالأمة اليهودية .
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الخارجون عن طاعة ربهم ، المائلون إلى الباطل ، التاركون للحق .
تنبيه :
في هذه الآية والآيتين المتقدمتين ، من الوعيد ما لا يقادر قدره . وقد تقدم أنّ هذه الآيات ، وإن نزلت في أهل الكتاب ، فليست مختصة بهم ، بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله ، اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ويدخل فيه السبب دخولاً أوليّاً .
وفي " فتح البيان " في تفسير هذه الآيات ، مباحث نادرة سابغة الذيل . فلتراجع .
ولما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ، وأثنى عليها وأمر باتباعها ، ثم ذكر الإنجيل ومدحه وأمر باتباعه - شرع في التنويه بالقرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ 48 ]
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } أي : الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتاباً على الإطلاق . لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماويّ ، وتفوّقه على بقية أفراده ، وهو القرآن الكريم . فاللام للعهد . أفاده أبو السعود .
{ بِالْحَقِّ } أي : الصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله : { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } بيان لـ ( ما ) . و ( اللام ) للجنس . يعني : أنه يصدّق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من قلبه . وإنما قيل ( لما قَبْلَ الشيء ) : هو بين يديه ، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه . فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي : مؤتمناً عليه وشهيداً وحاكماً على ما قبله من الكتب .
قال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله ، فما وافقه منا فهو حقّ ، وما خالفه منها فهو باطل .
{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } أي : بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك : { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } أي : بما بيّن الله لك في القرآن .
قال في " الإكليل " : هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق . ففيه أنّ أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام . لا بمعتقدهم . ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه . انتهى .
{ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } نهى أن يحكم بما حرفوه أو بدَّلوه . اعتماداً على قولهم . ضمن : { وَلاَ تَتَّبِعْ } معنى ( ولا تنحرف ) فلذا عدي بـ ( عن ) فكأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم . أو التقدير : عادلاً عمّا جاءك { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً } أي : شريعة موصلة إلى الله : { وَمِنْهَاجاً } أي : طريقاً واضحاً في الدين ، تجرون عليه . قال ابن كثير : هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام ، المتفقة في التوحيد . كما ثبت في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات . ديننا واحد > . يعني بذلك , التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله . كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .
وقال أبو السعود : قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين ، من معاصريه صلى الله عليه وسلم ، على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم . ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين ، وإنما الذي كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة . والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس قاطبة ، لكن لا للموجودين خاصة ، بل للماضين أيضاً بطريق التغليب . والمعنى : لكل أمة كائنة منكم . أيها الأمم الباقية والخالية ، جعلنا - أي : عَيَّنا ووضعنا - شرعة ومنهاجاً خاصيْن بتلك الأمة . لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عيّنت لها . فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة . والتي كانت من مبعث عيسى إلى النبيّ عليهما الصلاة والسلام شرعتهم الإنجيل . وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلاّ . فآمنوا به واعملوا بما فيه .
وفي " الإكليل " : استدل بهذه الآية من قال : إنَّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا .
وبقوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } الآية ، من قال : إنه شرع لنا ما لم يردْ ناسخ . واستدلّ بالآية . أيضاً من قال : إن الكفر مللٌ لا ملة واحدة ، ولم يورث اليهود من النصارى شيئاً . انتهى .
قال النسفيّ : ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام . ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام . ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم . وبين أنه ليس للسماع فحسب ، بل للحكم به . فقال في الأول : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } وفي الثاني { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ } وفي الثالث : { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } .
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : جماعة متفقة على شريعة واحدة : { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } متعلق بمحذوف يستدعيه النظام . أي : ولكن جعلكم أمماً مختلفة ليختبركم فيما أعطاكم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة . هل تتركون ما ألفتم منها لِمَا أحدث منها مذعنين له ، معتقدين أن خلافه لها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة ، والمصالح النافعة لكم في المعاش والمعاد ؟ أو تزيغون عن الحق ، وتتبعون الهوى ، وتستبدلون المضرة بالجدوى ، وتشترون الضلالة بالهدى ؟ وبهذا أتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء . بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشاً ومعاداً ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } أي : إذا كان الأمر كما ذكر ، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم ، وابتدروها انتهازاً للفرصة وإحرازاً لسابقة الفضل والتقدم . ففيه من تأكيد الترغيب في الإذعان للحق ، وتشديد التحذير عن الزيغ ، ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .
وقوله : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد . أي : مصيركم ، ومعادكم - أيها الناس - إليه يوم القيامة : { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : فيخبركم بما لا تشكّون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم ، وعاملكم ومفرّطكم في العمل . كذا في " الكشاف " .
فالإنباء مجاز عن المجازاة ، وإنما عبر عنها به ، لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإنباء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } [ 49 ]
{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } عطف على ( الكتاب ) أي : أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه . أو على ( الحق ) أي : أنزلناه بالحق وبـ ( أن احكم ) ويجوز أن يكون جملة ، بتقدير : وأمرنا أن احكم . وفي التعرض لعنوان إنزاله تعلى إياه ، تأكيد لوجوب الامتثال ، وتمهيد لما يعقبه من قوله : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : يصرفوك عنه . وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب . كإعادة ( ما أنزل الله ) : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن الحكم المنزل وأرادوا غيره : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } يعني بذنب التولّي عن حكم الله ، وإرادة خلافه ، فوضع ( ببعض ذنوبهم ) موضع ذلك . وأراد : أن لهم ذنوبة جمة كثيرة العدد . وأن هذا الذنب -مع عظمة - بعضُها وواحد منها . . وهذا الإبهام لتعظيم التولي , واستسرافهم في ارتكابه , ونحو ( البعض ) في هذا الكلام ما في قول لَبِيد . ( أو يرتبطْ بَعْضَ النفوسِ حِمَامُهَا . . ! ) أراد نفسه . وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام . كأنه قال : نفساً كبيرة ونفساً أي : نفس . فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية , فكذلك إذا صرح بالبعض . كذا في " الكشاف " .
وفي " الحواشي " : ومثل هذا قوله تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] . أراد محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم ؛ وقيل : أراد العذاب في الدنيا . وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب . ولقد تلطف القائل :
~وأقول بعض الناس عنك كنايةً خوفَ الوشاة ، وأنت كلُّ الناس
{ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي : المتمردون في الكفر معتقدون فيه ؛ وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة . يعني : إن التوليّ عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر . والجملة اعتراض تذييليّ مقرر لمضمون ما قبله . ونظيرها قوله تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقوله تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] .
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صلوما ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ؛ بعضُهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ! إنك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم . وأنا -إن اتبعناك -اتبعنا يهودُ ، ولم يخالفونا . وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدقك . فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عزّ وجلَّ فيهم : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ 50 ]
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي : يريدون منك .
قال أبو السعود : إنكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم و ( الفاء ) للعطف على مقدر يقتضيه المقام . أي : أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية . وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكد الإنكار والتعجيب . لأن التوليّ عن حكمه صلى الله عليه وسلم . وطلب حكم آخر , منكر عجيب . وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب . والمراد بـ ( الجاهلية ) إمّا الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى , الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام فيكون تعبيراً لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم , يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي . وإما أهل الجاهلية , وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى . انتهى .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً } أي : قضاء : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ينظرون بنظر اليقين إلى العواقب . والاستفهام إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنَ من حكمه تعالى أو مساوياً له .
قال ابن كثير : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم - المشتمل على كل خير , الناهي عن كل شرّ - وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله , كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم , وكما يحكم به التتارُ مِنَ السياسات الملكية المأخوذة عن جنكزخان الذي وضع لهم ( الياسق ) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى , من اليهود والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها . وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه , فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن فعل ذلك منهم فهو . كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله . فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير . قال الله تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي : يبتغون ويريدون , وعن حكم الله يعدلون , : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن , وعلم أن الله تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ؟ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء , القادر على كل شيء , العادل في كل شيء . روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية . وكان طاوس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ } الآية . وروى الطبرانيّ : عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبغض الناس إلى الله عزَّ وجل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرئ بغير حقٍ ليريق دمه . ورواه البخاري بزيادة . انتهى . كلام ابن كثير .
قال بعض مفسري الزيدية . اشتمل قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } إلى قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } على عشرين وجهاً من التأكيد في ملازمة شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم التي أنزلنا الله تعالى, واختاره لأمته, واستأثر بكثير من أسرارها فلم يُطَّلَع عليها , وما أشدَّ امتثال ما تضمّنته ؟ وكيف الخروج عن عهدته خصوصاً على الأئمة والحكام ؟ ولن يحصل ذلك حتى يلوم نفسه بلجام الحق, ويعزل عن نفسه مطالعة الخلق , لهذه الجملة . لا يقال : إنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتبع أهواءهم, فكيف نهى عما يعلم الله أنه لا يفعله ؟ قال الحاكم : ذلك مقدور له , فيصحّ النهي وإن علم أنه لا يفعله . وقيل : الخطاب له والمراد غيره . كذلك لا يقال : قوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } يخرج من ذلك القياس . لأن ذلك - إن جعل خطاباً له عليه الصلاة والسلام - فلم يكن متعبّداً بالقياس . وإن كان خطاباً للكل فالقياس ثابت بالدليل فهو بمثابة المنزل . هكذا ذكر الحاكم . والأكثر : أنه يجوز منه عليه الصلاة والسلام الاجتهاد, ومنعه آخرون . وقوله تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } قد يستدل به على أن الواجبات على الفوز . وهو محتمل . لأن المراد قبل أن يسبق عليكم الموت . انتهى .
وفي " الإكليل " : استدل به على أن تقديم العبادات أول وقتها أفضل من تأخيرها . انتهى .
وقد روى مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبرّ الوالدين .
وروى أبو داود والترمذي والحاكم عن أم فروة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 51 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } أي : لا يتخذ أحد منكم أحداً منهم وليّاً ، بمعنى : لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الأحباب ومعاشرتهم .
قال المهايمي : إذا كان تودد أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقصد افتتانه عن بعض ما أنزل الله مع غاية كماله ، فكيف حال من يتودد إليهم من المؤمنين ؟ انتهى .
ووصفهم بعنوان ( الإيمان ) لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه .
فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين ، من أقوى الزواجر عن موالاتهما .
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إيماء إلى علة النهي . أي : فإنهم متفوقون على خلافكم ، يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين . وإجماعهم على مضادتكم . فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم ! ! : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } أي : من جملتهم . وحكمه حكمهم وإن زعم أن أنه مخالف لهم في الدين ، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة .
قال الزمخشري : وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تراءى ناراهما . ومنه قول عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كاتبه النصرانيّ لا تكرموهم إذا أهانهم الله . ولا تأمنوهم إذ خونّهم الله . ولا تُدنوهم إذ أقصاهم الله . وروي أنه قال له أبو موسى : ( لا قوام للبصرة إلاّ به ) فقال : مات النصراني والسلام . يعني : هب أنه قد مات ، فما كنت تكون صانعاً حينئذ ، فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره .
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } يعني : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين قال : قال عبد الله بن عُتْبَة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديّاً أو نصرانيّاً وهو لا يشعر . قال فظنناه يريد هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ } . . الآية .
ثم بيّن تعالى كيفية تولّيهم . وأشعر بسببه وبما يؤول إليه أمره . فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [ 52 ]
{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : نفاقٌ وشكٌّ في وعد الله لإظهار دينه : { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أي : في مودتهم في الباطن والظاهر ، من غير نظرٍ فيما يلحقهم من الضرر في دين الله ، والفضيحة بالنفاق : { يَقُولُونَ } أي : في عذرهم : { نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } أي : من دوائر الزمان ، وصرف من صروفه ، فتكون الدولة لهم ، فنحتاج إليهم ، فنحن نتحفظ عن شرهم . ولا يتفكرون في أن الدائرة ربما تصيب من يوالونهم . والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها . وأصلها : الخط المحيط بالسطح . استعيرت لنوائب الزمان ، بملاحظة إحاطتها واستعماله ا في المكروه . و ( الدولة ) ضدها ، وقد ترد بمعنى ( الدائرة ) أيضاً ، لكنه قليل . كذا في " العناية " .
ثم ردّ تعالى عللهم الباطلة ، وقطع أطماعهم الفارغة ، وبشّر المؤمنين بالظفر بقوله سبحانه : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } أي : فتح مكة ، عن السدّيّ . أو فتح قرى اليهود من خيبر وفدك ، عن الضحّاك . وقال قتادة ومقاتل : هو القضاء الفصل بنصره صلى الله عليه وسلم على أعدائه ، وإظهار المسلمين : { أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } يقطع شأفة اليهود ، ويجليهم عن بلادهم : { فَيُصْبِحُوا } أي : المنافقون : { عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ } من الشك في ظهور الإسلام ، أو من النفاق : { نَادِمِينَ } لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين . وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه - لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة - لما أنه الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم عليها . فدلّ ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } [ 53 ]
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } قال الزمخشريّ : قرئ بالنصب عطفاً على ( أَنْ يَأْتِيَ ) وبالرفع على أنه كلام مبتدأ . أي : ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت . وقرئ ( يقول ) بغير ( واو ) وهي مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك . على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ ؟ فقيل : يقولون آمنوا : أهؤلاء الذين أقسموا ؟ ( فإن قلت ) : لمن يقولون هذا القول ؟ ( قلت ) : إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجّباً مِن حالهم ، واغتباطاً بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص : { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : حلفوا لكم بأغلاظ الأيمان : { إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } أي : إنهم أوليائكم ومعاضدوكم على الكفار وإمّا أن يقولوه لليهود ، لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة . كما حكى الله عنهم : { ولَئِنْ قُوِتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَكُمْ } [ الحشر : 11 ] . أي : فقد تباعدوا عنكم . فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِين } أي : في الدنيا ، إذ ظهر نفاقهم عند الكل . وفي الآخرة ، إِذْ لم يبقَ لهم ثواب .
قال الزمخشري : هذه الجملة من قول المؤمنين . أي : بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أَعْيَن الناس ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ! أو من قول الله عز وجلّ ، شهادة لهم بحبوط الأعمال ، وتعجيباً من سوء حالهم . انتهى .
وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ، ما لا يخفى .
تنبيهات :
الأول - : في سبب نزول هذه الآيات الكريمات .
روي عن السدّي ، أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أُحدٍ : أمّا أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهوديّ فأواليه وأتهوّد معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث . وقال الآخر : وأما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصرانيّ بالشام فأواليه وأتنصرّ معه . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى } ... الآيات .
وقال عِكْرِمَة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ، فسألوه : ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أبي : إنه الذبح رواه ابن جرير . وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، ابن سلول . روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عُبَاْدَة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إِنَّ لي موالي من يهود كثير عددهم . وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود . وأتولّى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أُبيّ : إني رجل أخاف الدوائر . لا أبرأ من ولاية موالِيّ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدِ الله بن أُبيّ : < يا أبا الحُبَاب ! ما بخلتَ به من ولاية يهود على عُبَاْدَة بن الصامت فهو إليك دونه > . قال قد قبلت فأنزل الله عزّ وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ...الآيتين .
ثم روى ابن جرير عن الزهريّ قال : لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيومٍ مثل يوم بدر . . فقال مالك بن صيف : غرّكم إن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال ! أما لو أَمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم . لم يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا . فقال عُبَاْدَة بن الصامت : يا رسول الله ! إنّ أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيراً سلاحهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . . فقال عبد الله بن أبيّ : لكني لا أبرأ من ولاية يهود . إني رجل لابدَّ لي منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا الحُبَاب ! أرأريت الذي نفست به من ولاية يهود على عُبَاْدَة بن الصامت, فهو لك دونه . فقال إذاً أقبل ! قال : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ } ... - إلى قوله - : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } .
وقال محمد بن إسحاق : فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه . فقام إليه عبد الله بن أُبيّ, ابن سلول حين أمكنه الله منهم, فقال : يا محمد ! أحسن في مواليّ -وكانوا حلفاء الخزرج - قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا محمد ! أحسن في مواليّ . قال : فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُلَلاً, ثم قال : ويحك ! أرسلني . قال : لا, والله ! لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ . أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع, قد منعوني من الأحمر والأسود, تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هُمْ لك . قال محمد بن إسحاق : فحدّثني أبي , إسحاق بن يسار, عن عُبَاْدَة بن الوليد بن عُبَاْدَة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم , تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي, وقام دونهم . ومشى عُبَاْدَة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف من الخزرج, لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أُبيّ -فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرّأ إلى عز وجل , وإلى رسوله من حلفهم وقال : يا رسول الله ! أتولّى الله ورسوله والمؤمنين , وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم . . . ففيه وفي عبد الله بن أُبي نزلت الآيات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ } -إلى قوله - : { فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } .
وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ نعوده, فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : < قد كنت أنهاك عن حب يهود > . فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات . وكذا رواه أبو داود .
الثاني : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرات الآية أحكام .
الأول - أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى . قال الحاكم : والمراد موالاته في الدين . وجعل الزمخشري الموالاة في النصرة والمصافاة . وبيّن وجوب المجانبة للمخالف في الدين, كما تقدم . والبعد والمجانية استحباب, إذ قد جازت المخالطة في مواضع بالإجماع, وذلك حيث لا يوهم محبتهم ولا بأنهم على حق .
الحكم الثاني - أن للإمام أن يسقط الحدّ إذا خشي, أو يؤخره . وقد ذكر هذا, الأمير يحيى والراضي بالله والحاكم, وهذا مأخوذ من سبب النزول, وترك النبيّ صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أُبيّ .
الحكم الثالث- صحة الموالاة منهم لبعضهم بعضاً . وقد قال عليّ بن موسى القمّيّ : الآية تدل على أنهم ملة واحدة : فتصح المناكحة بينهم والموارثة . والمذهب خلاف ذلك . والدلالة على ما ذكر محتملة . لأنها تحتمل أن المراد : بعضهم أولياء بعض في معاداة المسلمين ؛ أو يعني : بعض اليهود وليّاً لبعض اليهود .
الحكم الرابع - أن من تولاهم فهو منهم . ولا خلاف في أنه صار عاصياً لله كما عصوه . ولكن أين تبلغ حد معصيته ؟ وقد اختلف في ذلك, فقيل : معنى قوله : { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } أي : حكمه حكمهم في الكفر, وهذا حديث يقرّهم على دينهم . فكأنه قد رضيه . وقيل : من تولاهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه . قال الحاكم : ودلالة الآية مجملة . فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين .
الحكم الخامس - ذكره الحاكم, أنه لا يجوز الاستعانة بهم . قلنا : ذكر الراضي بالله : أنه صلى الله عليه وسلم قد حالف اليهود على حرب قريش وغيرهما إلى أن نقضوه يوم الأحزاب, وجدد صلى الله عليه وسلم الحِلفْ بينه وبين خزاعة . حتى كان ذلك سبب الفتح . وكانت خزاعة عَيْبَة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم . مسلمهم وكافرهم . وقال الراضي بالله : وهو ظاهر قول آبائنا عليهم السلام . وقد استعان عليّ عليه السلام بقتلة عثمان, واستعان صلى الله عليه وسلم بالمنافقين . قال الراضي بالله : ويجوز الاستعانة بالفسّاق على حرب المبطلين, فتكون هذه الاستعانة غير موالاة .
التنبه الثالث - في التفسير المتقدم ما نصه : وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه : الأول - النهي بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء } . وسائرُ الكفار لاحقٌ بهم . الثاني - قوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } . والمعنى : أن الموالاة من بعضهم لبعض لاتحادهم بالكفر, والمؤمنون أعلى منهم .
الثالث - قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة . مثل قوله صلى الله عليه وسلم : لا تراءى نارهما . ومثل قوله عليه السلام : لا تستضيئوا بنار المشركين .
الرابع - ما أخبر الله به أنه لا يهديهم .
الخامس - وصفهم بالظلم, والمراد : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار .
السادس - أنه تعالى أخبر أنّ الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض, أي : شك ونفاق .
السابع - ما أخبر الله تعالى به من علة الموالين , وأنّ ذلك خشية الدوائر . لا أنّه بإِذنٍ من الله ولا من رسوله . ( الثامن - قطع الله لِمَا زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر فقال تعالى : { فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } . و ( عسى ) في حق الله تعالى لواجب الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك .
التاسع - ما بشر الله تعالى به من إهانته بقوله : { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } . قيل : إذلال الشرك بالجزية . وقيل : قتل قريظة وإجلاء النضير . وقيل : أن يورث المسلمين أرضهم وديارهم .
العاشر - ما ذكره الله تعالى من الأمر الذي يؤول إليه حالهم . وأنهم يصبحون نادمين على ما أسرّوا في أنفسهم من غشّهم للمسلمين ونصحهم للكافرين . وقيل : من نفاقهم . وقيل : من معاندتهم للكفار ، وذلك حين معاينتهم للعذاب . وقيل : في الدنيا ، بما صاروا فيه من الذلة والصغار .
الحادي العاشر - ما ذكره الله تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله وخبثهم في إيمانهم بقوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء } . . الآية .
الثاني عشر - ما أخبر الله من حالهم بقوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } قيل : خسروا حظهم من موالاتهم . وقيل : أهلكوا أنفسهم . وقيل : خسروا ثواب الله . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 54 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } لما نهى تعالى - فيما سلف - عن مولاة اليهود والنصارى ، وبيّن أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين بقوله : { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وقوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } - شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق .
ونوه بقدرته العظيمة . فأعلم أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله ، سيستبدل به من هو خيرٌ لها منه ، وأشدّ منعة ، وأقوم سبيلاً . كما قال تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] . وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] . و قال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 16 - 17 ] . أي : بممتنعٍ ولا صعب .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى : قال المحققون : هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها . وقد وقع المخبَرُ به على وفقها . فيكون معجزاً . فقد روي أنه ارتدّ عن الإسلام إحدى عشرة فرقة : ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( بنو مدلج ) ورئيسهم ذو الحمار - بحاء مهملة وضبطه بعضهم بالمعجمة -وهو الأسود العنسي -بالنون نسبة إلى عنس قبيلة باليمن -وكان كاهناً ثم تنبأ باليمن ، واستولى على بلاده ، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن . فأهلكه الله على يدي فيروز الديلميّ . بَيَّتَهُ فقتله . وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قُتل . فسُرَّ المسلمون . وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في آخر شهر ربيع الأول .
و ( بنو حنيفة ) قوم مسيلمة : تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك . فأجاب قرئ : من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنود المسلمين ، وقُتِل على يَدَيْ وحشيٍ ، قاتل حمزة ، وكان يقول : قتلتُ خير الناس في الجاهلية ، وشر الناس في الإسلام . أراد : في جاهليتي وإسلامي .
و ( بنو أسد ) قوم طليحة بن خويلد : تنبأ في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكثر جمعه ، ومات صلى الله عليه وسلم وهو على ذلك . فبعث إليه أبو بكر خالداً رضي الله عنهما فقصده . فانهزم طليحة بعد القتال إلى الشام . ثم أسلم وحسن إسلامه .
وسبعٌ في عهد أبي بكر رضي الله عنه :
( فزارة ) قوم عُيَيْنَة بن حصن ؛
و ( قوم غطفان ) قوم قرة بن سلمة الشيري ؛
و ( بنو سُلَيم ) قوم الفجاءة بن عبد يَالِيل - بيائين ولامين كهابيل -صنم سمي هذا به .
و ( بنو يربوع ) قوم مالك بن نويرة .
و ( بعض تميم ) قوم سجاح بنت المنذر . كانت كاهنة ثم تنبأت وزوجت نفسها مسيلمة الكذاب ثم أسلمت وحسن إسلامها .
و ( كندة ) قوم الأشعث بن قيس .
و ( بنو بكر بن وائل ) بالبحرين ، قوم الحطم -كزفر -بن زيد . وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه .
وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه : ( غسان ) قوم جبلة بن الأيهم ، نصّرته اللطمه وسيَّرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه والجمهور : على أنه مات على ردته وقيل : إنه أسلم .
وروى الواقدّي : أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أحبار الشام - لما لحق بهم - كتاباً فيه : أن جبلة ورد إليّ في سراة قومه ، فأسلم فأكرمته . ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزارَهُ رجلٌ من بني فزارة ، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه . ( وقيل : قلع عينه ، ويدل له ما سيأتي ) فاستعدى الفزاريّ على جبلة إليّ . فحكمت إما بالعفو أو بالقصاص . فقال : أتقتصّ مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقلت : شملك وإياه الإسلام . فما تفضله إلاّ بالعافية .
فسأل جبلةُ التأخيرَ إلى الغد . فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدّاً .
وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد :
~تنصّرتُ بعد الحقّ عاراً للطمةٍ ولم يك فيها ، لو صبرت لها ، ضرِر
~فأدركني فيها لجاج حمّيةٍ فبعت لها العين الصحيحة بالعور
~فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر
هذا ما في " الكشاف " و " العناية " .
وقال الخطابيّ أهل الردة كانوا صنفين : صنفاً ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعدلوا إلى الكفر . وهذه الفرقة طائفتان :
إحداهما - أصحاب مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وغيرهم الذي صدقوه على دعواه في النبوة ، أصحاب الأسود العنسي ومن استجابه من أهل اليمن . وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . مدعية النبوة لغيره . فقاتلهم أبو بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة ، والعنسيّ بصنعاء . وانفضّت جموعهم وهلك أكثرهم .
و الطائفة الأخرى - ارتدوا عن الدين . فأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين ، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، فلم يكن يسجد لله في الأرض إلا في ثلاثة مساجد : مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، ومسجد عبد القيس .
قال ؛ والصنف الآخر : هم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة ، فأنكروا وجوبها ووجوب أدائها إلى الإمام ، وهؤلاء ، على الحقيقة ، أهل البغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصاً ، لدخولهم في غمار أهل الردة ، وأضيف الاسم في الجملة إلى أهل الردة ، إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما .
انظر تتمة هذا المبحث في " نيل الأوطار " في كتاب الزكاة .
قال الشوكاني : فأما مانعوا الزكاة منهم ، المقيمون على أصل الدين ، فإنهم أهل بغي . ولم يسمَّوا على الانفراد كفاراًَ ، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين ، وذلك أن الردة اسم لغويّ . فكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه ، فقد ارتد عنه . وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق . وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح ، وعلق بهم الاسم القبيح ، لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقّاً .
الثانية : قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى . أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل ، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها . كما تقدم في الفاتحة في : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } .
فتأويل مثل الزمخشري لها -بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب ، وتعظيمهم والثناء عليهم والرضا عنهم - تفسير باللازم ، منزع كلاميّ لا سلفي . وقد أنكر الزمخشري أيضاً كون محبة العباد لله حقيقية ، وفسرها بالطاعة وابتغاء المرضاة . فرده صاحب " الانتصاف " بأنه خلاف الظاهر . وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب ، والمجاز الذي لا يعدل إليه عن الحقيقة ، إلا بعد تعذرها ، فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد ، لينظر : أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا ؟ إذ المحبة ، لغة ، ميل المتصف بها إلى أمر ملذ . واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحسن : كلذة الذوق في المطعوم ، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة ، ولذة الشم في الروائح العطرة ، ولذة السمع في النغمات الحسنة ، وإلى لذة تدرك بالعقل : كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها . فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة مالا يدركه إلا العقل دون الحس ، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها ، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث .
فلذات العلوم أيضاً متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات ، فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحقّ . فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ، ومعرفة جلاله وكماله ، تكون أعظم . والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن ، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات . فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة ، بل واقعة من كل مؤمن ، فهي من لوازم الإيمان وشروطه ، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم ، وإذا كان كذلك ، وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة ، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها . ألا ترى إلى الأعرابيّ الذي سأل عن الساعة ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها كبير عمل . ولكن حب الله ورسوله . فقال عليه الصلاة والسلام : أنت مع من أحببت . فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات ، لأن الأعرابيّ نفاها وأثبت الحب ، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك . ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة ، فالمحبة في اللغة . إذا تأكدت سميت عشقاً ، فمن تأكدت محبته لله تعالى ، وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته -فلا تمنع أن تسمى محبته عشقاً ، إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة . انتهى .
الثالث : قوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } .
قال ابن كثير : هذه صفات المؤمنين الكمل ، أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليّه ، متعززاً على خصمه وعدوّه ، كما قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : أذلة للمؤمنين ؟ قلت فيه وجهان :
أحدهما - أن يضمن الذل معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع .
و الثاني - أنهم - مع شرفهم وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين - خافضون لهم أجنحتهم . . وقرئ ( أذلةً وأعزة ) بالنصب على الحال .
وفي " الحواشي " : أن قوله تعالى : { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } تكميل . لأنه لما وصفهم بالتذلل ، ربما توهم أن لهم في نفسهم حقارة . فقال : ومع ذلك هم أعزة على الكافرين ، كقوله :
~جُلوسٌ في مجالسهم رِزَانٌ وإنْ ضَيْفٌ أَلَمَّ بهم خُفُوفٌ
واستدل بالآية على فضل التواضع للمؤمنين والشدة على الكفار .
الرابعة : قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } .
قال الزمخشري : يحتمل أن تكون ( الواو ) للحال على معنى : أنهم يجاهدون ، وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود . فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود ، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ؛ وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط . وأن تكون للعطف على أنَّ من صفتهم المجاهدة في سبيل الله . وأنهم صلاب في دينهم . إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - إنكار منكر أو أمر بمعروف - مضوا فيه كالمسامير المحماة ، لا يرعبهم قول قائلٍ ولا اعتراض معترض ولا لومة لائمٍ . يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم . و ( اللومة ) المرّة من اللوم . وفيها وفي التنكير مبالغتان . كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحدٍ من اللوّام . انتهى .
وفيه وجوب التمسك بالحق وإن لامه لائم . وإنه مع تمسّكه به صيّره محلُّة أعلى ممن تمسّك به من غير لومٍ . لأنه تعالى مدحَ من هذا حاله . وفيه أيضاً ، أن خوف الملامة ليس عذراً في ترك أمر شرعي .
روى الإمام أحمد عن أبي ذرّ قال : أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ : أمرني بحب المساكين والدنوّ منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أَدْبَرَتْ ، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً ، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرّاً ، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم , وأمرني أن أكثر من قول ( لا حول ولا قوة إلاّ بالله ) فإنهنّ كنز تحت العرش .
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ألا ، لا يمنعنّ أحدكم رهبةُ الناس أن يقول بحقٍّ إذا رآه أو شهده . فإنه لا يقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحقٍ أو أن يذكر بعظيم > .
وروى أيضاً عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يحقرنّ أحدكم نفسه ، أن يرى أمراً لله فيه مقال فلا يقول فيه . فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس ، فيقول : إياي أحقّ أن تخاف > .
وروى الشيخان عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره . وأن لا ننازع الأمر أهله . وأن نقول بالحق حيثما كنّا ، لا نخاف في الله لومة لائم .
الخامسة : قوله تعالى : { ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ } .
الإشارة إلى ما ذكر من حب الله إياهم ، وحبهم لله وذلتّهم للمؤمنين ، وعزّتهم على الكافرين ، وجهادهم في سبيل الله ، وعدم مبالاتهم للوْم اللوَّام . فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياءه .
قال المهايميّ : أما المحبتان فظاهر . وكذا العزة على الكفار والجهاد . وأما الذلة على المؤمنين فلأنه تواضع موجب للرفع . وأما عدم خوف الملامة فلمَا فيه من تحقيق المودة مع الله .
وقوله تعالى : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي : ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده { وَاللّهُ وَاسِعٌ } أي : كثير الفواضل ، جلّ جلاله .
ولمَّا نهى عن موالاة اليهود والنصارى ، أشار إلى من يتعيّن للموالاة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ 55 ]
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ } المفيض عليكم كلّ خير : { وَرَسُولُهُ } الذي هو واسطة : { وَالَّذِينَ آمَنُوا } المُعِينون في موالاة الله ورسوله بأفعالهم ، لأنهم : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ } التي هي أجمع العبادات البدنية : { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } القاطعة محبة المال الجالب للشهوات : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } خال من فاعل الفعلين ، أي : يعملون ما ذكر - من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة - وهم خاشعون ومتواضعون لله ومتذللون غير معجبين . فإن رؤيتهم تؤثر فيمن يواليهم بالعون في موالاة الله ورسوله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ 56 ]
{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } فيعينهم وينصرهم : { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } في العاقبة على أعدائه .
تنبيهات :
الأول : إنما أفرد ( الوليّ ) ولم يجمع , مع أنه متعدّد , للإيذان بان الولاية لله أصل , ولغيره تبعٌ لولايته عزّ وجل . فالتقدير : وكذلك رسوله والذين آمنوا .
الثاني : ثمرة هذه الآية تأكيد موالاة المؤمنين والبعد عن موالاة الكفار .
الثالث : قال ابن كثير : توهم بعض الناس أن هذه الجملة - يعني قوله تعالى : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } - في موضع الحال من قوله : { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : في ركوعهم . ولو كان هذا كذلك , لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح , وليس الأمر كذلك عند أحدٍ من العلماء ممن نعلمهم من أئمة الفتوى . وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن عليّ بن أبي طالب , أن هذه الآية نزلت فيه : إِنَّه مرّ به سائل في حال ركوعه , فأعطاه خاتمه . ثم روى ابن كثير الأثر المذكور عن ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق وابن مردويه , ثم قال : وليس يصحّ شيءٌ منها بالكليّة . لضعف أسانيدها وجهالة رجالها . . انتهى .
وقد اقتصّ ذلك الخفاجيّ في " حواشي البيضاوي " عن الحاكم وغيره بطول . ثم أنشد أبياتاً لحسان بن ثابت فيها . ولوائح الضعف بل الوضع لا تخفى عليها . لا سيما ونفس حسان بن ثابت , العريق في العربية , بعيد مما نسب إليه . أي : حاجة للتنويه بفضل عليّ عليه السلام بمثل هذه الواهبات . وفضله أشهر من نارٍ على علم .
قال البغويّ : روي عن عبد الملك بن سليمان قال : سألت أبا جعفر , محمد ابن عليّ الباقر عن هذه الآية : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } من هم ؟ فقال : المؤمنون . فقلت : إن ناساً يقولون هو عليّ . فقال : عليّ من الذين آمنوا .
قال ابن كثير : وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها , أن هذه الآية كلها نزلت في عُبَاْدَة بن الصامت رضي الله عنه , حين تبرأ من حلف يهود , ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين .
الرابع : ذهب من رأى أن هذه الآية نزلت في عليّ عليه السلام وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع - كما قدّمنا - إلى أنّ العمل القليل في الصلاة لا يبطلها , وإن صدقة النفل تسمى زكاة . نقله السيوطي في " الإكليل " عن ابن الفرس .
وقال بعض الزيدية : ثمرة الآية تأكد موالاة المؤمنين , وبيان فضل من نزلت فيه , وأنه يجوز إخراج الزكاة في الصلاة , وتنوي . وكذا نية الصيام في الصلاة تصح . وإن الفعل القليل لا يفسد الصلاة . قال : وهذا مأخوذ من سبب نزولها , لا من لفظها . ومتى قيل إنّ عليّاً عليه السلام لم تجب عليه زكاة ؟ قلنا : إذا صحّ ما ذكر أنها نزلت فيه , كان أولى بالصحة , وأنها قد وجبت عليه .
قال في " الغياضة " : إن قيل : قد روي أنه كان من ذهب , والذهب محرّم على الرجال ؛ أجيب بأن ذلك كان في صدر الإسلام ثم نسخ , أو أنّ هذا من خواص عليٍّ عليه السلام . انتهى .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صحّ أن يكون لعليَّ رضي الله عنه , واللفظ لفظ جماعة ؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع , وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً , ليرغب الناس في مثل فعله فَيَنَالُوا مثل ثوابه . ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء . حتى إنْ لَزَّهُمْ أمرٌ لا يقبل التأخير - وهم في الصلاة - لم يؤخروه إلى الفراغ منها . انتهى .
وإنما أوردنا هذا , على علاته , تعجيباً من غرائب الاستنباط . وقد توسع الرازيّ , عليه الرحمة , في المناقشة مع الشيعة هنا , فليُراجع فإنه بحث بديع .
الخامس : قوله تعالى : { فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } معناه : فإنهم هم الغالبون .
فوضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى ( من ) دلالة على علة الغلبة . وهو أنهم حزب الله . فكأنه قيل : ومن يتولّ هؤلاء فهم حزب الله . وحزب الله هم الغالبون . وتنويهاً بذكرهم وتعظيماً لشأنهم وتشريفاً لهم بهذا الاسم . وتعريضاً لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان . وأصل ( الحزب ) القوم يجتمعون لأمرٍ حَزَبَهَمْ . وقيل : الحزب جماعة فيهم شدة . فهو أخصّ من الجماعة والقوم .
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة غيرهم ، إن كانت لجرّ نفع ، فضررها أعظم . وإن كانت لدفع ضرر فالضرر الحاصل بها لا يفي بالمدفع ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 57 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } أي : مقتضى إيمانكم حفظ تعظيم دينكم : { لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ } أي : الذي هو رأس مال كمالاتكم ، الذي به انتظام معاشكم ومعادكم ، وهو مناط سعادتكم الأبدية ، وسبب قربكم من ربكم : { هُزُواً } أي : شيئاً مستخفاً : { وَلَعِباً } أي : سخريةً وضحكاً ، مبالغة في الاستخفاف به حتى لعبوا بعقول أهله . ثم بين المستهزئين وفصّلهم بقوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ } قرئ بالنصب والجرّ ، يعني المشركين كما في قراءة ابن مسعود : { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } : { أَوْلِيَاءَ } في العون والنصرة . وإنما رتب النهي على وصف اتخاذهم الدين هزواً ولعباً . تنبيهاً على العلة ، وإيذاناً بأن من هذا شأنه ، جدير بالبغضاء والشنآن والمنابذة . فكيف بالموالاة ؟ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في ذلك ، بترك موالاتهم ، أو بترك المناهي على الإطلاق . فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولاً أوليّاً : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : حقاً ، فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة .
ثم بيّن استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين ، بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق ، إظهار لكمال شقاوتهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [ 58 ]
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } أي : دعوتهم إليها بالأذان : { اتَّخَذُوهَا } أي : الصلاة أو المناداة : { هُزُواً وَلَعِباً } بأن يستهزئوا بها ويتضاحكوا : { ذَلِكَ } أي : الاتخاذ : { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم : { قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } أي : معاني عبادة الله , فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به, ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة . فإن الصلاة أكرم القربات , وفي النداء معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله . ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته, باعتبار عدم مغايرة أسمائه وصفاته, ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد , ومن الصلاة من حيث هي وصلة ما بين العبد وبين الله , ومن حيث إفادته معالي الدرجات , ومن تعظيم مقصده وهو الفلاح في الظاهر والباطن, وما هو غاية مقصده من القرب من الله باعتبار عظمة ظاهره وباطنه, ومن الوصول إلى توحيده الحقيقيّ . أفاده المهايميّ .
تنبيهات :
الأول : في آثار رويت في هذه الآية :
روى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس قال : كان رِفاعة بن زيد بن التابوت , وسويد بن الحارث , قد أظهرا الإسلام ونافقا, وكان رجل من المسلمين يوادّهما . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ } الآية .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّيّ في قوله : { إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } قال : كان رجل من النصارى من المدينة , إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمداً رسول الله . قال : حُرِّق الكاذب . فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار, وهو نائم وأهله نيام, فسقطت شرارة فأحرقت البيت , فاحترق هو وأهله .
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في " السيرة " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن . وأبو سفيان بن حرب وعتَّاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة . فقال عتاب بن أسيد : لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه . فقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته . فقال أبو سفيان : لا أقول شيئاً . لو تكلمتُ لأخْبَرَتْ عني هذه الحصى . فخرج عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : قد علمت الذي قلتم . ثم ذكر ذلك لهم . فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله . والله ! ما اطلع على هذا أحد كان معنا , فنقول أخبرك .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مُحَيْرِيز - وكان يتيماً في حجر أبي محذورة - قال : قلت لأبي محذورة : يا عم ! إني خارج إلى الشام . أخشى أن أسأل عن تأذينك . فأخبرني ؛ أن أبا محذور قال له : نعم ! خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين , فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق . فأذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون . فصرخنا نحكيه ونستهزئ به . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت فأرسل إلينا, إلى أن وقفنا بين يديه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع > ؟ فأشار القوم كلهم إليّ . وصدقوا . فأرسل كلَّهم وحبسني فقال : < قم فأذن > . فقمت, ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به, فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فألقى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو نفسه فقال : قل : < الله أكبر, الله أكبر . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . أشهد أن محمداً رسول الله > . ثم قال لي : < ارجع فامدد من صوتك > . ثم قال : < أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . حيَّ على الصلاة, حيَّ على الصلاة, حيَّ على الفلاح, حيَّ على الفلاح, الله أكبر الله أكبر , لا إله إلا الله > ، ثم عادني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيءٍ من فضة ، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ، ثم أمرها على وجهه مرتين . ثم مرتين على يديه . ثم على كبده . ثم بلغت يُد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّة أبي محذورة . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله فيك . فقلت : يا رسول الله ! مُرني بالتأذين بمكة . فقال : قد أمرتك به . وذهب كل شيءٍ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية, وعاد ذلك كله محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقدمت على عتَّاب بن أسيدِ, عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأذّنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار . والمراد به في أمر الدين , كما تقدم .
الثالث : دلت على أن الهزء بالدين كفر, وأن هزله كجدَّه .
قال في " الإكليل " : الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة .
الرابع : دلت على أن للصلاة نداء وهو الأذان, فهي أصل فيه .
قال الزمخشري : قيل : فيه دليل على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب , لا بالمنام وحده . ولمَّا نهى تعالى عن توليّ المستهزئين , أمر أن يخاطبوا بأن الدين منزّه عما يصح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء , ويظهر لهم ما ارتكبوا ويلقموا الحجر , بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } [ 59 ]
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } وصفوا بذلك تمهيداً لتبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم , أي : يا أصحاب الكتاب , العالمين بالنقائص والكمالات , التي يستحق على تحققها وفقدها الاستهزاء : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } أي : ما تعيبون وتنكرون منا : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ } وهو رأس الكمالات : { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } وهو أصل الاعتقادات والأعمال والأخلاق : { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } وهو يشهد لما أنزل إلينا : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } أي : متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر .
لطائف :
الأولى : إنما فسر ( تنقمون ) بـ ( تعيبون ) و ( تنكرون ) لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة - كما قاله الراغب - لأنه لا يعاقَب إلاّ على المنكر فيكون على حد قوله :
~ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فلذا حسن ( انتقم منه ) مطاوعه , بمعنى عاقبه وجازاه , وإلاّ فكيف يخالف المطاوع أصله ؟ فافهم . و ( نقم ) ورد كعَلم يعلَم وضَرَبَ يضرب , وهي الفصحى , ويعدّى بـ ( من ) و ( على ) . وقال أبو حيّان : أصله أن يتعدى بـ ( على ) . ثم ( افتعل ) المبنيّ منه , يعدى بـ ( من ) لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه , وهنا ( فعل ) بمعنى ( افتعل ) . كذا في " العناية " .
الثانية : في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس, حيث جعلوا الإيمان بما ذكر , موجباً لنقمه , مع كونه في نفسه موجباً لقبوله وارتضائه . فمعنى الآية : ليس شيء ينقم من المؤمنين . فلا موجب للاستهزاء . وهذا مما تقصد العرب في مثله , تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيءٍ , وذلك الشيء لا يقتضي إثباته , فهو منتف أبداً . ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس , فمن الأول نحو :
~ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفَهُمْ بهنّ فُلُولٌ من قِرَاعِ الكتائبِ
ومن الثاني هذه الآية وشبهها . أي : ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئاً إلاَّ هذا , وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئاً ، فليس شيء ينقمونه ، فينبغي أن يؤمنوا به ولا يكفروا . وفيه أيضاً التعريض بكفرهم ، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان .
الثالث : إسناد الفسق إلى أكثرهم ، لأن من قال منهم ما قال ، وحمل غيره على العناد ، طلباً للرياسة والجاه وأخذ الرشوة ، إنما هو أكثرهم ، ولئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [ 60 ]
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ } المخاطب بكاف الجمع أهل الكتاب المتقدم ذكرهم ، أو الكفار مطلقاً ، أو المؤمنون . والمشار إليه الأكثرون الفاسقون . وتوحيد اسم الإشارة لكونه يُشارُ به إلى الواحد وغيره ، أو لتأويله بالمذكور ونحوه . وفي الكلام مقدر أي : بشرٍّ من حال هؤلاء . وقيل : المشار إليه المتقدمون الذين هم أهل الكتاب ، يعني أن السلف شرٌّ من الخلف . وجعله الزمخشريّ إشارة إلى المنقوم .
وقد جوّد في إيضاحه العلامة أبو السعود بقوله : لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ، ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على من يوجب ارتضاءه عنهم أيضاً ، وكفرهم بما هو مسلم لهم - أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقةً ، ما هم عليه من الدين المحرف .
وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها ، على منهاج التعريض . لئلاً يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد . ويخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبيَّن ، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به ، والتنبئة المشعرة بكونه أمر خطيراً ، لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر . وحيث كان مناط النقم شرّية المنقوم حقيقة أو اعتقاداً ، وكان مجرد النقم غير مقيد لشريته البتة ، قيل ( بشرٍّ من ذلك ) ولم يقل : بأنقم من ذلك ، تحقيقاً لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها . وقيل : إنما قيل ذلك ، لوقوعه في عبارة المخاطبين ، حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام : < أومن بِالله وما أنزل إلينا > . . - إلى قوله - : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام ، قالوا : لا نعلم شرّاً من دينكم . وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين - وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية - مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته ، ليثبت أن دينهم شرّ من كل شرّ . أي : هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شرّاً ، وإن كان في نفسه خيراً محضاً ؟ انتهى .
وقوله : { مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } أي : جزاء ثابتاً عند الله . قال الراغب : الثواب ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله . سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه ، كقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ، ولم يقل : ير جزاءه . والثواب يقال في الخير ولا شر ، لكن الأكثر المتعارف في الخير . وكذا المثوبة ، وهي مصدر ميميّ بمعناه . وعلى اختصاصها بالخير استعملت هنا في العقوبة على طريقة :
~تحيةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ
في التهكم . ونصبها على التميير من ( بشرّ )
وقوله تعالى : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } بدل من : { شَرٌّ } على حذف مضاف ، أي : بشر من أهل ذلك من لعنه الله ، أو بشر من ذلك دينُ من لعنه الله , أو خبر محذوف . أي : هو من لعنه الله وهم اليهود ، أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وخنازير ، وهم أصحاب السبت ، كما تقدم بيانه في سورة البقرة : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } عطف على صلة ( مَنْ ) والمراد من الطاغوت : العجل ، أو الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى : { أُولَئِكَ } أي : الملعونون الممسوخون : { شَرٌّ مَكَاناً } إثبات الشرارة للمكان كناية عن إثباتها لأهله ، كقولهم : ( سلام على المجلس العالي ) و ( المجد بين برديه ) كأن شرهم أثّر في مكانهم أو عظم حتى صار متجسماً ! وقيل : المراد بالمكان محل الكون والقرار الذي يؤول أمرهم إلى التمكن فيه ، كقوله : { شَرٌّ مَكَاناً } [ الفرقان : 34 ] ، وهو مصيرهم ، يعني جهنم .
{ وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي : أكثر ضلالاً عن الصراط المستقيم .
ثم بين تعالى علامات كمال شرهم وضلالهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } [ 61 ]
{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ } يعني سفلة اليهود ، ويقال : المنافقون : { قَالُوا آمَنَّا } أي : بك ونعتك ، أنه في كتابنا : { وَقَدْ دَخَلُوا } إليكم متلبسين : { بِالْكُفْرِ } بكفر السرّ : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا } أي : من عندكم متلبسين : { بِهِ } أي : بكفر السر ، فهم مستمرون عليه : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ } أي : من الكفر ، وفيه وعيد لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 62 ]
{ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : اليهود : { يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ } أي : الحرام ، كالكذب والعصيان من غير مبالاة من الله ولا من الناس : { وَالْعُدْوَانِ } أي : الظلم والاعتداء على الناس : { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } أي : الحرام كالرشا . وخصه بالذر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح ، وفيه دلالة على تحريم الرشا ، لأن ذلك ورد في كبرائهم أنهم يسترشون في تغيير الحكم : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } مما ذكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ 63 ]
{ لَوْلا } أي : هلا : { يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ } أي : الزهاد منهم والعبّاد : { وَالْأَحْبَارُ } أي : العلماء : { عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ } أي : الكذب : { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } أي : الرشوة ، المفسدة أمر العالم كله : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } من ترهبهم وتعلمهم لغير دين الله . أو من تركهم نهيهم . وهذا الذم المقول فيهم ، أبلغ مما قيل في حق عامتهم . أولاً : لأنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } ، وعبرّ عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } - كان هذا الذم أشد . لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء ، وحرفة لازمة ، هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم .
وهذا معنى قول الزمخشريّ : كأنهم جُعِلوا آثم من مرتكبي المناكير ، لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ، ولا كل عمل يسمى صناعة ، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه . وكأن المعنى في ذلك ، أن مُوَاقِعَ المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها . وأما الذي ينهاه ، فلا شهوة معه في فعل غيره . فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المُواقِع . ثم قال الزمخشري : ولعمري ! إن هذه الآية مما يَقِذُ السامع وينعى على العلماء توانيهم . انتهى .
وفي " الإكليل " : في هذه الآية وجوب النهى عن المنكر على العلماء ، اختصاص ذلك بهم .
وقال البيضاويّ : فيها تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك ، فإن ( لولا ) إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض .
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشدّ توبيخاً من هذه الآية .
وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها . وروى ابن أبي حاتم عن يحيي بن يعمر قال : خطب عليّ بن أبي طالب ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار . فلما تمادوا أخذتهم العقوبات . فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم . واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً .
وروى الإمام أحمد عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من قومٍ يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي ، هم أعزّ منه وأمنع . ولم يغيّروا ، إلاّ أصابهم الله منه بعذاب .
ولفظ أبي داود عنه ، مرفوعاً : ما من رجل يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون على أن يغيّروا عليه فلا يغيّروا ، إلاّ أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ 64 ]
{ وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : إن ربك بخيلٌ لا ينفق . فنزلت .
وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه : نزلت في فنحاص ، رأس يهود قينقاع ، وتقدم أنه الذي قال : إن الله فقير ونحن أغنياء . فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
فيكون أريد بالآية هنا ، ما حكى عنه بقوله المذكور . والله أعلم .
ولما لم ينكر على القائل قومُه ورضوا به ، نُسِبَتْ تلك العظيمة إلى الكل ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً . وإنما القاتل واحد منهم . و ( غُلذ اليد وبسُطها ) : مجاز مشهور عن البخل والجود . ومنه قوله تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا } [ الإسراء : 29 ] ، قالوا : والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال . لا سيما لدفع المال ولإنفاقه . فأطلقوا اسم السبب على المسبب . وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل . فقيل للجواد : فياض الكف . مبسوط اليد ، وسبط البنان نَزِهُ الأنامل . ويقال للبخيل : كزّ الأصابع ، مقبوض الكف ، جعد الأنامل . وقوله تعالى : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة أو بغلّ الأيدي حقيقة . يغلّون أي : تشدّ أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة : { وَلُعِنُوا } أي : أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة : { بِمَا قَالُوا } من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقةً ولا مجازاً : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي : بأنواع العطايا المختلفة . وثنّى ( اليد ) مبالغة في الرّد ونفي البخل عنه تعالى ، وإثباتاً لغاية الجود ، فان غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه : { يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء } تأكيد لما قبله ، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته , المبنية على الحكم , التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد .
وهاهنا مباحث
الأول : ما زعمه الزمخشري ومن تابعه - مِن إنَّ إثبات اليد لا يصحّ حقيقة له تعالى - فإنه نزعة كلامية اعتزالية .
قال الإمام ابن عبد البرّ في " شرح الموطأ " : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القران والسنة , والإيمان بها , وحملها على الحقيقة لا على المجاز . إلاَّ أنهم لا يكيّفون شيئاً من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة . وأما أهل البدع , الجهمية والمعتزلة كلها , والخوارج , فكلهم ينكروها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة . ويزعم أن أقرّ بها شبَّهَ . وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود . والحق فيها قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله . وهم أئمة الجماعة .
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل " : لا يجوز ردّ هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها . والواجب حملها على ظاهرها , وأنها صفات الله , لا تشبّه بسائر الموصوفون بها من الخلق , ولا يعتقد التشبيه فيها ثم قال : ويدل على إبطال التأويل , أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين , حمولها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها , ولو كان التأويل سائغاً لكانوا إليه أسبق . لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة . وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى في كتاب " الإبانة " في باب ( الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين ) وذكر الآيات في ذلك . ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته . مثل قوله :
فإن سئلنا : أتقولون لله يدان ؟ قيل : نقول ذلك ، وقد دل عليه قوله : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم } [ الفتح : 10 ] . وقوله تعالى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي } [ ص : 75 ] . وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذرية ، وقد جاء في الخبر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أن الله خلق آدم بيده ، وخلق جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده > . وليس يجوز في لسان العرب ، ولا في عادة أهل الخطاب ، أن يقول القائل : عملت كذا بيدي ، ويعني به النعمة . وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري في مفهومها في كلامها ، ومعقولاً في خطابها ، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل : فعلت بيدي ، ويعني به النعمة - بطل أن يكون معنى قوله عز وجل : { بِيَدَيَّ } النعمة . وذكر كلاماً طويلاً في تقرير هذا ونحوه .
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب " الإبانة " له :
فإن قال : فما الدليل على أنّ للهِ وجهاً ويداً ؟ قيل له : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] ، وقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] فأثبت لنفسه وجهاً ويداً : فإن قال : فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذا كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلاّ جارحة ؟ قلنا : لا يجب هذا كما لا يجب -إذا لم نعقل حيّاً عالماً قادراً إلا جسماً - أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه .
وقال الشيخ تقيّ الدين في " الرسالة المدنية " مذهب أهل الحديث - وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف -أن هذه الأحاديث تُمَرُّ كما جاءت ويُؤْمَن بها وتُصَدَّق وتصان عن تأويلٍ يفضي إلى تعطيل ، وتكييف يفضي إلى تمثيل . وقد أطلق غير واحدٍ ممن حكى إجماع السلف -منهم الخطابيّ -مذهب السلف أنَّها تجري على ظاهره مع نفي الكيفية والتشبيه عنها . وذلك ، أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفية .
فكذلك إثبات الصفات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفية . . انتهى .
ويرحم الله الإمام الصرصريّ الأنصاريّ حيث يقول من قصيدة :
~إن المقال بالاعتزال لَخِطَّةٌ عمياءُ حلّ بها الغُواة المُرَّدُ
~هجموا على سبل الهدى بعقولهم ليلاً فعاثوا في الديار وأفسدوا
~صمٌّ ، إذا ذكر الحديث لديهم نفروا ، كأن لم يسمعوه ، وغرّدوا
~واضرب لهم مَثَلَ الحمير إذ رأتْ أُسْدَ العرين فهنّ منهم شُرَّدُ
إلى أن قال :
~يدعو من اتبع الحديث مشبّهاً هيهات ليس مشبّهاً من يُسند
~لكنه يروي الحديث كما أتى غير تأويلٍ ولا يتأوّد
الثاني : روى الإمام أحمد والشيخان في معنى الآية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة . سحاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه . وكان عرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال : يقول الله تعالى : أنفقْ أُنفق عليكَ > .
الثالث : في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود ، ولا إشكالَ أنَّ ذلك جائز .
الرابع : هذه الآية أصل في تفكير من صدر منه ، في جناب البارئ تعالى ، ما يؤذن بنقص . وقوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : من اليهود : { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } من جوامع الخيرات : { طُغْيَاناً } أي : عدواناً على الناس ، أو تمادياً في الجحود : { وَكُفْراً } أي : في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أوّلاً . وهذا من إضافة الفعل إلى السبب . أي : يزدادون طغياناً وكفراً بما أنزل ، كما قال : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِم } [ التوبة : 125 ] .
قال الحافظ ابن كثير : أي : يكون ما آتاك الله ، يا محمدّ ، من النعمة نقمةً في حقّ أعدائك من اليهود وأشباههم . فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً ، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك ، طغياناً -وهو المبالغة والمجاوزة للحدّ في الأشياء - وكفراً أي : تكذيباً كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً } [ فصلت : 44 ] ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] .
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فكلمتهم أبداً مختلفة وقلوبهم شتى ، لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد .
وقد ذكر الشهرستاني أنهم افترقوا نيّفاً وسبعين فرقة . ولما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، وَبَسْطُ ما جرياتهم ، وهدية صلى الله عليه وسلم في شأنهم ، مبسوط في " زاد المعاد " لابن القيم . فراجعه .
قال الرازي : واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوّته بعد ظهور الدلائل على صحتها ، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة . ثم إنه تعالى بيّن أنهم ، لما رجّحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أن الله تعالى ، كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ، لأن كل فريق منهم بقي مصرّاً على مذهبه ومقالته . يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات . تعظماً لنفسه وترويجاً لمذهبه . فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم . وانتهى الأمر فيه إلى إن بعضهم يُكفّر بعضاً ,ويغزو بعضهم بعضاً .
وفي الآية وجهان :
أحدهما - ما بين اليهود والنصارى ، لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى } [ المائدة : 51 ] . وهو قول الحسن ومجاهد . لأنهم المُحدَّث عنهم في قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ } .
و الثاني - ما بين فرق اليهود خاصة .
أقول : وهو الظاهر . فإن قلت : فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين ، فكيف يكون ذلك عيباً على الكتابيين حتى يذموا به ؟ قلت : بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين ، إنما حدثت بعد عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين .
أما في الصدر الأول فلم يزن شيء من ذلك حاصلاً بينهم ؛ فَحَسَنَ جَعْلُ ذلك عيباً على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن .
{ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } أي : كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثارة شر عليه ، ردهم الله سبحانه وتعالى ، بأن أوقع بينهم منازعة كفَّ بها عنه شرهم ، أو كلما أرادوا حرب أحد ، غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط . فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب ، لأنه كان عادتهم ذلك . ونيران العرب مشهورة ، منها هذه . وإطفاء النار على الأول عبارة عن دفع شرهم ، وعلى الثاني غلبتهم . و ( للحرب ) إما صلة لـ ( أوقدوا ) ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة ( ناراً ) أي : كائنة للحرب { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً } أي : للفساد أو مفسدين ، أي : يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وتعويق الناس عنه وإثارة الفتن : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } أي : من كان الإفساد صفته . و ( اللام ) إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً ، أو للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر للتعليل ، وبيان كونهم راسخين في الإفساد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ 65 ]
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ } أي : مع ما عددنا من سيئاتهم : { آمَنُوا } برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به : { وَاتَّقَوْا } مباشرة الكبائر : { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : ذنوبهم : { وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم } في الآخرة مع المسلمين . وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص ، وإن عظمت معاصيه ومبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله وإن جلّ . وأن الكتابيّ لا يدخل الجنة ما لم يسلم .
قال الزمخشري : وفيه أن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى ، كما قال الحسن : هذا العمود ، فأين الأطناب ؟ انتهى . قال ناصر الدين في " الانتصاف " : هو ينتهز الفرصة من ظاهر هذه الآية فيجعله دليلاً على قاعدته ، في أن مجرد الإيمان لا ينجي من الخلود في النار ، حتى ينضاف إليه التقوى . لأن الله تعالى جعل المجموع في هذه الآية شرطاً للتكفير ولإدخال الجنة . وظاهره أنهما ما لم يجتمعا لا يوجد تكفير ولا دخول الجنة . وأنى له ذلك ؟ والإجماع والاتفاق من الفريقين -أهل السنة والجماعة ، والمعتزلة -على أن مجرد الإيمان يَجُبّ ما قبله ويمحوه كما ورد النص . فلو فرضنا موت الداخل في الإيمان عقيب دخوله فيه ، لكان كيوم ولدته أمه -باتفاق -مكفَّرَ الخطايا محكوماً له بالجنة . فدل على أن اجتماع الأمرين ليس بشرط ، هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال . وإن كانت التقوى - على أصل موضعها - الخوف من الله عز وجل ، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر وحينئذ لا يتم للزمخشري منه غرض . وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام : < من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى أو سرق . كررها النبيّ صلى الله عليه وسلم مراراً ، ثم قال : وإن رغم أنف أبي ذر > . لَمَّا راجعه رضي الله عنه في ذلك ، ونحن نقول : وإن رغم أنف القدرية . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } [ 66 ]
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل } أي : أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . أصل الإقامة الثبات في المكان . ثم استعير إقامة الشيء لتوفية حقه : { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : بيّنوا ما بيّن لهم ربهم في التوراة والإنجيل . ويقال : أقروا بجملة الكتب والرسل من ربهم ، ويقال : هو القرآن : { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } لوسَّع عليهم أرزاقهم ، بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ، ويكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار ، فيجتنونها من رأس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض . وَجَعْلُ ( من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) بمعنى الأمطار والأنهار التي تحتل بها أقواتهم - بعيدٌ من الأكل . والأقرب الوجوه الثلاثة المتقدمة . ونبه تعالي بذلك على أن ما أصابهم من الضنك والضيق ، إنما هو بشؤمِ مَعَاصِيهم . وكفرهم ، لا لقصور في فيض الكريم ، تعالى . ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق ، وهو كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] . . الآيات { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } [ الجن : 16 ] .
روى الإمام أحمد عن زيادة بن لَبِيد أنه قال : ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : < وذاك عند ذهاب العلم > . قال : قلنا : يا رسول الله ! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقرئه أبْنَاءنَا ، ويقرئه أبناء أبنائهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : < ثكلتك أمك يا ابن أم لَبِيد ! إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة . أَوَليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ، لا ينتفعون مما فيهما بشيء > .
وفي رواية ابن أبي حاتم : أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ؟ ثم قرأ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } . . الآية .
{ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ } أي : طائفة : { مُّقْتَصِدَةٌ } أي : عادلة مستقيمة ، وهم من آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء } أي : بئس : { مَا يَعْمَلُونَ } أي : من تحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة . والآية كقوله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ 67 ]
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذاناً بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ : { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } مما يفصّل مساوئ الكفار ، ومن قتالهم ، والدعوة إلى الإسلام ، غير مراقب في التبليغ أحداً ، ولا خائف أن ينالك مكروه : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ } أي : ما تؤمر به من تبليغ الجميع ، ستراً لبعض مساوئهم : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : شيئاً مما أرسلت به . لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض . فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً . كما أنّ من لم يؤمن ببعضها ، كان كمن لم يؤمن بكلّها .
قال في " الانتصاف " : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمراً معلوماً عند الناس ، مستقرّاً في الأفهام أنه عظيم شنيع ، ينقم على مرتكبه ، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع ، فضلاً عن كتمان الرسالة من الرسول -استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء ، للصوقها بالجزاء في الأفهام . وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة ، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد . وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامّاً بقوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ولم يقل : فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة . حتى يكون اللفظ متغايراً ، وهذه المغايرة اللفظية - وإن كان المعنى واحد - أحسن رونقاً وأظهرُ طلاوة ، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء . وهذا الفصل كاللباب من علم البيان .
وقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } عِدةٌ منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة ، باعث له على الجدَّ فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } تعليل لعصمته ، أي : لا يهديهم طريق الإساءة إليك ، فما عذرك في مراقبتهم ؟
تنبيهات :
الأول : لاخفاء في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ التام ، وقام به أتمّ القيام ، وثبت في الشدائد وهو مطلوب ، وصبر على البأساء والضرّاء وهو مكروب ومحروب ، وقد لقى بمكة من قريش ما يشيب النواصي ، ويهدّ الصياصي . وهو ، مع الضعف ، يصابر صبر المستعلي ، ويثبت ثبات المستولي ، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته ، وأحدقوا بجنباته ، وصار بإئثانه في الأعداء محذوراً ، وبالرعب منه منصوراً ، حتى أصبح سراج الدين وهّاجاً ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
روى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها ، قالت لمسروق : من حدثك أنّ محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، والله يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . . . الآية .
وفي " الصحيحين " عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } .
وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم .
قال ابن كثير : وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمتُه بإبلاغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً . كما ثبت في " صحيح مسلم " عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : يا أيها الناس ! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع رأسه ويرفع يده إلى السماء وينكبها إليهم ويقولون : اللهم ! هل بلغت ؟ . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : < يا أيها الناس ! أي : يوم هذا ؟ قالوا يوم حرام . قال : أي : بلد هذا ؟ قالوا بلد حرام ، قال فأي شهر هذا ؟ قالوا شهر حرام . قال : فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . ثم أعادها مراراً . ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال : اللهم ! هل بلَّغت ؟ مراراً ( قال ابن عباس : والله ! إنها لوصية إلى ربه عز وجل ) ثم قال : إلا فليبلغ الشاهدُ الغائب . لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . ! > وقد روى البخاريّ نحوه . .
الثاني : تضمن قوله تعالى : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } معجزة كبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام الماورديّ في كتابه " أعلام النبوة " في الباب الثامن في معجزاته ، عصمته صلى الله عليه وسلم . ما نصه :
أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بَعْدَ ثبوتها بمعجز القرآن ، واستغنائه عما سواه من البرهان ، ما جعله زيادة استبصار يُحجُّ به من قلت فطنته ، ويذعن لها من ضعفت بصيرته ، ليكون إعجاز القرآن مُدرَكاً بالخواطر الثاقبة تفكراً واستدلالاً وإعجاز العيان معلوماً ببداية الحواس احتياطاً واستظهاراً ، فيكون البليد مقهوراً بوهمه وعيانه ، واللبيب مججوباً بفهمه وبيانه ، لأن لكل فريق من الناس طريقاً هي عليهم أقرب ، ولهم أجذب ، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلاً ، وأعم دليلا . فمن معجزاته عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير ، والعدد الكثير ، وهم على أتم حنق عليه ، وأشد طلب لنفسه . وهو بينهم مسترسل قاهر ، ولهم مخالط ومكاثر ، ترمقه أبصارهم شزراً ، وترتد عنه أيديهم ذعراً ، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً ، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة . ثم خرج عنهم . سليماً لم يُكْلَمْ في نفس ولا جسد . وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعد الله تعالى بها فحققها حيث يقول : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فعصمه منهم .
ثم قال الماوردي رحمه الله تعالى : وإن قريشاً اجتمعت في دار الندوة . وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة ، وكان زعيم القوم . وساعده عبد الله بن الزَّبَعْري وكان شاعر القوم . فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم : الموت خير لكم من الحياة . فقال بعضهم : كيف نصنع ؟ فقال أبو جهل : هل محمد إلا رجل واحد ؟ وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش ؟ فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمداً ويريح قومه ؟ وأطرق ملياً . فقالوا : من فعل هذا ساد . فقال أبو جهل : ما محمد بأقوى من رجل منا . وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر . فإن قُتِلتُ أرحت قومي ، وإن بقيت فذاك الذي أوثر . فخرجوا على ذلك . فلما اجتمعوا في الحطيم ، خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قد جاء . فتقدم من الركن فقام يصلي . فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود ، فقال أبو جهل : فإني أقوم فأريحكم منه ، فأخذ مهراساً عظيماً . ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه ، وهو يراه . فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله . فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد ، وقد دوخت أوداجه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ، فقال أبو جهل لأصحابه : خذوني إليكم . فالتزموه وقد غشي عليه ساعة . فلما أفاق قال له أصحابه : ما لذي أصابك ؟ قال لما دنوت منه ، أقبل عليّ من رأسه فحل فاغرٌ فاه . فحمل عليّ أسنانه . فلم أتمالك . وإني أرى محمداً محجوباً . فقال له بعض أصحابه : يا أبا الحكم ! رغبت وأحببت الحياة ورجعت . قال : ما تغرّوني عن نفسي . قال النضر بن الحارث : فإن رجع غداً فأنا له . قالوا له : يا أبا سهم ! لئن فعلت هذا لتسودنّ . فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه . فأخذ حفنة من تراب وقال : < شاهت الوجوه . وقال : حم لا ينصرون > ، فتفرقوا عنه .
وهذا دفع إلهيّ وثق به من الله تعالى . فصبر عليه حتى وقاه الله ، وكان من أقوى شاهد على صدقه .
( ومن أعلامه ) : أن معمر بن يزيد ، وكان أشجع قومه ، استغاثت به قريش وشَكَوَا إليه أمر رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم . وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره ، فلما شكوا إليه قال لهم : إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه . وعندي عشرون ألف مُدَجّج فلا أرى هذا الحيّ من بني هاشم يقدر على حربي . وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ، ففي مالي سعة . وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر . وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس . فلبس ، يوم وعده قريشاً ، سلاحه وظاهر بين درعين . فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر يصلي . وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في الصلاة . فقيل له : هذا محمد ساجد . فاهوي إليه ، وقد سل سيفه وأقبل نحوه . فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد . فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام ، وقد أدمى وجهه بالحجارة ، يعدو كأشد العدو . حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف . فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا : ما أصابك ؟ قال : ويحكم ! المغرور من غررتموه . قالوا : ما شأنك ؟ قال : ما رأيت كاليوم . دعوني ترجع إلي نفسي . فتركوه ساعة وقالوا : ما أصابك ؟ يا أبا الليث ! قال : إني لما دنوت من محمد ، فأردت أن أهوى بسيفي إليه ، أهوى إليّ من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران ، وتلمع من أبصارهما . فعدوت . فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد .
ومن أعلامه : أن كَلَدة بن أسد ، أبا الأشد ، وكان من القوة بمكان ، خاطر قريشاً يوماً في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم . فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال . فجاء كَلَدة ومعه المزراق . فرجع المزراق في صدره . فرجع فزعاً . فقالت له قريش : مالك ؟ يا أبا الأشد ! فقال : ويحكم ! ما ترون الفحل خلفي ؟ قالوا : ما نرى شيئاً . قال : ويحكم ! فإني أراه . فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف . فاستهزأت به ثقيف ، فقال : أنا أعذركم ، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم .
ومن أعلامه : أن أبا لهب خرج يوماً ، وقد اجتمعت قريش فقالوا له : يا أبا عتبة ! إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا . وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه . ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئاً . وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك . فقال : فإني أكفيكم ! ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم . فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفاً عليه ، نزل أبو لهب ، وهو يصلي . وتسلقت امرأته أم جميل الحائط ، حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد . فصاح أبو لهب فلم يلتفت إليه ، وهما كانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح . وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له أبو لهب : يا محمداً أطلق عنا . فقال : < ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني > ، قالا : قد فعلنا . فدعا ربه فرجعا .
ومن أعلامه : أن قريشاً اجتمعوا في الحطيم . فخطبهم عُتْبَةُ بن ربيعة فقال : إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرّق جماعتنا وبدّد شملنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلل آباءنا . وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأمية وأبيّ ابنا خلف ، في جماعة من صناديد قريش . فقالوا له : قل ما شئت فإنا نطيعك . قال : سأقوم فأكلمه . فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه . وإلا رأينا فيه رأْيَنا . فقالوا له : شأنك يا أبا عبد شمس ! فقام وتقدم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده . فقال : أنعم صباحاً يا محمد ! قال : < يا عبد شمس إن الله قد أبدلنا بهذا ، السلام ، تحية أهل الجنة > . قال يا ابن أخي ! إني قد جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم . إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا فيها الفسحة ! ثم قال : يا ابن عبد المطلب ! أنا زعيم قريش فيما قالت . قال : < قل > قال : يا ابن عبد المطلب ! إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك . قال : < قل > . قال : إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكاً فإنا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك ، فارجع عن ذلك . فسكت . ثم قال له : وإن كان ما تدعوا إليه أمراً تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك . فقال : لا قوة إلا بالله ! ثم قال له : وإن كان ما تتكلم به تريد مالاً أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش . فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا . وإن كان ما تدعوا إليه جنوناً داويناك كما تداوي قيسُ بن ثعلبة مجنونهم .
فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . ! ما تقول ؟ وبم أرجع إلى قريش ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } - حتى يبلغ إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 1 - 13 ] . قال عتبة : فلما تكلم بهذا الكلام ، فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من أعجازها . وقام فزعاً يجر رداءه . فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور . وقام النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي . فقالت قريش : لقد ذهبت من عندنا نشيطاً ورجعت فزعاً مرعوباً فما وراءك ؟ قال : ويحكم ! دعوني . إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئاً . ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي ، وقلت : الصاعقة قد أخذتني . . فندموا على ذلك .
ومن أعلامه : أنه لما أراد الهجرة ، خرج من مكة ومعه أبو بكر . فدخل غاراً في جبل ثور ليستخفي من قريش . وقد طلبتْه وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء ، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره . وأنبت على باب الغار ثمامة ( وهي شجرة صغيرة ) .
وأُلهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفة عين . ولُدِغ أبو بكر هذه الليلة لدغة . فخرّق ثيابه وجعل في الشقوق . وسدّ بعضها بقدمه اتقاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه . فلقيه سُرَاقَة بن مالك بن جعشم . وهو من جملة من توجه لطلبه , فقال له أبو بكر : هذا سُرَاقَة قد قرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اللهمّ ! اكفنا سُرَاقَة > . فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها . فقال سُرَاقَة : يا محمد ! ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أردّ من جاء يطلبك ، ولا أَعْيَن عليك أبداً ! فقال : < اللهم ! إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه > . فأطلق الله عنه . ثم أسلم سُرَاقَة وحسن إسلامه .
هذا ما أورده الماوردي من الأعلام قبل الهجرة ؛ ثم أورد ما وقع بعدها ؛ وسننقلها عن ابن كثير ، فإنه قال في هذه الآية :
ومن عصمة الله لرسوله ، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسّادها ؛ ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً ، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب . إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش . وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا شرعية . ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها .
ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر ، هابوه واحترموه . فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً . ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحمل إلى دارهم ، وهي المدينة . فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود . وكلّما همّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوءٍ كاده الله وردّ كيده عليه . كما كاده اليهود بالسحر ، فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء . ولما سّمه اليهود في ذراع الشاة بخيبر ، أعلمه الله به وحماه منه . ولهذا أشباه كثيرة جدّاً يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال ابن جرير : حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابُه شجرة ظليلة ، فيَقيل تحتها . فأتاه أعرابيّ فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : اللهَ عز وجلَّ . فرُعِدَتْ يد الأعرابيّ وسقط السيف منه . قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله عز وجل : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } .
وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل . فبينا هو جالس على رأس بئر قد دّلى رجليه ، فقال الوارث من بني النجار : لأقتلنّ محمداً . فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال أقول له أعطني سيفك أشيمه ، فإذا أعطانيه قتلته به . قال : فأتاه فقال : يا محمد ! أعطني سيفك أشيمه . فأعطاه إياه . فرعدت يده حتى سقط السيف من يده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < حال الله بينك وبين ما تريد > . فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه . ثم قال : وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح . يريد ما أخرجه الشيخان عن جابر قال : غزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد . فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة . فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة . فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا . وإذا عنده أعرابيّ فقال : < إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم . فاستيقظت وهو في يده صلتاً . فقال من يمنعك مني ؟ فقلت الله . ثلاثا . > ولم يعاقبه وجلس .
وفي رواية أخرى قال جابر : كنا مع رسول الله بذات الرقاع . فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاء رجل من المشركين ، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة . فاخترطه فقال : تخافني ؟ فقال لا ! فقال : من يمنعك مني ؟ قال : الله . فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وزاد البخاري في رواية له : إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث . وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها . فينزل تحتها . فنزل ذلت يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها . فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ! من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك . ضع السيف . فوضعه . فأنزل الله عز وجل : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } وكذا رواه ابن حبان . في " صحيحه " .
وروى الإمام أحمد عن جعدة بن خالد بن الصمة قال : < سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ورأى رجلاً سميناً ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك . قال : وأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : لم ترع ، لم ترع . ولو أردت ذلك لم يسلطك الله عليّ > .
الثالث : ؟ < كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَسُ ، كما روى الإمام أحمد عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه ، قالت : فقلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ! قالت فبينا أنا على ذلك إذ سعت صوت السلاح فقال : من هذا ؟ فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : ما جاء بك ؟ قال جئت لأحرسك ، يا رسول الله قال : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه > . أخرجاه في " الصحيحين " .
وفي لفظ : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمة المدينة ، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها .
وعن عائشة قالت : < كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزلت : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : أيها الناس ! انصرفوا فقد عصمني الله > . أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير .
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال : < كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس . فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجلاً من بني هاشم يحرسونه . حتى نزلت عليه هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس > . ورواه الطبراني أيضاً . وروى ابن جرير نحوه أيضاً عن جابر .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب وفيه نكارة . فإن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ، والله أعلم ! انتهى .
أقول : بمراجعة ما أسلفنا في " المقدمة " من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال ، فتذكر .
الرابع : قال العلامة أبو السعود : إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب ، لما أن الكل قوارع يسوء الكفارَ سماعها . ويشق على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها ، وخصوصاً ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم . ولذلك أعيد الأمر فقيل خطاباً للفريقين :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 68 ]
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : من الدين : { حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ } أي : تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه .
قال بعض المحققين :
معنى قوله تعالى : { حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ } أي : تعملوا طبق الواجب بأحكامهما ، وتحيوا شرائعهما ، وتطيعوا أوامرهما ، وتنتهوا بنواهيهما . فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه ، كإقامة الصلاة مثلاً . أي : فعلها على الوجه اللائق بها . ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية . والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة . فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفاً ، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها ، وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة . ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها ، لا تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب فيها ، ونافعة للبسر وفيها هداية عظمى للناس ، فهي مما يدخل تحت قوله تعالى : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 3 - 4 ] ، فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى ديناً . وإذا لم يقيموها وجروا على خلافهما ، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى ديناً . وكانوا مشاغبين معاندين ، وبدينهم غير مؤمنين إيماناً كاملاً . وهذا معنى صحيح ، وهو المتبادر من الآية . فأين شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين ، كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما ، وخصوصاً بعد قوله تعالى : { وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 13 ] .
ثم قال : ولك أن تقول : معنى قوله تعالى : { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } . الحقيقييّن . وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقداً عقلياً تاريخياً صحيحاً ، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان ، ونتيجة ذلك العناء كله ، أن يكونوا على شيءٍ من الدين الحق ، وهذا أمر لا شبهة فيه . ولو اتبعوا القرآن لأراحو واستراحوا . ولكنهم -كما أخبر تعالى عنهم -لا يزيدهم القرآن إلاَّ طغياناً وكفراً حسداً وعناداً فلا يؤمنون به . ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب . فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك . فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبءٍ ثقيل جداً من البحث والتمحيص ، وبعد ذلك يكونون على شيءٍ من الحق لا علَى الحق كله ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة ، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلاً لعدم وجودهما على حقيقتهما ؟ فهم ليسوا على شيءٍ مطلقاً . ولا يمكن أن يكونوا عليه . فإن كتبهم قد صارت خلقةً بالية . لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ، حينما رأى ورقةً من التوراة بيده : ألم آتكم بها بيضاء نقية ؟ والله لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلاّ اتباعي . ( فإن قيل ) : وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم ، ومنه ما جاء القرآن ناسخاً له ؟ ( قلت ) : لا شك عند كل عاقل أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم الأصلية ، فإنهم حينئذٍ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنى ، وغير ذلك مما يعلمه الناس . فمراد القرآن على التفسير الأول للآية حثهم -إن أصروا على عدم الإيمان به - على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبيّ وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم . ولكن بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل ؛ بل الذي يفهم من الآية أنهم يكونون على شيء من الدين ، وهو -ولا شك - خير من لا شيء . ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه ، فإن ذلك لا يكون إلا بالإسلام : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عِمْرَان : 83 ] . انتهى .
ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل ، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . لما تتقاضى إقامتُهما الإيمان به . إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه ودينه . فإقامتهما على وجوههما تستدعي الإسلام البتة ، بل هي هو ، والله الموفق . . .
{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : القرآن المجيد بالإيمان به . وفي التعبير بقوله تعالى : { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه . كما تقول : هذا ليس بشيء ! تريد غاية تحقيره وتصغير شأنه . وفي أمثالهم : أقل من لا شيء . أي : لستم على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً ، لفساده وبطلانه .
ثم بيّن تعالى غلوّهم في العناد وعدم إفادة التبليغ فقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً } . أي : تمادياً : { وَكُفْراً } أي : ثباتاً على الكفر : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : فإذا بالغت في تبليغ ما أنزل إليك ، فرأيت مزيد طغيانهم وكفرهم ، فلا تحزن عليهم لغاية خبثهم في ذواتهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 69 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلهم من العذاب : { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : في الآخرة إذا خاف المقصرون وحزنوا على تضييع العمر . .
لطائف :
الأول : ( الصابئون ) رفع على الابتداء . وخبره محذوف . والنية به التأخير عما في حيز ( إن ) من اسمها وخبرها . كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا . والصائبون كذلك ، وأنشد سيبويه شاهداً له :
~وَإلاَّ فاعلموا أَنَّا وأنتم بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ
أي : فاعلموا أنا بغاة ، وأنتم كذلك . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة التقديم ؟ قلت : فائدة التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح . فما الظنّ بغيرهم ؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً ، وما سموا صابئين إلاّ لأنهم صبأوا عن الأديان كلها . أي : خرجوا . كما أن الشاعر قدم قوله ( وَأَنْتُمْ ) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه . مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " :
ثمة سؤال ، وهو أن يقال : لو عطف ( الصابئين ) ونصبه - كما قرأ ابن كثير -لأفاد أيضاً دخولهم في جملة المتوب عليهم ، وَلَفُهِم من تقديم ذكرهم على ( النصارى ) ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين -وهم أوغل الناس في الكفر - يتاب عليهم ، فما الظنّ بالنصارى ؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغاً مختصراً ، والعطف إفراديّ . فلِمَ عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين ؟ وهو يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفراديّ ؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف . لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات . وهذا الصنف من جملتها ، والخبر عنها واحد . وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفراديّ وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به . ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل . تقديره مثلاً ( والصابئون كذلك ) فجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها . وهو بهذه المثابة ، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة ، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعاً وفرعاً مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر ، وفائدة التقديم على الخبر المحذوف من ذكره ، بعد تقضي الكلام وتمامه ، والله أعلم .
الثانية - فإن قلت : إن قوله تعالى : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } كيف يقع خبراً عن : { الَّذِينَ آمَنُواْ } أو بدلاً ، وهو يقتضي انقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين ؟
أجيبك بأن المراد بـ : { الَّذِينَ آمَنُواْ } الذي آمنوا باللسان فقط . وهم المنافقون . فالمعنى : الذين آمنوا باللسان ومن معهم ، من أحدث منهم إيماناً خالصاً . أو يؤول : { مَنْ آمَنَ } بمن ثبت على الإيمان . فيصح في حق المؤمنين الخلص . وفي هذا شبه جمع بين الحقيقة والمجاز ، ودفع بأن الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان ، بل هو وإحداثه فردان من مطلقه . والوجه الأول . إذ في ضمّ المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم ، قاله الخفاجيّ .
قال أبو السعود : أما على تقدير كون المراد بـ : { الَّذِينَ آمَنُواْ } مطلق المتدينين بدين الإسلام ، المخلصين منهم والمنافقين فالمراد بـ : { مَنْ آمَنَ } من اتصف منهم بالإيمان الخالص على الإطلاق ، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه - كما هو شأن المخلصين . أو بطريق إحداثه وإنشائه -كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف . وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام . انتهى .
الثالثة : قال الرازي : لمّا بيَّن تعالى انتهى أهل الكتاب ليسوا على شيءٍ ما لم يؤمنوا ، بيّن أن هذا الحكم عام في الكل ، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً ، وذلك لأن الإنسان له قوتان : القوة النظرية والقوة العملية . أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق . وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير . وأعظم المعارف شرفاً معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى . وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادراً على الحشر والنشر ، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر . وأفضل الخيرات في الأعمال أمران : المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود ، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق . ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل ، فإنه يرد يوم القيامة من غير خوف ولا حَزْن . والفائدة في ذكرهما : أن الخوف يتعلق بالمستقبل ، والحزن بالماضي ، فقال : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة : { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } بسبب ما فاتهم من طيّبات الدنيا ، لأنهم وجدوا أموراً أعظم وأشرف وأطيب . ( فإن قيل ) : كيف يمكن خلوّ المكلف ، الذي لا يكون معصوماً ، عن أهوال يوم القيامة ؟ فالجواب من وجهين :
الأول - أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح . ولا يكون آتياً بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركاً لجميع المعاصي .
والثاني - أنه إذا حصل خوف ، فذلك عارض قليل لا يعتد به . انتهى .
ثم بين تعالى بعضاً آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } [ 70 ]
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي : على الإيمان بالله ورسله : { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم : { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ } أي : بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من الأحكام الحقة . مع أن وضع الرسالة ، الدعوة إلى مخالفة الهوى : { فَرِيقاً } منهم : { كَذَّبُوا } مع ظهور دلائل صدقهم : { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } بعد التكذيب . سدّاً لدعوتهم إلى ما يخالف أهويتهم .
لطيفتان :
الأولى : قال الزمخشريّ : جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه .
قال الناصر في " الانتصاف " : ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهراً في الآية الأخرى ، وهي توأمة هذه ، قوله تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] . فأوقع قوله : { اسْتَكْبَرْتُمْ } جواباً . ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض . فلو قدر الزمخشري ههنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال : وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا ، لكان أولى ، لدلالة مثله عليه .
الثانية : قال الزمخشريّ : فأن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً ؟ قلت : جيء : { يَقْتُلُونَ } على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة ، للتعجيب منها .
قال في " الانتصاف " : أو يكون حالاً على حقيقته . لأنهم داروا حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم . وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في ( البقرة ) ؛ وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي ، وتمثيله بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] . فعدلَ عن ( فأصبحت ) إلى ( فتصبح ) تصويراً للحال واستحضاراً لها في ذهن السامع ، ومنه :
~بأني قد لقيت الغول تًهْويٍ بِسَهْبٍ كالصحيفة صَحْصَحَانِ
~فأضربها بلا دَهَشٍ فخرّت صريعاً لليدين ولِلجرَانِ
وأمثاله كثيرة . انتهى .
قال الخفاجيّ : اقتصر العلامة هنا على حكاية حال أسلافهم ، لقرينة ضمائر الغيبة ، وترك تلك الآية - يعني آية البقرة - على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين . ليكون توبيخاً وتعبيراً للحاضرين بفعل آبائهم . ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه السلام . فتأمل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 71 ]
{ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل : { فَعَمُوا وَصَمُّوا } عطف على ( حسبوا ) ، و ( الفاء ) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ أي : أمنوا بأس الله تعالى ، فتمادوا في فنون الغيّ والفساد ، وعموا عن الدين ، بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة ، وصمّوا عن استماع الحق الذي ألْقَوْهُ عليهم ، ولذلك فعلوا ما فعلوا : { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : مما كانوا فيه .
قال العلامة أبو السعود : لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم ، تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم . وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم ، تمهيداً لبيان نقضهم إياهم بقوله تعالى :
{ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا } كرة أخرى : { كَثِيرٌ مِنْهُمْ } بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف ، أي : أولئك كثير منهم : { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل . والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور . ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا ، إشارة إجمالية ، اكتفي بها تعويلاً على ما فصل نوع تفصيل في سورة ( بني إسرائيل ) أفاده أبو السعود . وهو مأخوذ من كلام القفال ، كما سيأتي :
تنبيه :
في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق بهم قبل عيسى وبعده . وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤسائهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم . ولا سيما في عبادتهم الأوثان . وينحصوهم أن يرجعوا إلى الله . وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا . كما أنبأهم إِرْميا عليه السلام بخراب بلدهم ، وقضائه تعالى الهائل عليهم ، إن أصرّوا على طغيانهم . فما استمعوا له . حتى روي أنه ختم له بالشهادة . إذ رجمته اليهود بمصرّ عتوّاً واستكباراً . ثم سلط الله عليهم بختنصر , ملك بابل ، وسبى شعبهم وهدمت جنودهم مدينتهم بيت المقدس وهيكلها . وصار تلال خرابٍ . وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم , وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم . فحلّ عليهم من البابلية الشقاء والويل . وأُخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات . ولم يترك منهم إلاَّ الفقراء فقط , . وبذلك انتهى ملكهم , وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانون سنة . ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم ، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس . بعد أن أقاموا في بابل سبعين سنة . وابتدأوا ببناء هيكلهم ثانية . وأرجعوا العبادة إليه . وقام حزقيال عليه السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا . وهكذا كل نبيِّ فيهم ، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام . فعموا عن الاهتداء به وصمّوا عن وعظه ، وكان ما كان من همّهم بقتله . فدمرهم الله بعد ذلك وأباد مملكتهم . وطُردوا من أرضهم بعد رفع عيسى عليه السلام . بنحو أربعين سنة . وأخذ الرومانيون مدينتهم وهدموها مع الهيكل . وحلت عليهم نقمة الله فتفرقوا شذر مذر .
هذا ، وما قيل بأن قوله تعالى : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } إشارة إلى عبادتهم العجل - فإنه بعيد . لأنها ، وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم ، لكنها في عصر موسى عليه السلام . ولا تعلّق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بإعصار . وكذا ما قيل بأن قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } إشارة إلى طلبهم الرؤية - فبعيد أيضاً ، لما ذكرنا . وفنون الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى . خلا أنّ انحصار ما حكي عنهم ههنا في المرتين ، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام ، يقضي بأن المراد ما ذكرناه . والله عنده علم الكتاب . كذا أفاده أبو السعود .
ونحن نوافقه على ما رآه . بيد أنّ ما سقناه في التنبيه أظهر في ما جرياتهم ، وأشد مطابقةً لما في تواريخهم ، مما ساقه هنا . فتثبت .
ويرحم الله الإمام القفال حيث قال : ذكر الله تعالى في سورة ( بني إسرائيل ) ما يجوز أن يكون تفسيراً لهذه الآية فقال : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 4 - 6 ] . فهذا في معنى ( فعموا وصموّا كثيرا منهم ) ثم قال : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } . فهذا في معنى قوله : { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ } انتهى . ثم بيّن تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام ، من التوحيد الخالص ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ 72 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } .
قال الرازي : هذا قول اليعقوبية منهم . يقولون : إن مريم ولدت إلهاً . قال : ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون إن الله تعالى حلّ في ذات عيسى واتّحد بها ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً .
وقد سبق الكلام على مثل هذا الآية في هذه السورة مفصّلاً ، فتذكرّ .
ثم بيّن تعالى أنهم صموّا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد ، كما عَمْوا عما فيه من أمارات الحدوث ، بقوله سبحانه : { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ } ولم يقل اعبدوني . ثم صرّح بقوله : { رَبِّي وَرَبَّكُمْ } قلعاً لمادة توهم الاتحاد : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } كيف والشرك أعظم وجوه الظلم : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي : ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار ، إما بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة . والجمع لمراعاة المقابلة بـ ( الظالمين ) ؛ و ( اللام ) أما للعهد ، والجمع باعتبار معنى : { مَنْ } ، كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها . وما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً . ووضعه على الأول موضع الضمير ، للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحقّ . والجملة تذييل مقرِّر لما قبله . وهو إمّا من تمام كلام عيسى عليه السلام ، وإمَّا وارد من جهته تعالى ، تأكيداً لمقالته عليه السلام ، وتقريراً لمضمونها . أفاده أبو السعود . ثم بيّن تعالى كفر طائفة أخرى منهم بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 73 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } أي : أحد ثلاثة آلهةٍ ، بمعنى واحد منها ، وهم الله ومريم وعيسى .
وقال بعضهم : كانت فرقة منهم تسمى ( كولى ري دينس ) تقول : الآلهة ثلاثة : الأب والابن ومريم .
وجاء في كتاب " علم اليقين " : أن فرقة منهم تسمى ( المَرْيَميِّين ) قال : يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان . قال : وكذلك البربرانيّون وغيرهم . انتهى .
وأسلفنا عن ابن إسحاق أنّ نصارى نجران ، منهم من قال بهذا أيضاً .
أو المعنى : أحد ثلاثة أقانيم كما اشتهر عنهم . أي : هو جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم : أب وابن وروح القدس . وزعموا ، أن الأب إله والابن إله والروح إله والكلّ إله واحد . كما قدمنا عنهم في قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } .
قال الرازي رحمه الله : واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل . فإن الثلاثة لا تكون واحداً ، والواحد لا يكون ثلاثة . ولا يرى في الدنيا مقالة أشدُّ فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى . انتهى .
وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا ، وهي شهيرة متداولة ، والحمد لله .
لطيفة :
اتفق النحاة واللغويون على أن معنى قولهم ( ثالث ثلاثة ورابع أربعة . . ) ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقاً . لا الوصف بالثالث والرابع .
وفي " التوضيح وشرحه " : لك في اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما أن تستعمله على سبعة أوجه :
أحدها - أن تستعمله مفرداً عن الإضافة ، ليفيد الاتصاف بمعناه . فتقول : ثالث ورابع . ومعناه حينئذٍ واحد موصوف بهذه الصفة وهي كونه ثالثاً ورابعاً .
الوجه الثاني : أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه ، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير . فتقول : خامس خمسة أي : واحد من خمسة لا زائد عليها ، ويجب حينئذ إضافة إلى أصله . كما يجب إضافة البعض إلى كله . كـ : يد زيد ، قال تعالى : { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْن } [ التوبة : 40 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } . وزعم الأخفش وقطرب والكسائي وثعلب أنه يجوز إضافة الأول إلى الثاني ، ونصبه إياه ، فعلى هذا يجوز ثالث ثلاثةٍ بجرّ ( ثلاثة ) ونصبها . كما يجوز في ( ضارب زيد ) .
الوجه الثالث - أن تستعمله مع ما دون أصله الذي صيغ منه بمرتبة واحدة ، ليفيد معنى التصيير ، فتقول : هذا رابع ثلاثة بنفسه أربعة ، قال تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] . أي : إلا هو مصيّرهم أربعة ومصيرهم ستة . ويجوز حينئذٍ إضافته وإعماله ، كما يجوز الوجهان في جاعل ومصير ونحوهما .
وانظر تتمة الأوجه .
وبما ذكرناه يعلم ردّ ما ذهب إليه الجامي في " شرح الكافية " من اعتبار الصفة في نحو ( ثالث ثالثة ) حيث قال في شرح قول ابن الحاجب : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } : أي : أحدها . لكن لا مطلقاً بل باعتبار وقوعه في المرتبة الثالثة . قال : وإلاَّ يلزم جواز إرادة الواحدِ الأولَ من عاشر العشرة وذلك مستبعد جداً . انتهى .
فكتب عليه بعض المحققين ما نصّه : الظاهر من عبارة ( التوضيح ) ومن كلام المصنف أنه لا يعتبر الوقوع في المرتبة الثانية أو الثالثة وهكذا . . إذْ يبعد في الآيتين كون المراد بـ ( ثَانِي اثْنَيْنَ وَثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ) كونه في المرتبة الثانية أو الثالثة بل المراد أنه بعض تلك العدّة ، بلا نظر لكونه في المرتبة الثانية والثالثة . إلاَّ أن يكون هذا باعتبار الوضع ، وإن كان الاستعمال بخلافه . ولذا كتب العلامة عبد الحكيم على قوله ( وذلك مستبعدٌ جدّاً ) أي : عند العقل ، وإلاَّ فالاستعمال بخلافه . انتهى .
{ وَمَا مِنْ إِلَهٍ } في نصّ الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل : { إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا يتعدد أفراداً ولا أجزاءً : { وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ } من هذا الافتراء والكذب ، بعد ظهور الدلالة القطعية ، متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماتُهُ : { لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة . من عذاب الحريق والأغلال والنكال . قال الزمخشري : ولم يقل ( ليمسنّهم ) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة . وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ } وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير : { الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ } أنهم بمكان من الكفر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 74 ]
{ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } بالتوحيد والتنزيه عمّا نسبوه إليه من الاتحاد والحلول ، فيرجعوا عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات ، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده ، فيه تعجيب من إصرارهم . ومدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء والتوبة معاً . أو معناه : ألا يتوبون - بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد - مما هم عليه . فمدارهما عدم التوبة عقب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة .
قال ابن كثير : هذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه . مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة . فكل من تاب عليه . كما قال : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيغفر لهؤلاء إن تابوا ، ولغيرهم .
قال أبو السعود : الجملة حالية من فاعل : { يَسْتَغْفِرُونَهُ } مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار . أي : والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة . فيغفر لهم عند استغفارهم ، ويمنحهم من فضله .
ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمّه على إلهيتهما . بأنّ غايتهما الدلالة على نبوّته وولايتها ، استنزالاً لهم عن الإصرار على ما تقوّلوا عليهما ، وإرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 75 ]
{ مَا الْمَسِيحُ } أي : المعلوم حدوثه من كونه : { ابْنُ مَرْيَمَ } بالخوارق الظاهرة على يديه : { إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت : { مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أولو الخوارق الباهرة . فله أسوة أمثاله . كما قال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [ الزخرف : 59 ] . أي : ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله ، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها . إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى . وهو أعجب . وإن خَلَقَهُ من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب ولا أم . وهو أغرب منه ، وفي الآية وجه آخر : أي : مضت من قبله الرسل ، فهو يمضي مثلهم . فالجملة - على كل - منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي : مبالغة في الصدق . ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } . والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها . فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها ؟
تنبيه :
قال ابن كثير :
دلت الآية على مريم ليست بنبيّه . كما زعمه ابن حزم وغيره - ممن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق ونبوّة أم موسى ونبوّة أم عيسى - استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } . وهذا معنى النبوّة . والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلاَّ من الرجال . قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] . وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريّ ، رحمه الله ، الإجماع على ذلك . انتهى .
فائدة ( في حقيقة الصديق والصدق ) :
قال العارف القاشاني قدس الله سرّه في " لطائف الأعلام " :
الصدّيق الكثير الصدق . كما يقال : سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك .
الصديق من الناس من كان كاملاً في تصديقه لما جاءت به رسل الله علماً وعملاً ، قولاً وفعلاً وليس يعلو على مقام الصديقية إلاَّ مقام النبوّة . بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوة . قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [ مريم : 58 ] . الآية . فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما . ثم بيّن قدس سره صدق الأقوال ، وصدق الأفعال ، وصدق الأحوال .
فالأول : هو موافقة الضمير للنطق . قال الجنيد : حقيقة الصدق أن تصدق في مواطنٍ لا ينجيك فيه إلاّ الكذب . و صدق الأفعال : هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة . قال المحاسبيّ : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه . ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله . ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من حاله . لأن كراهته لذلك دليل على أنه يجب الزيادة عندهم . وليس هذا من أخلاق الصدّيقين .
و صدق الأحوال : اجتماع الهم على الحق ، بحيث لا يختلج في القلب بفرقة عن الحق بوجه .
وقوله تعالى : { كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء . وفيه تبعيد عما نسب إليهما .
قال الزمخشري : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام ، وما يتبعه من الهضم والنفض ، لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة ، مع شهوة وقَرَمٍ وغير ذلك . . . مما يدل على أنه مصنوع مؤلَّف مدبّر كغيره من الأجسام .
لطيفة :
إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى ، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام ، ترقياً في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى ، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم ، حتى إذا لم يسلّم في الجليّ لغموضه عليه ، يورد له الأجلى تعريضاً بغباوته . فيضطر للتسليم ، إن لم يكن معانداً ولا مكابراً .
هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير .
وأما قول الخفاجيّ - ملخصاً كلام البيضاويّ -في سر ذلك : أنه تعالى بين أولاً أقصى مراتب كمالهما ، وأنه لا يقتضي الألوهية ، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما ، على حد قوله تعالى : { عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } . حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم . انتهى - فبعيدٌ .
وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين . فالأظهر ما ذكرناه ، والله أعلم بأسرار كتابه .
{ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ } أي : على توحيد الله ، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه ، وبطلان شبهاتهم ! : { ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان . !
قال أبو السعود : وتكرير الأمر بالنظر ، للمبالغة في التعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ، ولا يرعوون عن ذلك ، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبة ريب ، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت . أي : إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه ، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح . وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة ، وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 76 ]
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } هذا دليل آخر على فساد قول النصارى ، والموصول كناية عن عيسى وأمه ، أي : لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال . ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة البدن والسعة والخصب . ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع ، فبإقدار الله وتمكينه ، فكأنهما لا يملكان منه شيئاً . وإيثار ( ما ) على ( من ) لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل ممن الألوهية رأساً . ببيان انتظامهما في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلاً ؛ أي : وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته . وإنما قدم ( الضر ) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } بالأقوال والعقائد . فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فهو وعد ووعيد .
تنبيهات :
الأول . جعل ابن كثير الخطاب في قوله تعالى : { أَتَعْبُدُونَ } عامّاً للنصارى وغيرهم ، أي : قل لهؤلاء العابدين غيرَ الله من سائر فرق بني آدم .
وفي " تنوير المقباس " أن ( ما ) عبارة عن الأصنام خاصة .
وكلاهما مما يأباه السباق والسياق .
الثاني : قال في " فتح البيان " : إذا كان هذا في حق عيسى النبيّ ، فما ظنك بوليّ من الأولياء ؟ فإنه أولى بذلك .
الثالث : جعل أكثر المفسرين ( ما ) كناية عن عيسى عليه السلام فقط ، والمقام أنها كناية عنه وعن أمه عليهما السلام ، كما أوضحه المهايميّ واعتمدناه .
الرابع : دلت الآية على جواز الحجاج في الدين ؛ فإن كان مع الكفار وأهل البدع ، فذلك ظاهر الجواز ؛ وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق ، لا إن قصد العلوّ فمحظور . وحُكي عن الشافعيّ أنه كان إذا جادل أحداً قال : اللهم ! ألق على لسانه . أفاده بعض الزيدية .
ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى ، أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلوّ الباطل ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [ 77 ]
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } أي : الذي هو ميزان العدل : { لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه ، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقوّلتم عليهما من العظيمة ، فأدخلتم في دينكم اعتقاداً غير الحق بلا دليل عليه ، مع تظاهر الأدلة على خلافه . ونصب ( غير ) أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : غلوّاً غير الحق . يعني غلوّاً باطلا . أو حال من ضمير الفاعل أي : مجاوزين الحق . و ( الغلو ) نقيض التقصير ، ومعناه الخروج عن الحد ؛ وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ودين الله بين الغلو والتقصير .
تنبيه :
دلت الآية على أن الغلوّ في الدين غلوَّانِ : ( غلوّ حق ) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه ؛ و ( غلوّ باطل ) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه .
قال بعض الزيدية : دلت الآية على أن الغلوّ في الدين لا يجوز ، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل . ومن هذا ، الغلوُّ في الطهارة مع كثير من الناس ، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب . انتهى .
ومن هذا القبيل الغلوّ في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيرّها كالأوثان التي كانت تعبد .
وروى الإمام أحمد والنسائيّ وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إيّاكم والغلوّ في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين > .
وعن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله > . أخرجاه .
ولمسلم عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < هلك المتنطّعون > ! قالها ثلاثاً . ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه :
{ وَلا تَتَّبِعُوا } قال المهايمي : أي : تقليداً : { أَهْوَاءَ قَوْمٍ } تمسّكوا بخوارقهما على إلهيتهما . فإن نظروا إلى سبقهم فغايتهم أنهم : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } إلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم : { أَضَلُّوا كَثِيراً } ممن شايعهم على التثليث : { وَ } إلى تمسّكهم بمتشابهات الإنجيل ، فغايتهم أنهم : { ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } إذْ لم يردّوها إلى المحكمات .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي :
الهواء -ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجّة . قال الشعبي : ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلاّ ذمّه . قال : { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه } [ ص : 26 ] { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [ طه : 16 ] { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } [ االنجم : 3 ] { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] . قال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلاّ في موضع الشر . لا يقال فلان يهوى الخير . إنما يقال : يريد الخير ويحبه . وقال بعضهم : الهوى إله يعبد من دون الله . وقيل : سميّ الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار .
وأنشد في ذم الهوى :
~إنّ الهوى لهو الهَوانُ بعينه فإذا هويتَ فقد لقيتَ هواناً
وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك ، فقال ابن عباس : كل الهوى ضلالة .
الثاني : قال الرازي أيضاً : إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال : فبيّن أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلّين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمرّوا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا . ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى ، من هذه الحالة . نعوذ بالله منها . ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم ، في ذلك الإضلال ، أنه إرشاد إلى الحقّ . ويحتمل أن يكون المراد بالضلال عن الدين ، وبالضلال عن طريق الجنة . انتهى .
وهذه الوجوه - مع ما أسلفناه عن المهايميّ - كلّها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعاً عليهم .
الثالث : دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل - مع مخالفتها للعقول وزاحمتها للأصول - لا مستند ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالين ، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام . وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب . وتمّسكوا في ذلك ، بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علماً ، مما لا أصل له في شرع الإنجيل ، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حواريّيه . وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت ، يكذب بعضه بعضاً ، ويعارضه ويناقضه ، كما تبيّن من الكتب المصنفة في الردّ عليهم .
الرابع : جاء في " تنوير المقباس " :
إن المراد بـ ( أهل الكتاب ) هنا : نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ } العاقب والسيد . والأول - كما قال ابن إسحاق - أمير القوم وذا رأيهم . والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم .
والأظهر أن المعني بـ ( أهل الكتاب ) عموم النصارى . والمذكورون يدخلون فيه دخولاً أولياً .
الخامس : ذكر كثير من المفسّرين : أن المراد بـ ( أهل الكتاب ) هنا : اليهود والنصارى . وأن كليهما غلا في عيسى عليه السلام : أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة . وأما غلو النصارى فمعلوم . وأن الخطاب في قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ } لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم . انتهى .
وظاهر أنّ ما نسب للفريقين - من الغلوّ والابتداع - مسلّم . بيد أن الأقرب للسباق الداحض لشبهات النصارى ، أن تكون هذه الآية فيهم زجراً لهم عمّا سلكوه ، إثر إبطاله بالبراهين الدامغة . على أن الغلوّ ألصق بالنصارى منه باليهود ، كما لا يخفى . والله أعلم .
ثم أخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود وعيسى عليهما السلام . بسبب عصيانهم وما عدّد من كبائرهم . فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ 78 ]
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ } أي : لعنهم الله عز وجلّ : { عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } أي : لسانيهما . وأفرد لعدم اللبس ، إن أريد بالسان الجارحة . وقيل : المراد به الكلام وما نزل عليهما . كذا في " العناية " .
{ ذَلِكَ } أي : لعنهم الهائل : { بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ 79 ]
{ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } أي : لا ينهى بعضهم بعضاً عن ارتكاب المآثم والمحارم . ثم ذمَّهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } مؤكداً بلام القسم . تعجيباً من سوء فعلهم ، كيف وقد أدّاهم إلى ما شرح من اللعن الكبير .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على جواز لعنهم .
الثاني : دلت الآية أيضاً على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع . لم رواه أكثر المفسرين ، أن الذين لعنهم داود عليه السلام أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه . وستأتي قصتهم في ( الأعراف ) .
الثالث : دلت أيضاً على وجوب النهي عن المنكر .
قال الحاكم : وتدل على أن ترك النهي من الكبائر .
الرابع : روى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، أو في أسواقهم ، وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم { ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال : < لا ، والذي نفسي بيده ! حتى تَأْطِرُوهم على الحق أطراً > . أي : تعطفوهم عليه . ورواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وأخرجه أبو داود عنه فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا ! اتق اللهَ ، ودَعْ ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ثم ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } -إلى قوله - : { فَاسِقُونَ } . ثم قال : كلا والله ! لتأمرن بالمعروف . ولتنهونّ عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطِرنّه على الحق أطراً ، أو تقصرنَّه على الحق قصراً > .
زاد في رواية : أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض ، ثم يلعنكم كما لعنهم .
وكذا رواه الترمذي وحسّنه . وابن ماجة .
والأحاديث في ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) كثيرة ، ومما يناسب منها هذا المقام :
ما رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن حذيفة بن اليمان : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < والذي نفسي بيده ! لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر ، أو ليُوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ، ثم لَتَدْعُنّه فلا يستجيب لكم > .
وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من رأى منكم منكراً فليغيّرهُ بيده . فإن لم يستطع فبلسانه . فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان > .
وروى الإمام أحمد عن عديّ بن عَميرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إنَّ الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم . وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه . فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة > .
وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدريّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الله لَيَسْأَل العبد يوم القيامة حتى يقول : ما منعك إذْ رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال : يا ربّ ! رجوتك وفرقت الناس > .
قال الحافظ ابن كثير : تفرّد به ابن ماجة . وإسناده لا بأس به .
وروى الإمام أحمد والترمذيّ عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه . قيل : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء ما لا يطيق > .
قال الترمذيّ : حسن غريب .
وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال : قيل : يا رسول الله ! متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال : < إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم . قلنا : يا رسول الله ! وما ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال : الملك في صغاركم ، الفاحشة في كباركم ، والعلم في رُذالتكم > .
قال زيد بن يحيى الخزاعيّ ، أحد رواته : معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ( والعلم في رذالتكم ) إذا كان العلم في الفساق .
تفرد به ابن ماجة . وله شاهد في حديث أبي ثعلبة يأتي إن شاء الله عند قوله تعالى : { لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ } - أفاده ابن كثير .
أقول : هذه الأحاديث إنما يتروّح بها الضعفة ، من نحو العلماء والقادة . وأما من كان لهم الكلمة النافذة والوجاهة التامة فهيهات أن تغني عنهم ، وهذه المواعيد الهائلة تخفق فوق رؤوسهم . . ولذا قال العّلامة الزمخشري : فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير ، وقلّة عبئهم به . كأنه ليس من ملّة الإسلام في شيء . مع ما يتلون من كتاب الله ، وما فيه من المبالغات في هذا الباب وقد مرّ عند قوله تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ } [ المائدة : 63 ] ما يؤيد ما هنا ، فتذكرّ .
الخامس : قال الزمخشري : فإن قلت : كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء ؟ قلت : من قِبَلِ أن الله تعالى أمر بالتناهي . فكان الإخلال به معصية ، وهو اعتداء .
ولما وصف تعالى أسلافهم بما مضى ، وصف الحاضرين بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } [ 80 ]
{ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : من أهل الكتاب : { يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : يوالون المشركين ، بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الرازي : والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه ، حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم : وذكرنا ذلك في قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } .
{ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي : لبئس شيئا قدموا لمعادهم . وقوله تعالى : { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } هو المخصوص بالذم ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ، ومبالغة في الذم الذم . والمعنى : لبئس زادهم في الآخرة موجب سخطه تعالى عليهم : { وَفِي الْعَذَابِ } : { هُمْ خَالِدُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ 81 ]
{ وَلَوْ كَانُوا } أي : هؤلاء الذين يتولون عَبْدة الأوثان من أهل الكتاب : { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ } أي : نبيهم موسى عليه السلام : { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ } أي : من التوراة : { مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } إذ الإيمان بالله يمنع من تولّي من يَعْبُدُ غَيْرَهُ : { وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } خارجون عن دينهم ، أو متمردون في نفاقهم . يعني : أن موالاتهم للمشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم ، وإن إيمانهم ليس بإيمان ، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام ، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام ، بل مرادهم الرياسة والجاه ، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه ، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق .
وفي الآية وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : ولو كانوا - أي : منافقوا أهل الكتاب المدّعون للإيمان - يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن حق الإيمان ، ما ارتكبوا ما ارتكبوه ، من موالاة الكافرين في الباطن .
والوجه الأول أقوم ، والله أعلم .
ثم أكد تعالى ما تقدم من مثالب اليهود بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ 82 ]
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } وإنما عاداهم اليهود لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وعادهم المشركون لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء -أشار إليه المهايميّ .
وقال غيره : لشدة إبائهم ، وتضاعف كفرهم ، وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء ، والاجتراء على تكذيبهم ، ومناصبتهم لهم . ولهذا قتلوا كثيراً منهم حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ، وسموه ، وسحروه ، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين . وفي تقديم ( اليهود ) على ( المشركين ) ، بعد لزّهما في قرَن واحد ، إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة ، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ البقرة : 96 ] إيذاناً بتقدمهم عليهم في الحرص { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } للين جانبهم وقلة غلّ قلوبهم .
قال ابن كثير : وما ذاك إلا لما في قلوبهم ، إذ كانوا على دين المسيح ، من الرقة والرأفة كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } [ الحديد : 27 ] وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر . وليس القتال مشروعاً في ملّتهم . انتهى .
ولأن من مذهب اليهود ، أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان ، من القتل ونهب المال ونحوهما ، وهو عند النصارى حرام . فحصل الفرق .
وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً : < ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله > .
ولكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهيب ، مما يدعوا إلى قلة البغضاء والحسد ، ولين العريكة ، كما أشير إليه بقوله تعالى : { ذَلِكَ } أي : كونهم أقرب مودة للمؤمنين : { بِأَنَّ مِنْهُمْ } أي : بسبب أن منهم : { قِسِّيسِينَ } أي : علماء : { وَرُهْبَاناً } أي : عبّاداً متجردين : { وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود . وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم ، والإعراض عن الشهوات ، والبراءة من الكبر - محمود . وإن كان ذلك من كافر .
لطيفة :
قال الناصر في " الانتصاف " :
إنما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } ولم يقل ( النَّصَارىَ ) تعريضاً بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر ، لأن اليهود قيل لهم : { ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] . فقابلوا ذلك بأن قالوا : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، والنصارى قالوا : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه } [ آل عِمْرَان : 52 ] . ومن ثم سُمُّوا نصارى . وكذلك أيضاً ورد أول هذه السورة { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 14 ] . فأسند ذلك إلى قولهم ، والإشارة به إلى قولهم : { نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } لكنه ههنا ذكر تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله . وفي الآية الثانية ذكر تنبيهاً على أنهم أقرب حالاً من اليهود . لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالردّ مكافحة اليهود . بل قالوا : { نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } . اليهود قالت : { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } . . . الآية ، فهذا سره . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ 83 ]
{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } عطف على ( لا يستكبرون ) . قال أبو البقاء : ويجوز أن يكون مستأنفاً في اللفظ وإن كان له تعلق بما قبله في المعنى . يعني : وإذا سمعوا القرآن : { تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ } أي : تنصبٌ : { مِنَ الدَّمْعِ } الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف ، مع برد اليقين : { مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أي : من كتابهم ، فوجدوه أكمل منه وأفضل ، أو من الذي نزل على الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحق ، أو من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم : { يَقُولُونَ } أي : من عدم استكبارهم : { رَبَّنَا آمَنَّا } أي : بك وبما أنزلت وبرسولك محمد : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته . روى الحاكم ، وصححه ، ابن عباس قال : أي : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته هم الشاهدون . يشهدون لنبيهم أنه قد بلّغ ، وللرسل أنهم قد بلَّغوا .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } [ 84 ]
{ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ } إنكار استبعادٍ لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه - وهو الطمع - في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين : { وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ } أي : وبما جاءنا من القرآن . وفي إعرابه وجه آخر يأتي { وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أو المعنى : أن يدخلنا ربّنا الجنة وع الأنبياء والمؤمنين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } [ 85 ]
{ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا } أي : بما تكلموا به من قولهم : { رَبَّنَا آمَنَّا } الصادر عن اعتقاد وإخلاص واعتراف بالحقّ : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا } أي : من تحت شجرها ومساكنها : { الْأَنْهَارُ } يعني أنهار الماء واللبن والعسل : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها : { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } يعني المؤمنين الموحّدين المخلصين في إيمانهم .
تنبيهات :
الأول : اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله عليهم .
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة ابن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْرو بن أمية الضمريّ وكتب معه كتاباً إلى النجاشي . فقدم على النجاشي . فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل إلى الرهبان والقسيسين . ثم أمر جعفر بن أبي طالب فقرأ عليهم سورة مريم . فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع . فهم الذين أنزل الله فيهم : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّة } - إلى قوله - : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي ثلاثين رجلاً من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقرأ عليهم سورة ( يس ) فبكوا , فنزلت فيهم الآية .
وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُول } .
وروى الطبرانيّ عن ابن عباس ونحوه , بأبسط منه .
- كذا في " أسباب النزول للسيوطي ّ " -
وقال ابن كثير : قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه , الذين , حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن , بكوا حتى أخضبوا لحاهم .
قال ابن كثير : وهذا القول فيه نظر . لأن هذه الآية مدنية , وقصة جعفر مع النجاشيّ قبل الهجرة . انتهى .
أقول : إن نظره مدفوع , فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها , ونظائره في التنزيل كثيرة , ولا إشكال فيه . . وظاهر أن المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة . وهم يهود بني قريظة والنضير . وبعناد المشركين أيضاً ، وقساوة قلوب الفريقين ، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه . وقال ابن كثير : هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [ آل عِمْرَان : 199 ] . الآية ، وهم الذين قال الله فيهم : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } . . إلى قوله - : { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 52 - 55 ] . انتهى .
وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة ؛ أنّ قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم ، فافتتن من افتتن منهم ، وعصم الله من شاء منهم .
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية ، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هو فيه من البلاء -قال لهم : < لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، وهي أرض صدِقْ ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم > .
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة . وفرّوا إلى الله بدينهم . فكانت أول هجرة كانت في الإسلام .
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها - ثلاثة وثمانين رجلاً ، إن كان عمّار بن ياسر فيهم ، وهو يشكّ فيه .
ثم روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة -زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم - قالت : لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشيّ . أمنَّا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نُؤْذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه . فلمَّا بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جَلْدَيْن . وأن يُهدوا للنجاشيّ هدايا مما يُستطرف من متاع مكة . وكان من أعجب ما يأتيه منها الأَدَم . فجمعوا له أدَمَاً كثيراً . ولم يتركوا من بطارقته بِطريقاً إلاَّ أهدَوْا له هدية . ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو ابن العاص . وأمروهما بأمرهم ، وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشيّ فيهم . ثم قدّما إلى النجاشي هداياه . ثم سلاه أن يُسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم . قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشيّ - ونحن عنده بخير دار ، عند خير جار - فلم يبق من بطارقته إلا دفعاً إليه هديته قبل أن يكلما النجاشيّ ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوى - أي : لجأ - إلى بلد الملك منا ، غلمان سفهاءُ ، فارقوا دين قومه ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بَعَثَنَا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم ليردّهُم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يُسْلمهم إلينا ولا يكلمهم . فإنَّ قومهم أعلى بهم عيناً . ( أي : أبصر بهم ) وأعلم بما عاموا عليهم . فقالوا لهما : نعم . ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشيّ فقبلها منهما ، ثم كلّماه بما كلّما كلّ بطريق .
قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي . قالت : فقالت بطارقته حوله : صَدَقَا . أيها الملك ! قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم . فأَسْلمهم إليهما فليردَّاهم إلى بلادهم وقومهم . فقالت : فغضب النجاشيّ ثم قال : لاها الله ! إذا لا أسْلمهم إليهما . ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي ، حتى أدعَوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم . فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم لهما ورددتهم إلى قومهم . وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا . ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا نقول والله ! ما علمنا . وما أمرَنَا به نبينا ، كائناً في ذلك ما هو كائن . فلما جاؤوا - وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال لهم : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل ؟ قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك ؟ كنا قوماً أهل جاهلية . نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ونسئ الجوار . ويأكل القويّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان . وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت : فعدّد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله . فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا , فعدا علينا قومنا , فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى , وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على سواك ، ورغبنا في جوارك , ورجونا أن لا مظلم عندك أيها الملك ! قال : فقال له النجاشيّ : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم ! فقال له النجاشيّ : فاقرأه عليّ . قالت : فقرأ عليه صدراً من ( كهيعص ) قالت : فبكى , والله ! النجاشيّ حتى اخضلّت لحيته , وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم . ثم قال النجاشيّ : إن هذا , والذي جاء به عيسى , ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا , فلا , والله ! لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون .
قالت : فلما خرجا من عنده قال عَمْرو بن العاص : والله ! لآتينّه غدا عنهمً بما استأصل به خضراءهم ( أي : شجرتهم التي منها تفرعوا ) .
قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - : لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا . قال : والله ! لأخبرنه أنهم يزعمون انتهى عيسى ابن مريم عبد .
قالت : ثم غدا عليه من الغد فقال : أيها الملك ! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً . فأرسلْ إليهم فسلهم عما يقولون فيه . قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه .
قالت : ولم ينزل بنا مثلها قط . فاجتمع القوم . ثم قال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه ؟ قالوا نقول والله ! ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن . قال : فلما دخلوا عليه قال لهم : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟ قالت : فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاءنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت : فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ، ثم قال : والله ! ما عدا عيسى ابن مريم ، مما قلت . هذا العودَ . قالت : فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال . فقال : وإن نخرتم ، والله ! اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون - مَنْ سَبّكم ، غرِم . قالها ثلاثاً .
ثم قال : ما أحب أن لي دَبْراً - والدبر الجبل -من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم . ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها .
قالت : فخرجا من عنده مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دارٍ مع خير جارٍ .
ثم روى ابن إسحاق في قصته : أن النجاشيّ عمد إلى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . ويشهد أنَّ عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم . انتهى .
وإسلام النجاشي معروف . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما مات صلّى عليه مع تباعد الديار .
وذكر شمس الدين بن القيم في " زاد المعاد " : أنه كان مخرجهم إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث .
التنبيه الثاني :
في الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء . وفي الخبر : ابكوا فإن لم تجدوا بكاءً فتباكوا . أخرجه المنذري في " الترغيب والترهيب " عن عبد الله بن عَمْرو . وقال : رواه الحاكم مرفوعاً وصححه . والمراد إشراب القلب والخوف المهابة لله تعالى .
الثالث : في قوله تعالى : { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا } وقوله : { فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ } دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هو مذهب الفقهاء . وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله تعالى : { بِمَا قَالُواْ } ، لكن الثناء بفيَض الدمع في السباق ، وبالإحسان في السياق ، يدفع ذلك ؛ وأنَّى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ؟ نفى الإيمان عنهم ، مع قولهم : { آمَنَّا بِاللّهِ } لعدم التصديق بالقلب .
وقال أهل المعرفة : الموجود منهم ثلاثة أشياء : البكاء على الجفاء ، والدعاء على العطاء ، والرضا بالقضاء . فمن ادعى المعرفة ، ولم يكن فيه هذه الثلاثة ، فليس بصادق في دعواه . . ! أفاده النسفي .
وقال الخازن : إنما علق الثواب بمجرد القول ، لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا . وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب . لأن القول إذا اقترن بالمعرفة فهو الإيمان الحقيقيّ الموعود عليه بالثواب .
وقال الرازي : لما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ، ثم أنضاف إليه القول ، لا جرم كمل الإيمان . الرابع : قوله تعالى : { وَمَا جَاءنَا } يجوز أن يزكون في موضع جرّ ، أي : وبما جاءنا ، و : { مِنَ الْحَقِّ } حال من الفاعل المستتر ، أو لغو متعلق بـ : { جَاء } أي : وبما جاءنا من عند الله . ويجوز أن يكون مبتدأ و : { مِنَ الْحَقِّ } الخبر ، والجملة في موضع الحال . وقوله تعالى : { وَنَطْمَعُ } يجوز أن يكون معطوفاً على : { نُؤْمِنُ } أي : وما لنا لا نطمع . ويجوز أن يكون التقدير : ونحن نطمع ، فتكون الجملة حالاً من ضمير الفاعل في : { نُؤْمِنُ } -أفاده أبو البقاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ 86 ]
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } أي : الذين جحدوا الحقّ الذي جاءهم وكذّبوا بِحُجَجِ الله وبراهينِه أولئك أصحاب الجحيم ، أي : النار الشديدة الحرارة . جَزاءً وفاقاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ 87 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } أي : ما طاب ولذّ منه . كأنه -لما تضمن ما سلف مدح النصارى على الترهيب ، والحث على كسر النفس . ورفض الشهوات - عقبه النهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية . ثم أشار إلى أنه اعتداء بقوله سبحانه : { وَلا تَعْتَدُوا } أي : عمّا حدّ الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراماً . أو : ولا تعتدوا في تناول الحلال فتجاوزوا الحدّ فيه إلى الإسراف كما قال تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [ الأعراف : 31 ] . وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . أو : ولا تعتدوا على النفس والأهل بمنع الحقوق . أو : ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } في كل ما ذكر ، وهو تعليل لما قبله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ 88 ]
{ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً } أي : كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله . فيكون : { حَلالاً } مفعول : { وَكُلُوا } و : { مِمَّا } حال منه ، أو متعلقة بـ : { َكُلُوا } ، أو هو المفعول و : { حَلالاً } حال من : { مَا } أو من عائده المحذوف ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : أكْلاً حلالاً . وقوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } تأكيد للتوصية بما أمر به ، وزاده تأكيداً بقوله : { الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } لأن الإيمان به يوجب التقوى ، في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه .
قال المهايمي : مقتضى إيمانكم أن لا تغيروا شيئاً من أحكام دينكم ، وأن لا تعارضوا في أحكامه ولو بكراهة من أنفسكم ، وأن تتقوه في وضع قواعد تخالف قواعد الشرع ، بل غاية ما يجوز أخذ معان من علم الشريعة مؤكدة لمقتضاه .
تنبيهات .
الأول : فيما روي في سبب نزولها :
أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمتُ عليّ اللحم . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ } . . الآية .
وروى ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان . فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك ، فقالوا : نعم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء . فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني . وروى ابن مردويه نحوه .
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة رضي الله عنها ، أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عمله في السرّ ؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم . وقال بعضهم : لا أتزوج النساء . وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : < ما بال أقوامٍ يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم . وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنّتي فليس مني > .
وروى ابن أبي حاتم ، أن عبد الله بن مسعود جاءه مَعْقِل بن مقرن فقال : إني حرمت فراشي . فتلا عليه هذه الآية .
وأخرج أيضاً عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود . فجيء بضرعٍ فتنحّى رجل . فقال عبد الله : ادن . فقال : إني حرمت أن آكله . فقال عبد الله : ادن فاطعم وكفّر عن يمينك . وتلا هذه الآية . ورواه الحاكم أيضاً .
الثاني : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية النهي عن تحريم الطيبات من الحلال . وذكر الحاكم : أن هذا النهي يحتمل وجوهاً لا مانع من الحمل على جميعها : أحدهما لا تعتقدوا التحريم . ومنها : لا تحرّموا على غيركم بالفتوى والحكم . ومنها : لا تجروه مجرى الحرمات في شدة الاجتناب . ومنها : لا تلتزموا تحريمه بنذرٍ أو غيره .
وقال القاضي : لا تحرموا الحلال بفعل يصدر منكم ، كالبياعات الربوية وخلط الحلال بالمغصوب والطاهر بالنجس .
ثم قال : ويتعلق بهذا أمرين : الأول إذا حرم الحلال ، هل يجب عليه الحنث والرجوع ؟ قلنا : ظاهر الآية يدل على ذلك ، ويلزم مع ذلك التوبة .
الأمر الثاني : هل يلزمه في ذلك كفارة ؟ قلنا هذه الآية قد يستدل بها على اللزوم ، لأن النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء . انتهى .
وقال ابن كثير : ذهب الشافعيّ إلى أنه من حرّم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ، ما عدا النساء ، أنّه لا يحرم عليه ، ولا كفارة عليه أيضاً . لإطلاق هذه الآية . ولأن الذي حرم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم - لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة .
وذهب آخرون - منهم الإمام أحمد - إلى أن من حرم شيئاً -مما ذكر - فإنه يجب عليه كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين . فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه ، كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] . ثم قال : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] . . الآية . وكذلك هنا . لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدلّ على أنَّ هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التفكير . والله أعلم .
وفي " زاد المعاد " لابن القيم فصل مهمّ في حكم من حرم أمَتَهُ أو زوجته أو متاعه . تنبغي مراجعته .
الثالث : هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في التعبد - كذا في " الإكليل " .
قال ابن جرير : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء ، ممَّا أحلّ الله لعباده المؤمنين ، على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون . فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده . وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون . إِذْ كان خير الهدى هدى نبيناً محمد صلى الله عليه وسلم . . فإذا كان ذلك كذلك تبيّن خطأ من آثَرَ لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان ، إذا قدر على لباس ذلك من حله . وآثَرَ أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء . . قال : فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا - في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل منهما من القيمة إلى أهل الحاجة - فقد ظنّ خطأ . وذلك أن الأوْلى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربّها ، ولا شيء أضَر على الجسم من المطاعم الرديئة . لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته . . انتهى .
وللرازي هنا مبحث جيد في حكمه هذا النهي . مؤيد لما ذكر . فليراجع فإنه نفيس .
وقد أخرج الترمذي عن عائشة قالت : كان رسول الله يحب الحلواء والعسل . وله عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرُفِع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهش منها . قالت عائشة : ما كان الذراع أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبّاً ، وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجاً . أخرجه الترمذي . وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعامٍ ومعه فَرْقَدٌ السَّبَخِيٌّ وأصحابه . فقعدوا على المائدة - وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك - فاعتزل فَرْقَد ناحية ، فسأل الحسنُ : أهو صائم ؟ قالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد ! أترى لعاب النحل ، بلباب البر ، بخالص السمن ، يعيبه مسلم ؟
وعنه : أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أؤدي شكره قال : أفيشرب الماء البارد ؟ قالوا نعم ، قال : إنه جاهل . إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ .
وعنه : أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال الله تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } [ الطلاق : 7 ] . ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتَنعّموا وأطاعوا . ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه .
الرابع : قال الرازي : لم يقل تعالى : كُلُوا مَا رَزَقَكُمْ ، ولكن قال : { مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } وكلمة : { مِنْ } للتبعيض . فكأنه قال : اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات ، لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 89 ]
{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } تقدم الكلام على اللغو في اليمين في ( سورة البقرة ) وإنه ما يسبق إليه اللسان بلا قصد الحلف ، كقول الإنسان : لا ، والله ! وبلى والله ! والمراد بالمؤاخذة : مؤاخذة الإثم والتكفير ، أي : فلا إثم في اللغو ولا كفارة : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أي : بتعقيدكم الأيْمَانَ وتوثيقها عليه بأن حلفتم عن قصد منكم ، أي : إذا حنثتم . أو بنكث ما عقدتم ، فحذف للعلم به . وقرئ بالتخفيف ، وقرئ ( عاقدتم ) بمعنى عقدتم : { فَكَفَّارَتُهُ } أي : فكفارة نكثه ، أي : الخصلة الماحية لإثمه : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : لا من أجوده فضلاً عما تخصونه بأنفسهم . ولا من أرادأ ما تطعمونهم فضلاً عن الذي تعطونه السائل : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : عتقها : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أي : شيئاً مما ذكر : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } كفارته : { ذَلِكَ } أي : المذكور : { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } أي : التي اجترأتم بها على الله تعالى : { إِذَا حَلَفْتُمْ } أي : وحنثتم : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } أي : عن الإكثار منها -أو عن الحنث -إذا لم يكن ما حلفتم عليه خيراً ، لئلا يذهب تعظيم اسم الله عن قلوبكم : { كَذَلِكَ } أي : مثل هذا البيان الكامل : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي : أعلام شرائعه : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج .
قال المهايمي : أي : تشكرون نعمه بصرفها إلى ما خلقت له ، ومن جملتها صرف اللسان ، الذي خلق لذكر الله وتعظيمه ، إلى ذلك . فإذا فات صرف بعض ما ملكه إلى بعض ما يجبره ليقوم مقام الشكر باللسان ، إذ به يتم تعظيمه . فإذا لم يجد كسر هوى النفس من أجله فهو أيضاً من تعظيمه . فافهم .
وفي هذه الآية مباحث :
الأول : معنى ( أو ) التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث . فإذا لم يجد انتقل إلى الصوم .
فأما الإطعام فليس فيه تحدي بقدر . لا في وجبة ولا وجبتين ، ولا في قدر من الكيل .
ولذا روي عن الصحابة والتابعين فيه وجوه . جميعها مما يصدق عليه مسماء ، فبأيها أخذ أجزأه . فمنها ما رواه ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال : يغديهم ويعشيهم . كأنه ذهب - رضي الله عنه - إلى المراد بالإطعام الكامل - أعني قوت اليوم وهو وجبتان - وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة .
ولذا قال الحسن ومحمد بن الحنفية : يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزاً ولحماً . زاد الحسن : فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً ، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا .
وعن عمر وعلي أيضاً وعائشة وثلّة من التابعين : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما .
وعن ابن عباس : لكل مسكين مدّ من بُر ومعه إدامه .
وفي " فتح القدير " من كتب الحنفية : يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز . إلا أنه إن كان براً لا يشترط الإدام ، وإن كان غيره فبإدام . وحكي عن الهادي : اشترط الأكل لإشعار ( الإطعام ) بذلك .
والأكثرون : أن الأكل غير شرط . لأنه ينطلق لفظ ( الإطعام ) على التمليك .
الثاني : إطلاق ( المساكين ) يشمل المؤمن والكافر الذميّ والفاسق . فبعضهم أخذ بعموم ذلك . ومذهب الشافعية والزيدية : خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه ، وأما الفاسق فيجوز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر . ولم يجوزه الهادي . وظاهر الآية اشترط العدد في المساكين . وقول بعضهم : إن المراد إطعام طعام يكفي العشرة ، مفرعاً عليه جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام - عدول عن الظاهر ، لا يثبت إلا بنص .
الثالث : لم يبين في الآية حدّ الكسوة وصفتها ؛ فالواجب حينئذ الحمل على ما ينطلق عليها اسمها .
قال الشافعي ، رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة - من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة - أجزأه ذلك .
وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصحّ أن يصلي فيه ، إن كان رجلاً أو امرأة ، كل بحسبه .
وقال العوفيّ عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين أو شملة .
وقال مجاهد : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت .
وعن ابن المسيّب : عمامة يلفَّ بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها .
وعن الحسن وابن سيرين : ثوبان ثوبان .
وروى ابن مردويه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : عباءة لكلّ مسكين . قال ابن كثير : حديث غريب .
أقول : لا يخفى الاحتياط والأخذ بالأكل والأفضل في الإطعام والكسوة .
الرابع : قال الرازي : المرادُ بـ ( الرقبة ) الجملة . قيل : الأصل في هذا المجاز أنّ الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل . فإذا أطلق حلّ ذَلك الحبل . فسمّي ( الإطلاق من الرقبة ) فكّ الرقبة . ثم جرى ذلك على العتق . وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال الشافعي وآخرون : لا بدّ أن تكون مؤمنة . وأخذ تقييدها من كفارة القتل لاتحاد الموجب ، وإن اختلف السبب . ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي -الذي هو في " موطأ مالك " و " مسند الشافعي " و " صحيح مسلم " - أنّه ذكر أنَّه عليه عتق رقبة . وجاء معه بجارية سوداء . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال أعتقها فإنها مؤمنة . . . الحديث بطوله .
قال الشعراني ، قدس [ في المطبوع : سعره ] سره في " الميزان " : قال العلماء : عدم اعتبار الإيمان في الرقبة مشكل . لأن العتق ثمرته تخليص رقبة لعبادة الله عز وجلّ . فإذا أعتق رقبة كافرة فإنما خلصها لعبادة إبليس . وأيضاً فإن العتق قربة ، ولا يحسن التقرب إلى الله تعالى بكافر . انتهى . الخامس : للعلماء في حدّ الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم أقوال . وظاهر الآية هو أنه لا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاثة - من الإطعام أو الكسوة أو العتق - فإن وجد قدر إحداهما كان ذلك مانعاً من الصوم ، اللهمّ إذا فضل عن قومه وقوت عياله في يومه ذلك .
وقد روى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام ، وإلاَّ صام .
السادس : إطلاق قوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } صادق على المجموعة والمفرّقة . كما في قضاء رمضان ، لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] . ومن أوجب التتابع استدلّ بقراءة أبيّ كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرءان : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ } . وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما .
قال الأعمش : كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك .
قال ابن كثير : وهذه ، إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً . فلا أقلّ أن يكون خبر واحد أو تفسير من الصحابة . وهو في حكم المرفوع .
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله ! نحن بالخيار ؟ قال : < أنت بالخيار ، إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت . وإن شئت أطعمت . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات > . قال ابن كثير : وهذا حديث غريب جداً .
ونقل بعض الزيدية ، روايةً عن ابن جبير ، أنه كان يصليّ تارةً بقراءة ابن مسعود وتارةً بقراءة زيد .
السابع : قال الناصر في " الانتصاف " : في هذه الآية - يعني قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } - وجهٌ لطيفُ المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث ، وهو المشهور من مذهب مالك . وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفاً لوقوع الكفارة المعتبرة شرعاً . حيث أضاف : { إِذَا } إلى أنها إنما تجب بالحنث . فتعين تقديره مضافاً إلى الحلف . بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار . إذْ لا يعطي قوله : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } إيجاباً ، إنما يعطي صحةً واعتباراً . والله أعلم .
وهذا انتصار عل منع التكفير قبل الحنث مطلقاً ، وإن كانت اليمين على برّ .
والأقوال الثلاثة في مذهب مالك ، إلا أن القول المنْصُور هو المشهور . انتهى .
وقال الرازيّ : احتجّ الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز . لأنها ذلت على أن كل واحد من الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف . فإذا أدّاها بعد الحلف ، قبل الحنث ، فقد أدّى الكفارة . وقوله تعالى : { إِذَا حَلَفْتُمْ } فيه دقيقة . وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز . انتهى . وفي " الصحيحين " من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفّر عن يمينك وَأْتِ الذي هو خير . وعند أبي داود : فكفرّ عن يمينك ثم أتِ الذي هو خير .
الثامن : قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } استحباب ترك الحنث إلاَّ إذا كان خيراً ، أي : لما تقدم من حديث ابن سمرة . وهذا على أحد وجهين في الآية . والآخر النهي عن الإكثار من الحلف كما سبق . قال كثير :
~قليل الألايَا حافظٌ ليمينه وإن سَبَقَتْ منه الألِيَّةُ بَرَّت !
التاسع : حكمة تقديم الإطعام على العتق - مع أنه أفضل - من وجوه :
أحدها : التنبيه من أول الأمر على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب . وإلاَّ لَبُدئ بالأغلظ .
ثانيها : كون الطعام أسهل لأنه أعمّ وجوداً ، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف .
و ثالثها : كون الإطعام أفضل ، لأن الحرّ الفقير قد لا يجد الطعام ، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام ، فيقع في الضرّ . أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته ، أفاده الرازي .
العاشرة : سرّ إطعام العشرة ، أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام العدد الكامل ، الكاسرة للنفس المجترئة على الله تعالى . وسرّ الكسوة كونه يجزي بستر العورة سرّ المعصية . وسرّ التحرير فكَّ رقبة عن الإثم . وسرّ صوم الثلاثة ، أنَّ الصيام لما كان ضيراً بنفسه اكتفى فيه بأقلّ الجمع . أفاده المهايميّ ، قدس سره .
الحادي عشر : قال شمس الدين بن القيّم في " زاد المعاد " : كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارةً ، ويكفرها تارة ، ويمضي فيها تارة . والاستثناء يمنع عقد اليمين . والكفارة تحلّها بعد عقدها . ولهذا سمَّاها الله : { تَحِلَّةَ } . وحلف صلى الله عليه وسلم من ثمانين موضعاً . وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع : فقال تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين } [ يونس : 53 ] وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] ، وقال تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] . وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهريّ ولا يسميه بالفقيه . فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له . فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود . فتهيّأ للحلف . فقال له القاضي إسماعيل : وتحلف ، ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟ فقال : وما يمنعني عن الحلف ؟ وقد أمر الله تعالى نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه . قال : أين ذلك ؟ فسردها أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جدّاً ، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم . . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 90 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ } أي : الشراب الذي خامر العقل ، أي : خالطه فستره : { وَالْمَيْسِرُ } أي : القمار : { وَالْأَنْصَابُ } أي : الأصنام المنصوبة للعبادة : { وَالْأَزْلامُ } أي : القداح : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي : خبيث من تزيين الشيطان ، وقذر تعارف عنه القول .
قال المهايمي : لأن الخمر تضيع العقل ، وما دون السكر داع إلى ما يستكمله ، فأقيم مقامه في الشرع الكامل . والميسر يضيع المال . والأنصاب تضيع عزة الإنسان بِتَذَلُّلِهِ لما هو أدنى منه . والأزلام تضيع العلم للجهل بالثمن والمثمن . انتهى .
وما ذكره هو شذرة من مفاسدها : { فَاجْتَنِبُوهُ } أي : اتركوه ، يعني : ما ذكر . أو ( الرجس ) الواقع على الكل : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : رجاء أن تنالوا الفلاح فتنجوا من السخط والعذاب وتأمنوا في الآخرة .
ثم أكد تعالى تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية . فالأولى في قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ 91 ]
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ } أي : المشاتمة والمضاربة والمقاتلة : { وَالْبَغْضَاءَ } القاطعة للتعاون الذي لا بد للإنسان منه في معيشته : { فِي الْخَمْرِ } أي : إذا صرتم نشاوى : { وَالْمَيْسِرِ } إذا ذهب مالكم . وقد حكى أنه ربمّا قامر الرجل بأهله وولده فإذا أخذه الخصم وقعت العداوة بينهما أبداً . ثم أشار إلى مفاسدهما الدينية بقوله : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } إذ يغلب السرور والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذّ الجسمانية فيلهى عن ذكر الله . والميسر ، إن كان صاحبه غلباً انشرحت نفسه ومنعه حب الغلبة عن ذكر الله . وإن كان مغلوباً ، مما حصل من الانقباض أو الاحتيال إلى أن يصير غالباً ، لا يخطر بباله ذكر الله : { وَعَنِ الصَّلاةِ } أي : ويصدكم عن مراعاة أوقاتها . وقوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع . فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون ؟ أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا ؟ أفاده الزمخشري .
تنبيهات :
الأول : سبق الكلام على الخمر والميسر في سورة البقرة في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } وسلف أيضاً معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ } فتذكر .
الثاني : إنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ، ثم أفردا آخراً ، وخصصا بشرح ما فيهما من الوبال - للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما . وذكر الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة . كأنه لا مباينة بين من عبد صنماً وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمراً أو قامر .
روى الحارث بن أبي أسلمة في " مسنده " عن ابن عَمْرو مرفوعاً : < شارب الخمر كعابد وثن ، وشارب الخمر كعابد اللات والعزَّى > . وإسناده حسن .
وتخصيص الصلاة بالإفراد ، مع دخولها في الذكر ، للتعظيم والإشعار بأن الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان ، لما أنها عماده .
الثالث : هذه الآية دالة على تأكيد تحريم الخمر والميسر من وجوه :
( ومنها ) : تصدير الجملة بـ ( ما ) وذلك لأن هذه الكلمة للحصر ، فكأنه تعالى قال : لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا الخمر والميسر وما ذكر معهما .
و ( منها ) : أنه قرنهما بعبادة الأوثان .
و ( منها ) : أنه جعلها رجساً كما قال تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] .
و ( منها ) : أنه جعلها من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت .
( ومنها ) : أنه أمر بالاجتناب ، وظاهر الأمر للوجوب .
و ( منها ) : أنه جعل الاجتناب من الفلاح . وإذا كان الاجتناب فلاحاً ، كان الارتكاب خيبة ومحقة .
و ( منها ) : أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال - وهو وقوع التعادي والتباغض - وما يؤديان إليه من الصدّ عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة .
و ( منها ) : إعادة الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباَ على ما تقدم من أصناف الصوارف بقوله سبحانه : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } فآذن بأن الأمر في الزجر والتحذير ، وكشف ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية . وأنَّ الأعذار قد انقطعت بالكلية .
و ( منها ) : قوله تعالى بعد ذلك :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ 92 ]
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي : في جميع ما أمر به ونهيا عنه : { وَاحْذَرُوا } أي : مخالفتهما في ذلك . فيدخل فيه مخالفة أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً .
و ( منها ) : قوله تعالى :
{ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : إن أعرضتم عن الامتثال بما أمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر ، فقد قامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار . والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ إذ أدّاه بما لا مزيد عليه . فما مقي بعد ذلك إلاّ العقاب . وفيه تهديد عظيم ووعيد شديد في حقّ من خالف وأعرض عن حكم الله وبيانه .
الرابع : قال الرازيّ : اعلم أن من أنصف وترك الاعتساف ، علم أنَّ هذه الآية نصّ صريح في أن كل مسكر حرام . وذلك لأنه تعالى رتب النهي عن شرب الخمر على كونها مشتملة على تلك المفاسد الدينية والدنيوية ، ومن المعلوم في بَدَائِهِ العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر . وهذا يفيد القطع بأن علة قوله : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } هي كون الخمر مؤثراً في الإسكار . وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كلّ مسكر حرام . قال : ومن أحاط عقله بهذا التقرير ، وبقي مصرَّاً على قوله ، فليس لعناده علاج . انتهى .
ثم بيّن تعالى رفع الإثم عمّن مات وهو يشرب الخمر قبل التحريم - كما سنفصّله - بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 93 ]
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } أي : إثم : { فِيمَا طَعِمُوا } مما حرم بعد تناولهم : { إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
وهنا مسائل
الأولى : قال بعض المفسرين : إنْ قيل : لمَ خصَّ المؤمنين بنفي الجناح في الطيبات إذا ما اتقوا ، والكافر كذلك ؟ قال الحاكم : لأنه لا يصحّ نفي الجناح عن الكافر ، وأما المؤمن فيصحّ أن يطلق عليه ، ولأن الكافر سدّ على نفسه طريق معرفة الحلال والحرام . انتهى .
وفي " العناية " : تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها ، فإن عدم الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يشترط بشرط . بل على سبيل المدح والثناء والدلالة على أنهم بهذه الصفة .
قال الزمخشري : ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح ؟ فتقول - وقد علمت أن ذلك أمر مباح - ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً ، تريد : إن زيداً تقيّ مؤمن محسن ، وإنه غير مؤاخذ بما فعل .
وقال العلامة أبو السعود : ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح . وإنما ذكرت في حيز ( إذا ) شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ، ومدحاً لهم بذلك ، وحمداً لأحوالهم . وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعاً للاتقاء في كل مرة تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم ، فإنَّ مساق النظم الكريم بطريق العبارة - وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من المنعوت فيما سيأتي بقضية كلمة ( إذ ما ) - لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين الإثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكليّ على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة النص بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها ، فكأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى . مع مَا لَهم من الصفات الحميدة - بحيث كلما أمروا بشيءٍ تلقوه بالامتثال -وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك . ولو حرّما في عصرهم ، لاتقوهما بالمرة .
وقال الطيبي : المعنى أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات . وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال . وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك ، وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به ، وعلى الأعمال الصالحة لتحصيل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج ( أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ) وهو المعنيّ بقوله تعالى : { وَأَحْسِنُوَاْ } الخ . وبه يُنتهى للزلفى عند الله ومحبته . والله يحب المحسنين .
قال الخفاجي : وهذا دفع للتكرير وأنه ليس لمجرد التأكيد ، لأنه يجوز فيه العطف بـ ( ثم ) كما صرح به ابن مالك في قوله : { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 - 4 ] . بل به باعتبار تغاير ما علق به مرة بعد أخرى . والله أعلم .
الثانية : الإحسان المذكور في الآية : إمَّا إحسان العمل ، أو الإحسان إلى الخلق ، أو إحسان المشاهدة المتقدم ، ولا مانع من الحمل على الجميع . الثالثة : روي في سبب نزولها عن أنس قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة . فنز تحريم الخمر فأمر صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى . فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت . قال ، فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : ألا إنّ الخمر قد حرّمت . فقال لي : اذهب فأهرقها . قال : فَجرَتْ في سكك المدينة .
قال ، وكانت خمرهم يومئذٍ الفضيخِ . فقال بعض القوم : قتل قوم في وهي بطونهم . قال ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ } . . الآية . رواه البخاري في " التفسير " .
روى الترمذيّ عن البراء بن عازب قال : مات ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر . فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ قال ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . الآية . وقال : حسن صحيح .
وعن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ! أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ ( لما نزل تحريم الخمر ) ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . الآية . أخرجه الترمذيّ وقال : حديث حسن صحيح . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر . فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ؟ فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] . . . إلى آخر الآية . فقال الناس : ما حرمت علينا . إنما قال : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } . وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام ، صلى رجل من المهاجرين . أمَّ أصحابه في المغرب . خلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] . فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق ، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } [ المائدة : 90 ] . . . - إلى قوله - : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . فقالوا : [ انْتَهَيَْنَا . رَبَّنَا ] ؟ فقال الناس : يا رسول الله ! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم ، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجساً ومن عمل الشيطان ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ } . . الآية . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لو حرّمت عليهم ، لتركوها كما تركتم .
قال ابن كثير : انفرد به أحمد .
وعن أبي ميسرة قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهمّ ! بَيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } . . الآية ، فدُعي عمر فقرأت عليه فقال : اللهمّ ! بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } . فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا قال حيّ على الصلاة - نادى : لا يقربنّ الصلاة سكران . فدُعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ ! بين لنا في الخمر بياناً شافياًَ . فنزلت الآية التي في المائدة . فلما بلغ قوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } قال : عمر انتهينا ! انتهينا ! رواه الإمام أحمد . وأصحاب السنن .
ورواه البيهقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار . شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض . فلما أن صَحَوْا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان . وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فيقول : والله ! لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا . حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { إِنَّمَا الْخَمْرُ } . . . - إلى قوله - : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } .
فقال ناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل في أحُد فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . . الآية . ورواه النسائي في " التفسير " .
وأخرج أبو بكر البزار عن جابر رضي الله عنه قال : أصطبح ناس الخمر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . الآية . قال البزار إسناده صحيح .
قال ابن كثير : هو كما قال .
وقد ساق ابن كثير - أحاديث كثيرة في تحريم الخمر مما رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد ، فمن شاء ليرجع إليه . ولا يخفى أن تحريمها معلوم من الدين بالضرورة .
وقد روى السيوطيّ في " الجامع الكبير " عن ابن عساكر بسنده إلى سيف بن عُمَر عن الربيع وأبي عثمان وأبي حارثة قالوا : كتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما : إن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب . منهم ضرار وأبو جندل . فسألناهم فتأولوا وقالوا : خيرنا فاخترنا . قال : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } ؟ ولم يعزم . فكتب إليه عمر : فذلك بيننا وبينهم : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } يعني : فانتهوا . وجمع الناس فاجتمعوا على أن يضربوا ثمانين جلدة ويضمنوا النفس ، ومن تأول عليها بمثل هذا ، فإن أبى قتل . وقالوا : من تأول على ما فرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، يزجر بالفعل والقتل . فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم . فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم . وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين . فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الأشهاد فقالوا : حرام . فجلدهم ثمانين . وحدّ القوم ، وندموا على لجاجتهم ، وقال : ليحدثن فيكم - يا أهل الشام ! - حادث ، فحدث الرمادة .
ورواه سيف بن عُمَر أيضاً عن الشعبي والحكم بن عيينة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 94 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ } أي : يرسله إليكم وأنتم محرمون : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } لتأخذوه ، وهو الضعيف من الصيد وصغيره : { وَرِمَاحُكُمْ } لتطعنوه ، وهو كبار الصيد : { لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } فيمتنع عن الاصطياد لقوة إيمانه .
قال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية في عَمْرة الحديبية . فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما فيما خلا ، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون .
قال ابن كثير : يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم ، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرّاً وجهراً ، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى } أي : بالصيد : { بَعْدَ ذَلِكَ } يعني بعد الإعلام والإنذار : { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لمخالفته أمر الله وشرعه .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التقليل والتصغير في قوله : { بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ } ؟ قلت : قلل وصغّر أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين - كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال - وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده ، فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه . . ؟
قال الناصر في " الانتصاف " : قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] . فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر ، لأنه صبر عظيم . فقول الزمخشريّ : إنه قلل وصغّر تنبيهاً على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام - مدفوعٌ باستعمالها مع الفتن المتفق على عظمها . والظاهر - والله أعلم - أنّ المراد بما أشعر به اللفظ من التقليل والتصغير ، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعضٌ من كلٍّ ، بالنسبة إلى مقدور الله تعالى . وإنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول . وأنه مهما اندفع عنهم ممَّا هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل ، لطفاً بهم ورحمةً . ليكون هذا التنبيه باعثاً لهم على الصبر ، وحاملاً على الاحتمال . والذي يرشد إلى أن هذا مرادٌ ، أنَّ سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه . فيكون أيضاَ باعثاً على تحمله . لأن مفاجأة المكروه بغتة أصعب . والإنذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه . وحاصل ذلك لطف في القضاء . . . فسبحان اللطيف بعباده . وإذا فكّر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا ، وجد المندفع عنه منها أكثر ، إلى ما لا يقف عند غاية . فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور . . انتهى .
وللزمخشري أن يجيب بأن الآية : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } شاهدة له لا عليه . لأنه المقصود فيه أيضاً بالنسبة إلى ما دفعه الله عنهم - كما صرح به الناصر - مع أنه لا يتم دفعه بالآية إلا إذا كان : { وَنَقْصٍ } معطوفاً على مجرور ( من ) ، ولو عطف على ( شيء ) لكان مثل هذه الآية بلا فرق . . كذا في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ 95 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : محرمون بحجٍ أو عَمْرة .
قال المهايميّ : لأن قتله تجبر . والمحرم في غاية التذلّل . انتهى .
وذكر القتل ، دون الذبح والذكاة ، للتعميم . أو للإيذان بكونه في حكم الميتة . و الصيد ما يصاد مأكولاً أو غيره . ولا يستثنى إلاّ ما ثبت في " الصحيحين " عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور > . وفي رواية ( الحية ) بدل ( العقرب ) .
قال زيد بن أسلم وابن عيينة : الكلب العقور يشمل السباع العادية كلها . ويستأنس لهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دعا على عُتْبَةُ بن أبي لهب قال : < اللهمّ سلّط عليه كلبك > . فأكله السبع بالزرقاء { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ } أيها المحرمون : { مُتَعَمِّداً } ذاكراً لإحرامه : { فَجَزَاءٌ } بالتنوين ورفع ما بعده ، أي : فعليه جزاء هو : { مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي : شبهه في الخلقة . وفي قراءة بإضافة ( جزاء ) : { يَحْكُمُ بِهِ } أي : بالمثل مجتهدان : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به . وقد حكم ابن عباس وعمر وعليّ رضي الله عنهم في النعامة بببدنه . وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة . وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة . وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرها في الحمام ، لأنه يشبهها في العبّ : { هَدْياً } حال من ( جزاء ) : { بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : يبلغ به الحرم . فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه . فلا يجوز أن يذبح حيث كان : { أَوْ } عليه : { كَفَّارَةٌ } غير الجزاء . وإن وجده . هي : { طَعَامُ مَسَاكِينَ } من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء . لكل مسكين مدّ . وفي قراءةٍ بإضافة ( كفارةٍ ) لما بعده ، وهي للبيان : { أَوْ } عليه : { عَدْلُ } مثل : { ذَلِكَ } الطعام : { صِيَاماً } يصوم ، عن كل مدّ يوماً : { لِيَذُوقَ } أي : هاتكُ حرمة الله : { وَبَالَ أَمْرِهِ } أي : شدة وثقل هتكه لحرمة الإحرام . و ( وليذوق ) متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور . أي : فعليه جزاء ليذوق أو بفعل يدلّ عليه الكلام . أي : شرع ذلك عليه ليذوق : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } من قتل الصيد قبل تحريمه { وَمَنْ عَادَ } إليه : { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْه } بطلب الجزاء في الدنيا والمعاقبة في الآخرة . وكيف يترك ذلك : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } غالب على أمره . ومقتضى عزته الانتقام من هاتك حرمته ، فهو لا محالة : { ذُو انْتِقَامٍ } ممن عصاه .
تنبيهات :
الأول - روى ابن أبي حاتم عن طاوس قال : لا يحكم على من أصاب صيداً خطأ ، إنما يحكم على من أصابه متعمداً .
قال ابن كثير : وهذا مذهب غريب . وهو تمسك بظاهر الآية .
ورأيت في بعض تفاسير الزيدية نسبة هذا القول إلى ابن عباس وعطاء ومجاهد وسالم وأبي ثور وابن جبير والحسن ( في إحدى الروايتين ) ، والقاسم والهادي والناصر وغيرهم . انتهى . والجمهور : أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه .
وقال الزهري : دلّ الكتاب على العابد . وجرت السنة على الناسي .
الثاني : إذا لم يكن الصيد مثلياً حكم ابن عباس بثمنه يحمل إلى مكة . رواه البيهقي .
الثالث : ذهب معظم الأئمة إلى التخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام ، لأنه بلفظ ( أو ) وحقيقتها التخيير .
وعن بعض السلف أن ذلك على الترتيب . قالوا : إنما دخلت ( أو ) لبيان أن الجزاء لا يعدو أحد هذه الأشياء ، ولأنا وجدنا الكفارات من الظهار والقتل على الترتيب . قلنا : هذا معارض بكفارة اليمين وبدم الأذى ، فلا يخرج عن حقيقة اللفظ وهو التخيير .
الرابع : تعلق بظاهر قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ } من قال : لا كفارة على العائد . لأنه تعالى لم يذكرها . هو مرويّ عن ابن عباس وشريح . والجمهور : على وجوبها عليه . لأن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه . وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى . مع أن الآية يحتمل أن معناها : من عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله .
الخامس : قال الحاكم : كما دلت الآية على الرجوع إلى ذوي العدل في المماثلة . ففي ذلك دلالة على جواز الاجتهاد وتصويب المجتهدين . وجواز تعليق الأحكام بغالب الظن . وجواز رجوع العاميّ إلى العالم ، وأن عند التنازع في الأمور يجب الرجوع إلى أهل البصر . . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 96 ]
{ أُحِلَّ لَكُمْ } خطاب للمُحْرِمين : { صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال المهايمي : إذ ليس فيه التجبرّ المنافي للتذلل الإحراميّ . و : { صَيْدُ الْبَحْرِ } ما يصطاد منه طريَّاً ، و : { وَطَعَامُهُ } ما يتزود منه مملحاً يابساً ، كذا في رواية عن ابن عباس . والمشهور عنه أن صيده
ما أخذ منه حيّاً , وطعامه ما لفظه ميتاً . قال ابن كثير : وهذا ما روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عَمْرو وأبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنهم , وعن غير واحد من التابعين .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر قال : طعامه كل ما فيه .
وعن ابن المسيب : طعامه ما لفظه حيّاً أو حسر عنه فمات .
{ مَتَاعاً لَكُمْ } أي : تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً : { وَلِلسَّيَّارَة } منكم يتزودونه قديداً .
و ( السيارة ) القوم يسيرون . أُنِّثَ على الرفقة والجماعة .
تنبيهان :
الأول : قال ابن كثير : استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية , وبما رواه الإمام مالك عن ابن وهب وابن كَيْسان عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل . فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة - قال وأنا فيهم - قال : فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد . فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش . فجمع ذلك فكان مزوديْ تمر , قال : فكان يقوّتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني ولم تصبنا إلا تمرة تمرة , فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فقدت . قال ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظَّرِبِ . فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة . ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا . ثم أمر براحلة فرحلت ، ثم مرت تحتها ولم تصبها .
وهذا الحديث مخرج من " الصحيحين " وله طرق عن جابر . وفي " صحيح مسلم " عن جابر : وتزودنا من لحمه وشائق . فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم . هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله .
وفي بعض روايات مسلم : أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة . فقال بعضهم : هي واقعة أخرى . وقال بعضهم : هي قضية واحدة ، ولكن كانوا أولاً مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة . فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع ؟ أي : عبيدة . والله أعلم ؟
وعن أبي هريرة : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . فإن توضأنا به عطشنا . أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته > . رواه مالك والشافعيّ وأحمد وأهل السنن . وصححه البخاري والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال > . رواه الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطنيّ والبيهقيّ ، وله شواهد . وروي موقوفاً . فهذه حجج الجمهور .
الثاني : احتج بهذه الآية أيضاً من ذهب من الفقهاء إلى أنه يؤكل دواب البحر ، ولم يستثن من ذلك شيئاً . وقد تقدم عن الصديق أنه قال : طعامه كل ما فيه . وقد استثنى بعضهم الضفادع ، وأباح ما سواها ، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي عبد الرحمن التَّيمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع . وللنسائيّ عن عبد الله بن عَمْرو قال : < نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال : نقيقها تسبيح >
{ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } أي : محرمين ؛ فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمداً أَثِمَ وَغَرِمَ . أو مخطئاً غرم وحرم عليه أكله . لأنه في حقه كالميتة : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام ، ثم حذرهم بقوله سبحانه : { الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : تبعثون فيجازيكم على أعمالكم .
لطيفة :
قال المهايمي : إنما حرَّم الصيّد على المحرم ، لأنه قصد الكعبة التي حُرِّمَ صَيْدُ حرمها ، فجعل كالواصل إليه . وإنما حرم صيد حرمها لأنها مثال بيت الملك ، لا يتعرض لم فيه أو في حرمه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 97 ]
{ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ } أي : مداراً لقيام أمر دينهم بالحج إليه ، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء إليه .
قال المهايميّ : جعله الله مقام التوجه إليه في عبادته للناس المتفرقين في العالم ، ليحصل لهم لهم الاجتماع الموجب للتألف ، الذي يحتاجون إليه في تمدّنهم ، الذي الذي به كمالُ معايشهم ومعاهدهم ، لاحتياجهم إلى المعاونة فيهما .
{ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } بمعنى الأشهر الحرم - ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب - قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها . لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها : { وَالْهَدْيَ } وهو ما يهدى إلى مكة : { وَالْقَلائِدَ } جمع قلادة . وهي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى وغيره . والمراد بـ ( القلائد ) ذوات القلائد وهي البدن . خصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج بها أظهر . والمفعول الثاني محذوف ، ثقةً بما مرّ ، أي : جعل الهدي والقلائد أيضاً قياماً لهم . فإنهم كانوا يأمنون بَسَوْق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم . وفيه قوام لمعيشة الفقراء ثَمَّت . وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلّدوا أنفسهم ، عند الإحرام ، من لحاء شجر الحرم . فلا يتعرض لهم أحد : { ذَلِكَ } أي : الجَعْل المذكور : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فإنّ جعله ذلك لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها ، دليلٌ على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن .
وقد جوّد الرازيّ تقرير هذا المقام فأبدع ، فلينظر .
وقوله تعالى : { وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعميمٌ إثر تخصيصٍ للتأكيد .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 98 ]
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وعيد لمن انتهك محارمه أو أصرّ على ذلك : { وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وعدٌ لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ 99 ]
{ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ } يعني : ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم ، إلاَّ تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج . وفي الآية تشديد في إيجاب القيام بما أمر به . وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ . وقامت عليكم الحجّة ، ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم في التفريط : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } من الخير والشرّ ، فيجازيكم بذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 100 ]
{ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال ، وجيّدها . قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } فإنّ العبرة بالجودة والرداءة ، دون القلّة والكثرة . فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير . والخطاب عام لكل معتبر - أي : ناظر بعين الاعتبار - ولذلك قال : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي : فاتقوه في تحري الخبيث وإِنْ كثر . وآثروا الطيّب وإنْ قلَّ : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : بمنازل القرب عنده تعالى المعدّ للطيّبين .
تنبيهان :
الأول - قال الرازي : أعلم أنه تعالى لمّا زجر عن المعصية ورغّب في الطاعة بقوله : { اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الآية ثم بما بعدها أيضاً - أتبعه بنوعٍ آخر من الترغيب والترهيب بقوله : { قُل لاَّ يَسْتَوِي } الآية . وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان : أحدهما الذي يكون جسمانيّاً وهو ظاهر لكل أحد . والثاني الذي يكون روحانيّاً . وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية . وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته . وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذراً عند أرباب الطباع السليمة . فكذلك الأرواح الموصوفة بالجهل بالله والإعراض عن طاعته تصير مستقذرة عند الأرواح الكاملة المقدسة . وأما الأرواح العارفة بالله تعالى ، المواظبة على خدمته ، فإنها تصير مُشْرِقَةً بأنوار المعارف الإلهية ، مبتهجةً بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة . وكما أنَّ الخبيث والطيّب في عامل الجسمانيات لا يستويان ، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان . بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشدّ لأن مضرة خبث الخبيث الجسمانيّ شيء قليل ومنفعة طيبة مختصرة . وأمّا خبث الخبيث الروحانيّ فمضرته عظيمة دائمة أبدية . وطيب الطّيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية . وهو القرب من جوار ربّ العالمين ، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين ، والمرافقة مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين . فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية .
الثاني : قال بعض المفسّرين : من ثمرة الآية أنه ينبغي إجلال الصالح وتمييزه على الطالح . وأنّ الحاكم إذا تحاكم إليه الكافر والمؤمن ، ميّز المؤمن في المجلس . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 101 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا } أي : نبيكم : { عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ } أي : تظهر : { لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } لما فيها من المشقة : { وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة ، فتطلبوا بيانها ، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها . هذا وجه في الآية . وعليه فـ ( حين ) ظرف لـ ( تسألوا ) .
وثَمة وجه آخر : وهو جعل ( حين ) ظرفاً لـ ( تبد ) ، والمعنى : وإن تسألوا عنها . تُبْد لكم حين ينزل القرآن .
قال ابن القيم : والمراد بـ ( حين النزول ) زمنه المتصل به ، لا الوقت المقارن للنزول . وكأن في هذا إذناً لهم في السؤل عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله . ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقاً . ثم قال : وثمة قول ثانٍ في قوله تعالى : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } الخ ، وهو أنّه من باب التهديد والتحذير ، أي : ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يَسُوؤكم : والمعنى : لا تتعرّضوا للسؤال عمّا يَسُوءكم بيانه ، وإن تعرضتم له في زم الوحي أبدي لكم . انتهى .
وقال بعضهم : إنه تعالى ، بيّن أولاً أنَّ تلك الأشياء - التي سألوا عنها - إن أبديت لهم ساءتهم . ثم بيّن ثانياً أنهم إن سألوا عنها أُبْدِيَتْ لهم . فكان حاصل الكلام إن سألوا عنها أبديت لهم ، وإن أبديت لهم ساءتهم ، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم ، إن سألوا عنها ، ظهر لهم ما يَسوُءُهم ولا يسرّهم .
قال العلامة أبو السعود : قوله تعالى : { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } صفة لـ ( أشْياء ) داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها . وحيث كانت المساءة في هذه الشرطية معلقة بإبدائها ، لا بالسؤال عنه ، عقبت بَشَرْطية أخرى ناطقة باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور قطعاً . فقيل : وإِنْ تَسْأَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرآنُ تُبْدَ لَكُمْ . أي : تلك الأشياء الموجبة للمساءة بالوحي ، كما ينبئ عنه تقييد السؤال بحين التنزيل . والمراد به : ما يشق عليهم ويغّمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها ، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها ، ونحو ذلك مما لا خير فيه . فكما أنَّ السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها ، كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد ، لإساءتهم الأدب واجترائهم على المسألة والمراجعة ، وتجاوزهم عمّا يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عزّ وجل ، من غير بحثٍ فيه ولا تعرّض لكيفيته وكميّته . أي : لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يعنيكم من تكاليف شاقة عليكم - إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحي إليه - لم تطيقوا بها ، ونحو بعض أمورٍ مستورةٍ تكرهون بروزها .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم توسعةً عليكم . أو : عفا الله عن بيانها لئلاّ يسوءكم بيانها . فالجملة في موضع جرّ صفة أخرى لـ : { أَشْيَاء } . أو المعنى : عفا الله عن مسائلكم السالفة ، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم ، فلا تعودوا إلى مثلها . فالجملة حينئذٍ مستأنفة مبينة لأن نهيهم عنها لم يكن لمجرّد صيانتهم عن المساءة . بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها . وفيه من حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } اعتراض تذييليّ مقرّر لعفوه تعالى ، أي : مبالغ في مغفرة الذنوب . ولذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم بما فرط منكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } [ 102 ]
{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : سألوا هذه المسألة ، لكن لا عينها ، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال . وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير : { ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } أي : بسببها . حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ، ويفعلوه . وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أُمِروا بها تركوها فهلكوا . والمعنى : احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له .
تنبيهات :
الأول : روى البخاريّ في سبب نزولها في " التفسير " عن أبي الجويرية عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءًَ . فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل ، تضلّ ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ } حتى فرغ من الآية كلها .
وأخرج أيضاً عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال : < لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً . . . قال : فغطّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ، لهم خنين . فقال رجل : من أبي ؟ قال : فلان > فنزلت هذه الآية : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } .
وروى البخاري أيضاً في كتاب " الفتن " عن قتادة : أن أنساً حدثهم قال : سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوْه بالمسألة . فصعد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ المنبر فقال : < لا تسألوني عن شيء إلاّ بينت لكم . فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً ، فإذا كلّ رجلٍ ، رأسه في ثوبه يبكي . فأنشر رجل - كان إذ لاحى يُدْعى إلى غير أبيه - فقال : يا نبيّ الله ! من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة > . ثم أنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربَّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبحمدٍّ رسولاً . نعوذ بالله من سوء الفتن .
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < ما رأيت في الخير والشرّ كاليوم قط . إنه صوّرت لِيَ الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط > .
فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } .
وفي رواية : قال قتادة يُذْكَرُ - بالبناء للمجهول - هذا الحديث . . . الخ
وروى البخاري أيضاً في كتاب " الاعتصام بالكتاب والسنّة " في باب ما يكره من كثرة السؤال ، عن الزهري قال : أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر . فلما سلّم قام إلى المنبر فذكر الساعة . وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً . ثم قال : < من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله ! لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا > . قال أنس فأكثر الأنصار البكاء ، وكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : فقال أنس : فقام رجل فقال : أين مدخليْ يا رسول الله ! قال : النار . فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي ؟ يا رسول الله ! قال : < أبوك حذافة > . قال : ثم أكثر أن يقول : سلوني . فبرك عمر على ركبتيه فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً .
قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والذي نفسي بيده ! لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفاً في عُرْض هذا الحائط وأنا أصلي . فلم أر كاليوم في الخير والشر > .
وعند مسلم : قال ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعتُ بابنِ قطّ أعقَّ منك . أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية ، فتفضحها على أَعْيَن الناس ؟
قال عبد الله بن حذافة : والله ! لو ألحقني بعبد أسود للحقته .
وروى ابن جرير عن السدّي قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال : سلوني . - نحو ما تقدم - وزاد : فقام إليه عمر فقبل رجله وقال : رضينا بالله رباً . . الخ .
وزاد : وبالقرآن إماماً ، فاعف عنا عفا الله عنك . فلم يزل به حتى رضي .
وأخرج أيضاً عن أبي هريرة قال : < خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا ؟ قال : في النار . - نحو ما مرّ - وفيه : فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ } > الآية .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وبهذه الزيادة - أي : على ما في البخاريّ من قول رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أين أنا ؟ قال : في النار . - يتضح أن هذه القصة سبب نزول : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } الآية ، فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة ، بخلافها في حق حذافة فإنه بطريق الجواز ، أي : لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه ، فبيّن أباه الحقيقيّ ، لافتضحت أمه ، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال . انتهى .
وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري عن عليّ رضي الله عنه قال : لما نزلته هذه الآية : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } قالوا : يا رسول الله ! أفي كل عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كلّ عام ؟ فسكت ، قال ثم قالوا : أفي كلّ عام ؟ فقال : لا . ولو قلت نعم لوجبت . ولو وجبت لما استطعتم . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ } الآية .
قال الترمذي : غريب وسمعت البخاريّ يقول : أبو البختريّ لم يدرك عليّاً .
وروى ابن جرير ونحوه عن أبي هريرة وأبي أمامة ، وكذا عن ابن عباس ، قال في الآية : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا فإن نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل . إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان ، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة .
الثاني - قال ابن كثير : ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته . فالأوْلى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لا يبلغني أحد عن أحدٌ شيئاً . فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سُلَيم الصدر . ورواه أبو داود والترمذي .
الثالث - قال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين " :
لم ينقطع حكم هذه الآية . بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسؤال عمّا إن بدا له ساءه . بل يستعفي ما أمكنه ، ويأخذ بعفو الله . ومن هاهنا قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب ! لا تخبرنا . لمّا سأله عن رفيقه عن مائه : أطاهر أم لا ؟
وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له . فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله . فإنه سبحانه يكره إبداءها ، ولذلك سكت عنها .
وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها . وأما المقصود أولاً وبالذات - كما يفيده تتمتها - فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي .
ويدل له ، ما رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إنّ أعظم المسلمين جرماً ، من سأل عن شيءٍ لم يحرّم فحُرِّم من أجل مسألته > .
فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه . وعن أبي هريرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < ذروني ما تركتكم . فإنما أهلكَ مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيء فأْتُوا منه ما استطعتم . وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه > ، رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي .
وعن أبي ثعلبة الخُشَنِي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها . وحدّ حدوداً فلا تعتدوها . وحرّم أشياء فلا تقربوها . وترك أشياء ، من غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها > . رواه الدارقطنيّ وأبو نعيم .
وعن سلمان الفارسي : قال سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال : < الحلال ما أحلّ الله في كتابه . والحرام ما حرّم الله في كتابه . وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه ، فلا تتكلّفوا > . رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة .
وأخرج الشيخان عن أنس قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ . وكان يعجبنا الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر : فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها .
. ولمسلم عن النوّاس بن سمعان قال : أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ، ما يمنعني من الهجرة إلاَّ مسألة . كان أحدنا ، إذا هاجر ، لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم .
ومراده : أنه قدم وافداً ، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل ، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً ، فيمتنع عليه السؤال .
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب ، وفوداً كانوا أو غيرهم .
وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : لمّا نزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } الآية , كنّا قد أتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم . فأبينا أعرابيّاً فرشوناه برداءِ وقلنا : سل النبيه صلى الله عليه وسلم .
ولأبي يعلى عن البراء : إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيّب , وإن كنا لنتمنى الإعراب - أي : قدومهم - ليسألوه , فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب , فيستفيدوها .
وأمّا ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة , فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية ، ويحتمل أن النهي عن الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه ، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة : كالسؤال عن الذبح بالقصَب . والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة . والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن . والأسئلة التي في القرآن : كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك .
لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عمّا لم يقع ، أخذوه بطريق الإلحاق ، من جهة أن كثرة السؤال ، لمّا كانت سبباً للتكليف بما يشق ، فحقها أن تجتنب .
وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل " مسنده " لذلك باباً . وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثاراً كثيرة في ذلك ، منها : عن ابن عمر : لا تسألوا عما لم يكن . فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن .
وعن عمر : أحرّج عليكم أن تسألوا عمّا لم يكن . فإن لنا فيما كان شغلاً .
وعن زيد بن ثابت ، أنه كان إذا كان إذا سئل عن الشيء ؟ يقول : كان هذا ؟ فإن قيل : لا ! قال : دعوه حتى يكون .
وعن أُبيّ بن كعب ، وعن عمار نحو ذلك .
وأخرج أبو داود في " المراسيل " : عن أبي سلمة ومعاذ مرفوعاً : لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها . فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين مَنْ إذا قال سُدِّد - أو وفق - وإن عجلتم تشتَّتَتْ بكم السبل .
وعن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعاً : لا يزال في أمتي من إذا سُدِّد ، حتى يتساءلوا عمّا لم ينزل .
قال بعض الأئمة : والتحقيق في ذلك ، أن البحث عما لا يوجد فيه نص ، على قسمين :
أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها ، فهذا مطلوب لا مكروه . بل ربما كان فرضاً على من تعين عليه من المجتهدين .
ثانيهما- أن يدقق النظر في وجوه الفروق ، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع ، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طرديّ مثلاً . فهذا الذي ذمه السلف . وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه : هلك المتنطعون . . . أخرجه مسلم ، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته .
ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، وهي نادرة الوقوع جداً ، فيصرف فيها زماناًَ كان صرفه في غيرها أولى ، لا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه . وأشد من ذلك - في كثرة السؤال - البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها . ومنها لا يكون له شاهد في عالم الحسّ . كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة . . إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف . والكثير منه لم يثبت فيه شيء ، فيجب الإيمان من غير بحث . وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة . قال بعضهم : مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن - أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق : هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا ؟ فيجيبه بالجواز . فإن عاد فقال : أخشى أن يكون من نهب أو غصب ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة ، فيحتاج أن يجيبه بالمنع . ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم ، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى . ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز . وإذا تقرر ذلك ، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها ، فإنه يقل فهمه وعلمه ، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها - ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة - فإنه يذم فعله ، وهو عين الذي كره السلف . ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل . وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به . وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم - كذا في " فتح الباري " .
ثم رأيت في " موافقات " الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى ، في أواخرها - في هذا الموضوع - مبحثاً جليلاً ، قال في أوله :
الإكثار من الأسئلة مذموم . والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح . من ذلك قوله تعالى . . . - وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضاً عما نقلنا - ثم قال : والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية ، مذموم . وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُعِظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه . وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم . . ثم قال : ويتبيّن من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع :
أحدها : السؤال عمّا لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : مَن أبي ؟ وروي في " التفسير " أنه عليه السلام سئل : ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } [ البقرة : 189 ] الآية ، فإنما أجيب بما فيه منافع الدين .
و ثانيها : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته ، كم سأل الرجل عن الحج : أكل عام ؟ مع أن قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، قاض بظاهره أنه للأبد ، لإطلاقه . ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة } [ البقرة : 67 ] .
و ثالثها : السؤال من غير احتياجٍ إليه في الوقت ، وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : < ذَرُوني ما تَرَكْتُكمْ > . وقوله : < وسكت عن أشياء رحمةً بكم ، لا عَنْ نسيان ، فلا تبحثوا عنها > .
و رابعها : أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها ، كما جاء في النهي عن الأغلوطات .
و خامسها : أن يسأل عن علة الحكم - هو من قبيل التعبدات ، أو السائل ممّن لا يليق به ذلك السؤال - كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة .
و سادسها : أن يبلغ بالسؤال إلى حدّ التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، ولما سئل الرجل : يا صاحب الحوض ! هل ترد حوضك السباع ؟ قال عُمَر بن الخطاب : يا صاحب الحوض ! لا تخبرنا . فإن نرد على السباع وترد علينا .
و سابعها : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ، ولذلك قال سعيد : أعراقيّ أنت ؟ وقيل لمالك بن أنس : الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها ؟ قال : لا . ولكن يخبر بالسنة . فإن قبلت منه وإلاّ سكت .
و ثامنها : السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عِمْرَان : 7 ] الآية . وعن عُمَر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضاً للخصومات أسرع التنقل . ومن ذلك سؤال من سأل مالكاً عن الاستواء ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهول ، والسؤال عنه بدعة .
و تاسعها : السؤال عما شجر بين السلف الصالح . وقد سئل عُمَر بن عبد العزيز عن قتال أهل صِفِّين ؟ فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن ألطّخ بها لساني .
و عاشرها : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام . وفي القرآن في ذم نحو هذا : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [ البقرة : 204 ] ، وقال : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] وفي الحديث : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم .
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، يقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها واحداً ، بل فيها ما تشتدّ كراهيته ، ومنها ما يخفّ ، ومنها ما يحرم ، ومنها يكون محلّ اجتهاد . وعلى جملة ، منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء : أن المراء في القرآن كفر . وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] الآية . وأشباه ذلك من الآي والأحاديث . . . فالسؤال في مثل ذلك منهيّ عنه ، والجواب بحسبه . انتهى كلامه .
التنبيه الرابع :
قال بعض المفسّرين : لا بد من تقييد النهي في هذه الآية ( بما لا تدعو إليه حاجة ) . لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : < قاتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا . فإنما شفاء العيّ السؤال . . > انتهى .
ولا يخفى أن الآية بقيدها - أعني : { إِن تُبْدَ } . . الخ - غنية عن أن تقيّد بقيد آخر كما ذكره البعض . لأن المراد بها ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة وما يفتضحون به - كما أسلفنا - مما هو خوض في الفضول ، وشروع فيما لا حاجة إليه . وفيه خطر المفسدة . والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة ، يجب على العاقل الاحتراز عنه .
وأما ما تدعو إليه الحاجة فلا تشمله الآية - كما يتضح من نظمها الكريم - مع ما بيّنته السنة في سبب النزول ، وتحرج الصحابة عن المسائل المارّ بيانه - معلومٌ أنه فيما لا ضرورة إليها . وإلاَّ فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السنة ، مما يبيّن أن هذه الآية في موضوع خاص .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل ، خشية أن تفضي إلى حرج أو مسادة أو تعنّت . .
روى الشخان عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال : وإضاعة المال ، وكثرة السؤال .
وروى أحمد وأبو داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات -وهي صعاب المسائل - والآثار في ذلك كثيرة .
ثم بين تعالى بطلان ما ابتدعه أهل الجاهلية - من تحريم بعض بهيمة الأنعام - بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 103 ]
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } أي : ما شرع وما وضع . و ( من ) مزيدة لتأكيد النفي . والبحيرة ( كسفينة ) فعيلة بمعنى المفعول من ( البحر ) وهو شق الأذن . يقال : بحر الناقة والشاة ، يبحرها : شق أذنها . وفي البحرة أقوال كثيرة ساقها صاحب القاموس وغيره .
قال أبو إسحاق النحوي : أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحرة : أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن ، فكان أخرها ذكراً ، بحروا أذنها ( أي : شقوها ) وأغفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ، ولا تمنع من ماء ترده ولا من مرعى . وإذا لقيها المعيى المنقطع به ، لم يركبها : { وَلا سَائِبَةٍ } وهي الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر أو لطواغيتهم . أي : تترك ولا تركب ولا يحمل عليها كالبحيرة . أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث ، ليس بينهن ذكر ، سيبت فلم تركب ولم يجّز وبرها ، ولم يشرب لبنَها إلا ولدُها أو الضيف . أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد ، أو برئ من علة ، أو نجت دابته من مشقة أو حرب ، قال : وهي ( أي : ناقتي ) سائبة : { وَلا وَصِيلَةٍ } كانوا إذا ولدت الشاة ستة أبطن عَناَقيْن عَناَقيْن . وولدت في السابع عناقاً وجدياً ، قالوا وصلت أخاها . فلا يذبحون أخاها من أجلها . وأحّلوا لبنها للرجال وحرموه على النساء . والعناق ( كسحاب ) الأنثى من أولاد المعز . وقيل : الوصيلة كانت في الشاة خاصة ، إذا ولدت الأنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم . وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم : { وَلا حَامٍ } وهو الفحل من الإبل بضرب الضراب المعدود . فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس ، وسيبوه للطواغيت . وقيل : هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن . ثم هو حام حمى حمى ظهره . فيترك فلا ينتفع منه بشيء ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى . وحكى أبو مسلم : إذا أنتجت الناقة عشرة أبطن ، قالوا : حمت ظهرها .
وقد روي في تفسير هذه الأربعة ، أقوال أخر . ولا تنافي في ذلك . لأن أهل الجاهلية لهم في أضاليلهم تفنّنات غريبة .
هذا وروى ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نَضْلَة ، عن أبيه مالك بن نَضْلَة ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب . فقال لي : هل لك من مال ؟ فقلت نهم . قال : من أي : المال ؟ قال فقلت : من كل المال : الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال : فإذا أتاك الله مالاً كثيراً فَكَثِّر عليك . ثم قال : تنتج إبلك وافية آذانها ؟ قال قلت : نعم . قال : وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟ قال : فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها ، وتقول هذه حرم ؟ قلت : نعم . قال : فلا تفعل . إن كل ما آتاك الله لك حلّ . ثم قال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } .
أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها . فإذا ماتت اشتركوا فيها . وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم يذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها ، وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن . فإذا ولدت السابع جدعت وقطعت قرنها فيقولون : قد وصلت ، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض .
قال ابن كثير : هكذا ذكر تفسير ذلك مدرجاً في الحديث . وقد روي من وجه آخر عن أبي الأحوص من قوله ، وهو أشبه . وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن مالك بن نَضْلَة . وليس فيه تفسير هذه . والله أعلم .
{ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي : ما شرع
الله هذه الأشياء ، ولا هي عنده قربة . ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعاً لهم وقربة يتقربون بها ، وليس ذلك بحاصل لهم ، بل هو وبال عليهم .
وفي البخاري أن التبحير والتسييب وما بعدهما ، كله لأجل الطواغيت . يعني أصنامهم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبيه صلى الله عليه وسلم قال رأيت عَمْرو بن عامر الخُزَاعِي يجر قُصْبَهُ في النار . وكان أول من سيّب السوائب وبَحَرَ البحيرة وغير دين إسماعيل . لفظ مسلم .
زاد ابن جرير : وحمى الحامي .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عَمْرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار > .
قال ابن كثير : عمروٌ هذا هو ابن لُحَيٌّ بن قَمَعَةَ أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جُرْهم . وكان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل . فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاء من الناس إلى عبادتها والتقرب بها . وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها . كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً } . . . الآيات . انتهى .
لطيفة :
قال الرازي : فإن قيل : إذا جاز إعتاق العبيد والإمام ، فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإتعاب والإيلام ؟ قلنا : الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته . فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادته تعالى ، فكان ذلك قربة مستحسنة . وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع الناس . فإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها وعلى غيره . أي : وهو خلاف الحكمة التي خلقت هي لأجلها . على أن الرقيق إذا أُعتق قَدَر على تحصيل مصالح نفسه ، بخلاف البهيمة . ففي تسيبها إيقاع لها في أنواع من المحنة والمشقة .
قال المهايمي : قاسوه ( يعني التبحير ) على عتق الإنسان مع ظهور الفرق . لما في عتق الإنسان من تمليك التصرفات ، ولا تصرف للحيوانات العجم .
ثم قال : الأول كالعتق بلا نذر . والثاني كالعتق بالنذر . والثالث مشبه بما يشبه العتق . والرابع ملك النفس بلا تمليك . ولا معنى للتمليك في الحيوانات العجم ، فهذه الأمور غير معقولة ظاهراً وباطناً ، فلا يفعلها الحكيم .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية تحريم هذه الأمور . واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع . ومن صور السائبة : إرسال الطائر ونحوه . واستدل ابن الماجشون بالآية على منع أن يقول لعبده : أنت سائبة . وقال : لا يعتق . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : قال الحاكم : استدل بعضهم على بطلان الوقف بالآية الكريمة . لأن الملك لا يخرج عن ملك صاحبه إلا مالك آخر . أو على وجه القربة إلى الله . كتحرير الرقاب .
قال الحاكم : وليس بصحيح . لأن الوقف قربة كالعتق . ولقائل أن يقول : يستدل بالآية على نظير ذلك . وهو ما يلقى الأنهار والطريق وقرب الأشجار ، من طرح البيض والفراريج ونحو ذلك . فلا يجوز فعله ، ولا يزول ملك المالك . ويحتمل أن يقول : قد رغب عنه وصيره مباحاً . وأما كسر البيض على العمارة والطريق والأبواب ، فالظاهر عدم الجواز . لأن في ذلك إضاعة مال ، ولم يرد بفعله دليل . انتهى .
ولما بيّن تعالى أن أكثرهم لا يعقلون أن تحريم هذه الأشياء افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق ، وإنما يقلدون قدماءهم - أشار إلى عنادهم واستعصائهم حينما هدوا إلى الحق ، وإلى ضلالهم ببقائهم في أسر التقليد ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ 104 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الكتاب المبيّن للحلال والحرام : { وَإِلَى الرَّسُولِ } أي : الذين أنزل هو عليه ، لتقفوا على حقيقة الحال ، وتميزوا بين الحرام والحلال ، فترفضوا تقليد القدماء المفترين على الله الكذب بالضلال : { قَالُوا } أي : لإفراط جهلهم وانهماكهم في التقليد : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : كافينا ذلك . و : { حَسْبُنَا } مبتدأ والخبر : { مَا وَجَدْنَا } و ( مَا ) بمعنى الذي . والواو في قوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } للحال . دخلت عليها همزة الإنكار . أي : أحَسْبُهم ذلك ولو كان آباؤهم : { لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً } أي : لا يعرفون حقّاً ولا يفهمونه : { وَلا يَهْتَدُونَ } أي : إليه . قال الزمخشري : والمعنى أن الإقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي . وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة . انتهى .
وقال الرازي : واعلم أن الإقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي . وإنما يكون عالماً مهتدياً إذا بنى قوله على الحجة والدليل . فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالماً مهتدياً . فوجب أن لا يجوز الإقتداء به . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية قبح التقليد ووجوب النظر واتباع الحجة . ثم قال : وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 105 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي : الزموا أن تصلحوها باتباع كتاب الله وسنة رسوله : { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } أي : ممن قال : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } أو أخذ بشبهة . أو عاند في قول أو فعل : { إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } أي : إلى الإيمان . وكأن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالهم . فقيل لهم : عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى . لا يضركم ضلال الضالين وجهل الجاهلين ، إذا كنتم مهتدين . كما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات } [ فاطر : 8 ] .
قال الزمخشري : وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم ، فهو مخاطب بهذه الآية : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } بعد الموت : { جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ } أي : يخبركم : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا من أعمال الهداية والضلال . فهو وعد ووعيد للفريقين . وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره .
تنبيه :
لا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر ، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي . وإلا فمن تركها مع القدرة عليهما ، فليس بمهتد . وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه .
قال الحاكم : ولو استدل على وجوبها بقوله تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } كان أولى . لأنه يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات . أي : كما فعل المهايمي في تفسيره حيث قال : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } . أي : الزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله . والعقليات المؤيدة بها ، ودعوة الإخوان إلى ذلك . بإقامة الحجج ودفع الشبه ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل . لا تقصروا في ذلك . إذ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، بدعوتهم إلى ما أنزل وإلى الرسول وإقامة الحجج لهم ، ودفع الشبه عنهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، بما أمكن من القول والفعل . ولا تقصروا في ذلك . إذ إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون ، من التقصير أو الإيفاء قولاً وفعلاً ، في حق أنفسكم أو غيركم . انتهى .
ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإنه قال : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني عليكم أهل دينكم . ولا يضركم من ضل من الكفار . وهذا كقوله : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] يعني أهل دينكم . فقوله : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني بأن يعظ بعضكم بعضاً ، ويرغّب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات . والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } معناه : احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب . فكان ذلك أمراً بأن نحفظ أنفسنا . فإذا لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كان ذلك واجباً . انتهى .
وروى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . أنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنكم تقرؤون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية . وإنكم تضعونها على غير موضعها . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الناس ، إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه ، يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه > .
ورواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم .
وروى الترمذي عن أبي أمية الشعباني . قال : أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال : أما والله ! لقد سألت عنها خبيراً . سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر . حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع العوامّ . إن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً ، يعملون مثل علمكم >
< قال عبد الله بن المبارك : وزادني غير عتبة : قيل يا رسول الله ! أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ؟ قال : لا ، بل أجر خمسين منكم > .
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
وكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : إن هذا ليس بزمانها . إنها اليوم مقبولة . ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها . تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا . أو قال : فلا يقبل منكم . فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل .
ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً . فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس . حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه . فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوام فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك . فإن الله يقول : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } الآية . قال ، فسمعها ابن مسعود فقال : مه . لم يجيء تأويل هذه بعد . إن القرآن أنزل حيث أنزل . ومنه آي قد مضى تأولهن قبل أن ينزلن . ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير . ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ، ما ذكر من الحساب والجنة والنار . فما دامت قلوبكم واحدة وأهوائكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهَوْا . وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فأمر نفسك . وعند ذلك جاء تأويل هذه الآية . أخرجه ابن جرير .
وأخرج أيضاً أنه قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي . لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ألا فليبلغ الشاهد الغائب . فكنا نحن الشهود وأنتم الغَيَب . ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا . إن قالوا لم يقبل منهم > .
وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه . قال : لأن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } خطاب عام ، وهو أيضاً خطاب مع الحاضرين . فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب ؟ انتهى .
أقول : ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، إخراج الحاضرين عن الخطاب ، وأنه لم يعن بها إلا الغيب . وإنما مرادهما الردَّ على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك . والاسترواح لظاهرها ، إلا في الزمن الذي بَيَّنَاه . وحاصله : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قُبِلاَ ، فإن رُدَّا في مثل ذلك الزمن فليقرأ : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } . هذا مرادهما . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ } [ 106 ] : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : ظهرت أماراته : { حِينَ الْوَصِيَّةِ } بدل من الظرف ، ظرف ( للموت ) ولا لحضوره . فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها . وقوله تعالى : { اثْنَانِ } خبر : { شَهَادَةُ } بتقدير مضاف . أي : شهادة بينكم حينئذ ، شهادة اثنين . أو فاعل ( شهادَةُ ) على أن خبرها محذوف . أي : فيما نزل عليكم ، أن يشهد بينكم اثنان : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : من المسلمين : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من أهل الذمة : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : سافرتم فيها : { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا } أي : توقفونهما للتحليف : { مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } أي : صلاة العصر . كما قاله ابن عباس وثلَّة من التابعين . وعدم تعيينها ، لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها . لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار . واجتماع طائفتي الملائكة ، فيه تكثير للشهود منهم على صدقه وكذبه . فيكون أقوى من غيره وأخوف . وعن الزهري : بعد أي : صلاة للمسلمين كانت . وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور ، كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] . فالتعريف في : { الصَّلاةَ } إما للعهد أو للجنس { فَيُقْسِمَانِ } أي : يحلفان : { بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : شككتم فيهما بخيانة وأخذ شيء من تركة الميت . وقوله تعالى : { لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } جواب للقسم . أي : يقولان : لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله . أي : من حرمته عرضاً من الدنيا بأن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب . أي : لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال : { وَلَوْ كَانَ } أي : من نقسم له ونشهد عليه ، المدلول عليه بفحوى الكلام : { ذَا قُرْبَى } أي : قريباً منا . تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذباً . ومبالغة في التنزه عنه . كأنهما قالا : لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من حرمة اسمه تعالى مالاً . ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء . فكيف إذا لم يكن كذلك ؟ : { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أي : الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها . وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها : { إِنَّا إِذاً } إن كتمناها : { لَمِنَ الْآثِمِينَ } أي : المعدودين من المسترقين في الإثم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ 107 ]
{ فَإِنْ عُثِرَ } أي : اُطُّلع بعد التحليف : { عَلَى أَنَّهُمَا } أي : الشاهدين الوصيين : { اسْتَحَقَّا إِثْماً } أي : فَعَلاَ ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما : { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } أي : فرجلان آخران يقومان مقام اللذين عثر على خيانتهما أي : في توجه اليمين عليهما لإظهار الحق وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ } أي : من ورثة الميت الذي استحق من بينهم الأوليان ، أي : الأقربان إلى الميت ، الوارثان له ، الأحقَّان بالشهادة ، أي : اليمين . فـ ( الأَوْلَيانِ ) فاعل ( اسْتَحَقَّ ) . ومفعول ( اسْتَحَقَّ ) محذوف ، قدّره بعضهم ( وصيتهما ) وقدره ابن عطية ( مالهم وتركتهم ) ، وقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين . وقرئ على البناء للمفعول أي : من الذين استحق عليهم الإثم . أي : جنى عليهم . وهم هل الميت وعشيرته . فـ ( الأَوْلَيَانِ ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . كأنه قيل : ومن هما ؟ فقيل : الأوليان . أو هو بدل من الضمير في ( يَقُومَانِ ) أو من ( ءَاخَرَانِ ) وقد جوز ارتفاعه ( اسْتَحَقَّ ) على حذف المضاف . أي : استحق عليهم ندب الأولين منهم للشهادة . وقُرئ الأوّلْين جمع ( أوّل ) على أنه صفة للذين ، مجرور أو منصوب على المدح . ومعنى الأوَّلِيةِ التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها . وقرئ الأوليين ، علي التثنية . وانتصابه على المدح . أفاده أبو السعود .
وقُرئ الأوَّلْين تثنية ( أول ) نصباً على ما ذكر . كما في البيضاويّ .
قال أبو البقاء : ويقرأ الأوليين وهو جمع ( أولى ) وإعرابه كإعراب الأوّلين . ويُقرأ الأولان ، تثنية ( الأول ) وإعرابه كإعراب ( الأَوْليان ) : { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } عطف على ( يقومان ) : { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ } أي : بالقبول : { مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : لقولنا : إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق ، أحق من شهادتهما المتقدمة . لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم : { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي : ما تجاوزنا الحق فيها أو فيما قلنا فيهما من الخيانة : { إِنَّا إِذاً } أي : إن اعتدينا : { لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه ، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى . أو من الواضعين الحق في غير موضعه .
ومعنى الآية الكريمة أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين .
فإن لم يجدهما ، فرجلين من أهل الكتاب . يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه . فإذا قدما بتركته ، فإن صدّقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قُبِلَ قولهما وتركا . وإن اتهموهما ، رفعوهما إلى السلطان فحلفا بعد صلاة العصر بالله ، ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا ، فإن اطلع الأوليان على أن الكافرين كذبا في شهادتهما ، قام رجلان من الأولياء ، فحلفا بالله ؛ أن شهادة الكافرين باطلة ، وأنا لم نعتد . فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء ، هكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما .
قال الإمام ابن كثير : وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما ، والحالة هذه ، كما يحلف أولياء المقتول ، إذا ظهر لوث في جانب القاتل . فيقسم المستحقون على القاتل . فيدفع برمته إليهم . كما هو مقرر في " باب القسامة " . وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداريّ في هذه الآية : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } . . إلى آخرها قال : بُرئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام . فأتيا الشام لتجارتهما . وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل ( بدال أو زاي مصغراً . وضبطه بالثانية ابن ماكولا ) ابن أبي مريم بتجارة ، معه جام من فضة يريد بها الملك . وهو أعظم تجارته . فمرض فأوصى إليهما . وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله . قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم . واقتسمناه أنا وعديّ . فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا . وفقدوا الجام فسألوا عنه . فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره .
قال تميم : فلما أسلمت ، بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك .
فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم . وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها . فوثبوا عليه . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه . فحلف فنزلت : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } -إلى قوله - : { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } . فقام عَمْرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا . فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء .
وهكذا رواه الترمذي وابن جرير عن محمد بن إسحاق به ، فذكره . وعنده : فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البيّنة فلم يجدوا . فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف . فأنزل الله هذه الآية . فقام عَمْرو بن العاص ورجل آخر فحلفا . فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء .
ثم تكلم الترمذي على إسناده . وأسند بعد ذلك هذه القصة مختصرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بداء . فمات السهميّ بأرض ليس بها مسلم . فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوّصاً بذهب . فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم وجد الجام بمكة . فقيل : اشتريناه من تميم وعدي . فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما . وأنَّ الجام لصاحبهم . وفيهم نزلت هذه الآية . وكذا رواه أبو داود . ثم قال الترمذي : حديث حسن غريب !
وأقول : أخرجه البخاري أيضاً في كتاب " الوصايا " تحت باب عقده لهذه الآية بخصوصها .
و ( الجام ) الإناء , وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوض النخل .
قال ابن كثير : وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين . منهم عِكْرِمَة ومحمد بن سيرين وقتادة . وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر . رواه ابن جرير . وكذلك ذكرها مرسلةً مجاهد والحسن والضحاك . وهذا يدلّ على اشتهارها في السلف وصحتها .
و من الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير بإسنادين صحيحين , وأبو داود بإسناد - رجالُه ثقاتٌ - عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقاء , قال : فحضرته الوفاة - ولم يجد أحداً من المصلين يُشهده على وصيّته -فأشهده رجلين من أهل الكتاب ، قال : فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه . وقدما الكوفة بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمرٌ لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا كتما ولا غيّرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال فأمضى شهادتهما . وقوله : ( هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 108 ]
ثم بيّن وجه الحكمة والمصلحة المتقدم تفصيله بقوله :
{ ذَلِكَ } أي : الحكم المذكور : { أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أي : أقرب إلى أن يؤدي الشهود - أو الأوصياء - الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها من غير تغيير لها ، خوفاً من العذاب الأخروي . فـ ( الوجه ) بمعنى الذات والحقيقة .
قال أبو السعود : وهذه - كما ترى - حكمةُ شرعيةِ التحليف بالتغليظ المذكور !
وقوله تعالى : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } بيان لحكمة شرعية ردّ اليمين على الورثة ، معطوف على مقدرٍ ينبئ عنه المقام ؛ كأنه قيل : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة . أو يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ، ويغرموا فيمتنعوا من ذلك { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم ، وهو ترك الخيانة والكذب : { وَاسْمَعُوا } أي : ما تؤمرون به سماعَ قبولٍ : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته ، أي : إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم .
وقد استفيد من الآية أحكام :
الأول - لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه . لأنه تعالى قال : { حِينَ الْوَصِيَّةِ } أي : وقت أن تحق الوصية وتلزم .
الثاني - قال بعضهم : دلّ قوله تعالى : { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان . وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق الله وحق غيره ، ولا بين الحدود وغيرها ، إلاّ شهادة الزنى . فلقوله تعالى في النور : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } [ النور : 4 ] ، وهذا مجمع عليه .
قال ابن القيم في " أعلام الموقعين " : إنه سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلاّ بذلك . فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ، ولا بالنكول ، ولا باليمين المردودة ، ولا بأيمان القسامة ، ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره يدل عليه . والشارع - في جميع المواضع - يقصد ظهور الحقّ بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له .
ولا يرد حقّاً قد ظهر بدليله أبداً . فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها . ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غير في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه . وقد أطال في ذلك بما لا يُستغنى عن مراجعته .
الثالث - في قوله تعالى : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } دلالة على صحة شهادة الذميّ على المسلم عموماً . لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع .
قال بعض المفسّرين : ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت . وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي وشريح والراضي بالله وجدّه الإمام عبد الله بن الحسين : أنها صحيحة ثابتة . وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ . وقال طاوس والحسن والهادي : إنه ثابت . انتهى .
أقول : لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها .
قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقّعين " :
أمر تعالى في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخريْن من غيرهم . وغير المؤمنين هم الكفار ، الآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلميْن . وقد حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ، ولم يجئ بعدها ما ينسخها ، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ ، وليس لهذه الآية معارض البتة . ولا يصح أن يكون المراد بقوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } من غير قبيلتكم ؛ فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } الآية . ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } أيتها القبيلة ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية . بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه ، وكذلك أصحابه من بعده .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : واستدلّ بالآية على جواز شهادة الكفار بناءً على بال غير الكفار . وخصّ جماعةٌ القبولَ بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذٍ . منهم : ابن عباس وأبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيّب ، وابن سيرين ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو عبيد ، وأحمد - وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية - وقوّى ذلك حديث الباب - يعني حديث ابن عباس المتقدم - فإن سياقه مطابق لظاهر الآية . وقيل : المراد بال ( غير ) العشيرة . والمعنى ( منكم ) أي : من عشيرتكم : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير عشيرتكم ، وهو في قول الحسن واحتجّ له النحاس بأن لفظ ( آخر ) لابدّ أن يشارك الذي قبله في الصفة ، حتى لا يسوغ أن تقول : مررت برجل كريم ولئيم آخر . فعلى هذا فقد وصف الاثنان بالعدالة . فيتعيّن أن يكون الآخران كذلك . وتعقب بأن هذا - وإن ساغ في الآية الكريمة - لكن الحديث دلّ على خلاف ذلك . والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع اتفاقاً . وأيضاً ، ففي ما قال ردّ المختلف فيه بالمختلف فيه . لأن اتّصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه . وهو فرع قبول شهادته ، فمن قبلها وصفه بها ، ومن لا ، فلا . واعترض أبو حيّان على المثال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق . فلو قلت : جاءني رجل مسلم وآخر كافر ، صحّ . بخلاف ما لو قلت : جاءني رجل مسلم وكافر آخر . والآية من قَبيل الأول لا الثاني . لأن قوله : { أَوْ آخَرَانِ } من جنس قوله : اثنان ، لأن كلاَّهما منهما صفة ( رجلان ) ، فكأنه قال : فرجلان اثنان ورجلان آخران . وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة . وأن ناسخها قوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } واحتجوا بالإجماع على ردّ شهادة الفاسق . والكافرُ شرّ من الفاسق . وأجاب الأولون : بأن النسخ لا يثبت بالاجتمال ، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما . وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن . حتى صحّ عن ابن عباس وعائشة وعمرو بن شرحبيل وجَمْعٍ من السلف ، أن سورة المائدة محكمة . وعن ابن عباس ؛ أن الآية نزلت فيمن مات مسافراً وليس عنده أحد من المسلمين ، فإن اتّهما استحلفا . أخرجه الطبري بإسناد رجاله ثقات .
وأنكر أحمد على من قال : إن هذه الآية منسوخة .
وصحّ عن أبي موسى الأشعري أن عمل بذلك بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم .
ورجّح الفخر الرازي - وسبقه الطبريّ - لذلك . أن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ } خطاب للمؤمنين . فلما قال : { أَوْ آخَرَانِ } وضح أنه أراد غير المخاطبين . فتعيَّن أنهما من غير المؤمنين . وأيضاً : فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطاً بالسفر . وأن موسى حكم بذلك فلم ينكره أحد من الصحابة . فكان حجةً . انتهى كلام الحافظ .
وفي " فتح البيان " : الحق أن الآية محكمة لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ . وأما قوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } وقوله : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } فهما عامَّان في الأشخاص والأزمان والأحوال . وهذه الآية خاصة بخالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين . ولا تعارض بين خاصٍّ وعامٍّ . انتهى .
وقد أطنب الرازي في " تفسيره " في الاحتجاج على عدم نسخها بوجوه عديدة ، وجوّد الكلام - في أن المراد من : { غَيْرِكُمْ } أي : من غير ملّتكم -تجويداً فائقاً .
الرابع : قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " :
ذهب الكرابيسيّ ثم الطبري وآخرون إلى أنّ المراد بالشهادة في الآية اليمين . قال :
وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان . وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول : أشهد بالله . وأن الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق . قالوا : فالمراد بالشهادة اليمين لقوله : { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ } أي : يحلفان . فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء . وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة ، بخلاف الشهادة . وقد اشترطا في هذه القصة ، فقوي حملها على أنها شهادة . وأما اعتلال من اعتل في ردّها بأنها تخالف القياس والأصول - لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين - فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغنٍ عن نظيره . وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع ، كما في الطبّ . وليس المراد بالحبس السجن . وإنما المراد : الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة . وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه الصورة عند قيام الريبة . وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرّد اليمين ، فإن الآية تضمنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصّيين . فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا ، كما يشرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعي لنفسه ، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه . وأيّ فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم ، وظهوره في صحة الدعوى بالمال ؟ وحكى الطبري : أنّ بعضهم قال : المراد بقوله : { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } الوصيان . قال : والمراد بقوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } معنى الحضور لما يوصيهما به الموصي . ثم زيف ذلك . انتهى كلام " الفتح " .
ولا يخفاك أن الآية بنفسها - مع ما ورد في نزولها - غنيّة عن تكلف إدخالها تحت القياس والقواعد والتمحّل لتأويلها .
الخامس : في قوله تعالى : { مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } دلالة على تغليظ اليمين .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " وبعض المفسّرين :
ذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ بالزمان والمكان . فأما في الزمان فبعد العصر . وأما في المكان : ففي المدينة عند المنبر ، وبمكة بين الركن والمقام ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وبغيرهما بالمسجد الجامع . واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير ، لا في القليل . انتهى .
وذهب الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا بمكان . وأخذوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : < البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر > ، ولم يفصل . قالوا : وقوله تعالى في هذه الآية : { مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } يحتمل أن ذكره لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلا في ذلك الوقت .
قال بعض الزيدية : وهل التغليظ في المكان والزمان على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟ قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة : المختار ، التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان . وذلك مرويّ عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعيّ . قال : والمختار أنه مستحبّ غير واجب . انتهى .
وفي كتاب " الشهادات " من " صحيح البخاري " بابان في هذه المسألة . فليرجع مع شروحه .
السادس : قال ابن أبي الفرس : في قوله تعالى : { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ } دليل على أن أقسم بالله يمين ، لا أقسم فقط .
السابع : في قوله تعالى : { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ } الآية دليل على تحريم كتمان الشهادة . وذلك لا إشكال فيه . الثامن : قال السيوطي : تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة [ يعني على قراءة الأوليان ] لخصوص الواقعة التي نزلت لها . ثم ساق رواية البخاري السابقة . أي : وللإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة أيضاً وإن كان فيهم كثرة .
غريبة :
قال مكي في كتابه المسمى بـ " الكشف " :
هذه الآيات الثلاث - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً وتفسيراً . ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفّون عنها .
قال : ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر . وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد .
قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له الناتج في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى - يعني من كتاب مكيّ - .
قال القرطبي : ما ذكره مكيّ ، ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً .
قال السعد في " حاشيته على الكشاف " : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً . . انتهى .
أقول : هذه الآية الكريمة غنية بنفسها - مع ما ورد في سبب نزولها ، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها - عن التشكيك فيها ، والتكلّف لإدخالها تحت القواعد ، والتمحّل لتأويلها . فخُذْ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ 109 ]
{ يَوْمَ } منصوب بـ ( اذْكُرُوا أو ( احذَرُوا ) : { يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } وذلك يوم القيامة ، وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم . كيف لا ؟ وذلك يوم مجموع له الناس ، بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم . بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم : { فَيَقُولُ } أي : للرسل : { مَاذَا أُجِبْتُمْ } أي : ما الذي أجابكم من أُرسلتم إليهم ؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهد الرسالة . إذا لم يقل : هل بلّغتم رسالاتي ؟ وفي توجيه السؤال إليهم . والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم بأن يقال : ماذا أجابوا -من الإنباء عن شدة الغضب الإلهيّ ما لا يخفى . وفي " الصحيح " في حديث الشفاعة : إنّ ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله .
{ قَالُوا } من هيبته تعالى ، وتفويضاً للأمر إلى علم سلطانه وتأدّياً بليغاً في ذاك الموقف الجلالي : { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } أي : وَمَنْ عَلِمَ الخفيات ، لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة أممهم لهم .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : اعلم أنّ عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إمّا بالإلهيات ، وإما بشرح أحوال الأنبياء ، أو بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع . فلا جرم ، لمَّا ذكر - فيما تقدم - أنواعاً كثيرة من الشرائع ، أتبعها بوصف أحوال القيامة .
الثاني : قال الزمخشري فإن قلت : ما معنى سؤالهم ؟ قلت : توبيخ قومهم . كما كان سؤال الموءودة توبيخاً للوائد . فإن قلت : كيف يقولون : لا علم لنا ، وقد علموا بما أُجيبوا ؟ قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم ، فيكلون الأمر إلى علمه ، وإحاطته بما مُنُوا به منهم ، وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهاراً للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأفتّ في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم . إذا اجتمع توبيخ الله وتشكّي أنبيائه عليهم . ومثاله : أن ينكب بعض الخوارج على السلطان ، خاصة من خواصّه نكبةً ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها ، وعزم على الانتصار له منه ، فيجمع بينهما ويقول له : ما فعل لك هذا الخارجيّ ؟ [ وهو عالم بما فعل به ] يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي ، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه ، واتكالاً عليه ، وإظهاراً للشكاية ، وتعظيماً لما حل به منه . انتهى .
واستظهر الرازي أن نفي العلم لهم على حقيقته عملاً بما تقرر من أن العلم غير الظن . قال : لأن الحاصل من حال من حال الغير عن كل أحد إنما هو الظن لا العلم . وفي الحديث : نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ، وقال صلى الله عليه وسلم : < إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض . فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار > ، فالأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم . إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن . والظن كان معتبراً في الدنيا . وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن . لأن الأحكام في الآخرة مبينة على حقائق الأشياء وبواطن الأمور . فلهذا السبب قالوا : لا علم لنا . ولم يذكروا ما معهم من الظن . لأن الظن لا عبرة به في القيامة . والله أعلم .
الثالث : دلت الآية على جواز إطلاق لفظ العلاّم عليه . كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه . وأما العلاّمة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقه في حقه . ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث . أفاده الرازي .
على أن المختار أن أسماءه تعالى توقيفية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 110 ]
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين ، من المفاوضة ، على التفصيل . إثر ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ، لكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين . وتخصيص شأن عيسى عليه السلام بالبيان ، تفصيلاً بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام ، مع دلالتها على كمال هول ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل - لما أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذي نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم . فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم ، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم . أفاده أبو السعود .
{ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي : منّتي عليك : { وَعَلَى وَالِدَتِكَ } بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين : { إِذْ أَيَّدْتُكَ } أي : قويتك : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي : بجبريل عليه السلام لتثبيت الحجة . أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية . بحيث يعلم أنه ليس بواسطة البشر ، فيشهد ببراءتك وبراءة أمك . ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة . لذلك : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } أي : في أضعف الأحوال وأقواها . بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة . الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشُد .
قال ابن كثير : أي : جعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك . فأنطقتك في المهد صغيراً . فشهدت ببراءة أمك من كل عيب . واعترفت لي بالعبودية . وأخبرت عن رسالتي إياك ودَعْوَتِك إلى عبادتي . لهذا قال : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن : { تُكَلِّمُ } تدعو ، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب . انتهى .
{ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ } أي : الخط وظاهر العلم الذي يكتب : { وَالْحِكْمَةَ } أي : الفهم وباطن العلم الذي لا يكتب . بل يخص به أهله : { وَالتَّوْرَاةَ } وهي المنزلة على موسى الكليم عليه السلام : { وَالْأِنْجِيلَ } وهو الذي أنزله عليه صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي : تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير : { بِإِذْنِي } أي : لك في ذلك : { فَتَنْفُخُ فِيهَا } أي : في تلك الهيئة المصورة : { فَتَكُونُ } أي : فتصير تلك الهيئة : { طَيْراً } لحصول الروح من نفختك فيها : { بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ } أي : الذي يولد أعمى مطموس البصر : { وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي : من القبور أحياء : { بِإِذْنِي } فهذا مما فعل به من جرّ المنافع . ثم أشار إلى ما دفع عنه من الضارّ ، فقال سبحانه : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ } أي : منعت اليهود الذين أرادوا بك السود وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيبك منهم ورفعتك إليّذ وطهرتك من دنسهم : { إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : المعجزات التي توجب انقيادهم لك لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر : { فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر . لطيفة :
إن قيل : إن السياق في تعديد نعمه تعالى على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه . إن هذا إلا سحر مبين ، ليس من النعم بحسب الظاهر . فما السر في ذكره ؟ فالجواب : إن من الأمثال المشهورة : إن كل ذي نعمة محسود . فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل علي أن نعم الله في حقه كانت عظيمة . فحسن ذكره عند تعديد النعم ، للوجه الذي ذكرناه أفاده الرازي .
ولما بين تعالى النعم اللازمة ، تأثرها بنعمه عليه المتعدية ، فقال سبحانه .

(/)


القول في تأويل قوله :
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ 111 ]
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ } أي : بطريق الإلهام والإلفاء في القلب : { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } أي : عن دعوته : { قَالُوا آمَنَّا } وأكدوا إيمانهم بقولهم : { وَاشْهَدْ } أي : لتؤديها عند ربك : { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لكل ما تدعونا إليه .
وههنا لطائف :
الأولى - إنما قدموا ذكر الإيمان لأنه صفة القلب . والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر . يعني آمنا بقلوبنا وانقدْنا بظواهرنا .
الثانية - إنما ذكر تعالى هذا في معرض تعديد النعم . لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس . محبوباً في قلوبهم . من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان . كذا قاله الرازي .
قال المهايمي : ليحصل له رتبة التكميل وثواب رشدهم .
الثالثة : قال الرازي : إن قيل : إنه تعالى قال في أول الآية : { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام ، وليس لأمه تعلق بشيء منها . قلنا : كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية ، فهو حاصل ، على سبيل التضمن والتبع للأم . ولذلك قال تعالى : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] . فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر . انتهى . وقال بعضهم : قيل : أريد بالذكر في قوله تعالى : { اذْكُرْ نِعْمَتِي } الشكر . ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة . وإن النعمة على الأم نعمة على الولد . والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 112 ]
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته ، ليستقل بإنزال المائدة : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال : سورة المائدة . وههنا قراءتان : الأولى : { يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بالياء على أنه فعل وفاعل و : { أَن يُنَزِّلَ } المفعول . والثانية - بالتاء و : { رَبَّكَ } نصب أي : سؤال ربك . فحذف المضاف . والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه ؟ وهي قراءة عليّ وعائشة وابن عباس ومعاذ رضي الله عنه عنهم . وسعيد بن جبير والكسائي . في آخرين .
قال أكثر المفسرين : الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز . إذا لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى . لكنه كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي ؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام ، مبالغة في التقاضي . وإنما قصد بقوله : [ هَلْ تَسْتطيعُ ] هل يسهل عليك ، وهل يخف أن تقوم معي ؟ فكذلك معنى الآية . لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز الطمأنينة . كما قال إبراهيم عليه السلام : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب . ولهذا السبب قالوا : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } وحاصله أن : { هَلْ يَسْتَطِيعُ } سؤال عن الفعل دون القدرة عليه ، تعبيراً عنه بلازمه . أو عن المسبب بسببه . وقيل المعنى : هل يطيع ربك ؟ أي : هل يستجيب دعوتك إذا دعوته ؟ ( فيستطيع ) بمعنى ( يطيع ) وهما بمعنى واحد . والسين زائدة . كاستجاب وأجاب واستجب وأجب و ( يطيع ) بمعنى ( يجيب ) مجازاً ، لأن المجيب مطيع .
وذكر أبو شامة < أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض . فقال له : يا ابن أخي ! ادع ربك أن يعافيني . فقال : اللهمّ ! اشف عمي . فقام كأنما نشط من عقال . فقال : يا ابن أخي ! إن ربك الذي تعبده ليطيعك . فقال يا عم ! وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي : يجيبك لمقصودك > .
وحسنه في الحديث المشاكلة ، فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى .
قال الخازن : وقال بعضهم : هو على ظاهره . وقال : غلظ القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم . وكانوا بشراً ، فقالوا هذه المقالة . فرد عليهم غلظهم بقوله : { قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } يعني اتقوا الله أن تشكّوا في قدرته .
والقول الأول أصح . انتهى .
وعليه فمعنى : { اتَّقُواْ اللّهَ } من أمثال هذا السؤال ، وأن توقفوا إيمانكم على رؤية المائدة : { إِن كُنتُم } به وبرسالتي : { مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمان مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات .
لطيفة :
في المائدة قولان : الأول - أنها الطعام نفسه ، من ( ماد ) إذا أفضل . كما في " اللسان " وهذا القول جزم به الأخفش وأبو حاتم . أي : وإن لم يكن معه خوان . كما في " التقريب و " اللسان " وصرح به ابن سيده في " المحكم " .
قال الفاسيّ : والآية صريحة فيه ، قاله أرباب التفسير والغريب .
والثاني -أنها الخوان عليه الطعام . قال الفارسيّ : لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام , وإلا فهي خوان , وصرح به فقهاء اللغة . وجزم به الثعالبي وابن فارس . واقتصر عليه الحريري في " درة الغواص " وزعم أن غيره من أوهام الخواص . وذكر الفاسيّ في " شرحها " أنه يجوز إطلاق المائدة على الخوان مجرداً عن الطعام . باعتبار أنه وضع أو سيوضع . وقال ابن ظفر : ثبت لها اسم المائدة بعد إزالة الطعام . كما قيل : لقحة بعد الولادة . وقال أبو عبيد : المائدة في المعنى مفعولة ، ولفظها فاعلة . وهي مثل عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ . وقيل : من ماد إذا أعطى . يقال : ماد زيداً عمراً ، إذا أعطاه . وقال أبو إسحاق : الأصل عندي في مائدة أنها فاعلة . من ( ماد يميد ) إذا تحرك . فكأنها تميد بما عليها . أي : تتحرك . وقال أبو عبيدة : سميت مائدة لأنها مِيدَ بها صاحبها . أي : أُعْطِيَهَا وتُفُضِّلَ عليه بها . وفي " العناية " : فكأنها تعطي من حولها مما حضر عليها . وفي " المصباح " : لأن المالك مادها للناس . أي : أعطاهم إياها . ومثله في كتاب " الأبنية لابن القطاع " : ويقال في المائدة مَيْدةَ . قاله الجرميّ وأنشد :
~ومَيْدةٍ كثيرةِ الألوان تُصنع للإخوان والجيران
كذا في " القاموس وشرحه " والخُوان بضم الخاء وكسرها ما يؤكل عليه الطعام كما في " القاموس " . معرّب كما في " الصحاح " و " العين " . وقيل : إنه عربي مأخوذ من ( تخونه ) أي : نقص حقه . لأنه يوكل عليه فينقص . كذا في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ 113 ]
{ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } أي : آمنا . لكنا نريد الأكل منها من غير مشقة تشغلنا عن عبادة الله تعالى : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } أي : فلا تعتريها شبهة لا يؤمن من وردها ، لولا مثل هذه الآية . فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلاليّ مما يوجب قوة اليقين : { وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } أي : في دعوى النبوة ، وفيما تعدنا من نعيم الجنة ، مع أنها سماوية : { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي : فنشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقيناً . ويؤمن بسببها كفارهم . أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر .
ثم لما رأى أن لهم غرضاً صحيحاً في ذلك . لا يقلعون عنه ، أزمع على استدعائها واستنزالها . روى ابن أبي حاتم ، أنه توضأ واغتسل ودخل مصلاه ، فصلّى ما شاء الله . فلما قضى صلاته قام مستقبل القبلة . وصفّ قدميه ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ برأسه ، خشوعاً . ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه ، وتقطر من أطراف لحيته ، حتى ابتلت الأرض حيال وجهه ، من خشوعه . فعند ذلك دعا الله تعالى فقال : اللهمّ ! ربنا . كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ 114 ]
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا } أي : يا الله المطلوب لكل مهمّ ، الجامع للكمالات ، الذي ربانا بها . ناداه سبحانه وتعالى مرتين بوصف الألوهية والربوبية ، إظهاراً لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء : { أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } . أي : التي فيها ما تعدنا من نعيم الجنة : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } أي : يكون يوم نزولها عيداً نعظمه ونسرّ به ، نحن الذين يدركونها . ومن بعدنا الذين يسمعونها فيتقوّون في دينهم . و ( العيد ) العائد . مشتق من ( العود ) لعوده في كل عام بالفرح والسرور . وكل ما عاد عليك في وقت فهو عيد ، قال الأعشى :
~فوا كبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمةَ عيدُها
كذا في " العناية " .
وفي " القاموس " ( العيد ) بالكسر ، ما اعتادك من هم أو مرض أو حَزْن أو نحوه . وكل يوم فيه جمع : { وَآيَةً مِنْكَ } أي : على كمال قدرتك وصدق وعدك وتصديقك إياي : { وَارْزُقْنَا } أي : أعطنا ما سألناك : { وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : خير من يرزق . لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } [ 115 ]
{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } إجابة لدعوتكم : { فَمَنْ يَكْفُرْ } أي : بي وبرسولي : { بَعْدُ } أي : بعد تنزيلها ، المفيد للعلم الضروريّ بي وبرسولي : { مِنْكُمْ } أيها المنعمون بها : { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ } أي : من عالّمي زمانهم . أو من العالمين جميعاً .
روى ابن جرير بسنده إلى قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : { فَمَن بَعْدُْْ يَكْفُر مِنْكُمْ } الخ قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل .
روى منصور بن زادان عن الحسن أيضاً . أنه قال ، في المائدة : أنها لم تنزل .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ليث بن أبي سُلَيم عن مجاهد قال : هو مَثَلٌ ضربه الله ولم ينزل شيء . أي : مثل ضربه الله لخلقه . نهياً لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه . قال الحافظ ابن كثير : وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن . وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى . وليس هو في كتابهم . ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله . وكان يكون موجوداً في كتبهم متواتراً ، ولا أقل من الآحاد والله أعلم .
ثم قال : ولكن الجمهور أنها نزلت . وهو الذي اختاره ابن جرير . قال : لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى : { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } ووعد الله ووعيده حق وصدق .
وهذا القول هو ، والله أعلم الصواب . كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم .
ومن الآثار ما أخرجه الترمذي عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد . فخانوا وادخروا ورفعوا لغد . فمسخوا قردة وخنازير . قال الترمذيّ : وقد روي عن عمار ، من طريقٍ ، موقوفاً وهو أصح .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء . قال فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها . عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة . فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
وق ساق ابن كثير آثار في نزولها لا تخلوا عن غربة ونكارة في سياقها ، كما لا يخفى .
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : < قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك . قال : وتفعلون ؟ قالوا : نعم : قال فدعاه ، فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً ، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين . وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة . قال : بل باب التوبة والرحمة > .
ورواه الحاكم في مستدركه وابن مردويه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ 116 ]
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل : { مَاذَا أَجَبْتُمُ } توبيخ من تمرد من أممهم . وأشد الأمم افتقار إلى التوبيخ والملامة النصارى . الذي يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام . لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء . وطعن هؤلاء الملحدة تعدى إلى جلال الله وكبريائه ، حيث وصفوه بما لا يليق أن يوصف مقامه به ، وهو اتخاذ الزوجة والولد . فلا جرم ، ذكر تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة . إشعار بعبوديته ، فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة عليه ، تدل على أنه عبد وليس بإله ، ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره ، عليه السلام ، على رؤوس الأشهاد ، بالعبودية ، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل . إكذاباً لهم في افترائهم عليه ، وتثبيتاً للحجة على قومه ؛ فهذا سر سؤاله تعالى له ، مع علمه بأنه لم يقل ذلك . وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومن تأثرهم ، على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم .
تنبيهات :
الأول : روي عن قتادة : أن هذا القول يكون يوم القيامة لقوله تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } . وقال السدّي : هذا الخطاب والجواب . في الدنيا وصوّبه ابن جرير ، قال : وكان ذلك حين رفعه إلى السماء . واحتج ابن جرير على ذلك بوجهين : أحدهما : أن الكلام بلفظ المضيّ .
و الثاني قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ } { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } .
قال الحافظ ابن كثير : وهذان الدليلان فيهما نظر . لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضيّ ليدل على الوقوع والثبوت . ومعنى قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية : التبرؤ منهم وردّ المشيئة فيهم إلى الله تعالى . وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه . كما في نظائر ذلك من الآيات . فالذي قاله قتادة وغيره هو الأظْهَرُ . فالله أعلم أنّ ذلك كائن يوم القيامة ، ليدلّ على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد . . وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عُمَر بن عبد العزيز ، وكان ثقة قال : سمعت أبا بردة يحدث عُمَر بن عبد العزيز عن أبيه ، أبي موسى الأشعري . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة دعي الأنبياء وأُمَمهم . ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها فيقول : { يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } الآية ، ثم يقول : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ؟ } فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيُسْأَلون فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك ! قال : فيطول شَعْر عيسى عليه السلام . فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار !
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب عزيز !
الثاني : إيثار قوله تعالى : { أُمِّيَ } على : { مَرْيَمَ } توبيخ للمتخذين ، على توبيخ ، أي : مع أنك بشر تلد وتولد قبل هذا .
الثالث : توهم بعضهم أن كلمة ( من دون الله ) تفيد أن النصارى يعتقدون أن عيسى وأمه , عليهما السلام . مستقلان باستحقاق العبادة , بدلاً عن الله تعالى . كما يقال : اتخذت فلاناً صديقاً دوني . فإن معناه أنه استبدله به . لا أنه جعله صديقاً معه . وهم لم يقولوا بذلك . بل ثلّثوا . فأجاب : بإن من أشرك مع الله غيره فقد نفاه معنى . لأنه وحده لا شريك له , منزه عن ذلك . فإقراره بالله كلا إقرار . فيكون : { مِّن دُونِ اللّهِ } مجازاً عن ( مَعَ اللهِ ) . ولا يخفى أن هذا تكلف . لأن توبيخهم إنا يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحاً لا بما يلزمه بضرب من التأويل . فالصواب أن المراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه . كما في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً } [ البقرة : 165 ] . وقوله عز وجل : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } - إلى قوله تعالى - : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 ] . إذ به يتأتى التوبيخ , ويتسنى التقريع والتبكيت . هذا ما حققوه هنا .
وأقول : إن كلمة ( دون ) في هذه الآية وأمثالها بمعنى ( غير ) كما حققه اللغويون . ولا تفيد , وضعا , الاستقلال والبدلية , كما توهم وسر ذكرها إفهام الشركة . لأنه لولاها لتوهم دعوى انحصار الألوهية فيما عداه . مع أنهم لا يعتقدون ذلك . ولا يفهم من نحو [ اتَّخَذْتَ صَدِيقاً مِنْ دُونِي ] الاستبدال . فذاك من قرينة خارجية . وإلا فالمثال لا يعنيه . لجواز إرادة اتخاذه معه كما لا يخفي . فتبصر : { قَالَ سُبْحَانَكَ } أي : أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يقال هذا ويُنطق به : { مَا يَكُونُ لِي } أي : ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق : { أَنْ أَقُولَ } أي : في حق نفسي : { مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي : ما استقر في قلوب العقلاء عدم استحقاقي له مما يضلهم : { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه السلام ، بالطريق البرهاني . فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعاً . فحيث انتفى علمه تعالى به ، انتفى صدره عنه حتماً . ضرورة . أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم . قاله أبو السعود : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } استئناف جار مجرى التعليل لما قبله . كأنه قيل : لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي . فكيف بما أعلنه ؟ وقوله تعالى : { وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } بيان للواقع ، وإظهار لقصوره . أي : ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك . أفاده أبو السعود : { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ 117 ]
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } أي : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به . وإنما قيل : { مَا قُلْتُ لَهُمْ } نزولاً على قضية حسن الأدب ، ومراعاة لما ورد في الاستفهام . وقوله تعالى : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } تفسير للمأمور به : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ } أي : رقيباً أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك ، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } أي : بالرفع إلى السماء . كما في قوله تعالى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي } [ آل عِمْرَان : 55 ] . والتوفي : أخذ الشيء وافياً . والموت نوع منه . قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] . وسبق في قوله تعالى : { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } في [ آل عِمْرَان ] زيادة إيضاح على ما هنا . فتذكر : { كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } أي : الناظر لأعمالهم . فمنعتَ من أردت عصمته من التفوّه بذلك . وخذلت من خذلت من الضالين ، فقالوا ما قالوا : { وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله . وفيه إيذان بأنه تعالى كان هو الشهيد على الكل ، حين كونِهِ عليه السلام فيما بينهم . تنبيه :
دلت الآية على أن الأنبياء ، بعد استيفاء أجلهم الدنيويّ ، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم . وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا أيها الناس ! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً . ثم قال : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } إلى آخر الآية ، ثم قال : ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيام إبراهيم . ألا وإنه يُجاء برجال من أمتي فيُأخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب ! أصيحابي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 118 ]
{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قال الحافظ ابن كثير : هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزّ وجلّ . فإنه الفعال لما يشاء : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله . وجعلوا لله ندّاً وصاحبة وولداً . تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً . انتهى .
أي : إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك . ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه . وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك . وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح . لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب . الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب . فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم . فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل . وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد . فلا امتناع فيه لذاته ، ليمتنع الترديد والتعليق بـ ( إِن ) . أفاده البيضاوي .
يعني أن المغفرة ، وإن كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود ، لكنها لما كانت بحسب العقل ، تحتمل الوقوع واللاوقوع ، استعمل فيها كلمة ( إن ) فسقط ما يتوهم أن تعذيبهم ، مع أنه قطعيّ الوجود , كيف استعمل فيه ( إن ) وعدم وقوع العفو بحكم النص والاجتماع .
وفي كتب الكلام : إن غفران الشرك جائز عقلاً عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة . لأن العقاب حق الله على المذنب , وليس في إسقاطه مضرة .
وبالجملة : فليس قوله تعالى : { إِن تَغْفِرْ لَهُمْ } تعريضاً بسؤاله العفو عنهم . وإنما هو لإظهار قدرته على ما يريد , وعلى مقتضى حكمه وحكمته . ولذا قال : إنك أنت العزيز الحكيم , تنبيهاً على أنه لا امتناع لأحد عن عزته , فلا اعتراض في حكمه وحكمته .
قال الرازي : قال قوم : لو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم , أشعر ذلك بكونه شفيعاً لهم . فلما قال فإنك أنت العزيز الحكيم , دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى , وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه .
وفي " العناية " ما ملخصه : أن ما ظنه بعضهم من أن مقتضى الظاهر : { الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } بدل : { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كما وقع في مصحف عبد الله بن مسعود - فقد غاب عنه سر المقام . لأنه ظن تعلقه بالشرط الثاني فقط , لكونه جوابه . وليس كما توهم . بل هو متعلق بهما . ومن له الفعل والترك عزيز حكيم . فهذا أنسب وأدق وأليق بالمقام ,أو هو متعلق بالثاني ,وإنه احترس , لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز ينافي القدرة , أو لإهمالٍ ينافي الحكمة . فبيّن أن ثوابه وعقابه مع القدرة التامة والحكمة البالغة .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب . وقد ورد في الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة إلى الصباح يرددها .
روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة .
فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلما أصبح يركع قلت : يا رسول ! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت . تركع بها وتسجد بها ؟ قال : < إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي ؛ فأعطانيها . وهي نائلة , إن شاء الله , لمن لا يشرك بالله شيئاً > . وأخرجه النسائي أيضاً .
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي ذر قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء . فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون . فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله . فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى . فجئت فقمت خلفه فأومأ إليّ بيمينه , فقمت عن يمينه . ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي . وخلفه , فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله . فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه , ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو . وقام بآية من القرآن يرددها , حتى صلى الغداة . فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود . أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة ؟ فقال ابن مسعود : لا أسأله عن شيء حتى يُحْدث إليّ, فقلت : بأبي وأمي ! قمت بآية من القرآن ومعك القرآن . لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه . قال : دعوت لأمتي . قلت : فماذا أجبت ؟ أو ماذا رد عليك ؟ قال أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة , تركوا الصلاة . قلت : أفلا أبشر الناس , قال : بلى . فانطلقت مُعْنِقاً قريباً من قذفةٍ بحجر . فقال عمر : يا رسول الله ؟ إنك إن تبعث بهذا نكلوا عن العبادة . فناداه أن ارجع . فرجع .
وتلك الآية : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عزّ وجلّ في إبراهيم : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] .
وقول عيسى : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . فرفع يديه وقال : اللهم ! أمتي أمتي . وبكى . فقال الله تعالى : يا جبريل ! اذهب إلى محمد . وربك أعلم , فاسأله : ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال , وهو أعلم . فقال الله : يا جبريل ! اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك .
ثم ختم تعالى حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل , عليهم الصلاة والسلام , مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 119 ]
{ قَالَ اللّهُ هَذَا } أي : يوم القيامة : { يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } لأنه يوم الجزاء . والمراد بـ ( الصَّادِقِينَ ) المستمرون على الصدق في الأمور الدينية, التي معظمها التوحيد, الذي الآية في صدده . وفيه شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله , جواباً عن قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الآية . وقوله تعالى : { لَهُمْ جَنَّاتٌ } تفسير للنفع المذكور . ولذا لم يعطف عليه , أي : لهم بساتين من غرس صدقهم : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } أي : من تحت شجرها وسررها : { الأَنْهَارُ } أنهار الماء واللبن والخمر والعسل : { خَالِدِينَ فِيهَا } مقيمين لا يموتون ولا يخرجون : { أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ } لصدقهم : { وَرَضُواْ عَنْهُ } تحقيقاً لصدقهم . فلم يسخطوا لقضائه في الدنيا : { ذَلِكَ } أي : الخلود والرضوان : { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : الكبير الذي لا أعظم منه . كما قال تعالى : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون } [ الصافات : 61 ] . وكما قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] , وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 120 ]
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ } تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في المسيح وأمه . وذلك من تقديم الظرف . لأنه المالك لا غيره . فلا شريك له { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } أي : مبالغ في القدرة . فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته ومشيئته . فلا نظير له ولا وزير . لا إله غيره ولا رب سواه .
رواه ابن وهب عن عبد الله بن عَمْرو ، قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة . أخرجه الترمذي والحاكم . وأخرجا أيضاً عن عائشة قالت : آخر سورة نزلت المائدة والفتح - كذا في " الإتقان " - .
كمل ما قدره تعالى على عبيده من محاسن تأويل هذه السورة الشريفة
بعد عصر يوم الجمعة في 19 رمضان عام 1320
في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية .
والحمد لله ربّ العالمين .

(/)


سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } [ 1 ]
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : جميع المحامد ، بما حمد به نفسه أو خلقه ، أو حمد به الخلقُ ربهم ، أو بعضهم ، مخصوص به . ثم أخبر عن قدرته الكاملة ، الواجبة لاستحقاقه لجميع المحامد بقوله : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } خصهما بالذكر ، لأنهما أعظم المخلوقات ، فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع ، لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات والفاسدات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية . والأرض مشتملة على قوابل الكون والفساد التي هي المسببات .
{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } أي : أوجدهما منفعة لعباده ، في ليلهم . ونهارهم . وههنا :
لطائف :
الأولى - أن المقصود من الآية التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة ، دون ما سواه .
الثانية - لفظ ( جعل ) يتعدى إلى واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كما هنا ؛ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى ( صيَّر ) كقوله : { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . والفرق بين ( الخلق ) و ( الجعل ) أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي ( الجعل ) معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئاً ، أو نقله من مكان إلى مكان . ومن ذلك : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] . وإنما حسن لفظ ( الجعل ) ههنا ، لأن النور والظلمة لها تعاقبا ، صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر - قاله الرازيّ - وسبقه إليه الزمخشريّ . قال الناصر في " الانتصاف " : وقد وردت : { جَعَلَ } و : { خَلَقَ } مورداً واحداً . فورد : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] . وورد : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] . وذلك ظاهر في الترادف . إلا أن للخاطر ميلاً إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري . ويؤيده أن : { جَعَلَ } لم يصحب السماوات والأرض ، وإما لزمتهما : { خَلَقَ } . وفي إضافة ( الخلق ) في هذه الآية إلى السماوات والأرض ، و ( الجعل ) إلى الظلمات والنور ، مصداق للميّز بينهما -والله أعلم -
الثالثة - إن قيل : لم جمعت السماوات دون الأرض مع أنها مثلهن لقوله تعالى : { وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ } [ الطلاق : 12 ] . في الحديث : < هل تدرون ما هذه ؟ قالوا : هذه أرض . هل تدرون ما تحتها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : أرض أخرى ، وبينهما مسير خمسمائة عام ، حتى عدّ سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام > -أخرجه الترمذي ، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه ؟ .
فالجواب : لأن السماوات طبقات متفاضلة بالذات ، مختلفة بالحقيقة ، بخلاف الأرضين - كما قاله البيضاوي - .
وقال الرازي : إن السماء جارية مجرى الفاعل . والأرض مجرى القابل . فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، وذلك يخل بمصالح هذا العالم . أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية ، فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم . أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول . انتهى .
وقدم السماوات لشرفها وعلوّ مكانها .
الرابعة - الظاهر في ( الظلمات والنور ) أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر . والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما . والأصل اللفظ على حقيقته . ولأن ( الظلمات والنور ) إذا قربنا بالسماوات والأرض ، لم يفهم منهما إلا الأمران المحسوسان ، ونقل عن بعض السلف أنه عنى بهما الكفر والإيمان .
ورجح الرازي الأول لما ذكر .
ووجه بعضهم الثاني بأن المعنى : أنه لما خلق السماوات والأرض ، فقد نصب الأدلة على معرفته وتوحيده . ثم بيّن طريق الضلال ، وطريق الهدى ، بإنزال الشرائع والكتب السماوية { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } فناسب المقام ( ثم ) الاستبعادية إذ ببعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل ، اختيار الباطل . انتهى .
وعليه فجمع ( الظلمات ) وتوحيد ( النور ) ظاهر . لأن الهدى واحد ، والضلال متعدد ، كما قال في آخر هذه السورة : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .
وعلى الأول ، فجمعها لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ، فإن لكل جرم ظلمة ، وليس لكل جرم نور . وأما تقديمهما في التقدير والتحقق ، على النور .
وفي الأثر : إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره .
وقوله تعالى : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى ، بالحمد المستدعى لاقتصار العبادة عليه . مسوق لإنكار ما عليه الكفرة ، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها ، واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول . والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة ، باعتبار ذاته ، وباعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ، ويعدلون به سبحانه . أي : يسؤون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر ، الذي رأسه الحمد ، مع كون كل ما سواه مخلوقاً له ، غير متصف بشيءٍ من مبادئ الحمد . وكلمة ( ثم ) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية ، القاضية ببطلانه . و ( الباء ) متعلقة بـ ( يعدلون ) ووضع ( الرب ) موضع ضميره تعالى ، لزيادة التشنيع والتقبيح . والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد ، والمحافظة على الفواصل ، وترك المفعول لظهوره ، أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل ، بتنزيله منزلة اللازم ، إيذاناً بأنه المدار في الاستبعاد ، لا خصوصية المفعول . هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل - أفاده أبو السعود - .
ثم ناقش ما وقع للمفسرين هنا مما يخالفه . فانظره .
وأصل ( العدل ) مساواة الشيء بالشيء . والمعنى : أنهم يجعلون له عديلاً من خلقه ، مما لا يقدر على شيء ، فيعبدون الحجارة ، مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض .
وقال النضر بن شميل : ( الباء ) بمعنى ( عن ) أي : عن ربهم يعدلون وينحرفون ، من العدول عن الشيء .
لطيفة :
قال ابن عطية رحمه الله : ( ثم ) دالة على قبح فعل الذين كفروا ، لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر ، وآيات قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم . فهذا كما تقول : أعطيتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني ؟ ولو وقع العطف في هذا ونحوه بـ ( الواو ) لم يلزم التوبيخ كلزومه بـ ( ثم ) . انتهى . أي : ففيها الدلالة على التوبيخ والإنكار ، كالتعجيب أيضاً .
قال أبو حيان : هذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن ( ثم ) للتوبيخ . والزمخشري من أنها للاستبعاد - مفهوم من سياق الكلام ، لا من مدلول ( ثم ) . انتهى .
وإنما لم تحمل ( ثم ) على التراخي ، مع استقامته ، لكون الاستبعاد أوفق بالمقام ، لأن التراخي الزمانيّ معلوم فيه ، فلا فائدة في ذكره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [ 2 ]
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث ، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ، إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى ، مع معاينتهم لموجبات توحيده . وتخصيصُ خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكره من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها ، كما ورد في قوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } [ يس : 81 ] . لما أن محل النزاع بعثهم . فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ، وهم بشؤون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح . والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ . أي : ابتدأ خلقكم منه ، فإنه المادة الأولى للكل ، لما أنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر . وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين ، لا إلى آدم عليه السلام ، وهو المخلوق منه حقيقة . بأن يقال : هو الذي خلق أباكم . . الخ مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه ، في إيجاب الإيمان بالبعث ، وبطلان الامتراء -لتوضيح منهاج القياس ، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس . مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية : هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ، عليه السلام ، منه حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجاً منطوياً على فطرة سائر آحاد الجنس ، انطواء إجمالياً ، مستتبعاً لجريان آثارها على الكل . فكان خلقُه عليه السلام من الطين خلقاً لكل أحد من فروعه منه . ولما كان خلقه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته ، أبدع من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه ، كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه ، وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم ، وكمال عليمه وحكمته ، وكان ابتداء حال المخاطبين أوْلى بأن يكون معيار لانتهائها - فعل ما فعل . ولله در شأن التنزيل ! وعلى هذا السر مدار قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم } [ الأعراف : 11 ] . الخ . وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] . كما سيأتي .
وقيل : المعنى خلق آبائكم منه ، على حذف المضاف . وقيل : معنى خلقهم منه ، خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض . وأياً ما كان ، فيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ، ما لا يخفى . فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط ، كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة - أفاده أبو السعود - .
وفي " العناية " : أن في الآية التفاتاً ، لأن الخطاب - وإن صح كونه عامّاً - لكنه خاص بالذين كفروا ، كما يقتضيه : { ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } . ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة ، والشكر عليه أوجب . وقد أشير في كل من الدليلين إلى المبدأ والمعاد ، وما بينهما . انتهى .
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض . جاء منهم . الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك . والسهلُ وَالحزْنُ ، والخبيث والطيّب > .
وقوله تعالى : { ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } أي : كتب لموت كل واحد منكم أجلاً خاصّاً به . أي : حدّاً معيناً من الزمان يفنى عند حلوله . أو كتب ، لِمَا بين أن يولد كل منكم إلى يوم أن يموت ، أجلاً .
{ وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ } أي : وحدّ معين لبعثكم جميعاً ، مثبت معيّن في علمه ، لا يقبل التغيير ، ولا يقف على وقت حلوله أحد . كقوله تعالى : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } [ الأعراف : 187 ] . فمعنى : { عِندَهُ } أنه مستقل بعلمه . و : { وَأَجَلٌ } مبتدأ لتخصيصه بالصفة ، ولوقوعه في موقع التفصيل . وتنوينه لتفخيم شأنه ، وتهويل أمره ، ولذلك أوثر تقديمه على الخبر الذي هو : { عِندَهُ } ، مع أن الشائع في مثله التأخير ، كأنه قيل : وأيّ أجل معين في علمه لا يعلمه أحد لا مجملاً ولا مفصلاً . أما أجل الموت فمعلوم إجمالاً وتقريباً ، بناء على ظهور أمارته ، أو على ما هو المعتاد في أعمار الإنسان .
{ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث ، بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه . أي : تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه ، مع مشاهدتكم في أنفسكم ما يقطع مادة الامتراء . فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإبداع الحياة فيها ، وإبقائها ما يشاء ، كان أقدار على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ 3 ]
{ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } أي : المعبود فيهما { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } أي : من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي : ما تفعلونه من خير أو شر ، فيثيب عليه ويعاقب . وتخصيصه بالذكر ، مع اندراجه فيما سبق ، على التفسير الثاني للسر والجهر -لإظهار كمال الاعتناء به الذي يتعلق به الجزاء . وهو السر في إعادة يعلم .
قال الناصر في " الانتصاف " : وما هاتان الآياتان الكريمتان - يعني هذه الآية وآية الزخرف ، وهي قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ } [ الزخرف : 84 ] -إلاَّ تَوْأَمَتَاَن . فإن التمدح في آية الزخرف ، وقع بما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة والاستئثار بعلم الساعة والتواجد في الألوهية ، وفي كونه تعالى المعبود في السماوات والأرض .
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : للمفسرين في هذه الآية أقوال ، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية ، الأول القائلين - تعالى عن قولهم علواً كبيراً - بأنه في كل مكان ، حيث حملوا الآية على ذلك . فلأصح من الأقوال أنه المدعوّ في السماوات والأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقرّ له بالآلهية من في السماوات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه : { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [ الأنبياء : 90 ] . إلا من كفر من الجن والإنس . وهذه الآية - على هذا القول - كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } . أي : هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ } خبراً أو حالاً .
والقول الثاني - إن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر . فيكون قوله : { يَعْلَمُ } متعلقاً بقوله : { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات . . . . الخ .
والقول الثالث - إن قوله : { وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ } وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : { وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ } وهذا اختيار ابن جرير . انتهى .
ورجح ابن عطية في الآية : أنه الذي يقال له : { الله } فيهما . قال : وهذا عندي أفضل الأقوال ، وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى ، وإيضاحه : أنه أراد أن يدل على خلقه ، وآيات قدرته ، وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات . فجمع هذه كلها في قوله : { وَهُوَ اللَّهُ } -الذي لَهُ هَذِهِ كُلُّهَا - : { فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } كأنه قال : وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما . تنبيه :
قال الرازي : الآية تدل كون الْإِنْسَاْن مكتسباً للفعل ، والكسب هو الفعل المفُضِي إلى اجتلاب نفع ، أو دفع ضرّ . ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب ، لكونه تعالى منزهاً عن جلب النفع ، ودفع الضرّ -والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ 4 ]
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } يعني : ما يظهر لكفار مكة دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار ، أو معجزة من المعجزات ، أو آية من آيات القرآن ، التي من جملتها الآيات السالفة ، الناطقة ببدائع صنعه وقدرته على البعث : { إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي : على وجه التكذيب والاستهزاء ، لقلة خوفهم وتدبرهم ، في العواقب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 5 ]
{ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } يعني : القرآن الذي تُحُدُّوا به ، فعجزوا عنه : { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : مصداق أنباء الحق الذي كانوا يكذبون به على سبيل الاستهزاء . وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة . فهو وعيد شديد لهم بأنه لا بد لهم أن يذوقوا وباله . وقد ذاقوه يوم بدر وغيره

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } [ 6 ]
{ أَلَمْ يَرَوْا } أي : ألم يعلموا علماً يشبه الرؤية بالبصر ، لما سمعوا بالتواتر من إتيان المستهزئين قبلهم . أنباءهم مراراً كثيرة : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : من أمة ، فلم نبق منها أحداً ، مثل قوم نوح وعاد وثمود ، وغيرهم من الأمم الماضية ، والقرون الخالية { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : قررناهم وثبتناهم في الأرض { مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ } أي : ما لم نجعل لكم من السعة والرفاهية وطول الأعمار ، يا أهل مكة ! : { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ } أي : المطر . قال المهايمي : هو أبلغ من : { أَنزَلْنَا } في الدلالة على الكثرة { عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً } أي : كثيراً { وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } أي : من تحت أشجارهم ، فعاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار ، وسقيا الغيث المدرار { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي : بسبب ذنوبهم وكفرهم ، وتكذيبهم رسلهم ، وجعلناهم أحاديث ، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه . أي : وسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أي : بدلاً من الهالكين ، يعني : فلا يتعاظمه تعالى أن يهلك هؤلاء ، ويخلي ديارهم منهم ، وينشئ أمة سواهم ، فما هم بأعزّ على الله منهم . والرسول الذي كذبوه أكرم على الله من رسلهم . فهم أولى بالعذاب ، ومفاجأة العقوبة ، لولا لطفه وإحسانه .
ثم بين تعالى شدة مكابرتهم ، إثر إعراضهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 7 ]
{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } أي : مكتوباً في ورق : { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أي : فمسوه { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا } أي : ليس هذا المعظم بهذه الوجوه الدالة على أنه لا يكون إلا من الله { إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } تعنتاً وعناداً ، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه ، فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ، ولأنه يتقدمه الإبصار ، حيث لا مانع . وتقييده بـ الأيدي لرفع التجوز ، فإنه قد يتجوز به للفحص ، كقوله : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء } [ الجن : 8 ] - أفاده البيضاوي .
قال الناصر في " الانتصاف " : والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم ، تحقيق القراءة على قرب . أي : فقرؤوه وهو في أيديهم ، لا بعيد عنهم ، لما آمنوا .
وقال ابن كثير : وهذا كما قال تعالى مخبراً عن مكابرتهم للمحسوسات : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 - 15 ] . ولقوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } [ 8 ]
{ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } أي : ليكون معه فيكلمنا أنه نبي ، كقوله : { لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] .
{ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ } جواب لمقترحهم ، وبيان لمانعه ، وهو البقيا عليهم ، كيلا يكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه . والمعنى : أن الملك لو أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته ، وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لم يؤمنوا ، لحاق بهم العذاب ، وفرغ الأمر . فإن سنة الله قد جرت في الكفار أنهم متى اقترحوا آية . ثم لم يؤمنوا ، استؤصلوا بالعذاب ، كما قال تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ } [ الحجر : 8 ] . وقوله تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] .
{ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ } أي : لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين ، فضلاً عن أن ينذروا به . ومعنى ثم بعد ما بين الأمرين ، قضاء الأمر ، وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار . أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة .
تنبيه :
ذكر الزمخشري وجهاً ثانياً في تعجيل عذابهم ، عند نزول الملائكة ، وهو أنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف ، فيجب إهلاكهم ، وفي " الكشف " الاختيار قاعدة التكليف ، وهذه آية ملجئة . قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] . فوجب إهلاكهم ، لئلا يبقى وجودهم عارياً عن الحكمة ، إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف ، وهو لا يبقى مع الإلجاء . هذا تقريره على مذهبهم ، وهو غير صاف عن الإشكال . انتهى . وفيه إشارة إلى أنه ليس على قواعد السنة ، وكأن وجه إشكاله أنه وقع في القرآن ، والواقع ما ينافيه ، كما في قوله تعالى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } [ البقرة : 259 ] . -كذا في " العناية " -وذكر أيضاً وجهاً ثالثاً . وهو أنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته ، زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون .
قال في " الانتصاف " : ويقوي هذا الوجه قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } . قال ابن عباس . ليتمكنوا من رؤيته ، ولا يهلكوا من مشاهدة صورته ، انتهى .
وهذا الوجه آثره أبو السعود في التقديم حيث قال : أي : لو أنزلنا ملكاً على هيئته حسبما اقترحوه ، والحال أنه من هول المنظر ، بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية . ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ويفاوضونهم على الصورة البشرية ؟ كضيف إبراهيم ولوط ، وخصم داود عليهم السلام ، وغير ذلك . وحيث كان شأنهم كذلك ، وهم مؤيدون بالقوى القدسية ، فما ظنك بمن عداهم من العوام ؟ فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية ، واستحال جعله نذيراً ، وهو - مع كونه خلاف مطلوبهم -مستلزم لإخفاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة ، من إرسال الرسل ، وتأسيس الشرائع ، وقد قال سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . انتهى .
وفي " العناية " أن الوجه الثالث لا يناسب قوله : { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } ، لأنه يدل على إهلاكهم ، لا على هلاكهم ، برؤية الملك ، إلا بتكلف .
هذا وقال الناصر في " الانتصاف " : على الوجه الأول لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك . فإنه ربما يُفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح ، وليس الأمر كذلك . فالوجه -والله أعلم -أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم ، أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه ، إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزاً ، لا المعجز الخاص ، فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم ، فلم ينجع فيهم ، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة - والله أعلم - .
قال المهايمي : لا دليل على النبوة سوى شهادة الملك ، وتنزيل الملك بصورته الملكوتية يقطع أمر التكليف ، إذ لا ينفع الإيمان بعد انكشاف عالم الملكوت ، فلا يمهلون ، لأن الإمهال للنظر . والمعجزة - وإن أفادت علماً ضروريّاً -لا تخلو عن خفاء يحتاج إلى أدنى نظر ، ولا خفاء مع انكشاف عالم الملكوت ، فلا وجه للإمهال للنظر ، فلا يقبل الإيمان معه ، فلا بد من المؤاخذة عقيبه . انتهى - فليتأمل - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ 9 ]
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } جواب ثان . أي : ولو جعلنا النذير الذي اقترحوه ملكاً لمثلناه رجلاً ، لما مرّ من عدم استطاعة الآحاد ، لمعاينة الملك على صورته ، من النور . وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء بقوتهم القدسية { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } جواب محذوف . أي : ولو جعلناه رجلاً لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم حينئذ ، بأن يقولوا له : إنما أنت بشر ، ولست بملك . ولو استدل على ملكيته بالقرآن المعجز ، الناطق بها ، أو بمعجزات أخر غير ملجئة إلى التصديق - لكذبوه ، كما كذبوا النبيّ عليه الصلاة والسلام . ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم ما تقدم من قضاء الأمر .
تنبيهات :
الأول : في إيثار رَجُلاً على بَشَراً إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل ، لا بطريق قلب الحقيقة ، وتعيين لما يقع به التمثيل .
الثاني - في الآية بيان لرحمته تعالى بخلقه ، وهو أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رُسُلاً منهم ، ليدعو بعضهم بعضاً ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال . كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ آل عِمْرَان : 164 ] . الآية . وقال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
الثالث : التعبير عن تمثيله تعالى رُجُلاً باللبس إما لكونه في صورة اللبس ، أو لكونه سبباً للبسهم ، أو لوقوعه في صحبته بطريق المشاكلة . وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكاً ، كأنه قيل : لو فعلناه ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم - أفاده أبو السعود .
الرابع - جوز بعضهم وجهاً ثانياً في قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً } وهو أن يكون جواب اقتراح ثان ، على أن الضمير عائد للرسول ، لا لمقترحهم السابق . قال لأنهم تارة يقولون : { لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } وتارة يقول : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً } [ فصلت : 14 ] . والمعنى : ولو جعلنا الرسول ملكاً لمثلناه رجلاً . والظاهر هو الوجه الأول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 10 ]
وقوله تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصر والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة . و حاق : بمعنى نزل وحلَّ ، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر . فنزل بهم وبال استهزائهم ، أو العذاب الذي كانوا يسخرون من التخويف به ، إذ هلكوا في الدنيا على أقبح الوجوه ، ثم ردوا إلى أفظع العذاب أبد الآبدين . وجعل الرسل في أعلى منازل القرب من رب العالمين .
ثم أمر تعالى أن يصدعهم بالتجول في الأرض إن ارتابوا فيما تواتر ، أو تعامَوْا عَمَّا رَأوْا ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ 11 ]
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي : سيروا في الأرض لتعرّف أحوال أولئك الأمم ، وتفكروا في أنهم كيف أُهلكوا لما كذبوا الرسل وعاندوا ، فتعرفوا صحة ما توعظون به . وفي السير في الأرض ، والسفر في البلاد ، ومشاهدة تلك الآثار الخاوية على عروشها - تكملة للاعتبار ، وتقوية للاستبصار . أي : فلا تغتروا بما أنتم عليه من التمتع بلذات الدنيا وشهواتها .
وفي هذه الآية تكملة للتسلية ، بما في ضمنها من العدة اللطيفة ، بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم المكذبين ، وقد أنجز ذلك يوم بدر أي : إنجاز .
لطيفة :
وقع هنا : { ثُمَّ انظُرُواْ } . وفي النمل : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا } [ النمل : 69 ] . وكذا في العنكبوت . فتكلف بعضهم لتخصيص ما هنا بـ [ ثم ] ، كما هو مبسوط في " العناية " ، مع ما عليه . ونقل عن بعضهم أن السير متحداً فيهما ، ولكنه أمر ممتد ، يعطف بالفاء تارةً ، نظراً لآخره ، وبـ [ ثم ] نظراً لأوله ، ولا فرق بينهما .
وفي " الانتصاف " : الأظهر أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحداً ، ليكون ذلك سبباً في النظر ، فحيث دخلت الفاء ، فالإظهار السببية . وحيث دخلت ثم ، فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير ، وأن السير وسيلة إليه لا غير . وشتان بين المقصود والوسيلة -والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 12 ]
{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : خلقاً وملكاً ، وهو سؤال تبكيت وتقريع { قُلْ لِلَّهِ } تقرير للجواب ، نيابة عنهم . أي : هو الله ، لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره . ففيه تنبيه على تعينه للجواب اتفاقاً ، كما في قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } . ومن المقرر أن أمر السائل بالجواب إنما يحسن في موضع يكون فيه الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا على دفعه دافع ، كما هنا . قيل : وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب ، مع تعينه ، لكونهم محجوجين .
وقوله تعالى : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } جملة مستقلة داخلة تحت الأمر ، ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق ، شمول ملكه وقدرته للكل ، مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بعباده ، لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم التوبة والإنابة ، وأن ما سبق ذكره ، وما لحق من أحكام الغضب ، ليس من مقتضيات ذاته تعالى ، بل من جهة الخلق . كيف لا ؟ ومن رحمته أن خلقهم على الفطرة السليمة ، وهداهم إلى معرفته وتوحيده ، بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه ، والتحذير عن مقتضيات سخطه . وقد بدلوا فطرة الله تبديلاً ، وأعرضوا عن الآيات بالمرة ، وكذبوا بالكتب ، واسهزؤوا بالرسل { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] . ولولا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضاً مسلك الغابرين . ومعنى : [ كتب الرحمة على نفسه ] أنه تعالى أوجبها وقضاها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة ، بالذات ، لا بتوسط شيء أصلاً . وفي التعبير عن الذات بـ [ النفس ] حجة على من ادعى أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى . وإن أُريد به الذات ، إلا مشاكلة لما ترى من انتفاء المشاكلة هاهنا -أفادة أبو السعود - .
وقوله تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } جواب قسم محذوف . والجملة استئناف مسوق للوعيد ، على إشراكهم وإغفالهم النظر ، لأنه لما بين كمال إلهيته ، بقوله : { قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ } . ثم أخبر بأنه يرحمهم في الدنيا بالإمهال ، ودفع عذاب الاستئصال ، أعلم أنه يجمعهم لذلك اليوم ، ويحاسبهم على كل ما فعلوا ، لأن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ، ولا يسوغ في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي قيل : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جواب لقوله : { كَتَبَ } ، لأنه يجري مجرى القسم .
وقيل : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } بدل من الرحمة ، بدل البعض . قال المهايمي : كمال الرحمة في الجزاء ، إذ بدونه تضيع مشاق المعارف الإلهية ، والأعمال الصالحة ، وتضيع المظالم ، ولا جزاء في دار الدنيا ، لأنه فرع التكليف ، ودار التكليف لا تكون دار الجزاء ، لأن مشاهدته مانعة من التكليف . انتهى .
و إلى بمعنى اللام ، كقوله : { إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه } [ آل عِمْرَان : 9 ] ، أي : في اليوم ، أو في الجمع .
{ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : بتضييع رأس مالهم ، وهو الفطرة الأصلية , والعقل السليم ، والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ، واستماع الوحي ، وغير ذلك من آثار الرحمة .
{ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم .
قال أبو السعود : والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب خسرانهم ، فإن إبطال العقل باتباع الحواس ، والانهماك في التقليد ، وإغفال النظر ، أدى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع من الإيمان . والجملة تذييل مسوق من جهته تعالى ، لتقبيح حالهم ، غير داخل تحت الأمر .
تنبيه :
رُوي في معنى هذه الآية عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لما خلق الله الخلق كتب في كتاب ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي > -رواه الشيخان -
وفي البخاريّ : إن كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق : إن رحمتي سبقت غضبي ، فهو مكتوب عنده ، فهو العرش .
وفي رواية لهما : أن الله لما خلق الخلق .
وعند مسلم : لما قضى الله الخلق ، كتب في كتاب كتبه على نفسه ، فهو موضوع عنده . زاد البخاريّ : على العرش . ثم اتفقا : إن رحمتي تغلب غضبي .
وسنذكر ، إن شاء الله ، شذرة من أحاديث الرحمة عند آية : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } قريباً . قال أبو السعود : ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقاً بالخلق ، وأكثر وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 13 ]
{ وَلَهُ } أي : ولله عز وجل { مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : ما استقر وحلّ ، من السكنى بمعنى الحلول . كقوله تعالى : { وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ إبراهيم : 45 ] . والمعنى : له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار ، مما طلعت عليه الشمس أو غربت . شبه الاستقرار بالزمان ، بالاستقرار في المكان ، فاستعمل استعماله فيه . أو سكن من السكون ، مقابل الحركة . أي : ما سكن فيهما وما تحرك ، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر ، كما في قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَر } [ النحل : 81 ] . لأن ذلك يعرف بالقرينة . وعليه ، فإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس . لأن السكون أكثر وجوداً ، والنعمة فيه أكثر .
قال بعضهم : لا حاجة لدعوى الاكتفاء ، فإنما سكن يعم جميع المخلوقات ، إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون ، حتى المتحرك ، حال حركته ، على ما حقق في الكلام : من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها .
لطيفة :
قال أبو مسلم الأصفهانيّ : ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض ، إذ لا مكان سواهما . وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار ، إذ لا زمان سواهما ، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات ، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ، ومالك للزمان والزمانيات . وهذا بيان في غاية الجلالة .
وقال الرازي : هاهنا دقيقة أخرى . وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ، ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات ، وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات ، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة . والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى ، وهذا من سر نظم الآية مع ما قبلها .
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } يسمع كل مسموع ، ويعلم كل معلوم ، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه المَلَوَان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } [ 14 ]
{ قُلْ } أي : لكفار مكة المبكَّتين بما تقدم : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } أي : معبوداً . كقوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } . والمعنى : لا أتخذ ولياً إلا الله وحده { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق . بالجر ، صفة للجلالة ، موكدة للإنكار { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } أي : يَرْزُق ولا يُرْزَق ، أي : المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع . أي : فيجب اتخاذه وليّاً ليُعبد شكراً على إنعامه ، وكفايته الحوائج بلا طلب عوض . قيل : المراد بالطعم الرزق ، بمعناه اللغويّ . وهو كل ما يُنتفع به ، بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى : { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] . فعبر بالخاص عن العام مجازاً ، لأنه أعظمه وأكثره ، لشدة الحاجة إليه . واكتفى به عن العام ، لأنه يعلم ، من نفي ذلك ، نفي ما سواه .
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أي : وجهه لله مخلصاً له ، لأصير متبوعاً للباقين . كقوله : { وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 163 ] . وكقول موسى : { سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] .
{ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : وقيل لي : { وَلا تَكُونَنَّ } . فهو معطوف على : { أُمِرْتُ } بمعنى : أُمرت بالإسلام ، ونُهيت عن الشرك صريحاً مؤكداً ، بعد النهي في ضمن الأمر . ونهي المتبوع نهي التابعين . ويجوز عطفه على : { قُلْ } . وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به . لأنه مقتداهم . قيل : هذه الآية للتحريض ، كما يأمر الملك رعيته بأمر ، ثم يقول : وأنا أول من يفعل ذلك ، ليحملهم على الامتثال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 15 ]
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } أي : بمخالفة أمره ونهيه أي : عصيان . فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أوليّاً { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني : عذاب يوم القيامة ، الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهيّ . وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم ، وتعرض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم . ووجه التعريض إسناد ما هو معلوم الانتفاء ، بـ ( إنْ ) التي تفيد الشك تعريضاً . وجيء بالماضي إبرازاً له في صورة الحاصل على سبيل الفرض ، تعريضاً بمن صدر عنهم ذلك . وحيث كان تعريضاً لهم ، والمراد تخويفهم إذا صدر منهم ذلك - لم يكن فيه دلالة على أنه يخاف هو صلى الله عليه وسلم على نفسه المعصية ، مع أنه معصوم . كما لا يتوهم مثله في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . وحينئذ فلا حاجة إلى ما أجيب عن ظاهر دلالته على ما ذكر ، بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امنتاعاً عاديّاً ، فلا يدل إلا على أنه يخاف لو صدر عنه العصيان . وهذا لا يدل على حصول الخوف .
قال بعضهم : لا يقال على تقدير العصيان ، يكون الجواب هو استحقاق العذاب ، لا الخوف . لأنا نقول : لا منافاة بينهما . فالخوف إما على حقيقته ، أو كناية عن الاستحقاق . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [ 16 ]
{ مَنْ يُصْرَفْ } بالبناء للمفعول ، أي : العذاب { عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَد رَحِمَهُ } أي : نجاه وأنعم عليه ، أو أدخله الجنة ، لقوله : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ } [ آل عِمْرَان : 185 ] وقوله تعالى : { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] . والجملة مستأنفة ، مؤكد لتهويل العذاب .
{ وَذَلِكَ } أي : الصرف أو الرحمة { الْفَوْزُ الْمُبِينُ } أي : الظاهر .
ثم ذكر تعالى دليلاً آخر ، في أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ولياً غير الله تعالى ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ 17 ]
{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } أي : ببلية ، كفقر ومرض ونحوهما . و الضر : اسم جامع لما ينال الإنسان من مكروه { فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } أي : فلا يقدر على دفعه إلا هو وحده { وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من عافية ورخاء ونحوهما : و الخير : اسم جامع لما ينال الْإِنْسَاْن من محبوب له { فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : ومن جملته ذلك ، فيقدر عليه ، فيمسك به ، ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه أو رفعه أحد . كقوله تعالى : { فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ي } [ يونس : 107 ] ، وكقوله سبحانه : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < اللهم ! لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد > .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : كنت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : < يا غلام ! إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله . واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك . رفعت الأقلام وجفت الصحف > -رواه الترمذيّ -وقال : حسنن صحيح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ 18 ]
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } أي : هو الغالب بقدرته ، المستعلي فوق عباده ، يدبر أمرهم بما يريد ، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ، فلا يستطيع أحد منهم ردّ تدبيره ، والخروج من تحت قهره وتقديره .
قال أبو البقاء : في فوقَ وجهان :
أحدهما -في موضع نصب على الحال من الضمير في القاهر أي : مستعلياً وغالباً .
والثاني - في موضع رفع على أنه بدل من القاهر أو خبر ثان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ 19 ]
{ قُلْ أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } أي : بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه : { قُلِ اللَّهُ } أي : أكبر شهادة ، إذ لا احتمال لطروّ الكذب في خبره أصلاً ، جل شأنه . وأمرُه صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب بنفسه ، إما للإيذان بتعينه ، وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره ، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه ، لا لترددهم في أنه تعالى أكبر من كل شيء ، بل في كونه شهيداً في هذا الشأن .
وقوله تعالى : { شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } خبر لمحذوف ، أو خبر عن لفظ الجلالة . ودل على جواب أي : من طريق المعنى ، لأنه إذا كان تعالى هو الشهيد بينه وبينهم ، كان أكبر شيء شهادة ، شهيداً له . فيكون من الأسلوب الحكيم ، لأنه عدل عن الجواب المتبادر -إليه ، ليدل على أن أكبر شهادة شهيد للرسول ، فإن الله أكبر شيء شهادة ، والله شهيد له ، فينتج الأكبر شهادة له . والقياس المذكور من الشكل الثالث ، لأن الحد الأوسط موضوع في المقدمتين ، لا من الثاني ، كما وقع للشهاب في " العناية " وهو من بديهيات الميزان .
قال بعضهم : الغرض من السؤال بـ : { أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } أن شاهدي أكبر شهادة . فقوله : { شَهِيدٌ } الخ تنصيص له ، والسؤال المذكور لا يحتاج إلى جواب ، لكونه معلوماً بيّناً عند الخصم ، فحاصله أن الله الذي هو أكبر شهادة ، شهر بذلك . انتهى .
ومعنى ( شَهِيدٌ ) مبالغ في الشهادة على نبوتي ، بحيث يقطع النزاع بيني وبينكم ، إذ شهد سبحانه بالقول في الكتب التي أنزلها على الأولين ، وبالفعل فيما ظهر على يديّ من المعجزات ، لا سيما معجزة القرآن ، كما قال تعالى :
{ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ } أي : الجامع للعلوم التي يحتاج إليها في المعارف والشرائع ، في ألفاظ يسيرة ، في أقصى مراتب الحسن والبلاغة ، معجزة شاهدة بصحة رسالتي ، لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء ، وقد عجزتم عن معارضته : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ } أي : بما فيه من الوعيد { وَمَنْ بَلَغَ } عطف على ضمير المخاطبين ، أي : لأنذركم به ، يا أهل مكة ! وسائر من بلغه من الناس كافة ، فهو نذير لكل من بلغه ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
{ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى } تقرير لهم مع إنكار واستبعادٍ .
{ قُلْ لا أَشْهَدُ } بما تشهدون { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : بل أشهد أن لا إله إلا هو ، لا يُشارَك في إلهيته ، ولا في صفات كماله : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } يعني : الأصنام .
وفي هذه الآية .
مسائل :
الأولى - استدل الجمهور بقوله تعالى : { قُلِ اللّهُ } في جواب : { أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } على جواز إطلاق الشيء عليه تعالى . وكذا بقوله سبحانه وتعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه } [ القصص : 88 ] . فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه ، وذلك لأن الشيء أعم العام - كما قال سيبويه - لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، واختار الزمخشري شموله حتى للمستحيل . وصرح كثير من المحققين بأنه يختص بالموجود ، وضعفوا من أطلقه على المعدوم ، بأنه محجوج بعدم استعمال العرب ذلك ، كما علم باستقراء كلامهم ، وبنحو { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } ، إذ المعدوم لا يتصف بالهلاك ، وبنحو : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] . إذ المعدوم لا يتصور منه التسبيح .
قال الناصر في " الانتصاف " : هذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار مّا ، وأما هذا البحث فلغويّ ، والتحاكم فيه لأهل اللغة . وظاهر قولهم : غضبت من لاشيء .
~إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود ، إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم عدماً كان أو وجوداً ، أو ممكناً أو مستحيلاً ، لما صدق على أمرٍ مّا أنه ليس بشيء ، والأمر في ذلك قريب . انتهى .
هذا ، وتمسك مَنْ منع إطلاقه عليه تعالى قوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ، والاسم إنما يحسن لحسن مسماه ، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ، ونعت من نعوت الجلال . ولفظ الشيء أعم الأشياء ، فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها . ومتى كان كذلك ، لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ، فوجب أن لا نجوز دعوة الله بهذا الاسم ، لأنه ليس من الأسماء الحسنى ، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها . وأجيب : بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى ، لكونها توقيفية ، وكونه لا يُدعى به لعدم وروده -لا ينافي شموله للذات العلية ، شمول العام . والمراد بإطلاقه عليه تعالى فيما تقدم شموله ، لا تسميته به . وبالجملة ، فلا يلزم أن كونه ليس من الأسماء الحسنى ، أن لا يشمل الذات المقدسة شمولاً كلياً ، كيف ؟ وهو الموضوعات العامة . والتحاكم للغويين في ذلك - كما قدمنا - .
الثانية -ما أسلفناه من أن المعني بالشهادة هو شهادته تعالى في ثبوت النبوة له صلى الله عليه وسلم ، هو الذي جنح إليه الأكثر . وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهداً على نبوته . فقيل لهم : أكبر شيءٍ شهادة هو الله تعالى ، وقد شهد لي بالنبوة ، لأنه أوحى إليّ هذا القرآن ، وتحدّاكم بمعارضته ، فعجزتم ، وأنتم أنتم في مقام البلاغة . وإذ كان معجزاً ، كان إظهاره تعالى إياه على وفق دعواي ، شهادةً منه على صدقي في النبوة .
ولبعضهم وجه آخر ، وهو أن المعني ، شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته ، وتنزهه عن الأنداد والأشباه . ويرشحه تتمة الآية ، وهو قوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ } الخ ، وقوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [ آل عِمْرَان : 18 ] . وقوله تعالى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [ الأنعام : 150 ] . مما يدل على أن الشهادة إنما عنى بها ، في موارد التنزيل ، ثبوت الوحدانية ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً - والله أعلم - .
الثالثة - إنما اقتصر على الإنذار في قوله : { لأُنذِرَكُم بِهِ } لكون الخطاب مع كفار مكة ، وليس فيهم من يُبشَّر . أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حدّ : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] .
الرابعة - استدل بقوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة ، وإلى الجن .
الخامسة - استدل به أيضاً على أن أحكام القرآن تعمّ الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعدُ إلى يوم القيامة ، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل - عند الحنابلة -وبالإجماع عندنا في غير الموجودين ، وفي غير المكلفين يومئذ -أفاده أبو السعود - . السادسة -روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله : { وَمَن بَلَغَ } : من بلغه القرآن ، فكأنما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وكلمه . ورواه ابن جرير عنه بلفظ : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم .
وروى عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله > .
وقال الربيع بن أنس : حقٌّ على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينذر بالذي أنذر .
السابعة - دل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } وقوله : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان ، وأبلغ وجوده التأكيد ، لأن إنما تفيد الحصر ، و الواحد صريح في نفي الشركاء . ثم صرّح بالبراءة عن إثبات الشركاء . وقد استحب الشافعي لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين ، أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام ، لقوله : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } عقب التصريح بالتوحيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 20 ]
وقوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } يعني : اليهود والنصارى : { يَعْرِفُونَهُ } أي : يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين : { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } بحلاهم ونعوتهم ، لا يخفون عليهم ، ولا يلتبسون بغيرهم .
قال المهايمي : لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر في الكتاب نعته . وهو ، وإن لم يفد تعينُّه باللون والشكل والزمان والمكان ، تعيّن بقرائن المعجزات . فبقاء الاحتمال البعيد فيه ، كبقائه في الولد ، بأنه يمكن أن يكون غير ما ولدته امرأته ، أو يكون من الفجور ، مع دلالة القرائن على براءتها من التزوير والفجور . فهو ، كما يعرفون أبناءهم في ارتفاع الاحتمال البعيد بالقرائن على براءتها .
قال الزمخشري : وهذا استشهاد لأهل الكتاب ، وبصحة نبوّته . ثم بيّن تعالى أن إنكاره خسران لما عرفوه ، ولما أمروا بالتدين به بقوله : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : من المشركين : { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ، وتوّهت به ، لأنه مطبوع على قلوبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ 21 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } كقولهم : الملائكة بنات الله [ الأنعام : 100 ] ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله . قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] .
{ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي : القرآن والمعجزات ، حيث سموها سحراً . وإنما ذكر : { أَوْ } مع أنهم جمعوا بين الأمرين ، تنبيهاً على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس . فكيف ؟ وهم وقد جمعوا بينهما ، فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ، ونفوا ما أثبته .
{ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : لا ينجون من مكروه ، ولا يفوزون بمطلوب . وإذا كان حال الظالمين هذا ، فكيف بمن لا أحد أظلم منه ؟
تنبيه :
ما ذكرناه من كون الموصول كناية عن المشركين هو الظاهر ، لأن السورة مكية ، والخطاب مع مشركي أهلها . وجعله البيضاويّ لهم ، ولأهل الكتاب ، وقوفاً مع عموم اللفظ ، والمهايمي ؛ لأهل الكتاب خاصة ، ربطاً للآية بما قبلها . والظاهر الأول ، لما قلنا . وعبارة المهايمي : { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بتفويت ما أوتوا من الكتاب ، وما أمروا به ، فهم لا يؤمنون . وكيف لا يحسرون ، وهم ظالمون ، وكل ظالم خاسر ؟ وإنما قلنا : إنهم ظالمون ، لأنهم يحرفون كتاب الله لفظاً أو معنى ، فيفترون على الله الكذب ، ويكذبون آيات الله من كتابهم ، ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه . وقد يسترون بعض ما في كتابهم ، وهو أيضاً تكذيب . فعلوا جميع ذلك لأنه لا يتأتى لهم ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بدون أحد هذه الأمور .
وقال في قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } الآية : لأنهم بالتحريف يدّعون إلهية أنفسهم ، وبالتكذيب يريدون تعجيز الله عن تصديقه الرسل ، وينسبون إيجادها إلى غير الله ، مع افتقارها إلى القدرة الكاملة . وإنما قلنا : كل ظالم خاسر ، لأن كل ظالم لا يفلح . كما قال تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : لا يفلحون في الدنيا بانقطاع الحجة عنهم ، وظهور المسلمين عليهم ، وفيه إشارة إلى أن مدعي الرسالة ، لو كان كاذباً كان مفترياً على الله ، فلا يكون مفلحاً ، فلا يكون سبباً لصلاح العالم ، ولا محلاً لظهور المعجزات . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ 22 ]
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } أي : الإنس والجن والشياطين . منصوب بمضمر تهويلاً للأمر { جَمِيعاً } ليفتضح من لا يفلح من الظالمين مزيد افتضاح ، ويظهر المفلحون بكمال الإعزاز .
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } أي : مضوا على الشرك ، بأن ماتوا عليه ، وهم الشاهدون أن مع الله آلهة أخرى : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } أي : الذي جعلتموهم شركاءنا ، وهم شركاؤكم في العبودية - كذا قاله المهايمي - وعليه ، فالإضافة على بابها .
وفي " العناية " : الإضافة فيه لأدنى ملابسه ، كما شار إليه القاضي بقوله : أي : آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله ، لأنه لا شركة بينهم ، وإنما سموهم شركاء ، فلهذه الملابسة أضيفوا إليهم .
قيل : قوله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } يقتضي حضورهم معهم في المحشر ، و ( أين ) يسأل بها عن غير الحاضر ؟ أجيب بأنه بتقدير مضاف . أي : أين نفعهم وشفاعتهم ، أو أنهم بمنزلة الغيَّب ، لعدم ما رجوا منهم من الشفاعة . وعلى كلٍّ ، فالقصد من السؤال توبيخهم وتقريعهم ، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه . وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة .
وقوله تعالى : { الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي : تزعمونها شركاء من عند أنفسكم . أي : فقصدتم بذلك فعل الفاتنين في المملكة بجعلها لغير من هي له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ 23 ]
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي : جواب ما اعترض به على فتنتهم التي هي شهادة أن مع الله آلهة أخرى . وعبّر عن جوابهم بالفتنة ، لأنه كذب : { إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } اعتذروا عن أصنامهم بنفيها مؤكداً بالقَسَم بالاسم الجامع ، مع نسبة الربوبية إليه تعالى ، لا إلى ما سواه ، مبالغة في التبرؤ من الإشراك . فكان هذا العذرُ ذنباً آخر مؤكداً لافترائهم بالإشراك الذي نفوه . كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 24 ]
{ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب ، بحضرة من لا ينحصر من الشهود : { وَضَلَّ } أي : وكيف ضاع وغاب : { عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : من الشركاء ، فلم تغن عنهم شيئاً ، ففقدوا ما رجوا من شفاعتها ونصرتها لهم ، كقوله تعالى : { قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } [ الأعراف : 37 ] . فـ ( ما ) موصولة ، كناية عن الشركاء . وإيقاع الافتراء عليها ، مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها من الإلهية ، والشركة والشفاعة ونحوها - للمبالغة في أمرها ، كأنها نفس المفتري .
تنبيهات :
الأول -ما ذكرناه من أنه عبر عن جوابهم بالفتنة هو الأظهر . فالمراد : الجواب بما هو كذب ، لأنه سبب الفتنة ، فتجوّز بها إطلاقاً للمسبب على السبب ، أو هو استعارة . وقيل : الفتنة بمعنى العذر ، لأنها التخليص من الغش لغة ، والعذر يخلّص من الذنب ، فاستُعيرت له . وقيل : بمعنى الكفر ، لأن الفتنة ما تفتتن به ويعجبك ، وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به ، ويظنونه شيئاً ، فلم تكن عاقبته إلا الخسران ، والتبرؤ منه ، وليس هذا على تقدير مضاف ، بل جعل عاقبة الشيء عينه ، ادّعاءً .
قال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة ، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام ، وتصرف العرب في ذلك . وذلك أن الله تعالى بيّن كوْنَ المشركين مفتونين بشركهم ، متهالكين على حبه ، فأعلم في هذه الآية ، أنه لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرؤوا منه وتباعدوا عنه ، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين . ومثاله : أن ترى إنساناً يحب غاوياً مذموم الطريقة ، فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه ، فيقال : له ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه .
قال الخفاجي - بعد نقله ما ذكر - : وليس هذا من قبيل عتابك السيف ، ولا من تقدير المضاف ، وإن صح فاحفظه ، فإنه من البدائع الروائع . الثاني - ما بينّاه من أن ( ما ) في قوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } موصولة ، كناية عن الشركاء ، بمعنى عدم إغنائها عنهم - هو الموافق للآية الثانية التي سقناها . وجوز كونها مصدرية . أي : انظر كيف ذهب وزال عنهم افتراؤهم من الإشراك ، حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية ، وتبرؤوا منه بالمرة .
هذا ، وجعل الناصر في " الانتصاف " : { ضَلَّ } بمعنى سُلِبُوا علمه ، فكأنهم نسوه وذهلوه دهشاً . هو بعيد لعدم ملاقاته للآية أخرى . والتنزيل يفسر بعضه بعضاً . وعبارته : في الآية دليل بيّن على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، كذب ، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره بمخبره . ألا تراه جعل إخبارهم وتبريهم كذباً ، مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون . أي : سلبوا علمه حينئذ دهشاً وحيرةً . فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم . انتهى .
الثالث -قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور ، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته ؟ .
قلت : الممتحَن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه ، من غير تمييز بينهما ، حيرةً ودهشاً ، ألا تراهم يقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [ المؤمنون : 107 ] ؟ وقد أيقنو بالخلود ، ولم يشكوا فيه { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] . وقد علموا أنه لا يقضي عليهم .
وأما قول من يقول : معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا ، وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } يعني في الدنيا - فتمحلٌ وتعسف وتحريف لأفصح الكلام ، إلى ما هو عيّ وإفحام . لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ، ليس هذا الكلام بمترجم عنه ، ولا منطبق عليه ، وهو ناب عنه أشد النبوّ . وما أدري ما يصنع ، من ذلك تفسيره ، بقوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] . بعد قوله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا . انتهى .
والقول المذكور ، والحمل الذي ناقش فيه ، أصله لأبي عليّ الجبائيّ والقاضي . فإنهما ذهبا إلى أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب ، واعتلا بوجوه واهية ساقها الرازي . فلتنظر ثَمَّت ، فإنا لا نسوّد وجوه صحائفنا بما فيه تحكيم العقل على النقل .
ثم بيّن تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة ، مما طبع على قلوبهم بسببه فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [ 25 ]
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أي : يصغي حين تتلو القرآن ، ولا يجزئ عنه شيئاً ، لأنه لا يتدبر فيه حتى يطلع على إعجازه ، ويؤثر فيه الإرشاد : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : حجاباً ، جمع كنان ، كغطاء وأغطية ، لفظاً ومعنى : { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي : كراهة أن يفهموا ، ببواطن قلوبهم ، بواطنه التي بها إعجازه وإرشاده ، بإقامة الدلائل ورفع الشبه { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } أ ي : وجعلنا في آذانهم ، التي هي طريق الوصول إلى بواطن القلوب ، صمماً مانعاً من وصول السماع النافع . وقد مرّ في أول البقرة تحقيق ذلك . فتذكر !
وقوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } إشارة إلى أنه لا يختص ما ذكر منهم بالقرآن ، لرؤيتهم قصوراً فيه ، بل مهما يروا من الآيات والحجج مما يدل على صدق الرسول لا يؤمنوا بها ، وحملوها على السحر . لفرط عنادهم ، واستحكام التقليد فيهم ، فلا فهم عندهم ولا إنصاف . كقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ } [ الأنفال : 23 ] .
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } أي : بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاءوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل . ثم فسر المجادلة بقوله : { يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها . وعدُّ أحسن الحديث وأصدقه ، من قبيل الأباطيل : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } -رتبة من الكفر لا غاية وراءها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 26 ]
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } أي : لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه ، بل ينهون الناس عن استماعه .
قال المهايميّ : وهم ، لرؤيتهم حلاوة نظمه فوق نثرهم وشعرهم ، مع متانة معاينة ، يعرفون أن التدبر فيه يفيد التطلع على إعجازه . فيخافون تأثيره في قلوب الخلائق . لذلك ينهون عنه . أي : عن قراءته واستماعه ، لئلا يدعوهم إلى التدبر فيه ، فيفسد عليهم أغراضهم الفاسدة .
{ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي : يتباعدون عنه بأنفسهم ، إظهاراً لغاية نفورهم عنه ، وتأكيداً لنهيهم عنه . فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه ، من متممات النهي . ولعل ذلك هو السرّ في تأخير ( النأي ) عن ( النهي ) -أفاده أبو السعود - .
ولما أشعر ذلك بكونهم يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، خوفاً من قوة تأثير التنزيل في القلوب ، أتبعه بأنه لا يحصل لهم هذا المطلوب ، لأن الله متم نوره ، ومظهر دينه ، وإن الدائرة عليهم بقوله : { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } بتعريضها لأشد العذاب عاجلاً وآجلاً : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : بذلك .
تنبيه :
روى الحاكم وغيره ، عن ثلة من التابعين ، أن هذه الآية نزلت في أبي طالب ، كان ينهى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُؤذى ، وينأي عنه فلا يؤمن به ، وجمعيته حينئذ ، باعتبار استتباعه لأتباعه .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنها نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا عشرة . فكانوا أشد الناس معه في العلانية ، ووأشدهم عليه في السر ، ولا يخفى أن لفظ التنزيل مما يصدق على ما ذكر ولا ينافيه ، وهو المراد بالنزول - كما أسلفنا مراراً -وقد قال أبو طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
~والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسَّد في التراب دفينا
~فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةٌ وابشر بذاك وقَرَّ عيونا
~ودعوتني وزعمتَ أنك ناصح ولقد صدقتَ وكنت ثم أمينا
~وعرضت ديناً لا محالة أنه من حير أديان البرية دينا
~لولا الملامة أو حذاري سبةً لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وفي ( ينهون ) و ( ينأون ) تجنيس بديع .
ولما أخبر تعالى أنهم يهلكون أنفسهم ، شرح كيفيته مع بيان ما سيصدر عنهم في الآخرة . من القول المناقض لعقدهم الدنيويّ ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 27 ]
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ } أي : اطلعوا عليها فعاينوها . يقال : وقف فلاناً على ذنبه : أطلعه عليه . أو أُدخلوها فعرفوا ما فيها من العذاب . يُقال : وقفت على ما عند فلان ، تريد : فهمته وتبينته . والوقف عليه مجازّي ، أو هو حقيقيّ بمعنى القيام . و ( عَلَى ) إما على حقيقتها . أي : أُقيمو واقفين فوق النار على الصراط ، وهو جسر فوق جهنم . أو هي بمعنى ( في ) ، أي : أُقيموا في جوف النار وغاصوا فيها ، وهي محيطة بهم . وصحح معنى الاستعلاء حينئذ كون النار دركات وطبقات ، بعضها فوق بعض .
{ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } تمنوا الرجوع إلى الدنيا ، حين لا رجوع ، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم ، وأن يكونوا من المؤمنين ، أي : بآياته ، العاملين بمقتضاها ، حتى لا نرى هذا الموقف الهائل . أو من فريق المؤمنين الناجين من العذاب ، الفائزين بحسن المآب .
تنبيه :
جواب ( لو ) محذوف ، تفخيماً للأمر ، وتعظيماً للشأن ، وجاز حذفه لعلم المخاطب به . وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر . ولو قدرت الجواب . كان التقدير : لرأيت سوء منقلبهم . وحذف الجواب في ذلك أبلغ في المعنى من إظهاره . ألا ترى أنك لو قلت لغلامك : والله ! لئن قمت إليك . وسكتّ عن الجواب ، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر ، وعَظُمَ الخوفُ ، ولم يدر أي : الأقسام تبغي . ولو قلت : لأضربنك ، فأتيت بالجواب لأمن غير الضرب ، ولم يخطر بباله نوع من المكروه سواه . فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف -أفاده الرازي -وملخصه : أن حذف الجواب ثقة بظهوره ، وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 28 ]
{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد ، بالتصديق والإيمان ، أي : ليس ذلك عن عزم صحيح ، وخلوص اعتقاد ، بل هو بسبب آخر ، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك ، بقولهم : { وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم ، فتمنوا لذلك . أو بشهادة جوارحهم عليهم ، أو ما كانوا يكتمون في أنفسهم في الدنيا من صدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كقوله تعالى مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] الآية - وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . أو هذه الآية إخبار عن حال المنافقين ، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه . ولا ينافي هذا كون السورة مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ، ومن حولها من الأعراب بعد الهجرة . لأن الله تعالى ذكر وقوع النفاق في سورة مكية وهي ( العنكبوت ) فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] . هذا ما ذكروه مما يمكن تنزيل اللفظ الكريم عليه لعمومه . وقد ناقش في ذلك كله العلامة أبو السعود ، واعتمد أن المراد بـ ( مَا كانُوا يُخْفُونَهُ فيِ الدُّنْيَا ) النار التي وقفوا عليها ، إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها ، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها ، و ( بإخفائها ) تكذيبهم بها ، فإن التكذيب بالشيء كفر به ، وإخفاء له لا محالة . وإيثار على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ } [ الرحمن : 43 ] . وقوله تعالى : { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 14 ] . مع كونه أنسب بما قبله من قولهم : { وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } [ الأنعام : 27 ] . لمراعاة ما في مقابلته من البدو . هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم .
ثم قال في الوجوه المتقدمة : إنه بعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال ، لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً . لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار ، وتفظيع حال أهلها ، وقد ذكر وقوفهم عليها ، وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف . ورتب عليه تمنيهم المذكور بـ ( الفاء ) القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها ، فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية ، وهي نفسها أدهى الدواهي ، وأزجر الزواجر ، وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر ، مع عدم جريان ذكرها ، ثمَّة - أمر يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله . وأما قيل من أن المراد جزاء ما كانوا يخفون ، فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها ، وأبوابها مفتوحة . فتأمل . أقول : لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته ، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ما ذكره ، مما هو غير ظاهر فيه ، وليس له نظائر في التنزيل الكريم . فمجازيته حينئذ من قبل المعمى . وفي الوجوه الأول إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف ، وشموله لها -غير بعيد لأن في كل منها ما يؤيده ، كما بيناه . غاية الأمر أن ما قرره وجه منها بديع . وأما كونه المراد لا غير ، فدونه خرط القتاد - والله أعلم بأسرار كتابه - .
{ وَلَوْ رُدُّوا } أي : عن موقفهم ذلك إلى الدنيا كما تمنوه ، وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال : { لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } من الكفر والشرك : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في وعدهم بالإيمان ، أو ديدنهم الكذب في أحوالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ 29 ]
{ وَقَالُوا } عطف على ( لعادوا ) أو استئناف { إِنْ هِيَ } أي : ما الحياة ، فالضمير لما بعده { إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } لأي : ليست الحياة التي يتوهم فيها البعث ، والتي يُتوهم فيه الرد إلا ، حياتنا الأولى : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } أي : بعد مفارقتنا هذه الحياة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 30 ]
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } قال الجلال : أي : عرضوا عليه . وقال ابن كثير : أي : وقفوا بين يديه { قَالَ أَلَيْسَ هَذَا } أي : المعاد : { بِالْحَقِّ } تقريعاً لهم ، وردّاً لما يتوهمون عند الرد : { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } أي : إنه لحق ، وليس بباطل ، كما كنا نظن . أكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقيّته ، وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط ، طمعاً في نفعه { قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } [ 31 ]
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ } أي : ببلوغ الآخرة وما يتصل بها ، أو هو مجرى على ظاهره ، لأن منكر البعث منكر للرؤية - قاله النسفيّ - والثاني هو الصواب ، وإن اقتصر كثيرون على الأول ، وجعلوه استعارة تمثيلية لحالهم بحال عبدٍ قدم على سيده بعد مدة ، وقد اطّلع السيد على أحواله . فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله ، أو بسخط لما يسخط منها - فإنه نزعة اعتزالية ، ولا عدول إلى المجاز ما أمكنت الحقيقة .
وفي كلام النسفي إشعار بأن اللقاء معناه الرؤية ، وهو ما في القاموس . قال شارحه الزبيديّ : وهو مما نقدوه ، وأطالوا فيه البحث ، ومنهوه . وقالوا : لا يلزم من الرؤية اللقيّ ، كالعكس .
وقال الراغب : هو مقابلة الشيء ومصادفته معاً ، ويعبّر به عن كل منهما . ويقال ذلك في الإدراك بالحسّ والبصر .
لطيفة :
قال الخفاجي في " العناية " : قيل : روي عن عليّ رضي الله عنه أنه نظم أبياتاً على وفق هذه الآية ، وفي معناها وهي :
~زعم المنجمُ والطبيبُ ، كلاهما لا تُحْشَرُ الأجساد . قلتُ إليكما
~إن صحّ قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي ، فالخسار عليكما
قال الخفاجي : لا أدري من أيهما أعجب ؟ الرواية أم الدراية ؟ فإن هذا الشعر لأبي العلاء المعرّي في ديوانه وهو :
~قال المنجمُ والطبيبُ ، كلاهما : لا تُحْشَرُ الأَجْسَادُ . قلت : إليكما
~إن صحّ قولكما فلست بخاسر . أو صحّ قولي ، فالخسار عليكما
~أحي التَُّقى والشر يصطرعان في الدّ نيا . فأيهما أبرّ لديكما
~ظهّرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما
~وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً خَلَدِي بذاك ، فَأَوْحِشا خَلَدَيْكما
~وبكرت في البَرْديْن أبغي رحمة منه ، ولا تَرِعَانِ في بَرْدَيكما
~إِن لم تَعُدْ بيدي منافع بالذي آتي ، فهل من عائدٍ بيديكما
~بُرْدُ التقيّ ، وإن تهلهل نسجُه ، خير ، بعلم الله ، من بُرْديكما
قال ابن السيد في " شرحه " . هذا منظوم مما روي عن عليّ رضي الله عنه ، أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة : إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة ، فقد تخلصنا جميعاً ، وإن لم يكن الأمر كما تقول ، فقد تخلصنا وهلكتَ . فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده . وهذا الكلام ، وإن خرج مخرج الشك . فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه ، وقلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه . مع أن المناظر علي ثقة من أمره ، وهو نوع من أنواع الجدل .
وقوله : ( إَلَيْكُما ) كلمة يراد بها الردع والزجر . ومعناها : كُفَّا عما تقولان ، وحقيقته : قولكما مصروف لكما ، لا حاجة لي به . انتهى .
ومن له معرفة بقرض الشعر ، يعلم أنه شعر مولد .
ثم نبه الخفاجيّ على أن هذا النوع يسمى استدراجاً .
قال في " المثل السائر " : الاستدراج نوع من البالغة استخرجتُه من كتاب الله تعالى ، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال ، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن ، وهو قريب من المغالطة ، وليس منها . كقوله تعالى : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [ غافر : 28 ] . ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله : [ إن يك كاذباً فهذه عائد عليه ، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به ] ، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى . فإنه نبيّ صادق ، فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به ، لا بعضه ، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم ، لا فيه من الملاطفة في النصح ، بكلام منصف غير مشتطّ مشدّد . أراهم أنه لم يعطه حقه ، ولم يتعصب له ، ويحام عنه ، حتى لا ينفروا عنه . ولذا قدم قوله : { كَاذِباً } ، ثم ختم بقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي } الخ ، يعني : أنه نبيّ على الهدى ، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده . وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى . انتهى .
وقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي : جاءتهم القيامة فجأة . وسميت القيامة ( ساعة ) . لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا هو تعالى . والمعنى : جاءتهم منيّتهم . على أن المراد بالساعة ، الصغرى . قال الراغب : الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة ، والصغرى موت الإنسان ، فساعة كل إنسان موته ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } . ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته . انتهى . ( وبغتة ) مصدر في موضع الحال ، لأي : مباغته ، أو مصدر لمحذوف ، أي : تبغتهم . أو للمذكور . فإنّ ( جاءتهم ) ، بمعنى ( بغتتهم ) .
{ قَالُوا } يعني : منكري البعث ، وهم كفار قريش ، ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد : { يَا حَسْرَتَنَا } أي : يا ندامتنا ! والحسرة : التلهف على الشيء الفائت . وذكرتْ على وجه النداء للمبالغة . والمراد : تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة { عَلَى مَا فَرَّطْنَا } أي : قصرنا : { فِيهَا } أي : في الحياة الدنيا . أضمرت وإن لم يجر ذكرها ، للعلم بها ، أي : على ما ضيعنا فيها ، إذ لم نكتسب من الاعتقادات والأخلاق والأعمال ما ينجينا ، أو الضمير للساعة ، أي : على ما فرطنا في شأنها ، ومراعاة حقها ، والاستعداد لها ، وبالإيمان بها ، واكتساب الأعمال الصالحة .
وقال ابن جرير : الضمير يعود إلى الصفقة التي دل عليها قوله : { قَدْ خَسِرَ } الخ . إذ الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت . قال : والمعنى قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله ، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته ، بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته . ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك . حتى تقوم الساعة . فإذا جاءتهم الساعة بغتة ، فرأوا ما لحقهم من الخسران في ببيعهم ، قالوا حينئذ تندماً : { يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا } .
وقوله تعالى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } حال من فاعل : { قَالُواْ } ، فائدته الإيذان بأن عذابهم ليس مقصوراً على ما ذكر من الحسرة على ما فات وزال ، بل يقاسون ، مع ذلك ، تحمل الأوزار الثقال . والإيماء إلى أن تلك الحسرة من الشدة ، بحيث لا تزول ولا تُنْسَى بما يكابدونه من فنون العقوبات - قاله أبو السعود - .
والأوزار : جمع وزر ، وهو في الأصل : الحمل الثقيل ، سمي به الذنب لثقله على صاحبه . قيل : جعلها محمولة على الظهور استعارة تمثيلية ، مثل لزومها لهم ، على وجهلاً يفارقهم ، بذلك . وخص الظهر ، لأنه المعهود حمل الأثقال عليه . كما عهد الكسب بالأيدي .
وقيل : هو حقيقة ، لما روي عن السّدي أنه قال : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره ، إلا جاءه رجل قبيح الوجه ، أسود اللون ، مُنتن الريح ، عليه ثياب دنسة ، حتى يدخل معه قبره . فإذا رآه قال له : ما أقبح وجهك ! قال : كذلك كان عملك قبيحاً . قال : ما أنتن ريحك ! قال : كذلك كان عملك منتناً . قال : ما أدنس ثيابك ! قال فيقول : إن عملك كان دنساً . قال من أنت ؟ قال : أنا عملك . قال : فيكون معه في قبره . فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، وأنت اليوم تحملني . قال : فيركب على ظهره فيسوقه ، حتى يدخله النار . فذلك قوله تعالى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ } الآية .
قال الخفاجي : ولعل هذا تمثيل أيضاً . وقريب منه ما قيل : من قال بالميزان ، واعتقد وزن الأعمال ، لا يقول إنه تمثيل . انتهى .
{ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أي : بئس ما يحملونه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 32 ]
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ } أي : هزل ، وعمل لا يجدي نفعاً : { وَلَهْوٌ } أي : اشتغال بهوى وطرب ، وما لا تقتضيه الحكمة ، وما يشغل الْإِنْسَاْن عما يهمه مما يلتذ به ثم ينقضي .
{ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } لدوامها ، وخلوص منافعها ولذاتها عن المضار والآلام .
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي ، ولا تؤثرون الأدنى الفاني ، على الأعلى الباقي . وههنا .
لطائف :
الأولى : قال الرازي : اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا ، وتحصيل لذاتها . فذكر الله هذه الآية تنبيهاً على خساستها وركاكتها . واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها . لأن هذه الحياة العاجلة ، لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها . فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان :
الأول -أن المراد منه حياة الكافر . قال ابن عباس : يريد حياة أهل الشرك والنفاق . والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة ، أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة ، فلا تكون لعباً ولهواً .
والقول الثاني - إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر . والمراد منه : اللذات الحاصلة في هذه الحياة ، والطيبات المطلوبة في هذه الحياة ، وإنما سماها ( اللَّعبِ وَاللَّهْوِ ) لأن الإنسان ، حال اشتغاله باللعب واللهو ، يلتذ به . ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة . فذلك هذه الحياة ، لا يبقي عند انقراضها إلا الحسرة والندامة . الثانية : قال الخفاجي : جمع اللهو واللعب في آيات . فتارة يقدم اللعب ، كما هنا . وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت . ولهذا التفنن نكتة مذكورة في " درة التأويل " ملخصاً : أن الفرق بين اللهو واللعب ، مع اشتراكهما في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى أو طرب ، سواء كان حراماً أم لا ، أن اللهو أعم من اللعب ، فكل لعب لهو ، ولا عكس . فاستماع الملاهي لهو ، وليس بلعب . وقد فرقوا ببينهما أيضاً بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة ، والاسترواح به ، واللهو كل ما شغل من هوى وطرب ، وإن لم يقصد به ذلك ، كما نقل عن أهل اللغة ، قالوا : واللهو ، إذا أطلق ، فهو اجتلاب المسرة بالنساء ، كما قال امرؤ القيس :
~ألا زعمت بَسْبَاسَةُ اليومَ أنني كَبِرْتُ وأن لا يحسنُ اللهوَ أمثالي
وقال قتادة : اللهو ، في لغة اليمن ( المرأة ) . وقيل : اللعب طلب : المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به . واللهو : صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به .
ولما كانت الآية ردّاً على الكفرة في إنكار الآخرة ، وحصر الحياة في الحياة الدنيا ، وليس في اعتقادهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية - قدم اللعب الدال على ذلك ، وتمم باللهو . وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة وتحقيرها ، بالقياس إلى الآخرة . ولذا ذكر باسم الإشارة المشعر بالتحقير . والاشتغالُ باللهو ، مما يقصر به الزمان ، وهو أدخل من اللعب فيه . وأيام السرور قصار ، كما قال :
~وليلةٍ إحدى الليالي الزُّهْرِ لم تك غير شَفَقَ وفجر
الثالثة : في قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين ، لعب ولهو .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ 33 ]
وقوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } قرئ بفتح الياء وضمها { الَّذِي يَقُولُونَ } أي : يقولون فيك ، من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون .
قال أبو السعود : استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه ، مما حكى عن الكفرة من الإصرار على التكذيب ، والمبالغة فيه ، ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل ، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة ، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام . وكلمة ( قَدْ ) لتأكيد العلم بما ذكر ، المفيد لتأكيد الوعيد .
وقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } الفاء للتعليل ، لأن قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ } بمعنى لا تحزن ، كما يقال في مقام المنع والزجر : نعلم ما تفعل ! ووجه التعليل في تسليته له صلى الله عليه وسلم بأن التكذيب في الحقيقة لي ، وأنا الحليم الصبور ، فتخلق بأخلاقي .
قال أبو السعود : وهذا يفيد بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القدر ، ورفعة المحل ، والزلفى من الله عز وجل ، إلى حيث لا غاية وراءه ، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه ، على طريقة قوله تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه } [ النساء : 80 ] ، بل نفي تكذيبهم عنه ، وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، إيذاناً بكمال القرب ، واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل . وفيه استعظام لجنايتهم ، منبئ عن عظم عقوبتهم . وقيل : المعنى : فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، ولكنهم يجحدون بألسنتهم ، عناداً أو مكابرة . ويعضده ما روى سفيان الثوريّ عن أبي إسحاق عن ناجية عن علي رضي الله عنه قال : قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } الآية - رواه الحاكم وصححه .
وروى ابن جرير عن السدي قال : لما كان يوم بدر ، خلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم ! أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ، فقال أبو جهل : ويحك ! والله إن محمد لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الرازي : وهذا القول غير مستبعد ، ونظيره قوله تعالى في قصة موسى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . وقيل : المعنى فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، كما يُروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نكذبك ، وإنك عندنا لصادق ، ولكننا نكذب ما جئتنا به .
قال أبو السعود : وكأن صدق المخبر عند الخبيث ، بمطابقة خبره لاعتقاده . والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية . وقُرئ : { لا يكْذبونك } من ( أكذبه ) . بمعنى وجده كاذباً ، أو نسبه إلى الكذب ، أو بين كذبه ، وقال : أكذبه وكذبه بمعنى - كذا في القاموس وشرحه - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } [ 34 ]
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } افتنان في تسليته عليه الصلاة والسلام ,فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض تهوين . وإرشاده صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام ، في الصبر على ما أصابهم من أممهم ، من فنون الأذية . وعِدَة ضمينة له صلى الله عليه وسلم بمثل ما مُنِحُوه من النصر . وتصديرُ الكلام بالقسم ، لتأكيد التسلية . وتنوين ( رسل ) للتفخيم والتكثير -أفاده أبو السعود - .
قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ } دليل على أن قوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } ليس بنفي لتكذيبه ، وإنما هو من قولك لغلامك : ما أهانوك ، ولكنهم أهانوني ! انتهى .
وناقشه الناصر في " الانتصاف " بأنه لا دلالة فيه ، لأنه مؤتلف مع نفي التكذيب أيضاً ، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين . أي : هؤلاء لم يكذبوك ، فحقك أن تصبر عليهم ، ولا يحزنك أمرهم . وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم ، فصبروا عليهم ، وأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبر . فقد ائتلف ، كما ترى ، بالتفسيرين جميعاً . ولكنه من غير الوجه الذي استدل به ، فيه تقريب لما اختاره ، وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحاً بها في نحو قوله تعالى : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } فسلاّه عن تكذيبهم له ، بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم . وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع ، مؤيد بالظاهر -والله أعلم - .
{ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا } أي : على تكذيبهم وإيذائهم ، فتأسّ بهم : { حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } أي : لمواعيده ، من قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ } [ الصافات : 171 - 172 ] ، وقوله : { كَتَبَاللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] .
{ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ } أي : من خبرهم في مصابرة الكافرين ، وما منحوه من النصر ، فلا بد أن نزيل حزنك بإهلاكهم ، وليس إمهالهم لإهمالهم ، بل لجريان سنته تعالى بتحقق صبر الرسل وشكرهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ 35 ]
{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ } أي : شق وثقل { عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أي : عن الإيمان بما جئت به من القرآن ، ونأيهم عنه ، ونهيهم الناس عنه { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ } أي : سَرَبَاًً ومنفذاَ تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض ، حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها { أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ } أي : مصعداً تعرج به فيها { فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } أي : مما اقترحوه فافعل . وحَسُنَ حذف الجواب لعلم السامع به . أي : لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة ، إذ يصير الإيمان ضرورياً غير نافع .
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } أي : ولكنه شاء بمقتضى جلاله وجماله ، إظهار غاير قهره ، وغاية لطفه { فَلا تَكُونَنَّ } أي : بالحرص على إيمانهم ، أو الميل إلى نزول مقترحهم : { مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي : بما تقتضيه شؤونه تعالى ، التي من جملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم . إما اختياراً ، فلعدم توجههم إليه . وإما اضطراراً ، فلخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختبار .
تنبيهات :
الأول - في هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على المبالغة في حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه . وتراميه عليه ، إلى حيث لو قَدَرَ أن يأتيهم بآية من تحت الأرض ، أو من فوق السماء ، لأتى بها . رجاءَ إيمانهم ، وشفقة عليهم .
الثاني - قال الناصر في " الانتصاف " : هذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن . ألا ترى أن الجملة مصدرة بـ ( لو ) ، ومقتضاها امتناع جوابها ، لامتناع الواقع بعدها . فامتناع اجتماعهم علي الهدى ، إذاً إنما كان لامتناع المشيئة . فمن ثم ترى الزمخشريّ يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة ، لا يكون الإيمان معها اختياراً ، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع ، وأن مشيئته اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ، ثابتة غير ممتنعة ، ولكن لم يقع متعلقها . وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها -والله الموفق - .
الثالث -لم يقل ( لاَ تَكُنْ جَاهِلاً ) بل من قوم ينسبون إلى الجهل ، تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن لم يُسْند الجهل إليه ، للمبالغة في نفيه عنه . وما فيه من شدة الخطاب ، سره تبعيد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزعُ في مواطن الصبر ، مما لا يليق إلا بالجاهلين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ 36 ]
وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } تقرير لما مرّ من أن على قلوبهم أكنة ، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى ، لا يتصور منهم الإيمان البتة . أي : إنما يستجيب لك ، بقبول دعوتك إلى الإيمان ، الأحياء الذي يسمعون ما يلقى إليهم ، سماع تفهم ، دون الموتى الذين هؤلاء منهم . كقوله تعالى : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } [ النمل : 80 ] ، وإن كانوا أحياء بالحياة الحيوانية ، أموات بالنسبة إلى الإنسانية ، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة ، والأخلاق الرديئة .
و : { الْمَوْتَى } مبتدأ . يعني : الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون ، يبعثهم الله يوم القيامة ، ثم إليه يرجعون ، فيجزيهم بأعمالهم . فالموتى مجاز عن الكفرة كما قيل :
~لا يُعْجِبَنَّ الجهولَ بِزَّتُهُ فذاك مَيْتٌ ثِيَابُهُ كَفَنُ
قيل : فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى ، فلا يقدر عليه إلا الله ، ففيه إقناط للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم . وفي تسميتهم ( موتى ) من التهكم بهم ، والإزراء عليهم ، ما لا يخفى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 37 ]
{ وَقَالُوا } يعني : مشركي مكة ، بيان لنوع آخر من تعنتهم ، إذ لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخرّ لها صمّ الجبال { لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } أي : خارق ، على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون . كقولهم : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . الآيات .
{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : إن اقتراحهم جهل ، لما أن في تنزيلها قلعاً لأساس التكليف ، المبني على قاعدة الاختيار . أو استئصالاً لهم بالكلية ، فإن من لوازم جحد الآية الملجئة ، الهلاك ، جرياً على سنته تعالى في الأمم السالفة . وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم ، لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال ، وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعناداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ 38 ]
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ } أي : مستقرة فيها ، لا ترتفع عنها : { وَلا طَائِرٍ } يرتفع عنها إذ : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي : أصناف مصنفة في ضبط أحوالها ، وعدم إهمال شيء منها ، وتدبير شؤونها ، وتقدير أرزاقها .
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ } أي : ما تركنا ، وما أغفلنا ، في لوح القضاء المحفوظ { مِنْ شَيْءٍ } أي : جليل أو دقيق ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم ، لم يهمل فيه أمر شيء : والمعنى : أن الجميع علمهم عند الله ، لا ينسى واحداً منها من رزقه وتدبيره . كقوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] . أي : مفصح بأسمائها أعدادها ومظانّها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني : الأمم كلها ، من الدواب والطير ، فينصف بعضهم من بعض ، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء . وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء . لإجرائها مجراهم .
تنبيهات :
الأول - قال الزمخشري : إن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ، ولطف علمه ، وسعة سلطانه ، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان . وقال الرازي : المقصود أن عناية الله حاصلة لهذه الحيوانات ، فلو كان إظهار آية ملجئة مصلحة ، لأظهرها ، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية .
وقال القاضي : إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار ، وبيّن أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون ، بيّن بعده بقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ } . . الخ ، أن البعث حاصل في حق البهائم أيضاً .
الثاني - زيادة ( مِنْ ) في قوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ } لتأكيد الاستغراق . و ( في ) متعلقة بمحذوف هو وصف لـ : { دَآبَّةٍ } مفيد لزيادة التعميم . كأنه قيل : وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض . وكذا زيادة الوصف في قوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } .
قال في " الانتصاف " : في وجه زيادة التعميم ، أن موقع قوله : { فِي الأَرْضِ } و : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } موقع الوصف العام - وصفة العام عامة - ضرورة المطابقة ، فكأنه مع زيادة الصفة ، تضافرت صفتان عامتان .
الثالث - قال الزمخشري : إن قلت : كيف قيل ( الأمم ) مع إفراد الدابة والطائر ؟ قلت : لما كان قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ } دالاً على معنى الاستغراق ، ومغنياً عن أن يقال : وما من دوابّ ولا طير ، حمل قوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } على المعنى .
الرابع - دلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة ، وجاء في الحديث : < لولا أن الكلاب أمة من الأمم ، لأمرت بقتلها > -رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه .
الخامس - ما ذكرناه في معنى مماثلة الأمم لنا ، من تدبيره تعالى لأمورها ، وتكفله برزقها ، وعدم إغفال شيء منها مما يبين شمول القدرة ، وسعة العلم - هو الأظهر . موافقة لقوله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْ } [ هود : 6 ] الآية -والقرآن يفسر بعضه بعضاً . ونقل الواحديّ عن ابن عباس أن المماثَلة هي في معرفته تعالى ، وتوحيده وتسبيحه وتحميده . كقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] ، وقوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] .
وعن أبي الدرداء قال : أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : معرفة الإله ، وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهم لصاحبه .
وقيل : المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس .
أقول : لا شك في صحة الوجهين بذاتهما ، وصدق المثلية فيهما ، ولكن الحمل عليهما يُبعده عدم ملاقاته للآية الأخرى . فالأمسّ ، تأييداً للنظائر ، ما ذكرناه أولاً -والله أعلم - .
السادس - ما بيناه في معنى ( الكتاب ) من أنه اللوح المحفوظ في العرش ، وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام - هو الأظهر ، لملاقاته للآية التي ذكرناها تأييداً للنظائر القرآنية . ولم يذكر الإمام ابن كثير سواه ، على توسعه .
وقيل : المراد منه القرآن كقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] . قال الحفاجيّ : قيل : حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده . ويدفع بأن المعنى لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه ، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه ، ويكذب بآياتنا ؟ فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهة .
وقال أبو السعود : أي : ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته .
قال الشهاب في قول البيضاوي ( فإنه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً ) : يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن ، لإشارته بنحو قوله : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] . إلى القياس . وقوله : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] ، إلى السنّة . بل قيل : إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه . كما سأل بعض الملحدين بعضهم عن طبخ الحلوى ، أين ذكر في القرآن ؟ فقال : في قوله تعالى : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . انتهى .
واستظهر الرازي أن المراد ( بالكتاب ) القرآن . واحتج بأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد ، انصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن . فوجب أن يكون المراد من ( الكتاب ) في هذه الآية القرآن . إذا ثبت هذا ، فلقائل أن يقول : كيف قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب ، وتفاصيل علم الحساب ، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم . وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ؟
والجواب : أن قوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ، والإحاطة بها ، وبيانه من وجهين :
الأول - أن لفظ ( التفريط ) لا يستعل نفياً ولا إثباتاً ، إلا فيما يجب أن يبين ، لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه ، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه .
الثاني - أن جميع آيات القرآن ، أو الكثير منها ، دالة بالمطابقة أو التضمين أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ، ومعرفة الله ، ومعرفة أحكام الله . وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن ، كان المطلق ههنا محمولاً على ذلك المقيّد . أما قوله : إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع ، فنقول : أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه ، لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه . فأما روايات المذاهب ، وتفاصيل الأقاويل ، فلا حاجة إليها . وأما تفاصيل علم الفروع ، فقال العلماء : إن القرآن دل على أن الإجماع ، وخبر الواحد ، والقياس ، حجة في الشريعة . فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة ، كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن .
وذكر الواحديّ رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة :
المثال الأول - روي أن ابن مسعود كان يقول : ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ يعني : الواشمة والمستوشمة ؛ والواصلة والمستوصلة .
وروي أن امرأة قرأت القرآن ، ثم أتته ، فقالت : يا ابن أم عبد ! تلوت البارحة ما بين الدفتين ، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة ! فقال . لو تلوتيه لوجدتيه ، قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } وإن مما آتانا به رسول الله أنه قال : لعن الله الواشمة والمستوشمة .
قال الرازي : وأقول : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك ، لأنه تعالى قال في سورة النساء : { وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّه } [ النساء : 117 - 118 ] . فحكم عليه باللعن ، ثم عدّد بعده قبائح أفعاله ، وذكر من حملتها قوله : { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } [ النساء : 119 ] . وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن . انتهى .
قلت : وتتمة الحديث تؤيد ذلك أيضاً . ولفظه : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله - رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن مسعود - .
ثم قال الرازي :
المثال الثاني - ذكر أن الشافعي رحمه الله كانَ جَالساً في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى . فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور ؟ فقال لا شيء عليه ، فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال : للمحرم قتل الزنبور . قال الواحديّ : فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات .
وأقول هاهنا طريق آخر أقرب منه ، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة . قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] . وقال : { وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } [ محمد : 36 ] . وقال : { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [ النساء : 29 ] . فنهى عن أكل أموال الناس . إلا بطريق التجارة ، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة . وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء ، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة . المثال الثالث - قال الواحديّ : روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : اقض بيننا بكتاب الله . فقال عليه السلام : والذي نفسي بيده ! لأقضين بينكما بكتاب الله . ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف ، وبالرجم على المرأة إن اعترفت . قال الواحدي : وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب . وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله . قال الرازي : وهذا حق ، لأنه تعالى قال : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ، وكل ما بينه الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان داخلاً تحت هذه الآية . انتهى .
وبالجملة ، فالقرآن الكريم كلية الشريعة ، والمجموع فيه أمور كليات ، لأن الشريعة تمت بتمام نزوله ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها ، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال . وقد جوّد البحث في هذه المسألة المهمة ، العلامة الشاطبيُّ في " الموافقات " في الطرف الثاني ، في الأدلة على التفصيل . فارجع إليه .
وقد نقلنا شذرة منه في مقدمة هذا التفسير . فتذكر ! .
السابع - قال أبو البقاء : { مِنْ } في قوله تعالى : { مِن شَيْءٍ } زائدة . و ( شيء ) هنا واقع موقع المصدر . أي : تفريطاً . وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحاً . ونظير ذلك : { لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عِمْرَان : 120 ] أي : ضرراً . وقد ذكرنا له نظائر . ولا يجوز أن يكون : { شَيْئاً } مفعولاً به ، لأن : { فَرَّطْنَا } تتعدى بنفسها ، بل بحرف الجر ، وقد عديت بـ ( في ) إلى : { الكِتَابِ } ، فلا تتعدى بحرف آخر ، ولا يصح أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ، لأن المعنى على خلافه ، فبان أن التأويل ما ذكرنا . انتهى .
وقال الخفاجي : التفريط التقصير . وأصله أن يتعدى بـ ( في ) وقد ضمن هنا معنى ( أَغْفَلَنَا وَتَرَكْنَا ) . فـ : { مِن شَيْءٍ } في موضع المفعول به ، و : { مِن } زائدة . والمعنى : ما تركنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائله الألوهية والتكاليف .
هذا ما ارتضاه أبو حيان والزمخشريّ ، وعدل عنه البيضاوي . لأنه لا يتعدى . فجعل التقدير ( تفريطاً ) فحذف المصدر ، وأقيم : { شَيْئاً } مقامه ، وتبع فيه أبا البقاء ، إذ اختار هذا ، وأورد عليه في " الملتقط " أنه ليس كما ذكرنا ، لأنه إذا تسلط النفي على المصدر ، كان منفياً على جهة العموم ، ويلزمه نفي أنواع المصدر ، ونفي جميع أفراده ، وليس بشيءٍ ، لأنه يريد أن المعنى حينئذ : أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن ، وهو مما لا شبهة فيه ، ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر ، حتى يحتاج إلى التأويل . كما أن نفي تعديه لا يضر من قال إنه مفعول به على التضمين ، كما مر ، وأما ما قيل : إن ( فرط ) يتعدى بنفسه ، لما وقع في القاموس ( فرط الشيء ، وفرط فيه تفريطاً ضيعه وقدم العجز فيه وقصر ) فلا نسلم أنه يتعدى بنفسه ، وتفردُ صاحب القاموس بأمر ، لا يسمع في مقابلة الزمخشري وغيره . مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضعية ، بل مجازية ، أو بطريق التضمين - انتهى كلام الشهاب - .
أقول : ما للمجد في القاموس ، ليس من تفرداته وعندياته ، إذ اللغة مرجعها السماع ، لا الاجتهاد . وموازنته بين الزمخشريّ وغيره ، من باب معرفة الحق بالرجال ، الذي الصواب عكسه ، على أنه ليس في " الكشاف "
ما يقتضي ما زعمه . وقد استشهد شارح القاموس ، الزبيدّي شاهداً على تعديته بنفسه ، تأييداً لكلام المجد ، قول صخر الغي :
~ذلك بَزِّي فلن أُفَرِّطَهُ أخاف أن يُنجزوا الذي وعدوا
قال ابن سيده : يقول . لا أضيعه ، وقوله : بزي ، أراد سلاحي . ثم قال الزبيديّ : وقال أبو عَمْرو : فرطتك في كذا وكذا ، أي : تركتك . وبه فسر أيضاً قول صخر . انتهى . وأنشد أبو السعود قول ساعدة جُؤَيًَّة :
~معه سِقاءٌ لا يفرِّط حمله
أي : لا يتركه . وبه يعلم سقوط ما لأبي البقاء ، وسقوط دعوى أن أصله أن يتعدى بـ ( في ) ودعوى التضمين السابقة ، وتكليف كون : { شَيْءٍ } واقعاً موقع المصدر .
هذا وقُرئ : { فَرَّطْنَا } بالتخفيف ، وهو بمعنى المشدّد ، وإنما توسعنا فيما روي على القول الثاني في معنى الكتاب ، لشهرة الآية في هذا المعنى ، وإن كان الأظهر الأول ، لما ذكرناه ، ولأن السورة مكية ، والأحكام فيها لم تتم -والله أعلم - .
الثامن - دلت الآية على حشر الدوابّ والبهائم والطير كلها ، أي : بعثها يوم القيامة . كقوله تعالى : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ] .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي شاتين تنتطحان ، فقال : يا أبا ذر ! هل تدري فيم تنتطحان ؟ قال : لا . قال : لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما > . ورواه عبد الرزاق وابن جرير ، وزاد : ولقد تركنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وما يقلّب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً .
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الجماء لتُقَصُّ من القرناء يوم القيامة > .
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في هذه الآية قال : < يحشر الخلق كلهم يوم القيامة : الدوابّ والبهائم والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً ! فلذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } > . وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور . أفاده ابن كثير .
قلت : روى الإمام أحمد ، والبخاري في " الأدب المفرد " ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء ، من الشاة القرناء ، تنطحها > .
وروى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس في الآية قال : حشرها الموت . وروي عن مجاهد والضحاك مثله . والأول أظهر .
التاسع - " في الإكليل " : استدل بهذه الآية على مسألة أخرى ، أخرجه أبو الشيخ عن أنس أنه سئل : من يقبض أرواح البهائم ؟ قال : ملك الموت . فبلغ الحسن فقال صدق ! وإن ذلك في كتاب الله . ثم تلا هذه الآية ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 39 ]
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } أي : مثلهم في جهلهم ، وعدم فهمهم ، وسوء حالهم الصم ( جمع أصم وهو الذي لا يسمع ) والبكم ( جمع أبكم وهو الذي لا يتكلم ) . وهو مع ذلك في الظلمات لا يبصرون ، فكيف يهتدي مثلهم إلى الطريق ، أو يخرج مما هو فيه ؟ وقد كثر تشبيههم بذلك في التنزيل ، إعلاماً ببيان كمال غراقتهم في الجهل ، وانسداد باب الفهم والتفهيم بالكلية .
ثم أشار إلى أنهم من أهل الطبع بقوله : { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : فهو المتصرف في خلقه بما يشاء ، فمن أحب هدايته ، وفقه بفضله وإحسانه للإيمان . ومن شاء ضلالته تركه على كفره { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } .
ثم أمر تعالى رسوله بأن يبكتهم بما لا سبيل لهم إلى إنكاره . ببيان أنهم إذا نزلت بهم شدة ، فإنهم يفزعون إليه تعالى ، لا إلى الأصنام ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 40 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ } أي : أخبروني : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ } أي : مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة { أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ } يعني القيامة : { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } أي : في كشف العذاب عنكم ، وهذا محطّ التبكيت . أي : أتخصون آلهتكم بالدعوة إلى رفع تلك الشدة ، بل لا تدعونها مع الله أيضاً : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } متعلق بـ : { أَرَأَيْتُكُم } مؤكد للتبكيت ، كاشف عن كذبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [ 41 ]
{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } أي : تخصون بالدعوة : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } أي : إن شاء كشفه . والتقييد بالمشيئة لبيان أن إجابتهم غير مطّردة ، بل هي تابعة لمشيئته تعالى ، المبينة على حِكَمَ استأثر بعلمها : { وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } أي : تتركون ما تشركون تركاً كلياً لعلمكم بأنها لا تضر ولا تنفع . عطف على : { تَدْعُونَ } ، وتوسيط الكشف بينهما مع تقارنهما ، وتأخر الكشف عنهما ، لإظهار كمال العناية بشأن الكشف والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة .
ثم بين تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى ، فلم يفعلوا . تسليةً لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [ 42 ]
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : رسلاً ، فكذبوهم ولم يبالوا ، لكونهم في الرخاء { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ } أي : الشدة والقحط { وَالضَّرَّاءِ } أي : المرض ونقصان الأنفس والأموال : { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أي : يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم ، فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 43 ]
{ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } أي : بالتوبة والتمسكن . ومعناه . نفي التضرع .
كأنه قيل : فلم يتضرعوا . وجيء بـ ( لَوْلاَ ) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم ، كما قال : { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } فلم يكن فيها لين يوجب التضرع ، ولم ينزجروا وإنما ابتلوا به { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الشرك . فالاستدراك على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع . وأنه لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم ، إعجابهم بأعمالهم المزينة لهم .
لطيفة :
إن قلت : قد أسند تعالى هنا التزيين إلى الشيطان ، وأسنده إلى نفسه قوله : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] . فهل هو حقيقة فيهما . أو في أحدهما ؟ قلت : وقع التزيين في مواقع كثيرة : فتارة أسنده إلى الشيطان ، كالآية الأولى ، وتارة إلى نفسه كالثانية ، وتارة إلى البشر كقوله : { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] - في قراءة - وتارة مجهولاً غير مذكور فاعله كقوله : { زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } [ يونس : 12 ] ، لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة : أحدها : إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر ، كقوله تعالى : { زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا } ، والثاني : جعله مزيناً من غير إيجاد ، كتزيين الماشطة العروس ، والثالث : جعله محبوباً للنفس ، مشتهى للطبع ، وإن لم يكن في نفسه كذلك . فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله ، لأنه الفاعل له حقيقة ، لإيجاده له ، ولغة ونحواً لا تصافه بخلقه . وإن كان بمجرد تزويره وترويجه بالقول وما يشبهه ، كالوسوسة والإغواء ، فهذا لا يسند إليه تعالى حقيقته ، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان ، وإذا لم يذكر فاعله ، يقدّر في كل مكان ما يليق به - كذا في " العناية " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } [ 44 ]
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : من البأساء والضراء ، أي : تركوا الاتعاظ به : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } أي : من النعم ، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن ، وصنوف رغائبهم ، استدراجاً وإملاءً ومكراً بهم ، عياذاً بالله من مكره { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } من مطالبهم ورغائبهم ، مع الشرك : { أَخَذْنَاهُمْ } أي : بالعذاب المستأصل { بَغْتَةً } أي : فجأة بلا تقديم مذكّر ، إذ لم يفدهم في المرة الأولى { فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } متحسرون ، يئسون من كل خير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 45 ]
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : آخرهم . كناية عن الاستئصال ، لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله . وهو من ( دَبَرَهُ ) إذا تبعه ، فكان في دُبُرِهِ . أي : خلفه . فالدابر ما يكون بعد الآخر ، ويطلق عليه تجوّزاً . وقال أبو عبيد : دابر القوم آخرهم . وقال الأصمعيّ : الدابر الأصل ، ومنه : قطع الله دابره : أصله .
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : على ما جرى عليهم من الهلاك . فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض ، من شؤم عقائدهم وأعمالهم ، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها ، لا سيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم ، عليهم السلام .
تنبيهات :
الأول - روي في هذه الآية أخبار وآثار . منها ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج > . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } -إلى : { هُم مُّبْلِسُونَ } ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه .
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن عُبَاْدَة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < إذا أراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم ( أوْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ ) باب خيانة { حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً } الآية > . ورواه أحمد وغيره .
وقال الحسن البصرّي : من وسع الله عليه ، فلم ير أنه يمكر به ، فلا رأي له . ومن قتِّر عليه ، ولم ير أنه ينظر له ، فلا رأي له . ثم قرأ { فَلَمَّا نَسُواْ } الآية - قل الحسن : مكر بالقوم ، ورب الكعبة ! أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا .
وقال قتادة : بغت القومَ أمرُ الله ، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون - روى ذلك ابن أبي حاتم - .
الثاني -قال الرازيّ : قال أهل المعاني : وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد ، لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية .
الثالث - قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة ، وأنه من أجل النعم ، وأجزل القسم . أي : فهو إخبار بمعنى الأمر ، تعليماً للعباد .
قال الناصر في " الانتصاف " : ونظيرها قوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِين } [ النمل : 58 - 59 ] فيمن وقف ههنا ، وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين ، ومنهم من وقف على : { المُنذَرين } وجعل الحمد متصلاً بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى ، وأنه جل جلاله خير مما يشركون . فعلى الأول يكون الحمد ختماً ، وعلى الثاني فاتحة ، وهو مستعمل فيهما شرعاً ، ولكنه في آية النمل أظهر في كونه مفتتحاً لما بعده ، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه حتماً ، إذ لا يقتضي السياق غير ذلك . انتهى .
فقلت : إذا جرينا على ما هو الأسدّ في الآي من توافق النظائر ، اقتضى حمل آية النمل على ما هنا ، وادعاء الأظهرية فيها ممنوع . فإن التنزيل يفسر بعضه بعضاً . فتأمل . ثم أمر تعالى رسوله بتكرير التبكيت عليهم . وتثنية الإلزام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } [ 46 ]
يقول تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } بأن أصمكم وأعماكم { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } بأن غطى عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي : بذلك المأخوذ . وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر ، لأنها أشرف أعضاء الإنسان ، فإذا تعطلت اختل نظام الإنسان ، وفسد أمره ، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا .
{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ } أي : نوردها بطرق مختلفة ، كتصريف الرياح . و ( انظر ) يفيد التعجيب من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة .
{ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } أي : بعد رؤيتهم تصريف الآيات يعرضون عنها ، فلا يتأملون فيها ، عناداً وحسداً وكبراً .
تنبيهات :
الأول - المراد بالآيات : إما مطلق الدلائل القرآنية مطلقاً ، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا ، أو ما ذكر قبل هذا من المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ } الآية . ومن الترغيب بقوله : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } ، والترهيب بقوله : { إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ } الآية . ومن التنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين . ذهب إلى كلٍّ بعض من المفسرين ، وعموم اللفظ يصدق على ذلك كله بلا تدافع .
الثاني - قال بعض المفسرين من الزيدية : دلت الآية على جواز الاحتجاج في أمر الدين . انتهى . وهو ظاهر .
الثالث - المقصود من هذه الآية : بيان أن القادر على تحصيل هذه القوى الثلاث ، وصونها عن الآفات ، ليس إلاّ الله تعالى . وإذا كان الأمر كذلك ، كان المنعم بهذه النعم العالية ، والخيرات الرفيعة ، هو الله تعالى . فوجب أن يقال : المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى . وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة -قرره الرازي - .
ثم أشار تعالى إلى تبكيت لهم آخر بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } [ 47 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ } لإعراضكم عن الآيات بعد تصريفها : { عَذَابُ اللَّهِ } أي : المستأصل لكم { بَغْتَةً } أي : فجأة من غير تقديم ما يشعر به ، إذ لم يفد ما تقدم { أَوْ جَهْرَةً } بتقديمه مبالغة في إزاحة العذر . وقيل : ليلاً أو نهاراً ، كما في قوله تعالى : { بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً } ، لما أن الغالب فيما أتى ليلاً البغتة ، وفيما أتى نهاراً الجهرة : { هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } أي : هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم ؟ وَوَضَعَ الظاهر موضعه ، تسجيلاً عليهم بالظلم . وإيذاناً بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما صرف الله له من الآيات ، موضع الإيمان .
ثم أشار تعالى إلى وظيفة الرسل ، وتحقيق ما في عهدتهم ، لبيان أن ما يقترحه الكفار عليه ، صلى الله عليه وسلم ، ليس مما يتعلق بالرسالة أصلاً ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 48 ]
{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ } بالثواب لأهل الإيمان والأعمال الصالحة { وَمُنْذِرِينَ } بالعقاب لأهل الكفر والمعاصي { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ } للأعمال والأخلاق ، فهم أهل البشارة { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : من العذاب الذي أنذروا به دنيويّاً وأخروياً { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : بفوات ما بشروا به من الثواب العجل والآجل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ 49 ]
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ } أي : الذي أنذروا به عاجلاً أو آجلاً : { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي : عن أمر الله في ترك الإيمان ، ومباشرة الأعمال الطالحة واكتساب الأخلاق الرديئة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } [ 50 ]
قوله تعالى : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ } أي : قل لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات ، وأخرى غير ذلك : لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إليّ ، فأعطيكم منها ما تريدون من قلب الجبال ذهباً ، وغير ذلك .
[ والخزائن : جمع خزانة ، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخَزْنُ الشيء إحرازه ، بحيث لا تناله الأيدي ] .
{ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } أي : من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة ، أو وقت نزول العذاب أو نحوهما .
{ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } أي : حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر ، من الرقيّ في السماء ونحوه ، أو تعدّوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري ، كما ينبئ عنه قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } . والمعنى : إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة ، حتى تقترحوا عليّ ما هو من آثارها وأحكامها ، وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك ، دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعاً . بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل ، والعلم بمقتضاه فقط ، كما ينبئ عنه قوله تعالى :
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي : ما أتبع فيما أقول لكم إلا ما يوحى إليّ من جهته تعالى ، شرفني بذلك وأنعم به عليّ ، إذ يكشف لي عن الملائكة فيخبرونني .
ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله :
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } مثل للضال والمهتدي على الإطلاق . والاستفهام إنكاري ، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ، ومن يعلمها . وفيه الإشعار بكمال ظهورها ، ومن التنفير عن الضلال ، والترغيب في الاهتداء - ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .
وقوله تعالى : { أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ } تقريع وتوبيخ داخل تحت الأمر . أي : أفلا تتفكرون فتهتدوا ، ولا تكونوا ضالين أشباه العميان .
تنبيهات :
الأول - جعل بعض المفسرين قوله تعالى : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } تبرؤا من دعوى الألوهية ، لأن قسمة الأرزاق بين العباد ، ومعرفة الغيب ، مخصوصان به تعالى : قال : ولذا كرر في الملكية لفظ : { وَلا أَقُولُ } . والمعنى : لا أدعي الألوهية ولا الملكية .
وأورد على هذا أن المراد : لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه ، وليس المراد التبرؤ عن دعوى الإلهية ، وإلا لقيل : لا أقول لكم إني إله . كما قيل : ولا أقول لكم إني ملك . وأيضاً في الكناية عن الألوهية بـ : { عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ } ما لا يخفى من البشاعة ، بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا -كذا في " العناية " - .
قال أبو السعود : وجعل هذا تبرؤاً عن دعوى الإلهية ، مما لا وجه له قطعاً .
الثاني - قال الجبائي : الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء ، لأن المعنى : لا أدعي منزلة فوق منزلتي . ولولا أن الملك أفضل ، وإلا لم يصح ذلك . قال القاضي : إن الغرض بما نفى طريقة التواضع ، فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة . لم يدل على كونهم أفضل .
وقرر الزمخشري الأول تأييداً لمذهبه فقال في تفسير الآية : أي : لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله ، وهي قِسَمه بين الخلق وأرزاقه ، وعلم الغيب ، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلق الله تعالى ، وأفضله ، وأقربه منزلة منه . أي : لم أدع إلهية ولا ملكية ، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة ، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها ، وإنما أدعي ما كان مثله لكثير من البشر ، وهو النبوة . انتهى .
وتعقبه الناصر في " الانتصاف " بقوله : هو يبنى على القاعدة المتقدمة له ، في تفضيل الملائكة على الأنبياء . ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده ، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها . ولمخالفه أن يقول : إنما أوردت الآية ردّاً على الكفار في قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ } . . الآية - فردّ قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } بأنه بشر ، وذلك شأن البشر ، ولم يدّع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام ، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء ، لأنه لا خلاف أن الأنبياء ، يأكلون الطعام ، وأن الملائكة ليسوا كذلك ، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها ، ولا يوجب عليه ذلك اتفاقاً على أن الملائكة أفضل من الأنبياء .
وكذلك رد قولهم : { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ } بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم ، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به .
ثم قال الناصر رحمه الله : ولم يحسن الزمخشريّ في قوله : [ ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة ] فإنه جعل الإلهية من جملة المنازل كالملكية ، ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ . والمنزلة عبارة عن المحل الذي يُنزل اللهُ فيه العبد من علوّ وغيره ، فإطلاقها على الإلهية تحريف . والله الموفق للصواب .
الثالث - قال الرازي : ظاهر قوله تعالى : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بالوحي ، وهو يدل على حكمين :
الأول - أن هذا النص يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام ، وأنه ما كان يجتهد ، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
الثاني - أن نفاة القياس قالوا : ثبت بهذا النص أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه ، فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه ، بقوله تعالى : { فَاتَّبِعُوهُ } ، وذلك ينفي جواز العمل بالقياس . ثم أكد هذا الكلام بقوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى . والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى علم البصير . ثم قال : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين ، وأن لا يكون غافلاً عن معرفته . انتهى .
وفي " فتح الرحمن " : تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الاجتهاد الأنبياء ، عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية .
والمسألة مدونة في الأصول . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : أوتيت القرآن ومثله معه .
ثم لما أخبر تعالى : أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي ، بل الموتى ، إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة ، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحي إليه ، اطراحاً لأولئك الفجار ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 51 ]
{ وَأَنْذِرْ بِهِ } أي : بما يوحي ، المتقدم ذكره : { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ } يعني : من دون الله تعالى { وَلِيٌّ } أي : ناصر ينصرهم : { وَلا شَفِيعٌ } يشفع لهم وينجيهم من العذاب ، غيره تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : الاعتقادات الفاسدة ، والأعمال الطالحة ، والأخلاق الرديئة .
قال في " العناية " : خص بالذكر هؤلاء ، لأنهم الذين ينفعهم الإنذار ، ويقودهم إلى التقوى . وليسَ المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضاً . انتهى .
وجملة : { لَيْسَ لَهُم } في موضع الحال من : { يُحْشَرُواْ } ، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة . والمراد بـ ( الوليّ ) و ( الشفيع ) الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها شفعاؤهم ، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين ، لأن شفاعة الرسل يومئذ إنما تكون بإذنه تعالى ، فكأنها منه تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ 52 ]
روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال له المشركون : اطرد هؤلاء يجترئون علينا ! قال : وكنت أنا وابن مسعود رجلين من هذيل وبلال ورجلان لست اسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله تعالى : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ } الآية .
وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما .
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده خبّاب وصهيب وبلال وعمار ، فقالوا يا محمد ! أرضيت بهؤلاء ؟ فنزل عليه القرآن : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } إلى قوله : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } .
ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضاً قال : مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخبّاب وغيرهم من ضعفاء المسلمين .
وفيه : فقالوا : يا محمد ! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نُصَيْر تبعاً لهؤلاء ؟ اطردهم ، فلعلك إن طردتهم نتبعك ! فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } . . الآية .
ووراء ما ذكرنا ، روايات لا تصح ولا يوثق بها .
إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل ، وإنما همّ بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك ، ليألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان ، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهمّ . فما أورده الرازيّ من كونه صلى الله عليه وسلم طردهم ، ثم أخذ يتكلف في الجواب عنه ، لمنافاته العصمة على زعمه ، فبناءٌ على واهٍ . والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته ، وإلا فالباطل يكفي في رده ، كونه باطلاً . وقد أوضحت ذلك في كتابي " قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث " . والمعنى : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك . كقوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] .
وقوله تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُم } أي : يعبدونه ويسألونه { بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قال سعيد بن المسيب وغيره : المراد به الصلاة المكتوبة .
وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } المراد بالوجه الذات ، كما في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } ومعنى إرادة الذات الإخلاص لها ، والجملة حال من : { يَدْعُونَ } أي : يدعون ربهم مخلصين له فيه ، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي ، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام ، المضاد للطرد .
وقوله تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } ، كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } [ الشعراء 111 - 113 ] أي : إنما حسابهم على الله عز وجل ، وليس عليّ من حسابهم من شيء ، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء .
قال العلامة أبو السعود : الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه ، تقريراً له ودفعاً لما عسى يتوهم كونه مسوّغاً لطردهم من أقاويل الطاعنين في دينهم ، كدأب قوم نوح حيث قالوا { مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة ، حتى تتصدى له ، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام ، وإنما وظيفتك ، حسبما هو شأن منصب النبوة ، اعتبار ظواهر الأعمال ، وإجراء الأحكام على موجبها . وأما بواطن الأمر فحسابها على العليم بذات الصدور ، كقوله تعالى : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي } وذكر قوله تعالى : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } مع أن الجواب قد تم بما قبله ، للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه السلام ، بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً ، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام ، عليهم ، على طريقة قوله تعالى : { لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] . وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلة كملة واحدة ، لتأدية معنى واحد ، على نهج قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فغير حقيق بجلالة شأن التنزيل . انتهى .
والقول المذكور للزمخشري ، حيث ذهب إلى أن الجملتين في معنى جملة واحدة ، تؤدي مؤدى : { وَلاَ تَزِرُ } الآية ، وأنه لا بد منهما .
هذا ، وقيل : الضمير للمشركين ، والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ، ولا أنت بحسابهم ، حتى يهمك إيمانهم ، ويجرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين .
وأغرب المهايميّ : حيث قال : والعماةُ ، لكونهم أرباب شرف ومال ، يكرهون . مجالستهم ، لقلة شرفهم ومالهم ، فقال عز وجل لأشرف الناس : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } أي : ما يعود عليك من نقصهم في الشرف والمال عليهم من شيء ، فإذا لم يلحقك نقصهم ، ولم يأخذوا كمالك بسلبه عنك ، فلا وجه لطردهم . انتهى .
وفيه بعدٌ ، لعدم ملاقاته لآية نوح السالفة . ولا يخفى مراعاة النظائر .
وفي " العناية " : قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين ، تشريفاً له . وإلا كان الظاهر [ وَمَا عَلَيْهِم مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيءٍ ] بتقديم ( عَلَى ) ومجرورها ، كما في الأول . وفي النظم رد العجز على الصدر ، كما في قوله : عادات السادات ، سادات العادات .
وقوله تعالى : { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } الظلم : وضع الشيء في غير محله أي : فلا تهمّ بطردهم عنك ، فتضع الشيء في غير موضعه .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...