روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 9. و10.محاسن التأويل المؤلف : محمد جمال الدين القاسمي

 

9. مجلد 9. محاسن التأويل
المؤلف : محمد جمال الدين القاسمي


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 28 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : المطهرة بواطنهم بالإيمان { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } أي : ذوو نجس ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، هو مجاز عن خبث الباطن ، وفساد العقيدة ، مستعار لذلك ، أو هو حقيقة ، لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ، ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها .
{ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } أي : لحج أو عَمْرة كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، قال المهايمي : لأن المسجد الحرام يجتمع فيه المتفرقون في الأرض ، ليسري صفاء القلوب من بعض إلى بعض ، وها هنا يخاف سريان الظلمات
في العموم .
{ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أي : بعد حج عامهم هذا ، وهو عام تسع من الهجرة ، حين أمّر أبو بكر على الموسم ، وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع أبا بكر بعلي رضي الله عنهما ، لينادي في المشركين : < ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان > . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعاً وقدراً .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي : فقراً بسبب منعهم من الحرم ، لانقطاع أرفاق كانت لكم من قدومهم { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء } أي : من فتح البلاد ، وحصول المغانم ، وأخذِ الجزية ، وتواجه الناس من أقطار الأرض .
قال ابن إسحاق : إن الناس قالوا : لتقطعنّ عنا الأسواق ، فلتهلكن التجارة ، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فقال الله تعالى : { وإن خفتم عيلة } إلى قوله :
{ وهم صاغرون } أي : هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله مما قطع عنهم بأمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية . انتهى .
{ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ } أي : بما يصلحكم : { حَكِيمٌ } أي : فيما يأمر به وينهي عنه .
تننبيهات :
الأول : دلت الآية على نجاسة المشرك ، كما في الصحيح < المؤمن لا ينجس > ، وأما نجاسة بدنه ، فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ، لأن الله تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب .
وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ ، رواه ابن جرير ، ونقله ابن كثير .
وأقول : الإستدلال بكونه تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب غير ناهض ، لأن البحث في المشركين وقاعدة التنزيل الكريم ، التفرقة بينهم وبين أهل الكتاب ، فلا يتناول أحدهما الآخر فيه .
وقال بعض المفسرين اليمنيين : مذهب القاسم والهادي وغيرهما ، أن الكافر نجس العين ، آخذاً بظاهر الآية ، لأن الحقيقة ويؤيد ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِي قال :
فإنه قال : للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأتي أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : < اغسلوها ثم اطبخوا فيها > ،
وقال زيد والمؤيد بالله والحنفية والشافعية : إن المشرك ليس نجس العين ، لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشرك ، واستعار من صفوان دروعاً ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبخون في أواني المشركين ولا تغسل . وأوّلوا الآية بما تقدم من الوجوه ، وكلٌّ متأولٌ ما احتج به الآخر . انتهى .
الثاني : قال السيوطي في " الإكليل " في قوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } : إن الكافر يمنع من دخول الحرم ، وإنه لا يؤذن له في دخوله ، لا للتجارة ولا لغيرها ، وإن كانت مصلحة لنا ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم .
واستدل بظاهر الآية من أباح دخوله الحرم سوى المسجد ، لقصره في الآية عليه ، واستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد ، لقوله : { الحرام } ، وقاس عليه غيره سائرَ المساجد .
واستدل أبو حنيفة بظاهرها أيضاً على أن الكتابي لا يمنع ، دخوله لتخصيصه بالمشرك . انتهى . وهو المتجّه .
قال الشهاب : وبالظاهر أخذ أبوحنيفة رحمه الله تعالى ، إذ صرف المنع عن دخوله الحرم للحج والعمرة ، بدليل قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } ، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم ، وهو ظاهر ، أي : لأن موضع التجارات ليس عين المسجد . ونداءُ عليّ كرم الله وجهه بقوله : < ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك > ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، يعيّنه ، فلا يقال إن منطوق الآية يخالفه . انتهى .
الثالث : قال الناصر : قد يستدل بقوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ } الآية ، من يقول إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وخصوصاً بالمناهي ، فإن ظاهر الآية توجه النهي إلى المشركين ، إلا أنه بعيد ، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي ، والمقصود تطهير المسجد الحرام بإبعادهم عنه ، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه .
ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمون ، تصديرُ الكلام بخطابهم في قوله :
{ يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا } وتضمينه نصاً بخطابهم بقوله : { وَإنْ خِفْتُم عَيْلَةً } ، وكثيراً ما يتوجه النهي على مَن المراد خلافه ، وعلى ما المراد خلافه ، إذا كانت ثَمَّ ملازمة كقوله : لا أرينَّك ها هنا { وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . انتهى .
الرابع : العَيْلة مصدر من عال بمعنى افتقر . قرئ ( عائلة ) ، وهو إما مصدر بوزن فاعلة ، أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر ، أي : حالاً عائلة ، أي : مفقرة .
قال ابن جني : هذه من المصادر التي جاءت على فاعلة ، كالعاقبة والعافية . ومنه قوله تعالى : { لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً } ، أي : لغواً ومنه قولهم : مررت به خاصة ، أي : خصوصاً وأما قوله تعالى : { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } فَيجوز أن يكون مصدراً ، أي : خيانة ، وأن يكون على تقدير : نية أو عقيدة خائنة . وكذا ها هنا يقدر : إن خفتم حالاً عائلة . انتهى .
الخامس : إن قيل : ما وجه التعليق بالمشيئة في قوله تعالى : { إنْ شاءَ } مع أن المقام وسبب النزول ، وهو خوفهم الفقر ، يقتضي دفعه بالوعد بإغنائهم من غير تردد ؟
فالجواب : أن الشرط لم يذكر للتردد ، بل لبيان أنه بإرادته لا سبب له غيرها ، فانقطعوا إليه ، واقطعُوا النظر عن غيره ، ولينبه على أنه متفضل به ، لا واجب عليه ، لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى الإرادة ، فلا يقال إن هذا لا حاجة إلى أخذه من الشرط ، مع قوله : من فضله ، لأن قوله : { مِنْ فضْلِهِ } يفيد أنه عطاء وإحسان ، وهذا يفيد أنه بغير إيجاب ، وشتان بينهما ، وقيل إنه للتنبيه على أنه بإرادته ، لا بسعي المرء وحلته :
~لَوْ كَاْنَ بَالْحِيَلِ الغِنَى لَوَجَدْتنِي بِنجومِ أَقْطَارِ السَّمَاءِ تَعَلّقِي
كذا في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ 29 ] .
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وعدم
الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، و هو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، منبهاً في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي ، مرشداً إلى سلوكه ابتغاء لفضله ، واستنجازاً لوعده .
قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك .
وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين . انتهى .
ولا يخفى شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص .
قال ابن كثير : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ، ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحرّ .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامة ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعدُ إن شاء الله تعالى . انتهى .
والتعبير عن أهل الكتاب بالموصول المذكور ، للإيذان بعليّة ما في حيز الصلة للأمر بالقتال ، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كما أمر تعالى ، إذ لديهم من فساد العقيدة ، فيما يجب له تعالى وفي البعث ، أعظم ضلال وزيغ { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة .
وقيل : المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه ، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً ، إذ غيّروا وبدّلوا أتباعاً لأهوائهم .
وقوله : هاب : فيكون المراد : لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم ، وقوله تعالى : { دين الحق } من إضافة الموصوف للصفة ، أو المراد بالحق : الله تعالى .
وقوله : { حَتى يُعْطُوا الجزيَة َ } أي : ما تقرر عليه أن يعطوه .
قال ابن الأثير : الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابيّ الذمة ، وهي فِعْلَة من الجزاء كأنها جَزَتْ عن قتله .
وقال الراغب : سميت بذلك للإجتزاء بها عن حقن دمهم .
وقال الشهاب : قيل مأخذها من الجزاء بمعنى القضاء . يقال : جزيته بما فعل ، أو جازيته ، أو أصلها الهمز من الجزء والتجزئة ، لأنها طائفة من المال يعطى ، وقيل : إنها معرف كزيت ، وهو الجزية بالفارسية . انتهى .
وقوله تعالى : { عَن يَدٍ } حال من فاعل : { يَعْفُوا } و اليد هنا إمّا بمعنى الإستسلام والإنقياد ، يقال : هذه يدي لك ، أي : استسلمت إليك ، وانقدت لك ، وأعطى يده أي : انقاد .
كما يقال في خلافه : نزع يده من الطاعة . لأن من أبى وامتنع ، لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، وإما بمعنى النقد ، أي : حتى يعطوها نقداً غير نسيئة ، فيكون كاليد في قوله صلى الله عليه وسلم : < لا تبيعوا الذهب والفضة . . . إلى قوله : يداً بيد > .
وإما بمعنى الجارحة الحقيقية ، و عن بمعنى الباء ، أي : لا يبعثون بها عن يد أحد ، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ .
وإما بمعنى : من طيبة نفس ، قال أبو عبيدة : كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه ، من غير طيب نفس به وقهر له ، من يد في يد ، فقد أعطاه عن يد . " مجاز القرآن " ج 1 ص 256 .
وإما بمعنى الجماعة ، أنشد ابن الأعرابي :
~أعطى فأعطاني يداً ودَارا وباحةً حوَّلها عَقَارا
ومنه الحديث : < وهم يدٌ على من سواهم > . أي : هم مجتمعون على أعدائهم ، يعاون بعضهم بعضاً - قاله أبو عبيدة - وإما بمعنى الذل - نقله ابن الأعرابي وحكاه وجهاً في الآية - .
هذا إن أريد باليد يد المعطي ، وإن أريد بها يد الآخذ ، فاليد إما بمعنى القوة ، أي : عن يد قاهرة مستولية ، ويقولون : ما لي به يد أي : قوة ، وإما بمعنى السلطان ، وهو كالذي قبله ، ومنه يد الريح سلطانها . قال لَبِيد :
نِطافٌ أمْرُهَا بِيَدِ الشَّمَالِ

لما ملكت الريح تصريف السحاب ، جعل لها سلطان عليه .
وإما بمعنى النعمة ، أي : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية ، وترك أنفسهم عليهم ، نعمة عليهم .
قال الناصر في " الإنتصاف " : وهذا الوجه أملى بالفائدة .
وإمّا بمعنى الغنى ، حكاه في " العناية " ، ونقله " التاج " من معاني اليد .
وقوله تعالى : { وهم صاغرون } أي : أذلاء .
تنبيهات :
الأول : قوله تعالى : { عن يد } إما حال من الضمير في : { يُعْطوا } ، أو من الجزية أي : مقرونة بالإنقياد ، ومسلمة بأيديهم ، وصاردة عن غنى ، ومقرونة بالذلة ، وكائنة عن إنعام عليهم . كذا في " العناية " .
الثاني : قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب .
الثالث : قال أيضاً : استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم الغنى ، أنها تجب على مُعسر ، ومن قال بأنه لا يرسل بها ، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها ، ولا أن يضمنها عنه ، ولا أن يحيل بها عليه .
الرابع : قال السيوطي أيضاً : استدل بقوله تعالى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } من قال إنها تؤخذ بإهانة ، فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ، ويحني ظهره ، ويضعها في الميزان ، ويقبض الآخذ لحيته ، ويضرب لهزمتيه .
قال : ويردّ به على النووي حيث قال : إن هذه سيئة باطلة . انتهى .
قلت : ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان ، فإنها سيئة قبيحة ، تأباها سماحة الدين ، والرفق المعلوم منه ، ولولا قصده الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة .
ثم رأيت ابن القيّم رد ذلك بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، قال : والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك الصغار ، وبه قال الشافعي . انتهى .
ثم قال السيوطي : واستدل بالآية من قال : إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام ، لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها ، ومن الكف ألا يجلوا ، ومن قال لا حدّ لأقلها ، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار . انتهى .
السادس : روى أبو عبيد في كتاب " الأموال " عن ابن شهاب قال : أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب ، أهل نجران ، وكانوا نصارى .
السادس : قال أبو عبيد : ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب ، وعلى المجوس بالسنة .
وقال ابن القيم :
فلما نزلت آيةُ الجزية ، أخذها صلى الله عليه وسلم مِن ثلاث طوائف : مِن المجوسِ ، واليهود ، والنصارى ، ولم يأخذها من عُبَّادِ الأصنام .
فقيل : لا يجوزُ أخذُها مِن كافر غير هؤلاء ، ومَن دان بدينهم ، اقتداءً بأخذه وتركه . وقيل : بل تُؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب ، والأول : قول الشافعي رحمه الله ، وأحمد ، في إحدى روايتيه .
والثاني : قولُ أبى حنيفة ، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى .
وأصحاب القول الثاني يقولون : إنما لم يأخذها مِنْ مشركي العربِ ، لأنها إنما نزَلَ فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب ، ولم يبق فيها مُشِركٌ ، فإنها نزلت بعد فتح مكة ، ودخولِ العربِ في دين الله أفواجاً ، فلم يبق بأرض العرب مشرك ، ولهذا غزا بعد الفتح تبوكَ ، وكانُوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون ، لكانُوا يلونه ، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين .
ومن تأمَّل السِّيَرَ ، وأيامَ الإسلام ، علم أن الأمرَ كذلك ، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم مَن يُؤخذ عنه ، لا لأنهم ليسوا مِن أهلها ، قالوا : وقد أخذها من المجوس ، وليسوا بأهلِ كتاب ، ولا يَصح أنه كان لهم كتاب ، ورفع وهو حديث لا يثبُت مثلُه ، ولا يصح سنده .
ولا فرق بين عُبَّادِ النَّار ، وعُبَّاد الأصنام ، بل أهلُ الأوثانِ أقربُ حالاً من عُبَّادِ النار ، وكان فيهم مِن التمسك بدين إبراهيم ما لم يكُن في عُبَّاد النار ، بل عُبَّاد النار أعداءُ إبراهيم الخليل ، فإذا أُخِذَتْ منهم الجزية ، فأخذها من عُبَّاد الأصنام أولى ، وعلى ذلك تدل سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت في " صحيح مسلم " أنه قال : < إذا لَقيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ ، فادْعهُم إلى إِحْدَى خِلاَلٍ ثَلاَثٍ ، فَأيَّتهنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا ، فاقْبَلْ مِنْهُم ، وكُفَّ عنهم > . ثم أمرَه أن يَدْعُوَهُم إلى الإِسْلاَمِ ، أَو الجِزْيَةِ ، أو يُقَاتِلَهم .
وقال المغيرة لعاملِ كسرى : < أمرنا نبيُّنَا أن نُقاتِلَكم حتى تعبُدوا الله ، أو تؤدُّوا الجزية > .
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِقريش : < هَلْ لَكُمْ في كَلِمةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَرَبُ ، وتُؤدَّي العَجَمُ إِلَيْكُمُ بِهَا الجِزْيَةَ ؟ > . قالُوا : ما هي ؟ قال : < لاَ إِلَهََ إِلاَّ الله > .
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين ، وعارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين فرساً ، وثلاثين بعيراً ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون بها ، حتى يردوها عليهم ، إن كانت باليمن كيدة أو غدرة ، وعلى ألا يُهْدَم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قسّ ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما لم يحدثوا حدثاً ، أو يأكلوا الربا .
ولما وجه معاذاً إلى اليمن أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَاراً أَوْ قِيمَتَهُ مِنَِ الثياب .
وفى هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرة الجنس ، ولا القدرِ ، بل يجوز أن تكونَ ثياباً وذهباً وحُللاً ، وتزيدُ وتنقُصُ بحسب حاجة المسلمين ، واحتمال مَن تؤخذ منه ، وحاله في الميسرة ، وما عنده من المال .
ولم يفرِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خلفاؤه في الجزية بين العربِ والعجم ، بل أخذها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب ، وأخذها مِن مجوس هجر ، وكانوا عرباً ، فإن العرب أمةٌ ليس لها في الأصل كتاب ، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين مَن جاورها من الأُمم ، فكانت عربُ البحرين مجوساً لمجاورتها فارِسَ ، وتنوخَ ، وبُهْرَة ، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم ، وكانت قبائلُ من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن ، فأجرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحكامَ الجِزية ، ولم يعتبر آباءهم ، ولا متى دخلُوا في دينِ أهل الكتاب :
هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده ، ومن أين يعرِفُونَ ذلك ، وكيف ينضبط وما الذي دلَّ عليه ؟ وقد ثبت في السير والمغازي ، أن من الأنصار مَن
تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى ، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { لا إكْرَاهَ في الدِّينِ } ، وفى قوله لمعاذ : < خُذْ مِنْ كُلِّ حالم ديناراً > دليل على أنها لا تُؤخذ من صبى ولا امرأة .
السابع : قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتابه " الخراج " :
وليس في شيء من أموالهم ، الرجال منهم والنساء ، زكاة ، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم ، فإن علهيم نصف العشر ، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم ، أو عشرين مثقالاً من الذهب ، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة ، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية ، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها ، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره ، ولكن يرفق بهم ، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفي منهم الجزية ، ولا يحل للوالي أن يدع أحداً من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة ، إلا أخذ منهم الجزية ، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك ، ولا يحل أن يدع واحداً ويأخذ من واحد ، ولا يسع ذلك ، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية ، والجزية بمنزلة مال الخراج .
ثم قال أبو يوسف مخاطباً هارون الرشيد :
وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم ، والتفقد لهم حتى لا يُظلموا ولا يؤذوا ، ولا يُكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يُؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه > . وكان فيما تكلم به عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته : أُوصِي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم .
قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مرّ على قوم قد
قال : أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام ، فقال : ما شأن هؤلاء ؟ فقيل له أقيموا في الشمس في الجزية ! قال : فكره ذلك ، ودخل على أميرهم ، وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من عذب الناس عذبه الله > .
قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عُمَر بن الخطاب مرّ بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس ، يصبّ على رؤوسهم الزيت ، فقال : ما بال هؤلاء ؟ فقال : عليهم الجزية لم يؤدوها ، فهم يعذبون حتى يؤدوها ! فقال عمر : فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية ؟ قالوا : يقولون لا نجد ! قال : فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون .
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا تعذبوا الناس ، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا ، يعذبهم الله يوم القيامة وأمر بهم فخلي سبيلهم > .
ثم قال : وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال : مرّ عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال : من أي : أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهودي . قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية ، والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده ، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ، ثم نخذله عند الهرم : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } والفقراء المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب .
ووضع عنه الجزية وعن ضربائه . قال : قال أبو بكر : أنا شهدت ذلك من عمر ، ورأيت ذلك الشيخ . انتهى .
الثامن : في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم .
قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب " الإسلام والنصرانية " في هذا المعنى ، تحت بحث المقابلة بين الإسلامي الحربيّ ، المسيحية السلمية ، ما نصه ص 74 :
الإسلام الحربي ، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس ، وما كانوا عليه من الدين ، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الإعتقاد ، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها ، لتكون عوناً على صيانتهم ، والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة ، خلفاء المسلمين ،
كانوا يوصون قوادهم باحترام العبَّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال ، وكل من لم يُعِن على القتال .
جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، ومن آذى ذمياً فليس منا واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام ، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في الإسلام وضيقُ الصدر من طبع الضعيف ، فذلك مما لا يلصق بطبيعته ، ويخلط بطينته .
المسيحيةُ السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها ، تراقب أعمال أهله ، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر ، مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ، وتعميدهم ، أجلتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاءً حقيقياً ، لا يمنع غيرَ المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد ، أو شدة العضد ، كما شاهد التاريخ ، وكما يشهده كاتبوه .
ثم قال : فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلّبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلّون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الإختيار في شؤونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائهم . انتهى .
وفي كتاب " أشهر مشاهير الإسلام " في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه :
إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ ، وأنه لا إكراه في الدين ، فمن قبلها كان من المسلمين ، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم ، وأن يعطيهم جزءاً من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه ، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه ، وقال : لا يُفْتَنَ عن دينه ، وأن تكون له الذمة والعهد أنَّى حل ، وحيثما وجد من ممالك الإسلام ، ما دام وافياً بعهده ، مؤدياً لجزيته ، لا يخون المسلمين ، ولا يمالئ عليهم عدوّهم ، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل ، خبر أهل نجران اليمن ، وكانوا من الكتابيين ، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة ، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم ، ما لم يخونوا أو يغدروا .
وتحرير الخبر عنهم أنهم وفَدَ وفْدُهُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا ، وسألوه الصلح ، وأن يقبل منهم الجزاء ، فصالحهم على شيء معلوم ، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتاباً جعل لهم فيه ذمة الله وعهده ، وأن لا يفتنوا عن دينهم ، ومراتبهم فيه ، ولا يحشروا ولا يعشروا ، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم ، وغائبهم وشاهدهم وعيرهم ، وبعثهم وأمثلتهم . لا يغير ما كانوا عليهن ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف ، غير ظالمين ولا مظلومين ، ولهم على ذلك جوار الله ، وذمة رسوله أبداً ، حتى يأتي أمر الله ، ما نصحوا وأصلحوا .
واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا ، ولا يتعاملوا به .
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أقرهم على حالهم ، وكتب لهم كتاباً على نحو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنه كان يتخوفهم ، ويود إجلاءهم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا يبقين في جزيرة العرب دينان > .
ولما حضر أبا بكر الوفاة ، أوصى عُمَر بن الخطاب بإجلاءهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا .
فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام ، قد عانى صلى الله عليه وسلم ما عانى في جمع كلمتها ، وتوحيد وجهتها ، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها ، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام ، على حداثة عهدهم فيه ، وعدم تمكنهم بعدُ من أصوله الصحيحة .
هذا من وجه ، ومن وجه آخر ، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا ، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم من أهل اليمن ، الذين ينضب التعاملُ بالربا معينَ ثروتهم ، ويؤذن بفقرهم ، على غير شعور منهم ، لا سيّما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريماً باتاً ، ولا يؤمن من أن النجرانيين ، باستمرارهم على تعاطي الربا ، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا .
ومع هذه الأسباب التي تلجيء إلى إكراه النجرانيين على الإسلام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكرههم على ذلك ، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام ، لهذا تركهم على دينهم ، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن ، فأبوا ، وأعطاهم كتاب العهد المذكور ، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين ، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت .
ولما استُخْلِفَ أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول ، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد ، وتعاملوا بالربا ، أمر في حال مرضه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب ، دون أن يُفتنوا في دينهم .
ولما استُخْلِف عمر رضي الله عنه ، كان أول بعث بعثه ، بعث أبي عبيد إلى العراق ، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن ، وأمره بإجلاء أهل نجران ، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم ، ويخيرهم عن أرضهم في أي : أرض شاءوا من بلاد الإسلام ، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب ، للضعيف المغلوب ، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده ، حتى الآن ، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها ، وتخضع لقوة سلطانها ، فتفرقوا ، فنزل بعضهم الشام ، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة ، وبهم سميت .
ولم تقف العناية بهم في إجلائهم ، والمحافظة على ما بيدهم من العهد ، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد ، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق .
من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه - لما استخلف - ضيقَ أرضهم ، ومزاحمة الدهاقين لهم ، وطلبوا إليه تخفيف جزيتهم ، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، عامله على الكوفة ، كتاباً يوصيه بهم ، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم ، لوجه الله ، وعقبى لهم من أرضهم .
وروى البلاذري ، أنه لما ولي معاوية ، أو يزيد بن معاوية ، شكوا إليه تفرقهم ، وموت من مات منهم ، وإسلام من أسلم منهم ، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان ، بما حطهم من الحلل ، وقالوا : إنما ازددنا نقصاناً وضعفاً ، فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة .
فلما ولي الحجّاجُ العراق ، وخرج ابن الأشعث عليه ، اتهمهم والدهاقين بموالاته ، فردّ جزيتهم إلى ما كانت عليه .
فلما ولَي عُمَر بن عبد العزيز الخلافة ، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم ، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم ، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط .
فلما ولي يوسف بن عُمَر العراق ، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي ردّهم إلى ما كانوا عليه ، عصبيةً للحجاج .
فلما
انقضت دولة الأموي واستخلف أبو العباس السفاح ، رفعوا إليه أمرهم ، وما كان من عُمَر بن عبد العزيز ويوسف بن عُمَر ، فردّهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم ، فأمر فكُتب لهم كتاب بالمائتي حلة ، وبالغ بالرفق بهم ، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال ، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة ، كي لا يتعنتهم أحد من العمال .
هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب .
وقد رأيت مما مرّ مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم ، لما لم ير بُدَّاً من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها .
وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام ، ودخولهم فيه ، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب ، وعامة سكان الجزيرة العربية ، طوعاً أو كرهاً .
وإنما هو الشرع الإسلامي ، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام ، كما منع من نقض العهد ، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع .
لهذا ، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا ، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتعاملوا به في الجزيرة ، ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها ، بعد أن عوّضهم عن المال والعقار بمثله .
وما زال الخلفاء بعده ـ مبالغة بالرفق بأهل الكتاب ، وقياماً بواجب السيادة العادلة ، ووفاء بعهد الله والرسول - يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت .
ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور :
الأمر الأول : عدم إكراه النجرانيين على الإسلام ، مع تعيّن الخطر من وجودهم في جزيرة العرب ، لحداثة عهد أهلها بالإسلام ، ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية ، والجهادُ الذي يعظم أمرَه أعداءُ المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه ، إلا جهاد مشركي العرب يومئذ ، فقد شرع لإرغامهم على الإسلام ، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير ، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية ، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب ، التي كانت وسطاً بين ممالك الشرق والغرب ، من آسيا وإفريقيا وأوربا ، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك ، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها ، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة ، والإشراف على تلك الممالك أيضاً ، قد كان ذلك كما هو معلوم .
والأمر الثاني : عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود ، وتأكيدهم لعهد النجرانيين ، الواحد تلو الآخر ، على ضعف هؤلاء وقلتهم ، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها ، وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة ، بل عن محض تمسك بالعهد ، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة ، وسلطان الإسلام ، من كل ملة ودين .
والأمر الثالث : حرص أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذميّ في نفسه وماله ، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم ، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم ، إلى غيرها من بلاد المسلمين .
وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عَرْبَسُوسَ من ثغور الروم ، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين ، ونكثهم عهد الأمانة والصدق ، أمر بأن يعوّضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين .
وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار
الثابت ، والملك القديم ، للأقوام المغلوبين للمسلمين ، الخاضعين لسلطانهم ، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم ، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوماً من أرضهم ، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض .
لا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة ، فحادوا عن طريق الشرع ، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم ، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم ، ويدعو إلى الرأفة والعدل ، هذا شان الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة .
وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر ، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى ، وتستلزمه سلامة الملك والدين ، لا ما تدعو إليه شهوات الملك ، ورغبات الأمة الغالبة .
وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم ، وأن لأهل الذمة ما لهم ، وعليهم ما عليهم ، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم ، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى ، فتركوا لهم حرية التملك والدين ، لم ينازعوهم حقاً من حقوق المواطنة والجوار ، بل كانوا يعتبرونهم جزءاً من الدولة ، وعضواً من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل ، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية ، والحياة الوطنية .
يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب الدواوين
الخراج .
وترجمة علوم اليونان ، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب إليهم ، واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم ، بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضواً من جسم هيأتهم الإجتماعية ، لا يجوز فصله في حال من الأحوال أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام ، ووقع في أسرهم من وقع من
المسلمين والنصارى ، ثم خضد المسلمون شالذمة ، تار في الشام ، ودان ملوكهم بالإسلام ، خاطب شيخُ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصره أميرَ التتار قطلوشاه بإطلاق الأسرى ، فسمح له بالمسلمين ، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإسلام : لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له . انتهى .
ومنه يعلم شأن الحكم الإسلاميَ في أهل الذمة ، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 30 ] .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ } جملة مبتدأة ، سيقت لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه ، وانتظامهم بذلك في سلك المشركين .
وقرئ ( عزيرٌ ) بالتنوين على الأصل ، وحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس تخفيفاً ، وهو مبتدأ وما بعده خبره ، ولهم أوجه أخرى في إعرابه ، والوجه ما ذكرناه .
وليعلم أن الذي دعا الفريقين إلى مقاليهما هو الغلوّ في التعظيم ، فأما اعتقاد النصارى فهو مشهور معلوم ، تكفل التنزيل الكريم بذكره مراراً ، ودحر شبهه .
وأما اليهود في عزير فغلاتهم أوجهلتهم يتفوهون بهذه الكلمة الشنعاء ، وأما بقيتهم فيعتبرونه في مقام موسى ، ويحترمون دائماً ذكره ، ويعتقدون أن الله تعالى قد أقامه لجمع التوراة المبددة .
ولتجديد الملة الموسوية ، وإرجاعها إلى عهدها ، وإصلاح ما
فسد من آدابها وعوائدها ، بإلهام ، فإن نسخة التوراة الأصلية ، وبقية أسفارهم ، فقدت لما أغار أهل بابل ، جند بخت نصّر على بيت المقدس ، وهدموه ، وسبوا أهله إلى مملكتهم بابل ، وأقاموا هناك سبعين سنة ، ثم لما نبغ فيهم عزير واشتهر ، واستعطف أحد ملوكهم في سراحهم ، فأطلق له الملك الإجازة ، فعاد من بابل بمن بقي من اليهود إلى بيت المقدس ، وجدد ما اندثر من الشريعة الموسوية .
قال بعض الكتابيين في قاموس له : زعم اليهود أن أئمتهم عقدوا مجمعاً في عهد عزرا وجمعوا الأسفار العبرانية في قانون متعارف عندهم اليوم ، وضموا إليه ما لم يكن من قبل جلاء بابل .
وفي " الذخيرة " من كتبهم ما نصه : أجمع القوم على أن عزرا الذي كان خبيراً بآثار وطنه وقدمها ، وماهراً بمعرفة الطقوس اليهودية ، وبارعاً بالعلوم المقدسة ، هو أول من قرر هذا القانون ، وأثبت أجزاءه المختلفة ، بعد الأسر البابلي في نحو السنة 542 قبل ميلاد المسيح ، ولما تفرقت التوراة آن الجلاء ، قام عزرا وجمع ما وجد من النسخ المتناثرة ، دعوه : منها نسخة صححها ونقحها ما استطاع ، وبدل أسماء الأماكن التي انتسخ ثَمَّ استعمالُها ، بأسماء أخرى أشهر في عرفهم ، ونسق الكل نسقاً محكماً ، واتفق الجميع على أنه اعتاض في كل الأسفار عن حروف الخط العبراني بحروف كلدانية ، ألف استعمالها اليهود مدة أسرهم الذي استمر سبعين سنة . انتهى .
فلهذا العمل المهم عندهم دعوه : ابنا . وفيه من الجراءة على المقام الرباني ما فيه . ولو زعموا إرادة المجاز في ذلك ، فلا مناص لهم من لحوق الكفر بهم ، فإنه يجب الإحتياط في تنزيهه تعالى ، حتى بعفة اللسان ، عن النطق بما يوهم نقصاً في جانبه ، فيتبرأ من مثل هذا اللفظ مطلقاً ومن كل ما شاكله .
هذا وقد قيل إن القائل لذلك بعض من متقدميهم ، وقيل ناس من أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا دلالة في الآية على واحد منهما بخصوصه ، ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل ، مما شاع .
لطيفة :
قرئ ( عزيرٌ ) بالتنوين على الأصل ، لأنه منصرف ، وقرئ بحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس ، لا لأنه أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمية ، كما قيل ، لأن ذلك إنما يصح لو كان على لفظه الأصلي ، وهو عزراء أو عزريا

لفظان عبرانيان ، معنى الأول معين ، والثاني الله مساعد ، أما وقد تصرفت فيه العرب بالتصغير ، فلا .
وظاهر أن أغلب الأسماء القديمة ، لانتقالها من أمة إلى أخرى وكثرة تداولها ، تطرق إليها من شوائب التحريف ، والزيادة والنقصان ، ما غير صيغتها الأصلية بعض التغيير ولما استعملت العرب ، من الأسماء العبرانية ونحوها ما أدخلته إلى لغتها ، إما منحوتة من القديمة ، أو محرفة منها ، أصبحت بالإصطلاح من قبيل الأعلام العربية ، إلا ما بقي على وضعه الأول .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين ، وما فيه من معنى البعد ، للدلالة على بعد درجة المشار إليه في الشناعة والفظاعة . قاله أبو السعود .
{ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } قال الزمخشري : فإن قلت : كل قول يقال بالفم ، فما معنى
{ بأفواههم } قلت فيه وجهان :
أحدهما : أن يراد به أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان .
وذلك أن القول الدال على معنى ، لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له ، مقول بالفم لا غير .
والثاني : أن يراد بالقول المذهب ، كقولهم : قول أبي حنيفة ، يريدون مذهبه ، وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم وديتهم بأفواههم ، لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في القلوب .
وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له ، لم تبق شبهة في انتفاء الولد . انتهى .
وثمَةَ وجه ثالث شائع في مثله ، وهو التأكيد لنسبة هذا القول إليهم ، مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة .
قال بعضهم : القول قد ينسب إلى الأفواه وإلى الألسنة ، والأول أبلغ .
{ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } أي : يضاهئ قولهم قولَ الذين كفروا من قبلهم من الأمم ، فضلوا كما ضل أولئك .
قيل : المراد بـ : { الذِين كَفَرُوا } مشركوا مكة ، القائلون بأن الملائكة بنات الله ، وهذا يتم إن أريد باليهود والنصارى في الآية ، يهود المدينة ونصارى نجران في عهده صلى الله عليه وسلم ، وهو وجه في الآية كما تقدم ، فإنهم سُبِقوا من أهل مكة بالكفر به صلى الله عليه وسلم .
وقيل : المراد بهم قدماؤهم ، يعني أن من كان في
زمنه صلى الله عليه وسلم منهم ، يضاهئ قولهم قول قدمائهم ، والمراد عراقتهم في الكفر ، أي : أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث .
قال أبو السعود : وفيه أنه لا تعدد في القول ، حتى يتأتى التشبيه ، وجعله بين قولي الفريقين ، مع اتحاد المقول ، ليس فيه مزيد مزيّة .
وقيل : الضمير للنصارى ، أي : يضاهئ قولُهُم : { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } قولَ اليهود
{ عُزَيْرٌ } الخ لأنهم أقدم منهم .
قال أبو السعود : وهو أيضاً كما ترى ، فإنه يستدعي اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى : { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } ، بقول النصارى . انتهى .
والمضاهاة المشابهة ، يقال : ضاهيت ، وضاهأت - كما قاله الجوهري - وقراءة العامة يضاهون ، بهاء مضمومة بعدها واو .
وقرأ عاصم بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة ، وهما بمعنى من المضاهأة ، وهي المشابهة ، وهما لغتان .
وقيل : الياء فرع عن الهمزة ، كما قالوا : قريت وتوضيت وأخطيت .
{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } أي : لعنهم أو قتلهم ، أو عاداهم أو تعجب من شناعة قولهم .
{ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 31 ] .
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى ، وفيه وصفهم بنوع آخر من الشرك .
والأحبار علماء اليهود جمع حَبِْر ، بكسر الحاء وفتحها ، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه ـ كذا ذكره أئمة اللغة - قال بعضهم : الحبر أعظم الأشراف بين الإسرائيليين ، يكون عندهم وسيلة للتقرب لله ، ومرتبة وراثية في آل هارون ، يكون بكر أشيخ من فيها . انتهى .
و الرهبان جمع راهب ، بمعنى المتعبد الخاشع الزاهد ، وأصل الترهب عن النصارى ، التخلي عن أشغال الدنيا ، وترك ملاذّها والزهد فيها ، والعزلة عن أهلها .
وفي الحديث < لا رهبانية في الإسلام > . وقوله تعالى : { أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، قال الرازي : الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، أي : لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : < يا عدي ! اطرح عنك هذا الوثن > . وسمعته يقرأ في سورة براءة : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال : < أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه > .
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق ، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعه من قومه ، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أخته ، وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، فرغَّبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عدي المدينة ، وكان رئيساً في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال < بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم > .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا عدي ! ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله ؟ ما يضرك أن يقال : لا إله إلا الله ، فهل تعلم إلهاً غير الله > ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق .
قال فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال : < إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون > .
قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية ، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .
وقال السدّي : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
وقد ذكر بعض المفسرين وجهاً في تفسير اتخاذهم أرباباً ، قال : بأن أطاعوهم بالسجود لهم .
قال الشهاب : والأول هو تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فينبغي الاقتصار عليه ، لأنه لما أتاه عديّ بن حاتم وهو يقرؤها قال له : إنا لم نعبدهم ، فقال : < ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم ؟ فهذه هي العبادة > ، والناس يقولون : فلان يعبد فلاناً ، إذا أفرط في طاعته ، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة ، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة ، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها ، والأول أبلغ . انتهى .
فقال : رازي : قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم ، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى .
قال الرازي : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات ، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها ، وبقوا ينظرون إليّ كالمتعجب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات ، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل المدينة . انتهى .
{ وَمَا أُمِرُوا } أي : والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم : { إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً } أي : يطيعوا أمره ، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه ، وقوله : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } صفة ثانية لإله ، أو استئناف مقرر للتوحيد : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : به في العبادة والطاعة .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ } [ 32 ] .
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته ، وتقدسه عن الولد ، أو القرآن ، أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } أي : بإعلاء التوحيد ، وإعزاز الإسلام { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } أي : بدلائل التوحيد ، ذلك .
قال أهل المعاني : نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها ، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر ، والإطفاء ترشيح ، أو هو استعارة تمثيلية ، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب ، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم ، منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده بنفخه .
لطائف :
الأولى : قال الشهاب : روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط ، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله ، ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيماً ، فكيف يطفأ بنفخ الفم ، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور ، والإطفاء من المناسبة .
الثانية : لا يخفى أن قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ يُتِمَّ } استثناء مفرغ ، وهو في محل نصب مفعول به ، والإستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا موجب ، إلا أن يستقيم المعنى .
وهنا صح التفريغ من الموجب وهو : { وَيَأبى اللهُ } لأنه نفى في المعنى ، لأنه وقع في مقابلة : { يُرِيدُونَ } وفيه من المبالغة والدلالة على الإمتناع ما ليس في نفي
الإرادة ، أي : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره ، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلاً عن الإطفاء - أفاده أبوا السعود - .
وقال الزجاج : المستثنى منه محذوف تقديره : ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره .
قال الشهاب : فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ عنده ، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان .
والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق ، صح إرادة العموم ، ووقوع التفريغ في الثابتات ، كما ذهب إليه الزجاج ، إذ ما من عامّ إلا وقد خُصِّص ، فكل عموم نسبي ، لكنه يكتفي به ، ويسمى عموماً .
ألا ترى
إن مثالهم قرأت إلا يوم كذا ، قد قدّره كل يوم ، والمراد من أيام عمره ، لا من أيام الدهر .
فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عامّاً ، واستغنى عن النفي ، وإن نظر إلى نفس الأمر ، فهو ليس بعام ، فيؤول بالنفي ، والمعنى فيهما واحد وإنما أوّل به هنا عند من ذهب إلى تأويله ، لاقتضاء المقابلة له ، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي ، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء ، وليس كذلك ما صرح به الرضي .
ولذا قيل : الاستثناء المفرغ ، وإن اختص بالنفي ، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن ، ومناسبة المقامات ، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها - ذكره الشهاب أيضاً - .
الثالثة : قال أبو السعود : وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشارة بعلة الحكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ 33 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } أي : القرآن الذي هو هدى للمتقين ، { وَدِينِ الْحَقِّ } أي : التوحيد الثابت الذي لا يزول { لِيُظْهِرَهُ } أي : الدين الحق { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : على سائر الأديان { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أي : أن يكون ذلك .
وجواب لو فيهما محذوف ، لدلالة ما قبله عليه ، وجملة : { هُوَ الَّذِي } الخ بيان وتقرير لمضمون الجملة قبلها ، لأن المراد من إتمام نوره إظهاره ولكونه بحسب المآل بمعناه ، ذيله بما ذيله به بعينه ، لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفادياً عن صورة التكرار - كذا في " العناية " - .
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله زوى لي الأرض ، مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها > .
وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قَبِيصَة أو قَبِيصَة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح ، فلما صلَّوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة > .
وأخرج أيضاً عن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزاً ، ويذل ذليلاً ، عزّاً يعز الله به الإسلام ، وذلّاً يذل الله به الكفر > .
وكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعزّ ، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية .
وأخرج أيضاً عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام ، يعز عزيزاً ، ويذل ذليلاً ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها > .
وأخرج أيضاً عن عدي بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا عدي ! أسلم تسلم > . فقلت : إني من أهل دين . قال : < أنا أعلم بدينك منك > . فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : < نعم ألست من الرَّكوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ > قلت : بلى ! قال :
< فإن هذا لا يحل لك في دينك > . قال فلم يعد أن قالها ، فتواضعتُ لها . قال : < إما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ > قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : < فو الذي نفسي بيده ! ليتمنّ الله هذا الأمر ، حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز > ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : < نعم ! كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد > .
قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ! لتكوننّ الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها .
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزّى > ، فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } الآية ، إن ذلك تامّ ! قال : < إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل ، ثم يبعث الله ريحاً طيبة ً ، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم > .
قال في " اللباب " : معنى الآية ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها ، وهو ألا يعبد الله إلا به .
وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان ، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى .
وكذلك قال الضحاك والسدّي : لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام .
وقال الشافعي : قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها ، بأن أَبَان لكل من سمعه أنه الحق وما خلفه من الأديان باطل ، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ، ودين الأميين ، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام ، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين ، وجرى عليهم حكمه .
قال : فهذا هو ظهوره على الدين كله . انتهى .
قلت : ما ذكره الشافعي هو من ظهوره ، والأدق ما تقدم ، من أنه سوف يعتنقه كل فرقة ، فإن ما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلاً .
ثم بيّن تعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم ، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يطيعونهم في الأوامر والنواهي ، واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 34 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ }
أي : بالطريق المنكر من الرّشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك .
والأكل مجاز عن الأخذ ، بعلاقة العلّية والمعلولية ، لأنه الغرض الأعظم منه ، وفيه من التقبيح لحالهم ، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : عن دين الإسلام وحكمه ، واتباع الدلائل إلى ما يهوون ، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل ، إلى ما افتروه وحرفوه .
ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله ، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } أي : يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض { وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : الذي هو الزكاة ، { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } [ 35 ] .
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } أي : يوقد عليها { فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ } أي : ويقال لهم ضمّاً إلى ما هم فيه ، هذا ما كنزتم { لأنْفُسِكُمْ } أي : لتتلذذوا به ، فكان سبب تعذيبها { فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } أي : وباله ، وهو ألمه وشدته بالكي .
وفي هذه الآية فوائد :
الأولى : قال بعضهم في قوله تعالى : { لَيَأْكُلُونَ } دلالة على تحريم الرشا على الباطل ، وقد ورد < لعن الله الراشي والمرتشي > .
وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب ، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف .
رجح الجواز ليتوصل إلى الحق ، كالإستفداء .
قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه ، وكل من حرّف شيئاً لغرض الدنيا . انتهى .
الثانية : في الآية - كما قال ابن كثير - تحذير من علماء السوء وعبّاد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ،
ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى .
وفي الحديث الصحيح : < لتركبن سَنَن من قبلكم حَذْوّ القذََّة بالقذَّةِ > ، قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : < فمن ؟ > ، وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : < ومَن الناس إلا هؤلاء ؟ > . ثم أنشد لابن المبارك :
~وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملو كُ ، وأحبارُ سوء ورهبانُهَا
الثالثة : قوله تعالى : { وَالَّذِينَ } مبتدأ ، والخبر : { يَكْنِزُونَ } أو منصوب تقديره : بشر الذين يكنزون .
والتعريف في الموصول للعهد والمعهود ، إما الأحبار والرهبان ، وإما المسلمون الكانزون ، لجري ذكر الفريقين ، وإما ما هو أعم .
والأول رُوِي عن معاوية ، والثاني عن السدّي ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذرّ .
قال الزمخشري : يجوز أن يكون الموصول إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله .
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً ، ودلالةً على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله ، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . انتهى .
قال في " الأنوار " : ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبُر على المسلمين ، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم > - رواه أبو داود والحاكم وصححه - .
وقوله صلى الله عليه وسلم : < ما أدي زكاته فليس بكنز > - أخرجه الطبراني
والبيهقي - أي : ليس بالكنز المتوعَّد عليه في الآية ، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : < من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها > ونحوه ، فالمراد منها : ما لم يؤد حقها ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، فيما أورده

الشيخان : البخاري في " تاريخه " ، ومسلم في " صحيحه " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره > . انتهى .
وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية .
روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبي ذر ، فقلت : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : كنت في الشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية :
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها ، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال : إن شئت تنحيت ، فكنت قريباً .
فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أُمِّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت .
ولإبن جرير في رواية ، بعد قول عثمان له : تَنح قريباً ، قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .
وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول : لا يبيتنّ عند أحدكم دينار ولا درهم ، إلا ما ينفقه في سبيل الله ، أو يعدّه لغريم .
فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام حاجة ، فابعث إلى أبي ذرّ ، فكتب إليه عثمان أن أقدم عليّ ، فقدم .
قال ابن كثير : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته .
فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثم أنزله بالربذة : وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان .
وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ، فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب .
فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به .
وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين
قال : فـ يحمى عليه في نار جهنم ، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نُغْضِ كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه ، يتزلزل .
قال : فوضع القوم رؤوسهم ، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً . قال : وأدبر واتبعتُه حتى جلس إلى معاوية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً ، إنما يجمعون الدنيا - رواه مسلم ، وللبخاري نحوه - .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : < ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً ، يمر عليّ ثلاثة أيام ، وعندي منه شيء ، إلا دينار أرصده لدين > .
قال ابن كثير : فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .
أي : وما أخرجه الشيخان أيضاً عنه ، قال : انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : < هم الأخسرون ورب الكعبة ! > قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقارّ حتى قمت فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : < هم الأكثرون أموالاً ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه من خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم > .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوساً .
قال : قلت : لو ادخرته لحاجة يومك ، وللضيف ينزل بك قال : إن خليلي عهد إليّ أن أيّما ذهب أو فضة أوكئ عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله عزّ وجلّ إفراغاً .
قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة ، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت ، وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد
نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي ، حيث قال : هل عليّ غيرها قال : < لا ، إلا أن تَطَوَّعَ > . انتهى .
وبالجملة ، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدّ زكاته . وقد ترجم لذلك البخاري في " صحيحه " فقال : باب ما أدِّي زكاته فليس بكنز .
ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً : < إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك > .
- حسنه الترمذي وصححه الحاكم - .
وعن ابن عمر : كلّ ما أديت زكاته ، وإن كان تحت سبع أرضين ، فليس بكنز وكلّ ما لا تؤدي زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهراً على وجه الأرض .
- أورده البيهقي مرفوعاً ، ثم قال : المشهور وقفه ، كحديث جابر : < إذا أديت زكاة مالك ، فقد أذهبت عنك شره > . أخرجه الحاكم ، والمرجح وقفه .
هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز .
روى البخاري في " صحيحه " أن أعرابياً قال لابن عمر : أخبرني عن قول الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة } الآية ، قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها ، فويل له .
إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال .
زاد ابن ماجة : ثم قال ابن عمر : ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً ، أعلم عدده ، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى .
ورواه أبو داود في كتاب " الناسخ والمنسوخ " ، فهذا يشعر بأن الوعيد على الإكتناز . وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به ، كان في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة ، لما فتح الله الفتوح ، وقّدرت نصب الزكاة .
ويشعر أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة ، وجزم به ابن الأثير في " تاريخه " ، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عاملاً فقال : < ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية > . وأقول : إنما وجبت في التاسعة .
وأقول : هذا الحديث ضعفوه ، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا ، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً .
قال ابن حجر في " الفتح " : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر ، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى : { وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } ، أي : ما فضل عن الكفاية ، فكان ذلك واجباً في أول الأمر ، ثم نسخ - والله أعلم - .
وفي المسند من طريق يعلى بن شَدَّاد بن أوس عن أبيه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول .
وما سقناه من مذهب أبي ذر ، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث .
وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال : الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين ، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم ، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين فكلهم داخل تحت ذلك الحكم .
قال : والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين ، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام ، والوالي عليها ، من قِبَل الخليفة عثمان ، معاوية رضي الله عنهما ، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال ، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين ، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين ، يقول الحق ولو على نفسه .
أخذ يتكلم بهذا الأمير بين الناس ، واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين ، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال ، لأي حال من الأحوال ، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين
وتابعه على قوله جماعة كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سرّاً وجهراً ، حتى كادت تكون فتنة ، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، فنفاه إلى الربذة خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه . انتهى .
ونقل ما يقرب منه ابن حجر في " الفتح " حيث قال : والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه .
الرابعة : إنما قيل : { وَلا يُنْفِقُونَهَا } بضمير المؤنث ، مع أن الظاهر التثنية ، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزاً ، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ، ولو ثنّى احتمل خلافه . وقيل : الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام ، فيكون الحكم عاما ، ولذا عدل فيه عن الظاهر . وتخصيصهما بالذكر ، لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص .
وقيل : الضمير للفضة ، واكتفى بها ، لأنها أكثر ، والناس إليها أحوج ، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى ، مع قربها لفظاً .
الخامسة : في قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُمْ } تهكم بهم ، كما في قوله :
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وقيل : البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة ، لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغم .
السادسة : قيل في تخصيص هذا الأعضاء الثلاثة بالكيّ دون غيرها ، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية ، والملابس البهية ، فَلِوَجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم ، كان الكيّ بجباههم ، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ، ولما لبسوه على ظهورهم كويت .
وقيل : لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع ، فتكلح وجوههم ، وتقطب . ثم إذا كرر الطلب ازورّوا عنه وتركوه جانباً ، ثم إذا ألحّ ولَّوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى ، وهي النهاية في الرد ، والغاية في المنع ، الدال على كراهية الإعطاء والبذل .
وهذا دأب مانعي البر والإحسان ، وعادة البخلاء ، فكان ذلك سبباً لكيّ هذه الأعضاء . وقيل : لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة ، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه ، فيكون كناية عن جميع البدن .
وقال القاشاني : جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح ، وحب المال ، وكل رذيلة لها كيّة يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا . ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال ، وكان هو
الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة ، وهاوية الهوى ، فيكوى به .
وإنما خصت هذه الأعضاء ، لأن الشحّ مركوز في النفس ، والنفس تغلب القلب من
هذه الجهات ، لا من جهة العلوّ التي هي جهة استيلاء الروح ، وممرّ الحقائق والأنوار ، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية ، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك ، فبقيت سائر الجهات ، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب ، كما تراه يعاب بها في الدنيا ، ويجزى من هذه الجهات أيضاً ، إما بأن يواجه بها جهراً فيفضح ، أو يسارّ بها في جنبه ، أو يغتاب بها من وراء ظهره . انتهى .
السابعة : قال أبو البقاء : { يَوْمَ } من قوله تعالى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } ظرف على المعنى ، أي : يعذبهم في ذلك اليوم .
وقيل : تقديره عذاب يوم ، وعذاب بدل من الأول ، فلما حذف المضاف أقام اليوم مقامه . وقيل : التقدير اذكروا ، و عليها في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل .
وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، أي : يحمى الوقود أو الجمر ، و بها أي : بالكنوز . وقيل هي بمعنى فيها ، أي : في جهنم وقيل : يوم ظرف لمحذوف تقديره : يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم .
ولما بيّن تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثاراً لحظوظهم ، أتبعه بما جرأ عليه المشركون ، في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها ، وهو النسيء الآتي ، وقوفاً مع شهواتهم أيضاً ، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنَة بحسب أهوائهم ، وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ 36 ] .
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ } أي : عددها { عِنْدَ اللَّهِ } أي : في حكمه { اثْنَا عَشَرَ شَهْراً } وهي القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : في اللوح المحفوظ ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه .
وقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الإستقرار . أراد بالكتاب على أنه مصدر ،
والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر ، منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة . أفاده أبو السعود .
{ مِنْهَا } أي : من تلك الشهور الإثني عشر { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سّرْدٌ : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب { ذَلِكَ } أي : تحريم الأشهر الأربعة المذكورة { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : المستقيم ، { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : بهتك حرمتها بالقتال فيها .
وقال ابن إسحاق : أي : لا تجعلوا حرامها حلالاً ، ولا حلالها حراماً ، كما فعل أهل الشرك : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : جميعاً ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : بالنصر والإمداد .
ثم بيّن تعالى ثمرة هذه المقدمة ، وهو تحريم تغيير ما عيّن تحريمه من الأشهر الحرم ، وإيجاب الحذو بها على ما سبق في كتابه ، ناعياً على المشركين كفرهم ، بإهمالهم ذلك ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ 37 ] .
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ } أي : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر مصدر نسأه إذا أخره { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } ، لأنه تحليل ما حرمه الله ، وتحريم ما حلله ، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحلّ والحرمة في شهر واحد { يُحِلُّونَهُ عَاماً } أي : يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ، ويحرمون مكانه شهراً آخر .
{ وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } أي : يتركونه على حرمته القديمة ، ويحافظون عليها سنة أخرى ، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم ، والتعبير عن ذلك بالتحريم ، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي ، والجملتان تفسير للضلال ، أو حال .
قال الزمخشري : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام ، وهم محاربون ، شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من أشق شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله تعالى : { لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } أي : ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ، ولا يخالفوها ، وقد
خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين ، وربا زادوا في عدد الشهور ، فيجعلونا ثلاثة عشر ، أو أربعة عشر ، ليتسع لهم الوقت .
ولذلك قال عز وعلا : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً } يعني من غير زيادة زادوها { فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } بتركهم التخصيص للأشهر بعينها { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } فاعتقدوا قبيحها حسناً : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل :
الأولى : أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية ، وهي شهور الأهلة ، دون الشهور الشمسية .
قيل : جعلُ أول الشهور الهلالية المحرم ، حَدَثَ في عهد عمر رضي الله عنه ، وكان قبل ذلك يؤرخ بعام الفيل ، ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول .
وقد نقل ابن كثير هنا عن السخاوي وجوه تسمية الأشهر بما سميت به ، ونحن نورد ذلك مأثوراً عن أمهات اللغة المعول عليها فنقول :
1 - المحرم : على أنه اسم المفعول ، هو أول الشهور العربية ، أدخلوا عليه الألف واللام لمْحاً للصفة في الأصل ، وجعلوها علماً بهما ، مثل النجم والدبران ونحوهما ، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم ، وعند قوم يجوز على صفر وشوال .
وجمعُ المحرم محرمات ، والمحرم شهر الله ، سمته العرب بهذا الاسم ، لأنهم كانوا لا يستحلون فيه القتال ، وأضيف إلى الله تعالى إعظاماً له ، كما قيل للكعبة بيت الله . وقيل : سمي بذلك ، لأنه من الأشهر الحرم . قال ابن سيده : وهذا ليس بقوي .
2 - صفر : الشهر الذي بعد المحرم . قال بعضهم : إنما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع . وقيل : لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا . وروي عن رؤبة أنه قال : سموا الشهر صفراً ، لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل ، فيتركون من لقوا صِفْراً من المتاع ، وذلك أن صفراً بعد المحرم ، فقالوا : صفر الناس منا صفراً . قال ثعلب : الناس كلهم يصرفون صفراً إلا أبا عبيدة ، فمنعه للعلمية والتأنيث ، بإرادة الساعة ، يعني أن الأزمنة كلها ساعات ، وإذا جمعوه مع المحرم قالوا : صفران ، ومنه قول أبي ذُؤَيب :
~أَقامتْ بِه كمقَام الحني فـ شَهْرَيْ جُمَادَى وشَهْرَيْ صَفَرْ
استشهد به في اللسان في مادة : ص فـ ر ، وليس في ديوان الهذليين .
قال ابن دريد : الصفران من السنة شهران ، سمي أحدهما في الإسلام المحرم ؛ وجمعه أصفار ، مثل سبب وأسباب ، وربما قيل : صفرات .
3و 4 بعضهم : ع شهران بعد صفر ، سميا بذلك لأنهما حُدَّا في هذا الزمن ، فلزمهما في غيره قالوا : لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر ، بزيادة شهر وتنوين ربيع ، وجعل الأول و الآخر وصفاً تابعاً في الإعراب ، ويجوز فيه الإضافة ، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند بعضهم ، لاختلاف اللفظين ، نحو : { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ } ، و : { حَقُّ الْيَقِينِ } ، ومسجد الجامع . قال بعضهم : إنما التزمت العرب لفظ شهر قبل ربيع ، لأن لفظ ربيع مشترك بين الشهر والفصل ، فالتزموا لفظ شهر في الشهر ، وحذفوه في الفصل للفصل .
قال الأزهري أيضاً : والعرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ شهر إلا شهري ربيع ورمضان .
ويثنّى الشهر ويجمع ، فيقال شهرا ربيع ، وأشهر ربيع ، وشهور ربيع .
5و 6 - جمادى الأولى والآخرة ن كحُبارى ، الشهران التاليان لشهري ربيع . وجمادى معرفة مؤنثة . قال ابن الأنباري : أسماء الشهور كلها مذكرة ، إلا جماديين ، فهما مؤنثان . تقول مضت جمادى بما فيها ، قال الشاعر :
~إذا جُمادى مَنَعَتْ قَطْرَها زان جِنَاني عَطَنٌ مُغْضِفُ
ثم قال : فإن جاء تذكير جمادى في شعر ، فهو ذهاب إلى معنى الشهر . كما قالوا : هذه ألف درهم ، على معنى هذه الدراهم .
والجمع على لفظها جماديات ، والأولى والآخرة صفة لها ، فالآخرة بمعنى المتأخرة .
قالوا : ولا يقال جمادى الأخرى ، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة ، فيحصل اللبس . فقيل الآخرة لتختص بالمتأخرة ، وإنما سميت بذلك لجمود الماء فيها ، عند تسمية الشهور ، من البرد . قال :
~في ليلةٍ من جُمَادى ذاتِ أنديةٍ لا يُبْصِرُ الكلب من ظلمائها الطُّنُبا
~لا ينبح الكلبُ فيها غير واحدة حتى يَلُفَّ على خُرْطُومِهِ الذَّنَبَا
7 - رجب : سمي به لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه يقال : رَجَبَ فلاناً ، هابه وعظمه . كرجّبه . منصرف وله جموع : أرجاب وأرجبة وأرجُب ، ورجاب ورجوب وأراجب ، وأراجيب ورجبانات .
وإذا ضموا له شعبان قالوا رجبان للتغليب .
وفي الحديث : < رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان > ، وقوله : < بين جمادى وشعبان > تأكيد للشأن وإيضاح ، لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر ، فيتحول عن موضعه الذي يختصّ به ، فبيّن لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء ، وإنما قيل : رجب مضر وأضافَهُ إليهم ، لأنهم كانوا أشد تعظيماً له من غيرهم ، وكأنهم اختصوا به ، وذكر له بعضهم سبعة عشر اسماً .
8 - شعبان : جمعه شعبانات وشعابين ، من تشعب إذا تفرق كانوا يتشعبون فيه في طلب المياه ، وقيل في الغارات .
وقال ثعلب : قال بعضهم : إنما سمي شعبان لأنه شعب ، أي : ظهر بين شهر رمضان ورجب .
9 - رمضان : سمي به لأن وضعه وافق الرَّمَضَ بفتحتين ، وهو شدة الحر ، وجمعه رمضانات وأرمضاء .
وعن يونس أنه سمع رماضين ، مثل شعابين . وقيل : هو مشتق من رمض الصائم يرمض ، إذا اشتد حرّ جوفه من شدة العطش ، وهو قول الفراء .
قال بعض العلماء : يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه ، إذا أريد به الشهر ، وليس معه قرينة تدلّ عليه ، وإنما يقال : جاء شهر رمضان ، واستدل بحديث : < لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا شهر رمضان > وهذا الحديث ضعّفه البيهقي ، وضعفه ظاهر ، لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أن رمضان من أسماء الله تعالى ، فلا يعمل به .
والظاهر جوازه من غير كراهة ، كما ذهب إليه البخاري وجماعة من المحققين ، لأنه لم يصح في الكراهة شيء .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على الجواز مطلقاً كقوله : < إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلِّقت أبواب النار وصفِّدت الشياطين >
وحقق السهيلي أن لحذف شهر مقاماً يباين مقام ذكره ، يراعيه البليغ .
وحاصله أن في حذفه إشعاراً بالعموم ، وفي ذكره خلاف ذلك ، لأنك إذا قلت شهر
كذا ، كان ظرفاً وزال العموم من اللفظ ، إذ المعنى في الشهر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم < من صام رمضان > ، ولم يقل : شهر رمضان ، ليكون العمل فيه كله . انتهى . فليتأمل .
10 - شوال : شهر عيد الفطر ، وأول أشهر الحج ، وجمعه شوالات وشواويل ، وقد تدخله الألف واللام .
قال ابن فارس : وزعم ناس أن الشوال سمي بذلك لأنه وافق وقتاً تشول فيه الإبل ، أي : ترفع ذنبها للقاح ، وهو قول الفراء .
وقال غيره : سمي بتشويل ألبان الإبل ، وهو تولّيه وإدباره ، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحر ، وانقطاع الرطب وكانت العرب تتطيّر من عقد المناكح فيه ، وتقول : إن المنكوحة تمتنع من ناكحها ، حتى تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم طيرتهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال ، وبنى بي في شوال ، وأيّ نسائه كان أحظى عنده مني ؟
11 - ذو القعدة : بفتح القاف ، والكسر لغة ، سمي به لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ، والغزو والميرة وطلب الكلأ ، ويحجون في ذي الحجة ، والجمع ذوات القعدة ، وذوات القعدات ، والتثنية ذواتا القعدة وذواتا القعدتين ، فثنوا الإسمين وجمعوهما ، وهو عزيز ، لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة ، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية ولا جمع .
12 - ذو الحجة : الشهر الذي يقع فيه الحج سمي بذلك للحج فيه ، والجمع ذوات الحجة ، ولم يقولوا : ذوو على واحده ، والفتح فيه أشهر من الكسر ، و الحجة بالكسر المرة [ في المطبوع : المرأة ] الواحدة من الحج ، وهو شاذّ لأن القياس في المرة الفتح - انتهى .
وقد أوردنا هذا ملخصاً عن " المصباح " و " القاموس " و " شرحه " .
المسألة الثانية : قدمنا أن الأشهر الحرم الأربعة ، ثلاثة سََرْدٌ أي : متتابعة ، وواحد فرد وكانت العرب لا تستحل فيها القتال ، إلَّا حيّان : خثعم وطيّئ ، فإنهما كانا
يستحلان الشهور ، وكان الذين ينسؤون الشهور أيام الموسم يقولون حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين ، فكانت العرب تستحل دماءهم خاصة في هذه الشهور .
وكان لقوم من غطفان وقيس ، يقال لهم الهبا آت ، ثمانية أشهر حرم ، يقال لها البَسْل يحرمونها تشدداً وتعمقاً .
الثالثة : قال ابن كثير : إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، لأجل أداء المناسك - الحج والعمرة - فحرم قبل أشهر الحج ، شهر وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك .
وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والإعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً .
الرابعة : قال النووي في " شرح مسلم " : وقد اختلفوا في كيفية عدتها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه " صناعة الكاتب " قال : ذهب الكوفيون إلى أنه يقال : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة قال : والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة قال : وأهل المدينة يقولون : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وقوم ينكرون هذا ويقولون : جاؤوا بهن من سنتين .
قال أبو جعفر : وهذا غلط بيّن ، وجهل باللغة ، لأنه قد علم المراد ، وأن المقصود ذكره ، وأنها في كل سنة ، فكيف يتوهم أنها من سنتين ؟ قال : والأوْلى والإختيار ما قاله أهل المدينة ، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا ، من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهم ، قال : وهذا أيضاً قول أكثر أهل التأويل .
الخامسة : استنبط بعضهم من قوله تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أن الإثم في هذه الأشهر المحرمة آكد وأبلغ في الإثم في غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .
وقال ابن عباس فيما رواه عنه عليّ بن أبي طلحة : أنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراماً ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .
وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما
سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء . وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلاً ، ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظّموا ما عظم الله ، فإنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم ، وأهل العقل - نقله ابن كثير - .
أقوال : أن ابن جرير اختار في قوله تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ما قاله ابن إسحاق فيما تقدم .
أقوال : هو الظاهر المتبادر .
السادسة : قال المهايمي : إنما كان منها أربعة حرم ليكون ثلث السنة تغليباً للتحليل الذي هو مقتضى سعة الرحمة ، على التحريم الذي هو مقتضى الغضب فجعل أول
السنة وآخرها وهو المحرم وذو الحجة ، ولما لم يكن له وسط صحيح ، أخذ أول النصف الآخر وهو رجب ، فبقي من الثلث شهر ، فأخذ قبل الآخر وهو ذو القعدة ، ليكون مع آخر السنة المتصلة بأولها وتراً ، وبقي وترية رجب فتتم السنة على التحريم باعتبار أولها وأخرها ، وأوسطها ، مع تذكر وترية الحق المؤكد للتحريم .
انتهى .
السابعة : استدل جماعة بقوله تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ ، وكذا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } ، وبقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الآية .
وذهب آخرون إلى أن تحريم القتال فيها ، منسوخ بآية السيف ، يعني قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } قالوا : ظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عامّاً في الشهر الحرام ، لأوشك أن يقيده بانسلاخها ، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام ، وهو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فما كسرهم واستفاء
أموالهم ورجع فلّهم ، لجؤوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوماً ، وانصرف ولم يفتتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .
وأجاب الأولون بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } الآية ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مفيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرَم ، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه ، فقوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } الآية ، من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم ، فاجتمعوا كذلك لهم ، أو هو إذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام ، إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } ، وقال تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدؤوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصّنوا بالطائف ، ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريباً من أربعين يوماً ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياماً ، ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الإبتداء ، وهذا أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة .
فالمحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرام ، لا إتمامه ، وبهذا يحصل الجمع ، ولذا قال ابن جريج : حلف بالله عطاءُ بن أبي رَبَاح ، ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها .
الثامنة ، قال في " الإكليل " في قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةِ الشُّهُورِ } الآية ، إنَّ الله وضع هذه الأشهر وسماها ورتبها على ما هي عليه ، وأنزل ذلك على أنبيائه ، فيستدل بها لمن قال : إن اللغات توقيفية .
التاسعة : في " الإكليل " أيضاً : استدل بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } من قال إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين .
العاشرة : قال ابن إسحاق : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله عزَّ وجلَّ القَلَمَّس وهو حذيفة بن عبد فُقَيْم بن
عدي بن عامر بن ثعلبة ، بن الحارث بن مالك بن كنانة ، بن خُزَيْمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، بن نزار بن معد بن عدنان ، ثم قال بعده على ذلك ابنه عبّاد ، ثم ابنه قَلَع ، ثم أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثُمامة جُنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، فكانت العرب إذا فرغت من حجها ، اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيباً فحرم رجباً ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم عاماً ، ويجعل مكانه صفر ، ويحرمه عاماً ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله . انتهى .
و القَلَمَّس بقاف فلام مفتوحتين ثم ميم مشددة . قال في " القاموس وشرحه " : هو رجل كناني من نَسَأَةِ الشهور على معدّ في الجاهلية ، كان يقف عند جمرة العقبة ويقول : أحد الصفرين ، وحرمت صفر المؤخر ، وكذا في الرجبين ، يعني رجباً وشعبان ، ثم يقول : انفروا على اسم الله تعالى . قال شاعرهم :
وفينا ناسئ الشهر القَلَمَّس
وقال عمير بن قيس المعروف بِجَذْل الطِّعان :
~لقد علمت معدٌّ أنَّ قومي كرامُ الناس أنَّ لهم كراما
~ألسنا الناسئين على معدّ شهورَ الحِلّ نجعلها حراما
~فأي الناس فاتونا بِوتْرٍ وأي الناس لم نُعْلِكْ لِجَاما
وروي أن أول من سن النسيء عَمْرو بن لُحَيّ ، والذي صح من حديث أبي هريرة وعائشة ، أن عَمْرو بن لحيّ أول من سيّب السوائب ، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : < رأيت عَمْرو بن لحيّ يجر قُصْبَهُ في النار > .
ثم حرّض تعالى المؤمنين على قتال الكفرة ، إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك ، وأشار إلى توجه العتاب والملامة إلى المتخلفين عنه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } [ 38 ] .
وقوله : { إِلَى الْأَرْضِ } متعلق بـ : { اثَّاقَلْتُمْ } على تضمينه معنى الميل والإخلاد ، أي : اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل ، وكرهتم مشاقّ الغزو المستتبعة للراحة الخالدة ، كقوله تعالى : { أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } .
أو مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف ، استُنْفِرُوا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ ، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها ، ومع بُعد الشقة ، وكثرة العدوّ ، فشق عليهم .
وقوله تعالى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحقال ِ الدُّنْيَا } أي : الحقيرة الفانية : { مِنَ الْآخِرَةِ } أي : بدل الآخرة ونعيمها الدائم { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أظهر في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، أي : فما التمتع بلذائذها { فِي الْآخِرَةِ } أي : في جنب الآخرة أي : إذا قيست إليها ، و في هذه تسمى في القياسية ، لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به
{ إِلَّا قَلِيلٌ } أي : مستحقر لا يؤبه له .
روى الإمام أحمد ومسلم عن المُسْتَورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع > - وأشار بالسبابة - .
ثم توعد تعالى من لم ينفر إلى الغزو ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 39 ] .
{ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أي : لنصرة نبيه ، وإقامة دينه : { وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً } لأنه الغني عن العالمين ، أي : وإنما تضرون أنفسكم . وقيل :
الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ولا تضروه ، لأن الله وعده النصر ، وَوَعْدُهُ كائن لا محالة .
{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم ، وفي هذا التوعد ، على من يتخلف عن الغزو ، من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره .
تنبيه :
قال بعضهم : ثمرة الآية لزوم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد ، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة ، ويأتي مثل الجهاد ، الدعاء إلى سائر الواجبات ، وفي ذلك تأكيد من وجوه :
الأول : ما ذكره من التوبيخ .
الثاني : قوله تعالى : { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذات لا يكون رخصة في ذلك .
الثالث : في قوله تعالى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فهذا زجر .
الرابع : قوله تعالى : { فَمَا مَتَاعُ } الآية . وهذا تخسيس لرأيهم .
الخامس : ما عقب من الوعيد بقوله : { إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ } .
السادس : ما بالغ فيه بقوله : { عَذَاباً أَلِيماً } .
السابع : قوله : { وَيَسْتَبْدِلْ } الآية .
الثامن : قوله : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ففيه تهديد .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } [ 40 ] .
{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ } أي : بالخروج معه إلى تبوك { فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا }
يعني كفار مكة حين مثور ، به ، فصاروا سبب خروجه ، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } حال من ضميره صلى الله عليه وسلم ، أي : أحد اثنين { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } بدل من : { إِذْ أَخْرَجَهُ } بدل البعض ، إذ المراد به زمان متسع .
والغار نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثاً ، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما ، ثم يسيرا إلى المدينة ، { إِذْ يَقُولُ } بدل ثان ، أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أي : أبي بكر : { لا تَحْزَنْ } وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما ، فيخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أذى ، وطفق يجزع لذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } أي : بالنصرة والحفظ .
روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه ! فقال : < يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما > .
{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ } أي : أَمَنَتَه التي تسكن عندها القلوب { عَلَيْهِ } أي : على النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة ، أنزلهم ليحرسوه في الغار ، أو ليعينوه على العدوّ يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله : { نَصَرَهُ اللَّهُ } وقوّى أبو السعود الوجه الثاني ، بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم .
قلت : لا إباءة ، لأن هذا وصف لازم لإمداد القوة الغيبية في كل حال ، وفي الثاني تفكيك في الأسلوب لبعد المتعاطفيْن ، فافهم . والله أعلم .
{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي : المغلوبة المقهورة ، و الكلمة الشرك ، أو دعوة الكفر ، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك ، أو هي بمعنى الكلام مطلقاً على أنها دعوة الكفر { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } يعني التوحيد ، أو دعوة الإسلام كما تقدم ، أي : التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة { وَكَلِمَةُ اللَّهِ }
بالرفع على الإبتداء و : { هِيَ الْعُلْيَا } مبتدأ وخبر . أو تكون هي فصلاً .
وقرئ بالنصب أي : وجعل كلمة الله ، والأول أوجه وأبلغ ، لأن الجملة الإسمية
تدل على الدوام والثبوت ، وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها ، وفي إضافة الكلمة إلى الله إعلاء لمكانها ، وتنويه لشأنها
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : غالب على ما أراد : { حَكِيمٌ } في حكمه وتدبيره .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : استدل على عظيم محل أبي بكر من هذه الآية من وجوه : منها : قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ } ، وقوله : { إنَّ الله مَعَنَا } ، وقوله
{ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } قيل : على أبي بكر .
عن أبي علي والأصم ، قال أبو علي : لأنه الخائف المحتاج إلى الأمن ، وقيل : على الرسول ، عن الزجاج وأبي مسلم .
قال جار الله : وقد قالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر ، لأنه رد كتاب الله تعالى . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : أنا ، والله ! صاحبه ، فمن هنا قالت المالكية : من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل ، بخلاف غيره من الصحابة ، لنص القرآن على صحبته . انتهى .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : < أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار > - أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب - .
وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجهاً من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ، فأطال وأطاب .
ولما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول لتبوك ، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر ، أتبعه بهذا الأمر الجَزْم ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 41 ] .
{ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً } حالان من ضمير المخاطبين ، أي : على أي : حال كنتم خفافاً في النفور لنشاطكم له ، وثقالاً عنه ، لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم
وأذيالكم ، وثقالاً لكثرتها ، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه ، أو ركباناً ومشاة ، أو شباباً وشيوخاً أو مهازيل وسماناً ، واللفظ الكريم يعم ذلك كله ، والمراد حال سهولة النَّفْر وحال صعوبته .
وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية .
ولما كانت البعوث إلى الشام ، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى
على هذه الآية ، فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بني ! فقال بنوه :
يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل .
وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً ، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً .
وقال أبو راشد الحراني : وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فَصَلَ عنها يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث : { انْفِرُوا خِفَافاَ وِثقَالاً } .
وعن حيّان بن زيد قال : نفرنا مع صفوان بن عَمْرو وكان والياً على حمص - فرأيت شيخاً كبيراً همّاً ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت إليه فقلت : يا عم ! لقد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ! استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، أَلَا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عزَّ وجلَّ - وروى ذلك كله ابن جرير - .
فرحم الله تلك الأنفس الزكية ، وحيّاها من بواسل ، باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء كلمته ، وأكرمت نفسها عن الإغترار بزخارف هذه الحياة الدنية .
ثم رغّب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله ، فقال : { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ما في إسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيراً ، وأنه خير في نفسه ، أو خير من الدعة ، والتمتع بالأموال .
تنبيه :
قال الحاكم : الجهاد بالمال ضروب : منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد ، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد ، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه .
وقال بعض مفسري الزيدية : ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال ، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام ، إن دعت إليه حاجة .
وذكر الراضي بالله وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد ، قليلاً كان أو كثيراً ، ويتعين ذلك بتعيين الإمام .
وأما من طريق الحسبة ، فقال الراضي بالله : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال ، ويدخل في هذا إلزامُ الضيِّقة ، وتنزيل الدور ، وقد قال الراضي بالله : للإمام أن يلزم الرعية على ما يراه من المصلحة .
وعن المؤيد بالله : إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند ، واحتاجوا إلى ذلك . كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر .
وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور ، وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عُرِفَ ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر ، وبين هذا المنكر الواقع من الجند ، أيهما أغلظ . انتهى .
ثم صرف تعالى الخطاب عن المتخلفين ، ووجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معدّداً لما صدر عنهم من الهنات قولاً وفعلاً ، مبنياً لدناءة همهم في هذا الخطب ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 42 ] .
{ لَوْ كَانَ } أي : ما تدعوهم إليه { عَرَضاً قَرِيباً } أي : نفعاً سهل المأخذ ، { وَسَفَراً قَاصِداً } أي : وسطاً { لَاتَّبَعُوكَ } أي : لا لأجلك ، بل لموافقة أهوائهم { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } بضم الشين ، وقرئ بكسرها ، أي : الناحية التي ندبوا إليها . وسميت
الناحية التي يقصدها المسافر بذلك ، للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها .
وقرئ ( بعِدت ) بكسر العين . قال الشهاب : بعد يبعَد كعلم يعلم ، لغة فيه ، لكنه اختص ببعض ببعد الموت غالباً . ولا تبعد ، يستعمل في المصائب للتفجع والتحسر كقوله :
~لا يُبْعِدِ اللهُ إخواناً لنا ذَهَبُوا أفناهم حَدَثَانُ الدهرِ والأَبَدُ
{ وَسَيَحْلِفُونَ } أي : هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك { بِاللَّهِ } متعلق بسيحلفون ، أو هو من جملة كلامهم .
والقول مراد في الوجهين ، أي : سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك ، معتذرين بالعجز ، يقولون بالله : { لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي : إلى تلك الغزوة .
ثم بيّن تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم ، بقوله سبحانه : { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } أي : بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } لأنهم كانوا يستطيعون الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } [ 43 ] .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلّوا بعللهم ، { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرّين على القعود عن الغزو .
ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } [ 44 ] .
{ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } أي : لمنع إيمانهم به ، من مخالفته ، مع القدرة
{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أُمرِوا : { أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أي : لأنهم يودون الجهاد بها قربة ، فيبذلونها في سبيله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } أي : فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم .
ففيه شهادة لهم بالإنتظام في زمرة الأتقياء ، وعِدَةٌ لهم بأجزل الثواب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [ 45 ] .
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي : في ترك الجهاد بهما : { الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته ، وهم المنافقون ، ولذا قال : { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : فيما تدعوهم إليه ، أي : رسخ فيها الريب { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : ليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
تنبيهات :
الأول : اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو ، دون ما يوهم العتاب ، من مراعاة جانبه الصلاة والسلام ، وتعهده بحسن المفاوضة ، ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولي الألباب .
قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف : بدأ بالعفو قبل ذلك المعفوّ .
قال مكّي : عفا الله عنك ، افتتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك . وقال الداودي : إنها تكرمة .
أقول : ويؤيد ذلك قوله عليّ بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :
~عفا الشهاب : ألا حُرمةٌ تَعُوذُ بعفوك أَن أُبْعَدَ
~ألم تر عبداً عدا طورَهُ ومولىً عفا ورشيداً هدَى
~أقلني أقالك من لم يَزَلْ يقيك ويصرف عنك الردى
وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب - غير صحيح - فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه .
قال الشهاب : وهو يستعمل حيث لا ذنب ، كما تقول لمن تعله . عفا الحديث : ما صنعت في أمري ؟ وفي الحديث : < عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له > .
وقال السخاوندي : وهو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، ولولا العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب
وقال القاضي عياض في " الشفا " : وأما قوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } فأمر لم يتقدم للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي ، فيعدّ معصية ولا عدّه الله عليه معصية ، بل يعده أهل العلم معاتبة ، وغلّطوا من ذهب إلى ذلك .
قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك ، بل كان مخيراً في أمرين .
قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي ، وكيف ؟ وقد قال الله تعالى : { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ } فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى بما لم يطلعه عليه من سرهم ، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس
عفا هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق > . ولم تَجِبْ عليهم قط ، أي : لم يلزمهم ذلك .
ونحوه للقشيري قال : إنما يقول : العفو لا يكون إلا عن ذنب ، من لم يعرف كلام العرب ، قال : ومعنى : عَفَا اللهُ عَنْكَ ، أي : لم يلزمك ذنباً . انتهى .
وقد عد ما وقع في " الكشاف " هنا من قبيح سقطاته .
وللعلامة أبي مسعود مناقشة معه في ذلك ، أُورِدُها لبلوغها الغاية في البلاغة ، قال رحمه الله :
ولقد أخطأ وأساء الأدب ، وبئس ما فعل فيما قال وكتب ، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت ، هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب ، والتخفيف في العتاب ، وهب أن العفو بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الإستقباح اللائمة ، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الإستقباح بكلمة بئسما ، المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ، ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين ، أو منفعة للمسلمين ، بل كان فيه فساد وخبال ، حسبما نطق به قوله عزَّ وجلَّ : { لَوْ خَرَجُوا } الخ ، و قد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى : { وَلَكنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ } الآية ، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير ، ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد ، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ، ولا يتسنى لهم الإبتهاج فيما بينهم ، بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم ، وأرضوه بالأكاذيب .
على أنه لم يهنأ لهم عيش ، ولا قرّت لهم عين ، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان ، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان . انتهى .
قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك ، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه ، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية ، فلا خطأ فيه .
قال رحمه الله : ولو اتقى هو والموجِّه موضع التهم - كان أولى وأحرى . انتهى .
الثاني : استدل بالآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالإجتهاد ، كما بسطه الرازي .
قال السيوطي في " الإكليل " : واستدل بها من قال : إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبَّه عليه بسرعة .
الثالث : قال الرازي : دلت الآية على وجوب الإحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني ، وترك الإغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحق من التقريب أو الإبعاد .
الرابع : قال أبو السعود : تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دالّ على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص ، غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كذباً حادثاً متعلقاً بأمر خاص ، لكنه أمر جارٍ على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم في الكذب . ودقق رحمه الله في بيان لطائف آخر . فلتراجع .
الخامس : قيل : نفي الفعل المستقبل الدالّ على الإستمرار في قوله تعالى : { لَا يَسْتَأْذِنُكَ } يفيد نفي الإستمرار .
وهذا معنى قول الزمخشري : ليس من عادة المؤمنين أي : يستأذنوك .
قال النحرير : ولا يبعد حمله على استمرار النفي ، كما في أكثر المواضع ، أي : عادتهم عدم الإستئذان .
قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفاً ، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً ، فإن الإستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكرّه ، وصلوات الله على خليله وسلامه ، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من
أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة ، والآداب الجليلة ، فقال تعالى : { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به ، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ، ربما يعدّ كالمستأذن له في الضيافة ، فهذا من الآداب التي ينبغي أي : يتمسك بها ذوو المروءة ، وأولو القوة .
وأشد من الإستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين ، والتثاقل عن المبادرة إليه ، بعد الحض عليه والمناداة .
وأسوأ أحوال المتثاقل ، وقد دعي الناس إلى الغزاة ، أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق . نعوذ بالله من التعرض لسخطه .
ثم بيّن تعالى جلية شأن أولئك المنافقين المستأذنين ، بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة ، ولذلك خذلهم ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } [ 46 ] .
{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } بضم العين وتشديد الدال ، أي : قوةً من مال وسلاح وزادٍ ونحوها { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } أي : نهوضهم للخروج { فَثَبَّطَهُمْ } أي : فكسّلهم وضعّف رغبتهم { وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } أي : من النساء والصبيان .
تنبيهات :
الأول : دل قوله تعالى : { لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } على أن عدة الحرب ، من الكُراع والسلاح وجميع ما يستعان به على العدوّ ، من جملة الجهاد .
فما صرف في المجاهدين ، صرف في ذلك ، وهذا جليّ فيما يتقى به من العدة كالسلاح ، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك ، مما يضعف به قلب العدوّ ، فهو داخل في الجهاد ، وقد قال تعالى في سورة الأنفال : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ، ويكون ذلك كلباس الحرير حالة الحرب ، وهذا جليّ حيث لا يؤدي إلى السرَف .
الثاني : إن الفعل يحسن بالنية ، ويقبح بالنية ، وإن استويا في الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر ، وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأنه تعالى أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل منه من إرادة المكر بالمسلمين .
الثالث : للإمام منع مِنْ يتهم بمضرة المسلمين ، أن يخرج للجهاد ، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذّل . ذكر ذلك كله بعض مفسري الزيدية .
الرابع : ذكروا أن قوله تعالى : { وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم ، يعني نزّل خلق داعية القعود فيهم ، منزلة الأمر ، والقول الطالب ، كقوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } أي : أماتهم ، أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : { مَعَ الْقَاعِدِينَ } ؟ قلت : هو ذم لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزَّمْنَى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفَ } .
قال الناصر : وهذا من تنبيهاته الحسنة . ونزيده بسطاً فنقول :
لو قيل : { اقْعُدُوا } مقتصراً عليه ، لم يُفِدْ سوى أمرهم بالقعود ، وكذلك : كُونوا مع الْقَاعِدِينَ .
ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد ، الموسومين بهذه السمة ، إلا من عبارة الآية ، ولعن الله فرعون ، لقد بالغ في توعيد موسى عليه السلام بقوله : { لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } ، ولم يقل : لأجعلنك مسجوناً . لمثل هذه النكتة من البلاغة .
ثم بين تعالى سرّ كراهته لخروجهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ 47 ] .
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً } أي : فساداً وشرّاً { وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ } أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد .
قال الشهاب : الإيضاع : إسراع سير الإبل . يقال : وضعت الناقة ، تضع إذا أسرعت ، وأوضعتها أنا .
والمراد : الإسراع بالنمائم ، لأن الراكب أسرع من الماشي . فقيل : المفعول مقدَّر ، وهو النمائم ، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها ، وأثبت لها الإيضاع . ففيه تخييلية ومكنية .
وقيل : إنه استعارة تبعية ، شبه سرعة إفسادهم
لذات البيْن بالنميمة ، بسرعة سير الركائب ، ثم استعير لها الإيضاع ، وهو للإبل .
و خلال جمع خلل ، وهو الفرجة ، استعمل ظرفاً بمعنى بين .
واعلم أن قوله : { وَلَأَوْضَعُوا } مرسوم في الإمام بألفين ، لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اختراع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه : { أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ } .
{ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي : يطلبون لكم ما تفتنون ، بإيقاع الخلاف فيما بينكم ، وإلقاء الرعب في قلوبكم ، وإفساد نيّاتكم { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي : منقادون لقولهم مستحسنون لحديثهم ، وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، لضعف عقولهم ، فيتوهمون منهم النصح والإعانة ، وهم يريدون التخذيل والفتنة ، فيؤدي إلى وقوع شرّ بين المؤمنين ، وفساد كبير .
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير ، أي : فيكم عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .
قال ابن كثير : وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عامّ في جميع الأحوال . والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، و إليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .
قال محمد بن إسحاق : كان استأذن ، فيما بلغني ، من ذوي الشرف منهم ، عبد الله بن أبيّ ابن سلول والجدّ بن قيس ، وكانوا أشرافاً في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده .
وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيها يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } . انتهى .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } ولا يخفى عليه شيء من أمرهم ، وفيه شمول للفريقين : القاعدين والسماعين .
ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ 48 ] .
قال الشهاب : المراد من الأمور المكايد ، فتقليبها مجاز عن تدبيرها ، أو الآراء ، فتقليبها تفتيشها وإحالتها .
{ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ } وهو تأييدك ونصرك وظفرك { وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } أي : علا دينه { وَهُمْ كَارِهُونَ } أي : على رغم منهم .
قال ابن كثير : لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته هود المدينة ومنافقوها . فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته . قال ابن أبيّ وأصحابه : هذا أمر قد توجَّه ، أي : أقبل ، فدخلوا في الإسلام ظاهراً . ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله ، أغاظهم ذلك وساءهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ 49 ] .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي } أي : في القعود { وَلا تَفْتِنِّي } أي : لا توقعني في الفتنة .
روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجدّ بن قيس ، أخي بني سلمة ، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في جهازه : < هل لك يا جدّ في جلاد بني الأصفر ؟ > فقال : يا رسول الله ! أو تأذن لي ولا تفتنِّي ؟ فوالله ! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخشى ، إن رأيت نساء بني الأصفر ، ألَّا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : < أذنت لك ! > .
قال الشهاب يعني أنه يخشى العشق لهن ، أو مواقعتهن من غير حلّ .
وبنات الأصفر : للروم ، كبني الأصفر . وقيل في وجه التسمية وجوه : منها أنهم ملكهم بعض الحبشة ، فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان . انتهى .
قال ابن كثير : كان الجدّ بن قيس هذا من أشرف بني سلمة .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : < من سيدكم يا بني سلمة ؟ > قالوا : الجدّ بن قيس ؟ على أنا نبخِّله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < وأي داء أدوأ من البخل ؟ ولكن سيّدكم الفتى الجعد الأبيض ، بشر بن البراء بن معرور > .
وقوله تعالى : { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } قال أبو السعود : أي : في عينها ونفسها ، وأكمل أفرادها ، الغني عن الوصف بالكمال ، الحقيق باختصاص اسم الجنس به ، سقطوا . لا في شيء مغاير لها ، فضلاً عن أن يكون مهرباً ومخلصاً عنها . وذلك بم فعلوا من العزيمة على التخلف ، والجرأة على الإستئذان بهذه الطريقة الشنيعة ، ومن القعود بالإذن المبني عليه ، وعلى الإعتذارات الكاذبة ، وقرئ بإفراد الفعل ، محافظة
على لفظ من . وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه ، مع تقديم الظرف ، إيذان بأنهم وقعوا فيها ، وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة ، زعماً منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن . وفي التعبير عن الإفتتان بالسقوط في الفتنة ، تنزل لها منزلة المهواة المهلكة ، المفصحة عن ترديّهم في درجات الردى أسفل سافلين . انتهى .
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : ستحيط بهم يوم القيامة ، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا .
ثم بيّن عداوتهم ، زيادة في تشهير مساوئهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } [ 50 ] .
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } أي : من فتح وظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ } أي : تورثهم مساءة لفرط عداوتهم { وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } أي : من نوع شدة { يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي : بالحزم في القعود { مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل إصابة المصيبة ، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين لآرائهم { وَيَتَوَلَّوْا } أي : عن مجتمعهم الذي أظهروا فيه الفرح برأيهم ، { وَهُمْ فَرِحُونَ } أي : برأيهم وبما أصابكم وبما سلموا .
ثم أرشد تعالى إلى جوابهم ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 51 ] .
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي : ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية ، فلا وجه لهذا الفرح ، لرضانا بقضائه في تلك المصيبة ، فلم يسؤنا بالحقيقة كيف ؟
ولم يكتبها علينا ليضرَّنا بها ، إذ : { هُوَ مَوْلانَا } أي : يتولى أمورنا ، فإنما كتبها علينا ليوفقنا للصبر والرضا بها ، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } [ 52 ] .
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ } أي : تنتظرون { بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } أي : العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب ، وهما النصر والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } أي : إحدى السُّوئين من العواقب إما : { أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ } أي : كما أصاب من قبلكم من الأمم { أَوْ } بعذاب : { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر .
{ فَتَرَبَّصُوا } أي : بنا ما ذكر من عواقبنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } أي : منتظرون ما هو عاقبتكم فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه ، لا يتجاوزه ، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ 53 ] .
{ قُلْ أَنْفِقُوا } يعني أموالكم في سبيل الله ووجوه البرّ { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } مصدران وقعا موقع الفاعل ، أي : طائعين من قبل أنفسكم ، أو كارهين مخافة القتل
{ لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ } أي : ذلك الإنفاق . ثم بيّن سبب ذلك بقوله : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أي : عاتين ، متمردين .
لطائف :
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : { لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ } ! قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك و تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً } ومعناه : لن يتقبل منكم ، أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله تعالى :
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } .
وقوله :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً
أي : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك ، أسأت إلينا أم أحسنت .
فإن قلت : متى يجوز هذا ؟ قلت : إذا دلّ الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيداً وغفر له .
فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أن كُثَيّراًَ كأنَّه يقول لعزّة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحسان ، وانظري : هل يتفاوت حالي معك ، مسيئةً كنتِ أو محسنة ! وفي معناه قول القائل :
~أَخُوَكَ الذي إِن قُمتَ بالسيف عامداً لِتَضْرِبهُ لَمْ يَسْتَغِشَّكَ في الوُدِّ
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا ، هل يتقبل منكم ؟ واستغفروا لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الإستغفار وتركه ؟
فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبّل ، أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبّله منهم ، ورده عليهم ما يبذلون منه ، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ، ذاهباً هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً .
وقد روي أن الآية من تتمة جواب الجدّ بن قيس حيث قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به ، فاتركني ولا تفتني . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } [ 54 ] .
ولما بيّن تعالى قبائح أفعال المنافقين ، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين ، وعدم قبول نفقاتهم ، تأثره ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم ، فينجلي تمام الإنجلاء أن النفاق مهواة الخسار ، لجلبه آفات الدنيا والآخرة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ 55 ] .
{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } أي : لأن ذلك استدراج لهم ، كما قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، أي : بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب ، وقوله : { لِيُعَذِّبَهُمْ } قيل : اللام زائدة .
وقيل : المفعول محذوف ، وهذه تعليلية ، أي : يريد إعطاءهم لتعذيبهم ، { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : فيموتوا كافرين ، لاهين بالتمتع عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدراجاً لهم .
وأصل الزهوق الخروج بصعوبة - أفاده القاضي - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [ 56 ] .
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } يعني المنافقين { إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } في الدِّين ليدفعوا ، بدلالة اليمين ، دلائل النفاق { وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } في ذلك يعني أنهم كاذبون { وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي : يخافون القتل ، وما يُفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية ، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة .
ثم أشار إلى سبب الخوف ، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ 57 ] .
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } أي : حصناً يلتجئون إليه { أَوْ مَغَارَاتٍ } يعني غيراناً في الجبال يسكن كل واحد منهم غاراً { أَوْ مُدَّخَلاً } يعني موضع دخول يدخلون فيه ، والسرب في الأرض { لَوَلَّوْا إِلَيْهِ } أي : لأقبلوا نحوه { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي : يسرعون إسراعاً ، لا يردهم شيء ، كالفرس الجموح ، أي : النَّفور الذي لا يرده لجام ، أي : لو وجدوا شيئاً من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها ، مستنكرة ، لأتوه لشدة خوفهم ، وكراهتهم للمسلمين ، وغمهم بعزّ الإسلام ، ونصر أهله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ 58 ] .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ } أي : يعيبك { فِي الصَّدَقَاتِ } أي : في قسمتها .
ثم بيّن فساد لمزهم ، وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا بقوله : { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا } أي : قدر ما يريدون { رَضُوا } فجعلوه عدلاً { وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } فيجعلونه غير عدل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ 59 ] .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } أي : كفانا فضله ، وما قسمه لنا { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } أي : بعد هذا ، حسبما نرجو ونؤملّ .
{ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } أي : في أن يغنمنا ويخولّنا فضله .
والجواب محذوف بناء على ظهوره . أي : لكان خيراً لهم .
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يقسم فيئاً ، أتاه ذو الخووسلم : رجل من بني تميم - فقال : يا رسول الله ! اعدل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ويلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ > فقال عُمَر بن الخطاب : إيذن لي فيه فأضرب عنقه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 60 ] { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات تأثره ببيان حقِّيَّة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من القسمة ، إذ لم يتجاوز فيها مصارفها المشروعة له ، وهو عين العدل ، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ، ولم يكله إلى أحد غيره ، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً ، ففيم اللمز لقاسمها ، صلوات الله عليه ؟
روى البخاري عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي > .
وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له : < إن الله تعالى لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك > .
فالآية ردّ لمقالة أولئك اللمزة ، وحسم لأطماعهم ، ببيان أنهم بمعزل من الإستحقاق . وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ، ومنعهم ظلم .
والفقراء ، جمع فقير ، فعيل بمعنى فاعل ، يقال فقر يفقر من باب تعب ، إذا قل ماله .
والمساكين : جمع مسكين ، من سكن سكوناً ، ذهبت حركته ، لسكونه إلى الناس ، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد ، وبكسرها عند غيرهم .
قال ابن السكِّيت : المسكين : الذي لا شيء له ، والفقير : الذي له بُلغة من العيش . وكذلك قال يونس ، وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين .
قال : وسألت أعرابياً : أفقير أنت ؟ فقال : لا ، والله بل مسكين ، وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالاً من الفقير ، وهو الوجه ؛ لأن الله تعالى قال : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } وكانت تساوي جملة ، وقال في حق الفقراء : { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } وقال ابن الأعرابي : المسكين هو الفقير ، وهو الذي لا شيء له ، فجعلهما سواء . كذا في " المصباح " .
قال البدر القرافي : وإذا اجتمعا افترقا ، كما إذا أوصي للفقراء والمساكين ، فلا بد من الصرف للنوعين ، وإن افترقا اجتمعا ، كما إذا أوصي لأحد النوعين ، جاز الصرف للآخر .
قال المهايمي : ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم المحتاجون إلى الصدقات ، فقال :
{ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } أي : الساعين في تحصيلها : القابض والوازن والكيال والكاتب ، ويعطون أجورهم منها .
ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام فقال : { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } .
وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام ، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء ، تقوية لإسلامهم ، لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم ، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم .
ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرقّ بقوله : { وَفي الرِّقَابِ } .
أي : وللإعانة في فك الرقاب ، فيعطي المكاتبون منها ما يستعينون به على أداء نجوم الكتابة ، وإن كانوا كاسبين ، وهو قول الشافعي والليث ، أو : وللصرف في عتق الرقاب ، بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق .
قال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق .
ولا يخفى أن الرقاب يعم الوجهين ، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة .
ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون بقوله : { وَالْغَاِرِمِينَ } .
وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ، ولم يجدوا وفاء ، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء .
ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله : { وَفِي سَبِيل اللهِ } .
فيصرف على المتطوعة في الجهاد ، ويشتري لهم الكراع والسلاح .
قال الرازي : لا يوجب قوله : { وَفِي سَبِيل اللهِ } القصر على الغزاة ، ولذا نقل القفّال في " تفسيره " عن بعض الفقهاء جوازَ صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ، لأن قوله : { وَفِي سَبِيل اللهِ } عامّ في الكل . انتهى .
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من : { سبيل الله } فيصرف للحجاج منه .
قال في الإقناع و شرحه : والحج من سبيل الله نصاً ، روي عن ابن عباس وابن عمر ، لما روى أبو داود ، أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله ، فأرادت امرأته الحج ، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم : اركبيها ، فإن الحج من سبيل الله ، فيأخذ إن كان فقيراً ، من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عَمْرة ، أو يستعين به فيه ، وكذا في نافلتهما ، لأن كلاً من سبيل الله . انتهى .
قال ابن الأثير : و سبيل الله عام ، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله عزّ وجلَّ ، بأداء الفرائض والنوافل ، وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد ، حتى صار لكثرة الإستعمال كأنه مقصور عليه . انتهى .
وقال في " التاج " : كل سبيل أريد به الله عز وجل ، وهو برّ ، داخل في سبيل الله .
ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله :
{ وَابْنِ السَّبِيلِ } فيعطي المجتاز في بلدٍ ما يستعين به على بلوغه لبلده .
وقوله تعالى : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } ناصبة مقدَّر ، أي : فرض الله ذلك فريضة ، وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم .
وقول : { حَكِيمٌ } أي : لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآية يقضي بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان :
الأول : ما يقتضيه اللفظ اللغوي ، إن قلنا : الواو والتشريك .
والثاني : ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء > الحديث .
وقد ذهب ، إلى هذا ، الشافعي وعكرمة والزهري ، إلا إن استغنى أحدها فتدفع إلى الآخرين ، بلا خلاف .
وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد منهم عمر وابن عباس ، وحذيفة وعطاء وابن جبير والحسن ومالك وأبو حنيفة ، والهادي والقاسم وأسباطهما ، وزيد . قال في " التهذيب " : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر ، بوجوه :
الأول : أن الله تعالى قال في سورة البقرة : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها .
الثاني : الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ في فقرائهم .
الثالث : حديث سلمة بن صخر ، فإنه عليه الصلاة والسلام جعل له صدقة بني زريق .
الخامس : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .
الخامس : المعارضة للفظ بالمعنى ، فإن المقصود سدّ الخلة .
وقال صاحب " النهاية " : وهذا أقرب إلى المعنى ، والأول أقرب إلى اللفظ ، ويؤيد أنها مستحقة بالمعنى لا بالإسم ، أنا لو قلنا تستحق بالإسم لزم أن من كان فقيراً غازياً غارماً مسافراً ، أن يستحق سهاماً لهذه الأسباب جميعاً - كذا في تفسير بعض الزيدية - .
وقال الناصر في " الإنتصاف " : القول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف ، حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذاً من إشعار اللام بالتمليك ، كما ذهب إليه
الشافعي : لا يسعده السياق ، فإن الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة ، وأنها مختصة بهم ، وأن غيرهم لا يستحق فيها نصيباً ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم ، فهاذ هو الغرض الذي سيقت له الآية ، فلا اقتضاء فيها لما سواه . انتهى .
الثاني : قال بعضهم : لفظ الصَّدَقات بعمومه يجمع الصدقة الواجبة والنافلة ، ثم إن الصدقة الواجبة تتنوّع أنواعاً ، منها الزكوات لما هو العشر أو نصف العشر ، أو ربع العشر ، وزكاة المواشي والفطرة والكفارات ، نحو كفارة اليمين والظهار والصوم ، وكذلك الهَدْي في الحج ، ومنها ما يؤخذ من أموال الكفار ورؤوسهم ، ولهذا سمى الله الغنائم صدقة في سبب نزول الآية ، وذلك في قسمة غنائم حنين ، فإذا كان اللفظ يعمّ ما ذكر ، فهل تحمل الآية على عمومها في قسمتها على ما ذكر ، أو يخصص البعض ؟
ثم قال : والعلماء قسموا الصدقات ، وجعلوا مصارفها مختلفة ، والكفارة لم يذكر أنها تصرف في الثمانية المصارف .
وقد ورد قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعام سِتِّينَ مِسْكِيناً } وفي الحديث : < أطعم عن كل يوم مسكيناً > ، وورد في الفطرة : < أغنوهم هذا اليوم > .
وورد الأدلة مخصصة لعموم لفظ الصدقات ؟ فإن الزكوات مجمع عليها في أن مصرفها الثمانية الأصناف ، أم كيف تنزل الآية على القواعد الأصولية ؟ . انتهى كلامه .
ولا يخفى كونها مخصصة لعموم لفظ الصدقات ، لأن الخاصّ يقضي على العامّ على أن المراد قصرها على هذه الأصناف ، فكل ما ذكر لم يخرج عنها ، لشمولها له . والله أعلم .
الثالث : المؤلفة قلوبهم حكمهم باق ، لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين ، فيعطون عند الحاجة .
ويحمل ترك عمر وعثمان وعليّ إعطائهم ، على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم ، لا لسقوط سهمهم ، فإن الآية من آخر ما نزل ، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر .
ومنعُ وجود الحاجة على ممرّ الزمان ، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف لا يخفى فساده . كذا في " الإقناع " و " شرحه " .
والمؤلفة كما في " الإقناع " هم رؤساء قومهم : من كافر يرجى إسلامه ، أو كف
شره ، ومسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو نصحه في الجهاد ، أو في الدفع عن المسلمين ، أو كف شره كالخوارج ونحوهم ، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها . انتهى .
الرابع : قال في " الإكليل " : استدل بعموم الآية من أجاز الدفع للفقير القادر على الإكتساب .
وللذمي ، ولمن تلزمه نفقته لسائر القرابة ، للزوج ، ولآله صلى الله عليه وسلم ، حيث حرموا حظهم من الخمس ، ولمواليهم ، ولمن جوّز نقلها .
وقال ابن الفرس : يؤخذ من قوله تعالى : { وَالْعَامِلِينَ } جواز أخذ الأجرة لكل من اشتغل بشيء من أعمال للمسلمين .
قال : وقد احتج به أو عُبَيْد على جواز أحد القضاة الرزقَ فقال : قد فرض الله للعاملين على الصدقة ، وجعل لهم منها حقّاً بقيامهم فيه وسعيهم ، فكذلك القضاة يجوز لهم أخذ الأجرة على عملهم ، وكذا كل من شغل بشيء من أعمال المسلمين .
الخامس : قال الزمخشري : فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى في ، في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن في للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ومصبّاً ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم ، من التخليص والإنقاذ .
ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير في ، في قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } فيه فضل ترجيح لهذين ، على الرقاب والغارمين . انتهى .
قال الناصر : وَثُمَ سر آخر هو أظهر وأقرب ، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملّاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكاً ، فكان دخول اللام لائقاً بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ، ولكن في مصالح تتعلق بهم .
فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفاً إلى أيديهم حتى يعبّر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محالّ لهذا الصرف ، والمصلحة المتعلقة به .
وكذلك الغارمون ، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم ، تخليصاً لذممهم ، لا لهم وأما : { سبيل الله } فواضح فيه ذلك .
وأما : { ابن السبيل } فكأنه كان مندرجاً في
سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيهاً على خصوصيته ، مع أنه مجرد من الحرفين جميعاً ، وعطفه على المجرور باللام ممكن ، ولكنه على القريب منه أقرب . والله أعلم .
ثم قال : وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه ، استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجهاً في الإستدلال لمالك ، رحمه الله ، على أن الغرض بيان المصرف و اللام لذلك لام الملك ، فيقول : متعلق الجارّ الواقع خبراً عن الصدقات محذوف ، فيتعين تقدير ، فإما أن يكون التقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء ، كقول مالك ، أو مملوكة للفقراء ، كقول الشافعي ، لكن الأول متعين لأنه تقدير ، يكتفي به في الحرفين جميعاً ، يصح تعلق اللام به و في معاً ، فيصح أن نقول : هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا ، بخلاف تقديره مملوكة ، فإنه إنما يلتئم مع اللام ، وعند الانتهاء إلى في يحتاج إلى تقدير : مصروفة ليلتئم بها .
فتقديره من اللام عامّ التعلق ، شامل الصحة ، متعين ، والله الموفق . انتهى .
السادس : قال الزمخشري : فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم ؟
قلت : دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسماً لأطماعهم ، وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها ، وما سلطهم على التكلم فيها ، ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه . انتهى .
وتقدم بيانه أيضاً .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 61 ] .
{ وَمِنْهُمُ } أي : من الذين يحلفون بالله إنهم لمنكم ، ومن أشدّ من اللامز في الصدقات إذ هم { الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ } أي : يسمع كل ما يقال له ويصدقه ، ويعنون إنه ليس بعيد الغور ، بل سريع الإغترار بكل ما يسمع .
قال أبو السعود : وإنما قالوه لأنه صلوات الله عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ، ويصفح عنهم حلماً وكراماً ، فحملوه على سلامة القلب ، وقالوا ما قالوا .
قال اللغويون : الأُذُن الرجل المستمع القابل لما يقال له ، وصفوا به الواحد والجمع ، فيقال : رجلٌ أذن ، ورجالٌ أذن ، فلا يثنى ولا يجمع ، وإنما سموه باسم العضو تهويلاً وتشنيعاً ، فهو مجاز مرسل ، أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته ، لفرط استماعه ، آلة السماع ، كما سمي الجاسوس عيناً لذلك ، ونحوُه :
~إذا ما بدت ليلَى فكلِّيَ أعينٌ وإن حدثوا عنها فكلِّي مسامعُ
وجعله بعضهم من قبيل التشبيه : بالأُذُن في أنه ليس فيه وراء الإستماع تمييز حق عن باطل .
قال الشهاب : وليس بشيء يعتد به . وقيل إنه على تقدير مضاف ، أي : ذو أذن .
قال الشهاب : وهو مُذْهِب لرونقه . وقيل : هو صفة مشبهة من أذن إليه وله ، كفرح : استمع . قال عَمْرو بن الأهيم :
~فلما أنْ تسايرنا قليلاً أذنَّ إلى الحديثِ فَهُنَّ صُورُ
ولِقَعنب بن أم صاحب :
~إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً مني ، وما سَمِعُوا من صالحٍ دَفَنُوا
~صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذكرتُ به وإن ذُكِرْتُ بشرٍّ عندهُمْ أَذِنُوا
وفي الحديث : < ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ يتغنى بالقرآن > .
قال أبو عبيد : يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لمن يتلوه ، يجهر به .
وقوله عز وجل : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } ، أي : استمعت . كذا في " تاج العروس " .
وعلى هذا فأُذن صفة بمعنى سميع ولا تجوّز فيه ، ففيه أربعة أوجه .
وعطف قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ } عطف تفسير : لأنه نفس الإيذاء .
وقوله تعالى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة ، كرجل صدق ، تريد المبالغة في الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نِعْمَ الأذن أو إضافته على معنى في ، أي : هو أذن في الخير والحق ، وفيما يجب سماعه
وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك .
ودل عليه قراءة حمزة ( ورحمة ) بالجر عطفاً عليه ، أي : هو أذن خير لكم ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله .
ثم فسر كونه أذن خير بقوله : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } قال القاشاني : هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته ، لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب ولطافة النفس ولينها
{ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يصدق قولهم في الخيرات ، ويسمع كلامهم فيها ويقبله ، { وَرَحْمَةٌ } أي : وهو رحمة { لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } أي : يعطف عليهم ، ويرقّ لهم ، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم ، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم ، بالبر والصلة ، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف ، باتباعهم إياه فيها ، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين ، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل ، إلى غير ذلك . قاله القاشاني .
وقال غيره : أي : هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم ، معشر المنافقين ، حيث يقبله ، لا تصديقاً لكم ، بل رفقاً بكم ، وترحماً عليكم ، ولا يكشف أسراركم ، ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى تعالى من الحكمة في الإبقاء عليكم .
قال الشهاب : والمعنى هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها ويستمع للمؤمنين ، فيسلم لهم ما يقولون ، ويصدقهم ، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر ، يسمعون آيات الله ولا يثقون بها ، ويسمعون قول المؤمنين ، ولا يقبلونه وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم ، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه ، كما زعموا .
وقال القاشاني في " تفسيره " : كانوا يؤذونه ، صلوات الله عليه ، ويغتابونه بسلامة القلب ، وسرعة القبول والتصديق لما يسمع ، فصدقهم في ذلك وسلّم وقال : هو كذلك ، ولكن بالنسبة إلى الخير ، فإن النفس الأبية والغليظة الجافية ، والكزة القاسية التي تتصلب في الأمور ، ولا تتأثر ، غير مستعدة للكمال ، إذ الكمال الْإِنْسَاْني لا يكون إلا بالقبول والتأثر ، فكلما كانت النفس ألين عريكة ، وأسلم قلباً ، وأسهل قبولاً ، كانت أقبل للكمال ، وأشد استعداداً له .
وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الإنفعال من كل ما يسمع ، حتى المحال ، والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه ، حتى الكذب والشرور والضلال ، بل هو من باب اللطافة ، وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق ، فلذلك قال : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } إذ صفاء الإستعداد ، ولطف النفس ، يوجب قبول ما يناسبه من باب الخيرات ، لا ما ينافيه من
باب الشرور ، فإن الإستعداد الخيريّ لا يقبل الشر ، ولا يتأثر به ، ولا ينطبع فيه ، لمنافاته إياه ، وبعده عنه . انتهى .
لطائف :
الأولى : في قوله تعالى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } أبلغ أسلوب في الرد عليهم ، فإنه صدقهم في كونه أذناً ، إلا أنه فسره بما هو مدح له ، وثناء عليه .
قال الناصر : لا شيء أبلغ من الردّ عليهم بهذا الوجه ، لأنه في الأول ، إطماع لهم بالموافقة ، ثم كرّ على طمعهم بالحسم ، وأعقبهم في تنقصه باليأس منه .
ويضاهي هذا ، من مستعملات الفقهاء ، القول بالموجب ، لأن في أوله إطماعاً للخصم بالتسليم ، ثم بتّاً للطمع على قرب ، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه . والله الموفق .
الثانية : اللام في قوله تعالى : { لِلْمُؤْمِنِينَ } مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور ، وهو الاعتراف ، وبين الإيمان بمعنى التسليم والتصديق - قاله أبو السعود تبعاً للقاضي ـ .
قال الشهاب : يعني أن الإيمان بالله بمعنى الاعتراف والتصديق ، يتعدى بالباء ، فلذا قال بِاللهِ ، والإيمان للمؤمنين بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب بتصديقه لهم ، لما علم من خلوصهم ، متعد بنفسه ، فاللام فيه مزيدة للتقوية .
الثالثة : قال أبو السعود : إسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل ، بعد نسبته إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار ، للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ } أي : بما نقل عنهم من قولهم : { هُوَ أُذُنٌ } ونحوه { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بما يجترئون عليه من إيذانه .
قال أبو السعود : وهذا اعتراض مسوق من قبله عزَّ وجلَّ على نهج الوعيد ، غير تحت الخطاب .
وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة مضافاً إلى الاسم الجليل ، لغاية التعظيم ، التنبيه على أن أذيته راجعة إلى جنابه عزَّ وجلَّ ، موجبة لكمال السخط والغضب . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا
مُؤْمِنِينَ } [ 62 ] .
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } .
قال الزمخشري : الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ، أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذرهم ، ويرضوا عنهم ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . انتهى .
ولما كان الظاهر بعد العطف بالواو التثنية ، وقد أُفْرِدَ ، وَجَّهُوهُ :
بأن إرضاء الرسول إرضاءً لله تعالى لقوله تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، فلتلازمهما جعلا كشيء واحد ، فعاد عليهما الضمير المفرد ، و : { أَحَقُّ } ، على هذا ، خبر عنهما من غير تقدير .
أو بأن الضمير عائد إلى الله تعالى ، و : { أَحَقُّ } خبره ، لسبقه .
والكلام جملتان ، حذف خبر الجملة الثانية ، لدلالة الأولى عليه ، أي : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك .
وسيبويه جعله للثاني ، لأنه أقرب ، مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر كقوله :
~نَحْنُ بما عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْ دَكَ رَاضٍ والرأيُ مُخْتَلِفُ
أو بأن الضمير لهما بتأيل [ ؟ ؟ ] ما ذكر ، أو كل منهما ، وأنه لم يثن تأدباً لئلا يجمع بين الله وغيره في ضمير تثنية ، وقد نهي عنه ، على كلام فيه .
أو بأن الكلام في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه ، فيكون ذكر الله تعظيماً له وتمهيداً ، فلذا لم يخبر عنه ، وخص الخبر بالرسول . قال الشهاب : وفيه تأمل . انتهى .
وقد عهد لهم القول بمثله في آيات كثيرة ، وجواب الشرط مقدر يدل عليه ما قبله ، وقراءة التاء على الالتفات ، للتوبيخ .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } [ 63 ] .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا } أي : أولئك المنافقون .
قال أبو السعود : والإستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة ، مع علمهم بسوء عاقبتها .
وقرئ بالتاء على الإلتفات ، لزيادة التقريع والتوبيخ أي : ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارع والإنذارات { أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا } أي : من يخالف الله ورسوله .
قال الليث : حاددته أي : خالفته ، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة ، واشتقاقه من الحد ، بمعنى الجهة والجانب ، كما أن المشاقة من الشق بمعناه أيضاً ، فإن كل واحد من المتخالفين والمتعادييْن في حدّ وشقّ ، غير ما عليه صاحبه .
فمعنى : { يُحَادِدِ اللَّهَ } يصير في حدٍّ غير حدٍّ أولياء الله ، بالمخالفة .
وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } أي : الذل والهوان الدائم . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } [ 64 ] .
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي : في شأنهم ، فإن ما نزل في حقهم ، نازل عليهم { سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الأسرار الخفية ، فضلاً عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق .
ومعنى تنبئتها إياهم بما في قلوبهم ، مع أنه معلوم لهم ، وأن المحذور عندهم اطّلاع المؤمنين على أسرارهم ، لا اطّلاع أنفسهم عليها أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم ، فتنتشر فيما بين الناس ، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة ، فكأنها تخبرهم بها .
والمراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم ، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه ، فتنبئهم بها ، وتنعي عليهم قبائحهم .
وقيل : معنى يحذر ليحذر ، وقيل : الضميران الأولان للمؤمنين ، والثالث للمنافقين ، ولا يبالي بالتفكيك عند ظهور الأمر بعود المعنى إليه ، أي : يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين . أفاده أبو السعود .
أجيب : ت : المنافق كافر ، فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول ؟ أجيب : بأن القوم ، وإن كانوا كافرين بدين الرسول ، إلا أنهم شاهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بما يكتمونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم .
وقال الأصمّ : إنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً مدينه ، الله ، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً .
وتعقبه القاضي بأن يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه ، أن يكون محادّاً لهما . لكن قال الرازي : هو غير بعيد ، لأن الحسد إذا قوي في القلب ، صار بحيث ينازع في المحسوسات . انتهى .
وقال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الإستهزاء حين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر كل شيء ، ويدعي أنه عن الوحي ، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، ولذلك قال تعالى : { قُلِ اسْتَهْزِئُوا } أي : بالله وآياته ورسوله ، أو افعلوا الإستهزاء ، وهو أمر تهديد : { إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } أي : مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة ، ومن مثالبكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم ، كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } إلى قوله :
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } ، ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة ، فاضحة للمنافقين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [ 65 ] .
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } أي : عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للإستهزاء بما ذكر ، { لَيَقُولُنَّ } أي : في الإعتذار ، إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقاً وكفراً بل : { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ } أي : ندخل هذا الكلام لترويح النفس { وَنَلْعَبُ } أي : نمزح { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } أي : في ترويحكم ومزاحكم ، ولم تجدوا لهما كلاماً آخر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [ 66 ] .
{ لا تَعْتَذِرُوا } أي : لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة ، فالنهي عن الإشتغال به وإدامته إذ أصله وقع { قَدْ كَفَرْتُمْ } أي : أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي : بعد إظهاركم الإيمان .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : قال إلكيا : فيه دلالة على أن اللاعب والجادّ في إظهار كلمة الكفر سواء ، وأن الإستهزاء بآيات الله كفر - انتهى - .
قال الرازي : لأن الإستهزاء يدل على الإستخفاف ، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان ، والجمع بينهما محال .
وقال الإمام ابن حزم في " الملل " : كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى ، واستخفاف به ، أو بنبيّ من أنبيائه ، أو بملك من ملائكته ، أو بآية من آياته عزَّ وجلَّ ، فلا يحلّ سماعه ، ولا النطق به ، ولا يحلّ الجلوس حيث يلفظ به . ثم ساق الآية .
وقوله تعالى : { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } أي : لتوبتهم وإخلاصهم ، أو تجنبهم عن الإيذاء والإستهزاء { نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } أي : مصرّين على النفاق ، أو مُقدمين على الإيذاء والإستهزاء .
تنبيه :
روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة : قال ابن إسحاق : كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، أخو بني عَمْرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مُخَشَّن بن حُمَيّر ، ويقال مَخْشِيّ ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً . والله ! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين ، فقال مخشن بن حمير : والله ! لوددت أن أقاضى على أن يُضرَبَ كل منا مائة جلدة ، وأنا ننقلب أن ينزل فينا قرآن ، لمقالتكم هذه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر : < أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ! قلتم : كذا وكذا > . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت - و رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته - : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } .
وقال مخشن بن حمير : يا رسول الله ! قعد بي إسمي وإسم أبي ، وكان الذي عُفِيَ عنه في هذه الآية
مخشن ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل بيوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر انتهى .
وقال عِكْرِمَة : ممن إن شاء الله تعالى عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها ، تقشعر منها الجلود ، وتوجَل منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتيلاً في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت .
قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وُجِدَ غيره .
ومما روي في استهزائهم أن رجلاً من المنافقين قال : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى النبيّ صلوات الله عليه وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : { أَبِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآيَاتِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } الآية ، وهو متعلق بسيف الرسول ، وما يلتفت إليه صلى الله عليه وسلم .
قال الزجاج : الطائفة في اللغة أصلها الجماعة ، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة . انتهى .
وإيقاع الجمع على الواحد معروف في كلام العرب .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 67 ] .
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان ، كتشابه أبعاض الشيء الواحد . والمراد الإتحاد في الحقيقة والصفة . فمن اتصالية .
قال الزمخشري : أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم ، وتقرير قوله : وما هم منكم ، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله : { يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ } كالكفر والمعاصي ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } كالإيمان والطاعات : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي : بخلاً
بالمبرّات ، والإنفاق في سبيل الله ، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل ، كما أن بسطها كناية عن الجود ، لأن من يُعطي يمد يده ، بخلاف من يمنع { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } أي : أغفلوا ذكره وطاعته ، فتركهم من رحمته وفضله .
قال الشهاب : معنى : { نَسُوا اللَّهَ } أنهم لا يذكرونه ولا يطيعونه ، لأن الذكر له مستلزم لإطاعته ، فجعل النسيان مجازاً عن الترك ، وهو كناية عن ترك الطاعة ، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم .
قال النحرير : جعل النسيان مجازاً لاستحالة حقيقته عليه تعالى ، وامتناع المؤاخذة على نسيان البشر .
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الكاملون في الفسق ، الذي هو التمرد في الكفر ، والإنسلاخ عن كل خير .
وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم ، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول : كسلت ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : { كُسَالَى } فما ظنك بالفسق ؟ أفاده الزمخشري .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [ 68 ] .
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسبُهُمْ } أي : عقاباً وجزاءً : { وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي : لا ينقطع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } [ 69 ] .
{ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : أنتم مثل الذين أو فعلتم مثلهم ، أي : ممن أنعم عليهم ثم عذبوا ، والإلتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد { كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً } في أنفسهم { وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً } أي : تفيدهم مزيد قوة ، ومنافع جمة { وَأَوْلاداً } أي : تفيدهم
مزيد قوة لا تفوت بفوات المال ، ومنافع أخر { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ } أي : انتفعوا بنصيبهم ، ثم أعطاكم أيها المنافقون أقل مما أعطاهم { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } أي : دخلتم في الباطل ، كالخوض الذي خاضوه ، أو كالفوج الذي خاضوا { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } أي : لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين ، أم في الآخرة فظاهر ، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك { وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : الذين خسروا الدارين .
روى ابن جريج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والذي نفسي بيده ! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعاً بذراع ، وباعاً بباع ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه > . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : < فمن ؟ > وفي رواية قال أبو هريرة :
< اقرؤوا إن شئتم القرآن > : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية ـ قال أبو هريرة : الخَلاقُ : الدين ـ قالوا : يا رسول الله ! كما صنعت فارس والروم ؟ قال : < فهل الناس إلا هم > ؟ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح - أفاده ابن كثير - .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : أي : فائدة في قوله : { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ } ؟ وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ } مغن منه ، كما أغنى قوله : { كَالَّذِي خَاضُوا } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟ قلت : فائدته أن يذم الأولين بالإستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الإستمتاع ، ويهجن أمر الراضي به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماحة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله . وأما : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن ، باستناده إليه ، عن تلك التقدمة .
ثم وعظ تعالى المنافقين بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 70 ] .
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ } أي : بطريق التواتر { نَبَأُ } أي : خبر { الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم لكفرهم { قَوْمِ نُوحٍ } أنعم عليهم بنعم ، منها تطويل أعمارهم ، ثم أهلكوا بالطوفان { وَعَادٍ } قوم هود ، أنعم عليهم بنعم منها مزيد قوتهم ، ثم أهلكوا بالريح { وَثَمُودَ } قوم صالح ، أنعم عليهم بنعم ، منها القصور ، ثم أهلكوا بالرجفة { وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ } أهلكوا بالهدم - كذا في " التنوير " .
وقال المهايمي : أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك ، ثم أهلك ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه { وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ } قوم شعيب ، أنعم عليهم بنعم ، منها التجارة ، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } قريات قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي : انقلبت بهم ، فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارة من سجيل .
وقوله تعالى : { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } استئناف لبيان نبئهم ، أن جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : بإهلاكه إياهم ، لأنه قام عليهم الحجة ، بإرسال الرسل ، وإزاحة العلل .
والفاء للعطف على مقدَّر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام ، أي : فكذبهم فأهلكهم الله تعالى ، فما ظلمهم بذلك { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : بالكفر والتكذيب ، وترك شكره تعالى ، وصرفهم نعمه إلى غيره ما أعطاهم إياهم لأجله ، فاستحقوا ذلك العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 71 ] .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } في مقابلة قوله في المنافقين ، { بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ } أي : فلا يزالون يذكرونه تعالى ، فهو في مقابلة ما سبق من قوله
{ نَسُوااللَّهَ }
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } بمقابلة قوله : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } { وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في كل أمر ونهي ، وهو بمقابلة وصف المنافقين ، بكمال الفسق والخروج عن الطاعة : { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 72 ] .
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي : من تحت شجرها ومسكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن { خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : منازل حسنة تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش ، { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : إقامة وثبات ويقال : { عَدْنٍ } علم لموضع معين في الجنة ، لآثارٍ فيه ، ولما كان
{ وَمَسَاكِنَ } معطوفاً على : { جَنَّاتٍ } ، قيل : إن المتعاطفين إما أن يتغايرا بالذات ، فيكونوا وُعِدُوا بشيئين ، وهما الجنات بمعنى البساتين ومساكن في الجنة ، فلكل أحد جنة ومسكن ، أو الجنات المقصود بها غير عدن ، وهي لعامة المؤمنين ، وعَدْنٍ للنبيين عليهم الصلاة والسلام ، والشهداء والصديقين ، وإما أن يتحدا ذاتاً ويتغايرا صفة ، فينزل التغاير الثاني منزلة الأول ، ويعطف عليه ، فكل منهما عام ، ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين ، والثاني باعتبار الدور والمنازل .
قال القاضي : فكأنه وصف الموعود أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم ، أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش ، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا ، وفيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين .
ثم وصفه بأنه دار إقامة وثذكر ، ي جوار العلّيين ، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيّر ، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة ، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة ، لعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود ، ولأنه مستمر في الدارين . أفاده أبو السعود .
وإيثار رضوان الله على ما ذكر ، إشارة إلى إفادة أن قدراً يسيراً منه خير من ذلك .
وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنة : < يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ؛ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبداً > .
وروى المحاملي والبزار عن جابر ، رفعه : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله عزَّ وجلَّ : < هل تشتهون شيئاً فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ! ما هو خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر > .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : لا ما يعدّه الناس فوزاً من حظوظ الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 73 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } قيل : مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف .
قال في " العناية " : ظاهر الآية يقتضي مقاتلة المنافقين ، وهم غير مظهرين للكفر ، ونحن مأمورون بالظاهر ، فلذا فسر الآية السلفُ بما يدفع ذلك ، بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى ، سواء كان بالقتال أو بغيره ، وهو إن كان حقيقة فظاهر ، وإلا حمل على عموم المجاز ، فجهاز الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج ، وإزالة الشبه ونحوه ، أو بإقامة الحدود عليهم ، إذا صدر منهم موجبها ، كما روي عن الحسن في الآية .
وقيل عليه بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضاً ، وأجيب بأنها في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم . انتهى .
قال ابن العربي : هذه دعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامناً ، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً ، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين .
وقال ابن كثير : روي علن عليّ رضي الله عنه قال : بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف ، سيف للمشركين : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } ، وسيف للكفار أهل الكتاب : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } الآية ، وسيف للمنافقين : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } ، وسيف للبغاة : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الآية ، وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير . انتهى .
وفي " الإكليل " استدل بالآية من قال بقتل المنافقين . انتهى .
{ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } أي : اشدد على كلا الفريقين بالقول والفعل { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [ 74 ] .
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } أي : فيك شيئاً يسوءُك { وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جهني وأنصاري ، فعلا الجُهَنِي على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصرون أخاكم ! والله ، ما مثلنا ومثل محمد إِلّا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلّ ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .
وروى الأموي في " مغازيه " عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت
ـ وكان ممن تخلف من المنافقين - لما سمع ما ينزل فيهم قال : والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول ، لنحن شرٌّ من الحمير ، فسمعها عمير بن سعد ، وكان في حجره ، فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليّ ، وأحسنهم عندي بلاءً ، وأعزهم عليّ أن يصله شيئاً تكرهه ، ولقد قلت مقالة ، فإن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكنّي ، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى .
فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قالها ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيه : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } الآية ، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع .
وهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا ، كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مكفرة لهم مما هو من هذا القبيل ، وإن لم يمكنّا تعيين شيء منها في هذه الآية .
وقوله تعالى : { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } قال ابن كثير : قيل أنزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته ، لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبيّ صلوات الله عليه .
وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو في غزوة تبوك ، في بعض تلك الليالي ، في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلاً .
قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية .
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد .
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ، ويسوق به عمّار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، غشوا عماراً ، وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة : < قُدْ ، قُدْ > ، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ، ورجع عمار ! فقال : يا عمار ! هل عرفت القوم ؟ فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون .
قال : هل تدري ما أرادوا ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه . فقل : فسابَّ عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < نشدتك بالله ، كم تعلم كان أصحاب العقبة > ؟ قال : أربعة عشر رجلاً . فقل : < إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر > .
قال فعدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة ، قالوا : والله ما سمعنا مناديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما علمنا ما أراد القوم .
فقال عمار : أشهد أن الإثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
{ وَمَا نَقَمُوا } أي : ما أنكروا وما عابوا { إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } فإنهم كانوا قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة في ظنك من العيش ، فأثروا بالغنائم ، وقتل للجلاس مولى ، فأمر له النبيّ صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى .
والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب ، فجعلوا موضع شكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما همّوا به ، ولا ذنب إلا تفضله عليهم ، فهو على حد قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك ، وقول ابن قيس الرقيّات :
~ما نَقِمَ الناسُ من أُمَيَّة إلا أنَّهم يحملُونَ إنْ غضِبُوا
وقول النابغة :
~ولا عيْب فيهِم غيرَ أنَّ سُيوُفهُم بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكتائب
ويقال : نقم من فلان الإحسان ، كعلم إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة كما في " التاج " .
ثم دعاهم تعالى إلى التوبة بقوله : { فَإِنْ يَتُوبُوا } أي : من الكفر والنفاق { يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا } أي : بالقتل والهم والغم { وَالْآخِرَةِ } أي : بالنار وغيرها { وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ } أي : يشفع لهم في دفع العذاب .
{ وَلا نَصِيرٍ } أي : فيدفعه بقوته .
ثم يبين تعالى بعض مَنْ نقم لإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله ، ممن نكث في يمينه ، وتولى عن التوبة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ 75 ] .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } أي : حلف { لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : بإعطاء كل ذي حق حقه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ 76 ] .
{ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا } أي : من العهد : { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكَذِبُونَ } [ 77 ] .
{ فَأَعْقَبَهُمْ } أي : فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك ، أو فأورثهم البخل { نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } أي : من التصدق والصلاح { وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ } في العهد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [ 78 ] .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } أي : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين { وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } أي : ما غاب عن العباد .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " لباب النقول " : أخرج الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في " الدلائل " بسند ضعيف عن أبي أمامة ، أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ! ادع الله أن يرزقني مالاً . قال : < ويحك يا ثعلبة ! قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه > . قال : والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه . فدعا له ، فاتخذ غنماً ، فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة ، فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة ، فتنحى بها ، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها ، ثم نمت ، فتنحى بها ، فترك الجمعة والجماعات ، ثم أنزل الله على رسوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ، فاستعمل على الصدقات رجلين ، وكتب لهما كتاباً ، فأتيا ثعلبة ، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : انطلقا إلى الناس ، فإذا فرغتم فمروا بي ففعلا ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، فانطلقا ، فأنزل الله : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } إلى قوله : { يَكْذِبُونَ } الحديث .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ، وفيه أنه جاء بعدُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته له : < إن الله منعني أن أقبل منك > ، فجعل التراب على رأسه . فقال : < هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني > ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وكذا عمر وعثمان ، ثم إنه هلك في أيام عثمان .
قال الشهاب : مجيء ثعلبة وحثوه التراب ، ليس للتوبة من نفاقه ، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين ، وقوله صلوات الله عليه : < هذا عملك > ، أي : جزاء عملك ، وهو عدم إعطائه المصدقين ، مع مقالته الشنعاء .
قال الحاكم : إن قيل : كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق ؟ أجيب :
بأنه يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك ، كيلا يجترئ الناس على نقض العهد ، ومخالفة أمر الله تعالى ، وردّ سعاة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون لطفاً في ترك البخل والنفاق .
الثاني : قال بعض المفسرين من الزيدية : ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام :
منها : أن الوفاء بالوعد واجب ، إذا تعلق العهد بواجب ، والعهد إن حمل على اليمين بالله ، فذلك ظاهر ، وإن حمل النذر ، ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله .
ومنها : أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحةٍ ، أي : يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه شابه الوجهَ الذي حصل في قصة ثعلبة . انتهى .
الثالث : قال السيوطي في " الإكليل " : فيها أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق ، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان .
وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه لقوله : { فَاَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا فلله علي كذا ، أنه يلزمه .
وآخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه ، كما فعل بمن نزلت الآية فيه . انتهى .
الرابع : قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورث النفاق ، فيجب على المسلم أن يبالغ في الإحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به .
ومذهب الحسن البصري رحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية ، وبقوله عليه السلام : < ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان > .
الخامس : دل قوله تعالى : { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } على أن ذلك المعاهد مات منافقاً .
قال الرازي : وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له ، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال : < إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك > . وبقي على تلك الحالة ، وما قَبِلَ أحدٌ من الخلفاء رضي الله عنهم صدقته حتى مات ، فكان إخباراً عن غيب ، فكان معجزاً .
السادس : الضمير في يلقونه للفظ الجلالة ، والمراد باليوم يوم القيامة ، وله نظائر كثيرة في التنزيل .
وأعرب بعض المفسرين حيث قال : الضمير في يلقونه
إما لله ، والمراد باليوم وقت الموت ، أو للبخل والمراد يوم القيامة والمضاف محذوف ، وهو الجزاء . انتهى .
واللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاءً مناسباً لحالهم من وقوفهم للحساب مع حجبهم عنه تعالى ، لأنهم ليسوا أهلاً لرؤيته ، تقدس اسمه .
وإذا أضيف إلى المؤمنين ، كما في قوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } ، كان لُقْياًَ مناسباً لمقامهم من رؤيته تعالى ، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين ، مما يتنزل مثل ذلك عليها .
فمن وقف في بعض الآيات على لفظة ، وأخذ يستنبط منها ، ولم يراع من استعملت فيه ، وأطلقت عليه ، كان ذلك جموداً وتعصباً ، لا أخذاً بيد الحق .
نقول ذلك ردّاً لقول الجبائي : إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تعالى ، للإجماع على أن الكفار لا يرونه تعالى ، فلا يفيدها أيضاً في قوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } .
وللرازي معه مناقشة من طريق أخرى . وما ذكرناه أمتن . والله أعلم .
السابع : قال الرازي : السر ما ينطوي عليه صدورهم ، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجو ، وهو الكلام الخفي ، كأن المتناجييْن مَنَعَا إدخال غيرهما معهما ، وتباعدا من غيرهما .
ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعاً آخر ، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 79 ] .
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } أي : يعيبون { الْمُطَّوِّعِينَ } أي : المتبرعين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } فيزعمون أنهم تصدقوا رياءً { وَالَّذِينَ } أي : ويلمزون الذين { لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ } أي : لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلاً ، وهو مقدار طاقتهم .
{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } أي : يهزؤون بهم ، ويقولون إن الله غنّي عن صدقتهم ، { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } أي : جازاهم على سَخَرهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
روى البخاري في " صحيحه " عن أبي
مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة ، كنا نحامل فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغنيّ عن صدقة هذا ، فنزلت : { الْذِينَ يَلْمِزُنَ } الآية ، رواه مسلم أيضاً .
وروى الإمام أحمد عن أبي السليل ، عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من يتصدق بصدقة أشهدُ له بها يوم القيامة > ؟ فجاء رجل لم أرى رجلاً أشدّ منه سواداً ، ولا أصغر منه ولا أدمّ ، بناقة لم أر أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه ، فو الله لهي خير منه ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < كذبت ! به هو خير منك ومنها ثلاث مرات > ، ثم قال : < ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا > ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله .
قال ابن إسحاق : كان المطّوّعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي أخا بني عجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصدقة ، وحضّ عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عديّ وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوها وقالوا : ما هذا إلا رياءًَ .
وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ، أخا بني أُنَيْف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل .
وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً > ، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ! عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما لربي ، وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت > .
وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ! أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال ، فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً ، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله الآية .
وقوله صلى الله عليه وسلم < أريد أن أبعث بعثاً > أي : لغزو الروم ، وَذَلك في غزوة تبوك .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين . انتهى .
الثاني : في : { الَّذيِنَ يَلْمِزُونَ } وجوه الإعراب : خير مبتدأ بتقدير : { هُمُ الَّذيِنَ } أو مفعول أعني أو أذم الذين ، أو مجرور بدل من ضمير : { سِرَّهُم } ، وجوَّز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره : { سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ } ، وقيل : { فَيَسْخَرُونَ } ، ودخلت الفاء لما في الذين من الشبه بالشرط . وأما : { الَّذيِنَ لَا يَجِدُونَ } الخ فقيل : معطوف على : { الَّذيِنَ يَلْمِزُونَ } وقيل : على : { الْمُؤْمِنِينَ } ، والأحسن أنه معطوف على المطوعين .
قال في " الفتح " : ويكو من عطف الخاص على العام ، والنكتة فيه التنويه بالخاص ، لأن السخرية من المقلّ أشدّ من المكثر غالباً .
الثالث : قال في " الفتح " : قراءة الجمهور : { الْمُطَّوِّعِينَ } بتشديد الطاء والواو . وأصله المتطوعين ، أدغمت التاء في الطاء . انتهى .
أي : لقرب المخرج ، والتطوع التنفّل ، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب .
والجهد ، قال الليث : هو شيء قليل يعيش به المقلّ ، وبضم الجيم قرأ الجمهور . وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد .
وقيل : المفتوح بمعنى المشقة ، والمضموم بمعنى الطاقة ، وقيل : المضموم قليل يعاش به ، والمفتوح : العمل .
والمختار أنهما بمعنى ، وهو الطاقة وما تبلغه القوة . قال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغيرهم . والهزء والسخرية بمعنى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 80 ] .
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المنافقين { أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي : فإنما في حقهما سواء .
ثم بيّن استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الإستغفار بقوله تعالى : { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ } أي : عدم الغفران لهم { بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن حدوده .
تنبيهات :
الأول : جملة قوله تعالى : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الخ ، إنشائية لفظاً ، خبرية معنى .
والمراد التسوية بين الإستغفار لهم ، وتركه ، في استحالة المغفرة .
وتصويره بصورة
الأمر ، للمبالغة في بيان استوائهما ، كأنه عليه الصلاة والسلام أمر بامتحان الحال ، بأن يستغفر تارة ، ويترك أخرى ، ليظهر له جلية الأمر ، كما مر في قوله تعالى :
{ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } ، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقون في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
الثاني : قال الزمخشري : السبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير . قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
~لأَصْبَحَنَّ العاصَ وابن العاصِي سَبْعِينَ أَلْفاًَ عَاقِدِي النَّوَاصِي
أي : فذكرها للمبالغة في حسم مادة الإستغفارلهم ، جريا على أساليب العرب في ذكرها للمبالغة لا للتحديد ، بأن يكون ما زاد عليها بخلافها .
وقال أبو السعود : شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير ، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد ، فكأنها العدد بأسره .
وقيل : هي أكمل الأعداد ، لجمعها معانيها ، ولأن الستة أول عدد تامّ ، لتعادل أجزائها الصحيحة ، إذ نصفها ثلاثة ، وثلثها اثنان ، وسدسها واحد ، وجملتها سبعة ، وهي مع الواحد سبعة ، فكانت كاملة ، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال ، ثم السبعون غاية الكمال ، إذ الآحاد غايتها العشرات ، والسبعمائة غاية الغايات - انتهى .
الثالث : روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما أراد أن يصدّه عن الصلاة على عبد الله بن أبيّ : إنما خيّرني الله فقال : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية ، وسأزيده على السبعين .
فظاهر هذا أن أو للتخيير ، وأن السبعين له حدٌ يخالفه حكم ما وراءه ، وهو من الإشكال بمكان .
ولذا قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ؟ والذي يفهم من هذا العدد كثرة الإستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا } الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم ، حتى قال : قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين .
ثم أجاب الزمخشري بقوله : قلت لم يخف
عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، كقول إبراهيم عليه السلام : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وفي إظهار النبيّ صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض . انتهى .
قال الشراح : يعني أنه أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير ، فجوّز الإجابة بالزيادة قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة ، كما جعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم جزاء من عصاني أي : لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام .
قولَه : { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } دون أن يقول : شديد العقاب ، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم ، وحثّاً على الإتباع .
وفهمُ المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه ، لا ينافي فصاحته ، ومعرفته باللسان فإنه لا خطأ فيه ، ولا بعد ، إذ هو الأصل ، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم ، ورأفته بهم ، واستعطاف من عداهم .
قال الناصر : وقد أنكر القاضي رضي الله عنه حديث الإستغفار ، ولم يصححه وتغالى قوم في قبوله ، حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة ، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفي الغفران بالسبعين ، ثبوت الغفران بالزائد عليه ، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم وقيل : لما سوى الله بين الإستغفار وعدمه ، ورتب عليه عدم القبول ، ولم ينه عنه ، فهم أنه خير ومرخص فيه ، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم ، لا أنه فهم التخيير من أو ، حتى ينافي التسوية بينهما ، المرتب عليها عدم المغفرة ، وذلك تطيباً لخاطرهم ، وأنه لم يأل جهداً في الرأفة بهم .
قال الشهاب : والتحقيق أن المراد التسوية في عدم الفائدة ، وهي لا تنافي التخيير ، ثبت فهو بطريق الإقتضاء ، لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما ، فلا بد من أحدهما ، فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } ، لأنه مأمور بالتبليغ ، وقد يكون في النفي كما هنا ، وفي قوله : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ } الآية ، فهو محتاج إلى البيان ، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إنه رخص لي > ، ولعله رخص له في ابن أبيّ لحكمة ، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : روى عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < لأزيدنّ على السبعين > ، فأنزل الله تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ }
ثم قال : ويحتمل أن تكون الأيتان معاً نزلتا في ذلك . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن ، والكراهة مكان الرضا . بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [ 81 ] .
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، المخلفون : هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، فأذن لهم في التخلف كما قلنا ، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك .
وإيثار : { الْمُخَلَّفُونَ } على المتخلفون ، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج ، فغلب على غيرهم ، أو المراد من خلفهم كسلُهم أو نفاقهم ، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك ، وحملهم عليه .
وقوله تعالى : { بِمَقْعَدِهِمْ } متعلق بفرح ، أي : بقعودهم عن غزوة تبوك . فمقعد على هذا ، مصدر ميميّ ، أو هو اسم مكان ، والمراد به المدينة .
وقوله : { خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ } أي : خلفه ، وبعد خروجه ، حيث خرج ولم يخرجوا .
فخلاف ظرف بمعنى خلف وبعد .
يقال : فلان أقام خلاف الحي أي : بعدهم ، ظعنوا ولم يظعن ، ويؤيده قراءة من قرأ : { خلف رسول الله } ، فانتصابه على أنه ظرف لمقعدهم ، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك .
قال الشهاب : واستعمال خلاف بمعنى خلف ، لأن جهة الخلف خلاف الأمام ، وجوز أن يكون الخلاف بمعنى المخالفة ، فهو مصدر خالف ، كالقتال ، ويعضده قراءة من قرأ ( خُلف رسول الله ) بضم الخاء ، وفي نصبه وجهان :
الأول : أنه مفعول له ، والعامل إما فرح ، أي : فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود ، وإما مقعدهم ، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم ، فهو علة إما للفرح أو للقعود .
والثاني : أنه حال ، والعامل أحد المذكورين ، أي : فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود ، أو فرحوا بالقعود مخالفين له .
وقوله تعالى : { وَكَرِهُوا } الخ أي : لما في قلوبهم من مرض النفاق .
قال أبو السعود : وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وَكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو ، إيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله ، مع كونه من أجلّ الرغائب ، وأشرف المطالب ، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح ، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } تعريض بالمؤمنين ، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى ، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى ، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض ـ أي : الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب ـ وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه ؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإيقان .
قال الشهاب : ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه ، لا كالمؤمنين الذين أحبوه .
وقوله تعالى : { وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } أي : قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر ، فإنه لا يستطاع شدته .
وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، وذلك تثبيتاً لهم على التخلف ، وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد ، أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد ، ونهياً عن المعروف ، وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد ، ونهي الغير عن ذلك - أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى : { قُلْ } أي : ردّاً عليهم وتجهيلاً لهم : { نَارُ جَهَنَّمَ } أي : التي ستدخلونها بما فعلتم : { أَشَدُّ حَرّاً } أي : مما تحذرون من الحرّ المعهود ، وتحذّرون الناس منه ، فما لكم لا تحذرونها ، وتعرضون أنفسكم لها ، بإيثار القعود على النفير .
وقوله تعالى : { لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } اعتراض تذييلي من جهته تعالى ، غير داخل تحت القول المأمور به ، مؤكد لمضمونه .
وجواب لو إما مقدر ، أي : لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي ، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزام ، وإما غير منويّ ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ علن امتناع تحقق مدخولها ، أي : لو كانوا من أهل والفقه الفطانة ، كما في قوله تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْأياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ }
كذا في أبي السعود .
تنبيهان :
الأول : قال الزمخشري : قوله تعالى : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ } الخ ، استجهال لهم ، لأن من تصوّن من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم :
~مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم ، أريها شبَه الصاب
~فكيف بأن تلقي مسرة ساعة وراء تقضيها مساءةُ أحقاب
- انتهى -
أي : فهم كما قال الآخر :
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال آخر :
~عمرك بالحمية أفنيته خوفاً من البارد والحار
~وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حَذر النار
الثاني : روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءاً > ، زاد الإمام أحمد :
< من نار جهنم > .
وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
< إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة ، لَمَن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه ، وإنه أهونهم عذاباً > .
ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل ، والبكاء الطويل ، المؤدي إليه أعمالهم السيئة ، التي من جملتها ما ذكر من الفرح ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 82 ] .
{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً } أي : ضحكاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً ، غايته مدة حياتهم
{ وَلْيَبْكُوا كَثِيراً } أي : بكاءً ، أو زماناً كثيراً ، بعد الموت ، أبد الآباد { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : بفرحهم بمخالفة الله ورسوله ، من الكفر والمعاصي العظائم .
لطائف :
الأولى : سرّ إخراج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر ، الدالة على تحتم وقوع المخبر به ، فإنه أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به ، فإن قيل : إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة ، لاقتضائه تحقق المأمور به ، فالخبر آكد ، فما باله عكس هنا ؟
فالجواب : لا منافاة بينهما ، لأن لكل مقام مقالاً ، والنكت لا تتزاحم ، فإذا عبر عن الأمر بالخبر ، لإفادة أن المأمور ، لشدة امتثاله ، كأنه وقع منه ذلك ، وتحقق قبل الأمر كان أبلغ .
وإذا عبر عن الخبر بالأمر كأنه لإفادة لزومه ووجوبه ، فكأنه مأمور به ، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى .
الثانية : الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } دلالة على الإستمرار التجددي ما داموا في الدنيا .
الثالثة : جزاءً مفعول له للفعل الثاني ، أي : ليبكوا جزءاً ، أو مصدر حذف ناصبه ، أي : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزءاً .
ولما جلَّى سبحانه ما جلى من أمرهم ، فرّع عليه قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } [ 83 ] .
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ } أي : ردّك من غزوة تبوك { إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } أي : من المنافقين المتخلفين في المدينة { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك ، دفعاً للعار السابق { فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : فخذلكم الله ، وسقطتم عن نظره ، بل غضب عليكم ، وألزمكم العار .
{ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } أي : من النساء والصبيان دائماً .
لطائف :
قوله تعالى : { لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً } إخبار في معنى النهي للمبالغة ، وذكر القتال لأنه المقصود من الخروج ، فلو اقتصر على أحدهما كفى إسقاطاً لهم عن مقام الصحبة ، ومقام الجهاد ، أو عن ديوان الغزاة ، وديوان المجاهدين ، وإظهاراً لكراهة صحبتهم ، وعدم الحاجة إلى عدّهم من الجند ، أو ذكر الثاني للتأكيد ، لأنه أصرح في المراد ، والأول لمطابقته لسؤاله كقوله :
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
فهو أدل على الكراهة لهم - أفاده الشهاب - .
قال أبو السعود فكان محوُ أساميهم من دفتر المجاهدين ، ولزّهم في قرن الخالفين ، عقوبة لهم أي : عقوبة .
ثم قال : وتذكير إسم التفضيل المضاف إلى المؤنث ، هو الأكثر الدائر على الألسنة . فإنك لا تكاد تسمع قائلاً يقول : هي كبرى امرأة ، أو أُولى مرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ 84 ] .
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً } قال المهايمي : لأنها شفاعة ، ولا شفاعة في حقهم { وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } أي : لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء .
قال الشهاب : القبر مكان وضع الميت ، ويكون بمعنى الدفن ، وجوّز هنا :
{ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } في الحياة في الباطن { وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن الإيمان الظاهر ، الذي كانوا به في حكم المؤمنين .
تنبيهات :
الأول : روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفي عبد الله ابن أبيّ ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن
يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! تصلي عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنما خيرني الله فقال : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وسأزيده على السبعين > . قال : إنه منافق . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ آية : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ } الخ .
قال الحافظ أبو نعيم : وقع في رواية في قول عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين ؟ ، ولم يبيّن محل النهي ، فوقع بيانه في رواية أبي ضَمْرَة عن العمري : وهو أن مراده بالصلاة عليهم الإستغفار لهم ، ولفظه : وقد نهاك الله أن تستغفر لهم . انتهى .
يعني في قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } ، فإنها نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم : < لأستغفرنّ لك ، ما لم أُنْهَ عنك > . وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً ، ووفاة عبد الله بن أبيّ في ذي القعدة ، سنة تسع بعد قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك . كذا في " فتح الباري " .
ووقع في مسند الإمام أحمد ما تقدم من حديث عمر نفسه .
قال عمر : لما توفي عبد الله بن أبيّ دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام عليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه ، تحولت حتى قمتُ في صدره فقلت : يا رسول الله ! أعلى عدوّ الله : عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا ، كذا وكذا ؟ يعدّد أيامه ، قال : و رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : < أَخِّرْ عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي : { اسْتَغَفِرْ لَهُمْ } الآية ، لو أعلم أني لو زدت على السبعين ، غُفِرَ له ، لزدت > .
قال : ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره ، حتى فرغ منه . قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم .
قال : فوالله ! ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً } الآية ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ .
ورواه البخاري والترمذي أيضاً .
وروي الإمام أحمد عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبيّ ، أتى ابنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إِنك إِن لمحفرته ، م نزل نُعيَّر به ، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجده قد أدخل في حفرته فقال : < أَفَلَا قَبْلَ أن تدخلوه ؟ > فأخرج من حفرته ، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه . ورواه النسائي ، وروى نحوه البخاري والبزار في مسنده ، وزاد : فأنزل الله الآية .
زاد ابن إِسحاق في " المغازي " بسنده قال : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله ، ولا قام على قبره .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإِن أُثْنِيَ عليها خير قام فصلى عليها ، وإِن كان غير ذلك ، قال لأهلها : < شأنكم بها > . ولم يصل عليها .
الثاني : إِنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إِذا مات ، لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له ، والكافر ليس بأهل لذلك .
الثالث : قال : السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ } الآية ، تحريم الصلاة على الكافر ، والوقوف على قبره ، وأن دفنه جائز ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ، ومشروعية الوقوف على قبره ، والدعاء له ، والإستغفار . انتهى .
قال عثمان رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه وقال : < استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإِنه الآن يُسْأل > . - انفرد بإِخراجه أبو داود - .
الرابع : قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين ، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم .
قال الواقدي : أنبأنا معمر عن الزهري قال : حذيفة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إِني مُسِرٌّ إليك سراً ، فلا تذكره لأحد ، إِني نهيت أن أصلي على فلان ، رهطٍ ذوي عدد من المنافقين > .
قال ، فلذلك كان عمر إِذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة ، فإِن مشى معه ، وإِلا لم يصلّ عليه .
ومن طريق أخرى ، عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلاً .
وقال حذيفة مرة : إِنه لم يبق منهم غير رجل واحد . ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك ، أن الله علم أنهم يموتون على الكفر ، بخلاف من سواهم ، فإِنهم تابوا . انتهى .
ثم بين تعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إِعطاءهم الأموال والأولاد ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ 85 ] .
{ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ } أي : لأنه لم يرد الله الإِنعام عليهم بها ، ليدل على رضاه عنهم ، بل الإنتقام منهم ، قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا } أي : بالمشقة في تحصيلها وحفظها والحزن عليها { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب .
وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها .
قال الزمخشري : أعيد قوله : { وَلا تُعْجِبْكَ } ، لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإِرادة أن يكون على بالٍ من المخاطب لا ينساه ، ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم ، يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يحب أن يحذر منه . انتهى .
وقال الفارسي : ليست للتأكيد ، لأن تيك في قوم وهذه في آخرين . وقد تغاير نطقها ، فهنا : { وََلَا } ، بالواو لمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله : { وَلَا تُصَلَّ } الخ ، فناسب الواو ، وهناك بالفاء لمناسبة التعقيب لقوله قبله :
{ وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } أي : للإنفاق . فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهى عن الإعجاب المتعقب له . وهنا : وأولادهم ، دون لا ، لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة لا ، لأنه نهي كل واحدٍ واحدٍ ، فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين ، وهنا : { أَنْ يُعَذِّبَهُمْ } وهناك
{ لِيُعَذَبَهُمْ } بلام التعليل وحذف المفعول ، أي : إنما يريد اختيارهم بالأموال والأولاد ، وهنا المراد التعذيب ، فقد اختلف متعلق الإرادة فيهما ظاهراً ، وهناك : { فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، وهنا : { فِي الدُّنْيَا } ، تنبيهاً على أن حياتهم كَلَا حياة فيها ، وناسب ذكرها بعد الموت ، فكأنهم أموات أبداًَ . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [ 86-87 ] .
وقوله تعالى :
{ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَعليها َطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه ، مع وجود الطَّول الذي هو الفضل والسعة ، وإخبار بسوء صنيعهم ، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف ، لحفظ البيوت ، وهن النساء ، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله ، وأنه بسبب ذلك .
{ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : ختم عليها { فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } ، أي : ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والهلاك .
فوائد :
الأولى : قال الزمخشري : يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها ، في قوله : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ } كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه .
وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد . انتهى .
وقيل : المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد .
قال الشهاب : وهذا أولى وأفيد ، لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مرّ . وقد قيل : إن إِذا تفيد التكرار بقرينة المقام لا بالوضع ، وفيه كلام مبسوط في محله .
الثانية : إِنما خص ذوي الطَّول ، لأنهم المذمومون ، وهم من له قدرة مالية ، ويعلم منه البدنية أيضاً بالقياس .
الثالثة : الخوالف : جمع خالفة ، وهي المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال ، والمراد ذمهم وإِلحاقهم بالنساء ، كما قال :
~كُتِبَ القتلُ والقِتال علينا وعلى الغانيَات جرُّ الذيولِ
والخالفة تكون بمعنى من لا خير فيه ، والتاء فيه للنقل للإسمية ، فإن أريد هاهنا ، فالمقصود من لا فائدة فيه للجهاد .
وجمع على فواعل على الوجهين : أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلتأنيث لفظه ، لأن فاعلاً لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور ، إلا شذوذاً ، كنواكس ، أفاده الشهاب .
ثم بيّن تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن ، والمثوبة الحسنى ضد أولئك ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 88 ] .
{ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أي : في سبيل الله ، لغلبة حب الله عليهم ، على حب الأموال والأنفس { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } أي : منافع الدارين ، النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة والكرامة في العقبى { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الفائزون بالمطلوب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 89 ] .
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : الذي لا فوز وراءه .
ثم بيّن تعالى أحوال منافقي الأعراب ، إثر بيان منافقي أهل المدينة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 90 ] .
{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } أي : في ترك الجهاد ، وهم أحياء ممن
حول المدينة . و : { الْمُعَذِّرُونَ } فيه قراءتان ، التشديد والتخفيف ، والمشددة لها تفسيران :
أحدهما : من عذر في الأمر ، إذا محتمل لأن يكون عذره باطلاً وحقاً ، وأصله
عليهما معتذرون ، نقلت فتحة التاء إلى العين ، وقلبت التاء ذالاً ، وأدغمت فيها .
وأما التخفيف فهي من أعذر إذا كان له عذر ، وهم صادقون على هذا .
وقوله تعالى : { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في دعوى الإيمان ، وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ، ولم يعتذروا ، بل قعدوا من قلة المبالاة بالله ورسوله .
ثم أوعدهم تعالى بقوله : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الضمير في
{ مِنْهُمْ } إما للإعراب مطلقاً ، فالذين كفروا منافقوهم ، أو أعم ، وإما للمعذرين ، فإن منهم من اعتذر لكسله ، لا لكفر ، وجوّز أن يكون المعنى بالذين كفروا منهم ، المصرون على الكفر .
ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشَخص لا ينفك عنه ، وما هو عارض عنَّ له بسبب مرض شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب عجزه عن التجهز للحرب ، وبدأ بالأول فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 91 ] .
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ } وهم العاجزون مع الصحة ، عن العدو ، وتحمل المشاق ، كالشيخ والصبي ، والمرأة والنحيف { وَلا عَلَى الْمَرْضَى } أي : العاجزين بأمر عرض لهم ، كالعمى والعرج والزمانة { وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ } أي : ولا على الأقوياء والأصحاء الفقراء ، والعاجزين عن الإنفاق في السفر والسلاح ، { حَرَجٌ } أي : إثم في القعود ، و الحرج أصل معناه الضيق ، ثم استعمل للذنب ، وهو المراد : { إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }
أي : أخلصوا الإيمان والعمل الصالح ، فلم يرجفوا ، ولم يثيروا الفتن وأوصلوا الخيرات للجاهدين ، وقاموا بصالح بيوتهم .
وقوله تعالى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } استئناف مقرر لمضمون ما سبق ، أي : ليس عليهم جناح ، ولا إلى معاتبتهم سبيل ، و مِنْ مزيدة للتأكيد ، ووضع
{ الْمُحْسِنِينَ } موضع الضمير ، للدلالة على انتظامهم ، بنصحهم لله ورسوله ، في سلك المحسنين ، أو تعليل لنفي الحرج عنهم ، أي : ما على جنس المحسنين من سبيل ، وهم من جملتهم أفاده أبو السعود .
قال الشهاب : ليس على محسن سبيل ، كلام جارٍ مجرى المثل ، وهو إما عامّ ، ويدخل فيه من ذكر ، أو مخصوص بهؤلاء ، فالإحسان : النصح لله والرسول ، والإثم المنفي إثم التخلف ، فيكون تأكيداً لما قبله بعينه على أبلغ وجه ، وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه لا سبيل لعاتب عليه ، أي : لا يمرّ به العاتب ، ويجوز في أرضه ، فما أبعد العتاب عنه ! فتفطن [ في المطبوع : فتقطن ] للبلاغة القرآنية كما قيل :
~سُقْياً لأيامنَا الَّتي سَلَفَتْ إِذ لا يَمُرُّ العذُولُ في بَلَدِي
وقوله تعالى : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر ، مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة ، وإن كان تخلفهم بعذر - أفاده أبو السعود ـ .
أي : لأن المرء لا يخلو من تفريط ما ، فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أولاً ، فما الإحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب ؟ أفاده الشهاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [ 92 ] .
{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } عطف على : { الْمُحْسِنِينَ } ، أو على
{ الضُّعَفَاءِ } أي : لتعطيهم ظهراً يركبونه إلى الجهاد معك { قُلْتَ } أي : لهم { لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : إلى الجهاد .
قوله تعالى : { تَوَلَّوْا } جواب إذا ، أي : خرجوا من عندك { وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } أي : في الحملان ، فهؤلاء وإن كانت لهم ، قدرة على تحمل المشاق ، فما عليهم من سبيل أيضاً .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ } الخ

رفع الجهاد عن الضعيف والمريض ، ومن لا يجد نفقة ولا أهبة للجهاد ولا محملاً . انتهى .
وقال بعض الزيدية : هذه الآية الكريمة قاضية بنفي الحرج ، وهو الإثم على ترك الجهاد لهذه الأعذار ، بشرط النصيحة لله ولرسوله ، أي : بأن يريد لهم ما يريد لنفسه .
- عن أبي مسلم - .
الثاني : قال الحاكم : في الآية دلالة على أن النصح في الدين واجب ، وأنه يدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والشهادات والأحكام والفتاوى وبيان الأدلة .
الثالث : قال ابن الفرس : يستدل بقوله تعالى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها .
وقال بعض الزيدية : يدل على أن المستودع والوصيّ والملتقط ، لا ضمان عليهم مع عدم التفريط ، وأنه لا يجب عليهم الرد ، بخلاف المستعير .
الرابع : دل قوله تعالى : { وَلَا عَلَى الَّذيِنَ } الخ ، على أن العادم للنفقة ، الطالب للإعانة ، إِذا لم تحصل له ، فلا حرج عليه ، وفيه إشارة إلى المعونة إذا بدلت له من الإمام ، لزمه الخروج .
الخامس : دلت الآية على جواز البكاء وإظهار الحزن على فوات الطاعة ، وإن كان معذوراً .
السادس : قوله تعالى : { تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ، و من للبيان ، كقولك : أفديك من رجل . ومحلّ الجار والمجرور النصب على التمييز - أفاده الزمخشري - .
السابع : روى ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب براءة ، فإني لواضع القلم على أذني ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ } الآية .
وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن مُغَفَّل بن مُقَرِّن المزني ، فقالوا : يا رسول الله ! احملنا . فقال لهم : < والله ! لا أجد ما أحملكم عليه ، >
فتولوا وهم يبكون ، وعزّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملاً ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ } .
وروى الإمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لقد خلفتم بالمدينة رجالاً ، ما قطعتم وادياً ، ولا سلكتم طريقاً ، إلا أشركوكم في الأجر ، حبسهم المرض > . ورواه مسلم .
ثم رد تعالى الملامة على المستأذنين في القعود وهم أغنياء ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ 93 ] .
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ } أي : بالعتاب والعقاب { عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ } أي : قادرون على تحصيل الأهبة { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } أي : من النساء والصبيان وسائر أصناف العاجزين ، أي : رضوا بالدناءة والضعة والإنتظام في جملة الخوالف .
قال المهايميّ : وهذا الرضا ، كما هو سبب العتاب ، فهو أيضاً سبب العقاب ، لأنه لما كان عن قلة مبالاتهم بالله ، غضب الله عليهم { وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : ما يترتب عليه من الصائب الدينية والدنيوية ، أو لا يعلمون أمر الله فلا يصدقون .
لطيفة :
قال الشهاب : اعلم أن قولهم : لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، معناه : لا حرج ولا عتاب ، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه ، فضلاً عن العتاب ، وإذا تعدى بإلى كقوله :
~ألَا لَيْْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أُمَّ سَالِمٍ سبيل ؟ فَأَمَّا الصبرُ عَنْهَا فَلَا صَبْرُ
فمعنى الوصول كما قال :
~هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
ونحوه ، فتنبه لمواطن استعماله ، فإنه من مهمات الفصاحة . انتهى .
ثم أخبر تعالى عما سيتصدون له عند القفول من تلك الغزوة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 94 ] .
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي : سدّاً للسبيل عليهم في التخلف : { قُلْ لا تَعْتَذِرُوا } أي : لظهور كذبكم ، إذ لم يمنعكم فقر ولا مرض ، ولا يفيدكم الاعتذار { لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ } أي : لن نصدق قولكم .
وقوله تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } تعليل لانتفاء التصديق ، أي : أعلمنا بالوحي من أسراركم ونفاقكم ، وفسادكم ما ينافي التصديق { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي : من الرجوع عن الكفر ، أو الثبات عليه ، علماً يتعلق به الجزاء { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : للجزاء بما ظهر منكم ، من الأعمال ووضعُ المظهر موضع المضمر ، لتشديد الوعيد ، وأنه تعالى مطلع على سرهم وعلنهم ، لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم ، فيجازيهم على حسب ذلك .
قال في " النبراس " : المراد بالغيب ما غاب عن العباد ، أو ما لم يعلمه العباد ، أو ما يكون ، وبالشهادة ما علمه العباد ، أو ما كان .
{ فَيُنَبِّئُكُمْ } أي : يخبركم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا ، قبل إعلامهم به .
وذكره لهم للتوبيخ .
قال أبو السعود : المراد بالتنبئة بذلك ، المجازاة به ، وإيثارها عليها ، لمراعاة ما سبق من قوله تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ } الخ ، فإن المنبأ به الأخبار المتعلقة بأعمالهم ، وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم ، وإنما يعلمونها حينئذ .
ثم أخبر تعالى عما سيؤكدون به معاذيرهم ، من أيمانهم الفاجرة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 95 ] .
{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ } أي : فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم .
{ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } أي : فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم ، يعني أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، وإنما يعاتب الأديمُ ذو البشَرةِ ، والمؤمن يوبَّخ على زلة تفرط منه ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والإستغفار ، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم - أفاده الزمخشري - .
وقال الشهاب : يعني أنهم يتركون ، ويجتنب عنهم كما تجتنب النجاسة ، وهم طلبوا إعراض الصفح ، فأعطوا إعراض مقت .
وقوله تعالى : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } من تمام التعليل ، فالعلة نجاسة جبلّتهم التي لا يمكن تطهيرها ، لكونهم من أهل النار ، فاللوم يغريهم ولا يجديهم ، والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل ، أو تعليل ثان يعني وكَفَتْهُمُ النار عتاباً وتوبيخاً ، فلا تكلفوا عتابهم .
وقوله تعالى : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } يجوز أن يكون مصدراً وأن يكون علة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ } [ 96 ] .
{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ } بل مما سبق ، وعدم ذكر المحلوف به لظهوره ، أي : يحلفون به تعالى : { لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } أي : باعتقاد طهارة ضمائرهم وإخلاصهم { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } فيه تبعيد عن الرضا عنهم على أبلغ وجه وآكده ، فإن الرضا عمن لا يرضى الله تعالى عنه ، مما لا يكاد يصدر عن المؤمن .
ثم أشار تعالى إلى أن منافقي الأعراب أشد رجساً فلا يغتر بحلفهم ، وإن لم يكذبهم الوحي ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 97 ] .
{ الْأَعْرَابُ } وهم أهل البدو { أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } أي : من أهل الحضر ، لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعدٍ من مشاهدة العلماء ، ومعرفة الكتاب
والسنة : { وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } أي : وأحق بجهل حدود الدين ، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر { حَكِيمٌ } أي : فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ، مخطئهم ومصيبهم ، من عقابه وثوابه .
لطائف :
الأولى : قال الشهاب : العرب ، هذا الجيل المعروف مطلقاً ، والأعراب سكان البادية منهم ، فهو أعم .
وقيل : العرب سكان المدن والقرى ، والأعراب سكان البادية من العرب ، أو مواليهم ، فهما متباينان ، ويفرق بين جمعه وواحده بالياء فيهما .
الثانية : ما ذكر في الآية من أجدرية جهل
الأعراب من بعدهم عن سماع الشرائع ، وملابسة أهل الحق ، يشير إلى ذم سكان البادية وهو يطابق ما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من سكن البادية جفا > ، وتتمته : < ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن > . وقوله صلى الله عليه وسلم : < إن الجفاء والقسوة في الفدادين > .
قال ثعلب : الفدادون أصحاب الوبر ، لغلظ أصواتهم ، وهم أصحاب البادية ، ويقال : من صحب الفدادين ، فلا دنيا نال ولا دين .
مأخوذ من الفديد ، وهو رفع الصوت أو شدته .
قال ابن كثير : ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي ، لم يبعث الله منهم رسولاً ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } .
ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فردّ عليه أَضعافها حتى رضي قال : < لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي > ، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب ، لما في طباع الأعراب من الجفاء .
الثالثة : روي الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو
يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي : والله ! إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني ! فقال زيد : ما يريبك من يدي ، إنها الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ! ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال ؟ فقال زيد من صوحان : صدق الله : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } .
ثم أشار تعالى إلى فريق آخر من منافقي الأعراب ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 98 ] .
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً } أي : يعدّ ما يصرفه في سبيل الله ، ويتصدق به صورةً ، غرامةَ وخسراناً ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياءً ، لا لوجه الله عزَّ وجلَّ ، وابتغاء المثوبة عنده .
والغرامة والمغرم والغُرم بالضم : ما ينفقه المرء من ماله وليس يلزمه ، ضرراً محضاً وخسراناً .
وقال الراغب : الغرم ما ينوب الْإِنْسَاْن في ماله من ضرر لغير جناية منه ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } أي : ينتظر بكم دوائر الدهر ـ جمع دائرة وهي النكبة والمصيبة تحيط بالمرء ـ ، فتربص الدوائر ، انتظار المصائب ، ليقلب أمر المسلمين ويتبدل ، فيخلصوا مما عدّوه مغرماً { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } اعتراض بالدعاء عليهم ، بنحو ما يتربصونه ، أو إخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم .
قال الشهاب : الدائرة إسم للنائبة ، وهي بحسب الأصل مصدر ، كالعافية والكاذبة ، أو إسم فاعل بمعنى عقبة دائرة ، والعقبة أصلها اعتقاب الراكبين وتناوبهما .
ويقال : للدهر عُقَب ونُوَب ودُوَل ، أي : مرة لهم ومرة عليهم .
والسوء يقرأ بضم السين وهو الضرر ، وهو مصدر في الحقيقة . يقال : سؤته سوءاً ومساءةًَ ومسائية ، ويقرأ بفتح السين وهو الإفساد والرداءة - قاله أبو البقاء - .
{ وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه { عَلِيمٌ } أي : بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي منها تربصهم الدوائر . وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .
ثم نوّه تعالى بمؤمني الأعراب الصادقين ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 99 ] .
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ } . امتثالاً لأمره ، وترجيحاً لحبه ، وقطعاً لحب ما سواه .
و : { قُرُبَاتٍ } مفعول ثان ليَتَّخِذُ ، وجمعها باعتبار أنواعها ، أو أفرادها .
قال الشهاب : القُربة بالضم ، ما يتقرب به إلى الله ، ونفس التقرب ، فعلى الثاني يكون معنى اتخاذها سبباً له ، على التجوز في النسبة أو التقدير .
و : { عِنْدَ اللَّهِ } صفة لقُرُبَاتٍ ، أي : ظرف ليَتَّخِذُ { وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } أي : سبب دعواته بالرحمة المكملة لقصوره ، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : < اللهم صلِّ على آل أبي أوفى > { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } الضمير لما ينفق ، والتأنيث باعتبار الخير ، والتنكير للتفخيم ، أي : قربة عظيمة جامعة لأنواع القربات ، يكملها الله بدعوة الرسول ، ويزيد على مقتضاها بما أشار إليه بقوله : { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } أي : جنته .
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } يستر عيب المخلّ : { رَحِيمٌ } يقبل جهد المقلّ .
قال الزمخشري : قوله تعالى : { ألَا إِنَّهَا } شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد ، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقاً لرجائه ، على الإستئناف ، مع حرفي التنبيه والتحقيق ، المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه .
وكذلك : { سَيُدْخِلُهمُ } وما في السين من تحقيق الوعد .
وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان ، إذا خلصت النية من صاحبها . انتهى .
وفيه " الإنتصاف " : النكتة في إشعار السين بالتحقيق أن معنى الكلام معها : أفعل كذا ، وإن أبطأ الأمر ، أي : لا بد من فعله ، قال الشهاب : وفيه تأمل .
ولما بيّن تعالى فضيلة مؤمني الأعراب بما تقدم ، تأثره ببيان من هم فوقهم بمنازل من الفضيلة والكرامة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 100 ] .
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } أي : ممن تقدم بالهجرة والنصرة . وقيل : عني بالفريق الأول من صلى إلى القبلتين ، أو من شهد بدراً ، أو من أسلم قبل الهجرة وبالثاني أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية ، وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير ، فعلمهم القرآن .
واختار الرازي الوجه الأول ، وقال : والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة ، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ، ولم يبين أنهم سابقون فلماذا ؟
فبقي اللفظ مجملاً ، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً ، وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه : { السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ } في الهجرة والنصرة ، إزالة للإجمال عن اللفظ .
وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة ، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ، ومخالف للطبع ، فمن أقدم عليه أولاً ، صار قدوة لغيره في هذه الطاعة ، وكان ذلك مقوّياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره ، وكذلك السبق في النصرة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم .
وقرئ ( الأنصارُ ) بالرفع ، عطفاً على السابقون .
{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } أي : سلكوا سبيلهم بالإيمان والطاعة { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } لأن الهجرة أمر شاق على النفس ، لمفارقة الأهل والعشيرة .
والنصرة منقبة شريفة ، لأنها إعلاء كلمة الله ، ونصر رسوله وأصحابه ، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم - قاله المهايمي - .
{ وَرَضُوا عَنْهُ } بما وفقهم إليه من الإيمان والإحسان ، وما آتاهم من الثواب والكرامة { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ } وذلك بدل ما تركوا من دورهم وأهليهم ، وبدل ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم ، ولغرسهم جنات القرب في قلوبهم ، وإجرائهم أنهار المعارف في قلوبهم وقلوب من اتبعوهم بهذه الهجرة والنصرة والإحسان - قاله المهايمي ـ .
وقرأ ابن كثير : { مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } كما هو في سائر المواضع .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } لتخليدهم هذا الدين بإقامة دلائله ، وتأسيس قواعده ، إلى يوم القيامة ، والعمل بمقتضاه ، واختيار الباقي على الفاني { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : الذي لا فوز وراءه .
تنبيهات :
الأول : قال في " الإكليل " : في هذه الآية تفضيل السابق إلى الإسلام والهجرة ، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم .
الثاني : قيل : المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار ، فمن بيانية لتقدمهم على من عداهم .
وقيل : بعضهم - وهم قدماء الصحابة - و من تبعيضية ، وقد اختار كثيرون الثاني ، واختلفوا في تعيينهم على ما ذكرناه أولاً ، ورأى آخرون الأول .
روي عن حميد بن زياد قال : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم ؟ وأرد الفتن - فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم .
قلت له : { والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ } الآية ، فأوجب للجميع الجنة والرضوان ، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسناً لا سوءاً .
أي : لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ } .
الثالث : قال الشهاب : تقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة ، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه ، لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [ 101 ] .
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ } يعني حول بلدتكم ، وهي المدينة { مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ }
أي : مرنوا ومهروا فيه وقوله عز شأنه { لا تَعْلَمُهُمْ } دليل لمرانتهم عليه ، ومهارتهم فيه ، أي : يخفون عليك ، مع علوّ كعبك في الفطنة وصدق الفراسة ، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية ، والتحامي عن مواقع التهم .
قال في " الإنتصاف " وكأن قوله تعالى : { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم ، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به . انتهى .
وقوله تعالى : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أي : لا يعلمهم إلا الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لما هم عليه من شدة الإهتمام بإبطان الكفر ، وإظهار الإخلاص .
وقوله تعالى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } للمفسرين في المرتين وجوه : إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدّونها مغرماً بحتاً ، ونهك الأبدان ، وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب .
وقال محمد بن إسحاق : هو - فيما بلغني عنهم - ما هم من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يُرَدُّون إليه ، عذاب الآخرة ، ويخلدون فيه .
قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم ، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه .
ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير ، كما في قوله تعالى : { فَارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي : كرة بعد أخرى ، لقوله تعالى : { أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ } .
تنبيه :
لا ينافي قوله تعالى : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } ، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً ، وإن كان يراه صباحاً ومساءً ، وشاهد هذا بالصحة ، ما رواه الإمام أحمد عن جبير
ابن مطعم رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : < لتأتينكم أجوركم ، ولو كنتم في حجر ثعلب > .
وأصغى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : < إن في أصحابي منافقين ، أي : يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له > .
وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء ، أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : الإيمان هاهنا ، وأشار بيده إلى لسانه والنفاق هاهنا ، وأشار بيده إلى قلبه ، ولم يذكر الله إلا قليلاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اللهم اجعل له لسانا ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، ارزقه حبي وحب من يحبني ، وصيّر أمره إلى خير > . فقال : يا رسول الله ! إنه كان لي أصحاب من المنافقين ، وكنت رأساً فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : < من أتانا استغفرنا له ، ومن أصرّ على دينه ، فالله أولى به ، ولا تخرقنّ على أحد ستراً > - ورواه الحاكم أيضاً - .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ، فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك ! قال نبيّ الله نوح عليه السلام : { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال نبي الله شعيب عليه السلام : { بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } . وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } .
لطيفة :
قوله تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } عطف على : { مِمَّنْ حَوْلَكُمْ } عطف مفرد على مفرد .
وقوله تعالى : { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، مسوقة لبيان علوّهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به ، وإما صفة للمبتدأ المذكور فصل بينها وبينه به عطف على خبره ، وإما صفة لمحذوف أقيمت هي مقامه ، وهو مبتدأ خبره .
{ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } والجملة عطف على الجملة السابقة ، أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق - أفاده أبو السعود - .
ولما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة ، رغبة عنها وتكذيباً وشكاً ، بيّن حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة ، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال عز شأنه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 102 ] .
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أي : أقروا بها ، وهي تخلفهم عن الغزو ، وإيثار الدعة عليه ، والرضا بسوء جوار المنافقين ، أي : لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم { خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً } كالندم وما سبق من طاعتهم { وَآخَرَ سَيِّئاً } كالتخلف عن الجهاد { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : يقبل توبتهم { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه .
تنبيهات :
الأول : أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه ، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلاك وقالوا : نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد ! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي يطلقها ، ففعلوا وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته فقال : < من هؤلاء الموثقون بالسواري > ؟ فقال رجل : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا ، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم . فقال : < لا أطلقهم ، حتى أومر بإطلاقهم > ، فأنزل الله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } ، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم ، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم ، لم يذكروا بشيء ، وهم الذين قال الله فيهم : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ } الآية ، فجعل أناس يقولون : هلكوا ، إذ لم ينزل عذرهم ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يتوب عليهم ، حتى نزلت : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } .
وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طحلة عن ابن عباس نحوه ، وزاد : فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا ، فقالوا : يا رسول الله ! هذه أموالنا ، فتصدق
بها عنا ، واستغفر لنا فقال : < ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً > ، فأنزل الله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } الآية .
وأخرج هذا القدر وحده عن سعيد بن جبير ، والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم . وأخرج عبد عن قتادة أنها نزلت في سبعة : أربعة منهم ربطوا أنفسهم
بالسواري ، وهم أبو لبابة ومرداس ، وأوس بن خذام وثعلبة بن وديعة .
وأخرج أبو الشيخ وابن منده في " الصحابة " من طريق الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ستة : أبو لبابة ، وأوس بن خذام ، وثعلبة بن وديعة ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية .
فجاء أبو لبابة وأوس بن ثعلبة ، فربطوا أنفسهم بالسواري ، وجاءوا بأموالهم ، فقالوا : يا رسول الله ! خذ هذا الذي حبسنا عنك ، فقال : لا أحلهم حتى يكون قتال ، فنزل القرآن : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } الآية ، إسناده قوي ، كذا في " اللباب " .
قال ابن كثير : هذه الآية ، وإن كانت نزلت في أناس معينين ، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين .
وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة إنه الذبح ، وأشار بيده إلى حلقة ، ثم نقل ما تقدم .
الثاني : روى البخاري في التفسير في هذه الآية ، عن سَمُرة بن جُنْدب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : < أتاني الليلة آتيان ، فابتعثاني ، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلَبِن ذهب ، ولَبِن فضة ، فتلقانا رجل ، شطرٌ من خلفهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا ، قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذا منزلك . قالا : أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وتجاوز الله عنهم > .
الثالث : قال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطاً ، فما المخلوط به ؟ قلت : كل واحد منهما بالآخر ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد كل واحد منهما بصاحبه ، فيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ، لأنك جعلت الماء مخلوطاً ، واللبن مخلوطاً به ؟ وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن بالماء .
وناقشه الناصر في " الإنتصاف " فقال : التحقيق في هذا أنك إذا قلت : خلطت
الماء باللبن ، فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء مخلوط ، واللبن مخلوط به ، والمدول عليه لزوماً ، لا تصريحاً ، كون الماء مخلوطاً به ، واللبن مخلوطاً .
وإذا قلت : خلطت الماء واللبن ، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطاً ، وأما ما خلط به كل واحد منهما ، فغير مصرح به ، بل من اللازم أن كل واحد منهما له مخلوط به ، يحتمل أن يكون قرينه أو غيره .
فقول الزمخشري : إن قولك : ـ خلطت الماء واللبن ، يفيد ما يفيد مع الباء ، وزيادة - ليس كذلك .
فالظاهر في الآية - والله أعلم - أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل ، كأنه قيل : عملوا صالحاً وآخر سيئاً ، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط ، فعبر عنهما معاً به . انتهى .
قال النحرير : يريد الزمخشري أن الواو كالصريح في خلط كلّ بالآخر ، بمنزلة ما إذا قلت : خلطت الماء باللبن ، و خلطت اللبن بالماء ، بخلاف الباء ، فإن مدلولها لفظاً إلا خلط الماء مثلاً باللبن ، وأما خلط اللبن بالماء ، فلو ثبت لم يثبت إلا بطريق الإلتزام ودلالة العقل . انتهى .
وهو متجه ولا حاجة للتضمين المذكور .
ثم قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاء شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم ، أي : فالواو بمعنى الباء ، ونقل ذلك سيبويه .
وقالوا : إنه استعارة ، لأن الباء للإلصاق ، و الواو للجمع ، وهما من واد واحد . وقال ابن الحاجب في قولهم المذكور : أصله شاة بدرهم ، أي : كل شاة بدرهم ، وهو بدل من الشاة ، أي : مع درهم ، ثم كثر فأبدلوا من باء المصاحبة واواً ، فوجب نصبه وإعرابه بإعراب ما قبله ، كقولهم : كل رجل وضيعته .
قال الشهاب : وهو تكلف ، ولذا قالوا : إنه تفسير معنى ، لا إعراب . انتهى .
قال الواحدي : العرب تقول : خلطت الماء باللبن ، وخلطت الماء واللبن ، كما تقول : جمعت زيداً وعمراً . و الواو في الآية أحسن من الباء ، لأنه أريد معنى الجمع ، لا حقيقة الخلط ، ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ ، كما يختلط الماء باللبن ، لكن قد يجمع بينهما . انتهى .
وفي الآية نوع من البديع يسمى الإحتباك ، هو مشهور ، لأن المعنى : خلطوا عملاً صالحاً بسيِّئ وآخر سيئاً بصالح .
الرابع : قال الرازي : ههنا سؤال ، وهو أن كلمة عسى شك ، هو في حق الله تعالى محال . وجوابه من وجوه :
الأول : قال المفسرون : كلمة عسى من الله واجب ، والدليل عليه قوله تعالى :
{ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } ، وفعل ذلك ، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام ، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً ، فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى ، أو لعل تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً ، وأن يكلفني بشيء ، بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطوّل ، فذكر كلمة عسى ، الفائدة فيه هذا المعنى ، مع أنه يفيد القطع بالإجابة .
الوجه الثاني : أن المقصود بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق ، لأنه أبعد من الإتكال والإهمال .
الخامس : قال القاشاني : الإعتراف بالذنب هو إبقاء نور الإستعداد ، ولين الشكيمة ، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه ، لأنه ملك الرجوع والتوبة ، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة ، وانفتاح عين القلب ، إذ لو ارتكمت الظلمة ورسخت الرذيلة ، ما استقبحه ، ولم يره ذنباً ، بل رآه فعلاً حسناً ، لمناسبته لحاله ، فإذا عرف أنه ذنب ففيه خير .
ثم أمر تعالى رسوله صلوات الله عليه أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا إليه ، أن يتصدق بها عنهم كفارة لذنوبهم ، كما تقدم في الروايات قبل ، بقوله عزَّ وجلَّ :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 103 ] .
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي : بعضها { صَدَقَةً } .
قال المهايمي : لتصدق توبتهم إذ : { تُطَهِّرُهُمْ } ، أي : عما تلطخوا به من أوضار التخلف . وعن حب المال الذي كان التخلف بسببه { وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي : عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت عن المال .
قال الزمخشري : التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي : واعطف عليهم بالدعاء لهم وتَرَحَّم { إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أي : تسكن نفوسهم إليها ، وتطمئن قلوبهم بها ، ويثقون بأنه سبحانه قبِل توبتهم .
وقال قتادة : سكن ، أي : وقار .
وقال ابن عباس : رحمة لهم . وقد روى
الإمام أحمد عن حذيفة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل ، أصابته وأصابت ولده وولد ولده . وفي رواية : إن صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده .
والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم { عَلِيمٌ } أي : بما في ضمائرهم من الندم والغم ، لما فرط منهم .
تنبيهات :
الأول : { تُطَهِّرُهُمْ } قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر ، وأما بالرفع فعلى أنه حال من ضمير المخاطب في خذ . أو صفة لصدقة ، والتاء للخطاب أو للصدقة .
والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده ، أي : بها .
وقرئ تطهرهم ، من أطهره بمعنى طهّره ، ولم يُقرأ : وتزكيهم ، إلا بإثبات الياء وهو خبر لمحذوف ، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه ، أي : وأنت تزكيهم بها ، هذا على قراءة ( تطهرهم ) بالجزم .
وأما على قراءة الرفع فـ ( تزكيهم ) عطف على ( تطهرهم ) حالاً أو صفة .
الثاني : قرئ ( صلاتك ) بالتوحيد ، و ( صلواتك ) بالجمع ، مراعاة لتعدد المدعوّ لهم .
وقال الشهاب : جمع صلاة ، لأنها إسم جنس ، والتوحيد لذلك ، أو لأنها مصدر في الأصل .
الثالث : قال الشهاب : السكن السكون ، وما يسكن إليه من الأهل والوطن ، فإن كان المراد الأول ، فجعلها نفس السكن والإطمئنان مبالغة ، وهو الظاهر ، وإن كان الثاني فهو مجاز بتشبيه دعائه ، في الإلتجاء إليه بالسكن ، انتهى .
قال أبو البقاء : سكن بمعنى مسكون إليها ، فلذلك لم يؤنثه ، وهو مثل القبض بمعنى المقبوض .
الرابع : قيل : المأمور به في الآية الزكاة . ومن تبعيضية ، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم ، فأمره الله أن يأخذ بعضها لتوبتهم ، لأن الزكاة لم تقبل من بعض المنافقين ، فترتبط الآية بما قبلها .
وقيل : ليست هذه الصدقة المفروضة ، بل هم لما تابوا ، بذلوا جميع مالهم كفارة للذنب الصادر منهم ، فأمره الله تعالى بأخذ بعضها وهو الثلث ، وهذا ما روي عن الحسن ، وهو المختار عندهم . ونقل الرازي أن
أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء ، إذ هي حجتهم في إيجاب الزكاة ، ثم نظر فيه بأن حملها على ما ذكروه يوجب ألا تنتظم الآية مع سابقها ولاحقها .
وأقول : لا ريب في ارتباط الآية بما قبلها ، كما أفصحت عنه الرواية السابقة . وخصوص سببها لا يمنع عموم لفظها ، كما هو القاعدة في مثل ذلك ، ولذا رد الصديق رضي الله عنه ، على من تأول من بعض العرب هذه الآية أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه ، لأنه المأمور بالأخذ ، وبالصلاة على المتصدقين ، فغيره لا يقوم مقامه وأمر بقتالهم ، فوافقته الصحابه ، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخلفية ، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فاستدل من ذلك على وجوب دفع الزكاة إلى الإمام ، ومثله نائبه ، وهؤلاء المتأولون المرتدون غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سدّاً لحاجة المعدم ، وتفريجاً لكربة الغارم ، وتحريراً لرقاب المستعبدين ، وتيسيراً لأبناء السبيل ، فاستلَّ بذلك ضغائن أهل الفاقة ، على من فضلوا عليهم في الرزق ، وأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء ، وساق الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين ، فالإمام لا خصوصية لذاته فيها ، بل لأنه يجمع ما يرد منها لديه ، فينفقها في سبلها المذكورة .
الخامس : استدل بقوله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْْ } على ندب الدعاء للمتصدق .
قال الشافعي رحمه الله : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ، ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وجعله طهوراً ، وبارك لك فيما أبقيت ، وقال آخرون : يقول : اللهم صلِّ على فلان ، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى ، وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال :
< اللهم صلِّ عليهم > ، فأتاه أبي بصدقته فقال : < اللهم صلِّّ على آل أبي أوفى > . أخرجاه في الصحيحين .
قال ابن كثير : وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت : يا رسول الله ! صلِّ علي وعلى زوجي ، فقال : < صلى الله عليك وعلى زوجك > .
أقول : وبهذين الحديثين يردّ على من زعم أن المراد بـ : { صَلَّ عَلَيْهِمْ } الصلاة على الموتى حكاه السيوطي في " الإكليل " .
السادس : دلت الآية كالحديثين ، على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً .
قال الرازي : روى الكعبي في " تفسيره " أن عليّاً رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه وهو مسجّى : عليك الصلاة والسلام . ومن الناس من أنكر ذلك .
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد ، إلا في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم .
ثم قال الرازي : إن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه ، و عليه الصلاة والسلام ، إلا في حق الرسول ، والشيعة يذكرونه في عليّ وأولاده ، واحتجوا بأن نص القرآن دلَّ على جوازه فيمن يؤدي الزكاة ، فكيف يمنع في حق عليّ والحسن والحسين عليهم رضوان الله ؟ قال : ورأيت بعضهم قال : أليس أن الرجل إذا قال : سلام عليكم ، يقال له : وعليكم السلام ، فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين ، فأوْلى آل البيت . انتهى .
وأقول : إِن المنع من ذلك أدبي لا شرعي ، لأنه صار - في العرف - دعاءً خاصاً به صلى الله عليه وسلم ، وشعاراً له ، كالعَلم بالغلبة ، فغيره لا يطلق عليه ، إلا تبعية له ، أدباً لفظياً .
السابع : قال الرازي : في سر كون صلاته عليه السلام سكناً لهم : أن روح محمد عليه السلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ، فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت أسرارهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 104 ] .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كلٌّ منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وإخبار بأن كل من تاب إليه ، تاب عليه ، ومن تصدق تقبل منه .
تنبيهات :
الأول : الضمير في : { يَعْلَمُوا } للمتوب عليهم ، فيكون ذكر قبول توبتهم ، مع أنه تقدم ما يشير إليه ، تحقيقاً لما سبق من قبول توبتهم ، وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم ، وتقريراً لذلك ، وتوطيناً لقلوبهم ببيان أن المتولي لقبول توبتهم ، وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه ، وإن أسند الأخذ والتطهير والتزكية ، إليه صلى الله عليه وسلم .
قال أبو مسلم : المقصود من الإستفهام التقرير في النفس ، ومن عادة العرب ، في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه ، أن يقول : أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته ؟ أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره ؟ فبشّر تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم . انتهى .
وجوز عَود الضمير لغيرهم من المنافقين فالإستفهام توبيخٌ وتقريعٌ لهم على عدم التوبة ، وترغيب فيها ، وإزالة لما يظنون من عدم قبولها وقرئ بالتاء .
وهو على الأول التفات ، وعلى الثاني بتقدير قل ، ويجوز أن يكون الضمير للمنافقين والتائبين معاً ، للتمكن والتخصص .
الثاني : الضميرـ أعني هوـ إما للتأكيد ، أو له مع التخصص ، بمعنى أنه يفعل ذلك البتة ، لأن ضمير الفصل يفيد ذلك ، والخبر المضارع من مواقعه .
وقيل : معنى التخصيص في هو ، أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردها ، فاقصدوه ، ووجهوها إليه ، لأن كثرة رجوعهم إليه ، صلوات الله عليه ، مظنة لتوهم ذلك .
الثالث : تعدية القبول بعن ، لتضمنه معنى التجاوز ، والعفو عن ذنوبهم التي تابوا عنها ، وقيل : عن هنا بمعنى من ، كما يقال : أخذت هذا منك وعنك .
الرابع : الأخذ هنا استعارة للقبول والإثابة ، لأن الكريم والكبير إذا قبل شيئاً عوّض عنه ، وقد يجعل الإسناد إلى الله مجازاً مرسلاً .
وقيل : في نسبة الأخذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : خُذْ ، ثم إلى ذاته تعالى ، إشارة إلى أن أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ، قائم مقام أخذ الله ، تعظيماً لشأن نبيه ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايعُونَ اللَّهَ } .
الخامس : جملة : { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } تأكيد لما عطف عليه ، وزيادة تقرير لما يقرره ، مع زيادة معنى ليس فيه ، كما أفادته صيغة المبالغة التي تفيد تكرر ذلك منه أي : ألم يعلموا أنه المختص بقبول التوبة ، وأن ذلك سنة مستمرة له ، وشأن دائم ؟
لطيفة :
نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر ، عن حَوْشَب قال : غزا الناس في زمن
معاوية ، وعليهم عبد الرحمن بن الخالد بن الوليد ، فغلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية ، فلما قفل الجيش ندم ، وأتى الأمير ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة ، فجعل الرجل يأتي الصحابة ، فيقولون له مثل ذلك .
فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه ، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمرَّ بعبد الله ابن الشاعر السَّكسكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له أمره ، فقال له : أو مطيعي أنت ؟ فقال نعم . فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل مني خمسك ، فادفع إليه عشرين ديناراً ، وانظر إلى الثمانين الباقية ، فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ، ففعل الرجل .
فقال معاوية : لأن أكون أفتيتُ بها ، أحب إليَّّ من كل شيء أملكه . أحسن الرجل . انتهى .
في هذه الرواية إثبات ولد لخالد ، وفي ظني أن صاحب " أسد الغابة " ذكر أنه أم يعقب ، فليحقق .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 105 ] .
{ وَقُلِ } أي : لأهل التوبة والتزكية والصلاة ، لا تكتفوا بها ، بل : { اعْمَلُوا } جميع ما تؤمرون به { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } أي : فيزيدكم قرباً على قرب ، { وَرَسُولُهُ } فيزيدكم صلوات { وَالْمُؤْمِنُونَ } فيتبعونكم ، فيحصل لكم أجرهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء - هكذا قاله المهايمي - وهو قوي في الإرتباط .
وقال أبو مسلم : إن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، كما قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } الآية ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية ، فذكر تعالى أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم ، والتنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة ، عند حضور الأولين والآخرين ، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد .
ونقل عن مجاهد أن الآية وعيد للمخالفين أوامره ، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول والمؤمنين .
قال ابن كثير : وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } ، وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } ، وقال تعالى : { وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } . وقد ظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا ، كما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعاً : < لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوّة ، لأخرج الله عمله للناس كائناً من كان > .
وروي أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ
- كما في مسند أحمد والطيالسي - .
{ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : بالموت { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بالمجازاة عليه .
قال أبو السعود : في وضع الظاهر موضع المضمر ـ أي : حيث لم يقل : إليه ـ من تهويل الأمر ، وتربية المهابة ، ما لا يخفى . ووجه تقديم الغيب في الذكر لسعة علمه ، وزيادة خطره على الشهادة ، غني عن البيان .
وعن ابن عباس : الغيب ما يسرونه من الأعمال ، والشهادة ما يظهرونه ، كقوله تعالى : { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ، فالتقدم حينئذ لتحقق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة ، على أن أبلغ وجه وآكده ، أو للإيذان بأن رتبة السر متقدمة على رتبة العلن ، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو ، أو مبادئه القريبة أو البعيدة ، مضمر قبل ذلك في القلب . فتعلقُ علمه تعالى به في حالته الأولى ، متقدم على تعلقه به في حالته الثانية .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 106 ] .
{ وَآخَرُونَ } يعني من المتخلفين : { مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ } أي : مؤخرون أمرهم انتظاراً لحكمه تعالى فيهم ، لتردّد حالهم بين أمرين { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } لتخلفهم عن غزوة تبوك .
{ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } يتجاوز عنهم { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بأحوالهم ، { حَكِيمٌ } أي : فيما يحكم عليهم .
تنبيهات :
الأول : قرئ في السبعة : { مُرْجَؤُونَ } بهمزة مضمومة ، بعدها واو ساكنة . وقرئ
{ مُرْجَوْنَ } بدون همزة . كما قرئ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ } بهما ، وهما لغتان ، يقال : أرجأته وأرجيته ، وكأعطيته .
ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة ، كقولهم : قرأت وقريت ، وتوضأت وتوضيت ، وهو في كلامهم كثير .
وعلى كونه لغة أصلية فهو يائي ، وقيل : إنه واوي كذا في " العناية " .
الثاني : روي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين . وكذا قال الأصم : إنهم منافقون أرجأهم الله ، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم ، وحذرهم بهذه الآية ، إن لم يتوبوا ، أن ينزِّل فيهم قرآناً ، فقال : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } .
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد : إنهم الثلاثة الذي خلفوا ، أي : عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلاً وميلاً إلى الدَّعة وطيب الثمار والظلال ، لا شكّاً ونفاقاً ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك ، وهم هؤلاء الثلاثة ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجئ هؤلاء عن التوبة ، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } ، إلى قوله : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } .
قال في " العناية " : وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم ، والجهادُ فرض كفاية ، لما قيل إنه كان على الأنصار خاصة فرضَ عين ، لأنهم بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه .
ألا ترى قول راجزهم في الخندق :
~نَحْنُ الَّذيِنَ بَايعُوا مُحَمَّدَاً على الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
وهؤلاء من أجلّهم ، فكان تخلفهم كبيرة .
الثالث : إما في الآية ، إما للشك بالنسبة إلى المخاطب ، أو للإبهام بالنسبة إليه أيضاً ، بمعنى أنه تعالى أبهم على المخاطبين أمرهم .
والمعنى : ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف ، والمراد تفويض ذلك إلى إرادته تعالى ومشيئته ، أو للتنويع ، أي : أمرهم دائر بين هذين الأمرين .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 107 ] .
{ وَالَّذِينَ } أي : ومن المنافقين الذين : { اتَّخَذُوا } أي : بَنَوْا : { مَسْجِداً ضِرَاراً } أي : مضارّة لأهل مسجد قباء { وَكُفْراً } أي : تقوية للكفر الذي يضمرونه { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً ، يؤدون أجلّ الأعمال ، وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام ، بجمع قلوب أهله على الخيرات ، ورفع الاختلاف من بينهم { وَإِرْصَادَاً } أي : إعداداً وترقباً وانتظاراً .
{ لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ } أي : كفر بالله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً . وكانوا أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سنفصله ـ .
{ وَلَيَحْلِفُنَّ } أي : بعد ظهور نواياه ومقاصدهم السيئة { إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى } أي : ما أردنا ، ببناء المسجد ، إلا الخصلة الحسنى ، أو الإرادة الحسنى ، وهي الصلاة ، وذكر الله ، والتوسعة على المصلين { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في حلفهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [ 108 ] .
{ لا تَقُمْ فِيهِ } أي : لا تصلّ في مسجد الشقاق { أَبَداً } أي : في وقت من الأوقات ، لكونه موضع غضب الله ، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه كما يأتي . وإطلاق القائم على المصلّي والمتهجد معروف ، كما في قولهم : فلان يقوم الليل ، وفي الحديث < من قام رمضان إيماناً واحتساباً > .
{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } أي :
بنيت قواعده على طاعة الله وذكره ، وقصد التحفظ من معاصي الله ، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهو مسجد قباء { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي : من أيام وجوده { أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ } أي : تصلي { فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } أي : المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة .
ثم أشار إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 109 ] .
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ } أي : مخافة منه { وَرِضْوَانٍ } أي : طلب رضوان منه : { خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا } أي : طرف { جُرُفٍ } بضم الراء وسكونها أي : مهواة { هَارٍ } أي : مشرف على السقوط { فَانْهَارَ بِهِ } أي : سقط معه
{ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 110 ] .
{ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزول وَسْمُهُ عن قلوبهم ، ولا يضمحلّ أثره { إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي : قطعاً ، وتتفرق أجزاءًَ ، فحينئذ يسلون عنه .
وأما ما دامت سالمة مجتمعة ، فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أي : يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت ، أو بعذاب النار .
وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بنياتهم { حَكِيمٌ } أي : فيما أمر بهدم بنيانهم ، حفظاً للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة .
تنبيهات :
الأول : قال الزمخشري : في مصاحف أهل المدينة والشام : { الَّذِينَ اتَّخَذُوا } بغير واو ، لأنها قصة على حيالها ، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد
الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم .
الثاني : سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة ، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير .
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصار للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارّاً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أُحُد ، فكان أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته .
فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عيناً ، يا فاسق ، يا عدو الله ! ونالوا منه وسبّوه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أي : يسلم وتمرّد .
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة . وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحُد ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله ، فوعده ومنّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار ، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وكان أمَرَهم أن يتخذوا له معقلاً ومرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك .
فأتوه فقالوا : يا رسول الله ! إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه .
فقال : < إني على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قدمنا ، إن شاء الله تعالى ، أتيناكم ، فصلينا لكم فيه > .
فلما نزل بذي أَوَانٍ - موضع على ساعة من المدينة - أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامراً ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه .
فخرجا سريعين ، حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله ، فأخذ سعفاً من النخل ، فاشعل فيه ناراً ، ثم خرجا يشتدّان [ في المطبوع : يستدان ] ، حتى دخلا المسجد ، وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم ما نزل - ذكره ابن كثير ، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه - .
وروي أن بني عَمْرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عُمَر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمُجَمِّع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ونعمة عين ! أليس هو إمام مسجد الضرار ؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين ! لا تعجل عليّ ، فوالله ! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، أنهم يتقربون إلى الله ، ولم أعلم ما في نفوسهم . فعذره عمر ، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .
الثالث : ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء ، لأن السياق في معرضه ، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك ، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله ، وجمع كلمة المؤمنين .
ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكباً وماشياً ، ويصلي فيه ركعتين - كما في الصحيح - .
وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : < إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون فيه ؟ > فقالوا ، يا رسول الله ! ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ، - رواه الإمام احمد وأبو داود والطبراني ، واللفظ له - .
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجده - رواه الإمام أحمد ومسلم ـ .
قال ابن كثير : ولا منافاة ، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى . انتهى .
ومرجعه إلى أن هذا الوصف ، وإن كان يصدق عليهما - إلا أن الأحرى به بعد هو المسجد النبوي ، أي : فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية ، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن .
وقال السهروردي : كل منهما مراد ، لأن كلاًّ منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه .
والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك ، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء ، والتنويه بمزية هذا عن ذاك .
الرابع : قال السهيلي ـ نور الله مرقده ـ : في الآية ـ يعني قوله تعالى : { مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ } - من الفقه ، صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة ، لأنه الوقت الذي عزّ فيه الإسلام ، والحين الذي أمِنَ فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبنيت المساجد ، وعُبد الله كما يجب ، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل ، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن .
فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية ، فهو الظن بهم ، لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات ، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد ، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل ، إذ لا يعقل قول القائل : فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم ، أو شهر معلوم ، أو تاريخ معلوم .
وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم ، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال ، فتدبره ، ففيه معتبرٌ لمن ادّكر ، وعِلْمٌ لمن رأى بعين فؤاده واستبصر .
الخامس : التأسيس وضع الأساس ، وهو أصل البناء ، وأوله ، وبه إحكامه ، ففي الآية شبَّه التقوى والرضوان تشبيهاً مكنيّاً مضمراً في النفس ، بما يعتمد عليه أصل البناء .
و أسس بنيانه تخييل ، فهو مستعمل في معناه الحقيقي ، أو هو مجاز بناء على جوازه ، فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه ، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة ، بحال من بنى بناءً محكماً مؤسساً يستوطنه ويتحصن به . أو البنيان استعارة أصلية ، والتأسيس ترشيح أو تبعية ، والشفا : الحرف والشفير .
و جُرُف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول ، فيبقى واهياً .
والهار : الهائر ، وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قيل : هو مقلوب ، وأصله هاور ، أو هاير . وقيل : حذفت عينه اعتباطاً ، فوزنه فال . والإعراب على رائه كباب ، وقيل : لا قلب فيه ولا حذف ، ووزنه في الأصل فعِل
بكسر العين ، ككتف ، وهو هَوِرٌ أو هيرٌ ، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط . وفاعل انهار ، إما ضمير البنيان ، وضمير به للمؤسس ، أي : سقط بنيان الباني بما عليه . أو للشفا ، وضمير به للبنيان .
والظاهر في التقابل أن يقال : أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله ، ولذا قال في " الكشاف " : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ، وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق ، الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والإستمساك .
وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى ، يعني أنه شبه الباطل بشفا جرف هار ، في قلة الثبات ، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى ، والتقوى حق ، ومُنَافِي الحق هو الباطل .
وقوله فانهار ترشيح ، وباؤه للتعدية ، أو للمصاحبة ، فشفا جرف هار ، استعارة تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازيّ المراد منها .
فإن قلت لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل ، وبالثاني على طريق الإستعارة والتمثيل ؟
قلت : التفنن في الطريق رعايةٌ لحق البلاغة ، وعدولاً عن الظاهر ، مبالغةٌ في الطرفين ، إذ جعل أولئك مبنياً على تقوى ورضوان ، هو أعظم من كل ثواب ، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب ، ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده ، ما فيه من التهويل .
وقولنا : فانهار ترشيح ، أوضحه " الكشاف " بقوله : لم جعل الجرف الهائر مجازبعضها . لباطل ، قيل : { فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الإنهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جرف من أودية جهنم ، فانهار به ذلك الجرف ، فهوى في قعرها .
السادس : دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا حرمة ، ولا يصح الوقف عليه .
وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها . نقله بعض المفسرين .
قال الزمخشري : قيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياءً وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار .
وعن شقيق أنه لم
يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بني على ضرار ، كل مسجد بني على ضرار ، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً .
وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه ، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضارّ أحدهما صاحبه . انتهى .
وقال الإمام ابن القيّم في " زاد المعاد " في فوائد غزوة تبوك :
ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ، ويذكر إسم الله فيه . لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه ، فواجب على الإمام تعطيله ، إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته ، وإخراجه عما وضع له .
وإذا كان هذا شأنه مسجد الضرار ، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنُتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله ، أحق بذلك وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات وبيوت الخمارين ، وأرباب المنكرات .
وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً ، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية .
وهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة
والجمعة ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم ، كما أخبر هو عن ذلك . انتهى .
ثم قال ابن القيّم : ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد .
وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر ، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد
ـ نص على ذلك الإمام أحمد وغيره - فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معاً لم يجز .
ولا يصح هذا الوقف ، ولا يجوز ، ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا ، أو أوقد عليه سراجاً .
قال ابن القيّم : فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه ، وغربته بين الناس كما ترى . انتهى .
السابع : قال بعض المفسرين اليمانيين : في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة ، يعني التأسيس على التقوى ، وفيها أن نية القربة في عُمارة المسجد شرط ، لأن النية هي التي تميز الأفعال .
وفيها : أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار - ذكر ذلك الحاكم ـ لأنه قال تعالى :
{ لا تقم فيه أبداً } وأراد بالقيام الصلاة .
الثامن : قال ابن كثير : في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائه على عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .
وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : < إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء > . فدلّ هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكماله ، والقيام بمشروعاتها .
التاسع : ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية ، الطهارة من الذنوب ، والتوبة منها ، والتطهر من الشرك .
قال الرازيّ : وهذا القول متعين ، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى ، واستحقاق ثوابه ومدحه ، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارّة المسلمين ، والكفر بالله ، والتفريق بني المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم ، وما ذلك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي . انتهى .
أقوال : لا تسلم دعوى التعيّن ، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة . بل الثانية ما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : < قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون > ؟ فقالوا : نستنجي بالماء .
وروى البزّار عن ابن عباس قال : هذه الآية في أهل قباء ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا تنبع الحجارة بالماء .
فإن صح ذلك كان المرادَ من الآية ، وتكون حثّاً على الطهارة المذكورة ، ومدحاً لها . وكون ذويها على الضد من صفات أولئك ، يستفاد من عموم هذا ، ومن قوله تعالى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } الآية .
العاشر : قال القاشاني : لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت ، وتسخيره ، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال ، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية ، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء ، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة ، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم .
ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبيّ من أنبياء الله ، بنية صادقة ، ونفس شريفة صافية ، عن كمال إخلاص لله تعالى ؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع ، والكدورة والتفرقة في بعضها .
وما هو إلا لذلك ، فلهذا قال : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } الآية ، لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس ، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام ، فإذا كان موضع القيام مبنيّاً على التقوى وصفاء النفس ، تأثرت النفس باجتماع الهمة ، وصفاء الوقت ، وطيب الحال ، وذوق الوجدان ، وإذا كان مبنيّاً على الرياء والضرار ، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض .
وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني ، وصدق نيته ، مؤثر في البناء ، وأن تبرّك المكان ، وكونه مبنيّاً على الخير ، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ، ممن يناسب حاله حال بانيه ، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 111 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان ، والأنفس مفتونة بحب الأموال والأنفس ، استنزلهم لفرط عنايته بهم ، عن مقام محبة الأموال والأنفس ، بالتجارة المربحة ، والمعاملة المرغوبة بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم ، فعرض لهم خيراً مما أخذ منهم .
فالآية ترغيب في الجهاد ببيان فضيلته ، إثر بيان حال المتخلفين عنه .
قال أبو السعود : ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى ، وإثابته أياهم بمقابلتها الجنة ، بالشراء على طريقة الإستعارة التبعية ، ثم جعل المبيع ، الذي هو العمدة والمقصد في العقد ، أنفس المؤمنين وأموالهم .
والثمن ، الذي هو الوسيلة في الصفقة ، الجنة ، ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ، ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها ، إيذاناً بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم .
ثم إنه لم يقل بالجنة ، بل بأن لهم الجنة مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم ، واختصاصه بهم . وكأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم .
وفي " الكشاف " و " العناية " ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية ، لأنه أبرزه في صورة عقد عاقده رب العزة ، وثمنه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط ، بل إذا كانوا قاتلين أيضاً لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلاً في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك .
وجعل وعده حقاً ، ولا أحد أوفى من وعده ، فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم ، وهو استعارة تمثيلية ، صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء ، وأتى بقوله
{ يقاتلون } الخ ، بياناً لمكان التسليم وهو المعركة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم < الجنة تحت ظلال السيوف > ، ثم أمضاه بقوله : { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
ولما في هذا من البلاغة واللطائف المناسبة للمقام ، لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازاً عن الإستبدال ، وإن ذكروه في غير هذا الموضع ، لأن قوله
{ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ } يقتضي أنه شراء وبيع ، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل .
ومنهم من جوز أن يكون معنى : { اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ } بصرفها في
العمل الصالح ، و : { أَمْوَالَهُمْ } بالبذل فيها . وجعل قوله : { يُقَاتِلُونَ } مستأنفاً لذكر بعض ما شمله الكلام ، اهتماماً به . انتهى .
وقوله تعالى : { وَعْداً عَلَيْهِ } مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً ، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها ، تأكيداً له ، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار .
وفيه أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا ، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين ، على تحريفهما ، ما يشير إلى الجهاد والحث عليه ، نقلها عنهما من ردّ على الكتابيّين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام ، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك .
ثم وصف تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 112 ] .
{ التَّائِبُونَ } أي : عن المعاصي ، ورفعه على المدح أي : هم التائبون ، كما دل عليه قراءة ( التائبين ) بالياء إلى قوله ، و ( الحافظين ) نصباً على المدح ، أو جراً صفة للمؤمنين .
وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده ، أي : التائبون من المعاصي حقيقة ، الجامعون لهذه الخصال { الْعَابِدُونَ } أي : الذين عبدوا الله وحده ، وأخلصوا له العبادة ، وحرصوا عليها { الْحَامِدُونَ } لله على نعمائه ، أو على ما نابهم من السراء والضراء { السَّائِحُونَ } أي : الصائمون ، أو الضاربون في الأرض تدبراًَ واعتباراً . وسننبه عليه { الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ } أي : المصلّون { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } أي : في تحليله وتحريمه { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الموصوفين بالنعوت المذكورة .
ووضع المؤمنين موضع ضميرهم ، للتنبيه على أن ّ ملاك الأمر هو الإيمان ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به للتعظيم ، أو للعلم به ، لقوله في آية الأحزاب : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } .
تنبيهات :
الأول : ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين .
قال الزجاج : هو قول
أهل التفسير واللغة جميعاً . ورواه الحاكم مرفوعاً ، وكذلك ابن جرير .
قال ابن كثير : ووقفه أصح .
وعن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة ، فهو الصيام .
وعن الحسن : السائحون الصائمون شهر رمضان .
قال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات ، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر .
ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين : السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً .
وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات .
وروى مثله أبن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال : هم المهاجرون .
وعن عِكْرِمَة أنهم المنتقلون لطلب العلم .
قال ابن كثير : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله > .
أقول : لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها ، لأن الجهاد في سبيل الله ، كما يطلق على قتال المشركين ، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى ، ومنه الهجرة والصوم ، والسفر للتفقه في الدين أو للإعتبار ، بل ذلك هو الجهاد الأكبر .
هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات ، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية ، أعني الضرب في الأرض خاصة ، الذي عبر عن عِكْرِمَة بالمنتقلين لطلب العلم ، لكان بمفرده كافياً في المعنى ، مشيراً إلى وصف عظيم ، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه ، هو الحق في تأويل الآية .
وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده ، يجدر بالمحقق أن يقف عليها ، وهاك خلاصتها : قال : الكتاب الحكيم يأمر الْإِنْسَاْن كثيراً بأن يضحي قسماً من حياته في السياحة والتسيار ، لأجل اكتشاف الآثار ، والوقوف على أخبار الأمم البائدة
ليكون ذلك مثال عظة واعتبار ، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد .
ولا أريد أن أحشر لقارئ تلك الآيات ، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل ، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى ، وذلك في قوله تعالى : { السَّائِحُونَ } في هذه الآية ، ولم يقع لفظ سائحون في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة .
ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير ، فمنهم من قال هم الصائمون ، ومنهم من قال غيره .
والصحيح أن السائحون معناه السائرون ، مأخوذاً من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها ، وهذه المادة تشعر بالإنتشار .
يقال : ساح الماء أي : جرى وانتشر ، والسيح أيضاً الماء الجاري الذاهب في وجه الأرض .
ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد ، وهو الماء المسفوح ، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه .
وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها ، وعلى معانيها الحقيقية ، اللهم ما لم يمنع مانع عقلي ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ السائحون على معناه الظاهر الحقيقي ، وهو السائرون الذاهبون في الديار ، لأجل الوقوف على الآثار ، تواصلاً للعظة بها والإعتبار ، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ .
وكذلك عهدنا بالمعنى المجازيّ أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي ، في حال أن الأمر هنا بالعكس ، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي ، وذلك مثل آية : { سِيرُوا } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا } ، { أَفَلَمْ يَسِيرُوا } { فَسِيرُوا } { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ } { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية .
فهذه الآيات هي قرائن نيّرة تؤذن بأن السيح معناه اليسر ، فإنها وإن تكن من مادة أخرى ، إلا أن معناه يلاقي معنى السيح ، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة ، وذلك كآية : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ } ، فكلمة سيحوا هنا تفسر
{ السَّائِحُونَ } في الآية هذه ، وهم يقولون : خير ما فسرته بالوارد .
وبالجملة ، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة ، وتدبير على فتور همتها ، وضعف نشاطها ، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة ، ورؤية عِمْرَان المسكونة ، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين ، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهداً في السير والسياحة ، وأن ينقلب في البلاد أي : تنقيب .
وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية : { سَائِحَاتٍ } في سورة التحريم إن شاء الله تعالى .
قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس ، لأنه يلقاه أنواع من الضرّ والبؤس ، فلا بد له من الصبر عليها ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كلّ ما ليس عند الآخر .
وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحول الخاصة بهم ، فتقوى معرفته .
وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين . انتهى .
وقال بعضهم : لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الْإِنْسَاْن على السفر في
محكم كتابه العزيز ، وندد على من ارتدا منهم رداء الكسل ، وأوقع نفسه في وهدة الخمول ، وتلذذ بالتقاعد عن جَوْب البلاد ، وقطع الوهاد ، فقال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } ، وقال صلى الله عليه وسلم : < سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا > .
وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظماً ونثراً .
ومن أجل فوائده زيادة علمه ، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه ، ومنها ، وهو أعظمها ، رضا ربه ، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده ، وأحب عَبَّاد الله إلى الله أنفعهم لعباده .
وكذلك باتعاظه بأحوال الناس ، واعتباره بأمورهم ، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة ، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات .
فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والإمتثال لأوامره ونواهيه ، وليس بخافٍ ما وقع للأنبياء والمرسلين ، والصحابة والتابعين ، والأولياء والصالحين ، من التنقلات والأسفار ، في القرى والأمصار ، للنظر والإعتبار .
الثاني : قال القاضي : إنما جعل ذكر الركوع والسجود ، كناية عن الصلاة ، لأن سائر أشكال المصلِّي موافق للعادة ، هو قيامه وقعوده ، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره .
ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى ، والركوع وسطها ، والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر ، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية ، وتنبيهاًَ على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم . ذكره الرازي .
الثالث : ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً :
فأما الأول : أعني قوله تعالى : { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } فقالوا : سر العطف فيه
إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، وصفة واحدة ، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج ، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاةً بحسب الظاهر ، لأن أحدهما طلب فعل ، والآخر طلب ترك ، فكانا بين كمال الإتصال والإنقطاع المقتضي للعطف ، بخلاف ما قبلهما ، أو لأنه لما عدد صفاتهم ، عطف هذين ليدل على أنه شيء واحد ، وخصلة واحدة ، والمعدود مجموعهما ، كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، أو العطف لما بينهما من التقابل ، أو لدفع الإيهام ، وهذا معنى قول " المغني " : الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي ، من حيث أمر ونهي ، متقابلان بخلاف بقية الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف ، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف . فأشير إلى الإعتداد بكل من الوصفين ، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر .
وأما الثاني : أعني وقوله تعالى : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه } فقيل : سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع ، من حيث أن السبعة هو العدد التامّ ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك تسمى واو الثمانية ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة لاستعماله في التكثير ، لا معدوده .
والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وضعفه في " المغني " .
وقيل : سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفاً ، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله ، بالإجمال والتفصيل ، والعموم ، والخصوص ، عطف عليه .
وقيل : بقوة الجامع بالتلازم ، لأن من حصل الأوصاف السابقة ، فقد حفظ حدود الله .
وقيل : المراد بحفظ الحدود ظاهره ، وهي إقامة الحدود ، كالقصاص على من استحقه .
والصفات الأولى إلى قوله : { الآمرون } صفات محمودة للشخص في نفسه ، وهذه له باعتبار غيره ، فلذا تغير تعبير الصنفين ، فترك العاطف في القسم الأول ، وعطف في الثاني .
ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ، ترك فيها العطف لشدة الإتصال ، بخلاف هذه ، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به .
وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفاً بما بعده ، و الآمرون خبره .
فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم ، وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملاً حتى يكون كاملاً في نفسه ، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف ، والله أعلم بمراده . كذا في " العناية " و " حواشي المغني " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إياهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ 113 - 114 ] .
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إياهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } .
لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة ، بيّن سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً ، حيث نهى عن الإستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم ، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة ، حتى مع الأقرباء ، لأن قرابتهم وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم ، فلا تفيدهم قبول نور الإستغفار
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده .
ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه ، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له ، بقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } ، وقوله : { لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } ، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } ذلك { تَبَرَّأ مِنْهُ } أي : من أبيه بالكلية ، فضلاً عن الإستغفار له .
وبيّن تعالى الحامل لإبراهيم على الإستغفار ، بأنه فرط ترحّمه وصبره بقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ } أي : كثير التأوه من فرط الرحمة ، ورقة القلب { حَلِيمٌ } أي : صبور على ما يعترضه من الإيذاء ، ولذلك حلم عن أبيه ، مع توعده له بقوله :
{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ } ، واستغفر له بقوله : { سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } ، وذلك قبل التبيين ، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك .
وفي الآية تأكيد لوجوب الإجتناب بعد التبيين ، بأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من أبيه بعد التبيين ، وهو في كمال رقة القلب والحلم ، فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتناباً وتبرؤاً .
تنبيهات :
الأول : ساق المفسرون ههنا روايات عديدة في نزول الآية ، ولما رآه بعضهم متنافية ، حاول الجمع بينها بتعدد النزول ، ولا تنافي ، لما قدمناه من أن قولهم نزلت
في كذا قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله . وقد يراد به أن كذا كان سبباً لنزولها ، وما هنا من الأول ، ونظائره كثيرة في التنزيل ، وقد نبهنا عليه مراراً ، لا سيما في المقدمة . فاحفظه .
الثالث : قال عطاء بن أبي الرباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى ، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين ، ثم قرأ الآية . وهذا فقه جيّد .
الثالث : قال بعض اليمانيين : استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل . وهذا يحكى عن أبي جعفر : إذا قال : آه لم تبطل صلاته ، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك ، ومذهب الأئمة بطلانها ، سواء قال : آه أو أوه ، لأن ذلك من كلام الناس ، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة . انتهى .
الرابع : قال في " العناية " : أوّاه فعّال للمبالغة من التأوّه ، وقياس فعله أن يكون ثلاثياً ، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلاً ثلاثياً ، وهو آهَ يَؤُوهُ ، كقام يقوم ، أوْهاً ، وأنكر عليه غيره بأن لا يقال إلا أوّه وتأوّه قال :
~إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ
والتأوه قول آه ونحوه مما يقوله الحزين ، فلذا كني به عن الحزن ، ورقة القلب . انتهى .
و أوّه بفتح الواو المشدّدة ساكنة الهاء ، وأواه ، وأوه بسكون الواو ، والحركات الثلاث قال :
~فأوْهِ على زيارةِ أمّ عَمْرو فكيف مع العدا ومع الوُشاةِ ؟
وربما قلبوا الواو ألفاً ، فقالوا : آهِ من كذا قال :
~آهِ من تَيَّاكِ آهَا تَرَكَتْ قلبي مُتَاها
و آهٍ بكسر الهاء منونة وحكي أيضاً آها وواها ، وفيها لغات أخرى أوصلها " التاج " إلى اثنتين وعشرين لغة ، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن ، مبنيّات على ما لزم آخرها إلا آها ، فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر ، كأنه قيل : أتأسف تأسفاً .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 115 ] .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين ، والبراءة منهم ، وترك الإستغفار لهم ، وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة ، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول إليهم ما يتقون ، ودلالته إياهم على الصراط السوي فضلّوا عنه ، فأضلهم الله ، واستحقوا عقابه .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعليل لما سبق ، أي : أنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته ، فبين لهم ذلك ، كما فعل هنا .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [ 116 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم ، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم ، ولا يرهبوا من أولئك ، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم ، وتنبيه على لزوم امتثال أمره ، والإنقياد لحكمه ، والتوجه إليه وحده ، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى .
تنبيه :
وقف كثير من المفسرين في الآية هنا ، أعني قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } الآية ، على ما روي في الآية قبلها ، من نزولها في استغفار وقع من المؤمنين للمشركين ، فربطوا هذه الآية بتلك ، على الرواية المذكورة ، ونزَّلوها على المؤمنين ، فقالوا : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } أي : ليحكم عليهم باستغفارهم للمشركين بالضلال بعد إذ هداهم بالنبوة والإيمان ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه ، فتتركوا ، فأما
إذا لم يبين فلا ضلال ، إلى آخر ما قالوه . . . .
وما أبعده من تفسير وتأويل الرازيّ ذكره وجهاً ، وأشفعه بما اعتمدناه ، وهو الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ 117 ] .
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }
اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك ، مؤمنهم ومنافقهم ، والمنفق لها طوعاً أو كرهاً ، والمرغّب فيها أو عنها ، والمتخلف نفاقاً أو كسلاً ، وأنبأ عما لحق كلاًّ من الوعد والوعيد ، وميز الصادقين من غيرهم ، ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلاً للدعة وهم صادقون في إيمانهم ، ثم ندموا فتابوا وأنابوا ، وعلم الله صدق توبتهم ، فقبلها ، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية ، وصدرها بتوبته على رسوله ، وكبار صحبه جبراً لقلوبهم ، وتنويهاً لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثاً للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والإستغفار ، حتى النبيّ والمهاجرين والأنصار ، كل على حسبه ، وإبانةً لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح ، كما يكون لمدح الموصوف ، يكون لمدح الصفة ، وهذا من لطائف البلاغة ، وهو كما قال حسان رضي الله عنه :
~ما إِنْ مَدَحْتُ مُحَمّداً بِمقالَتِي لَكْنِ مَدَحْتُ مَقالَتِي بِمُحَمَّدِ
وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار .
قال الحاكم : ودلت على فضل عثمان ، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه ، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ، ووصفهم باتِّباعه ، فوجب القطع بموالاتهم .
وقوله تعالى : { فِي ساعَةِ الْعُسْرةِ } أي : في وقتها ، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق ، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم ، والعسرة حالهم في غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الظَّهْر ، يعتقب العشرة على بعير واحد ، وفي عسرة من الزاد ، حتى
إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها الآخر ، ثم يشرب عليها : وفي عسرة من شدة لَهَبان الحرّ ومن الجدب ، وفي عسرة من الماء ، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره ، فعصر فرثه فشربه ، وجعل ما بقي على كبده .
وقد حكى القالي في " أماليه " أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها ، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها ، أو خزموها لئلا ترعى ، فإذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها ، فشربوا ثميلها ، وهو كثير في الأشعار . كذا في " العناية " .
ونقل الرازي عن أبي مسلم ، أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة ، جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول ، وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها .
وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر } ، وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة ، والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم . انتهى .
أقول هذا الإحتمال ، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم ، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية ، وسباقها ، القاصران على غزوة تبوك ، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج ، واتباعه عليه السلام ، بل وقع أحياناً في مصاف القتال .
وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها غزوة العسرة ، ومن خرج فيها جيش العسرة .
وقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أي : عن الحق ، أو الثبات على الإتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم .
وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى : { ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ } تأكيد ظاهر ، واعتناء بشأنها ، هذا إذا كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني ، فلا تكرار .
قال بعضهم : ذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب ، تفضلاً منه ، وتطييباً لقلوبهم . ثم ذكر الذنب بعد ذلك ، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيماً لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم . ثم أتبعه بقوله : { إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } تأكيداً لذلك .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 118 ] .
{ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } أي : تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال ، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم ، والثلاثة هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم .
وقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : مع سعتها ، وهو مثل الحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه ، قلقاً وجزعاً مما هم فيه ، إذ لم يمكنهم الذهاب لأحد ، لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من مجالستهم ومحادثتهم . وإذا ، يجوز كونها شرطية جوابها مقدر ، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها .
{ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } أي : قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغمّ ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم ، وهُجِروا نحواً من خمسين ليلة ، وفيه ترقٍّ من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم ، وهو في غاية البلاغة { وَظَنُّوا } أي : علموا { أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ } أي : لا مفرّ من غضب الله { إِلَّا إِلَيْهِ } أي : إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا } أي : ليستقيموا على توبتهم ، ويستمروا عليها ، أو ليعدّوا من جملة التائبين ، أو المعنى : قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل ، إذا صدرت منهم هفوة ، ولا يقنطوا من كرمه : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ 119 ] .
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } أي : في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة ، من قوله تعالى : { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } ، أو هم الثلاثة ، أي : كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم .
تنبيهات :
الأول : روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطاً بما يوضح هذه الآية :
قال الزهريّ : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه - وكان قائد كعب من بنيه ، حين عمي - قال : سمعت كعباً يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك .
قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط ، إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يُعاتَب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد .
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها وأشهر .
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط ، حتى جمعتهما في تلك الغزاة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها ، إلا روّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدوّاً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ، ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان ـ .
قال كعب : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ، ما لم ينزل فيه وحي من الله عزَّ وجلَّ .
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة ، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر - أي : أميل - فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئاً ، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ، ثم ألحقه ، فغدوت بعدُ لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئاً ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتني فعلت - ثم لم يقدّر ذلك لي .
فكنت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل . ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك . فقال وهو جالس في القوم بتبوك : < ما فعل كعب بن مالك ؟ > فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله بُراده ، والنظر في عطفيه ! فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله ! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك ، حضرني بثّي أتذكر الكذب ، وأقول : بم أخرج من سخطته غداً ؟ وأستعين على ذلك بك ذي رأي من أهلي .
فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً ، زاح عن الباطل ، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس - فلما فعل ذلك ، جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فيقبل منهم رسول الله علانيتهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : < تعال ! > فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : < ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظَهْراً ؟ > فقلت يا رسول الله ! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن أخرج من سخطه بعذر . لقد أُعطيتُ جدلاً ، ولكني ، والله لقد علمت ، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليّ فيه ، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزَّ وجلَّ . والله ما كان لي عذر ، والله ! ما كنت قط أفزع ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .
قال : فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ! > فقمت ، وقام إليّ رجال من بني سلمة ، واتبعوني ، فقالوا لي : والله ! ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك .
قال : فوالله ! ما زالوا حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي .
قال : ثم قلت لهم : هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . قلت : فمن هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامريّ ، وهلال بن أمية الواقفيّ ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة .
قال : فمضيت حين ذكروهما لي .
فقال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ، أيها الثلاثة ، من بين من تخلف . فاجتنَبنا الناسُ ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة .
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع
المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأسلم وأقول في نفسي : أحَرَّكَ شَفَتيه بردّ السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني .
حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين ، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي ، وأحب الناس إليّ ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني ، فسلمت عليه ، فوالله ! ما ردّ عليّ السلام . فقلت له : يا أبا قتادة ! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت .
قال : فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فقال : الله ورسوله أعلم . قال ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار . فبينما أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ، ممن قدم بطعامه يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال فطفق الناس يشيرون إليَّ ، حتى جاء فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً ، فإذا فيه :
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك .
قال - فقلت حين قرأته - : وهذا أيضاً من البلاء .
قال : فتيممت به التنور فسجرته به . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخميس ، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك . قال : فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها .
قال : وأرسل إليَّ صاحبيّ بمثل ذلك . قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء ! قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إن هلالاً شيخ ضعيف ، ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربك ! قالت : وإنه والله ! ما به من حركة إلى شيء ، وإنه والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا .
قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . قال : فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقوله فيها إذا استأذنته ، وأنا رجل شابّ .
قال : فلبثنا عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين انتهى عن كلامنا .
قال : ثم صليت صلاة الصبح ، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا ، قد ضاقت عليّ نفسي ، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى على جبل سَلْع ، يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ! قال : فخررت ساجداً ، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزَّ وجلَّ بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قِبَلَ صاحبيّ مبشرون ، وركض إليّ رجلٌ فرساً ، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه .
والله ـ ما أملك يومئذ غيرهما - واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلق أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بتوبة الله ، يقولون : ليهنئك توبة الله عليك ! حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، والناس حوله ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول ، حتى صافحني وهنأني ـ والله ! ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره - قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة .
قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وهو يبرق وجهه من السرور ـ : < أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ! > قال ، قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : < لا ، بل من عند الله > . قال ، وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه ، حتى كأنه قطعة قمر ، حتى يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، صدقةً إلى الله وإلى رسوله . قال : < امسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك > . قال ، فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . قال ، فو الله ! ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث ، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن مما أبلاني الله تعالى . والله ! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي .
قال ، وأنزل الله : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ } إلى آخر الآيات .
قال كعب : فو الله ! ما أنعم عليّ من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُهُ ، فأهلك كما هلك الذين كَذَبُوه ، فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه ، حين أنزل الوحي ، شرّ ما قال لأحد . فقال الله تعالى : { سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } .
قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلِّفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال تعالى : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه أيانا ، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له ، واعتذر إليه ، فقبل منه .
وفي رواية : ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامي ، وكلام صاحبيّ ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا ، فاجتنب الناس كلامنا ، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر ، فما من شيء أهم إليّ من أن أموت ، فلا يصلّ عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون بتلك المنزلة ، فلا يكلمني أحد منهم ، ولا يصلّى عليّ ، ولا يسلّم عليّ .
قال : وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة ، وكانت أم سلمة محسنة في شأني ، معتنية بأمري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك > . قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره ؟ قال : < إذاً فيحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل > .
حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا - أخرجه البخاري ومسلم - .
قال ابن كثير : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها .
الثاني : قال بعض المفسرين : في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة .
الثالث : في الآية دليل على التحريض على الصدق .
قال القاشانيّ : في قوله تعالى : { يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع الرذائل بالإجتناب عنها ، خاصة رذيلة الكذب ، وذلك معنى قوله : { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فإن الكذب أسوء الرذائل وأقبحها ، لكونه ينافي المروءة ، وقد قيل : لا مروءة لكذوب ، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الْإِنْسَاْن عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم ، فإذا كان الخبر غير مطابق و لم تحصل فائدة النطق ، وحصل منه اعتقاد غير مطابق ، وذلك من خواص الشيطنة فالكذاب شيطان . وكما أن الكذب أقبح الرذائل ، فالصدق أحسن الفضائل ، وأصل كل حسنة ، ومادة كل خصلة
محمودة ، وملاك كل خير وسعادة و به يحصل كل كمال ، وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه ، كما قال :
{ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } في عقد العزيمة ، ووعد الخليقة . كما قال في إسماعيل :
{ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } .
وإذا روعي في المواطن كلها ، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل ، صدقت المنامات والواردات ، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات ، كأنه أصل شجرة الكمال ، وبذرة ثمرة الأحوال . انتهى .
ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين ، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية ، فلا يجوز تخلف الجميع ، ولا يلزم النفر للناس كافة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 120 ] .
{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ } أي : المتيسر لهم ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } أي : عند توجهه إلى الغزو { وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } أي : لا يضنوا بأنفسهم عما يصيب نفسه ، أي : لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد .
قال الزمخشريّ : أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوه معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علماً بأنها أعوز النفس عند الله وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت ، مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلاً عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه .
وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية . انتهى .
روي أن أبا ذر رضي الله عنه ، أبطأ به بعيره ، فحمل متاعه على ظهره ، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : < كن أبا ذر ! > فقال الناس : هو ذاك ! فقال : < رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده > .
وروي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه ، بلغ بستانه ، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل ، وبسطت له الحصير ، وقربت إليه الرطب ، والماء البارد .
فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ، ما هذا بخير ! فقام فَرَحَل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ، ومرّ كالريح . فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب ، فقال : < كن أبا خيثمة ! > فكانه ، ففرح به رسو لـ الله صلى الله عليه وسلم ، واستغفر له .
قال السهيليّ في " الروض " : كن أبا ذر ، كن أبا خثيمة ، لفظه لفظ الأمر ، ومعناه كما تقول : أسلم ، أي : سلمك الله . انتهى .
وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسي ، وذكره المطرزي في قول الحريري : كن أبا زيد .
وفي شعر ابن هلال :
~ومعذّر قال الإله لحسنه : كُنْ فَتنةً للعالمين فَكانَها
ولم يزيدوا في بيانه على هذا ، وهو تركيب بديع غريب ، ومعناه ساقه الله إلينا . وجعله إياه ، ليكون هو القادم علينا ، فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية ، على حد قوله في الحديث : < أبْلِ وأخْلِقْ > . أي : عمرك الله ، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق .
وقولهم : أسلم . أي : سلمك الله لتسلم ، ثم لما أقيم مقامه أبقي مسنداً إلى فاعله ، وإن كان المطلوب منه هو الله ، وهو قريب من قولهم : لاأرينَّك ههنا ، أي : لا تجلس حتى أراك ، وهو تمثيل أو كناية . كذا في " العناية " .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما دل عليه قوله { مَا كَانَ } من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم : { لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } أي : شيء من العطش : { وَلا نَصَبٌ } أي : تعب من السير لا سيما مع العطش { وَلا مَخْمَصَةٌ } أي : مجاعة
تضعفهم عن السير : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً } أي : لا يدرسون مكاناً { يُغِيظُ الْكُفَّارَ } أي : الذين هم أعداء الله ، وإغضابُ العدوّ يفيد رضا عدوّه { وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً } أي : قتلاً أو هزيمة أو سراً { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : على إحسانهم . وهو تعليل لـ : { كُتبَ } ، وتنبيه على أن تحمل المشاق إحسان ، لأن القصد به إعلاء كلمة الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 121 ] .
{ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً } أي : لا يشق مثلها { وَلا كَبِيرَةً } مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في غزوة تبوك ، وهو ألف دينار وثلاثمائة بغير بأحلاسها وأقتابها { وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً } في مسيرهم ، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل ، إسم فاعل من ودي ، إذا سال ، فهو السيل نفسه ، ثم شاع في محله ، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ، و جمعه أودية كناد ، بمجلس ، جمعه ( أندية إذا سال ، فهو السيل نفسه ، ثم شاع في محله ، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ، وناج جمعه أنجية ، ولا رابع لها في كلام العرب { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ } أي : أثبت لهم به عمل صالح { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : ليجزيهم على كل عمل لهم ، كاملٍ أو قاصرٍ ، جزاء أحسن أعمالهم . أي : فإذا مالوا بأنفسهم فاتهم ذلك ، وكانت المؤاخذة عليهم أشد .
ولما بين تعالى ، فيما تقدم ، خطر التخلف عن الرسول في الجهاد ، وشدّد الوعيد على المتخلفين التاركين للنفير ، دفع ما يتوهم من وجوب النفر على الجميع ، وفيه ما فيه من الحرج ، والإخلال بأمر المعاش ، بأن وجوبه كفائي ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ 122 ] .
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } أي : ما صح ولا استقام ، بحيث تخلو بلدانهم عن الناس { فَلَوْلا نَفَرَ } أي : فحين لم يمكن نفير الكافة ، ولم يكن مصلحة ، فهلا نفر { مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } أي : من كل جماعة كثيرة ، جماعة قليلة
منهم يكفونهم النفير : { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } أي : ليتعلموا أمر الدين من النبي صلى الله عليه وسلم { وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ } أي : يعلموهم ويخبروهم ما أمروا
به ، وما نهوا عنه : { إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } أي : من غزوتهم { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أي : فيصلحون أعمالهم .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية أن الجهاد فرض كفاية ، وأن التفقه في الدين ، ونشر العلم ، وتعليم الجاهلين كذلك ، وفيها الرحلة في طلب العلم .
واستدل بها قوم على قبول خبر الواحد ، لأن الطائفة نفر يسير ، بل قال مجاهد : إنها تطلق على الواحد . انتهى .
وقال الجصّاص في " الأحكام " : في الآية دلالة على لزوم خبر الواحد في الديانات التي لا تلزم العامة ، ولا تعمّ الحاجة إليها ، وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحوى الدلالة عليه من وجهين :
أحدهما : أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به ، وإلا لم يكن إنذاراً .
والثاني : أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة ، لأن معنى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ليحذروا ، وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد ، لأن الطائفة تقع على الواحد ، فدلالتها ظاهرة . انتهى .
وفي " القاموس " : أن الطائفة من الشيء القطعة منه ، أو الواحدة فصاعداً ، أو إلى الألف ، أو أقلها رجلان ، أو رجل ، فيكون بمعنى النفس الطائفة .
قال الراغب : إذا أريد بالطائفة الجمع ، فجمع طائف ، وإذا أريد به الواحد ، فيصح أن يكون جمعاً ، وكني به عن الواحد ، وأن يجعل راوية و علّامة ، ونحو ذلك .
الثاني : إن قيل : كان الظاهر في الآية : ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ، فلمَ وضع موضع التعليم الإنذار ، وموضع يفقهون يحذرون ؟ يجاب : بأن ذلك آذن بالغرض منه ، وهو اكتساب خشية الله ، والحذر من بأسه .
قال الغزالي رحمه الله : كان اسم الفقه في العصر الأول ، إسماً لعلم الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ، ومفسدة الأعمال ، والإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدل عليه هذه الآية . كذا في " العناية " .
قال الزمخشري في الآية : وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه ، إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ، ويؤمونه من المقاصد الركيكة ، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ، ومنافسة بعضهم بعضاً ، وفشوّ داء الضرائر بينهم ، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسةً لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطَّأ العقب دون الناس كلهم . فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل :
{ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً } . انتهى .
الثالث : قال القاشاني في الآية : يجب على كل مستعد من جماعةٍ ، سلوك طريق طلب العلم ، إذا لا يمكن لجميعهم ، أما ظاهراً فلفوات المصالح ، وأما باطناً فلعدم الإستعداد .
ثم قال : والتفقه في الدين هو من علوم القلب ، لا من علوم الكسب ، إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه ، كما قال : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ } ، والأكنة هي الغشاوات الطبيعية ، والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله ، وليسلك طريق التزكية والتصفية ، حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه ، فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب ، ضارب بعروقه في النفس ، ظاهر أثره على الجوارح ، بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم ، وإلا لم يكن عالماً .
ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله : { لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } ، لكون رهبة الله لازمة للعلم ، كما قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } ، وإذا تفقهوا ، وظهر علمهم على جوارحهم ، أثّر في غيرهم ، وتأثروا منه ، لارتوائهم به ، وترشحهم منه ، كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلزم الإنذار الذي هو غايته . انتهى .
ولما أمر تعالى ، في صدر السورة ، بالبراءة من مشركي العرب وقتالهم ، ثم شرح أحوال المنافقين ومخازيهم ، أشار إلى خاتمتها بما يطابق فاتحتها بذلك ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ 123 ] .
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } أي : يقربون منكم ، وهم مشركو جزيرة العرب ، كما قلنا .
وقوله تعالى : { وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } قالوا إنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال ، وشدة العداوة ، والعنف في القتل والأسر .
وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة ، والمقصود أمر المؤمنين بالإتصاف بصفات كالصبر وما معه ، حتى يجدهم الكفار متصفين بها ، فهي على حدّ قولهم : لا أرينك ههنا .
والغلظة هي ضد الرقة ، مثلثة الغين ، وبها قرئ . لكن السبعة ، على الكسر
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : بالنصرة والمعونة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ 124 ] .
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ } أي : طائفة من القرآن المعجز المحيط بجملة من الحجج ورفع الشبه { فَمِنْهُمْ } أي : من المنافقين { مَنْ يَقُولُ } بعضهم لبعض ، { أيكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ } أي : السورة { إيمَاناً } إنكاراً واستهزاءً بالمؤمنين ، واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً } لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر ، لكثرة الدلائل ، ورفع الشبة { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : بنزولها وبما فيه من المنافع الدينية والدنيوية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ } [ 125 ] .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : كفر وسوء عقيدة { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } أي : كفرهم بها مضموماً إلى الكفر بغيرها { وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : واستحكم ذلك الكفر فيهم ، بسبب الزيادة إلى موتهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 126 ] .
{ أَوَلا يَرَوْنَ } يعني المنافقين { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } أي : يبتلون بإظهار مكرهم

وخيانتهم ، أو بنقض عهدهم { فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ } أي : من صنيعهم ونقض عَهْدهم { وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : يتعظون بأنها آيات قاطعة ، وكون الإبتلاء بسبب مخالفتها .
ثم بيّن أحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي ، إثر بيان مقالتهم ، وهم غائبون عنه بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } [ 127 ] .
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ } .
قال الزمخشري : يعني تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي ، وسخرية به ، قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ، ويغلبنا الضحك ، فنخاف الإفتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والإنسلال لواذاً . يقولون : هل يراكم من أحد { ثُمَّ انْصَرَفُوا } أي : عن محفل الوحي خوفاً من الإفتضاح { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي : عن الإيمان حسب انصرافهم عن حضرته عليه السلام .
والجملة إخبارية أو دعائية { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم { قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } أي : لا يتدبرون أمر الله حتى يفقهوا .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية المتقدمة على زيادة الإيمان بما ذكر ، وسواء قلنا بدخول الأعمال في مسمى الإيمان ، وهو الحق أوْ لَا ، وأنه مجرد التصديق القلبي ، فالزيادة مما يقبلها قطعاً ، والأول بديهي ، والثاني مثله ، إذ ليس إيمان الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، والصحابة رضي الله عنهم ، كإيمان غيرهم وهذا مما لا يُرتاب فيه .
الثاني : ذكر تعالى من مخازي المنافقين نوعين : عدم اعتبارهم بالإبتلاء ، وتمكن الكفر منهم ، وازدياده في وقت يقتضي زيادة الإيمان ، وهو تكرير التنزيل .
ولما كان القصد بيان إصرارهم على كفرهم ، وعدم نفع العظات فيهم ، ختم مخازيهم بذلك ، لأنه نتيجتها ، وقدم عليه ما يصيبهم من الإبتلاء ، لأن فيه ردعاً عظيماً لو تذكروا .
وقد تلطف القاشاني في إيضاح ذلك ، وجود التقرير فيه ، وعبارته :
البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه ، وقد ورد في الحديث : < البلاء سوط
من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه > ، فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد ، بكسر سورة نفسه وقواها ، ويقمع صفاتها وهواها ، فيلين القلب ، ويبرز من حجابها ، وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها ، وينقبض منها ويشمئز ، فيتوجه إلى الله .
وأقل درجاته أنه إذا اطّلع على أن لا مفر منه إلا إليه ، ولم يجد مهرباً ومحيصاً من البلاء سواه ، تضرع إليه وتذلل بين يديه ، كما قال : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً } .
وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه ، فليغتنم وقته وليتعوّذ ، وليتخذ ملكة يعود إليها أبداً حتى يستقر التيقظ والتذكر ، وتتسهل التوبة والحضور ، فلا يتعود [ في المطبوع : يتعوذ ] الغفلة عند الخلاص فتغلب ، وتتقوى النفس عند الأمان ، وينسبل الحجاب أغلظ مما كان ، كما قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } . انتهى .
الثالث : قال السيوطي في " الإكليل " : أخذ ابن عباس من قوله : { ثمَُّ انْصَرَفُوا } كراهية أن يقال : انصرفت من الصلاة - أخرجه ابن أبي حاتم - .
ومرجع هذا إلى أدب لفظي ، باجتناب ما يوهم ، أو ما نُعِيَ به على العصاة .
وقد عقد الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فصلاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق ، واختيار الألفاظ ، فليراجع .
ثم بيّن تعالى ما امتن به على المؤمنين من بعثة خاتم النبيين بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ 128 ] .
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي : رسول عظيم من جنسكم ، ومن نسبكم ، عربيّ قرشيّ مثلكم ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ } .
وكلّم جعفر بن أبي طالب النجاشي ، والمغيرةُ بن شعبة رسولَ كسرى ، فقالا :
إن الله بعث فينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته . الحديث .
ثم ذكر تعالى ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي : شديد عليه شاق ، لكون بعضاً منكم ، عنتُكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي : على هدايتكم ، كي لا يخرج أحد منكم عن اتباعه ، والإستسعاد بدين الحق الذي جاء به { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ } إذ يدعوهم لما ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي ، لفرط رأفته { رَحِيمٌ } إذ يفيض عليهم العلوم والمعارف ، والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب فيها ، برحمته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [ 129 ] .
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : أعرضوا عن الإيمان بك ، وناصبوك : { فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } أي : فاستعن به ، وفوض إليه ، فهو كافيك وناصرك عليهم .
وقال القاشاني : أي : لا حاجة لي بكم ، ولا باستعانتكم ، كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفّن الذي يجب قطعه عقلاً ، أي : الله كافيني فلا مؤثر غيره ، ولا ناصر إلا هو ، كما قال : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : فوضت أمري إليه ، وبه وثقت : { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : المحيط بك شيء ، يأتي منه حكمه وأمره إلى الكل ، وتخصيصه لكونه أعظم المخلوقات ، فيدخل ما دونه ، وقرئ ( العظيم ) بالرفع ، على أنه صفة الرب جل وعزّ .
تم ما علقناه صباح الاثنين في 24 رجب سنة 1322 هجرية ، في سدة جامع السنانية بدمشق الشام ، اللهم يسرلنا بفضلك الإتمام ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين إلى يوم الدين .
ويليه الجزء السادس وفيه تفسير سور : يونس وهود ويوسف والرعد .

(/)


سورة يونس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [ 1 ] .
{ الر } مسرود على نمط التعديد بطريق التحدي ، أو اسمٌ للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . أي : هذه السورة مسماة بـ : { الر } والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده ، صارت في حكم الحاضر ، كما يقال : هذا ما اشترى فلان ، أو النصب بتقدير : اقرأ .
وكلمة : { تِلْكَ } إشارة إليها ، إما على تقدير كون : { الر } مسرودة على نمط التعديد ، فقد نزَّل حضور مادتها ، التي هي الحروف المذكورة منزلة ذكرها فأشير إليها ، كأنه قيل : هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة . . . الخ .
وأما على تقدير كونه اسماً للسورة ، فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها ، أو الأمر بقراءتها . وما في اسم الإشارة من معنى البعد ؛ للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ، ومحله الرفع على أنه مبتدأ ، خبره قوله تعالى :
{ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } ، وعلى تقدير كون : { الر } مبتدأ ، فهو مبتدأ ثان ، أو بدل من الأول . والمعنى : هي آيات مخصوصة منه ، مترجمة باسم مستقل ، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفاً بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة ، والصفات الكاملة .
والمراد بـ : { الكتاب } : إما جميع القرآن العظيم ، وإن لم ينزل الكل حينئذ ؛ لاعتبار تعيينه وتحققه في علم الله تعالى ، وإما جميع القرآن النازل وقتئذ ، المتفاهم بين الناس إذ ذاك .
و : { الحكيم } أي : ذو الحكمة ، وإنما وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ، ونطقه بها ، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه ، أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب الحكيم الناطق بالحكمة - أفاده أبو السعود - . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } [ 2 ] .
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه ، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبداً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال ، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه ، وعدم مناسبة حالهم لحاله ، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه ، و ( القدم ) بمعنى السبق مجازاً ، لكونه سببه وآلته ، كما تطلق ( اليد ) على النعمة ، و ( العين ) على الجاسوس ، و ( الرأس ) على الرئيس . ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة ، فهو مجاز بمرتبتين أو ( القدم ) بمعنى المقام كـ : { مَقْعَدِ صِدْقٍ } [ القمر : من الآية 55 ] ، بإطلاق الحال وإرادة المحل ، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة . وأصله ( قدمٌ صدقٌ ) أي : محققة مقررة ، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ، ظاهراً وباطناً .
قال في " الانتصاف " : ولم يرد في سابقة السوء تسميتها ( قدماً ) إما لأن المجاز لا يطرد ، وإما أن يكون مطرداً ، ولكن غلب العرف على قصرها ، كما يغلب في الحقيقة .
{ قَالَ الْكَافِرُونَ } وهم المتعجبون : { إِنَّ هَذَا } أي : الكتاب الحكيم : { لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : ظاهر . وقرئ ( لَسَاحِرٌ ) على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه . وهو دليل عجزهم واعترافهم ، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً ، وذلك لأن التعجب أولاً ، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً ، حتى عند نفس المعارض ، دأب العاجز المفحَم .
ثم بيَّن تعالى بطلان تعجبهم ، وما بنوا عليه ، وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه ، وصحة ما أنكروه ، بالتنبيه على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ 3 ] .
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية :
قال أبو العالية : استوى إلى السماء : ارتفع ، وقال مجاهد : استوى على العرش : علا ، أي : بلا تمثيل ولا تكييف ، والعرش : هو الجسم المحيط بجميع الكائنات ، وهو أعظم المخلوقات و ( الأيام ) قيل : كهذه ، وقيل : كل يوم كألف سنة .
{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي : يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله ، و : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } تقرير لعظمته وعز جلاله ، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله : { ذَلِكُمُ اللّهُ } إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أي : ذلك العظيم الموصوف بما وصف هو : { رَبُّكُمْ } أي : الذي رباكم لتعبدوه : { فَاعْبُدُوهُ } أي : وحِّدوه بالعبادة { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة ، لا ما تعبدونه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ 4 ] .
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي : الموت أو النشور ، أي : لا ترجعون في العافية إلا إليه ، فاستعدوا للقائه : { وَعْدَ اللّهِ حَقّاً } أي : صدقاً ، ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ } أي : من النطفة : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد الموت : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } أي : بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم ، أو بإيمانهم ؛ لأنه العدل القويم ، كما أن الشرك ظلم عظيم ، وهو الأوجه لمقابلة قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي : من ماء حارّ قد انتهى حره : { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } تعليل لقوله لمقابلة قوله ، فإن معناه : ليجزي الذي كفروا بشراب من حميم ، وعذاب أليم ، بسبب كفرهم ، لكنه غيَّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب بجعله حقاً مقرراً لهم ، كما تفيده ( اللام ) وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة ، والعقاب واقع بالعرَض بكسبهم ، وعلى أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما لا تحيط العبارة به لفخامته وعظمته ، ولذلك لم يعينه .
ثم نبه تعالى للاستدلال على وحدته في ربوبيته ، بآثار صنعه في النيرين ، إثر الاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 5 ] .
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء } للعالمين بالنهار : { وَالْقَمَرَ نُوراً } أي : لهم بالليل ، والضياء أقوى من النور : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } الضمير لهما ، بتأويل كل واحد منهما ، أو للقمر ، وخص بما ذكر ، لكون منازله معلومة محسوسة ، وتعلق أحكام الشريعة به ، وكونه عمدة في تواريخ العرب : { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } أي : حساب الشهور والأيام ، مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات : { مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة البالغة : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الكائنات ، فيستدلون بذلك على وحدة مبدعها .
قال السيوطي : هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب ومنازل القمر والتاريخ ، ثم نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضاً بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [ 6 ] .
{ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر : { وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُون } أي : لآيات عظيمة دالة على وحدة مبدعها ، وكمال قدرته ، وبالغ حكمته ، وخص ( المتقين ) لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها ، فإن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى ، والحذر من العاقبة .
تنبيه :
في هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة ، وأودع فيها المنافع الظاهرة ، وأبدع في كل كائن صنعه ، وأحسن كل شيء خلقه ، وميز الإنسان وعلمه البيان - يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته ليبلغ عنه شرائع عامة ، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة ، كما أشار إلى ذلك بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 7 - 10 ] .
{ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } أي : فلا يتوقعون الجزاء : { وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } أي : لا يتفكرون فيها :
{ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي : بسببه ، إلى مأواهم ، وهي الجنة ، وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها ، وانسياق النفس إليها ، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أي : من تحت منازلهم أو بين أيديهم .
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } أي : دعاؤهم هذا الكلام ؛ لأن : { اللَّهُمَّ } نداء ، ومعناه : اللهم إنما نسبحك ، كقول القانت : اللهم إياك نعبد . يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى ، كما يقال : شكا يشكو شكاية وشكوى ، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة ، ونظيره آية : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ مريم : من الآية 48 ] : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أي : ما يحيي به بعضهم بعضاً ، أو تحية الملائكة إياهم ، كما في قوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] ، أو تحية الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى : { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [ يّس : 58 ] . و ( التحية ) : التكرمة بالحالة الجلية ، أصلها : أحياك الله حياة طيبة . و ( السلام ) بمعنى السلامة من كل مكروه { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ } أي : وخاتمة دعائهم هو التسبيح : { أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : حمده تعالى : والمراد من الآية أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم : سبحانك اللهم وبحمدك . وإيثار التعبير عن ( وبحمدك ) بقوله : { وآخِرُ } الخ رعاية للفواصل ، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة تذكيراً بمسماها ، والآية تدل على سمو هذا الذكر ؛ لأنه دعاء أهل الجنة وذكر الملائكة كما قالوا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : من الآية 30 ] ولذلك ندب قراءته بعد تكبيرة الإحرام .
قال الرازي : لما استسعد أهل الجنة بذكر ( سبحانك اللهم وبحمدك ) ، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخالفات ، علموا أن كل هذه الأحوال السنية ، والمقامات القدسية ، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه ، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء .
ولما بيَّن تعالى وعيده الشديد ، أتبعه بما دل على أن من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيوية ؛ لأن حصوله في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 11 ] .
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ } وهم الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم : { الشَّرَّ } أي : الذي كانوا يستعجلون به ، فإنهم كانوا يقولون : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، ونحو ذلك : { اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ } أي : تعجيلاً مثل استعجالهم الدعاء بالخير : { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لأميتوا وأهلكوا : { فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : في ضلالهم وشركهم يترددون .
لطيفة :
زعم الزمخشري أن معنى استعجالهم بالخير ، أي : تعجيله لهم الخير ، وضع الأول موضع الثاني إشعاراً بسرعة إجابته لهم ، وإسعافه بطلبتهم ، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيلٌ لهم . وعندي أنه صرف اللفظ الكريم عن ظاهره بلا داع . ولا بلاغة فيه أيضاً وإن توبع فيه . والحرص على موافقة عامل المصدر له ليكونا من باب واحد ، غير ضروري في العربية ، والشواهد كثيرة .
وجوز الرازي أن يكون : { يُعَجِّلُ } أصله يستعجل ، عدل عنه تنزيهاً للجناب الأقدس عن وصف طلب العجلة ، فوصف بتكوينها ، ووصف الناس بطلبها ؛ لأنه الأليق ولعل الأليق أن : { اسْتِعْجَالَهُم } مصدر لفعل دل عليه ما قبله ، والتقدير : ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلون به استعجالهم . وإنما حذف إيجازاً ؛ للعلم به ، ويوافقه قوله تعالى : { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } [ الإسراء : من الآية 11 ] فإنه في معنى ما هنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 12 ] .
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا } أي : لكشفه وإزالته : { لِجَنبِهِ } حال من فاعل ( دعا ) واللام بمعنى ( على ) أي : على جنبه ، أي : مضطجعاً : { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ } أي : مضى على طريقته الأولى { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ } أي : كشفه : { مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : من الإعراض عن الذكر ، وإتباع الشهوات . والآية سيقت احتجاجاً على المشركين ، بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد ، علماً بأنه لا يكشفها إلا هو ، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، ويستيقنوا أنه الإله الأحد ، الذي لا يعبد سواه ، وفيها نعي عليهم سوء منقلبهم ، إثر كشف كرباتهم ، وتحذير من مثل صنيعهم .
ثم ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [ 13 ] .
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } أي : بالتكذيب والكفر : { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } أي : فقرر عليهم الحجة بالوجوه الكثيرة . وما كانوا ليؤمنوا بتلك البينات ولا بغيرها ، فجزاهم بالإهلاك المعروف فيهم { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ 14 ] .
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } الخطاب للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها ، لننظر كيف تعملون من خير أو شر ، فنعاملكم حسب عملكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 15 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش ، بأنهم إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة ، قالوا له : ائت بقرآن غير هذا ، أي : جئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر . قال تعالى لنبيه : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي } : أي : ليس ذلك إلي ، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى .
قيل : إنما اكتفى بالجواب عن التبديل ؛ للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولاً من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها . وأن التصدي لذلك ، مع كونه ضائعاً ؛ ربما يعدُّ من قبيل المجاراة مع السفهاء ، إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء ، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى ، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة . وقوله : { إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } أي : بالتبديل والنسخ من عند نفسي .
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل به من منع نسخ القرآن بالسنة .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح ؛ قلت : الكيد والمكر . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك ، وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر . وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ، ولاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه ، وتصحيحاً لافترائه على الله - انتهى - .
ولما بيَّن بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته ؛ أشار إلى تحقيق حقية القرآن ، وكونه من عنده تعالى بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 16 ] .
{ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } .
قال الزمخشري : يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ، ولم يشهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء ، فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً ، يبهر كل كلام فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان ، ويكون ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه ، وألصقهم به .
{ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ } أي : ولا أعلمكم به على لساني : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ } أي : من قبل نزوله ، لا أتعاطى شيئاًً مما يتعلق بنحوه ، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان ، فتتهموني باختراعه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : فتعلموا أنه ليس إلا من الله ، لا من مثلي .
قال الزمخشري : وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم : { ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا } من إضافة الافتراء إليه .
تنبيه :
رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم ، واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على إتباع الوحي ، وامتناع الاستبداد بالرأي ، من غير تعرض هناك ولا هاهنا ؛ لكون القرآن في نفسه أمراً خارجاً عن طوق البشر ، ولا لكونه عليه السلام غير قادر على الإتيان بمثله ، أن يستشهد هاهنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة ، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائناً من كان . كما ينبئ عن تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى .
والمعنى : قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي ، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة . فضلاً عما فيه كذب أو افتراء ، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد ، مستحيل أن يفتري على الله ، ويتحكم على الخلق كافة ، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء ، وسلب الأموال ، ونحو ذلك ، وأن ما أتي به وحي مبين ، تنزيل من رب العالمين - انتهى - .
وما استنسبه رحمه الله ، اقتصر عليه ابن كثير ، ثم استشهد بقول هرقل ملك الروم لأبي سفيان ، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال هرقل له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت لا ! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة ، وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف بالحق .
~والفضل ما شهدت به الأعداء
فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يكذب على الله .
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة .
وعن ابن المسيب : ثلاثاً وأربعين سنة ، والصحيح المشهور الأول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } [ 17 ] .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } استفهام إنكاري معناه الجحد . أي : لا أحد أظلم ممن تقوَّل على الله تعالى ، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه ، أو كفر بآياته ، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن ، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام .
{ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } أي : لا ينجون من محذور ، ولا يظفرون بمطلوب ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [ الأنعام : من الآية 93 ] ، وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي ، وعدَّه صادق بلا مرية ، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال ، ولا يشتبه أمره على أحد بحال .
وقد ذكر أن عَمْرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب - وكان صديقاً له في الجاهلية ، وكان عَمْرو لم يسلم بعد - فقال له مسيلمة : ويحك يا عَمْرو ! وماذا أنزل على صاحبكم - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة ؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة . فقال : وما هي ؟ فقال : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ } الخ [ العصر : 1 - 3 ] ، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال : وأنا قد أنزل عليَّ مثله ! فقال : وما هو ؟ فقال : يا وبر يا وبر . . إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر نقر . كيف ترى يا عَمْرو ؟ فقال له عَمْرو : والله ! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب .
وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس ، فكنت فيمن انجفل منه ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب . قال : فكان أول ما سمعته يقول : < أيها الناس ! أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام > قال حسان :
~لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 18 ] .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي : الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر ، أي : ومن شأن المعبود القدرة على ذلك { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } أي : أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء بما ليس بمعلوم الله ، وإذا لم يكن معلوماً له - وهو العالم المحيط بجميع المعلومات - لم يكن موجوداً ، فكان خبراً ليس له مخبر عنه .
فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك ؟ قلت : هو تهكم بهم ، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به ، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه .
وقوله : { فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } تأكيد لنفيه ؛ لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم - كذا في " الكشاف " - .
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : عن الشركاء الذي يشركونهم به ، أو عن إشراكهم .
ثم أشار تعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع ، فطرة وتشريعاً ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 19 ] .
{ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : حنفاء متفقين على ملة واحدة ، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد : { فَاخْتَلَفُواْ } بإتباع الهوى وعبادة الأصنام ، فالشرك وفروعه جهالات [ في المطبوع : جهلات ] ابتدعها الغواة صرفاً للناس عن وجهة التوحيد ، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : من الآية 42 ] : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } أي : بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة : { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : عاجلاً : { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بتمييز الحق من الباطل ، بإبقاء المحق ، وإهلاك المبطل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ 20 ] .
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي : من الآيات التي اقترحوها تعنتاً وعناداً ، وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة ، التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر ، بديعة غريبة في الآيات { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ } أي : هو المختص بعلم الغيب ، المستأثر به ، لا علم لي ولا لأحد به . يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيَّب لا يعلمه إلا هو .
{ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } أي : فما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم ، فإن العاقبة للمتقين . وقد قال تعالى في آية أخرى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ } [ الإسراء : من الآية 59 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } [ يونس : 96 - 97 ] ، وقال تعالى : : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] ، أي : فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم ، لفرط عنادهم ، ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته ، عليه السلام ، لإعجازه ، كان طلب آية أخرى سواه من مقترحهم - مما لا حاجة له في صحة نبوته ، وتقرير رسالته ، فمثلها يكون مفوضاً إلى مشيئته تعالى ، فترد إلى غيبه ، وسواء أنزلت أو لا ، فقد ثبتت نبوته ، وصحت رسالته ، صلوات الله عليه .
ثم أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج مشيراً إلى أنهم لا يذعنون ، ولو أجيبوا لمقترحهم بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشفهم ضرهم إلى الإشراك ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } [ 21 ] .
{ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ } أي : خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم : { إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا } أي : يتبين مكرهم ويظهر كامن شركهم ، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها ، كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن ، ثم ينجلي أمره بعد : { قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً } أي : عقوبة ، أي : عذابه أسرع وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ، وتسمية العقوبة بالمكر ؛ لوقوعها في مقابلة مكرهم وجوداً أو ذكراً { إِنَّ رُسُلَنَا } أي : الذي يحفظون أعمالكم : { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أي : مكركم ، أو ما تمكرونه ، وهو تحقيق للانتقام ، وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلاً عن العليم الخبير .
ثم بين تعالى نوعاً من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ 22 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ } أي : السفن : { وَجَرَيْنَ } أي : السفن : { بِهِم } أي : بالذين فيها : { بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } أي : لينة الهبوب ، موافقة للمرغوب : { وَفَرِحُواْ بِهَا } لأمن الآيات : { جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } أي : ذات شدة : { وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي : أحاط بهم أسباب الهلاك ، وهي شدة الموج والريح : { دَعَوُاْ اللّهَ } أي : للتخلص منها : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وهو الدعاء لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره : { لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : العابدين لك شكراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 23 ] .
{ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : يفسدون فيها ، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } أي : الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص واستجابة الدعاء : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } أي : وباله عليكم { مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } خبر محذوف أو هو متاع . أو خبر ثان أو هو الخبر لـ ( بغيكم ) و ( على ) متعلق به . وقرئ بالنصب مصدر لمحذوف ، أي : نمتعكم . أو مفعول به له . أي : تبغون { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا وهو وعيد بجزائهم على البغي .
ثم بيَّن تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 24 ] .
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } أي : امتزج به لسريانه فيه ، فالباء للمصاحبة ، أو هي للسببية ، أي : اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضاً ، أي : التف بعضه ببعض ، والأول أظهر : { مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ } من الزروع والثمار والكلأ والحشيش : { حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا } أي : حسنها وبهجتها : { وَازَّيَّنَتْ } أي : بأصناف النبات : { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } أي : متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها : { أَتَاهَا أَمْرُنَا } أي : عذابنا : { لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي : كالمحصود من أصله : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } أي : لم تنبت : { بِالأَمْسِ } أي : قبيل ذلك الوقت . و ( الأمس ) مَثَلٌ في الوقت القريب : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي : بالأمثلة تقريباً : { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في معانيها .
تنبيه :
قال القاشاني : البغي ضد العدل ، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل ، وهيئة وحدانية لها ، فائضة من نور الوحدة على النفس ، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعاً ، فصاحبها في غاية البعد عن الحق ، ونهاية الظلمة ، كما قال : الظلم ظلمات يوم القيامة . فلهذا قال : { عَلَى أَنْفُسِكُمْ } لا على المظلوم ؛ لأن المظلوم سعد به ، وشقي الظالم غاية الشقاء ، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا ؛ إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ، ولذات حيوانية ، تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال ، وقلة البقاء ، هذا المثل الذي مثل به ، من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر ، ثم فسادها ببعض الآفات سريعاً قبل الانتفاع بنباتها ، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم .
وفي الحديث : < أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة > ؛ لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس ، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى . انتهى .
وسمعت بعض المشايخ يقول : قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة ، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه ، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله . انتهى .
ولما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها ، رغّب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار السلام ، أي : من الآفات والنقائص ، لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضاً للآفات كما مرّ ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* ل ِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 25 - 26 ] .
{ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ } أي : يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته : { وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : دين قيم يرضاه ، وهو الإسلام .
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } أي : للذين أحسنوا النظر ، فعرفوا مكر الدنيا والشهوات فأعرضوا عنها ، وتوجهوا إلى الله تعالى ، فعبدوه كأنهم يرونه ، المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، وزيادة على المثوبة ، وهي التفضل كما قال تعالى : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِه } [ النساء : 173 ] ، و [ النور : 38 ] ، و [ فاطر : 30 ] ، و [ الشورى : 26 ] ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجه تعالى الكريم . ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين . ورفعها ابن جرير إلى النبي صلوات الله عليه ، عن أبي موسى وكعب بن عجرة ، وأبيّ . وكذا ابن أبي حاتم .
وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } الخ ، وقال : < إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ ، وأهل النارِ النارَ ، نادى مناد : يا أهل الجنة ! إن لكم عند الله موعداً ، يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار ؟ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ! ما أعطاهم الله شيئاًً أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم > وهكذا رواه مسلم .
{ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } أي : لا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات : { وَلاَ ذِلَّةٌ } أي : أثر هوان ، وكسوف بال ، من أثر الالتفات إلى ما دون الله تعالى .
قال الناصر : وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة فإن فيه تنبيهاً على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى ، فجدير بهم أن لا يرهن وجوههم قتر البعد ، ولا ذلة الحجاب ، عكس المحرومين المحجوبين ، فإن وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد .
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } أي : الذين أحسنوا : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 27 ] .
{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ } أي : الشرك والمعاصي : { جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : واق يقيهم العذاب : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ } أي : ألبست : { وُجُوهُهُمْ قِطَعاً } أي : أجزاء : { مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً } لفرط سوادها وظلمتها . وذلك لارتكابهم الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية ، والأعمال الردية ، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم . وقد ذكر هذا المعنى في غير ما آية : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
ثم بيَّن تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [ 28 ] .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المشركين ومعبوداتهم للمقاولة بينهم : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } أي : معبوديهم بالله مع توقعهم الشفاعة منهم : { مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ } أي : الزموا مكانكم ، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . قال القاشاني : معناه قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم ، وتبرؤ المعبود من العابد ؛ لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوُصَل .
ومعنى قوله : { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أي : مع كونهم في الموقف معاً ، فرقنا بينهم ، وقطعنا الوُصَل التي بينهم ، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة ، ولا من المعبودين إفادتها ، لو أمكنتهم : { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } إذ لم تكن عبادتكم من أمرنا ، بل عن أمر الشيطان فكنتم عابديه بالحقيقة ، بطاعتكم إياه ، وعابدي ما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة ، وأماني كاذبة .
قيل : القوة مجاز عن تبرئهم من عبادتهم ، وأنهم عبدوا أهواءهم وشياطينهم ؛ لأنها الآمرة لهم دونهم ؛ لأن الأوثان جمادات وهي لا تنطق . وقيل : ينطقها : { اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : من الآية 21 ] ، فتشافههم بذلك ، مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [ 29 ] .
{ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ } أي : لنا : { لَغَافِلِينَ } أي : الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا عبادتكم إيانا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 30 ] .
{ هُنَالِكَ } أي : في ذلك المقام المدهش ، حين قطع المواصلة ، وإنكار الشركاء العبادة : { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } أي : تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل ، فتعاين أثره من قبح وحسن ، ورد وقبول ، كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه ، ليكتنه حاله ، وهذا كقوله تعالى : { يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] وقوله : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] .
{ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } الضمير للذين أشركوا ، أي : ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم ، وأصول دينهم ومذهبهم ، وتوهماتهم الكاذبة ، وأمانيهم الباطلة . أي : ظهر ضياعه وضلاله ولم يبق له أثر فيهم .
وفي هذه الآية تبكيت شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً ، ولم يأمرهم بذلك ، ولا رضي به ولا أراده ، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة . والمشركون أنواع وأقسام ، وقد ذكرهم تعالى في كتابه ، وبين أحوالهم ، ورد عليهم أتم رد .
ثم احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده بقوله سبحانه وتعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ 31 ] .
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } بالإمطار والإنبات وهل يمكن إلا ممن له التصرف العام فيها : { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ } أي : من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة ، كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ } [ الملك : من الآية 23 ] .
{ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } يعني النسمة من النطفة ، أو الطير من البيضة ، أو السنبلة من الحب { وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } كأن يخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر . وقيل : المراد أن يخرج المؤمن من الكافر أو الكافر من المؤمن { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي : ومن يلي تدبير أمر العالم كله ، بيده ملكوت كل شيء ، تعميم بعد تخصيص : { فَسَيَقُولُونَ اللّهُ } إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه : { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي : أفلا تخافون بعد اعترافكم ، من غضبه لعبادة غيره إتباعاً للهوى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ 32 ] .
{ فَذَلِكُمُ } إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله : { اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } الثابت وحدانيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تخطى الحق وقع في الضلال ، أي : فما بعد حقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه ، وعبادة غيره ، انفراداً أو شركة : { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي عن الحق الذي هو التوحيد ، إلى الضلال الذي هو الشرك ، وأنتم تعترفون بأنه الخالق كل شيء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 33 ]
{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا في كفرهم ، وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه . وقوله : { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من الكلمة ، أي : حق عليهم انتفاء الإيمان ، وعلم الله منهم ذلك . أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } تعليل بمعنى ( لأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) أفاده الزمخشري - أي : كقوله تعالى : { قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : من الآية 71 ] ، وقوله تعالى : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ } [ الزمر : 19 ] ، قيل : { الَّذِينَ فَسَقُواْ } مظهر وضع موضع ضمير المخاطبين للإشعار بالعلية ، و ( الفسق ) هنا التمرد في الكفر ، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم ، لتمردهم في كفرهم ، ولأنهم لا يؤمنون ، وهو تكرار . وأجيب بأنه تصريح بما علم ضمناً من : { الَّذِينَ فَسَقُواْ } ، أو دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان .
ثم احتج أيضاً على حقّية التوحيد وبطلان الشرك بما هو من خصائصه تعالى ، من بدء الخلق وإعادته ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 34 ] .
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } أي : من يبدؤه من النطفة ، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه ، ويستعمله أعمالاً ، ثم يحييه يوم القيامة ، ليجزيه بما أسلف في أيامه الخالية . وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها ؛ إيذاناً بظهور برهانها ، للأدلة القائمة عليها سمعاً وعقلاً ، وإن إنكارها مكابرة وعناداً لا يلتفت إليه ، وإشعاراً بتلازم البدء والإعادة وجوداً وعدماً يستلزم الاعترافُ به الاعترافَ بها . ثم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يبين لهم من يفعل ذلك ، فقيل له : { قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : فكيف تصرفون إلى عبادة الغير ، مع عجزه عما ذكر .
ثم احتج عليهم أيضاً ، إفحاماً إثر إفحام ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ 35 ]
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي : بوجه من الوجوه ، كبعثة الرسل ، وإيتاء العقل . وتمكين النظر في آيات الكون ، والتوفيق للتدبر { قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } وهو تبارك وتعالى - : { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } أي : يعبد ويطاع : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ } أي : إلا أن يهديه الله تعالى - نزل منزلة من يعقل لإفحامهم - وقيل معناه : أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل ، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه . وقد قرئ : { أمنْ لا يَهَدِّي } بفتح الياء والهاء وتشديد الدال ، أصله يهتدي ، أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء ، وقرئ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ، لأنه لما نقلت الحركة التقى ساكنان ، فكسر أولهما للتخلص من التقائهما ، وقرئ بسكون الهاء وبتخفيف الدال ، على معنى ( يهتدي ) والعرب تقول : يهدي بمعنى يهتدي . يقال : هديته فهدى ، أي : اهتدى .
وقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ } مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار والتعجب . أي : أي : شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم ، فضلاً عن هداية غيرهم شركاء ، وقوله : { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } مستأنف ، أي : كيف تحكمون بالباطل ، حيث تزعمون أنهم أنداد الله ؟ ! .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [ 36 ] .
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } أي : في اعتقادهم ألوهية الأصنام : { إِلاَّ ظَنّاً } اعتقاداً غير مستند لبرهان ، بل لخيالات فارغة ، وأقيسة فاسدة . والمراد ( بالأكثر ) : الجميع { إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ } أي : من العلم والاعتقاد الحق : { شَيْئاً } أي : من الإغناء ، فـ : ( شيئاً ) في موضع المصدر ، أي : غناء ما . أو مفعول لـ ( يغني ) . و : { مِنَ الْحَقِّ } حال منه { إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } وعيد على إتباعهم الظن ، وإعراضهم عن البرهان .
تنبيه :
قال الرازي في هذه الآية :
اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً ، ثم بالهداية ثانياً ، عادة مطردة في القرآن . فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك ، فقال : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ، وعن موسى عليه السلام مثله فقال : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ، وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] ، وهو في الحقيقة دليل شريف ، لأن الإنسان له جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية ، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله : { أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [ النمل : 64 ] أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية ، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] ، وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد ، وإنما أعطى الحواس ، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم . وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم ، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة . أما الأحوال الروحانية ، والمعارف الإلهية ، فإنها كمالات باقية أبد الآباد ، مصونة عن الكون والفساد .
فعلمنا أن الخلق تبع للهداية ، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية ، ولاضطراب العقول وتشعب الأفكار كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده . والهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق ، أو عن تحصيل معرفتها ، وعلى كل فقد بينا أنها أشرف المراتب ، وأعلى السعادات ، وأنها ليست إلا منه تعالى . وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ، ولا في الإرشاد إلى الصدق ، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة ، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد ، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك ، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضاً ، وسفهاً صرفاً . فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال .
ثم بيَّن تعالى حقّية هذا الوحي المنزل ، رجوعاً إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزَل عليه ، ودلائلها في آيات الله الكونية ، والمنبئة عن عظيم قدرته ، وجليل عنايته بهداية بريته ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 37 ] .
{ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ } لامتناع ذلك ؛ إذ ليس لمن دونه تعالى كمال قدرته التي بها عموم الإعجاز : { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : مصدقاً للتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد ، وصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، و ( تَصْدِيْقَ ) منصوب على أنه خبر ( كَاْنَ ) أو علة لمحذوف ، أي : أنزله تصديق الخ . وقرئ بالرفع خبراً لمحذوف ، أي : هو تصديق الذي بين يديه . أي : وبذلك يتعين كونه من الله تعالى ؛ لأنه لم يقرأها ، ولم يجالس أهلها { وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ } أي : وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع ، من قوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : من الآية 24 ] ، كما قال علي رضي الله عنه : فيه خبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وفصل ما بينكم { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : منتفياً عنه الريب ، كائناً من رب بالعالمين ، أخبار أخر لما قبلها .
قال أبو مسعود : ومساق الآية بعد المنع عن إتباع الظن ؛ لبيان ما يجب إتباعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 38 ]
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : بل أيقولون . فـ ( أم ) منقطعة مقدرة بـ : ( بل والهمزة ) عند الجمهور ، والهمزة للإنكار ، أي : ما كان ينبغي ذلك . وقيل : متصلة ، ومعادلها مقدر ، أي : أيقرون به بعد ما بيَّنا من حقيقته أم يقولون افتراء { قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ } أي : إن كان الأمر كما تزعمون ، فأتوا ، على وجه الافتراء ، بسورة مثله في البلاغة ، وحسن الصياغة ، وقوة المعنى ، فأنتم مَثَلٌ في العربية والفصاحة ، وأشد تمرناً في النظم : { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : ادعوا من دونه تعالى ، ما استطعتم من خلقه ، للاستعانة به على الإتيان بمثله - إن صدقتم في أني اختلقته - فإنه لا يقدر عليه أحد .
قال أبو السعود : وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء ، للتنصيص على براءتهم منه تعالى ، وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة ، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه ، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } [ 39 ]
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِه } إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي ، إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل ، أي : سارعوا إلى التكذيب به ، وفاجؤوه في بديهة السماع ، قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ، ويقفوا على تأويله ومعانيه وما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق ، وذلك لفرط نفورهم عما يخلف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم ، كالناشئ على التقليد من الحشوية ، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه ، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة ، وبيان الاستقامة ، أنكرها في أول وهلة ، واشمأز منها ، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ؛ لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه ، وفساد ما عداه من المذاهب . وسر التعبير : { بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِه } الإيذان بكمال جهلهم به ، وأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به كذا في " الكشاف وأبي السعود " .
{ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي : بيان ما يؤول إليه ، مما توعدهم فيه . وهذا المعنى هو الصحيح في الآية . وقد مشى عليه غير واحد .
قال في " تنوير الاقتباس " : أي : عاقبة ما وعدهم في القرآن .
وقال الجلال : أي : عاقبة ما فيه من الوعيد .
وقال القاشاني : تأويله : أي : ظهور ما أشار إليه في مواعيده ، وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه ، فلا يمكنهم التكذيب ؛ لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه .
{ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : بآيات الرسل ، قبل التدبر في معانيها .
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } أي : من هلاكهم بسبب تكذيبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 40 - 42 ]
{ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِه } أي : يصدق به في نفسه ، ولكن يكابر بالتكذيب : { وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ }
{ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } أي : إن أصروا على تكذيبك ، فتبرأ منهم ، فقد أعذرت .
ثم أشار إلى أنهم ممن طبع على قلوبهم بقوله تعالى : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } أي : إذا قرأت القرآن : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } أبرزهم في عدم
انتفاعهم بسماعهم ، لكونهم لا يعون ولا يقبلون ، بصورة الصم المعتوهين ، أي : أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ، ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ؟ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويِّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل فقد تم الأمر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ 43 ]
{ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } كذلك أبرزهم لدعم انتفاعهم بمشاهدة أدلة الصدق وأعلام النبوة ، بصورة العمي المضموم إلى عماهم فقد البصيرة . أي : أتحب هداية من كان كذلك ؟ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن ، أما مع الحمق فجهد البلاء . يعني أنهم في اليأس من أين يقبلوا ويصدقوا ، كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول - كذا في " الكشاف " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 44 ]
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً } بتعذيبهم من غير أن تقوم الحجة عليهم ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، ومن غير أن يكونوا سليمي الحواس والمدارك ، فإنه لعدله لا يفعل ذلك { وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر والتكذيب وعدم استعمال حاساتهم ومداركهم فيما خلقت له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ 45 ]
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } أي : شيئاً قليلاً : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } أي : يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتعارفوا إلا قليلاً : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ } أي : بالبعث بعد الموت : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : من الكفر والضلالة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 46 - 47 ]
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُم } أي : من العذاب : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّك } أي : قبل ذلك : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي : فننجزهم ما وعدناهم كيفما دار الحال : { ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } أي : من مساوئ الأفعال .
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } أي : منهم ، أرسل لهدايتهم ، وتزكيتهم بما يصلحهم : { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُم } أي : فبلغهم ما أرسل به فكذبوه : { قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْط } أي : بالعدل فأنجي الرسول وأتباعه ، وعذب مكذبوه : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم ؛ لأنه من نتائج أعمالهم .
وقال القاشاني في قوله تعالى : { قُضِيَ بَيْنَهُم } أي : بهداية من اهتدى منهم ، وضلالة من ضل وسعادة من سعد ، وشقاوة من شقي ، لظهور ذلك بوجوده ، وطاعة بعضهم إياه لقربه منه ، وإنكار بعضهم له لبعده عنه . أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته ، وإهلاك من ضل وتعذيبه ، لظهور أسباب ذلك بوجوده - انتهى - .
فالآية على هذا كقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وجوز أن يكون المعنى : لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه ، وتدعى به ، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان ، قضى بينهم بإنجاء المؤمنين ، وعقاب الكافرين . كقوله تعالى : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } [ الزمر : 69 ] .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [ 48 - 49 ]
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } استبعاداً له ، واستهزاءً به : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أنه يأتينا ، ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلوات الله عليه ، قيل :
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي : مع ذلك أقرب حصولاً ، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم وتقديم الضر ، لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه ، وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تعميماً . والمعنى لا أملك شيئاً ما .
{ إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } أي : أن أملكه ، أو لكن ما شاء الله كائن ، فالاستثناء متصل أو منقطع . وصوب أبو السعود الثاني ، بأن الأول يأباه مقام التبرؤ من أن يكون ، عليه الصلاة والسلام ، له دخل في إتيان الوعد . وبسط تقريره .
وأفاد بعض المحققين أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن الكريم للدلالة على الثبوت والاستمرار ، كما في هذه الآية ، وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ] ، قال : والنكتة في الاستثناء ؛ بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى ، لا بطبيعتها في نفسها ، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل . وهو نفيس جداً فليحرص على حفظه .
وقوله تعالى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي : لكل واحد من آحاد كل أمة أجل معين : { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } قال القاشاني : درَّجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه ، ووجوب وقوع ذلك بمشيئة الله ، ليعرفوا آثار القيامة . ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ } [ 50 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ } أي : أخبروني : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } أي : الذي تستعجلون به : { بَيَاتاً } أي : ليلاً : { أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون } أي : ولا شيء منه بمرغوب البتة .
لطائف :
الأولى - ( أرأيت ) يستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ، وهو أصل وضعه ، ثم استعملوه بمعنى ( أخبرني ) والرؤية فيه يجوز أن تكون بصرية وعلمية ، فالتقدير : أأبصرت حالته العجيبة ، أو أعرفتها ؟ فأخبرني عنها . ولذا لم يستعمل في غير الأمر العجيب . ولما كانت رؤية الشيء سبباً لمعرفته ، ومعرفته سبباً للإخبار عنه ، أطلق السبب القريب أو البعيد ، وأريد مسببه ، وهل هو بطريق التجوز كما ذهب إليه كثير ، أو التضمين كما ذهب إليه أبو حيان - كذا في " العناية " .
الثانية - سر إِيثار ( بياتاً ) على ( ليلاً ) مع ظهور التقابل فيه ؛ الإشعار بالنوم والغفلة ، وكونه الوقت الذي يبيت فيه العدو ، ويتوقع فيه ، ويغتنم فرصة غفلته ، وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ، ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش ، حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار ، أو النهار كله محل الغفلة ، لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو غذاء ، أو زمان قيلولة ، كما في قوله : { بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : من الآية 4 ] بخلاف الليل ، فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات ، لذا خص بالذكر دون النهار . و ( البيات ) بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم ، ولا بمعنى البيتوتة .
الثالثة - قيل : إن استعجالهم العذاب ، كان المقصود منه الاستبعاد والاستهزاء ، دون ظاهره ، فورود ( ما ) هنا في الجواب على الأسلوب الحكيم ؛ لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا الاستبعاد أن الموعود منه تعالى ، وأنه افتراء ، فطلبوا منه تعيين وقته تهكماً وسخرية ، فقال في جوابهم : هذا التهكم لا يتم إذا كنت مقراً بأني مثلكم ، وأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ، فكيف أدعي ما ليس لي به حق ؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ، ولم يلتفت إلى تهكمهم واستبعادهم - أفاده الطيبي - .
الرابعة - سر إيثار : { مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون } على ( مَاذَا يَسْتَعْجِلونُ مِنْهُ ) هو الدلالة على موجب ترك الاستعجال ، وهو الإجرام ، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه ، وإن أبطأ ، فضلاً عن أن يستعجله - كذا في " الكشاف " - .
قال في " الانتصاف " : وفي هذا النوع البليغ نكتتان :
إحداهما : وضع الظاهر مكان المضمر ، والأخرى : ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر .
وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة - والله أعلم - .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ 51 ] .
{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ } إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة ، داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكماً ، تحت القول المأمور به . أي : أبعد ما وقع العذاب وحلَّ بكم حقيقة آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان ؟ إنكاراً لتأخيره إلى هذا الحد ، وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرة ، ليقلعوا عما هم عليه من العناد ، ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الفوات - أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى : { آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } على إرادة القول . أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد معاينة العذاب : ( آلآن آمنتم به ) ؟ وذلك إنكاراً للتأخير ، وتوبيخاً عليه . وسر وضع : { تَسْتَعْجِلُونَ } موضع : { تكذبون } الذي يقتضيه الظاهر ؛ الإشارة إلى أن المراد به الاستعجال السابق ، وهو التكذيب والاستهزاء ، استحضاراً لمقالتهم ، فهو أبلغ من ( تكذبون ) .
وقيل : الاستعجال كناية عن التكذيب ، وفائدة هذه الحال استحضارها ، وهذا ما ذكروه ، ولا مانع من بقاء الاستعجال على حقيقته ، يدل عليه آية : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفال : 32 ] الخ ، فهم مع تهكمهم رضوا بأن يعاينوا آية يعذبون بها ، لما في قلوبهم من مرض العناد العضال ، والجهل المصم المعمي ، ولذلك أجيبوا بأن العذاب هل فيه ما يستعجل منه ! أي : فمثل هذا الاستعجال لا يصدر ممن له مسكة من عقل ؛ إذ لا يستعجل إلا ما يرجى خيره ، ثم أعلمهم بعدم فائدة إيمانهم وقتئذ ، وما يوبخون به إنكاراً للتأخير - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [ 52 - 53 ]
{ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : أشركوا : { ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ } في الآخرة : { إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي : تقولون وتعملون في الدنيا .
{ وَيَسْتَنبِئُونَكَ } أي : يستخبرونك : { أَحَقٌّ هُوَ } أي : الوعد بعذاب الخلد ، أو ادعاء النبوة أو القرآن : { قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين العذاب ، فهو لاحق بكم لا محال ، من ( أعجزه ) الشيء إذا فاته ، يصح كونه ( أعجزه ) بمعنى وجده عاجزاً . أي : ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزاً عن إدراككم ، وإيقاعه بكم .
لطائف :
الأولى - دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم ، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن ، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه ، مما يصدعهم به .
الثانية - إنما أمر بالقسم لاستمالتهم ، وللجري على ما هو المألوف في المحاورة ، من تحقيق المدعي ، فإن من أقسم على خير ، فقد كساه حلة الجدّ ، وخلع عنه لباس الهزل : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } [ الطارق : 13 - 14 ] .
الثالثة - لما كانت الناس طبقات ، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقي ، ومنهم من لا ينتفع به ، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية ، نحو القسم ، كالأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن رسالته وبعثه ، وأنشده بالذي بعثه ، ثم اقتنع بقوله صلوات الله عليه : < اللهم نعم > فقال : آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة ، - رواه البخاري في أوائل كتاب العلم - .
الرابعة - قال ابن كثير : هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] ، وفي التغابن : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] - انتهى - .
وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " قال : وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً ، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع ، ثم ذكر هذه الآيات ، ثم قال : وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه - فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له ، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود ، فتهيأ للحلف ، فقال له القاضي إسماعيل : وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟ فقال : وما يمنعني عن الحلف ، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه ؟ قال : أين ذلك ؟ فسردها أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جداً ، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 54 ]
{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } أي : بالشرك بالله ، أو التعدي على الغير ، أو مطلقاً : { مَا فِي الأَرْضِ } أي : من الأموال : { لاَفْتَدَتْ بِهِ } أي : لجعلته فدية لها من العذاب : { وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ } أي : أخفوها أسفاً على ما فعلوا من الظلم . وضمير : { أَسَرُّواْ } للنفوس ، المدلول عليها بـ : ( كل نفس ) . والعدول إلى صيغة الجمع ؛ لتهويل الخطب ، بكون الخطب بطريق الاجتماع : { لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ } أي : عاينوه : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : فيما فعل بهم من العذاب ؛ لأنه جزاء ظلمهم . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 55 - 56 ] .
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إعلام بأن له الملك كله ، وأنه المثيب المعاقب ، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق ، وهو القادر على الإحياء والإماتة ، لا يقدر عليهما غيره ، وإلى حسابه وجزائه المرجع ، ليعلم أن الأمر كذلك ، فيخاف ويرجى ، ولا يغتر به المغترون - كذا في " الكشاف " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ 57 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُم ْ } أي : تزكية نفوسكم بالوعد والوعيد ، والإنذار والبشارة ، والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب ، والتحريض على الأعمال الموجبة للثواب ، لتعملوا على الخوف والرجاء : { وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ } أي : القلوب من أمراضها ، كالشك والنفاق ، والغل والغش ، وأمثال ذلك ، بتعليم الحقائق ، والحكم الموجبة لليقين ، وتصفيتها بقبول المعارف ، والتنوير بنور التوحيد : { وَهُدًى } أي : لنفوسكم من الضلالة : { وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي : لمن آمن به بالنجاة من العذاب والارتقاء إلى درجات النعيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ 58 ]
{ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ } يعني القرآن الذي أكرموا به : { وَبِرَحْمَتِهِ } يعني الإسلام : { فَبِذَلِكَ } أي : فبمجيئهما : { فَلْيَفْرَحُواْ } أي : لا بالأمور الفانية القليلة المقدار ، الدنيئة القدر والوقع : { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي : من الأموال وأسباب الشهوات ، إذ لا ينتفع بجميعها ولا يدوم ، ويفوت به اللذات الباقية ، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون .
والفاء داخلة في جواب شرط مقدر ، كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا ، أو هي رابطة لما بعدها بما قبلها ، لدلالتها على تسبب ما بعدها عما قبلها . والفاء الثانية زائدة لتأكيد الأولى ، أو الزائدة الأولى ، لأن جواب الشرط في الحقيقة : { فَلْيَفْرَحُواْ } و ( بِذَلِكَ ) مقدم من تأخير ، وزيدت فيه الفاء للتحسين . وكذلك جوز أن يكون بدلاً من قوله : { بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ } .
ثم بيَّن تعالى أن من فضله على الناس تبيين الحرام من الحلال على ألسنة الرسل لئلا يفتروا عليه الكذب بتحريم ما أحل أو عكسه ، كما فعل المشركون ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } [ 59 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ } أي : ما خلق لكم من حرث وأنعام : { فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } أي : أنزله تعالى رزقاً حلالاً كله ، فبغضتموه ، وقلتم : هذا حلال وهذا حرام ، كقولهم : { هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْر } [ الأنعام : من الآية 138 ] : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : من الآية 139 ] : { قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ } في الحكم بالتحريم والتحليل ، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه : { أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } أي : تختلقون الكذب ، ثم بيَّن وعيد هذا الافتراء بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } [ 60 ] .
{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : فيما يفعل بهم ، وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة ، وهو وعيد عظيم ، حيث أبهم أمره : { إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } في إنزال الوحي وتعليم الحلال والحرام : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } أي : هذه النعمة ، فيستعملون ما وهب إليهم من الاستعداد والعلوم في مطالب النفس الخسيسة ولا يتبعون ما هدوا إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 61 ] .
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } أي : أمر ما : { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ } أي : التنزيل : { مِن قُرْآنٍ } أي : سورة أو آية : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تخوضون وتندفعون فيه : { وَمَا يَعْزُبُ } أي : يغيب : { عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أي : نملة أو هباء : { فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } أي : في دائرة الوجود والإمكان .
وقوله تعالى : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } كلام برأسه ، مقرر لما قبله ، أي : مكتوب مبين ، لا التباس فيه ، والمراد بالآية البرهان على إحاطة علمه تعالى بحال أهل الأرض ، بأن من لا يغيب عن علمه شيء كيف لا يعرف حال أهل الأرض ، وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ ! وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون َ *الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 62 - 64 ] .
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ } جمع ولي ، وهو في الأصل ضد العدو ، بمعنى المحب ، وجاز كونه هنا بمعنى الفاعل ، أي : الذين يتولونه بالطاعة ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 56 ] وبمعنى المفعول أي : الذي يتولاهم بالإكرام ، كقوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور } [ البقرة : من الآية 257 ] ، وقوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه } [ المائدة : من الآية 55 ] الآية - وكلا المعنيين متلازمان : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من لحوق مكروه { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : من الفزع الأكبر ، كما في قوله تعالى : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَر } [ الأنبياء : من الآية 103 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بكل ما جاء من عند الله تعالى : { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي : يخافون ربهم ، فيفعلون أوامره ، ويتجنبون مناهيه ، من الشرك والكفر والفواحش . ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمحذوف ، كأنه قيل : من أولئك ، وما سبب فوزهم بذاك الإكرام ؟ فقيل : هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى ، المفضيين إلى كل خير ، المنجيين من كل شر ، أو النصب بمحذوف .
وقوله تعالى : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } : { الْبُشَرى } مصدر إما باق على مصدريته ، والمبشر به محذوف ، أي : لهم البشارة فيهما بالجنة ، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر ، كقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا } إلى قوله : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } [ التوبة : 20 - 21 ] وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] ، وإما مراد به المبشر به ، وتعريفه للعهد ، كقوله سبحانه : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ الحديد : 12 ] .
وقوله تعالى : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ } أي : لمواعيده : { ذَلِكَ } أي : بشراكم ، وهي الجنة { هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : المنال الجليل ، الذي لا مطلب وراءه ، كيف وقد فازوا بالجنة وما فيها ، ونجوا من النار وما فيها ؟ ! .
تنبيه :
هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله ، وقد بين تعالى في كتابه ، ورسوله في سنته ، أن لله أولياء من الناس ، كما أن للشيطان أولياء ، وللإمام تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة كتاب في ذلك سماه " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها ، لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الولي والأولياء . قال رحمه الله :
إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء ، كما فرق الله ورسوله بينهما . فأولياء الله هم المؤمنون المتقون ، كما في هذه الآية ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < يقول الله : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، أو فقد آذنته بالحرب . . . > الحديث - وهذا أصح حديث يروى في الأولياء ، دل على أن من عادى ولياً لله ، فقد بارز الله بالمحاربة .
وفي حديث آخر : < وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب > أي : آخذ ثأرهم ممن عاداهم ، كما يأخذ الليث الحرب ثأره ، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه ، فأحبوا ما يحب ، وأبغضوا ما يبغض ، ورضوا بما يرضى ، وسخطوا بما يسخط ، وأمروا بما يأمر ، ونهوا عما نهى ، وأعطوا لمن يحب أن يعطى ، ومنعوا من يحب أن يمنع .
والولاية ضد العداوة . وأصل الولاية المحبة والقرب . وأصل العداوة البغض والبعد .
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه ، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم ، أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وإمام المتقين ، الذي بعثه الله بأفضل كتبه ، وشرع له أفضل شرائع دينه ، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه ، فلا يكون ولياً لله إلا من آمن به ، وبما جاء به ، واتبعه ظاهراً وباطناً . ومن ادعى محبة الله وولايته ، وهو لم يتبعه ؛ فليس من أولياء الله ، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان . وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ، ولا يكونون من أولياءه . فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه . قال تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَق } [ المائدة : من الآية 18 ] الآية ، وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله ، لسكناهم مكة ، ومجاورتهم البيت ، فأنزل تعالى : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ } [ الأنفال : 34 ] ، وكما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله ، وليس ولياً لله ، بل عدو له ، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ، يقرون في الظاهر بالشهادتين ، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك ، مثل ألا يقروا باطناً برسالته عليه السلام ، وإنما كان ملكاً مطاعاً ، ساس الناس برأيه ، من جنس غيره من الملوك . أو يقولون : إنه رسول الله إلى الأميين خاصة . أو يقولون : إنه مرسل إلى عامة الخلق ، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ، ولا يحتاجون إليه ، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته ، كما كان الخضر مع موسى . أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه ، وينتفعون به من غير واسطة ، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها . وأما الحقائق الباطنة ، فلم يرسل بها ، أو لم يكن يعرفها ، أو هم أعرف بها منه ، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته ، فهؤلاء كلهم كفار ، مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله . وإنما أولياء الله : الذي وصفهم تعالى بولايته بقوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس : 62 - 63 ] .
ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن . فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن ، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به ، وكفر ببعض ، فهو كافر ليس بمؤمن .
ومن الإيمان به ، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه ، في تبليغ أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وحلاله وحرامه . فالحلال : ما أحله الله ورسوله ، والحرام : ما حرمه الله ورسوله ، والدين : ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر من أولياء الشيطان .
وأما خلق الله تعالى للخلق ، ورزقه إياهم ، وإجابته لدعائهم ، وهدايته لقلوبهم ، ونصرهم على أعدائهم ، وغير ذلك من جلب المنافع ، ودفع المضار ، فهذا لله وحده ، يفعله بما يشاء من الأسباب ، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل .
ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن ، ولا ولي لله تعالى ، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبَّادهم ، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ، ممن كان من حكماء الهند والترك ، وله علم أو زهد وعبادة في دينه ، وليس مؤمناً بجميع ما جاء به ، فهو كافر ، عدو لله ، وإن ظن طائفة أنه ولي لله . كما كان حكماء الفرس من المجوس كفاراً مجوساً ، وكذلك حكماء اليونان مثل : أرسطو وأمثاله ، كانوا مشركين ، يعبدون الأصنام والكواكب . وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ، ولكن ليس بمؤمن بالرسل ، ولا يصدقهم فيما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا ، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ، ولا أولياء لله ، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم ، فيكاشفون الناس ببعض الأمور ، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر ، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين . قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 221 - 223 ] ، وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات ، وخوارق العادات ، إذا لم يكونوا متبعين للرسل ، فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم ، لا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور ، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة ، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين ، واقترنت بهم ، فصاروا من أولياء الشيطان ، لا من أولياء الرحمن .
ومن الناس من يكون فيه إيمان ، وفيه شعبة من نفاق ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان > . وفي صحيح مسلم : < وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم > .
وإذا كان أولياء الله هم ( المؤمنون المتقون ) فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى ، فمن كان أكمل إيماناً وتقوى كان أكمل ولاية لله . فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل ، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى ، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق .
وأولياء الله على طبقتين : سابقون ومقربون وأصحاب يمين مقتصدون ، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز . فالأبرار أصحاب اليمين ، هم المتقربون إلى الله بالفرائض ، يفعلون ما أوجب الله عليهم ، ويتركون ما حرم الله عليهم ، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ، ولا الكف عن فضول المباحات . وأما السابقون المقربون ، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ، ففعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات ، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حباً تاماً ، كما قال تعالى : < ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه > يعني الحب المطلق .
ثم إذا كان العبد لا يكون ولياً لله إلا إذا كان مؤمناً تقياً ، لهذه الآية ؛ فمعلوم أن أحداً من الكفار والمنافقين لا يكون ولياً لله . وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته ، وإن قدر أنه لا إثم عليه ، مثل أطفال الكفار ، ومن لم تبلغه الدعوة ، وإن قيل : إنهم لا يعذبون حتى يُرسل إليهم رسولاً فلا يكونون من أولياء الله ، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين . فمن يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بفعل السيئات ، لم يكن من أولياء الله .
وكذلك المجانين والأطفال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ > . وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها ، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول . ولكن الصبي المميز تصح عباداته ، ويثاب عليها عند جمهور العلماء ، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم ، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء ، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات ، بل لا يصلح هو ، عند عامة العقلاء لأمور الدنيا ، كالتجارة والصناعة ، فلا يصح أن يكون بزازاً ولا عطاراً ولا حداداً ولا نجاراً ، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء . فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ، ولا غير ذلك من أقواله ، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي ، ولا ثواب ولا عقاب ، بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالاً معتبرة في مواضع ، بالنص والإجماع ، وفي مواضع فيها نزاع . وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل ، وامتنع أن يكون ولياً لله ، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله ، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه ، أو نوعاً من تصرف ، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع ، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية ، كالكهان والسحرة وعبَّاد المشركين وأهل الكتاب ، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله ، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله ، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله ؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب إتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر ، دون الحقيقة الباطنة ، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقاً إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو يقول : إن الأنبياء ضيقوا الطريق ، أو هم قدوة العامة دون الخاصة ، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية ، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان ، فضلاً عن ولاية الله عز وجل . فمن احتج بما يصدر عن أحدهم ، من خرق عادة على ولايتهم ، كان أضل من اليهود والنصارى ، وكذلك المجنون ، فإن كونه مجنوناً يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات ، التي هي شرط في ولاية الله . ومن كان يجن أحياناً ، ويفيق أحياناً ، إذا كان في حال إفاقته مؤمناً بالله ورسوله ، ويؤدي الفرائض ، ويجتنب المحارم ، فهذا إذا جن ، لم يكن جنونه مانعاً من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته ، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك ، وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه ، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه ، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله ، ولا قلم مرفوع عنه في حال جنونه .
فعلى هذا ، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ، ولا يجتنب المحارم ، بل قد يأتي بما يناقض ذلك ، لم يكن لأحد أن يقول : هذا ولي لله ، فإن هذا إن لم يكن مجنوناً ، بل كان متولهاً من غير جنون ، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ، ويفيق أخرى ، وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر ؛ وإن كان مجنونا باطناً وظاهراً قد ارتفع عنه القلم . فهذا وإن لم يكن معاقباً عقوبة الكافرين ، فليس هو مستحقاً لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل ، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله ، لكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمناً بالله متقياً ، كان له من ولاية الله بحسب ذلك ، وإن كان له في حال فيه كفر أو نفاق ، أو كان كافراً أو منافقاً ثم طرأ عليه الجنون ، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه ، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق .
فصل
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات ، فلا يتميزون بلباس دون لباس ، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره ، إذا كان كلاهما مباحاً ، كما قيل : كم من صديق في قباء ، وكم من زنديق في عباء . بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور . فيوجدون في أهل القرآن ، وأهل العلم ، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ، ويوجدون في التجار والصناع والزراع . وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم ( القراء ) فيدخل فيهم العلماء والنساك . ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم ( الصوفية ) : نسبة إلى لباس الصوف . هذا هو الصحيح ، وقد قيل : إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء ، وقيل إلى ( صوفة بن أد ) قبيلة من القرب كانوا يعرفون بالنسك ، وقيل إلى أهل الصفا ، وقيل إلى الصفوة ، وقيل إلى الصفة ، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى . وهذه أقوال ضعيفة ، فإنه لو كان كذلك لقيل : صفي ، أو صفائي ، أو صُفي ، ولم يقل صوفي ، وصار أيضاً اسم الفقراء يعني به أهل السلوك ، وهذا عرف حادث ، وقد تنازع الناس ، أيما أفضل : مسمى الصوفي أو مسمى الفقير ؟ ويتنازعون أيضاً : أيما أفضل ؟ الغني الشاكر ، أو الفقير الصابر ؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي : الناس أفضل ؟ قال : < أتقاهم > ، فدل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أبيض ، ولا لأبيض على أسود ، إلا بالتقوى > . وعنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله تعالى أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء . الناس رجلان : مؤمن تقي وفاجر شقي > .
فصل
وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين ، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به مما نهى الله عنه ، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى ، وتكون من الشيطان لبَّسها عليه ، لنقص درجته ، ولا يعرف أنها من الشيطان ، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى . فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، ولم يؤثِّم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهد المخطئ بل جعل له أجراً على اجتهاده ، وجعل خطأه مغفوراً له ، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط ، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي الله ، إلا أن يكون نبياً ، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه ، إلا أن يكون موافقاً ، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاماً ومحادثة وخطاباً من الحق ، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله ، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه . والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : طرفان ووسط . فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه ، وسلم إليه جميع ما يفعله . ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع ، أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهداً مخطئاً ، وخيار الأمور أوساطها ، وهو ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً ، إذا كان مجتهداً مخطئاً ، فلا يتبع في كل ما يقوله ، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده . والواجب على الناس إتباع ما بعث الله به رسوله . وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ، ووافق قول آخرين ، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف ، ويقول : هذا خالف الشرع .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن كان في أمتي أحد فعمر منهم > . وكان عمر يقول : اقتربوا من أفواه المطيعين ، واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة . والمحدث الذي يأخذ عن قلبه أشياء ليس بمعصوم ، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور ، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ، ويقررهم على منازعته ، ولا يقول لهم : أنا محدث ملهم مخاطب ، فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني . فأي من ادعى له أصحابه أنه ولي الله ، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غيره اعتبار بالكتاب والسنة ، فهو وهُم مخطئون . ومثل هذا من أضل الناس . فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه ، وهو أمير المؤمنين ، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول هو وهم على الكتاب والسنة . وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم . ولذا قال الجنيد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة ، لقوله تعالى : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [ النور : من الآية 54 ] وقال أبو عَمْرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .
فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن ، وبحقائق الإيمان الباطنة ، وشرائع الإسلام . فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان ، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين ، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق ، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان ، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ، ويتوجه إليها ، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين ، أو يلابس الكلاب أو النيران ، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة ، أو يأوي إلى المقابر ، لا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين ، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن ؛ فهذه علامات أولياء الشيطان ، لا علامات أولياء الرحمن - انتهى ملخصاً - .
والكتاب مما يلزم الوقوف عليه ، ومطالعته بالحرف ، ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره ، فرحم الله جامعه ، وجزاه خيراً . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 65 ] .
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يسمعه من تآمرهم في إيصال مكروه له ، ومجاهرتهم بتكذيبه ، ورميه بالسحر ونحوه ، أي : لا تتأثر بقولهم ، وشاهد عز الله وقهره ، لتنظر إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم ، وما يهددونك به كالهباء ، فمن شاهد قوة الله وعزته يرى كل القوة والعزة له ، لا قوة لأحد ولا حول . فقوله تعالى : { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّه } [ النساء : من الآية 139 ] ، تعليل للنهي على طريقة الاستئناف ، كأنه قيل : ما لي لا أحزن ؟ فقيل : إن العزة لله ، أي : الغلبة والقهر في ملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئاً منها أصلاً ، لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم ، وينصرك عليهم : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : من الآية 21 ] { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : من الآية 51 ] ، وقوله : { هُوَ السَّمِيعُ } أي : لأقوالهم فيك ، فيجازيهم : { الْعَلِيمُ } أي : لما ينبغي أن يفعل بهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ 66 ] .
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ } أي : كلهم تحت ملكته وتصرفه وقهره ، لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم . وقوله : { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } تأكيد لما سبق من اختصاص العزة به تعالى ، لتزيد سلوته صلوات الله عليه ، وبرهان على بطلان ظنونهم وأقوالهم المبنية عليها . وفي ( ما ) من قوله : { وَمَا يَتَّبِعُ } وجهان :
أحدهما : أنها نافية ، و ( شركاء ) مفعول ( يتبع ) ، ومفعول ( يدعون ) محذوف لظهوره . أي : ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، شركاء في الحقيقة ، وإن سموها شركاء لجهلهم ، فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر . ويجوز أن يكون ( شركاء ) مفعول ( يدعون ) ، ومفعول ( يتبع ) محذوف لانفهامه من قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } أي : ما يتبعون يقيناً ، إنما يتبعون ظنهم الباطل .
والوجه الثاني : أنها استفهامية ، منصوبة بـ : ( يتبع ) و ( شركاء ) مفعول ( يدعون ) أي : أي : شيء يتبع هؤلاء ؟ أي : إذا كان الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء ، ولا تأثير له ولا قوة ، إن يتبعون إلا ما يتوهمونه في ظنهم ، ويتخيلونه في خيالهم ، وما هم إلا يُقَدِّرُونَ وجودَ شيء لا وجود له في الحقيقة .
ثم نبه تعالى على انفراده بالقدرة الكاملة ، والنعمة الشاملة ، ليدل على توحده سبحانه باستحقاق العبادة ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ 67 ] .
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي : خلقه لكم لتستقروا فيه من نصبكم وكلالكم : { وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي : مضيئاً ، تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم .
قيل : الآية من باب الاحتباك . والتقدير : جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتتحركوا لمصالحكم ، فحذف من كل من الجانبين ما ذكر في الآخر ، اكتفاء بالمذكور عن المتروك . وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي ، كقوله :
~*ما ليل المحب بنائم*.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : لجعل المذكور : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : هذه الآيات ونظائرها سماع تدبر واعتبار .
ثم شرع في نوع آخر من أباطيلهم بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 68 ] .
{ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ } تنزيه له عن أن يجانس أحداً ، أو يحتاج إليه ، وتعجب من كلمتهم الحمقاء : { هُوَ الْغَنِيُّْْ } أي : الذي وجوده بذاته ، وبه وجود كل شيء ، فكيف يماثله شيء ؟ ! ومن له الوجود كله فكيف يجانسه شيء ؟ ! والجملة علة لتنزيهه ، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة ، إما للتقوي به ، أو لبقاء نوعه : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ } تقرير لغناه ، أي : فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولداً : { إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا } أي : ما عندكم من حجة بهذا القول الباطل [ في المطبوع : الباطن ] توضيح لبطلانه ، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض ، أي : ليس بعد هذا حجة تسمع . والمراد تجهيلهم ، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل ، وإتباع جاهل لجاهل .
تنبيه :
دلت الآية على تسمية البرهان سلطاناً .
قال الإمام ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " : إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطاناً . قال ابن عباس رضي الله عنه : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، وهذا كقوله تعالى : { إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا } يعني ما عندكم من حجة بما قلتم ، إن هو إلا قول على الله بلا علم . وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } [ النجم : من الآية 23 ] ، يعني ما أنزل بها حجة ولا برهاناً ، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم . وقوله تعالى : { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } يعني حجة واضحة . إلا موضعاً واحداً اختلف فيه ، وهو قوله : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ } ، فقيل : المراد به القدرة والملك ، أي : ذهب عني مالي وملكي ، فلا مال لي ولا سلطان ، قيل : هو على بابه ، أي : انقطعت حجتي وبطلت ، فلا حجة لي . والمقصود : أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطاناً ؛ لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره ، فله بها سلطان على الجاهلين ، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد ، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد ، فإن الحجة تنقاد لها القلوب ، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن . فالحجة تأسر القلب وتقوده ، وتذل المخالف وإن أظهر العناد والمكابرة ، فقلبه خاضع لها ذليل ، مقهور تحت سلطانها . بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يساس به ، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها ، قدرة بلا علم ولا رحمة ، بخلاف سلطان الحجة ، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة ، ومن لم يكن له اقتدار في علمه ، فهو إما لضعف حجته وسلطانه ، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له ، وإلا فالحجة ناصرة نفسها ، ظاهرة على الباطل قاهرة له - انتهى - .
{ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } توبيخ وتقريع على جهلهم . قال الزمخشري : لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين ، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله ، فذاك جهل وليس بعلم .
وقال أبو السعود : فيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها ، فهي جهالة ، وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعي ، وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ 69 - 70 ] .
{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } باتخاذ الولد ، وإضافة الشركاء : { لاَ يُفْلِحُونَ } أي : لا يفوزون بمطلوب أصلاً
{ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا } مبتدأ خبره محذوف ، أي : لهم تمتع يسير في الدنيا : { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي : الموت : { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم . والآية لبيان أن ما يتراءى من فوزهم بالحظوظ الدنيوية بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح . كأنه قيل : كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم ؟ فقيل : هو متاع يسير في الدنيا ، وليس بفوز بالمطلوب .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ } [ 71 ] .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } أي : خبره الذي له شأن وخطر ، مع قومه المغتريين بعزة الأموال والأعوان ، ليتدبروا ما فيه من صحة توكله على الله ، ونظره إلى قومه ، بعين عدم المبالاة بهم ، وبمكايدهم ، وزوال ما تمتعوا به من النعيم ، بإغراقهم بالطوفان ، فلعلهم يكفون عن كفرهم ، وتلين أفئدتهم ويستيقنون صحة نبوتك : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ } أي : شق وثقل : { عَلَيْكُم مَّقَامِي } أي : مكاني ، يعني نفسه ، أو مكثي بين أظهركم مدداً طوالاً ، ألف سنة إلا خمسين عاماً ، أو قيامي بالدعوة إلى الله ، من رؤيتكم ذلتي بقلة الأموال والأعوان ، ومنع عزتكم بهما عن الانقياد لي : { وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ } أي : بحججه وبراهينه ، أو تخويفي بعذابه : { فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ } أي : عمدت في دفع ما قصدتموني به : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } أي : شأنكم في إهلاكي : { وَشُرَكَاءَكُمْ } يعني آلهتهم وهو تهكم بهم ، أو نظراءهم في الشرك . و ( الواو ) بمعنى مع ، أو معطوف على ( أمركم ) بحذف المضاف ، أي : وأمر شركائكم ، أو منصوب بمحذوف ، أي : ادعوا شركاءكم ، وذلك لأن ( أجمع ) يتعلق بالمعاني ، يقال : ( أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه ) : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : مستوراً ، من : ( غمه إذا ستره ) بل مكشوفاً تجاهرونني به : { ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ } أي : أدوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي : { وَلاَ تُنظِرُونِ } أي : ولا تمهلوني .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 72 ] .
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي : عن الإيمان بما جئتكم به : { فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ } أي : جُعْلٍ على عظتكم ، أي : فلا باعث لكم على التولي والنفور : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ } أي : ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى ، يثيبني به ، آمنتم أو توليتم : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . أي : المستسلمين له وحده بالإيمان به ، ونبذ كل معبود دونه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } [ 73 ] .
{ فَكَذَّبُوهُ } يعني نوحاً بما جاءهم عناداً ، بعد أن قامت عليهم الحجة ، فحقت عليهم كلمة العذاب ، وأرسل عليهم الطوفان { فَنَجَّيْنَاهُ } أي : من الغرق : { وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } أي : خلفاء عن المغرَقين وعمَّار الأرض : { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } أي : منتهى أمرهم . والمراد بـ ( المنذرين ) المكذبين . والتعبير به إشارة إلى إصرارهم عليه ، حيث لم يفد الإنذار فيهم . وقد جرت السنة الربانية أن لا يهلك قوم بالاستئصال إلا بعد الإنذار ؛ لأن من أنذر فقد أعذر . وفي الأمر بالنظر تهويل لما جرى عليهم ، وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } [ 74 ] .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوح : { رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ } يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً { فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الآيات الدالة على صدقهم ، المفيدة هدايتهم : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : بسبب تعودهم تكذيب الحق ، وتمرنهم عليه ؛ لأنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية ، مكذبين بالحق فحالهم بعدها كحالهم قبلها ، هذا على أن ضمير ( كانوا ) و ( كذبوا ) لقوم الرسل . وجاز عود ضمير ( كانوا ) لقوم الرسل ، و ( كذبوا ) لقوم نوح . أي : ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي : بمثله { كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } أي : المجاوزين مقتضيات حقائق الأشياء بخذلانهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [ 75 ] .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } أي : من بعد هؤلاء الرسل : { مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا } يعني التسع : { فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : كفاراً ذوي آثام عظام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 76 ] .
{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا } يعني الآيات المزيحة للشك : { قَالُواْْ } يعني من فرط التمرد : { إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : تلبيس ظاهر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ } [ 77 ] .
{ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ } أي : على وجه لم يترك لكم شبهة مقالتكم الحمقى من أنه سحر ، فحذف المحكي المقول لدلالة الكلام عليه . ثم قال : { أَسِحْرٌ هَذَا } استفهام إنكار من قول موسى لا من قولهم . فهو مستأنف لإنكار كونه سحراً ، وتكذيب لقولهم ، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ . وليس : { أَسِحْرٌ هَذَا } مقولهم ، لأنهم بتوا القول بأنه سحر ، فكيف يستفهمون عنه ؟ - كذا قيل - .
ولا أرى مانعاً من أن يكون مقولهم ، والهمزة وسطت مزيدة لتكون مؤكدة لما قبلها من الاستفهام ، ومن لطائفها الاحتراس عن إيهام فاعلية سحر لـ : { جَاءكُمْ } بادئ بدء ، وأسلوب القرآن فوق كل أسلوب . أو الهمزة ومدخولها من مقولهم لقولهم الذي بتوا عليه أمرهم . ثم رأيت الناصر في " الانتصاف " أشار لهذا حيث قال :
وأما القراءة الثانية - يعني قراءة ( آالسحر ) - على الاستفهام ففيها - والله أعلم - إرشاد إلى أن قول موسى أولاً : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا } حكاية لقولهم ، ويكون : { أَسِحْرٌ هَذَا } هو الذي قالوه ، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا : { إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعاً ، بدؤوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقاً ، والاستهزاء بالحق إنكار له ، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبتَ من الإخبار . ألا ترى أنهم يقولون في قوله : أأنت أم سالم ، أبلغ في البت من قوله مخبراً ( أنت أم سالم ) ثم ثنوا بصيغة الخير الخاصة ببت الإنكار ، ودعوى أنه سحر ، فقالوا : { إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني ، ووبخهم موسى على قولهم الأول ، ومعنى العبارتين ومآلهما واحد . وإما ألا يكونوا قالوا سوى : { أَسِحْرٌ هَذَا } على سبيل الإنكار حسبما تقدم ، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله ؛ لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار ، وبتَّ القول أنه سحر ، وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه ، ولم يؤده بعبارة أخرى . وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة ، لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية ، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني .
وحاصل هذا البحث أن قول موسى عليه السلام : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا } إنما حكى فيه قولهم ، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهماً ، فقال : ما جئتم به آالسحر ( على قراءة الاستفهام ) قرضاً بوفاء على السواء ، والذي يحقق لك أن الاستفهام والإخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام : { مَا جِئْتُمْ بِهِ } [ السحر ] على الوجهين : الخبر والاستفهام ، على ما اقتضته القراءتان وهو قول واحد ، دل أن مؤدى الأمرين واحد ، ضرورة صدق الخبر .
وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب أو إضمار مفعول ( تقولون ) استشكال وقوع الاستفهام محكياً بالقول ، والمحكى عنهم الخبر ، وقد أوضحنا أن لا تنافر ولا تنافي بين الأمرين .
قال الناصر : فشد بهذا الفضل عرى التمسك ، فإنه من دقائق النكت ، والله الموفق .
وقوله تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ } من كلام موسى قطعاً ، أتى به تقريراً لما سبق ؛ لأنه لما استلزم كون الحق سحراً ، كون من أتى به ساحراً ، أكد الإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [ 78 ] .
{ قَالُواْ } أي : لموسى : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : لتصرفنا : { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } يعنون عبادة الأصنام : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء } أي : الملك والسلطان : { فِي الأَرْضِ } أي : أرض مصر : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أي : لتبقى عزتنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } [ 79 ] .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } أي : حفظاً لعزته ، ودفعاً لتعزز موسى : { ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي : ماهر في فنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ } [ 80 ] .
{ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ } أي : من أصناف السحر ، قال بعضهم : جواز الأمر بالسحر لدحضه ، وكذلك طلب إيراد الشُّبه لتُحل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [ 81 ] .
{ فَلَمَّا أَلْقَواْ } أي : عصيهم وحبالهم ليضاهوا معجزة موسى بعصاه : { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ } أي : هو السحر ، لا ما جئتكم به مما سميتموه سحراً : { إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ } أي : سيمحقه بالكلية بمعجزتي ، فلا يبقى له أثر : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } أي : بل يسلط عليه الدمار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [ 82 ] .
{ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي : يثبته ويقويه بها : { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } أي : ذلك . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } [ 83 ] .
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } معطوف على مقدر معلوم من مواقع أخر ، أي : { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ الشعراء : 45 ] ، الخ . قيل : الضمير من : { قَوْمِهِ } لفرعون ، وهم ناس يسير من قومه ، آمنوا به سراً ، والأظهر أنهم قوم موسى ، وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب ، فهم الذين آمنوا به : { عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } أي : يعذبهم : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ } أي : مستكبر : { فِي الأَرْضِ } أي : أرض مصر : { وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } أي : المتجاوزين الحد بالظلم والفساد ، وبادعاء الربوبية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ 84 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى } أي : تطميناً لقلوبهم ، وإزالة للخوف عنهم : { يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } أي : فإليه أسندوا أمركم في العصمة مما تخافون ، وبه ثقوا فإنه كافيكم { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : من الآية 3 ] ، وقوله : { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } أي : مخلصين وجوهكم له .
قال القاشاني : جعل التوكل من لوازم الإسلام ، وهو إسلام الوجه لله تعالى ، أي : إن كمل إيمانكم ويقينكم ، بحيث أثر في نفوسكم ، وجعلها خالصة لله ؛ لزم التوكل عليه . وإن أريد ( الإسلام ) بمعنى الانقياد ، كان شرطاً في التوكل ، لا ملزوماً له ، وحينئذ يكون معناه : إن صح إيمانكم يقيناً فعليه توكلوا ، بشرط أن تكونوا منقادين . كما تقول : إن كرهت هذا الشجر فاقلعه إن قدرت - انتهى - .
وقال الكرخي : قوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } أي : منقادين لأمره ، فقوله : { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } جواب الشرط الأول ، والشرط الثاني وهو : { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } شرط في الأول ، وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود ، فالشرط الثاني شرط في الأول . ولذلك لم يجب تقديمه على الأول . قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدماً ، والمتقدم يجب أن يكون متأخراً ، مثاله : قول الرجل لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً ، فمجموع قوله : ( إن دخلت الدار فأنت طالق ) مشروط ( إن كلمت زيداً ) والمشروط متأخر عن الشرط ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متأخراً في المعنى ، فكأنه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدار فأنت طالق ، فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيداً لم يقع الطلاق . فقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنتُم } الخ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً لأن يصيروا مخاطبين بقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل . والأمر كذلك ، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو الانقياد لتكاليف الله ، وترك التمرد والإيمان عبارة عن معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد ، وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره . وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إليه تعالى ، ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 85 ] .
{ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : موضع فتنة لهم ، أي : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا . قال الحاكم : دلت على حسن السؤال بالنجاة من الظلمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 86 ] .
{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : من كيدهم ، ومن شؤم مشاهدتهم ، والعبودية لهم .
قال القاضي : وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولاً لتجاب دعوته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 87 ] .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } أي : اتخذا بها بيوتاً مباءة تلازمونها لتجتمع كلمتكم في شأنكم : { وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : مصلى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } أي : في بيوتكم ، قال بعضهم : كانوا خائفين ، وفي ذلك دلالة على جواز كتم الصلاة عند الخوف { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بالنصرة في الدنيا ، والجنة في العقبى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [ 88 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى } أي : يدعو الله تعالى في إذهاب عزة فرعون : { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً } أي : ما يتزين به من اللباس والمراكب والحلي : { وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } أي : بالتكبر عليك وعلى آياتك ورسلك . وقوله : { لِيُضِلُّوا } متعلق بـ : { آتَيْتَ } ، وأعيد : { رَبَّنَا } توكيداً ، و ( لام ) : { لِيُضِلُّوا } لام العاقبة والصيرورة . أي : آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها ويتبعوا سبيلك ، فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروا وضلوا عن سبيلك ، وتجويز جعل اللام للعلة استدراجاً ، أو لام الدعاء عليهم بذلك - توسع في غير متسع ، ونبو عن لطف المساق وسره فإن موسى لما رأى القوم مصرين على الكفر والعناد أخذ في الدعاء عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يقدم بين يدي دعائه ما دفعه واضطره إلى الابتهال ؛ لتحق إجابته ، ولذا بين أولاً ضلالهم عن السبيل بكفرانهم للنعم ، وعتوهم على المحسن بها تمهيداً لقوله : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } أي : أهلكها ؛ لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك . وأصل ( الطمس ) محو الأثر والتغير : { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : اجعلها قاسية ، واطبع عليها ، حتى لا تنشرح للإيمان : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } أي : يعاينوه ويوقنوا به ، بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك ، وقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } جواب للدعاء ، أو دعاء بلفظ النهي .
قال ابن كثير : هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنه لا خير فيهم ، ولا يجيء منهم شيء . كما دعا نوح عليه السلام فقال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 26 - 27 ] ، ولهذا استجاب تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي شركه فيها أخوه هارون كما أخبر بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 89 ] .
{ قَالَ } تعالى : { قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا } أي : على أمري ، ولا تعجلا ، فإن مطلوبكما كائن في وقته لا محالة : { وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : في الاستعجال أو عدم الوثوق بوعده تعالى ، أو يعني فرعون وقومه بقوله سبحانه .
ثم أشار تعالى إلى إجابته دعائهما في إهلاك فرعون وقومه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 90 ] .
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ } أي : لحقهم : { فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً } أي : لأجل البغي عليهم والاعتداء : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ } يرجو النجاة من الغرق : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وذلك أن موسى عليه السلام لما رغب إلى فرعون أن يطلق الإسرائيليين من عبوديته ، ويأذن لهم بالسراح إلى فلسطين ليعبدوا ربهم ، أبى وتمرد ، فضربه الله وقومه بالآيات التسع ، كما تقدم في سورة ( الأعراف ) فأذن لموسى وشعبه بالخروج من مصر ، فارتحل بنو إسرائيل جميعاً بمواشيهم وأثاثهم ، ثم ندم فرعون وملؤه على إطلاقهم من خدمتهم ، فاشتد فرعون وجنوده في أثرهم ليردهم ، فأدركهم وهم نازلون عند البحر ، فرهب الإسرائيليون من مقدمه ، وضجوا إلى موسى فسكن روعهم ، وأعلمهم ما يشاهدون من نجاتهم ، وهلاك عدوهم ، وأوحى تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر ، فانشق ، ودخل بنو إسرائيل في وسطه على اليبس الذي جعله تعالى آية كبرى ، ونفذوا منه إلى شاطئه ، وتبعهم فرعون وجنوده ، حتى إذا توسطوا البحر ، مد موسى يده على البحر ، فارتد إلى ما كان عليه ، وغرق فرعون بمن معه . ولما أحس بالغرق ، لاذ إلى الإيمان يبغي النجاة ، فقيل له :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ 91 ] .
{ آلآنَ } أي : تؤمن وتسلم لتنجو من الغرق : { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } أي : كفرت بالله من قبل الغرق : { وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } أي : الضلال والإضلال ، والظلم والعتو .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [ 92 ] .
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } أي : نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه ، فرآه بنو إسرائيل ملقى على شاطئ البحر ميتاً ، وفي التعبير عن إخراجه من القعر إلى الشاطئ ( بالتنجية ) التي هي الخلاص من المكروه تهكم واستهزاء { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ } من الأمم الكافرة : { آيَةً } أي : عبرة من الطغيان والتمرد على أوامره تعالى { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } أي : لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها .
تنبيه :
قال الشهاب الخفاجي في " العناية " : لا يقبل إيمان المرء حال اليأس والاحتضار ، كما يدل عليه صريح الآية : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر : من الآية 85 ] ، وأما ما وقع في " الفصوص " من صحة إيمانه ، وأن قوله : { آمَنَتْ بهِ بَنُوا إِسْرائيلَ } إيمان بموسى عليه السلام ؛ فمخالف للنص والإجماع ، وإن ذهب إلى ظاهره الجلال الدواني رحمه الله . وله رسالة فيه طالعتها ، وكنت أتعجب منها حتى رأيت في " تاريخ حلب " للفاضل الحلبي أنها ليست له ، وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي . وقد ردها القزويني ، وشنع عليه وقال : إنما مثاله مثال رجل خامل الذكر ، لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس ، كما في المثل ( خالف تعرف ) وفي " فتاوى ابن حجر رحمه الله " أن بعض فقهائنا كفَّر من ذهب إلى إيمان فرعون ، ولذا قيل : إن المراد بفرعون ( في كلامه ) النفس الأمارة ، وهذا كله مما لا حاجة إليه - انتهى كلام الشهاب - .
أقول : ذكر شيخنا العطار رحمه الله في كتابه " الفتح المبين في رد اعتراض المعترض على محي الدين " خاتمة في بطلان ما نسب إلى هذا العارف من القول بصحة إيمان فرعون ونجاته ، قال رحمه الله :
ليعلم أنه شاع فيما بين أهل العلم بأن حضرة محي الدين رضي الله عنه قال بإيمان فرعون ونجاته ، والحال أنه ليس كذلك ، كما ستطلع عليه من النقل عنه ، بحث في صحة القول بإيمان فرعون ونجاته وعدمها ، حيث الأخذ من الآيات القرآنية ، فكان ذلك منه مجرد بحث في الدليل لا غير ، وما كان هذا قولاً بإيمانه قطعياً ، وقد بنى مسألة نجاة فرعون وإيمانه على أصلين من أصوله ، وافقه عليهما جم غفير من العلماء الأعلام .
الأصل الأول - في بيان حقيقة إيمان اليأس : فإيمان اليأس عنده ، وعند جم غفير من العلماء هو ما كان عند مشاهدة العذاب البرزخي ، كحال المحتضر لا غير ، ففي هذه الحالة لا ينفع الإيمان ، وهذا متفق عليه بين أهل العلم . وذهب قوم إلى أن إيمان اليأس ما كان عند رؤية العذاب دنيوياً أو أخروياً ، فالإيمان في أي : حالة من الحالتين لا ينفع . وعند هذا العارف وجماعة : أن رؤية العذاب الدنيوي لا تمنع صحة الإيمان ، وإن أوجبت الهلاك في الدنيا ، فإن سنة الله قاضية بأن يتحتم وقوع الهلاك الدنيوي لمن رأى هذا العذاب وإن آمن ونجا من عذاب الآخرة ، إلا قوم يونس ، فإنه تعالى نجاهم منه ، كما ذكره تعالى .
الأصل الثاني - من أصوله رضي الله عنه : أن من حقت عليه الكلمة لا يتلفظ بمادة الإيمان بقصد الإيمان بقصد الإيمان ، وإن تلفظ بها لا يقصده ، فلا بد من تكذيب الله تعالى له ، ولو بالحكاية عنه كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : من الآية 14 ] ، وكما قال : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا } [ الحجرات : من الآية 14 ] ، فكذبهم تعالى في دعواهم . وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ يونس : 96 - 97 ] ، فكلمة : { حَتَّى } للغاية ، فغيَّا تعالى إيمانهم إلى حين رؤية العذاب الأليم ، وهو الأخروي لا غير ، فإنه هو الذي يوصف بالأليم . ونفى تعالى عنهم وقوع الإيمان قبل ذلك ، فوقوعه منهم قبله قصداً محال بنص هذه الآية .
إذا تقرر هذان الأصلان ، فلنرجع إلى ما قاله هذا الحبر في شأن فرعون في " الفتوحات المكية " وفي " الفصوص " . فالذي ذكره في " الفتوحات " عن ذكره طبقات أهل النار فيها : هو أن فرعون من أهل النار ، حيث قال في هذا البحث : كفرعون وأضرابه ، فخص له ولهم من النار طبقة مخصوصة يؤبدون فيها . وأشار إلى كفره في موضع آخر منها عند ذكره هذا الحديث ، وهو : < أعوذ بك منك > قال : استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقام الاتحاد الذي كان عليه فرعون وهو قوله : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : من الآية 24 ] ، وعلى هذه الإشارة وما تقدم يكون فرعون كافراً عنده ، كما هو عند عامة الخلق ، وعلى هذا لا إشكال ولا كلام .
بقي القول على إيمان فرعون ونجاته من حيث الدليل ، وهو مجرد بحث مع الذين ذهبوا إلى كفره قطعياً ، وليس لهم هذا القطع ، لما أن الدليل القرآني يعطي خلافه ، قال تعالى : { فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قالَ آمَنْتُ } الآية ، فذكر فرعون هنا الإيمان ثلاث مرات : اثنتان في الجناب الإلهي ، والأخيرة تعمه ، والإيمان بموسى حيث قال : { وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ولم يكن مسلماً إلا من جمع بين الإيمان بالله وبرسوله .
ثم قال شيخنا رحمه الله : وفي " الفتوحات " و " الفصوص " ما حاصله : أن إيمانه لم يكن عند اليأس ، لا على مذهبه ومذهب من وافقه ، ولا على مذهب غيره . أما الأول فلأن إيمانه كان عند رؤية العذاب الدنيوي ، لا عند احتضاره ، والإيمان عند رؤية العذاب الدنيوي لا يعد يأساً عنده وعند جمع . وأما على الثاني ، فلأن قول فرعون ما كان عند يأسه من الحياة الدنيوية ، فإنه علم أن من آمن بما آمن به قوم موسى كان له المشاركة في الطريق اليبس التي كانت للمؤمنين ، وقد شاركهم في إيمانهم فكان الغالب على ظنه أو يقينه المعاملة الخاصة بالمؤمنين والمشاهدة له ، وما علم سنة الله في خلقه بأنه لا بد من الهلاك الدنيوي لمن كانت حالته كذلك ، والهلاك في الدنيا لا يدل على عدم النجاة في الآخرة ، وهو ظاهر . وعلى هذا فإيمانه لم يكن حال اليأس على المذهبين ، فالأول بيقين ، والثاني بحسب ما يظهر ، ولا بعد بأنه كان طامعاً في النجاة بيقين ، لعموم المشاركة . هذا وإن مذهب هذا العارف الخاص به هو البناء على اتساع الرحمة الإلهية ، والأخذ بالظواهر من الآيات ، ومع ذلك فلما ذكر البحث في شأن إيمان فرعون ونجاته ، مع من قال بخلافهما ، قال : إن الوقف في شأن إيمان فرعون هو الأسلم ، لما شاع عند الخلق عامة من شقائه ، وهذا منه صريح في أنه كان باحثاً في إيمانه ونجاته من ظاهر اللفظ القرآني بحثاً لا جازماً بهما - انتهى ملخصاً - .
ثم أنبأ تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل إثر نعمة إنجائهم من عدوهم وإهلاكه وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 93 ] .
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } أضيف المكان إلى الصدق ؛ لأن عادة العرب إذا مدحت شيئاً ، أن تضيفه إلى الصدق ، تقول : رجل صدق . وقدم صدق . وقال تعالى : { مُدْخَلَ صِدْق } [ الإسراء : من الآية 80 ] ، و : { مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : من الآية 80 ] ، إذا كان عاملاً في صفة صالحاً للغرض المطلوب منه ، كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق .
وقوله تعالى : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } وهي المنِّ والسلوى في التيه وبعده ، مما فاض عليهم من الأرض التي تدر لبناً وعسلاً : { فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ } أي : ما تفرقوا على مذاهب شتى في أمر دينهم ، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة ، وهو ما بين أيديهم من الوحي الذي يتلونه . أي : وما كان حقهم أن يختلفوا ، وقد بيَّن الله لهم ، وأزاح عنهم اللبس . ونظير هذه الآية في النعي عليهم اختلافهم قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وقوله جل ذكره : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 19 ] ، وفيه أكبر زاجر وأعظم واعظ عن الاختلاف في الدين ، والتفرق فيه .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ 94 ] .
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } من قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل : { فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ } أي : التوراة : { مِن قَبْلِكَ } فإن عندهم على نحو ما أوحي إليك : { لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي : الشاكين في أنه منزل من عنده .
تنبيه :
لا يفهم من هذه الآية ثبوت شك له صلوات الله عليه ، فإن صدق الشرطية لا يقتضي وقوعها ، كقولك . ( إن كانت الخمسة زوجا ، كانت منقسمة بمتساويين ) والسر في مثلها تكثير الدلائل وتقويتها ، لتزداد قوة اليقين ، وطمأنينة القلب ، وسكون الصدر ، ولذا أكثر تعالى في كتابه من تقرير أدلة التوحيد والنبوة والرجعة . أو السر هو الاستدلال على تحقيق ما قص ، والاستشهاد بما في الكتاب المتقدم ، وأن القرآن مصدق لما فيه ، أو وصف الأحبار بالرسوخ في العلم ، بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلوات الله عليه ، تعريضاً بالمشركين ، أو تهييج الرسول صلوات الله عليه ، وتحريضه ليزداد يقيناً ، كما قال الخليل صلوات الله عليه : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : من الآية 260 ] ، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال حين نزول الآية : < لا أشك ولا أسأل > أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة - أو الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، على حد : ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) وفيه من قوة التأثير في القلوب ما لا مزيد عليه ، بمثابة ما لو خاطب سلطان عاملاً له على بلدته بحضور أهلها بوصاياه وأوامره الرهيبة ، فيكون ذلك أفعل في النفوس ، أو الخطاب لكل من يسمع . أي : إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك . . . وأيد هذا بقوله تعالى بعدُ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي } [ يونس : من الآية 104 ] ، فكأنه أشار إلى أن المذكور في أول الآية رمزاً هم المذكورون بعدُ صراحة ، وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بمقادحة العلماء المنبهين على الحق
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 95 ] .
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } هو أيضاً من باب التهييج والإلهاب والتثبيت ، وأجرى بعضهم ها هنا قاعدة فقال : النهي عن كل شيء إن كان لمن تلبس به فمعناه تركه ، وإن كان لغيره فمعناه الثابت على عدمه ، وألا يصدر منه في المستقبل كما هنا - انتهى - أو يأتي الوجهان الأخيران قبل هنا أيضاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [ 96 - 97 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } أي : قوله الكريم ، وأمره بعذابهم ، كما قال : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : من الآية 13 ] { لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } أي : كدأب آل فرعون وأضرابهم . أي : وعند رؤية العذاب يرتفع التكليف فلا ينفعهم إيمانهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ 98 ] .
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } أي : فهلا كانت قرية من القرى المهلكة آمنت قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته ، كما فعل فرعون ، وفي هذا التخصيص معنى التوبيخ { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } بأن يقبله الله منها ، ويكشف عنها بسببه العذاب { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } أي : لكنَّ قومه : { لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي : إلى آجالهم .
هذا ، وقد جوز أن تكون الجملة في معنى النفي ، لتضمن حرف التحضيض معناه ، فيكون الاستثناء متصلاً ؛ لأن المراد من القرى أهاليها ، كأنه قال : ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس . ويؤيده قراءة الرفع على البدل .
روي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى نينوى ، من أرض الموصل ، وكانت مدينة عظيمة ، مسيرة ثلاثة أيام ، وهي قصبة بلاد الآشوريين ، بانيها آشور أو نينوس بن نمرود ، وكلاهما من أولاد بني نوح ، وكانت من أقدم مدن العالم وأشهرها ، والمؤرخون الوثنيون يصفونها بأن ارتفاع أسوراها كان مائة قدم ، ودائراتها ستون ميلاً ، وهي محصنة بألف وخمسمائة قلعة ، طول الواحدة منهن مائتا قدم . قيل : أهلها كانوا يبلغون نحو ستمائة ألف . وخلفاء نمرود في هذه المدينة دأبوا على تحسينها ، وتوسيع بنائها ، وقويت شوكة الآشوريين في تلك الأيام حتى خضع لهم أكثر ممالك آسيا ، فتجبروا وتمردوا ، وكانوا كلما ظفروا في غاراتهم يستغرقون في النهب والمظالم ، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام ، واسمه في العبرية ( يونان ) ، لينذرهم بأنهم لكفرهم واقترافهم الموبقات سيحل بهم العذاب بعد أربعين يوماً فتنقلب بهم نينوى . ثم خرج يونس من بينهم فأصحر ، فلما فقدوه وبلغ أميرهم قول يونس ؛ تخوفوا نزول العذاب الذي أُنذروا به ، فقذف الله في قلب أميرهم الإيمان والتوبة ، فنزل عن عرشه ، وألقى عنه حلته ، والتف بمسح ، وجلس على التراب ، وآمن بالله ، وآمن أهل نينوى كلهم ، وأمر أن ينادى بنينوى بالصيام ، فلا يذوق أحد طعاماً ولا شراباً ، ولا ترعى البهائم ولا تسقى ، وأن يلبس الناس المسوح ، صغيرهم وكبيرهم ، وأن يجتمعوا في صعيد واحد ، يجهرون بتسبيح الله والإنابة إليه ، والاستغفار له ، والتوبة عما أسلفوا من الظلم والجرم ، وأن يحضروا أطفالهم وذويهم ومواشيهم معهم . ففعلوا وتضرعوا إلى الله واستكانوا لجلاله ، وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم . فلما علم منهم الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف عنهم العذاب ورحمهم . وسيأتي في ( سورة الصافات ) زيادة في نبأ يونس عما هنا .
تنبيهات :
الأول : يروي بعض المفسرين هنا أن العذاب تدلى عليهم وغشيهم ، وجعل يدور على رؤوسهم ، وغامت السماء غيماً أسود ، ونحو هذا . وليس في التنزيل بيان لهذا ، ولا في صحيح السنة ، وكأن من زعمه فهمه من لفظ : { كَشَفْنَا } ، ولا صراحة فيه .
قال القرطبي : معنى : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ } أي : العذاب الذي وعدهم يونس أن ينزل أنه بهم لا أنهم رأوه حينئذ ، فلا خصوصية ، أي : كما روي عن قتادة أن هذا الكشف لم يكن لأمة من الأمم إلا لقوم يونس خاصة ، فإنه لم يقع بهم العذاب ، وإنما رأوا علامته .
الثاني : في الآية إشارة إلى أنه لم يوحد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى ، إثر بعثته وإنذاره ، إلا قوم يونس ، والبقية دأبهم التكذيب ، وكلهم أو أكثرهم كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
وفي الحديث الصحيح : < عرض علي الأنبياء ، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس ، والنبي معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي ليس معه أحد > .
الثالث : أخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال : إن الحذر لا يرد القدر ، وإن الدعاء يرد القدر ، وذلك في كتاب الله : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا } الآية .
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : الدعاء يرد القضاء ، وقد نزل من السماء . اقرؤوا إن شئتم : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } الآية .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة مرفوعاً ، في قوله تعالى : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ } قال عليه السلام : < دعوا > - كذا في " الإكليل " - .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ 99 ] .
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ } أي : بحيث لا يشذ عنهم أحد : { جَمِيعاً } أي : مجتمعين على الإيمان ، لا يختلفون فيه . أي : لكنه لا يشاؤه لمخالفته للحكمة التي بنى عليها أساس التكوين والتشريع : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } أي : على ما لم يشأ الله منهم : { حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : ليس ذلك عليك ولا إليك ، كقوله تعالى : : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : من الآية 272 ] ، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم وترويح لقلبه مما كان يحرص عليه من إيمانهم ، كقوله تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : من الآية 8 ] .
ولذا قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 100 ] .
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بإرادته وتوفيقه ، فلا تجهد نفسك في هداها ، فإنه إلى الله : { وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ } أي : الخذلان : { عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي : حججه وأدلته لما على قلوبهم من الطبع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ 101 ] .
{ قُلِ انظُرُواْ } أي : تفكروا : { مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : من الآيات الدالة على توحيده وكمال قدرته . قال السيوطي : في الآية دليل على وجوب النظر والاجتهاد ، وترك التقليد في الاعتقاد { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } أي : وما تنفع الآيات والرسل المنذرون ، أو الإنذارات عمن لا يؤمن ، و ( ما ) استفهامية أو نافية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ 102 ] .
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } أو وقائعه تعالى فهم كما يقال : ( أيام العرب ) لوقائعها ، من التعبير بالزمان عما وقع فيه ، كما يقال : ( المغرب ) للصلاة الواقعة فيه { قُلْْ } أي : تهديداً لهم : { فَانتَظِرُواْ } أي : ما هو عاقبتكم { إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 103 ] .
{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا } عطف على محذوف معلوم من السياق ، كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا المرسلة إليهم : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : من كل شدة العذاب . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 104 ] .
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } إنما أوثر الخطاب باسم الجنس - أعني الناس - مصدراً بحرف التنبيه ؛ تعميماً للتبليغ وإظهاراً لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم ، وعبر عما هم فيه من القطع بالشك ؛ للإيذان بأنه أقصى ما يمكن خطوره ، وإلا فإن وضوح صحته ، وبرهان حقيته أوضح من الشمس في رائعة النهار . وقدم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى ؛ إيذاناً بمخالفتهم من أول الأمر ، وفي تخصيص التوفي بالذكر متعلقاً بهم - ما لا يخفى من التهديد ؛ إذ لا شيء أشد عليهم من الموت { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بأعلى مراتب التوحيد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 105 ] .
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الأديان الباطلة .
لطيفتان :
الأولى : إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى ، والإعراض عما سواه ، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته ، بحيث لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ؛ إذ لو التفت بطلت المقابلة ، فلذا كني به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين ، فالمراد بالوجه : الذات . أي : اصرف ذاتك وكليتك للدين ، فاللام صلة .
الثانية : جملة ( وأن أقم ) عطف على ( أن أكون ) وجاز حكاية صلة ( أن ) بصيغة الأمر ، لأنه لا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب وبين الخبر ، لأن القصد وصلها بما يتضمن معنى المصدر ، وهو يحصل بكل فعل . وقال بعضهم : إن هنا فعلاً مقدراً . أي : وأوحي إلي أن أقم ، وأنه يجوز أن تكون ( أن ) مصدرية ومفسرة ، لأن في المقدر معنى القول دون حرفه ، ثم رجحه بأنه يزول فيه قلق العطف ، ويكون الخطاب في وجهك في محله . ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها ، ولا قلق في هذا العطف ، وأمر الخطاب سهل ؛ لأنه لملاحظة المحكي ، والأمر المذكور معه ، كذا في " العناية " .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تهييج وحث له على عبادة الله تعالى ، ومنع لغيره ، كما تقدم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ } [ 106 ] .
{ وَلاَ تَدْعُ } أي : لا تعبد : { مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ } أي : لا في الدنيا ولا في الآخرة إن عبدته : { وَلاَ يَضُرُّكَ } إن لم تعبده : { فَإِن فَعَلْتَ } أي : عبدته : { فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ } أي : الضارين لنفسك ، أو بوضع الأمر في غير موضعه : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : من الآية 13 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ 107 ] .
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } لما نهى تعالى عن عبادة الأوثان ، ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر ، بين أنه سبحانه هو الضار النافع ، الذي إن أصاب بضر لم يقدر على كفه إلا هو وحده ، دون كل أحد ، كيف بالجماد الذي لا شعور به ؟ ! وكذلك إن أراد بخير لم يرد أحد ما يريده من فضله وإحسانه ، فكيف بالأوثان ؟ ! فهو الحقيقي إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها .
لطائف :
قيل : ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني ، للإشارة إلى أنهما متلازمان ، فما يريده يصيبه ، وما يصيبه لا يكون إلا بإرادته ، لكنه صرح في كل منهما بأحد الأمرين ؛ إشارة بالذات ، فلذا لم يعبر فيه بالإرادة .
وقيل : قصد الإيجاز ، فذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدل على إرادة مثله في الأخرى لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب ، وهو نوع من البديع يسمى احتباكاً .
قال أبو السعود : على أنه قد صرح بالإصابة حيث قيل ( يصيب به ) إظهاراً لكمال العناية بجانب الخير ، كما ينبئ عنه ترك الاستثناء فيه ، أي : يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير .
روى ابن عساكر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اطلبوا الخير دهركم كله ، وتعرضوا لنفخات ربكم ، فإن لله نفخات من رحمته ، يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوه أن يستر عوراتكم ، ويؤمن روعاتكم > . ورواه عن أبي هريرة بمثله .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } [ 108 ] .
{ قُلْ } أي : لأولئك الكفرة الفجرة ، بعد ما بلّغتهم دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، وأنذرتهم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } يعني القرآن : { فَمَنِ اهْتَدَى } أي : بالإيمان به { فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } أي : منفعة اهتدائه لها خاصة { وَمَن ضَلَّ } أي : بالكفر به : { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : فوبال الضلال عليها . والمعنى : لم يبق لكم بمجيء الحق عذر ، ولا على الله حجة ، فمن اختار الهدى وإتباع الحق فما نفع إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه ، وفيه تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه السلام من جلب نفع أو ضر ، كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته ، - أفاده أبو السعود - .
{ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } أي : بحفيظ موكول إليَّ أمركم ، وإنما أنا بشير ونذير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ 109 ] .
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ } أي : في التبليغ ، وإن لم يهتدوا به { وَاصْبِرْ } أي : على أذاهم في الدعوة : { حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ } أي : لك بالنصرة عليهم والغلبة : { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } وقد حكم وشاء قتلهم وأسرهم يوم بدر ، وله الأمر من قبل ومن بعد .

(/)


سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ 1 ] .
{ الَر } تقدم الكلام على مثلها في أول سورة البقرة فليتذكر .
{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي : نظمت نظماً رصيناً محكماً معجزاً ، وأثبتت دائمة على حالها لا تتبدل ولا تتغير ولا تفسد ، محفوظة عن كل نقص وآفة : { ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي : لأنواع من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، كما تفصل القلائد بالفرائد . أو جعلت فصولاً سورة سورة ، وآية آية ، أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد ، أي : بيَّن ولخَّص .
قيل : ( ثم ) هنا للتراخي في الحكم ، أي : الرتبة ، أو التراخي بين الإخبارين ، لا للتراخي في الوقت ، لأن التفصيل والإحكام صفتان لشيء واحد ، لا تنفك إحداهما عن الأخرى ، فليس بينهما ترتب وتراخ ، وهذا التكلف على أن ( ثم ) تقتضي الترتيب ، وقد خالف قوم في اقتضائها إياه ، كما حكاه في " المغني " .
{ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } أي : إحكامها وتفصيلها من لدن حكيم بناها على علم وحكمة ، لا يمكن أحسن منها ، وأشد إحكاماً ، وخبير بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في تقديرها وتوقيتها وترتيبها - قاله القاشاني - .
قال الزمخشري : وفيه طباق حسن ؛ لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها ، أي : بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [ 2 ] .
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ } قال القاشاني : أي : تنطق عليكم بلسان الحال والدلالة ، ألا تشركوا بالله في عبادته ، وخصوه بالعبادة .
وقال الزمخشري : { أَلِّا } مفعول له ، أي : لئلا . أو ( أن ) مفسرة ، لأن في تفصيل الآيات معنى القول ، كأنه قيل : قال لا تعبدوا إلا الله ، أو أمركم ألا تعبدوا إلا الله .
وقوله تعالى : { إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كلام على لسان الرسول ، أي : إنني أنذركم ، من الحكيم الخبير ، عقاب الشرك وتبعته ، وأبشركم منه بثواب التوحيد وفائدته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [ 3 ] .
{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي : من الشرك : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } لطاعة . أو المعنى : ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : من الآية 30 ] و [ الأحقاف : من الآية 13 ] .
{ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، من عيشة واسعة ونعم متتابعة إلى وقت وفاتكم ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : من الآية 97 ] .
{ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : ويعط كل ذي فضل في العمل الصالح في الدنيا أجره ، وثواب فضله في الآخرة .
{ وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : تتولوا عن التوحيد والتوبة إليه : { فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يوم القيامة .
قال القاشاني : ( كبير ) أي : شاق عليكم ، وهو يوم الرجوع إلى الله ، القادر على كل شيء ، أي : يوم ظهور عجزكم وعجز ما تعبدون ، بظهوره تعالى في صفة قادريته ، فيقهركم بالعذاب ، ولذا قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 4 - 5 ] .
{ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
ثم بيَّن تعالى إعراضهم بجسمهم أيضاً ، إلى الإشارة إلى توليهم بقلبهم ، بقوله : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي : يزورون عن الحق واستماعه بصدورهم : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } أي : في قلوبهم : { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : يجهرون بأفواههم : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما في ضمائر القلوب . ونظير ما حكي هنا عن مشركي مكة من كراهتهم لاستماع كلامه تعالى ؛ ما قاله تعالى عن قوم نوح : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً } [ نوح : 7 ] ، وما ذكرناه هو أظهر ما تحمل عليه الآية - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 6 ] .
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا } أي : ما تعيش به ، وإنما جيء بـ : ( على ) اعتباراً لسبق الوعد به ، وتحقيقاً لوصوله إليها البتة ، بطريق التكفل الشبيه بالإيجاب : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أي : مسكنها في الدنيا ، أو في الصلب : { وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي : بعد الموت ، أو في الرحم : { كُلٌّ } أي : من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها : { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : مسطور في كتاب عنده تعالى ، مبين عن جميع ذلك .
ثم بيَّن تعالى عظيم قدرته وتكوينه وإبداعه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 7 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } من الأحد إلى الجمعة : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } أي : ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض وارتفاعه فوقها إلا الماء . وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض - كذا في " الكشاف " - .
قال القاضي : أي : لم يكن بينهما حائل ، لا أنه كان موضوعاً على متن الماء .
قال قتادة : ينبئنا تعالى في هذه الآية كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض .
روى الإمام أحمد عن أبي رَزين - واسمه : لقيط بن عامر العُقَيْلي - قال : قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : < كان في عماء ، ما تحته هواء ، وما فوقه هواء ، ثم خلق العرش بعد ذلك > ورواه الترمذي وحسنه وقال : قال أحمد : يريد بالعماء أنه ليس معه شيء .
وقال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " : ( العماء ) ممدود كما رأيته مقيداً كذلك ، ومعناه السحاب الرقيق ، أي : فوق سحاب ، مدبراً له ، وعالياً عليه . كما قال تعالى : { ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء } [ الملك : من الآية 16 ] ، يعني من فوق السماء . وقوله : ( ما فوقه هواء ) أي : ما فوق السحاب هواء . وكذلك قوله : ( وما تحته هواء ) أي : ما تحت السحاب هواء .
وقد قيل : إن ذلك ( العمى ) مقصور ، بمعنى لا شيء ثابت ، لأنه مما عمي عن الخلق ، فكأنه قال في جوابه : كان قبل أن يخلق الخلق ولم يكن شيء غيره . و ( ما ) فيهما نافية . أي : ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ، ولا تحته هواء ؛ لأنه إذا كان غير موجود فلا يثبت له هواء بوجه . انتهى ملخصاً .
وقال ابن الأثير : العماء في اللغة السحاب الرقيق ، وقيل الكثيف ، وقيل هو الضباب ، وفي الحديث حذف ، أي : أين كان عرش ربنا ؟ دل عليه قوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } .
وحكى بعضهم أنه العمى المقصور . قال : وهو كل أمر لا يدركه الفَطِن .
وقال أبو عبيد : إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم ، وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء ! .
قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته .
وقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : أخلصه ، متعلق بـ ( خلق ) أي : خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلهن مساكن لعباده ، وينعم عليهم بفنون النعم ، فيعبدوه وحده ، ويتسابقوا في العمل الذي يرضيه . ولما كان الابتلاء والاختبار لمن تخفى عليه عاقبة الأمور ؛ قيل : إنه هنا تمثيل واستعارة ، فشبه معاملته تعالى عباده في خلق المنافع لهم ، وتكليفهم شكره ، وإثابتهم إن شكروا ، وعقوبتهم إن كفروا ، بمعاملة المختبر مع المختبَر ، ليعلم حاله ويجازيه ، فاستعير له الابتلاء على سبيل التمثيل ( ليبلوكم ) موضع ( ليعاملكم ) ويصح أن يكون مجازاً مرسلاً ، لتلازم العلم والاختبار . أي : خلق ذلك ليعلم ، أي : ليظهر تعلق علمه الأزلي بذلك .
قال القاشاني : جعل غاية خلق الأشياء ظهور أعمال الناس . أي : خلقناهم لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فإن علم الله قسمان : قسم يتقدم وجود الشيء في اللوح ، وقسم يتأخر وجوده في مظاهر الخلق ، والبلاء الذي هو الاختبار هو هذا القسم - انتهى - .
ونحو هذه الآية قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ ص : من الآية 27 ] ، وقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 115 - 116 ] ، وقوله سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وقوله تعالى : { وَلَئِن قُلْت } أي : لأهل مكةَ : { إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ } أي : مُحْيَون : { مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا } أي : القول بالبعث ، أو القرآن المتضمن لذكره : { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : مثله في الخديعة والبطلان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 8 ] .
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أي : جماعة من الأوقات محصورة . والعذاب هو عقاب الآخرة ، أو عذاب الدنيا ببدر ، أو هلاك المستهزئين الذين ماتوا قبل بدر : { لَّيَقُولُنَّ } أي : استهزاء : { مَا يَحْبِسُهُ } أي : عنا { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم } أي : دار ونزل بهم : { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } أي : العذاب الذي كانوا به يستعجلون .
لطيفة :
( الأمة ) تستعمل في الكتاب والسنة في معان متعددة ، فيراد بها الأمد كما هنا ، وقوله في يوسف : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة } [ يوسف : من الآية 45 ] ، والإمام المقتدى به ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : من الآية 120 ] ، والملة والدين كآية : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةِ } [ الزخرف : من الآية 22 - 23 ] ، والجماعة كآية : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُون } [ القصص : من الآية 23 ] ، وقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : من الآية 36 ] - أفاده ابن كثير - .
ثم أخبر سبحانه عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة ، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ 9 ] .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } أي : نعمة : { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } أي : قنوط عن عَوْدِهَا ، قطوع رجاءه من فضله تعالى ، من غير صبر ولا تسليم لقضائه : { كَفُورٌ } عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله ، كأنه لم ير خيراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ 10 ] .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي } أي : المصائب التي ساءتني : { إِنَّهُ لَفَرِحٌ } أي : أشر بطر : { فَخُورٌ } أي : على الناس بما أذاقه الله من نعمائه ، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ 11 ] .
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على الضراء ، إيماناً واستسلاماً لقضائه : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي : في الرخاء والشدة ، شكراً لآلائه ، سابقها ولاحقها : { أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } أي : لذنوبهم بتلك الشدة : { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي : على الصبر والأعمال الصالحة .
تنبيه :
قال القاشاني قدس سره : ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر والغنى ، والشدة والرخاء ، والمرض والصحة ، واثقاً بالله ، متوكلاً عليه ، لا يحتجب عنه بوجود نعمة إلا بسعيه وتصرفه في الكسب ، ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر الأسباب والوسائط ؛ لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب والكفران والبطر والأشر عند وجودها ، فيبعد بها عن الله تعالى ، وينساه فينساه الله ، بل يرى الإعطاء والمنع منه دون غيره . فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة شكره أولاً برؤية ذلك منه ، وشهود المنعم في صورة النعمة ، وذلك بالقلب ثم بالجوارح ، باستعمالها في مراضيه وطاعته ، والقيام بحقوقه تعالى فيها ، ثم باللسان بالحمد والثناء متيقناً بأنه القادر على سلبها ، محافظاً عليها بشكرها ، مستزيداً إياها ، اعتماداً على قوله تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم } [ إبراهيم : من الآية 7 ] .
قال أمير المؤمنين عليه السلام : إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر . ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتأسف عليها ، عالماً بأنه هو الذي نزع دون غيره ؛ لمصلحة تعود إليه ، فإن الرب تعالى كالوالد المشفق في تربيته إياه ، بل أرأف وأرحم ، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى ، إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه وظاهرها ، وهو العالم بالغيب والشهادة ، فيعلم ما فيه صلاحه عاجلاً وآجلاً ، راضياً بفعله ، راجياً إعادة أحسن ما نزع منها إليه ، إذ القانط من رحمته بعيد منه ، لا يستوسع رحمته لضيق وعائه ، محجوب عن ربوبيته ، لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه . ثم إذا أعادها لم يفرح بوجودها ، كما لم يحزن بفقدانها ، ولا يفخر بها على الناس ، فإن ذلك من الجهل ، وظهور النفس ، وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله ، وبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له ومنه ؟ بل لله ومن الله .
وقوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ } استثناء من ( الإنسان ) أي : هذا النوع يؤوس كفور ، فرح فخور ، في الحالين ، إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه ، في حالة الضراء والنعماء والشدة والرخاء ، كما قال عمر رضي الله عنه : الفقر والغنى مطيتان ، لا أبالي أيهما أمتطي . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ 12 ] .
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي : بتلاوته عليهم ، وتبليغه إليهم { أَن يَقُولُواْ } أي : مخافة أن يقولوا ، تعامياً عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفى صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة ، وتمادياً في العناد على وجه الاقتراح
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } أي : هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز والملائكة ، زعماً أن الرسول متبوع ، لا بد له من الإنفاق على أتباعه ، ولا يتأتى مع عدم سلطنته إلا بإلقاء الكنز عليه ، أو مجيء ملك معه يصدق برسالته ، فقال تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } أي : ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ، غير مبال بما صدر منهم من الاقتراح : { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : فيحفظ ما يقولون ويجازيهم عليه ، فكل أمرك إليه ، وبلغ وحيه بقلب منشرح ، غير مبال بهم .
لطائف :
الأولى : قال القاشاني : لما لم يقبلوا كلامه صلى الله عليه وسلم بالإرادة ، وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة ، وقوله بالعناد والاستهزاء ، ضاق صدره ، ولم ينبسط للكلام ، إذ الإرادة تجذب الكلام ، وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم ، ويوجب بسطه فيه ، وإذا لم يجد المتكلم محلاً قابلاً لم يتسهل له ، وبقي كرباً عنده ، فشجعه الله تعالى بذلك ، وهيج قوته ونشاطه بقوله : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } ، فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين : إما رفع الحجاب أن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك ، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك ، ثم كل الهداية إليه .
الثانية : لا يخفى أن ( لعل ) للترجي ، وهو وإن اقتضى التوقع ، إلا أنه لا يلزم من توقع الشيء وقوعه ، ولا ترجح وقوعه ؛ لوجود ما يمنع منه وتوقع ما لا يقع منه ، المقصود تحريضه على تركه ، وتهييج داعيته .
وقيل : ( لعل ) هنا للتبعيد لا للترجي ، فإنها تستعمل كذلك ، كما تقول العرب : لعلك تفعل كذا ، لمن لا يقدر عليه . فالمعنى : لا تترك .
وقيل : إنها للاستفهام الإنكاري ، كما في الحديث : < لعلنا أعجلناك > .
وقيل : هي لتوقع الكفار ، فكما تكون لتوقع المتكلم ، وهو الأصل ؛ لأن معاني الإنشاءات قائمة به تكون لتوقع المخاطب أو غيره ، ممن له ملابسة بمعناه كما هنا . فالمعنى : إنك بلغت الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه - كذا في " العناية " - .
الثالثة : إنما عدل عن ( ضيق ) الصفة المشبهة إلى ( ضائق ) اسم الفاعل ؛ ليدل على أنه ضيق عارض ، غير ثابت ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً . وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل ، فيقولون في سيد : سائد ، وفي جواد : جائد ، وفي سمين : سامن ، قال :
~بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها
وظاهر كلام أبي حيان أنه مقيس . وقيل إنه لمشابهة ( تارك ) . ومنه يعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة - كذا في " العناية " - .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 13 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : ما يوحى إليك ، وفي ( أم ) وجهان منقطعة مقدرة بـ ( بل والهمزة الإنكارية ) أي : بل أيقولون . ومتصلة والتقدير : أيكتفون بما أوحينا إليك ، وهو ما في الإعجاز ، أم يقولون ليس من عند الله .
{ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ } أي : للاستعانة : { مَنِ اسْتَطَعْتُم } أي : من الإنس والجن ، وقوله : { مِّن دُونِ اللّهِ } متعلق بـ : { ادْعُواْ } ، أي : متجاوزين الله تعالى : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أني افتريته ، فأنتم عرب فصحاء مثلي ، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِ لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 14 ] .
{ فَإِ لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ } أي : بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها : { وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } أي : واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله ، وأن توحيده واجب ، والإشراك به ظلم عظيم { فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : مبايعون بالإسلام ، منقادون لتوحيد الله ، وتصديق رسوله بعد هذه الحجة القاطعة ؟ .
لطائف :
الأولى : قيل : تُحُدُّوا أولاً بعشر سور ، فلما عجزوا تُحُدُّوا بسورة . وذهب المبرد إلى أن الأمر بالعكس ، ووجهه بأن ما وقع أولاً هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها ، وهي الأنواع التسعة المنظومة في قول بعضهم :
~ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل
~حلال حرام مُحكم مُتشابه بشير نذير قصة عظة مثل
فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بالإتيان بعشر سور مثله في النظم ، وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه ، ويشهد له توصيفها بـ ( مفتريات ) .
وقيل : إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك ، فتعين أن يكون لإثبات النبوة بإظهار معجزة ، وهي السورة الفذة . والتحدي بعشر وقع بعد تعنتهم واستهزائهم ، واقتراحهم آيات غير القرآن ؛ لزعمهم أنه مفترى ، فمقامه يناسبه التكثير ؛ لأنه أمر مفترى عندهم ، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله - كذا في " العناية " - .
الثانية - ضمير ( لكم ) للنبي صلى الله عليه وسلم وجمع للتعظيم ، كما في قول من قال :
~وإن شئت حرمت النساء سواكم
أو له وللمؤمنين ؛ لأنهم أتباعه في الأمر بالتحدي . وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ، ويناصبوا معه لمعارضة المعارضين ، كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان والطمأنينة في الإيقان ، ولذلك رتب عليه قوله عز وجل : { فاعلموا } الخ . وجوز أن يكون الخطاب في الكل للمشركين من جهته عليه السلام ، داخلاً تحت الأمر بالتحدي ، والضمير في ( لم يستجيبوا ) لـ ( من استطعتم ) أي : فإن لم يستجب لكم سائر من تجأرون إليهم في مهماتكم إلى المعاونة ؛ فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر ، وأنه منزل من خالق القُوى والقُدَر - كذا في أبي السعود - .
ثم بيَّن تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة - وهم الكفار - بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ 15 ] .
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي : نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 16 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } أي : وحبط في الآخرة ما صنعوه ، أن لم يكن لهم ثواب عليه . وجوز تعلق الظرف بـ ( صنعوا ) والضمير للدنيا . كما عاد عليه في قوله : { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : من الآية 15 ] ، { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : كان عملهم في نفسه باطلاً ؛ لأنه لم يعمل لغرض صحيح .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً } [ الإسراء : 18 - 20 ] ، وقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
لطيفة :
في إعراب ( باطل ) وجهان :
الأول : كونه خبراً مقدماً ، و ( ما كانوا ) مبتدأ مؤخراً ، و ( ما ) مصدرية أو موصولة ، والكلام من عطف الجمل .
والثاني : كونه عطفاً على الأخبار قبله ، أي : أولئك باطل ما كانوا يعملون .
و : { مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فاعل بـ ( باطل ) ورجح هذا بقراءة زيد بن علي رضي الله عنهما ، ( وَبَطَلَ ) ماضياً معطوفاً على ( حَبِطَ ) .
ثم أشار تعالى إلى صفة المؤمنين في مقابلة أولئك بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 17 ] .
{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي : برهان نير ، عظيم الشأن ، يدل على حقية ما ثبت عليه من الإسلام ، وهو القرآن : { وَيَتْلُوهُ } أي : يتبعه : { شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي : من القرآن نفسه ، يشهد له بكونه من عند الله تعالى ، وهو إعجازه . وفسرت ( البينة ) أيضاً بالإسلام ، سماه بينة لغاية ظهوره ، إذ هو دين الفطرة ، قبل تدنيسها برجس الوثنية و ( الشاهد ) بالقرآن ، فالضمير للرب تعالى { وَمِن قَبْلِهِ } أي : القرآن : { كِتَابُ مُوسَى } وهو التوراة ، أي : ويتلو بلك البنية من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك أيضاً . وقوله تعالى : { إِمَاماً } أي : مقتدى به في الدين : { وَرَحْمَةً } أي : نعمة عظيمة على المنزل إليهم ، تهديهم وتعلمهم الشرائع { أُوْلَئِكَ } أي : من كان على بينة : { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : بالقرآن فلهم الجنة { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ } يعني أهل مكة ، ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلوات الله عليه : { فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } أي : شك من القرآن أو من الموعد : { إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : به ، إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم ، وإما لعنادهم واستكبارهم .
لطائف :
الأولى : ( مَنْ ) في قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } مبتدأ حذف خبره ، لإغناء الحال عن ذكره ، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً . وتقديره : أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم ، وبين مصيرهم ومآلهم - كذا قال أبو السعود - .
وفي " شرح الكشاف " أن التقدير : أمن كان يريد الحياة الدنيا ، على أنها موصول ، فمن كان على بينة من ربه ، والخبر محذوف ؛ لدلالة الفاء ، أي : يعقبونهم أو يقربونهم . والاستفهام للإنكار ، فيفيد أنه لا تقارب بينهم ، فضلاً عن التماثل ، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] .
الثانية : قرئ ( كتابَ موسى ) بالنصب عطفاً على الضمير في ( يتلوه ) أي : يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه ، يعني من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى ؛ لما يجدونه مكتوباً عندهم ، و ( يتلو ) من التلاوة ، فتكون الآية كقوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ } [ الأحقاف : من الآية 10 ] - والله أعلم - .
الثالثة : ( الأحزاب ) جمع حزب ، والحزب جماعة الناس . ويطلق ( الأحزاب ) على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا كل نبي قبله ، وهو إطلاق شرعي ، وعليه حمل الأكثر الآية ؛ لكون السورة مكية ، إلا أن اللفظ يتناوله ، وكل من شاكلهم من سائر الطوائف .
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي أو نصراني ، ثم لا يؤمن بي ، إلا دخل النار > . قال سعيد : كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه ، إلا وجدت مصداقه في القرآن ، فبلغني هذا الحديث ، فجعلت أقول : أين مصداقه في كتاب الله ؟ حتى وجدت هذه الآية : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قال : الملل كلها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ 18 ] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً } كقوله للملائكة ( بنات لله ) ، وللأصنام ( شفعاء عند الله ) : { أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ } أي : يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم : { وَيَقُولُ الأَشْهَادُ } من الملائكة والنبيين والجوارح : { هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله . قيل : ولا يبعد أن تكون الآية للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى ، فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه ؟ ! كما مر في يونس ، في قوله تعالى : { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ } [ طه : من الآية 69 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [ 19 ] .
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن دينه القويم ، كل من يقدرون على صده .
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : يطلبونها معوجة بالكفر ، أو يصفونها لهم بالاعوجاج : { وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [ 20 ] .
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ } أي : يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا { وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } أي : يمنعونهم من عقابه { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } لتصامتهم عن الحق وبغضهم له { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } لتعاميهم عن آيات الله ، وإعراضهم غاية الإعراض ، كما قال الله : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] . وقال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ } [ النحل : من الآية 88 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ 21 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } أي : سعادتها وراحتها ، أو بتسليمها لعبادة الأوثان وتركها ما خلقت له من عبادته تعالى ، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة ، كما قيل :
~إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : غاب عنهم الآلهة وشفاعتها ، ولم تُجْدِهم شيئاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } [ 22 ] .
{ لاَ جَرَمَ } أي : حقاً ، أو لا محالة : { أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 23 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } أي : خشعوا له وحده { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ 24 ] .
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ } أي : الكفار والمؤمنين : { كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ } مثل للكافر : { وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } مثل للمؤمنين : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } أي : الفريقان : { مَثَلاً } أي : حالاً وصفة : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : بضرب الأمثال وتدبرها .
ثم قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل ما يثبت فيه فؤاده ليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم ، ومقاساتهم الشدائد من جهتهم ، وليعلم قومه أن رسالته كرسالة من تقدمه ، وأن سنة الله فيهم معروفة ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 25 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم : { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : بأني ، وقرئ بالكسر . أي : فقال إني لكم نذير مبين ، أبين لكم موجبات العذاب ، ووجه الخلاص منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ 26 ] .
{ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ } ( الباء ) مقدرة هنا للتعدية ، و ( لا ) ناهية أي : أرسلناه متلبساً بالنهي عن عبادة غير الله { إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : إن عبدتم غيره : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي : مؤلم في الدنيا والآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ 27 ] .
{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي : السادة والكبراء { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } أي : لست بملك ، ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا .
قال القاشاني : أي : فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا ، القادرون عليها ، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } لكونهم ظاهريين ، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم ، المتحير بالهوى ، الذي هو عقل المعاش ، ولا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل ، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات ، طوراً بعد طور ، ورتبة فوق رتبة ، إلى ما لا يعلمه إلا الله ، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها .
{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي : فقراؤنا الأدنون منا ؛ إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } .
وقوله تعالى : { بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : بديهة الرأي ؛ لأنهم ضعاف العقول ، عاجزون عن كسب المعاش ، ونحن أصحاب فكر ونظر . قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية ؛ لقصر تصرفه على كسب المعاش ، والوقوف على حده . وأما أتباع نوح عليه السلام ، فإنهم أصحاب همم بعيدة ، وعقول حائمة حول القدس ، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه ، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها .
تنبيه :
( بادي ) قرأه أبو عَمْرو بالهمزة ، والباقون بالياء .
فأما الأول : فمعناه أول الرأي . بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل ، أول وهلة .
وأما الثاني : فيحتمل أن أصله ما تقدم ، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً ، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو ، كعلا يعلوا . والمعنى : ظاهر الرأي دون باطنه ، ولو تؤمل لعرف باطنه ، وهو في المعنى كالأول . وعلى كليهما هو منصوب على الظرفية . والعامل فيه إما ( نراك ) أو ( اتبعك ) .
قال الناصر : زعم هؤلاء أن يحجوا نوحاً بمن اتبعه من وجهين :
أحدهما : أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة .
والثاني : أنهم مع ذلك لم يترووا في إتباعه ، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به ، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية ، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقة وآمن به - انتهى - .
أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم ، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعارٍ على الحق رذالة من اتبعه ، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأدنون ولو كانوا أغنياء . وفي الغالب ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق ، كما يغلب على الكبراء مخالفته ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ولما سأل هرقل ملك الروم ، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال هرقل : هم أتباع الرسل .
وأما الثاني : فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل ؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال ، ولا بد من إتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة ، ولا يتردد إلا غبي أو عيي ، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام .
وقوله تعالى : { وَمَا نَرَى لَكُمْ } خطاب لنوح وأتباعه : { عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي : تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة ؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال .
قال الزمخشري : كان الأشراف عندهم من له جاه ومال ، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم . ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله ، وإنما يبعده ولا يرفعه ، بل يضعه ، فضلاً عن أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوة ، والتأهيل لها ، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ، مصغرين لشأن الدنيا ، وشأن من أخلد إليها ، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله ، والتشرف بما هو ضعة عند الله !
وقوله تعالى : { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي : فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } [ 28 ] .
{ قَالَ } أي : نوح : { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْْ } أي : أخبروني : { إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ } أي : برهان : { مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً } أي : هداية خاصة كشفية : { مِّنْ عِندِهِ } أي : فوق طور العقل من العلوم اللدنية ، ومقام النبوة : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن ، وبالخليقة عن الحقيقة : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } يعني أنكرهكم على قبولها ، ونقسركم على الاهتداء بها ، وأنتم تكرهونها ولا تختاورنها ، و : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } [ البقرة : من الآية 256 ] ، فالاستفهام للإنكار ، أي : لا نقدر على ذلك ، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله ، لا أن نضطركم إليها ، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم ، واتركوا إنكاركم ، وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها ، ورد عن الإعراض عنها ، بأسلوب فائق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } [ 29 ] .
{ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على تبليغ التوحيد : { مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ } قال القاشاني : أي : الغرض عندكم من كل أمر ، محصور في حصول المعاش ، وأنا لا أطلب ذلك منكم ، فتنبهوا لغرضي ، وأنتم عقلاء بزعمكم .
ثم لما بيَّن أن لا وجه لكراهة دعوته ؛ إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئاً ، فلم يبق إلا خسة أتباعه ، ولا ترتفع إلا بطردهم ، قال : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله ، وطردهم قد يكون مانعاً لهم من الإيمان أو لأمثالهم . ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه . ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا ، أخاف من طردهم شكايتهم ، وهذا معنى قوله : { إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } أي : فيخاصمون طاردهم عنده . أو المعنى : إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه ، فكيف أطردهم ؟ .
ثم أشار إلى أن خستهم ليست مانعة من الإيمان ؛ إذ لا تلحقهم ، بقوله :
{ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } أي : فتخافون لحوق خستهم ، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم ؛ إذ الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء . أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله ، ولا تعرفون الله ولا لقاءه ؛ لذهاب عقولكم في الدنيا ، أو تسفهون وتؤذون المؤمنين ، وتدعونهم أراذل ، أو تجهلون أنهم خير منكم ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] .
ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ 30 ] .
{ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } أي : فإن أفادكم طردهم تعززكم ، فإني أستوجب قهره بطردهم ، ومن يدفعه عني ؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعاً ، وإنما لم يصرح به إشعاراً بأنه غني عن البيان ، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تتعظون فتنزجروا عما تقولون ؟ .
تنبيه :
قال بعضهم : ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن ، وتحريم الاستخفاف به ، وإن كان فقيراً عادماً للجاه ، متعلقاً بالحرف الوضيعة ؛ لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل ، وهي نظير قوله تعالى : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [ الأنعام : من الآية 52 ] .
ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم ، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ 31 ] .
{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ } أي : رزقه وأمواله : { وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } أي : أنا أدعي الفضل بالنبوة ، لا بالغنى وكثرة المال ، ولا بالإطلاع على الغيب ، ولا بالملكية ، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ } أي : تحتقرهم ، وهم الفقراء المؤمنون : { لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً } أي : في الدنيا والآخرة ، لهوانهم عليه ، كما تقولون ؛ إذ الخير عندي ما عند الله ، لا المال : { اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ } أي : من الخير مني ومنكم ، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم ، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه .
قال القاشاني : وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشاداً إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقيناً ، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة : { إِنِّي إِذاً } أي : إذا قلت ذلك : { لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : لبخس حقهم ، وحط قدرهم ؛ فإن الإيمان الظاهر منهم ، رفع شأنهم ، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي كما هو الظاهر منهم ؛ فلهم جزاء الحسنى ، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير بعد ما آمنوا كان ظالماً . وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 32 ] .
{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي : أطلته ، أو أتيته بأنواعه { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا } أي : من العذاب : { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [ 33 ] .
{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء } يعني أنه ليس موكولاً إلي ، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به : { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي : بالهرب أو بدفعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 34 ] .
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي : أيُّ شيء يجديه إبلاغي ونصحي بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب وإن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم ؟ ! : { هُوَ رَبُّكُمْ } أي : مالك أمركم : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ } [ 35 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ } أي : قوم نوح : { افْتَرَاهُ } أي : النصح ، فهو من تتمة نبأ نوح ، أو ضمير الجمع لكفار مكة ، يعنون افتراء محمد صلوات الله عليه لنبأ نوح ، جيء به معترضاً في تضاعيفه ، تحقيقاً له ، وتأكيداً لوقوعه ، وتشويقاً للسامعين إلى استماعه ؛ إذ بقي منها الأهم وهو نتيجته : { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : إثم كسب ذنبي : { وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ 36 ] .
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ } أي : بعد مبالغته في بذل الوسع في النصح مع عدم نفعه إياهم : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ } أي : لا تحزن : { بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي : من التكذيب والإيذاء ، فقد انتهى أمرهم وحان وقت الانتقام منهم .
وقيل : المعنى لا تبتئس ، أي : لإهلاكهم شفقة عليهم ؛ لأنهم إنما يهلكون بما كانوا يفعلون من معاندتهم معك ، فليسوا محلاً لشفقتك ولا لرحمتنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } [ 37 ] .
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ } أي : للتخلص من عذابهم : { بِأَعْيُنِنَا } أي : بحفظنا وكلاءتنا ، كأن معه من الله عز وجل حفاظاً وحراساً ، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة ، ومن الزيغ في الصنعة : { وَوَحْيِنَا } أي : إليك كيف تصنعها ، وتعليمنا وإلهامنا . قيل لم يكن قبله سفينة : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : ولا تدعني ، في استدفاع العذاب عنهم بشفاعتك : { إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } أي : محكوم عليهم بالطوفان ، وقد وجب ذلك فلا سبيل إلى كفه ، كقوله تعالى : { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود : 76 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ 38 ] .
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة . وقيل : تقديره وأخذ يصنع الفلك { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } أي : هزئوا به ، بمعالجة السفينة : { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } أي : في صنع الفلك : { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } أي : لجهلكم : { كَمَا تَسْخَرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ 39 ] .
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي : في الدنيا فيجعله محلاً للسخرية : { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي : في الآخرة ، يدوم معه الخزي .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ 40 ] .
{ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا } أي : بإهلاك قومه . و : { حَتَّى } غاية لقوله ( ويصنع ) وما بينهما حال من الضمير فيه ، و ( سخروا منه ) جواب ( كلما ) : { وَفَارَ التَّنُّورُ } أي : وجه الأرض ، أو كل مفجر ماء ، أو محفل ماء الوادي ، أو عين ماء معروفة ، أو الكانون الذي يخبز فيه ، أو تنوير الفجر - أقوال حكاها اللغويون والمفسرون - زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر ، كما يقال : ( حمي الوطيس ) والوطيس : التنور ، وهو من فصيح الكلام وبليغه ، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها ، وإن حاول الرازي رده ، كأنه قيل : واشتد الأمر ، وقوي انهمار الماء ونبوعه . وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب قد بينته آيات أخر ، وهي : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 11 - 12 ] الآيات ، ومما يؤيده شمولة لشدة الأمر من السماء والأرض فيطابق هذه الآيات . وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط ، وجلي أن الأمر كان أعم - والله أعلم - .
{ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا } أي : في السفينة : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } أي : صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض : { اثْنَيْنِ } أي : ذكراً وأنثى .
قال أبو البقاء : يقرأ ( كُلِّ ) بالإضافة وفيه وجهان :
أحدهما : أن مفعول ( احمِل ) ( اثنين ) و ( مِن ) حال .
والثاني : أن ( مِن ) زائدة والمفعول ( كُلّ ) و ( اثنين ) توكيد . ويقرأ مِنْ كُلٍ ( بالتنوين ) ، فـ ( زوجين ) مفعول ( احمل ) و ( اثنين ) توكيد له ، و ( مِن ) متعلقة بـ ( احمل ) أو حال . انتهى .
{ وَأَهْلَكَ } أي : من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ } أي : وجب عليه : { الْقَوْلُ } أي : بالإغراق بسبب ظلمه { وَمَنْ آمَنَ } أي : احمله معك فيها . قال أبو السعود : وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور ، وإيثار صيغة الإفراد في ( آمن ) محافظة على لفظ ( مَنْ ) للإيذان بقلتهم ، كما أعرب عنه قوله عز قائلاً : { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 41 ] .
{ وَقَالَ } أي : نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين : { ارْكَبُواْ فِيهَا } أي : السفينة : { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } . قال الزمخشري : يجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين ، فالكلام الواحد أن يتصل ( بسم الله ) بـ ( اركبوا ) حالاً من الواو ، بمعنى : ركبوا فيها مسمين الله ، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ، ووقت إرسائها ، إما لأن المجرى والمرسى للوقت ، وإما لأنهما مصدران ، كالإجراء والإرسال ، حذف منهما الوقت المضاف ، كقولهم : ( خفوق النجم ) و ( مقدم الحاج ) ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء وانتصابهما ، بما في ( بسم الله ) من معنى الفعل ، أو بما فيه من إرادة القول .
والكلامان : أن يكون : { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة ، أي : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، يروى أنه كان إذا كان إذا أراد أن تجري قال : بسم الله ، فجرت ، وإذا أراد أن ترسوا قال : بسم الله ، فرست . وجوز أن يقحم الاسم كقوله :
~ثم اسم السلام عليكما
ويراد : بالله إجراؤها وإرساؤها ، أي : بقدرته وأمره . ومعنى قولنا : ( جملة مقتضبة ) أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته . ويحتمل أن يكون غير مقتضبة ، بأن تكون في موضع الحال من ضمير ( الفلك ) كأنه قيل : اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله ، بمعنى التقدير ، كقوله : { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : من الآية 73 ] انتهى .
تنبيهات :
الأول : قرأ الإخوان - حمزة والكسائي وحفص - ( مَجْرَاهَا ) بفتح الميم ، والباقون بضمها . واتفق السبعة على ضم ميم ( مرساها ) . وقد قرأ ابن مسعود والثقفي ( مَرْسَاهَا ) بفتح الميم أيضاً . وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما ، بلفظ اسم الفاعل ، مجروري المحل ، صفتين لله .
الثاني : ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء التي للتأنيث ، أو للإلحاق ، أمَالهُ حمزة والكسائي وأبو عَمْرو ، ووافقهم حفص في إمالة ( مَجْرَاهَا ) هنا ، ولم يُملْ غيره .
الثالث : أخذ بعضهم من الوجه الأول في : { بِسْم اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } أعني تقدير قائلين ، استحباب التسمية ، وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء ، وهو مؤيد بقول تعالى في سورة المؤمنون : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } [ المؤمنون : 28 - 29 ] ، وقوله تعالى : { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } [ الزخرف : 12 - 13 ] الآية ، وجاءت السنة بالحث على ذلك ، والندب إليه أيضاً .
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } جملة مستأنفة ، بيان للموجب للإنجاء ، أي : لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم ، أو تعليل لـ ( اركبوا ) لما فيه من الإشارة إلى النجاة ، فكأنه قيل : اركبوا لينجيكم الله .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } [ 42 ] .
{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } متصل بمحذوف دل عليه ( اركبوا ) ، أي : فاركبوا مسمين وهي تجري ، وهم فيها : { فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء ، وتفجرت ينابيع الأرض تعاظمت المياه ، وعلت أكناف الأرض ، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعاً ، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال .
{ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } أي : في متنحى عن أبيه : { يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا } أي : ادخل في ديننا ، واصحبنا في السفينة : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } أي : في الدين والانعزال ، الهالكين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [ 43 ] .
{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء } أي : فلا أغرق : { قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } أي : لا مانع اليوم من بلائه ، وهو الطوفان ، إلا الراحم وهو الله تعالى . أو لا عاصم إلا مكان من رحم ، وهم المؤمنون ، يعني السفينة . أو لا عاصم ، بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله . أو ( إلا ) منقطعة ، أي : لكن من رحمه فهو المعصوم .
قال الناصر : الاحتمالات الممكنة أربعة : لا عاصم إلا راحم ، ولا معصوم إلا مرحوم ، ولا عاصم إلا مرحوم ، ولا معصوم إلا راحم . فالأولان استثناء من الجنس ، والآخران من غير الجنس . أي : فيكون منقطعاً . أي : لكن المرحوم يعصم على الأول ، ولكن الراحم يعصم من أراد على الثاني .
وزاد الزمخشري خامساً وهو : لا عاصم إلا مرحوم ، على أنه من الجنس ، بتأويل حذف المضاف ، تقديره : لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم ، والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل ، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة ، والكل جائز ، وبعضها أقرب من بعض - انتهى - .
{ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ } أي : صار حائلاً بين نوح وابنه ، أو بين ابنه والجبل ، لارتفاعه فوفه : { فَكَانَ } أي : ابنه مع كونه فوق الجبل : { مِنَ الْمُغْرَقِينَ } أي : الهالكين بالغرق .
وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه ، فكان ذلك أمراً مقرر الوقوع ، غير مفتقر إلى البيان . وفي إيراد ( كان ) دون ( صار ) مبالغة في كونه منهم - أفاده أبو السعود - وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 44 ] .
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض ، ولم يبق ممن كفر بالله ديار ، أمر تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تقلع عن المطر ، فنضب الماء ، وقضي أمر الله ، بإنجاء من نجا ، وإهلاك من هلك .
ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئاً فشيئاً ، وظهرت رؤوس الجبال ، استقرت السفينة على الجودي ، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل .
و ( بُعْداً ) مصدر منصوب بمقدر ، أي : وبعدوا بعداً . يقال : بعد بعداً ، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ، ولذلك اختص بدعاء السوء كـ : ( جَدْعَا ) و ( تَعْساً ) . و ( اللام ) متعلقة بمحذوف ، أو للبيان ، أو متعلقة بـ ( قيل ) أي : لأجلهم هذا القول .
والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ، ولتذكر ما سبق من قوله : { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } .
تنبيه :
هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها ، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها . وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها ، ومن أوسعهم مجالاً في معارفها الإمام السكاكي ، فقد أطال وأطاب في كتابه " المفتاح " وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح ، ونحن نورده بتمامه ، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه .
قال عليه الرحمة في بحث ( البلاغة والفصاحة ) وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها ، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها ، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى ، وهو خلوص الكلام عن التعقيد وإلى اللفظ ، وهو كونه عربياً أصلياً ، جارياً على قوانين اللغة ، أدْوَر على ألسنة الفصحاء أكثر في الاستعمال ، ما صورته :
وإذ قد وقفت على البلاغة ، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية ، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ، ما عسى يسترها عنك ، ثم إن ساعدك الذوق ، أدركت منها ما قد أدرك من تُحدوا بها وهي قوله علت كلمته : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ } إلى : { الظَّالِمينَ } .
والنظر في هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ، ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية .
أما النظر فيها من جهة علم البيان ، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها ، فنقول : إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح ، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي ، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ؛ بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان ، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود ، تصويراً لاقتداره العظيم ، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته إيجاداً وإعداماً ، ولمشيئته فيها تغييراً وتبديلاً ، كأنها عقلاء مميزون ، قد عرفوه حق معرفته ، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره ، والإذعان لحكمه ، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده ، وتصور مزيد اقتداره ، فعظمت مهابته في نفوسهم ، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم ، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدماً ، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمماً ، لا تَلَقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال . ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام ، فقال جل وعلا : { وَقِيلَ } على سبيل المجاز - أي : المرسل - عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو : يا أرض ويا سماء . ثم قال كما ترى : يا أرض ويا سماء ، مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ، ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع ، الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم ، للشبه بينهما ، وهو الذهاب إلى مقر خفي . ثم استعار الماء للغذاء واستعارة بالكناية ، تشبيهاً له بالغذاء ؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ( ابلعي ) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء . ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره ، وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء . ثم قال : { مَاءَكِ } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض ، باتصال الملك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح . ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان . ثم أمر على سبيل الاستعارة ، وخاطب في الأمر قائلاً : { أَقْلِعِي } لمثل ما تقدم في : { ابْلَعِي } . ثم قال : { وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً } لم يصرح بمنْ غاض الماء ، ولا بمن قضي الأمر ، وسوى السفينة . وقال : { بُعداً } كما لم يصرح بقائل : يا أرض ويا سماء في صدر الآية ، سلوكاً في كل واحد من ذلك على سبيل الكناية ، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يُكتنه ، قهار لا يغالب . فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره - جلت عظمته - قائل : يا أرض ويا سماء ، ولا غائض مثل ما غاض ، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل ، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره . ثم ختم الكلام بالتعريض ؛ تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم لا غير ، ختم إظهارٍ ؛ لمكان السخط ، ولجهة استحقاقهم إياه ، وأن قيامة الطوفان ، وتلك الصورة الهائلة ، ما كانت إلا لظلمهم .
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير ( يا ) دون سائر أخواتها ، لكونها أكثر في الاستعمال ، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة ، وإبداء شأن العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به ، ولم يقل : يا أرض ، بالكسر ؛ لإمداد التهاون ، ولم يقل : يا أيتها الأرض ؛ لقصد الاختصار مع الاحتراز عما في ( أيتها ) من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام . واختير لفظ ( الأرض ) دون سائر أسمائها ، لكونه أخف وأدور . واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأرض ، مع قصد المطابقة . واختير لفظ : { ابلعي } على ( ابتلعي ) لكونه أخصر ، ولمجيء خط التجانس بينه وبين : { أقلعي } أوفر . وقيل : { ماءك } بالإفراد دون الجمع ، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت ، وهو الوجه في إفراد ( الأرض ) و ( السماء ) . وإنما لم يقل : { ابلعي } بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن ، نظراً إلى مقام ورود الأمر ، الذي هو مقام عظمة وكبرياء . ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع : { أَقْلِعِي } احترازاً عن الحشو المستغني عنه ، وهو - أي : الاختصار - الوجه في أن لم يقل : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، ويا سماء أقلعي فأقلعت . واختير ( غيض ) على ( غيّض ) المشدد لكونه أخصر ، وقيل ( الماء ) دون أن يقال : ماء طوفان السماء وكذا الأمر دون أن يقال : أمر نوح ، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه ، لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك . ولم يقل : سويت على الجودي ، بمعنى أقرت ، على نحو : ( قيل ) و ( غيض ) و ( قضي ) في البناء للمفعول اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ } مع قصد الاختصار في اللفظ . ثم قيل : { بُعْداً للْقَومِ } دون أن يقال : ليبعد القوم ، طلباً للتأكيد مع الاختصار ، وهو نزول : { بُعْداً } وحده ، منزلة ليبعدوا بُعداً ، مع فائدة أخرى : وهي استعمال اللام مع ( بُعداً ) الدال على معنى أن البُعد حق لهم ، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع ، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم ، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل . هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم .
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل : فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر ، فقيل : { يَا أَرْضُ ابْلَعِي وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي } دون أن يقال : ابلعي يا أرض ، وأقلعي يا سماء ، جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة ، من تقديم التنبيه ، ليمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصداً بذلك لمعنى الترشيح . ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء ، وابتدأ به لابتداء الطوفان منها ، وبنزولها لذلك في القصة منزلة الأصل ، والأصل بالتقديم أولى ، ثم أتبعها قوله : { وَغِيضَ الْمَاءُ } لاتصاله بقصة الماء ، وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام : ( : { قيل يا أرض ابلعي ماءك } فبلعت ماءها ، و : { يا سماء أقلعي } عن إرسال الماء ، فأقلعت عن إرساله { وَغِيضَ الْمَاءُ } النازل من السماء فغاض ) . ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله : { وَقُضي الأَمْرُ } أي : أنجز الموعود من إهلاك الكفرة ، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة ، ثم أتبعه حديث السفينة ، وهو قوله : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } ثم ختمت القصة بما ختمت . هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية ، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يُشبك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية ، فألفاظها على ما نرى عربية ، مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة . ولله در شأن التنزيل ! لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر ، ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ؛ لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان ، وأن لا علم في باب التفسير ( بعد علم الأصول ) أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه ، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته ، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره ، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه ، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه ، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه . ولَكَم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها ، واستلبت ماءها ورونقها ، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم فأخذوا بها في مآخذ مردودة ، وحملوها على محامل غير مقصودة ، وهم لا يدرون ، ولا يدرون أنهم لا يدرون ، فتلك الآي من مآخذهم في عويل ، ومن محاملهم على ويل طويل ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً - انتهى كلام السكاكي - .
وقد تصدى أبو حيان أيضاً في تفسيره المسمى بـ " النهر " للطائفها ، وساق أحداً وعشرين نوعاً من البديع . وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة فيها سماها " النهر المورود في تفسير آية هود " أورد تلك الأنواع البديعية أيضاً ، وهي : المناسبة ، والمطابقة ، والمجاز ، والاستعارة ، والإشارة ، والتمثيل ، والإرداف ، والتعليل ، وصحة التقسيم ، والاحتراس ، والإيضاح ، والمساواة ، وحسن النسق ، والإيجاز ، والتسهيم ، والتهذيب ، وحسن البيان ، والتمكين ، والتجنيس ، والمقابلة ، والذم ، والوصف .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } [ 45 ] .
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي } إعلام بأن نوحاً حملته شفقة الأبوة ، وتعطف الرحم والقرابة ، على طلب نجاته ؛ لشدة تعلقه به ، واهتمامه بأمره . وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة وحسن السؤال فقال : { وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ } ولم يقل : لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي ، وإنما قال ذلك ففهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية ، والرحم النسبية ، وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله : { إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول ، فاستعطف ربه بالاسترحام ، وعرض بقوله : { وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ 46 ] .
{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الموعود إنجاؤهم ، بل من المستثنين لكفرهم ، أو ليس منهم أصلاً ، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ، ولا علاقة بين المؤمن والكافر .
قال القاشاني : أي : أن أهلك في الحقيقة : هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية ، واللحمة المعوية ، والاتصال الحقيقي لا الصوري ، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : ألا وإن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته . ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته .
{ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح ، تنبيهاً على أن أهله هم الصلحاء ، أهل دينه وشريعته ، وإنه لتماديه في الفساد والغي ، كأن نفسه عمل غير صالح ، وتلويحاً بأن سبب النجاة ليس إلى الصلاح ، لا قرابته منك بحسب الصورة ، فمن لا صلاح له لا نجاة له ، وهذا سر إيثار : { غَيرُ صَالِحٍ } على ( عمل فاسد ) .
وقد قرأ يعقوب والكسائي ( عَمِلَ ) بلفظ المضي ، والباقون بلفظ المصدر ، بجعله نفس العمل ، مبالغة ، كما بينا .
{ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب ؟ حتى تقف على كنهه . قالوا : والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلاً ، إما لأنه لا يهم ، أو لأنه قامت القرائن على حاله ، كما هنا ، لا عن السؤال للاسترشاد .
{ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي : أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم . وقد تنبه عليه السلام عند ذلك التأديب الإلهي والعتاب الرباني ، وتعوذ بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } [ 47 ] .
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } أي : ما فرط مني : { وَتَرْحَمْنِي } أي : بالوقوف على ما تحب وترضى : { أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } أي : الذين خسروا أنفسهم ، بالاحتجاب عن علمك وحكمتك .
تنبيه :
ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه ، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته ، ربيبه . وأيده بعضهم بقراءة علي : { ونادى نوح ابنها } - والله أعلم - .
ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح ، بعد أن أرست السفينة على الجودي ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 48 ] .
{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ } أي : انزل من السفينة : { بِسَلاَمٍ مِّنَّا } أي : سلامة : { وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } أي : في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان : { وَأُمَمٌ } أي : ومنهم أمم : { سَنُمَتِّعُهُمْ } أي : في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها : { ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما .
لطيفة :
ذهب العلماء ، في الطوفان ، مذاهب شتى . فالأكثرون على أنه عمَّ الأرض بأسرها ، ومن ذاهب إليه أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر ، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم . ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه :
قال تقي الدين المقريزي في " الخطط " : إن جميع أهل الشرائع أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحاً هو الأب الثاني للبشر ، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه ، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم ، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح ، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك ، فأنكروا الطوفان . وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط ، وأن أولاد ( كيومرت ) الذي هم عندهم ( الإنسان الأول ) كانوا بالبلاد الشرقية من بابل ، فلم يصل الطوفان إليهم ، ولا إلى الهند والصين ، والحق ما عليه أهل الشرائع ، وأن نوحاً عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة ، نزل بهم ، وهم ثمانون رجلاً سوى أولاده ، فماتوا بعد ذلك ، ولم يعقبوا ، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة ، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [ الصافات : 77 ] ونحوه في الكامل لابن الأثير .
وقال ابن خلدون : اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع ، بما كان من خراب المعمور ، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ، ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله ، وعاد أباً ثانياً للخليقة - انتهى .
قال بعضهم ( في تقرير عموم الطوفان ، مبرهناً عليه ) إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة ، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف ، حتى في قمم الجبال ، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية ، بعضها ظاهر على سطحها ، وبعضها مدفون على مقربة منه ، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع ، بعيدة الائتلاف ، معها بقايا آلات صناعية ، وآثار بشرية ، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذاك المكان ، وجمعها قسراً فأبادها ، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت ، وظلت شهادة على ما كان ، بأمر الخالق تعالى - انتهى - .
وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان ، وعموم رسالة نوح ، فأجاب بما صورته :
أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على الطوفان ، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام ، وما ورد من الأحاديث ، على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين . والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن ، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين . وأما المؤرخ ، ومريد الإطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ ، أو صاحب الرأي . وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية ، أو عدم الثقة بها ، ولا يتخذ دليلاً قطعياً على معتقد ديني . أما مسألة عموم الطوفان في نفسها ، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان ، وأهل النظر في طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم . فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية ؛ على أن الطوفان كان عاماً لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ؛ لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض . ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاماً ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها ، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاماً ، لمجرد حكايات عن أهل الصين ، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز ، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفي شيئاً مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها ، وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد ، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى ، نقلية وعقلية . ومن هدي برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف ، ولا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاماً ، إذ لم يكن العمران قائماً إلا بقوم نوح ، فكان عاماً لهم ، وإن كان من جهة خاصاً بهم ؛ إذ ليس ثمَّ غيرهم ، قال :
هبط آدم إلى الأرض وهو ليس بأمة ، إذا مضت عليها قرون ولدت أمماً ، بل هو واحد تمضي عليه السنون ، بل القرون ، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً من آدم إلى نوح ثمانية آباء ، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافاً ، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام ، وينشروا العمران في تلك الأيام ، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين ! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك ، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من المكان الخاص الذي سبق به البيان ؛ فلا برهان . وإن كانت في غير ذلك المكان ، فإن لم يكن وضعها إنسان ، كما وجدها إنسان ؛ كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام ، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان . بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام تعلم أن الطوفان خاص عام : خاص بمكان ، عام سائر المكان - والله أعلم - .
وقوله تعالى :=

10. مجلد 10.محاسن التأويل  محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [ 49 ] .
{ تِلْكَ } إشارة إلى قصة نوح عليه السلام : { مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا } أي : الإيحاء إليك ، والإخبار بها . وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها ؛ إذ لم يخالط غيرهم ، وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوها ، فكيف بواحد منهم ؟ ! : { فَاصْبِرْ } أي : على تبليغ الرسالة ، وأذى قومك ، كما صبر نوح ، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه - كذا في " الكشاف " - : { إِنَّ الْعَاقِبَةَ } أي : في الدنيا بالنصر والظفر ، وفي الآخرة بالنعيم الأبدي { لِلْمُتَّقِينَ } أي : عن الشرك والمعاصي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } [ 50 ] .
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } عطف على قوله ( نوحاً ) . أي : وأرسلنا إلى عاد و ( أخاهم ) بمعنى ( واحداً ) منهم كما يقولون : ( يا أخا العرب ) { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ } أي : وحده { مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } أي : باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 51 ] .
{ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي } إنما خاطب كل رسول به قومه ، إزاحة للتهمة ، وتمحيضاً للنصيحة ، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : تتفكرون ، إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجراً ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك ، أو تتدبرون الصواب من الخطأ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } [ 52 ] .
{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْْ } أي : من الوقوف مع الهوى بالشرك : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِْ } أي : من عبادة غيره ، بالتوجه إلى التوحيد : { يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً } أي : كثيرة الدر ، أي : الأمطار ، منصوب على الحال من ( السماء ) ولم يؤنث مع أنه من مؤنث ، إما لأن المراد بالسماء السحاب أو المطر ، فذكر على المعنى ، أو ( مفعال ) للمبالغة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور ، أو الهاء حذفت من ( مفعال ) على طريق النسب - أفاده السمين - : { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } أي : مضمومة إليها أو معها . أي : شدة إلى شدتكم بالقوة البدنية ، أو بالمال أو البنين . وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه بكثرة المطر ، وزيادة القوة ؛ لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين ، حراصاً على التقوى بما ذكر ، لثراء مالهم وترهيب أعدائهم وقد كانوا مثلاً في القوة ، كما قالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : من الآية 15 ] ، { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ } أي : تعرضوا عما أدعوكم إليه : { مُجْرِمِينَ } أي : مصرين على إجرامكم وآثامكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [ 53 ] .
{ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } أي : بحجة تدل على صحة دعواك ، وذلك لقصور فهمهم ، وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان ؛ لمكان الغشاوات الطبيعية ، وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة : { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا } أي : عبادتها : { عَن قَوْلِكَ } حال من ضمير ( تاركي ) أي : تركاً صادراً عن قولك ، أو ( عن ) للتعليل ، كهي في قوله : { إِلَّا عَنْ مَوْعِدَة } [ التوبة : من الآية 114 ] ، أي : لأجلها ، فتتعلق ( بتاركي ) والأول أبلغ ؛ لدلالته على كونه علة فاعلية ، ولا يفيده ( الباء واللام ) . وهذا كقولهم في الأعراف : { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } [ الأعراف : من الآية 70 ] .
{ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : مصدقين . إقناط له من الإجابة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ 54 - 55 ] .
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ } أي : مسَّك : { بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ } أي : بجنون ، لسبك إياها ، وصدك عنها ، وعداوتك لها ، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، ومن ثم تتكلم بما تتكلم .
قال الزمخشري : دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة ، غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ، ولا يلتفتون إلى النصح ، ولا تلين شكيمتهم للرشد ، وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم { قَالَ إِنِّي أُشْهِد اللّهِ } أي : علي : { وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ } قال الزمخشري : من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحد ، وذلك لثقته بربه ، وأنه يعصمه منهم ، فلا تنشب فيه مخالبهم ، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه : { ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } [ يونس : من الآية 71 ] .
أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله ، وشهادة العباد ، فيقول الرجل : الله شهيد على أني لا أفعل كذا ، ويقول لقومه : كونوا شهداء على أني لا أفعله . ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون ، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه ، عليه السلام ، دون إمهال ، بقوله : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } أي : أنتم وآلهتكم : { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } يعني إن صح ما لوحتم به ، من كون آلهتكم لها تأثير في ضر ، فكونوا معها فيه ، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال .
قال أبو السعود : فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا ، وعلى البراءة كليهما ، وهذا من أعظم المعجزات ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير والجمع الكثير ، من عتاة عاد ، الغلاظ الشداد . وقد خاطبهم بما خاطبهم ، وحقرهم وآلهتهم ، وهيجهم على مباشرة مبادئ المضادة والمضارة ، وحثهم على التصدي لأسباب المعازّة والمعارّة ، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه ، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً ، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع ، حيث قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 56 ]
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم } أي : فلا تصلون إلى بسوء لتوكلي على الله : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } أي : مالك لها ، قادر عليها ، يصرفها كيف شاء .
قال القاشاني : بيَّن وجوب التوكل على الله ، وكونه حصناً حصيناً أولاً بأن ربوبيته شاملة لكل أحد ، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه ، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه ، ثم بأن كل ذي نفس تحت قهره وسلطانه ، أسير في يد تصرفه ومملكته وقدرته عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره ، لا حراك به بنفسه ، كالميت ، فلا حاجة إلى الاحتراز منه - انتهى - .
والناصية : منبت الشعر من مقدم الرأس ، وتطلق على الشعر النابت فيها أيضاً ، تسمية للحال باسم المحل ، يقال : نصوت الرجل : أخذت بناصيته .
وفي " العناية " : وقولهم : ناصيته بيده ، أي : منقاد له . والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط ، مجازاً أو كناية .
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تعليل لما يدل عليه التوكل ، من عدم قدرتهم على إضراره ، أي : هو على طريق الحق والعدل في ملكه ، فلا يسلطكم علي ، إذ لا يضيع عنده معتصم به ، ولا يفوته ظلم .
قال في " العناية " : هو تمثيل واستعارة ؛ لأنه مطلع على أمور العباد ، مجاز لهم بالثواب والعقاب ، كاف لمن اعتصم ، كمن وقف على الجادة فحفظها ، ودفع ضرر السابلة بها .
وهو كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه ، إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد ، وإما للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دونهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ 57 ]
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : تتولوا ، بحذف إحدى التاءين : { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } أي : فقامت الحجة عليكم : { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ } استئناف بالوعيد لهم . أي : فيهلكهم ، ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم : { وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } أي : بتوليكم ؛ لاستحالته عليه ، بل تضرون أنفسكم . أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء : { إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : رقيب عليه مهيمن ، فلا تخفى عليه أعمالكم ، فيجازيكم بحسبها ، أو حافظ حاكم مستول على كل شيء ، فلا يمكن أن يضره شيء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ 58 ] .
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا ، أو أمرنا بالعذاب ، وهو الريح العقيم : { نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وقد بين في غير آية ، منها قوله : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 6 - 7 ] .
فإن قلت : ما معنى تكرير التنجية ؟ فالجواب : لا تكرير فيه ؛ لأن الأول إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله ، والثاني بيان ما نجوا منه ، وأنه أمر شديد عظيم لا سهل ، فهو للامتنان عليهم ، وتحريض لهم على الإيمان . أو الأول إنجاء من عذاب الدنيا ، والثاني من عذاب الآخرة ، تعريضاً بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ . ويرجح الأول بملاءمته لمقتضى المقام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ 59 ] .
{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } تأنيث اسم الإشارة باعتبار القبيلة . وصيغة البعيد لتحقيرهم ، أو لتنزيلهم منزلة البعيد ؛ لعدمهم . وإذا كانت الإشارة لمصارعهم ، فهي للبعيد المحسوس ، وتعدى الجحود بالباء حملاً له على الكفر ؛ لأنه المراد . أو بتضمينه معناه ، كما أن ( كفر ) جرى مجرى ( جحد ) . فتعدى بنفسه في قوله : { كَفَرُوا رَبَّهُمْ } [ هود : 60 ] . وقيل : ( كفر ) كـ : ( شكر ) يتعدى بنفسه وبالحرف . وظاهر كلام القاموس : أن ( جحد ) كذلك .
والمعنى : كفروا بالله ، وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته . وجمع ( الرسل ) مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة والسلام ؛ تفظيعاً لحالهم ، وإظهاراً لكمال كفرهم وعنادهم ، ببيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين ؛ لاتفاق كلمتهم على التوحيد : { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } [ البقرة : من الآية 285 ] كذا في " العناية " وأبي السعود .
{ وَاتَّبَعُواْ } أي : أطاعوا في الشرك : { أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } لا يستدل بدليل ، ولا يقبله من غيره . يريد : رؤساءهم وكبراءهم ، ودعاتهم إلى تكذيب الرسل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [ 60 ] .
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : جعلت تابعة لهم في الدارين ، أي : لازمة .
قال أبو السعود : والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة ، فكأنها لا تفارقهم ، وإن ذهبوا كل مذهب ، بل تدور معهم حيثما داروا . ولوقوعه في صحبة إتباعهم رؤساءهم . يعني : أنهم لما اتبعوهم أُتبعوا ذلك جزاء وفاقاً .
{ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } إذ عبدوا غيره - وتقدم تعدية ( كفر ) - : { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة ، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت ما لا يخفى فظاعته . وتكرير حرف التنبيه وإعادة ( عاد ) للمبالغة في تهويل حالهم ، والحث على الاعتبار بنبئهم . و ( قوم هود ) عطف بيان لـ ( عاد ) فائدته النسبة بذكره عليه السلام ، الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه ، كأنه قيل : عاد قوم هود الذين كذبوه . وتناسب الآي بذلك أيضاً ، فإن قبلها : { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ هود : من الآية 59 ] . وقبل ذلك ( حفيظ ) و ( غليظ ) ، وغير ذلك مما هو على وزن ( فعيل ) المناسب لـ ( فعول ) في القوافي - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ 61 ] .
{ وَإِلَى ثَمُودَ } عطف على ما سبق بيانه من قوله : { وَإِلى عَادٍ } أي : وأرسلنا إلى ثمود ، وهي قبيلة من العرب : { أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ } أي : كونكم منها وحده ، فإنه خلق آدم ، ومواد النطف التي خلق نسله منها ، من التراب : { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي : عمركم فيها ، أو جعلكم عمارها ، أي : جعلكم قادرين على عمارتها ، كقوله تعالى في الأعراف : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } [ الأعراف : من الآية 74 ] ، { فَاسْتَغْفِرُوهُ } أي : من الشرك : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } بالتوحيد : { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي : قريب الرحمة لمن استغفره ، مجيب دعاءه بالقبول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [ 62 ] .
{ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا } أي : كانت تلوح فيك مخايل الخير ، وأمارات الرشد ، فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور ، ومسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أن لا خير فيك . كذا في " الكشاف " .
{ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي : من الأوثان : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } أي : من التوحيد : { مُرِيبٍ } أي : موقع في الريبة ، وهي قلق النفس ، وانتفاء الطمأنينة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } [ 63 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ } أي : أخبروني : { إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً } أي : حجة ظاهرة ، وبرهان وبصيرة : { مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أي : هداية ونبوة : { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ } أي : ينجيني من عذابه : { إِنْ عَصَيْتُهُ } أي : بالمجاراة معكم في أهوائكم { فَمَا تَزِيدُونَنِي } أي : باستتباعكم إياي : { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي : غير أن تجعلوني خاسراً تعريضي لسخط الله . أو فما تزيدونني بما تقولون إلا تبصرة بكم بأن أنسبكم إلى الخسران .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } [ 64 ] .
{ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ } الإضافة للتشريف ، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخُلق : { لَكُمْ آيَةً } أي : معجزة دالة على صدق نبوتي : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } من فرط غضب الله عليكم ، لاجترائكم على آياته المنسوبة إليه .
ثم أخبر بأنهم لم يسمعوا قوله ، ولم يطيعوا بعد رؤية هذه الآية ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ 65 ] .
{ فَعَقَرُوهَا } أي : قتلوها : { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } أي : مردود .
قال في " الإكليل " : استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثة . وفيه دليل على أن لـ ( المثلاثة ) نظراً في الشرع ، ولهذا شرعت في ( الخيار ) ونحوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [ 66 ] .
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا وهو الصيحة ، كما سيبين : { نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ } أي : بسبب رحمة عظيمة : { مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } وهو هلاكهم بالصيحة : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } أي : القادر على كل شيء ، والغالب عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 67 ] .
{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي : من جهة السماء ، فرجفوا لها رجفة الهلاك
{ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي : هامدين موتى لا يتحركون . ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } [ 68 ] .
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } أي : كأنهم لم يقيموا : { فِيهَا } أي : في مساكنهم : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } أي : فأهلكهم { أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } أي : هلاكاً ولعنة ؛ لبعدهم عن صراطه . وقد قدمنا الكلام على تفصيل نبئهم في الأعراف بما يغني عن إعادته هنا ، فليراجع .
ثم أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه ، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [ 69 ] .
{ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا } أي : الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط : { إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } أي : بولد وولده . ثم بين أنهم قدموا على التبشير ما يفيد سروراً ، ليكون التبشير سروراً فوق سرور ، بقوله تعالى : { قَالُواْ سَلاَماً } أي : سلمنا عليك سلاماً { قَالَ سَلاَمٌ } أي : عليكم سلام ، أو سلام عليكم ، رفعه إجابة بأحسن من تحيتهم ؛ لأن الرفع أدل على الثبوت من النصب .
ثم أشار إلى إحسان ضيافتهم بقوله : { فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } أي : مشوي ، أو سمين يقطر ودكه ، لقوله : { بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : من الآية 26 ] .
في ( ما ) ثلاثة أوجه : أظهرها أنها نافية ، وفاعل ( لبث ) إما ضمير ( إبراهيم ) ، و : { أنْ جاءَ } مقدر بحرف جر متعلق به ، أي : ما أبطأ في ، أو بأن أو عن ( أن جاء ) ، وإما ( أن جاء ) أي : فما أبطأ ، ولا تأخر مجيئه بعجل . وثاني الأوجه : أنها مصدرية ، وثالثها : أنها بمعنى ( الذي ) وهي فيهما مبتدأ ، و ( أن جاء ) خبره على حذف مضاف . أي : فلبثته ، أو الذي لبثه قدر مجيئه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } [ 70 ] .
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } أي : لا يمدون إليه أيديهم : { نَكِرَهُمْ } أي : أنكرهم { وَأَوْجَسَ } أي : أحس : { مِنْهُمْ خِيفَةً } لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروهاً . والضيف إذا همَّ بفتك لا يأكل من الطعام في عادتهم { قَالُواْ } أي : له لما علموا منه الخوف بإخباره لهم ، كما في آية : { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لا تَوْجَل } [ الحجر : من الآية 52 - 53 ] . كما قيل هنا : { لاَ تَخَفْ } أي : إنا لا نأكل لأنا ملائكة ، ولم ننزل بالعذاب عليكم : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } أي : لإهلاكهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ } [ 71 ]
{ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ } أي : سروراً بزوال الخيفة ، أو بهلاك أهل الخبائث { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ } . أي : يولد له . والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة ، أو أنهما حكيا بعد أن ولدا وسُمَّيا بذلك . وتوجيه البشارة إليها هنا ، مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى ، كآية : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } [ الصافات : 101 ] ، { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الذاريات : من الآية 28 ] ؛ إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورودها ، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن الآخر ، والمقام أمس بذكره وأبلغ . أو للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك ، وخرق العادة فيه ، كما لوح به تعجبها في قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ 72 ] .
{ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى } أي : يا عجبي . وأصله للدعاء بالويل ونحوه ، في جزع التفجع لشدة مكروه يدهم النفس ، ثم استعمل في التعجب . وألفه بدل من ياء المتكلم ، ولذلك أمالها أبو عَمْرو وعاصم في رواية ، وبها قرأ الحسن ( يا ويلتي ) . وقيل : هي ألف الندبة ، ويوقف عليها بهاء السكت .
{ أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } أي : امرأة مسنة - والأفصح ترك الهاء معها - وسمع من بعض العرب ( عجوزة ) - حكاه يونس - : { وَهَذَا بَعْلِي } أي : زوجي إبراهيم : { شَيْخاً إِنَّ هَذَا } أي : التولد من هرمين : { لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } أي : غريب ، لم تجر به العادة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } [ 73 ] .
{ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } أي : أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين ؟ .
قال الزمخشري : وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ؛ لأنها كانت في بيت الآيات ، ومهبط المعجزات ، والأمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم : { رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } أردوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة ، فليست بمكان عجب . والكلام مستأنف ، علل به إنكار التعجب ، كأنه قيل : ( إياك والتعجب ) فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم - انتهى - .
فالجملة خبرية ، وجوز كونها دعائية . و ( أهل البيت ) نصب على النداء أو التخصيص ؛ لأن أهل البيت مدح لهم ؛ إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن .
{ إِنَّهُ حَمِيدٌ } أي : مستحق للمحامد ، لما وهبه من جلائل النعم : { مَّجِيدٌ } أي : كريم واسع الإحسان ، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر . وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده ؛ إذ شرفها بما شرف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } [ 74 ] .
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ } أي : خيفة إرادة المكروه منهم بعرفانهم : { وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىْ } أي : بدل الروع : { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } أي : في هلاكهم استعطافاً لدفعه .
روي أنه قال : أتهلك البار مع الأثيم ، أتهلكها وفيهم خمسون باراً ؟ حاشا لك ! .
فقيل له : إن وجد فيهم خمسون باراً فنصفح عن الجميع لأجلهم ! .
فقال : أو أربعون ؟ .
فقيل : أو أربعون ! .
وهكذا إلى أن قال : أو عشرة ، فقيل له . لا نهلكها من أجل العشرة ، إلا أنه ليس فيها عشرة أبرار ، بل جميعهم منهمك في الفاحشة . فقال : إنه فيها لوطاً ! فقيل : نحن أعلم بمن فيها لننجينه .
و : { يُجَادِلُنَا } جواب ( لما ) جيء به مضارعاً على حكاية الحال . أو أن ( لما ) كـ ( لو ) تقلب المضارع ماضياً ، كما أن ( إن ) تقلب الماضي مستقبلاً ، أو الجواب محذوف ، والمذكور دليله أو متعلق به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ 75 ] .
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي : غير عجول على الانتقام من المسيء : { أَوَّاهٌ } كثير التأسف : { مُّنِيبٌ } أي : راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضاه . والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة ؛ بيان الحامل على المجادلة ، وهو رقة القلب وفرط الترحم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ 76 ] .
{ يَا إِبْرَاهِيمُ } أي : قيل له : يا إبراهيم : { أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } أي : الجدال : { إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ } أي : حكمه بهلاكهم : { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } أي : بجدال ولا بدعاء ، ولا بغيرهما .
فوائد :
قال بعض المفسرين : لهذه الآيات ثمرات : وهي أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة ، وهلاك العاصي نعمة ، لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق ، كما في آخر الآية ، وهي : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } الخ وفسرت بهلاك قوم لوط .
ومنها : استحباب نزول المبشِّر على المبشَّر ؛ لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك .
ومنها : أنه يستحب للمبشَّر تلقي ذلك بالطاعة ، شكراً لله تعالى على ما بُشر به .
وحكى الأصم أنهم جاؤوه في أرض يعمل فيها ، فلما فرغ غرز مسحاته ، وصلى ركعتين .
ومنها : أن السلام مشروع ، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل ؛ لقول إبراهيم : { سَلامٌ } بالرفع ، كما تقدم شرحه - انتهى - .
ومنها : مشروعية الضيافة ، والمبادرة إليها ، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها .
ومنها : استحباب خدمة الضيف ، ولو للمرأة لقول مجاهد : { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة } أي : في خدمة أضياف إبراهيم . قال في " الوجيز " : وكن لا يحتجبن ، كعادة العرب ونازلة البوادي ، أو كانت عجوزاً ، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق .
ومنها : جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول ، وأن صوتها ليس بعورة . كذا في " الإكليل " .
ومنها : أن امرأة الرجل من أهل بيته ، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته . ويأتي ذلك أيضاً في آية : { فَأَسْرِ بِأَهْلِك } [ هود : من الآية 81 ] و [ الحجر : 65 ] .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } [ 77 ] .
{ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً } أي : بعد منصرفها من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وكان مقيماً في ( بلوط ممرا ) التي بـ ( حبرون ) المدينة المعروفة اليوم بـ ( الخليل ) ؛ : { سِيءَ بِهِمْ } أي : ساءه مجيئهم ؛ لأنهم أتوه على صورة مُرد ، حسان الوجوه ، فخاف أن يقصدهم قومه ، لظنه أنهم بشر : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } يقال : ضاق بالأمر ذرعه وذراعه ، وضاق به ذرعاً ، أي : ضعفت طاقته ، لم يجد من المكروه فيه مخلصاً .
قال الجوهري : أصل الذرع : بسط اليد ، فكأنك تريد : مددت يدك إليه فلم تنله . وقيل : وجه التمثيل : أن القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع ، ولا يطيق طاقته ، فضُرب مثلاً للذي سقطت قوته ، دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه .
وقال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة ، والأصل فيه : أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً ، على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه طاق به ذرعاً عن ذلك وضعف ، ومدَّ عنقه ، فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة .
و ( ذرعاً ) تمييز ، لأنه خرج مفسراً محوَّلاً . الأصل : ضاق ذرعي به ، وشاهد الذراع قوله :
~وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ذراعاً ولم يُصبح لها وهو خاشع
{ وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي : شديد . وكيف لا يشتد عليه ، وقد ألم المحذور ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } [ 78 ] .
{ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي : يسرعون كأنما يدفعون دفعاً . وقرئ مبنياً للفاعل { وَمِن قَبْلُ } أي : قبل مجيئهم : { كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : الفواحش ويكثرونها ، فمرنوا عليها ، وقل عندهم استقباحها ، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين ، لا يكفهم حياء ، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها . وقيل : إنها بيان لوجه ضيق صدره ، أي : لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك : { قَالَ } أي : لوط : { يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أراد أن يقي أضيافه ببناته ، وذلك غاية الكرم ، أي : فتزوجوهن . أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم ، وإظهار لشدة امتعاضه ، مما أوردوا عليه ، طمعاً في أن يستحيوا منه ، ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه - هذا ملخص ما في " الكشاف " ومن تابعه - وظاهر أنه عليه السلام كان واثقاً بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما ، مهما أطرى وأطنب وشوق ورغب ، فكان إظهاره وقاية ضيفانه ، وفداءهم بهن ، مع وثوقه المذكور وجزمه ؛ - مبالغة في الاعتناء بحمايتهم ، وقياماً بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح ، الذي يدوم عاره وشناره ، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن لكيلا ينسب إلى قصور ، وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة ، فذلك غاية الغايات في حيطتهم ووقايتهم .
وفي قوله : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } من التشويق ، على مرأى من ضيفانه ومسمع ، ما فيه من زيادة الكرم والإكرام ، ورعاية الذمام . وبالجملة فهو ترغيب بمُحال الوقوع باطناً ، وإعذار لنزلائه ظاهراً - والله أعلم - وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة ، وهي النكاح . وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي .
{ فَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : أن تعصوه بما هو أشد من الزنى خبثاً .
{ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي : ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم ، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره ؛ فقد خزي الرجل ، وذلك من عراقة الكرم ، وأصالة المروءة . و ( تخزون ) مجزوم بحذف النون ، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة ، وقرئ بإثباتها على الأصل .
{ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي : فيرعوي عن القبيح ، ويهتدي إلى الصواب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [ 79 ] .
{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي : حاجة ؛ إذ لا نريدهن ، وفي تصدير كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم ، أي : والله لقد علمت ، إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقاً وجازماً بعدم رغبتهم فيهن ، وأيد ذلك قولهم : { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } استشهاداً بعلمه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ 80 ] .
{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } أي : بدفعكم قوة ، بالبدن أو الولد : { أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } أي : عشيرة كثيرة ، لأنه كان غريباً عن قومه ، شبهها بركن الجبل في الشدة والمنعة .
أي : لفعلت بكم ما فعلت ، وصنعت ما صنعت .
تنبيه :
قال الإمام ابن حزم رحمه الله في " الملل " :
ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : < رحم الله لوطاً ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد > إنكار على لوط عليه السلام . ولا تخالف بين القولين ، بل كلاهما حق ، لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش ، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين . وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة ، وأشد ركن . ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة الناس ، فقد قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ } [ البقرة : من الآية 251 ] فهذا الذي طلب لوط عليه السلام . وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى . فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله عليه السلام . تالله ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أخبر أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد ، يعني من نصر الله له بالملائكة . ولم يكن لوط علم بذلك . ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد ؛ فقد كفر ، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر . وهذا أيضاً ظن سخيف ؛ إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات ، وهو دائباً يدعو إليه ، هذا الظن . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [ 81 ] .
{ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } أي : إلى إضرارك بإضرارنا : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ } أي : بطائفة من آخره ، أي : ببقية سواد منه عند السحر ، وهو وقت استغراقهم في النوم ، فلا يمكنهم التعرض له ولا لأهله . وقرئ : { فَأَسْرِ } بالقطع والوصل .
{ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي : لا ينظر إلى ورائه ، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم : { إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } أي : من العذاب ، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت فهلكت .
قال في " الإكليل " : فيه أن المرأة والأولاد من الأهل .
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } أي : موعدهم بالهلاك الصبح ، والجملة كالتعليل للأمر بالإسراء ، أو جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب ، أو ذكرت ليتعجل في السير ، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء ، للتباعد عن موقع العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ } [ 82 ] .
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أي : فقلبت تلك المدن ونبتها بسكانها جميعاً { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي : طين متحجر ، كقوله : { حِجَارَةً مِنْ طِينٍ } [ الذاريات : من الآية 33 ] ، { مَّنضُودٍ } أي : يرسل بعضه في إثر بعض متتابعاً .
قال المهايمي : اتصل بعضه ببعض ، ليرجموا رجم الزناة ، بما يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ 83 ] .
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } معلمة عنده : { وَمَا هِيَ } أي : تلك الحجارة : { مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : بالشرك وغيره : { بِبَعِيدٍ } فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها ، وملابسون بها . وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة . وقيل : الضمير للقرى ، أي : هي قريبة من ظالمي مكة ، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام ، وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج لم يزل إلى يومنا هذا ، ويعرف بـ : ( البحر الميت ) لأن مياهه لا تغذي شيئاً من جنس الحيوان ، وبـ ( بحر الزفت ) أيضاً ؛ لأنه ينبعث من عمق مقره إلى سطحه ، فيطفو فوقه ، وبـ ( بحيرة لوط ) والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئاً .
قال أبو السعود : وتذكير ( بعيد ) على تأويل ( الحجارة ) بالحجر ، أو إجرائه على موصوف مذكر ، أي : بشيء بعيد ، أو لأنه على أنه المصدر ، كـ : ( الزفير ) و ( الصهيل ) . والمصادر يستوي في الوصف بها ، المذكر والمؤنث .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ 84 ] .
{ وَإِلَى مَدْيَنَ } أي : وأرسلنا إلى مدين ، عطف على ما قبله و ( مدين ) بلد بين الحجاز والشام ، على مقربة من ( معان ) ويطلق على أهلها ، وهم قوم من العرب كانوا يعمرونها .
{ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } أي : لتبخسوا الناس أشياءهم بالباطل : { إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ } أي : نعمة وثروة في رزقكم ومعيشتكم ، وعافية وتمتع في وجودكم . يعني : فلا تتعرضوا لزوال ذلك عنكم بما تأتونه مما تنهون عنه ، كما قال سبحانه : { وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي : مهلك ، أو لا يشذ منه أحد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 85 ]
{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } أي : العدل .
قال الزمخشري : فإن قلت : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء ، فما فائدة قوله : { أَوْفُواْ } ؟ .
قلت : نهوا أولاً عن عين القبح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ؛ لأن في التصريح بالقبيح بغياً على المنهي ، وتعييراً له . ثم ورد الأمر بالإيفاء ، الذي هو حسن في العقول ، مصرحاً بلفظه لزيادة ترغيبٍ فيه ، وبعث عليه ، وجيء به مقيداً ( بالقسط ) أي : ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية ، من غير زيادة ولا نقصان أمراً بما هو الواجب ؛ لأن ما جاوز العدل فضل ، وأمر مندوب إليه ، وفيه توقيف على أن الموفي عليه أن ينوي بالوفاء القسط ؛ لأن الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل . فهذه ثلاث فوائد . انتهى - .
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } أي : لا تنقصوهم حقوقهم بطريق من الطرق ، كالكيل والوزن وغيرهما ، فهو تعميم بعد تخصيص ؛ لأنه أعم من أن يكون في المقدار وغيره . والبخس : الهضم والنقص . ويقال للمكس : البخس ، قال زهير :
~أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ بخس درهم
~ألا تستحي منا ملوك وتتقي محارمنا لا تتقي الدم بالدم
وروي ( مكس درهم ) . يريد زهير : أخذ الخراج وما هو اليوم في الأسواق من رسوم وظلم . وكان قوم شعيب يأخذون من كل شيء يباع شيئاً ، كما تفعل السماسرة ، أو كانوا يمكسون الناس ، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك ، كذا في " الكشاف " و " شرحه " .
قال القاشاني : لما رأى شعيب عليه السلام ، ضلالتهم بالشرك ، واحتجابهم عن الحق بالجبت ، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل ، وتماديهم في الحرص على جمع المال بأسوأ الخصال ؛ نهاهم عن ذلك ، وقال : إني أراكم بخير في استعدادكم من إمكان حصول كمال وقبول هداية ، وإني أخاف عليكم إحاطة خطيئاتكم ؛ لاحتجابكم عن الحق ، ووقوفكم مع الغير ، وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش ، وإعراضكم عن المعاد ، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات عن تحصيل الباقيات الصالحات ، فلازموا التوحيد والعدالة واعتزلوا عن الشرك والظلم ، الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل .
{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي : لا تعملوا فيها الفساد . يعم أيضاً تنقيص الحقوق وغيره ، كالسرقة ، والدعاء إليه ، والصد عن الإيمان ونحوها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } [ 86 ] .
{ بَقِيَّةُ اللّهِ } أي : ثوابه الباقي على وفاء الكيل والوزن ، أو ما أبقاه عليكم بعد التنزه عن الحرام ، أو ما تفضل عليكم من الربح بعد وفائهما : { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : في دينكم ودنياكم : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن المؤمن يبارك له إذا تنزه عن الحرام . أو مصدقين بما أقول .
وقال القاشاني : أي : إن كنتم مصدقين ببقاء شيء ، فما يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية ، خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها ، وتشقون على أنفسكم في كسبها وتحصيلها ، ثم تتركونها بالموت ، ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال التبعات والعذاب اللازم ، لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات .
{ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } أي : رقيب لأحفظكم عن القبائح وأكفكم عنها بسيطرة . وإنما أنا مبلغ نذير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ 87 ] .
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي : من الأصنام ، أجابوا به أمرهم بالتوحيد على الاستهزاء والتهكم بصلواته ، والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه . وكان شعيب كثير الصلاة ، فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر . وقرئ : ( أصلاتك ) بالإفراد - قاله القاضي .
{ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء } من نقص ونحوه : { إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } أي : الموصوف بالحلم والرشد في قومك ، يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك ، وما شهرت به .
كما قال قوم صالح عليه السلام : { قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا } [ هود : من الآية 62 ] ، أو قالوا ذلك تهكماً به ، والمراد أنه على الضد من ذلك . قيل : وهذا أرجح ؛ لأنه أنسب بتهكمهم قبله ، والأدق هو الأول لمماثلته لما خوطب به صالح ، وتعقيبه بمثل ما عقب به ، وهو قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ 88 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي : أخبروني إن كنت على برهان يقيني مما أتاني ربي من العمل والنبوة : { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } أي : مالاً حلالاً مكتسباً بلا بخس وتطفيف ، أو حكمة ونبوة ، وكمالاً وتكميلاً ، بالاستقامة على التوحيد . هل يصح لي أن أخون الوحي ، وأترك النهي عن الشرك والظلم ، والإصلاح بالتزكية والتحلية . وهو اعتذار عما أنكروه عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء . وحذف جواب ( أرأيتم ) لما دل عليه في مثله ، كما مر في نبأ نوح وصالح عليهما السلام ، وعلى خصوصيته هنا من قوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي : وما أريد أن آتي ما أنهكم عنه ، لأستبد به دونكم ، فلو كان صواباً لآثرته ، ولم أعرض عنه ، فضلاً عن أن أنهى عنه - أفاده القاضي - .
وفي " التاج " : يقال خالفه إلى الشيء : عصاه إليه ، أو قصده بعد ما نهاه عنه ، وهو من ذلك .
قال القاشاني : أي : ما أقصد إلى جر المنافع الدنيوية الفانية ، بارتكاب الظلم الذي أنهاكم عنه .
{ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } أي : إصلاح نفوسكم بالتزكية ، والتهيئة لقبول الحكمة ، ما دمت مستطيعاً متمكناً منه { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ } أي : وما كوني موفقاً للإصلاح إلا بمعونة الله وتأييده { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : أعتمد : { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في السراء والضراء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ 89 ] .
{ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي } أي : لا يكسبنكم عدواتي : { أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } من الغرق والريح والصيحة : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } فإن منازلهم قريبة منكم ، وقد علمتم ما نزل بهم من قلب الأرض وإمطار الحجارة . وذلك لأن مخالفة الرسل تقتضي أحد هذه الأمور .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [ 90 ] .
{ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي : من عبادة الأصنام : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } أي : بالتوحيد ، أو بالرجوع عن البخس والتطفيف : { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } أي : للمستغفرين التائبين : { وَدُودٌ } أي : مبالغ في المحبة لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [ 91 ] .
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ } أي : ما نفهم : { كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } كالتوحيد ، وحرمة البخس . يعنون أنهم لا يقبلونه ، أو قالوا ذلك استهانة به ، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول ! أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً لا ينفعهم كثير منه ، و ( الكثير ) مراد به الكل ، أو قالوه فراراً من المكابرة .
قال أبو السعود : الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه . أي : ما نفهم مرادك ، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه ، وضاقت عليهم الحيل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلاً ، سوى الصدود عن منهاج الحق ، والسلوك إلى سبيل الشقاء ، كما هو ديدن المفحم المحجوج ، يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد . فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ ، وأنواع العلوم والمعارف ، من قبيل ما لا يفهم معناه ، ولا يدرك فحواه ، وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب . ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة ، ولذلك قالوا :
{ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أي : لا قوة لك ، فتمتنع منا إن أردنا بك سوءاً : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } أي : قومك وأنهم على ملتنا : { لَرَجَمْنَاكَ } أي : قتلناك برمي الأحجار ، أو شر قتلة : { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي : لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك ونمنعك من الرجم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ 92 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ } أي : من أمره ووحيه ودينه { وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي : نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به ، و ( الظهري ) منسوب إلى الظهر ، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا : ( إِمسي ) بالكسر في النسبة إلى ( أمس ) و ( دُهري ) بالضم بالنسبة إلى ( الدهر ) : { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم لا يخفى عليه فيجازيكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [ 93 ] .
{ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : غاية تمكنكم واستطاعتكم ، أو على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، من كفركم وعداوتكم : { إِنِّي عَامِلٌ } أي : على مكانتي التي كنت عليها من الثبات على الإسلام والمصابرة .
{ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي : منتظر لهلاككم . وفي زيادة ( معكم ) إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره .
قال الزمخشري : فإن قلت : أي : فرق بين إدخال الفاء ونزعها في : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر ، كأنهم قالوا : فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا ، وعلمت أنت ؟ فقال : سوف تعلمون ! فوصل تارة بالفاء ، وتارة بالاستئناف ، للتفنن في البلاغة ، كما هو عادة بلغاء العرب ، وأقوى الوصلين ، وأبلغهما الاستئناف ؛ للإشعار بأنه مما يسأل عنه ، ويعتني به ، ولذا كان أبلغ في التهويل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 94 ] .
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا } إنما ذكره بالواو ، كما في قصة عاد ، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط ، فإنه ذكر بعد الوعد ، وذلك قوله : { وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : من الآية 65 ] ، وقوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح } [ هود : من الآية 81 ] ، فلذلك جاء بفاء السببية . أفاده القاضي .
{ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي : بالعذاب : { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي : ميتين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [ 95 ] .
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } أي : يقيموا : { فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } شبههم بهم ، لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة ، وكانوا قريباً منهم في المنزل ، نظراءهم في الكفر وقطع الطريق ، وكانوا أعراباً مثلهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ 96 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا } أي : التسع : { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } وهو العصا . وكانت أبهر معجزاته ، فلذا خصت ، أو هو الآيات ، والعطف للإشارة إلى الجمع بين كونها آيات وسلطاناً واضحاً على رسالته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ 97 ] .
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي : بالكفر بموسى ، أو طريقة فرعون الجائرة .
قال الزمخشري : هذا تجهيل لمتبعيه ، حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل . وذلك أنه ادعى الإلهية ، وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد ، فاتبعوه وسلموا له دعواه ، وتتابعوا على طاعته .
{ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : بمرشد ، أو ذي رشد ، وإنما هو غي وضلال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } [ 98 ] .
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : يتقدمهم إلى النار ، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال : { فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } أي : يوردهم . وإيثار لفظ الماضي للدلالة على تحققه والقطع به . وشبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وأتباعه بالواردة ، والنار بالماء الذي يردونه .
ثم قيل : { وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } أي : بئس الذي يردونه النار ، لأن الورد - وهو النصيب من الماء - إنما يراد لتسكين الظمأ ، وتبريد الكبد ، والنار على الضد من ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [ 99 ] .
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ } أي : الدنيا : { لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : يلعنون في الدنيا والآخرة ، فهي تابعة لهم أين كانوا ، فـ : ( يوم ) معطوف على محل ( في ) هذه ؛ لابتداء كلام .
{ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُود } أي : بئس العطاء المعطى ، وهي اللعنة في الدارين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ 100 ] .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم : { مِنْ أَنبَاء الْقُرَى } أي : المهلكة : { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } أي : بالوحي : { مِنْهَا قَآئِمٌ } أي : باق ينظر إليها ، قد باد أهلها : { وَحَصِيدٌ } أي : ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [ 101 ] .
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } بإهلاكنا إياهم : { وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } أي : بتعريضها لما أوجبه من الشرك وعبادة الأوثان والظلم : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي : إهلاك وتخسير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ 102 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } فيه إشعار بظلمهم وإعلام بسنته تعالى في أخذ الظالمين التي لا تتبدل ، وإنذار كل ظالم ظلم نفسه ، أي : غيره ، من سوء العاقبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ 103 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فيما قص في هذه السورة ، أو في أخذ الظالمين : { لآيَةً } أي : لعبرة : { لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ } فيعتبر بها عن موجباته : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي : يشهده الأولون والآخرون ، وأهل السماء والأرض .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } [ 104 ] .
{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ } أي : ذلك اليوم : { إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي : لمدة محدودة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ 105 ] .
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي : بإذن الله تعالى ، كقوله تعالى : { لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : من الآية 38 ] ، { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ 106 ] .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الزفير : إخراج النفس مع صوت ممدود ، والشهيق : رده . كني بهما عن الغم والكرب ، لأنه يعلو معه النفس غالباً . أو شبه صراخهم بأصوات الحمير .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ 107 - 108 ] .
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي : غير مقطوع ، ولكنه ممتد إلى غير نهاية .
وفي التوقيت بـ : ( السماوات والأرض ) وجهان :
أحدهما : أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع ، كقول العرب : ( ما أقام ثبير ) ، و ( ما لاح كوكب ) و ( ما طما البحر ) ونحوها ، لا تعليق قرارهم في الدارين بدوام هذه السماوات والأرض ، فإن النصوص دالة على تأبيد قرارهم ، وانقطاع دوامهما .
وثانيهما : أن يراد سماوات الآخرة وأرضها ، إذ لا بد لأهلها من مظل ومقل ، قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : من الآية 48 ] ، وقوله : { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } [ الزمر : من الآية 74 ] .
فإن قلت : ما معنى الاستثناء بالمشيئة ، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء ؟ .
فالجواب ما قدمناه في قوله تعالى : { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه } [ الأعراف : من الآية 188 ] ، يعني أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن ، للدلالة على الثبوت والاستمرار .
والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى بطبيعتها في نفسها ، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل .
وقد أشار لهذا ابن كثير بقوله : يعني أن دوامهم ليس أمراً واجباً بذاته ، بل موكول إلى مشيئته تعالى .
وابن عطية بقوله : هذا على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام ، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } [ الفتح : من الآية 27 ] فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع .
وللمفسرين هنا وجوه كثيرة ، وما ذكرناه أحقها وأبدعها .
ولما قص تعالى قصص عَبْدة الأوثان وذكر ما أحله بهم من نقمة ، وما أعد لهم من عذابه قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } [ 109 ]
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء } أي : في شك من عبادتهم ، في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم . وفيه تسلية له صلوات الله عليه ، وعدة بالانتقام ، ووعيد لهم { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } أي : فهم سواء في الإشراك ، وقد بلغك ما نزل بآبائهم ، فسيحل بهم مثله . وهو استئناف معلل للنهي عن المرية : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : من العذاب ، كما وفي لآبائهم : { غَيْرَ مَنقُوصٍ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ 110 ]
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب } أي : التوراة : { فَاخْتُلِفَ فِيهِ } أي : آمن به قوم ، وكفر به آخرون ، كما اختلف هؤلاء في القرآن : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } يعني ما أشير إليه في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : من الآية 33 ] ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : باستئصالهم : { وَإِنَّهُمْ } أي : هؤلاء ، وهم كفار مكة : { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } أي : القرآن : { مُرِيبٍ } أي : موقع للناس في الريبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 111 ] .
{ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء منه ، وسيجزيهم عليه . والتنوين في ( كُلاًّ ) عوض عن المضاف ، أي : وإن كل المختلفين فيه .
تنبيه :
في هذه الآية قراءات : قرئ ( إنه ) و ( لما ) مخففتين ومشددتين ، وبتخفيف ( إن ) وتشديد ( لما ) وبعكسها ، وهذه الأربع قراءات كلها متواترة .
فأما الأولى : ففيها إعمال ( إن ) المخففة ، وهي لغة ثابتة عن العرب ، واللام في ( لما ) لأمر الابتداء داخلة في خبر ( إن ) . و ( ما ) إما موصولة بمعنى ( اللذين ) واقعة على من يعقل ، واللام في ( ليوفينهم ) جواب قسم مضمر ، أي : وإن كلا الذين ، والله ليوفينهم . وإما نكرة موصوفة ، والجملة القسمية وجوابها صفة ( ما ) أي : وإن كلا لخلق ، أو لفريق ، والله ليوفينهم . وقيل : اللام الأولى موطئة للقسم ، ولما اجتمع اللامان واتفقا في اللفظ فصل بينهما بـ ( ما ) فهي زائدة لإصلاح اللفظ . وقيل : اللام المذكورة هي الفارقة بين المخففة والنافية . وقيل : إنها جواب القسم كررت تأكيداً .
وأما الثانية : وهي تشديدهما ، فـ : ( إن ) على حالها وما بعدها منصوب على أنه اسمها ، و ( لما ) بمعنى ( إلا ) أو جازمة بمعنى ( لم ) ومجزومها محذوف ، أي : لما يمهلوا ، أو لما يوفوا أعمالهم إلى الآن ، وسيوفونها .
وأما الثالثة : وهي تخفيف ( إن ) وتشديد ( لم ) فـ ( إن ) مخففة عاملة كما تقدم ، و ( لما ) بمعنى ( إلا ) أو جازمة أيضاً ، أو ( إن ) نافية بمنزلة ( ما ) و ( ما ) بمعنى ( إلا ) و ( كلا ) منصوب بمضمر ، أي : وما أرى كلا إلا .
وأما الرابعة : وهي تشديد ( إن ) وتخفيف ( لما ) فواضحة فـ ( إن ) هي المشددة عملت عملها .
والكلام في ( اللام ) و ( ما ) مثل ما تقدم أولاً من الوجوه الأربعة في ( اللام ) والثلاثة في ( ما ) .
وثمة قراءات أخر فلتراجع في " السمين " وغيره .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 112 ] .
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي : في القرآن ، و ( الكاف ) للتشبيه ، أو بمعنى ( على ) : { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي : من الشرك ، وهم المؤمنون { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي : تجاوزوا حدود الله : { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فيجازيكم به . قال ابن كثير : يأمر تعالى رسوله والمؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر العون على النصر ، وينهى عن الطغيان وهو البغي ، فإنه مصرعة ، ولو كان على مشرك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [ 113 ] .
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : أنفسهم بالشرك والمعاصي ، أي : لا تسكنوا إليهم . ولا تطمئنوا إليهم ؛ لما يفضي الركون من الرضا بشركهم وتقويتهم ، وتوهين جانب الحق : { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } أي : أنصار يمنعون عذابه عنكم بركونكم إليهم : { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي : لا تمنعون مما يراد بكم . والقصد تبعيد المؤمنين عن موادة المشركين المحادّين لله ولرسوله ، والثقة بهم ، وهم أعظم عقبة في الصد عن سبيل الله ؛ لأن ذلك ينافي الإيمان .
قيل : الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم ، والتهديد عليه ، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله ، فكيف بمن ينغمس في حمأته ؟ .
تنبيه :
قال بعض المفسرين اليمانيين : الآية صريحة بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة ، لأنه تعالى توعد بالنار . ولكن ما هو الركون الذي أراده تعالى ؟ قلنا : في ذلك وجوه ؟
فروي عن ابن عباس والأصم أن المعنى : لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم .
وقيل : ترضوا بأعمالهم . عن أبي العالية .
وقيل : تلحقوا بالمشركين . - عن قتادة - .
وقيل : تداهنوا الظلمة . عن السدي وابن زيد .
وقيل : الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضا بفعلهم ، وإظهار موالاتهم . فأما إذا دخل عليهم لدفع شرهم فيجوز, لأنه تعالى أمر بالرفق في مخالطة الكفار ، والظلمة أولى .
قال الزمخشري : النهي يتناول الانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم . وتأمل قوله : { وَلاَ تَرْكَنُواْ } فإن الركون هو الميل اليسير . وقوله : { إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل : إلى الظالمين .
وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام ، فقرأ بهذه الآية ، فغشي عليه ، فلما أفاق قيل له ، فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم ، فكيف بالظالم ؟ انتهى .
قال اليماني : قد وسع العلماء في ذلك وشددوا ، والحالات تختلف ، والأعمال بالنيات ، والتفصيل أولى ، فإن كانت المخالطة لدفع منكر ، أو استعانة عليه ، أو رجاء تركهم الظلم ، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك ، وربما وجب ، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا . انتهى .
وأقول : كل هذا مبني على عموم الآية ، وأما إن كانت في مشركي مكة اعتماداً على سباق الآية وسياقها ؛ فالمراد منها ما ذكرناه أولاً - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [ 114 ] .
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ } أي : غدوة وعشية : { وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ } أي : وساعات منه ، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار ، من ( أزلفه ) إذا قربه ، وازدلف إليه . وصلا الغدوة : الفجر ، وصلاة العشية : الظهر والعصر ، لأن ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء - كذا في " الكشاف " - .
والآية كقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر } [ الإسراء : من الآية 78 ] في جمعهما للصلوات الخمس جمعاً بالغاً غاية اللطف في بلاغة الإيجاز ، وانتصاب ( طرفي النهار ) على الظرف لإضافته إليه . و ( زلفاً ) قرأها العامة بضم ففتح ، جمع زلفة ، كظلمة وظلم . وقرئ بضمها ، إما على أنه جمع زلفة أيضاً ، ولكن ضمت عينه إتباعاً لفائه ؛ أو على أنه اسم مفرد كعنق . أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف .
وقرئ بإسكان اللام ، إما بالتخفيف ، فيكون فيها ما تقدم ، أو على أن السكون على أصله ، فهو كبسرة وبسر ، من غير إتباع .
وقرئ ( زلفى ) كحبلى ، بمعنى قريبة ، أو على إبدال الألف من التنوين ؛ إجراء للوصل مجرى الوقف . ونصبه إما على الظرفية بعطفه على ( طرفي النهار ) لأن المراد به الساعات ، أو على عطفه على ( الصلاة ) فهو مفعول به .
والزلفة عند ثعلب : أول ساعات الليل .
وقال الأخفش : مطلق ساعات الليل ، وأصل معناه القرب . يقال ازدلف أي : اقترب و ( من الليل ) صفة زلفاً - كذا في " العناية " - .
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ } أي : التي من جملتها ، بل عمدتها ، ما أمرت به من الصلوات : { يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } أي : التي قلما يخلو منها البشر ، أي : يكفرنها { ذَلِكَ } أي : إقامة الصلوات في الأوقات المذكورة : { ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } أي : ذكرى له تعالى ، وإحضار للقلب معه ، وتصفية من كدورات اللهو والنسيان لعظمته .
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه ؛ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة ، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها ، وأنا هذا ، فاقض فيّ ما شئت ! فقال له عمر رضي الله عنه : لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك . قال : فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً . فقام الرجل فانطلق ، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه ، وتلا عليه هذه الآية : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } الخ .
فقال رجل من القوم : يا رسول الله ، هذا له خاصة ؟ قال : < بل للناس كافة > . أخرجه البخاري وغيره .
وفي رواية عن أبي أمامة قال له صلى الله عليه وسلم : < أتممت الوضوء وصليت معنا ؟ > قال : نعم ، قال : < فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك ، فلا تعد > . وقرأ الآية .
وفي رواية فنزلت الآية ، والمراد بالنزول شمولها ، بنزولها المتقدم ، لما وقع ، لأنها كانت سبباً في النزول - كما بيناه غير مرة - .
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس ، هل يبقى من درنه شيء ؟ > قالوا : لا . قال : < فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بها الخطايا > . ورواه البخاري أيضاً عن جابر ، ورُوي نحوه عن عثمان وسلمان .
وللإمام أحمد عن معاذ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن > .
وله عن أبي ذر مرفوعاً : < إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها > قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : < هي أفضل الحسنات > أي : فالحسنات مثل الصلاة والذكر والصدقة والاستغفار ، ونحو ذلك من أعمال البر .
لطيفة :
أشار القاشاني عليه الرحمة إلى سر الصلوات الخمس في أوقاتها بما يجدر الوقوف عليه ، فقال :
لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه في الهيئات الجسمانية ، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية ، وتحجبه عن النور والحضور ، بالإعراض عن جانب القدس ، والتوجه إلى معدن الرجس ، وتبدله الوحشة بالأنس ، والكدورة بالصفاء ؛ فرضت خمس صلوات ، يتفرغ فيها العبد للحضور ، ويسد أبواب الحواس ؛ لئلا يرد على القلب شاغل يشغله ، ويفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية ؛ لوصول مدد النور ، ويجمع همه عن التفرق ، ويستأنس بربه عن التوحش ، مع اتحاد الوجهة ، وحصول الجمعية ، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب ، على جناب الرب ، يدخل عليه بها النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جانب الغرور ، وداراً للعين الغرور ، التي تدخل بها الظلمة ليُذهب النور الوارد آثارَ ظلماتها ، ويكسح غبار كدوراتها . وهذا معنى قوله : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } .
وقد ورد في الحديث : < إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر > . وأمر بإقامتها طرفي النهار ، لينسحب حكمها ببقاء الجمعية ، واستيلاء الهيئة النورية ، في أوله إلى سائر الأوقات ، فعسى أن يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون ، لدوام ذلك الحضور وبقاء ذلك النور ، ويكسح ويزيل في آخره ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة . ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل ، وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني ، وتحجزها عن شأنها الخاص بها ، الذي هو مطالعة عالم القدس بشغلها باستعمال آلات الغذاء ، لعمارة الجسد ، فتسلبها اللطافة ، وتكدرها بالغشاوة ؛ احتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة ، وتنويرها بالصلاة ، فقال : { وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ } انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 115 ] .
{ وَاصْبِرْ } أي : على مشاق ما أمرت به من التبليغ ، أو على ما يقولون ، أو على الصلاة كقوله : { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [ طه : من الآية 132 ] ، ولا مانع من شموله للكل .
{ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس .
قال أبو السعود : وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة ، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه ، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة مع الإيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان . انتهى .
وأشار الشهاب في " العناية " هنا إلى لطيفة من البلاغة القرآنية ، وهو أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى ، وفي المنهيات جمعت للأمة .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ 116 ]
{ فَلَوْلاَ كَانَ } أي : فهلا وجد : { مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ } أي : بعمل الشرور والمنكرات ، فإنه لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناء منقطع . أي : لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون للنهي .
لطيفة :
( البقية ) إما بمعنى الباقية ، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة ، أو بقية من الرأي والعقل ، أو بمعنى الفضيلة ، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة . وأطلق على الفضل ( بقية ) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ، ويدخرها مما ينفقه ، فإنه يفعل ذلك بأنفسها . ولذا قيل : ( في الزاويا خبايا ، وفي الرجال بقايا ) و ( فلان من بقية القوم ) أي : من خيارهم ، وجوز كون ( البقية ) مصدراً بمعنى ( البقوى ) ، كالتقية بمعنى التقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم ، صيانة لها من سخطه تعالى وعقابه .
{ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } أي : ما صاروا منعمين فيه من الشهوات ، حتى فجأهم العذاب ، وإتباعه كناية عن الاهتمام به وترك غيره ، كما هو دأب التابع للشيء .
و : { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد ، ومن تاركي النهي عنه ، وقصره الزمخشري على الثاني ، لأنهم المقصود بالنعي قبله ، حيث قال : أراد بـ ( الذين ظلموا ) تاركي النهي عن المنكرات ، أي : لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعقدوا هممهم بالشهوات ، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف ، من حب الرئاسة والثروة ، وطلب أسباب العيش الهنيء ، ورفضوا ما وراء ذلك ، ونبذوه وراء ظهورهم .
{ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } أي : بإتباعهم المذكور ، أو كافرين . قال القاضي : كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم ، وإتباعهم للهوى ، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقد أشير لذلك بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ 117 ] .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } أي : بأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر . و ( بظلم ) الباء فيه إما للملابسة ، وهو حال من الفاعل ، أي : استحال في الحكمة أن يهلك القرى ظالماً لها ، وتنكيره للتفخيم ، والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم . أو للسببية . والظلم : الشرك ، أي : لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ، ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر ، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى . ولذا قيل : ( يبقى الملك مع الشرك ، ولا يبقى مع الظلم ) وهذا ، وإن كان صحيحاً ، إلا أن مقام دعوة الرسل إلى التوحيد ، ومحو الشرك أولاً ، ثم إلى الاستقامة في المعاملات ثانياً ؛ يقضي بحمل ( الظلم ) هنا على ما هو أعم من الشرك وأصناف المعاصي . وحمل الإصلاح على إصلاحه ، والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه ، وبعضهم متجهين إلى الاتعاظ ، غير مصرين على ما هم عليه من الشرك ونحوه . كذا أشار له أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [ 118 ] .
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : مجتمعة على الحق والإيمان والصلاح ولكنه لم يشأ ذلك : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } أي : في الحق ، منهم المؤمن به ومنهم الكافر به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ 119 ] .
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } أي : لكن ناساً رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد ، وتوفيقهم للكمال ، فاتفقوا في المذهب والمقصد ، ووافقوا في السيرة والطريقة ، قبلتهم الحق ، ودينهم التوحيد والمحبة .
وقوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } في المشار إليه أقوال . أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه ( مختلفين ) . فالضمير حينئذ للناس ، أي : لثمرة الاختلاف ، من كون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، خلقهم . واللام لام العاقبة والصيرورة ، لأن حكمة خلقهم ليس هذا ، لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم عليه . أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من ( رحم ) لتأويلها بـ ( أن والفعل ) أو كونها بمعنى الخير . وتكون الإشارة لاثنين ، كما في قوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك } [ البقرة : من الآية 68 ] . والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خلقهم . وهذا معزو إلى ابن عباس رضي الله عنهما . وإن كان الضمير لـ ( من ) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق - كذا في " العناية " - .
وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها ، وهو التعليل بوجه آخر ، حيث قال : وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل ، ويختار بطبعه أمراً وصنعة ، ويستتب بهم نظام العالم ، ويستقيم أمر المعاش ، فهم محامل لأمر الله ، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس ، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا ، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله ، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله ، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره .
وقوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي : أُحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه : { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } والمراد من : { الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } عصاتهما ، والتعريف للعهد ، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم ، وأن الوعيد ليس إلا لهم ، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل . بـ : { أَجْمَعِينَ } حينئذ

ظاهر ، وإن لم يحمل على العهد ، وأبقي على إطلاقه ، ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين ، لا من أحدهما فقط ، ويكون الداخلوها منهما مسكوتاً عنه موكولاً إلى علمه تعالى ، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم ، وبطلانه معلوم بالضرورة . أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فالمراد بلفظ ( أجمعين ) تعميم الأصناف ، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد ، كما إذا قلت : ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام ، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف ، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام ، كقولك : امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس ، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس ، بل يكون من كل فرد صنف ، وهو ظاهر . وعلى هذا تظهر فائدة لفظ ( أجمعين ) ؛ إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ، ممن زعم أنه لا يدخل النار - كذا في " العناية " - .
ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، ما جرى لهم مع أنبيائهم ؛ أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ 120 ] .
{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } أي : نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك ، وتتأسى بالرسل من قبلك ، وتعلم أن العاقبة لك كما كانت لهم . و ( كلاً ) مفعول ( لنقصّ ) و ( من أنباء ) بيان له . و ( ما نثبت ) بدل من ( كلاً ) أو خبر محذوف .
{ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ } أي : السورة ، أو الأنباء المقتصة : { الْحَقُّ } أي : القصص الحق الثابت : { وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم ، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به ، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } [ 121 ] .
{ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : بهذا الحق ، ولا يتعظون ولا يتذكرون : { اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : حالكم من إتباع الأهواء : { إِنَّا عَامِلُونَ } أي : على حالنا من إتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [ 122 ] .
{ وَانتَظِرُوا } أي : العواقب : { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أي : ما وعدنا به من الفتح ، وقد أنجز الله وعده . ونصر عبده ، فله الحمد وحده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 123 ] .
{ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما ، فلا تخفى عليه أعمالكم : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } أي : أمر العباد في الآخرة ، فيجازيهم بأعمالهم . وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتهديد للكفار بالانتقام منهم : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فإنه كافيك : { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بالياء التحتية في قراء الجمهور ، مناسبة لقوله : { للَّذينَ لا يُؤمنُونَ } وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب ، أي : أنت وهم . أي : فيجازي كلاً بما يستحقه - والله أعلم - .

(/)


سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } [ 1 ] .
{ الر } تقدم الكلام على مثله ، وأنها إما حروف مسرودة على نمط التعديد ، والإشارة في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى آيات السورة ، نزَّل ما بعده لكونه مترقباً منزلة المتقدم . والإشارة بالبعيد لعظمته ، وبعد مرتبته ، وإما اسم للسورة ، والإشارة في ( تلك ) إليها . والمراد بـ ( الكتاب ) السورة ؛ لأنه بمعنى المكتوب ، فيطلق عليها . أو القرآن ، لأنه كما يطلق على كله ، يطلق على بعضه . و ( المبين ) بمعنى الظاهر أمرها وإعجازها ، إن أخذ من ( بان ) لازماً بمعنى ظهر ، وإن أخذ من المتعدي فالمفعول مقدر ، أي : أنها من عند الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 2 ] .
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } أي : الكتاب المنعوت بما ذكر : { قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون } أي : لكي تفهموه ، وتحيطوا بمعانيه ، ولا يلتبس عليكم . كما قال تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [ فصلت : من الآية 44 ] ، أو لتستعملوا فيه عقولكم ، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ، ممن لم يتعلم القصص معجز ، لا يمكن إلا بالإيحاء .
أو : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } بإنزاله عربياً ، ما تضمن من المعاني والأسرار ، التي لا يتضمنها ولا يحتملها غيرها من اللغات ، وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس . قال بعضهم : نزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وفي أشرف شهور السنة ، وهو رمضان ، فكمل له الشرف من كل الوجوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [ 3 ] .
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } أي : أبدعه طريقة ، وأعجبه أسلوباً ، وأصدقه أخباراً ، وأجمعه حكماً وعبراً : { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : بإيحائنا إليك : { هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } أي : عنه ، لم يخطر ببالك . والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد جوز في هذا أن يكون مفعول نقص على أن ( أحسن ) نصب على المصدر ، وأن يكون مفعول ( أوحينا ) على أن مفعول نقص ( أحسن ) أو محذوف . وأن يكون بدلاً من ( ما ) على أنها موصولة أو خبر محذوف كذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ 4 ] .
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ } يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام . والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال ، أو مفعول لمحذوف { يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا ، لاعتقاده كمال علمه ، وشفقته عليه ، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه .
قال القاشاني : هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير ، لانتقال المتخيلة من النفوس الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له ، إلى الكواكب والشمس والقمر ، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته . ( يا أبت ) أصله يا أبي ، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها . وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها ، أو لأنه كان ( يا أبتا ) فحذف الألف ، وبقي الفتحة . وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء ، من غير اعتبار التعويض .
وقوله : ( رأيتهم ) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها ، فلا تكرير ، أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد ، كما في قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] ، وإنما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعاً سالماً ؛ لوصفها بوصفهم ، وهو السجود .
قال المهايمي : ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال . قال : ولم أر من تعرض لهيئة السجود ، ولعله تحريك جانبها الأعلى إلى الأسفل ، مستديرة ظهرت أو مستطيلة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 5 ] .
{ قَالَ يَا بُنَيَّ } صغره لصغر سنه ، وللشفقة عليه ، ولعذوبة المصغر { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } أي : فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلاً عظيماً متلفاً لك { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : ظاهر العداوة ، فلا يألو جهداً في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه .
قال القاشاني : هذا النهي من الإلهامات المجملة ، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح ، ويصل أثره إلى القلب ، ولا يتشخص في النفس مفصلاً ، حتى يقع العلم به كما هو ، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروهاً ، وفرح وسرور إن كان مرغوباً . ويسمى هذا النوع من الإلهام : إنذارات وبشارات ، فخاف عليه السلام ، من وقوع ما وقع قبل وقوعه ، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازاً . ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته ، وزيادة قدره على إخوته ، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك . انتهى .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : قال الكيا : هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه .
وقال ابن العربي : فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون . قال : وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك ، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيراً منه ، والأخ لا يود ذلك لأخيه .
وقال بعض المفسرين اليمانيين : قال الحاكم : هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة ، تحرزاً من الحسود . وهذا داخل في قولنا : إن الحسن إذا كان سبباً للقبيح قبح . ومنه آية الأنعام : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : من الآية 108 ] .
وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين :
~إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
الأبيات المعروفة ، ذكرها عن زين العابدين ، والغزالي في " منهاج العابدين " والديلمي في كتاب " التصفية " وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته ، والمعنى واحد ، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه . انتهى .
ومقصوده : أن خوف الأشرار من الصوراف عن الصدع بالحق .
قال السيد ابن المرتضى اليماني في " إيثار الحق " : مما زاد الحق غموضاً وخفاء خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء ، وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك ، بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام . وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق .
وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية ؛ أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون ، مع كتم إيمانه ، وسميت به سورة ( المؤمن ) . وصح أمر عمار به ، وتقريره عليه ، ونزلت فيه : { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ } [ النحل : من الآية 106 ] ، وقد صح عن أبي هريرة أنه قال في ذلك العصر الأول : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، أما أحدهما فبثثته لكم ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم . قال الغزالي في خطبة " المقصد الأسنى " : من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى . لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 6 ] .
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي : مثل ذلك الاصطفاء ، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن ، يصطفيك للنبوة والسيادة : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } أي : تعبير المنامات ، وإنما سمي التعبير تأويلاً ؛ لأنه جعل المرئي آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير وراجعاً إليه . والأحاديث اسم جمع للحديث ، سميت به الرؤيا ؛ لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : بما سيؤول إليه أمرك : { وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ } وهم أهله من بنيه ، وحاشيتهم ، أي : يسبغ نعمته عليهم بك : { كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } بمن هو مستحق للاجتباء : { حَكِيمٌ } في صنعه .
تنبيهات :
الأول : قال أبو السعود : كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام ، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ، ورؤيا الملك ، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة . وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي . أو أراد كون هذه الخصلة سبباً لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق ، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة ، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل ، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا ، لا بد من توفيقه لتعبيرها ، وتأويل أمثالها ، وتمييز ما هو آفاقي منها ، مما هو أنفسي ، كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال ، وقوة تصرفاتها فيه ، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم ، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة ، وأقوى وقوفاً على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين ، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر . وإن هذا الشأن البديع ، لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمر من اتصف به ، ومداراً لجريان أحكامه ، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة ، بها تظهر آثاره ، وتجري أحكامه .
الثاني : استدل بالآية على أن ( الجد ) يطلق عليه اسم ( الأب ) ، فيدل أن من نسب رجلاً إلى جده وقال : ( يا ابن فلان ) أنه لا يكون قذفاً .
الثالث : قال المهايمي : من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر ، وجواز التحذير عن شخص بعينه ، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره ، واعتبار السبب وإن لم يؤثر ، وأن لكل حادث تأويلاً عند الأولياء ، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار ، وإن كان من عالم الخيال ؛ إذ تصور المخيلة معاني معقولة بصور محسوسة ، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها . والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني ، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير ، وإلا احتاجت إليه . فالأخبار عن هذه الرؤيا آية ، وعما ترتب عليها آيات .
بحث في الرؤيا :
قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه " الذريعة " في بحث " الفراسة " ما مثاله :
ومن الفراسة علم الرؤيا . وقد عظم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس } [ الإسراء : من الآية 60 ] ، وقال : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِك } [ الأنفال : من الآية 43 ] الآية ، وقال في قصة إبراهيم : { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } [ الصافات : من الآية 102 ] ، وقوله : { يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : من الآية 4 ] .
والرؤيا هي فعل النفس الناطقة ، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة . والله تعالى يتعالى عن الباطل . وهي ضربان : ضرب وهو الأكثر أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية ، لكن النفس في تلك الحال كالماء المتموج ، لا يقبل صورة .
وضرب وهو الأقل صحيح ، وذلك قسمان : قسم لا يحتاج إلى تأويل ، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة يفرق بين الأضغاث وبين غيرها ، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية ، ويفرق بين طبقات الناس ؛ إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا ، وفيهم من تصح رؤياه . ثم من صح له ذلك ؛ منهم من يرشح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة ، ومنهم من لا يرشح له ذلك . ولهذا قال اليونانيون : يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام ، وذلك لأن له حظاً من النبوة . وقد قال عليه الصلاة والسلام : < الرؤيا الصادقة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة > وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه ومبينه ، فرب حكيم لا يرزق حذقاً فيه ، ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم توجد له فيه قوة عجيبة . انتهى .
وقال الأستاذ ابن خلدون : حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات . فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل ، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها ، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية ، والمدارك البدنية . وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم ، كما نذكر ، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة ، وتعود به إلى مداركها . فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً ، وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلطه ؛ فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير ، وقد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة ، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال ، والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس ؛ أنها ذات روحانية بالقوة ، مستكملة بالبدن ومداركه ، حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً ويكمل وجودها بالفعل ، فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية ، إلا أن نوعها من الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى ، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره ، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن . ومنه خاص كالذي للأولياء . ومنه عام للبشر على العموم ، وهو أمر الرؤيا . وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات . ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي ، وهي عندما يعرج على المدارك البدنية ، ويقع فيها ما يقع من الإدراك ، شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً ، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير ، فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها < جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة > وفي رواية < ثلاثة وأربعين > ، وفي رواية < سبعين > وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات ، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب ، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه ، وهو للتكثير عند العرب ، وما ذهب إليه بعضهم في رواية < ستة وأربعين > من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر ، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدنية ثلاث وعشرون سنة ، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين ؛ فكلام بعيد من التحقيق ؛ لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء ؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة . وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً ، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر ، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم ، صلوات الله عليهم ؛ إذ هو الاستعداد البعيد ، وإن كان عاماً في البشر ، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل . ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، الذي هو جبلي لهم ، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق ، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب . ولذلك جعلها الشارع من المبشرات ، فقال : < لم يبق من النبوة إلا المبشرات > قالوا : وما المبشرات يا رسول الله ، قال : < الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح ، أو ترى له > .
وأما السبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، فعلى ما أصفها لك : وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني ، وهو بخار لطيف ، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب - على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره - وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة ، وسائر الأفعال البدنية ، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ ، فيعدل من برده ، وتتم أفعال القوى التي في بطونه . فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري ، وهي متعلقة به ، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف . ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية ، صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته ، وهي النفس الناطقة ، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته .
وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين : إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس ، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية . وأن هذا الإدراك كله صرف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية ، التي هي مستعدة له بالفطرة . ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية ، كانت معرضة للوسن والفشل ، بما يدركها من التعب والكلال ، وتغشى الروح بكثرة التصرف ، فخلق الله لها طلب الاستجمام ، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة . وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها ، ورجوعه إلى الحس الباطن . ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل ، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن ، وتذهب من ظاهره إلى باطنه ، فتكون مشيعة مركبها ، وهو الروح الحيواني إلى الباطن . ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل ، فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ، ورجع إلى القوى الباطنة ، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة ؛ تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية ، وأكثر ما تكون معتادة ، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً . ثم ينزلها الحسن المشترك ، الذي هو جامع الحواس الظاهرة ، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة .
وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية ، مع منازعتها القوى الباطنية ، فتدرك بإدراكها الروحاني ؛ لأنها مفطورة عليه ، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ، ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة ، فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة . والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير ، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة ، قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام .
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < الرؤيا ثلاث : رؤيا من الله ، ورؤيا من الملك ، ورؤيا من الشيطان > وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه ، فالجلي من الله ، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك ، وأضغاث الأحلام من الشيطان ؛ لأنها كلها باطل ، والشيطان ينبوع الباطل .
هذه حقيقة الرؤيا ، وما يسببها ويشيعها من النوم ، وهي خواص للنفس الإنسانية ، موجودة في البشر على العموم ، لا يخلو عنها أحد منهم ، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة ، وحصل له القطع أنى النفس مدركة للغيب في النوم ، ولا بد . وإذا جاز ذلك في عالم النوم ، فلا يمتنع في غيره من الأحوال ؛ لأن الذات المدركة واحدة ، وخواصها عامة في كل حال . انتهى .
وذكر رحمه الله عند بحث " علم تعبير الرؤيا " أن التعبير لها كان موجوداً في السلف ، كما هو في الخلف ، وأن يوسف الصديق ، صلوات الله عليه ، كان يعبر الرؤيا ، كما وقع في القرآن ، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي بكر رضي الله عنه ، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم . وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي ، إذا أدرك مدركه ، وألقاه إلى الخيال فصوره ، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء . ومن المرئي ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها ، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه . وللبحث تتمة سابغة ، انظرها ثمة .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } [ 7 ] .
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } أي : في قصتهم وحديثهم : { آيَاتٌ } أي : دلائل على قدرته تعالى ، وحكمته في كل شيء : { لِّلسَّائِلِينَ } أي : لمن سأل عن نبئهم . أو آيات على نبوته صلوات الله عليه ، لمن سأل عن نبئهم ، فأخبرهم بالصحة من غير تلق عن بشر أو أخذ عن كتاب .
وقال القاشاني : أي : آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها ، تدلهم أولاً : على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى ، لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد ، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل .
وثانياً : على أن من أراد الله به خيراً ، لم يمكن لأحد دفعه . ومن عصمه الله ، لم يمكن لأحد رميه بسوء ، ولا قصده بشر ، فيقوى يقينهم وتوكلهم .
وثالثاً : على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد ، حتى الأنبياء ، فيكونون منه على حذر . وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم ، الذي هو الانتقال الذهني على أحوالهم في البداية والنهاية وما بينهما ، وكيفية سلوكهم إلى الله ، فتثير شوقهم وإرادتهم ، وتشحذ بصيرتهم ، وتقوي عزيمتهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 8 ] .
{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } وهو بنيامين شقيقه ، وأمهما راحيل بنت لابان خال يعقوب { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي : والحال أنا جماعة أقوياء ، أحق بالمحبة من صغيرين ، لا كفاية فيهما . والعصبة والعصابة : الجماعة من الرجال - عشرة فصاعداً - سموا بذلك لكون الأمور تعصب بهم ، أي : تشد فتقوى ، وذكرها ليس لإفادة العدد فقط ، بل للإشعار بالقوة ، ليكون أدخل في الإنكار ؛ لأنهم قادرون على خدمته ، والجد في منفعته ، فكيف يؤثر عليهم من لا يقدر على ذلك ؟ .
{ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : ذهاب عن طريق الصواب في ذلك لتفضيله المفضول بزعمهم . وغاب عنهم أنه كان يحب يوسف لما يرى فيه من المخايل ، لا سيما بعد تلك الرؤيا . وبنيامين لكونه شقيقه وأصغرهم . ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [ 9 ] .
{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً } من مقول قولهم المحكي قبل ، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم ، ويروى أنه قصه عليهم ، فتشاوروا في كيده ، وقالوا ذلك ، وقالوا : لنرى بعد ما يكون من أحلامه ، سخرية واستهزاء . وتنكير ( أرضاً ) وإخلاؤها من الوصف للإبهام ، أي : في أرض مجهولة ، لا يعرفها الأب ، ولا يمكن ليوسف أن يعرف طريق الوصول إليه .
وقوله : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } جواب الأمر ، كناية عن خلوص محبته لهم ؛ لأنه بدل على إقباله عليهم بكليته ، وعلى فراغه عن الشغل بيوسف ، فيشتغل بهم { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد الفراغ من قتله أو طرحه : { قَوْماً صَالِحِينَ } أي : تائبين إلى الله عما جنيتم ، فيكون صلاحكم فداء عن معصية قتله أو طرحه ، أو تصلح دنياكم ، وتنتظم أموركم بعده بخلو وجه أبيكم .
تنبيهات :
الأول : قال ابن إسحاق : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير ، الذي لا ذنب له ، و بالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، والده ؛ ليفرقوا بينه وبين ابنه على صغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده ، وسكونه إليه . يغفر الله لهم .
الثاني : قال ابن كثير : اعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر السياق يدل على خلاف ذلك . ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر ، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل . ولم يذكروا سوى قوله تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } [ البقرة : من الآية 136 ] ، وهذا فيه احتمال ؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل ، وللعجم شعوب . يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل ، فذكرهم إجمالاً ؛ لأنهم كثيرون ، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف . ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [ 10 ] .
{ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ } أي : صريحاً ورضي به الباقون : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } أي : لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سد باب الصلاح . وإنما أظهره في مكان الإضمار استجلاباً لشفقتهم عليه ، أو استعظاماً لقتله { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } أي : في غوره . و ( الجب ) : البئر التي لا حجارة فيها { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } أي : بعض الأقوام الذي يسيرون في الأرض ، فيتملكه ، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه ، فيحصل مطلوبكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سد باب الصلاح .
{ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } أي : عازمين مصرين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه . وقد روي أن القائل هو أخوهم الأكبر ، بكر يعقوب ( رَؤُوبين ) .
ولما تواطأوا على رأيه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [ 11 ] .
{ قَالُواْ } أي : لأبيهم : { يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } أي : لم تخافنا عليه ، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه ؟ أرادوا بذلك استنزاله عن عادته في حفظه منهم . وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه - كذا في " الكشاف " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ 12 ] .
{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الرتع ) : الأكل والشرب والسعي والنشاط ، حيث يكون الخضر والمياه والزروع . يريدون : أن إلزامك إياه أن يكون بمكانك ، موجب لملاله القاطع لنشاطه على العبادة ، واكتساب الكمالات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ 13 ] .
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } يعني : وإن زعمتم أنكم له حافظون ، فحفظكم إنما يكون ما دمتم ناظرين إليه ، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة ، فأخاف غفلتكم عنه .
قال الزمخشري : اعتذر إليهم بشيئين :
أحدهما : أن ذهابهم به ، ومفارقته إياه مما يحزنه ؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعة .
والثاني : خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أو قل به اهتمامهم ، ولم تصدق بحفظه عنايتهم .
قال الناصر : وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه ، لأنه مظنة هلاكه . وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالماً إليه عما قليل ؛ فأمر سهل . فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه . انتهى أي : فيما حكي عنهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ 14 ] .
{ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي : جماعة أقوياء ، يمكننا أن ننزعه من يد الذئب : { إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ } أي : هالكون ضعفاً وجبناً . أو عاجزون ، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 15 ] .
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } أي : بعد مراجعة أبيهم في شأنه : { وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } فيه تعظيم لما أزمعوا ؛ إذ أخذوه ليكرموه ، ويدخلوا السرور على أبيه ، ومكروا ما مكروا { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا } أي : أعلمناه بإلقاء في روعه ، أو بواسطة ملك عند ذلك تبشيراً له ، بأنك ستخلص مما أنت فيه ، وتحدثهم بما فعلوا بك .
وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } إما متعلق بـ ( أوحينا ) أي : أوحينا إليه ذلك وهم لا يشعرون ؛ إيناساً له ، وإزالة للوحشة ، أو حال من الهاء في ( لتنبئنهم ) ، أي : لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف ، لعلو شأنك ، كما سيأتي في قوله تعالى : { فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [ يوسف : من الآية 58 ] .
روي أنهم نزعوا قميص يوسف الموشى الذي عليه ، وأخذوه ، وطرحوه في البئر ، وكانت فارغة لا ماء بها ، وجلسوا بعدُ يأكلون ويلهون إلى المساء .
وجواب ( لما ) في الآية محذوف ، مثل فعلوا ما فعلوا ، أو طرحوه فيها . وقيل : الجواب ( أوحينا ) والواو زائدة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } [ 16 ] .
{ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } بيان لمكرهم بأبيهم بطريق الاعتذار الموهم موته القاطع عنه متمناه ، لتنقطع محبته عنه ، ولو بعد حين ، فيرجع إليهم بالحب الكلي . وقدموا عشاء لكونه وقت الظلمة المانعة من احتشامه في الاعتذار الكذب ، ومن تفرسه من وجوههم الكذب ، وأوهموا ببكائهم وتفجعهم عليه إفراط محبتهم له المانعة من الجرأة عليه . ثم نادوه باسم ( الأب ) المضاف إليهم ليرحمهم ، فيترك غضبه عليهم ، الداعي إلى تكذيبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ 17 ] .
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي : في العدو والرمي بالنصل : { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } أي : ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما ليحفظه : { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } أي : كما حذرتَ .
وقوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه . يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا في هذه الحالة ، ولو كنا عندك صادقين , فكيف وأنت تتهمنا ، وغير واثق بقولنا ؟ ! .
وقد استفيد من الآية أحكام :
منها : أن بكاء المرء لا يدل على صدقه ؛ لاحتمال أن يكون تصنعاً - نقله ابن العربي - .
ومنها : مشروعية المسابقة ، وفيه من الطب رياضة النفس والدواب ، وتمرين الأعضاء على التصرف - كذا في " الإكليل " - .
قال بعض اليمانين : اللعب إن كان بين الصغار جائز بما لا مفسدة فيه ، ولا تشبه بالفسقة ، وأما بين الكبار ، ففيه ثلاثة أقسام :
الأول : أن يكون في معنى القمار ، فلا يجوز .
الثاني : أن لا يكون في معناه ، وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد ، كالمناضلة بالقسي ، والمسابقة على الخيل ، فذلك جائز وفاقاً .
الثالث : أن لا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها . ففي ذلك قولان للشافعية : رجح الجواز ، إن كان بغير عوض ، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة .
وروي أن عائشة قالت : سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، فسبقته في المرة الأولى ، فلما بدنتُ سبقني وقال : < هذه بتلك > .
وفي الحديث : < ليس من اللهو ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه فرسه ، ورميه بقوسه > . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ 18 ] .
{ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } بيان لما تآمروا عليه من المكيدة ، وهو أنهم أخذوا قميصه الموشى ، وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه . و ( كذب ) مصدر بتقدير مضاف ، أي : ذي كذب . أو وصف به مبالغة ، كرجل عدل . و ( على ) ظرف لـ : ( جاءوا ) مشعر بتضمنه معنى ( افتروا ) .
وقوله : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي : من تغيب يوسف ، وتفريقه عني ، والاعتذار الكاذب .
قال الناصر : وقواه على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب ، عليه السلام ، هلاكه بسببه أولاً ، وهو أكل الذئب ، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْب } وكثيراً ما تتفق الأعذار الباطلة ، من قلق في المخاطب المعتذر إليه ، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار . انتهى . وفي " الإكليل " : استنبط من هذا الحكم بالأمارات ، والنظر إلى التهمة ، حيث قال : { بَلْ سَوَّلَتْ } .
لطائف :
قال المهايمي : في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد ، كالمال ، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها ، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب ، وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود ، وبمن يراعيه ، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلاً من الممكور به . وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، بل أظهره فعلاً ؛ لم يعتمد عليه .
وكذا من أظهر الأمانة قولاً وفعلاً يفعل الخيانة . وأن الإذلال والإعزاز بيد الله ، لا الخلق . وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه ، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء ، وأن الإنسان وإن كان نبياً ، يخلق أولاً على طبع البشرية . وأن إتباع الشهوات يورث الحزن الطويل . وأن القدر كائن ، وأن الحذر لا يغني من القدر .
قيل للهدهد : كيف ترى الماء تحت الأرض ولا ترى الشبكة فوقها ؟ قال : إذا جاء القضاء عمي البصر .
و ( التسويل ) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه ، وتصوير القبيح بصورة الحسن { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ( صبر ) خبر أو مبتدأ ، لكونه موصوفاً ، أي : فشأني صبر جميل . أو فصبر جميل أجمل ، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت ، والجميل منه هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق ولا جزع ، رضا بقضاء الله ، ووقوفاً مع مقتضى العبودية .
{ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف - كذا قدروه - وحقق أبو السعود ؛ أن المعنى على إظهار حال ما تصفون وبيان كونه كذباً ، وإظهار سلامته ، فإنه علم في الكذب ، قال سبحانه : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] ، وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } [ يوسف : من الآية 18 و 83 ] ، وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزء فيه ؛ يأباه تكذبيه عليه السلام لهم في ذلك ، ولا تساعده الصيغة ، فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه ، كما أشير إليه . انتهى .
وفي قوله : { وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ } اعتراف بأن تلبسه بالصبر لا يكون إلا بمعونته تعالى .
قال الرازي : لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع ، وهي قوية . والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا . فكأنهما في تحارب وتجالد . فما لم تحصل إعانته تعالى لم تحصل الغلبة ، فقوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يجري مجرى قوله : { إِيَّاكَ نَعبُدُ } وقوله : { والله المُستَعاَنُ } يجري مجرى قوله : { وإِيَّاك نَستَعِينُ } . انتهى .
ثم ذكر تعالى ما جرى على يوسف في الجب ، بعد ما تقدم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 19 ] .
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } أي : الذي يرد الماء ويستقي لهم : { فَأَدْلَى دَلْوَهُ } أي : أرسلها في الجب ليملأها ، فتعلق بها يوسف للخروج ، فلما رآه : { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ } وقرئ ( يَا بُشْرَايَ ) بالإضافة ، والمنادى محذوف . أو نزلت منزلة من ينادي ، ويقال : إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء .
قال الزجاج : معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب هو تنبيه المخاطبين ، وتوكيد القصة ، فإذا قلت : يا عجباه ! فكأنك قلت : اعجبوا .
و ( الغلام ) : الطارّ الشارب ، أو من ولادته إلى أن يشب . والتنوين للتعظيم .
{ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي : أخفوه متاعاً للتجارة فـ : { بِضاعَةً } حال . وفي " الفرائد " : أنه ضمن : { أَسَرُّوهُ } معنى ( جعلوه ) أي : جعلوه بضاعة مسرين ، فهو مفعول به ، أو مفعول له . أي : لأجل التجارة . و ( البضاعة ) من البضع ، وهو القطع ؛ لأنه قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ 20 ] .
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } الضمير في ( أَسَرُّوهُ ) و ( شَرَوْهُ ) للسيارة ؛ لأنها بمعنى القوم السائرين . وقد روي أنهم كانوا تجاراً من بلدة مدين . فلما أصعد واردهم يوسف وضموه إلى بضاعتهم ؛ باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهماً من الفضة ، ثم أتوا بيوسف إلى مصر . و ( دراهم ) بدل من الثمن و ( المعدود ) ، كناية عن القليل ؛ لأن الكثير يوزن عندهم . و ( الزهد ) فيه بمعنى الرغبة عنه .
فوائد :
قال في " الإكليل " ، استنبط الناس من هذه الآية أحكام اللقيط ، فأخذوا منها أن اللقيط يؤخذ ولا يترك . ومن قوله : ( هذا غلام ) أنه كان صغيراً ، وأن الالتقاط خاص به ، فلا يلتقط الكبير ، وكذا قوله : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ } لأن ذلك أمر يختص بالصغار . ومن قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } أن اللقيط يحكم بحريته ، وأن ثمن الحر حرام . قال بعضهم : وجه الاستدلال لأنهم باعوه بثمن حقير لكونه لقيطاً ، وهو لا يملك ؛ إذ لو ملك استوفوا ثمنه .
قال بعض الزيدية : ورد هذا الاستدلال بأن فعلهم ليس شريعة . وأما الآن فلا شبهة أن ظاهر اللقيط الحرية ، كما أن ظاهره الإسلام .
قال المهايمي : ومن الفوائد أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب ، وأنه ينتظر للشدة ، وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره . وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه . وأن البشرى قد يعقبها الحزن ، والعزة قد يعقبها الذلة . وبالعكس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 21 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } يخبر تعالى عن لطفه بيوسف ، إذ يسر له من اشتراه في مصر ، فاعتنى به ، وأوصى أهله ، وتوسم فيه الخير والصلاح . ومعنى : { أَكْرِمي مَثْوَاهُ } اجعلي مقامه حسناً مرضياً . و ( المثوى ) محل الثواء ، وهو الإقامة .
قال الشهاب : وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه ؛ لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة ، واتخاذ الفراش ونحوه ، فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به . أو ( المثوى ) مقحم . كما يقال : المقام السامي .
روي أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر ، فأقام في بيت سيده ، والعناية الربانية تحفه ، والنجاح يحوطه ، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به ينجحه الله تعالى على يده ، فنال حظوة لديه ، وأقامه قيماً على كل ما يملكه ، وضاعف تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته .
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } أي : كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيز وقلبه ، جعلنا له تصرفاً بالأمر والنهي ، ومكانة رفيعة في أرض مصر ، ووجاهة في أهلها ، ومحبة في قلوبهم ، ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك ، وتفضي بيوسف إلى الرياسة العظمى .
{ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } أي : لا يُمنع عما يشاء ولا يُنازع فيما يريد . أو على أمر يوسف ، أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة ، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أن الأمر كله بيده ، فيأتون ويذورن زعماً أن لهم شيئاً من الأمر . أو لا يعلمون لطائف صنعه ، وخفايا لطفه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 22 ] .
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } هذه الآية كالتي قبلها ، تخللت تضاعيف نظم القصة لمعنى بديع ، وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف ، وثمرات مجاهداته ، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته ، إذ طوى له المنح في تلك المحن ، وذخر له السيادة في تلك العبودية . ومعنى : { بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : زمان اشتداد جسمه وقوته .
قال أبو عبيدة : العرب تقول : بلغ فلان أشده ، إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان . و ( الحكم ) إما الحكمة وهو العلم المؤيد بالعمل ، أو الحكم بين الناس .
قال الزمخشري : وفي قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } تنبيه على أنه كان محسناً في عمله ، متقياً في عنفوان أمره ، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه .
وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته ، آتاه الله الحكمة في اكتهاله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ 23 ] .
{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } هذا رجوع إلى شرح ما جرى على يوسف في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه ، من مراودتها له وإبائه . والمراودة : المطالبة . أي : طلبت منه أن يواقعها . وتعديتها بـ ( عن ) لتضمينها معنى المخادعة . والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر ، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز ، لتقرير المراودة . فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك . قيل لامرأة : ما حملك على ما لا خير فيه ؟ قالت : قرب الوساد ، وطول السواد . ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام - كما سيأتي - .
و ( هَيْتَ ) قرئت كـ : ( ليت وقيل وحيث ) ، وبكسر الهاء وبهمزة ساكنة بعدها ، وفتح التاء وضمها . وهي في هذه اللغات اسم فعل بمعنى ( تعال ) . واللام لتبيين المفعول أي : المخاطب . ونقل عن الفراء أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها .
قال ابن الأبياري : هذا وفاقٌ بين لغة قريش وأهل حوران ، كما اتفقت لغة العرب والروم في ( القسطاس ) ونحوه .
و : { مَعَاذَ اللّهِ } منصوب على المصدر . أي : أعوذ بالله معاذاً مما تدعينني إليه ، لكونه زنى وخيانة فيما اؤتمنت عليه ، وضراً لمن توقع النفع ، وإساءة إلى المحسن .
قال أبو السعود : وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه ، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل ! يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه ، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهد بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ، ونهاية السوء .
وقوله : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية ، مما عسى أن يكون مؤثراً عندها ، وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها . والضمير للشأن . وفائدة تصدير الجملة به ؛ الإيذان بفخامة مضمونها ، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن ، فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر ، فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبه ، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن . فكأنه قيل : إن الشأن الخطير هذا ، وهو ربي ، أي : سيدي العزيز ، أحسن مثواي ، أي : تعهدي ، حيث أمرك بإكرامي ، فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه ؟ وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه . وقيل : الضمير لله عز وجل ، و : { رَبِّي } خبر ، و : { إِنَّ } ، و : { أَحْسَنَ مَثْوَايَ } خبر ثاني . أو هو الخبر ، والأول بدل من الضمير . والمعنى : أن الحال هكذا ، فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة ؟ وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل . وعلى التقديرين ، ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه ؛ إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته ، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } تعليل للامتناع المذكور ، غبّ تعليل . و ( الفلاح ) الظفر ، أو البقاء في الخير . ومعنى ( أفلح ) دخل فيه ، كأصبح وأخواته . والمراد بـ : ( الظالمين ) كل من ظلم ، كائناً من كان ، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة ، والعصاة لأمر الله تعالى ، دخولاً أولياً . وقيل : الزناة ، لأنهم ظالمون لأنفسهم ، وللمزني بأهله . انتهى .
وقال بعض اليمانين : ثمرات هذه الآية ثلاث :
الأولى : أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك ، ليعصمه منها ، ويدخل فيه دعاء الشيطان ، ودعاء شياطين الإنس ، ودعاء هوى النفس .
الثانية : أن السيد والمالك يسمى ( رباً ) .
الثالثة : أنه يجوز ترك القبيح لقبحه ، ورعاية حق غيره ، وخشية العار ، أو الفقر ، أو الخوف ، ونحو ذلك . ولا يقال : التشريك غير مفيد في كونه تاركاً للقبيح ، وأنه لا يثاب . وتدل أيضاً على لزوم حسن المكافأة بالجميل ، وأن من أخل بالمكافأة عليه كان ظالماً . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ 24 ]
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } ( الهم ) يكون بمعنى القصد والإرادة ، ويكون فوق الإرادة ودون العزم ، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه ، وبالعزم : القصد إلى إمضائه ، فهو أول العزيمة . وهذا معنى قولهم : الهم همان : همٌّ ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخذ به . وهمٌّ بمعنى خاطر ، وحديث نفس ، من غير تصميم ، وهو غير مؤاخذ به . لأنه خطور المناهي في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .
روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به > . ورواه الطبراني عن عِمْرَان بن حصين رضي الله عنهما .
فمعنى قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أي : بمخالطته ، أي : قصدتها وعزمت عليها عزماً جازماً ، لا يلويها عنه صارف ، بعد ما باشرت مبادئها من المراودة ، وتغليق الأبواب ، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها : { هَيْتَ لَكَ } مما اضطره إلى الهرب إلى الباب .
ومعنى قوله : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : لولا رؤيته برهان ربه لهمَّ بها ، كما همت به ، لتوفر الدواعي . ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء .
قال أبو حيان : ونظيره ( قارفت الإثم لولا الله عصمك ) . ولا نقول : إن جواب ( لولا ) يتقدم عليها ، وإن لم يقم دليل على امتناعه ، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها ، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه ، بل نقول : هو محذوف لدلالة ما قبله عليه . لأن المحذوف في الشرط يقدر من الجنس ما قبله . انتهى .
فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهمّ أصلاً . وقيل : جواب ( لولا ) لغشيها ونحوه . فمعنى ( الهم ) حينئذ ما قاله الإمام الرازي : من أنه خطور الشيء بالبال ، أو ميل الطبع . كالصائم في الصيف . يرى الماء البارد ، فتحمله نفسه على الميل إليه ، وطلب شربه ، ولكن يمنعه دينه عنه . وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً ، تتهيأ للشاب النامي القوي ، فتقع بين الشهوة والعفة ، وبين النفس والعقل ، مجاذبة ومنازعة . ( فالهم ) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة ، ورؤية البرهان جواذب الحكمة ، وهذا لا يدل على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل . انتهى .
وكذا قال أبو السعود : إن همه بها بمعنى ميله إليها ، بمقتضى الطبيعة البشرية ، وشهوة الشباب وقرمه ، ميلاً جبلياً ، لا يكاد يدخل تحت التكليف ، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً ، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ، ونفرته عنه ، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين ، وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه - عليه السلام - تسجيلاً محكماً ؟ وإنما عبر عنه بالهم ؛ لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر ، بطريق المشاكلة ، لا لشبهه به كما قيل . ولقد أشير إلى تباينهما ، حيث لم يُلزا في قرن واحد من التعبير ، بأن قيل : ولقد هما بالمخالطة ، أو هم كل منهما بالآخر . وصُدِّر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : حجته الباهرة ، الدالة على كمال قبح الزنى ، وسوء سبيله . والمراد برؤيته لها كمال إيقانه ، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين . وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النير ، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون ، وأوجب ما يجب أن يحذر منه ، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام ، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه .
وجواب ( لولا ) محذوف ، يدل عليه الكلام . أي : لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي ، ولكن حيث كان مشاهداً له من قبل ؛ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان . وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام ، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة ، بل لمحض العفة والنزاهة ، مع وفور الدواعي الداخلية ، وترتيب المقدمات الخارجية ، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية . انتهى .
فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام ، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس ، وخواطر الشهوة الجبلية ، ولكنهم معصومون من طاعتها ، والانقياد إليها . ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا إما ملائكة أو عالماً آخر ، ولَمَا كانوا مأجورين على ترك المناهي ؛ لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعاً . والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى ؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل ، والترك بغير داعية ليس عملاً ، وأما الترك مع الداعية ، فهو كف النفس عما تتشوف إليه فهو عمل نفسي .
وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم ، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها ؛ لئلا يكونوا قدوة سيئة ، مفسدين للأخلاق والآداب ، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع . وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري .
هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ، ما تلقفوه من أهل الكتب ، ومن المتصولحين ، من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام ، في همه ، التي أنزه تأليفي عن نقلها بردها . وكلها - كما قال العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل ، تمجها الآذان ، وتردها العقول والأذهان ، ويل لمن لا كها ولفقها ، أو سمعها وصدقها . وسبقه الزمخشري ، فجود الكلام في ردها ، فلينظر ، فإنه مما يسر الواقف عليه .
و ( السوء ) : المنكر والفجور والمكروه . ( والفحشاء ) : ما تناهى قبحه .
قال أبو السعود : وفي قوله تعالى : { لِنَصْرفَ عَنْهُ } الخ آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية ، ولا توجه إليها قط ، وإلا لقيل : لنصرفه عن السوء والفحشاء . وإنما توجه إليه ذلك من خارج ، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة . فتأمل .
و ( المخلصين ) قرئ بكسر اللام ، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله ، وبالفتح أي : الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم .
قال الشهاب : قيل : إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام . فشهد الله تعالى بقوله : { لِنَصرفِ } الخ ، وشهد هو على نفسه بقول : { هِيَ رَاوَدَتْنِي } ونحوه ، وشهدت امرأة العزيز بقولها : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } وسيدها بقوله : { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } وإبليس بقوله : { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } فتضمن إخباره بأنه لم يُغوه . ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص . انتهى . عفا الله عنهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 25 ] .
{ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ } متصل بقوله : { وَلَقَد هَمَّتْ بِهِ } الخ ، وقوله : { كَذَلِكَ } الخ ، اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريراً لنزاهته . والمعنى : ولقد همت به ، وأبى هو ، واستبقا الباب ، أي : قصد كلٌّ سْبقَ الآخر إلى الباب ؛ فيوسف عليه السلام ليخرج ، وهي لتمنعه من الخروج ، ووحد ( الباب ) هنا مع جمعه أولاً ؛ لأن المراد بالباب البراني الذي منه المخلص .
{ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } أي : اجتذبته من خلفه فانقد ، أي : انشق قميصه .
{ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } أي : صادفا بعلها ثمة قادماً .
{ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيم } تبرئة لساحتها ، وإغراء عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } [ 26 ] .
{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } لأن قدَّه منه أمارة الدفع عن نفسها به ، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها ، فقدَّ لإسراعه خلفها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } [ 27 ] .
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } لأنه أمارة إدباره عنها بسب أنها تبعته ، واجتذبت ثوبه إليها فقدَّته .
ومن اللطائف ما قيل : إن هذا الشاهد أراد ألا يكون هو الفاضح لها ، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر ، فنصبه أمارة لصدقه وكذبها . ثم ذكر القسم الآخر ، وهو قدَّه من قُبل ، على علم بأنه لم ينقدَّ من قبل حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة ، وقصد الفضيحة ، وينصفهما جميعاً ، فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه ، كما ذكره أمارة على صدقه المعلوم وجوده . ومن ثم قدم أمارة على صدقها ، على أمارة صدقه في الذكر ؛ إزاحة للتهمة ، ووثوقاً بأن الأمارة الثانية هي الواقعة ، فلا يضره تأخيرها . وهذه اللطيفة بعينها - والله أعلم - هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله : { وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } [ غافر : من الآية 28 ] . فقدم قسم الكذب على قسم الصدق ، إزاحة للتهمة التي خشي أن تتطرق إليه في حق موسى عليه السلام ، ووثوقاً بأن القسم الثاني وهو صدقه ، هو الواقع ، فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة ، ومن ثم قال : { بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } ولم يقل : كل ما يعدكم ، تعريضاً بأنه معهم عليه ، وأنه حريص على أن يبخسه حقه ، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام ، لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره ، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه الذي أمر بوضع السقاية فيه - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ 28 ] .
{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } يعني بالكيد : الحيلة والمكر . وإنما استعظم كيدهن ؛ لأنه ألطف وأعلق بالقلب ، وأشد تأثيراً في النفس ، ولهن فيه نيقة ورفق ، وبذلك يغلبن الرجال .
تنبيه :
قال ابن الفرس : يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات ، فيما لا تحضره البينات ، كاللقطة ، والسرقة ، والوديعة ، ومعاقد الحيطان ، والسقوف وشبهها .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [ 29 ] .
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } نودي بحذف حرف النداء ، لقربه وكمال تفطنه للحديث .
أي : يا يوسف أعرض عن هذا الأمر واكتمه ، ولا تحدث به .
{ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } أي : الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ، ثم قذفه بما هو بريء منه .
{ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } أي : من جملة القوم المتعمدين للذنب . يقال : خطئ إذا أذنب متعمداً ، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد . ولهذا يقال : أصاب الخطأ ، وأخطأ الصواب ، وأصاب الصواب . وإيثار جمع السالم تغليباً للذكور على الإناث . ودل هذا على أن العزيز كان رجلاً حليماً ؛ إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار .
قال ابن كثير : أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه . ويقال : إنه كان قليل الغيرة .
قال الشهاب : وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام .
وقال أبو حيان : إنه مقتضى تربة مصر . انتهى .
وقد تقرر لدى المحققين أن لاختلاف أحوال العمران في الخصب والجدب ، وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها ؛ أثراً في أخلاق البشر وأبدانهم . انظر المقدمة الرابعة والخامسة من " مقدمة ابن خلدون " .
ثم ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة - وهو مصر - بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 30 ] .
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } العزيز : الأمير ، مأخوذ من ( العز ) وهو الشدة والقهر ، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية .
{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } أي : خرق حبه شغاف قلبها ، حتى وصل إلى الفؤاد ، و ( الشغاف ) كسحاب : حجاب القلب .
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : في خطأ عن طريق الرشد والصواب . وإقحام الرؤية ؛ للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم ، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ 31 ] .
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } أي : اغتيابهن ، وسوء قالتهن . استعير ( المكر ) لـ ( الغيبة ) لشبهها له في الإخفاء أو ( المكر ) على حقيقته ، وكن قلن ذلك لتريهن يوسف .
{ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : تدعوهن للضيافة مكراً بهن { وَأَعْتَدَتْ } أي : أحضرت وهيأت : { لَهُنَّ مُتَّكَأً } أي : ما يتكئن عليه من الوسائد { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } أي : ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها { وَقَالَتِ } أي : ليوسف : { اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } أي : ابرز إليهن .
قال الزمخشري : قصدت بتلك - الهيئة - وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن ؛ أن يدهشن ويُبهتن عند رؤيته ، ويشغلن عن نفوسهن ، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها ؛ لأن المتكئ إذا بُهت لشيء وقعت يده على يده ، فتبكنهن بالحجة ، وقد كان ذلك كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي : أعظمنه ، وهبن حسنه الفائق { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ، تريد : جرحتها : { وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } حاش : أصله حاشا ، وحذفت ألفه تخفيفاً ، وبها قرأ أبو عَمْرو في الدرج ، أي : تنزيهاً له سبحانه عن صفات النقص والعجز ، وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنع البديع . وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله ، وأثبتن له الملكية على نهج القصر ؛ بناء على ما ركز في الطباع ألا أحسن من الملك ، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان ، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ } [ 32 ] .
{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } أي : في الافتتان به : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } أي : امتنع ، طالباً للعصمة ، مستزيداً منها .
قال الزمخشري : الاستعصام بناء مبالغة ، يدل على الامتناع البليغ ، والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة ، وهو يجتهد في الاستزادة منها . ونحوه : استمسك ، واستوسع الفتق ، واستجمع الرأي ، واستفحل الخطب . وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام ، لا مزيد عليه ، وبرهان لا شيء أنور منه ، على أنه برئ مما أضاف إليه أهل الحشو ، مما فسروا به الهم والبرهان . انتهى .
{ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ } أي : ليعاقبن بالسجن والحبس : { وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ } أي : الأذلاء المهانين .
ولما سمع يوسف تهديدها :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } [ 33 ] .
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } أي : من مواتاتها ؛ لأنه مشقة قليلة تعقبها راحات أبدية . ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } يعني : ما أردن مني : { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية : { وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } أي : بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح .
قال أبو السعود : هذا فزع منه ، عليه السلام ، إلى ألطاف الله تعالى . جرياً على سنن الأنبياء والصالحين ، في قصر نيل الخيرات ، والنجاة من الشرور ، على جناب الله عز وجل ، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة ، كقول المستغيث : أدركني وإلا هلكت ، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة ، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن . انتهى .
قال القاشاني : وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أبداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 34 ] .
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ } أي : أجاب له دعاءه : { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } أي : أيده بالتأييد القدسي ، فصرفه إلى جناب القدس ، ودفع عنه بذلك كيدهن : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } أي : لدعاء المتضرعين إليه : { الْعَلِيمُ } أي : بما يصلحهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [ 35 ] .
{ ثُمَّ بَدَا لَهُم } أي : ظهر للعزيز وأهله { مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ } أي : الشواهد على براءته : { لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } أي : إلى مدة يرون رأيهم فيها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 36 ] .
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ } روي أنهما غلامان كانا لفرعون مصر ، أحدهما رئيس سقاته ، والآخر رئيس طعامه ، غضب عليهما فحبسهما ، فكانا مع يوسف . ثم رآهما يوماً وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فذكرا له أنهما رأيا رؤيا غمتهما ، وليس لهما من يعبرها . فقال لهما : أليس التأويل لله ؟ قصَّا عليَّ ! فذلك قوله تعالى : { قَالَ أَحَدُهُمَآ } وهو صاحب شرابه : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً } أي : عنباً ، تسمية للعنب بما يؤول إليه ، أو الخمر بلغة عمان : اسم للعنب ، وذلك أنه قال : رأيت في المنام كأن بين يدي وعاءاً فيه ثلاثة قضبان عنب ، ثم نضجت عناقيدها وصارت عنباً ، وكانت كأس فرعون في يدي ، فأخذت العنب ، وعصرته في الكأس ، وناولتها لفرعون .
{ وَقَالَ الآخَرُ } وهو صاحب طعامه : { إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ } وذلك أنه قال له : رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال حُواري ، والطير تأكل من السلة العليا فوق رأسي .
{ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أي : أخبرنا بتفسير ما رأينا ، وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، تداوي مريضهم ، وتعزي حزينهم ، وتوسع على فقيرهم ، فأحسن إلينا بكشف غمتنا ، إن كنت قادراً على ذلك .
ثم أشار ، عليه السلام ، لهما بأن ما رأياه سهل التأويل ، لوجود مثاله في المنام ، وأن له علماً فوقه ، وهو أن يبين لهما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة ، وإن لم يكن هناك مقدمة المنام ، حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيهما كل يوم ، يبينه لهما قبل إتيانه ، وإن ذلك ليس من باب الكهانة ، بل من الفضل الرباني لمن يصطفيه بالنبوة ، وهذا معنى قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [ 37 ] .
{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } أي : قبل أن يصلكما . والمراد بالطعام : ما يبعث إلى أهل السجن . وتأويله ذكر ما هو ، بأن يقول : يأتيكما طعام كيت وكيت ، فيجدانه كذلك . وحقيقة ( التأويل ) : تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد .
قال أبو السعود : فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام ، إما بطريق الاستعارة . فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل ، بالنظر إلى ما رُئي في المنام ، وشبيه له . وإما بطريق المشاكلة ، حسبما وقع في عبارتهما من قولهما : { نَبِّئْنا بِتأويلهِ } . ومراده عليه السلام بذلك : بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها . وإنما تخصيص الطعام بالذكر ؛ لكونه عريقاً في ذلك ، بحسب الحال ، مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيتين المتعلقتين بالشراب والطعام .
{ ذَلِكُمَا } أي : ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات : { مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي } أي : بالوحي والإلهام ، لا من التكهن والتنجيم . وفيه إشعار بأن له علوماً جمة ، ما سمعاه شذرة من جواهرها . وقوله تعالى : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [ 38 ] .
{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } هذه الجملة إما مسوقة لبيان علة تعليم الله له بالوحي والإلهام ، أي : خصني بذلك لترك الكفر ، وسلوك طريق آبائي المرسلين ، أو كلام مستأنف ، ذكر تمهيداً للدعوة ، وإظهار أنه من بيت النبوة ، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه ، والوثوق به ، والمراد بتركه ملة الكفر : الامتناع عنها رأساً ، كما يفصح عنه قوله : { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ } أي : ما صح ولا استقام ذلك لنا ، فضلاً عن الوقوع . وإنما عبر عنه بذلك ؛ لكونه أدخل بحساب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام ، والتخصيص بهم مع أن الشرك لا يصح من غيرهم أيضاً ؛ لأنه يثبت بالطريق الأولى . أو المراد : نفي الوقوع منهم لعصمتهم . وتكرير ( هم ) للدلالة على اختصاصهم ، وتأكيد كفرهم بالآخرة ، وزيادة ( من ) في المفعول أعني : { مِن شَيْءٍ } ؛ لتأكيد العموم ، أي : لا نشرك به شيئاً من الأشياء ، قليلاً أو حقيراً ، صنماً أو ملكاً أو جنياً أو غير ذلك .
وقوله : { ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ } يعني عدم الإشراك بالله ، وهو التوحيد ، من نعم الله العامة ، التي يجب شكره تعالى على الهداية لها بالفطر السليمة ، ونصب الدلائل الأنفسية والآفاقية .
ثم بين أن أكثر الناس نبذوا هذه النعمة بعد ما حق عليهم شكرها .
ولما ذكر ، عليه السلام ، ما هو عليه من الدين القويم ، تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام ، فضرب لهما مثلاً يتضح به الحق حق اتضاح ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 39 ] .
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } وصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للمودة ، وبذل النصيحة . أي : يا صاحبي فيه . فجعل الظرف توسعاً ، مفعولاً به . أي : أأرباب شتى تستعبد الناس خير لهم ، أم أن يكون لهم رب واحد قهار لا يغالب ؟ ! .
قال بعضهم : دلت الآية على أن الشرع كما جاء مطالباً بالاعتقاد ، جاء هادياً لوجه الحسن فيه . وذلك أن هذه الآية تشير إشارة واضحة إلى أن تفرق الآلهة يفرق بين البشر في وجهة قلوبهم إلى أعظم سلطان يتخذونه فوق قوتهم . وهو يذهب بكل فريق إلى التعصب لما وجه قلبه إليه ، وفي ذلك فساد نظامهم كما لا يخفى . أما اعتقاد جميعهم بإله واحد ، فهو توحيد لمنازع نفوسهم إلى سلطان واحد ، يخضع الجميع لحكمه ، وفي ذلك نظام أخوتهم ، وهي قاعدة سعادتهم . فالشرع جاء مبيناً للواقع في أن معرفة الله بصفاته حسنة في نفسها ، فهو ليس مُحْدِثَ الحسن . انتهى .
وفي قوله : { أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ } إشارة إلى ما كان عليه أهل مصر لعهده عليه السلام ، من عبادة أصنام شتى . يقول بعضهم : كما أن مصر كانت تغلبت في العلوم والسلطة ، كذلك في عبادة الأصنام ، فإن أهلها فاقوا كل من سواهم في الضلال ، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات ، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 40 ] .
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } أي : من دون الله : { إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم } يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة ، ثم طفقتم تعبدونها ، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها : { مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي : حجة تدل على صحتها : { إِنِ الْحُكْمُ } أي : في أمر العبادة والدين : { إِلاَّ لِلّهِ } لأنه مالك ، وهو لم يحكم بعبادتها ؛ لأنه : { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } ؛ لأن العبادة غاية التذلل ، فلا يستحقها إلا من له غاية العظمة { ذَلِكَ } أي : التوحيد الدال على كمال عظمة الله ، بحيث لا يشاركه فيها غيره : { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : الحق المستقيم الثابت { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لجهلهم ، ولذا كان أكثرهم مشركين .
تنبيه :
لا يخفى أن قوله تعالى : { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ } إلى هنا ، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما ، مهد عليه السلام بها له ليدعوهما إلى التوحيد ، ليزدادا علماً بعظم شأنه ، وثقة بأمره ؛ توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما ، لا سيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب ، فرجا أن يختم له بخير .
قال الزمخشري : لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك ، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام ، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ، ويعرض عليهما الإيمان ، ويزينه لهما ، ويقبح إليهما الشرك بالله . وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم ، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به ، وأوجب عليه مما استفتي فيه ، ثم يفتيه بعد ذلك . وفيه : أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم ، فوصف نفسه بما هو بصدده - وغرضه أن يقتبس منه ، وينتفع به في الدين - لم يكن من باب التزكية . انتهى .
وبعد تحقيق الحق ، ودعوتهما إليه ، وبيانه لهما مرتبة علمه ، شرع في تفسير ما استفسراه . ولكونه بحثاً مغايراً لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [ 41 ] .
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } أي : يخرج من السجن ، ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر : { وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } أي : فيقتل ويعلق على خشبة ، فتأكل الطير من لحم رأسه { قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي : قطع وتم ما تستفتيان فيه . يعني : مآله ، وهو نجاة أحدهما ، وهلاك الآخر . والتعبير عنه بـ ( الأمر ) ، وعن طلب تأويله بـ : ( الاستفتاء ) تهويلاً لأمره ، وتفخيماً لشأنه ؛ إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم ، المبهمة الجواب ، وإيثار صيغة الاستقبال ، مع سبق استفتائهما في ذلك ؛ لما أنهما بصدده ، إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [ 42 ] .
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } أي : قال يوسف للذي علم نجاته من الفتيين ، أي : خلوصه من السجن والقتل ، وهو الساقي : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } أي : اذكر حالي وصفتي ، وعلمي بالرؤيا ، وما جرى عليّ عند الملك سيدك ، عسى يخلصني مما ظلمت به .
و ( الظن ) بمعنى العلم واليقين ، ورد كثيراً ، والتعبير به إرخاء للعنان ، وتأدب مع الله تعالى . وقيل : الظن بمعناه المعروف ، بناء على أن تأويل يوسف بطريق الاجتهاد ، والحكم بقضاء الأمر اجتهادي أيضاً ، والأول أنسب بالسياق .
تنبيه :
دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة ، ولو مشركاً . وقد جاء ذلك في قوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [ المائدة : من الآية 2 ] ، وقوله حكاية عن عيسى : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه } [ آل عِمْرَان : من الآية 52 ] و [ الصف : 14 ] وفي الحديث : < والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه > . وجلي أن ذلك من نظام الكون ، والعمران البشري ، ولذلك ميز الإنسان بالنطق .
وأما ما رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً : لو لم يقل - يعني يوسف - الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث ، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى . فقال الحافظ ابن كثير : حديث ضعيف جداً ، وذكر من رجاله الضعفاء راويين سماهما . ثم قال : وروي أيضاً مرسلاً عن الحسن وقتادة . قال : وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل ، لو قُبل المرسل من حيث هو ، في غير هذا الموطن - والله أعلم - انتهى . ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة .
وقوله تعالى : { فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } يعني : فشغله الشيطان حتى نسي ذكر يوسف عند الملك { فَلَبِثَ } أي : مكث يوسف : { فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } أي : طائفة منها .
ولأهل اللغة أقوال في ( البضع ) : ما بين الثلاث إلى التسع ، أو إلى الخمس ، أو ما لم يبلغ العقد ولا نصفه ، يعني ما بين الواحد إلى الأربعة . وقيل غير ذلك .
ولما دنا الفرج من يوسف عليه السلام ، برحمته تعالى ، ما هيأه من الأسباب ؛ رأى فرعون مصر هذه الرؤيا التي أشار إليها تعالى بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ 43 ] .
{ وَقَالَ الْمَلِكُ } أي : لملئه : { إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ } أي : هالكات من الهزال . جمع عجفاء ، بمعنى المهزولة ، ضد السمينة { وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ } أي : وأرى رؤيا ثانية : سبع سنبلات : { خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } أي : وسبعاً أخر يابسات دقيقة ، أي : نبتت وراءها ، فابتلعت السنابل الخضر الممتلئة ، وإنما استغنى عن عددها وإعدامها للخضر ؛ للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات ؛ لأنها نظيرتها .
وقوله : { يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } خطاب للأشراف من قومه ، وكان دعا إثر استيقاظه سحرة مصر وحكماءها ، وقص عليهم رؤياه هذه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [ 44 ] .
{ قَالُواْ } أي : الملأ للملك : { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } أي : تخاليطها . جمع ( ضغث ) وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحُزِمَ ، ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس ، ووساوس الشيطان ، وتريها في المنام . و ( الأحلام ) جمع ( حلم ) ، وهو ما يراه النائم ، فهو مرادف للرؤيا ، إلا أنها غلبت في رؤيا الخير والشيء الحسن ، وغلب الحلم على خلافه . وفي الحديث : < الرؤيا من الله ، والحلم من الشيطان > .
قال التوربشتي : الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا ، والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع للفصل بين الحق والباطل ، كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد ، فجعل الرؤيا عبارة عن الصالح منها ، لما في الرؤيا من الدلالة على المشاهدة بالبصر أو البصيرة ، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان ؛ لأن أصل الكلمة لم يستعمل إلى فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة ، مما لا حقيقة له . انتهى .
والمراد بالجمع في ( الأحلام ) ما فوق الواحد ؛ لأنهما حلمان ، رأى كل واحد منهما إثر استيقاظه منه ، كما روي ، وفهم بعضهم أنه حلم واحد ، فالتمس للجمع نكتة فقال : إما المبالغة في وصفه بالبطلان ، أو تضمنه أشياء مختلفة ، ولا حاجة إليه ، كما بينا .
{ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } يحتمل أن يريدوا بـ : ( الأحلام ) المنامات الباطلة خاصة . أي : ليس لها تأويل عندنا ، وإنما التأويل للرؤيا الصادقة . وأن يعترفوا بقصور علمهم ، وأنهم ليسوا في التعبير بنحارير .
قال الناصر : وهذا هو الظاهر . وحمل الكلام على الأول يصيره من وادي :
~*على لا حب لا يُهتدى بمناره*
كأنهم قالوا : ولا تأويل للأحلام الباطلة ، فنكون به عالمين . وقول الملك لهم أولاً : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها ، لأنه أتى بكلمة الشك ، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقاً لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهام عن كونهم عالمين بالرؤيا أو لا . وقول الفتى : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ } إلى قوله : { لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } دليل أيضاً على ذلك - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ 45 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا } أي : من صاحبي السجن ، وهو الساقي : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : تذكر بعد مدة ، وكان تذكره ، على ما روي ، بعد سنتين : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ } أي : أخبركم به بالتلقي عمن عنده علمه ، لا من تلقاء نفسي ، ولذلك لم يقل : أنا أفتيكم فيها ، وعقبه بقوله : { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثوني إلى يوسف ، وإنما لم يذكره ؛ ثقة بما سبق من التذكر ، وما لحق من قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 46 ] .
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } أي : أرسل إليه ، فأتاه فقال : يا يوسف ! ، ووصفه بالمبالغة في الصدق ، حسبما ذاق أحواله ، وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ، ورؤيا صاحبه ، حيث جاء كما أول ؛ لكونه بصدد اغتنام معارفه ، فهو من باب براعة الاستهلال : { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } أي : في تأويل رؤيا ذلك . ولم يغير لفظ الملك ؛ لأن التعبير يكون على وفقه ، كما بينوه . وفي قوله : { أَفْتِنَا } مع أنه المستفتي وحده ؛ إشعار بأن الرؤيا ليست له ، بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة ، وأنه في ذلك معبر وسفير ، كما آذن بذلك قوله : { لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ } أي : إلى الملك ومن عنده : { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : ذلك : فيعملون بمقتضاه ، أو يعلمون فضلك ومكانك من العلم ، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك . وإنما لم يبت الكلام ، بل قال ( لعلي ) و ( لعلهم ) ؛ مجاراة معه على نهج الأدب ، واحترازاً عن المجازفة ؛ إذ لم يكن على يقين من الرجوع ، فربما اخترم دونه .
~لعل المنايا دون ما تعداني
ولا من علمهم بذلك ، فربما لم يعلموه - أشار إليه أبو السعود - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [ 47 - 49 ] .
{ قَالَ } أي : يوسف له في تأويلها : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً } أي : دائبين مواظبين كل عام منها : { فَمَا حَصَدتُّمْ } أي : من الزرع : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } أي : لا تدرسوه ، فإنه أبقى له : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } أي : في تلك السنين ، يعني بقدر ما تأكلون .
{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : السبع المذكورات : { سَبْعٌ شِدَادٌ } أي : سبع سنين صعاب على الناس ؛ لقوة القحط : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } أي : ما رفعتم لهن من الحبوب المتروكة في سنابلها . ولما عبر عن البقرات بالسنين ؛ نسب الأكل إلى السنين ، كما رأى في الواقعة البقرات يأكلن حتى يحصل التطابق بين المعبر وهو المرئي في المنام ، والمعبر به وهو تأويله . ولا يتعين المجاز العقلي - أي : يؤكل فيها - كما في : ( نهاره صائم ) ؛ لجواز أن يكون مشاكلة حينئذ { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } أي : تحرزون وتخبئون للزراعة .
{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : السنين الموصوفة بالشدة ، وأكل الغلال المدخرة : { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يمطرون من الغيث ، أي : يغاثون من القحط ، أو يرفع عنهم مكروهه من الغوث : { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } أي : ما كانوا يعصرونه على عادتهم من عنب وزيتون ونحوهما .
قال أبو السعود : والتعرض لذكر ( العصر ) ، مع جواز الاكتفاء عنه بذكر ( الغيث ) المستلزم له عادة ، كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب ؛ إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب ؛ إذ المذكورات يتوقف صلاحها على مبادئ أُخر غير المطر . وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به ، بشارة له ، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس ، في القراءة بالفوقانية . وقيل : معنى ( يعصرون ) يحلبون الضروع . انتهى .
واللفظ بعموم معناه يشمله ؛ لأن الحلب فيه عصر الضرع ليخرج الدر .
قال الزمخشري : تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر : بسنين مخصبة ، والعجاف واليابسات : بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً ، كثير الخير ، غزير النعم ، وذلك جهة الوحي .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : هذه الآية من أصول التعبير . وفيها أيضاً صحة رؤيا الكفار ، وجواز تسميته ملكاً ، وأن قولنا ( الرؤيا لأول عابر ) ليس عاماً في كل رؤيا ؛ لأنهم قالوا : { أضغاثُ أَحْلامٍ } ، ولم تسقط بقولهم ذلك ، فتخص القاعدة بما يحتمل من الرؤيا وجوهاً ، فيعبر بأحدها ، فيقع عليه . وفي قوله : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ } الخ ، زيادة على ما وقع السؤال عنه فيستدل به ، على أنه لا بأس بذلك في تعبير الرؤيا والفتوى . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [ 50 ] .
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } أي : أخرجوه من السجن وأحضروه ؛ لما علم من علمه وفضله { فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ } أي : يستدعيه إلى الملك : { قَالَ } أي : يوسف له : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } أي : سيدك الملك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : ما شأنهن وخبرهن ؟ أمره بأن يسأله ويستفهمه عن ذلك ، ولم يكشف له عن القصة ، ولا أوضحها له ؛ لأن السؤال مجملاً ، مما يهيج الملك على الكشف والبحث والاستعلام ، فتحصل البراءة . وإنما كان السؤال المجمل يهيج الإنسان ، ويحركه للبحث عنه ؛ لأنه يأنف من جهله وعدم علمه به ، ولو قال : سله أن يفتش عن ذلك ، لكان طلباً للفحص عنه ، وهو مما يتسامح ويتساهل به ، وفيه جرأة عليه ، فربما امتنع منه ، ولم يلتفت إليه .
قال الزمخشري : إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة ؛ ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه ؛ لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم وجرم كبير ، حق به أن يسجن ويعذب ، ويستكف شره . وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها . قال عليه السلام : < من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم > . ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارين به في معتكفه ، وعنده بعض نسائه : < هي فلانة > ؛ اتقاء للتهمة .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : < لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له ، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني . ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال : { ارجِعْ إِلى رَبَّكَ } ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت ؛ لأسرعت الإجابة ، وبادرتهم الباب ، ولما ابتغيت العذر ، إن كان لحليماً ذا أناة > . انتهى .
رواه عبد الرزاق في مصنفه مرسلاً عن عِكْرِمَة .
وقد روي في المسند والصحيحين مختصراً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي > . مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأناة ، كان في طي هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم أنه همَّ بامرأة العزيز همّاً يؤاخذ به ؛ لأنه إذا صبر وتثبت فيما له ألا يصبر فيه ، وهو الخروج من السجن ، مع أن الدواعي متوافرة على الخروج منه ؛ فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر أفاده الناصر .
قال أبو السعود : وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز ، مع ما لقي منها ما لقي ، من مقاساة الأحزان ؛ محافظة على مواجب الحقوق ، واحترازاً عن مكرها ، حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة . وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ، ولم يصرح بمراودتهن له ، وقولهن ( أطع مولاتك ) واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله : { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } يعني ما كدنه به ، وفي إضافة علمه إلى الله إشارة إلى عظمه ، وأن كنهه غير مأمول الوصول إليه ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله . وفيه تشويق وبعث على معرفته ، فهو تتميم لقوله : ( اسأل ) ، ودلالة على أنه برئ مما قرف به ؛ للاستشهاد بعلمه تعالى عليه . وفيه الوعيد لهن على كيدهن ، وأنه تعالى مجاز عليه ، وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ 51 ] .
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } استئناف مبني على السؤال ، كأنه قيل : فماذا كان بعد ذلك ؟ فقيل : قال الملك : ما خطبكن - أي : شأنكن - إذ راودتن يوسف يوم الضيافة ؟ يعني : هل وجدتن منه ميلاً إليكن ؟ .
{ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } أي : قبيح ، بالغن في نفي جنسه عنه بالتنكير ، وزيادة ( من ) : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } أي : ثبت واستقر وظهر بعد خفائه { أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } .
قال الزمخشري : ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة ، واعترافهن على أنفسهن ، بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به ؛ لأنهن خصومه . وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق ، وهو على الباطل ، لم يبق لأحد مقال . انتهى .
~والفضل ما شهدت به الأعداء

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [ 52 ] .
{ ذَلِكَ } تقول امرأة العزيز : ذلك الذي اعترفت به على نفسي : { لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أي : ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة ، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه ، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ، ولا وقع المحذور الأكبر ، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع ، فاعترفت ليعلم أني بريئة { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } أي : لا يرضاه ولا يسدده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 53 ] .
{ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم } تريد : وما أبرئ نفسي مع ذلك ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته . أو تعني : أني ما أبرئ نفسي من الخيانة ، فإني قد خنته حين قرفته وقلت : { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ } ؟ وأودعته السجن ، تريد الاعتذار مما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء ، إلا نفساً رحمها الله بالعصمة ، كنفس يوسف .
ثم إن تأويل قوله تعالى : { ذَلكَ لِيَعْلَمَ } الآية - على أنه حكاية قول امرأة العزيز - قال ابن كثير : هو القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ، ومعاني الكلام . وقد حكاه الماوردي في تفسيره ، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله ، فأفرده بتصنيف على حدة . وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف ، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سواه . والمعنى : ذلك التثبت والتأني والتشمر لظهور البراءة ؛ ليعلم العزيز أني لم أخته بظهر الغيب في أهله ، أو ليعلم الله أني لم أخنه ؛ لأن المعصية خيانة . ثم أكد أمانته بقوله : { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره ، أي : سدده وأحسن عاقبته ، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته ، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى ، حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه ، ثم أراد أن يتواضع لله ، ويهضم نفسه ؛ لئلا يكون لها مزكياً ، وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً ، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده ، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته ، فقال : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي } أي : لا أنزهها من الزلل ، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية ، ولا أزكيها ، فإن النفس البشرية تأمر بالسوء ، وتحمل عليه بما فيها من الشهوات ، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ .
هذا خلاصة ما قرروه على أنه كلام يوسف . قال ابن كثير : والقول الأول أقوى وأظهر ؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك - والله أعلم - .
لطائف :
الأولى : محل قوله : ( بالغيب ) الحال من الفاعل أو المفعول ، على معنى : وأنا غائب أو غائبة عنه ، أو وهو غائب عني خفي عن عيني ، أو هو ظرف ، أي : بمكان الغيب ، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب .
الثانية : قيل معنى : { لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } أي : لا يهديهم بسبب كيدهم ، أوقعت الهداية المنفية على الكيد ، وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة ؛ لأنه إذا لم يهد السبب ، علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى .
وقيل : المعنى لا يهديهم في كيدهم ، كقوله تعالى : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ التوبة : من الآية 30 ] ، أي : في قولهم .
وقيل : هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده .
الثالثة : قال في " الإكليل " : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي } أصل في التواضع ، وكسر النفس وهضمها .
الرابعة : قال الزمخشري : لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة - ثم ساقها - وقال : وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله .
قال الناصر : ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت ، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة . ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل .
الخامسة : رأيت لابن القيم في " الجواب الكافي " في عجيب صبر يوسف وعفته ، مع الدواعي من وجوه . قال عليه الرحمة ، بعد أن مهد مقدمة في مفاسد عشق الصور العاجلة والآجلة : إنها أضعاف ما يذكره ذاكر ، فإنه يفسد القلب بالذات ، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال ، وفسد ثغر التوحيد . والله تعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس : وهم اللوطية والنساء ، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف ، وما راودته ، وكادته به ، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف لصبره وعفته وتقواه ، ومع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه . فإن موافقة الفعل ، بحسب قوة الداعي ، وزوال المانع ، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة وذلك لوجوه :
أحدها : ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء ، والجائع إلى الطعام ، حتى عن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ، ولا يصبر عن النساء ، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً ، بل يحمد .
الثاني : أن يوسف عليه السلام كان شاباً ، وشهوة الشباب وحدّته أقوى .
الثالث : أنه كان عزباً لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة .
الرابع : أنه كان في غربة يتأنى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه ، وبين أهله ومعارفه .
الخامس : أن المرأة كانت ذات منصب وجمال ، بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها .
السادس : أنها غير آبية ولا ممتنعة ، فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها ؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها ، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب ، كما قال الشاعر :
~وزادني كلفاً في الحب أن مُنعت أحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا
فطباع الناس مختلفة في ذلك ، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها ، وتضمحل عند إبائها وامتناعها ، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع ، ويشتد شوقه بكل ما منع ، ويحصل له من اللذة بالظفر بالضد نظير ما يحصل من لذة الظفر بعد امتناعه ونفاره . واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها وشدة الحرص على إدراكها .
السابع : أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد ، فكفته مؤنة الطلب ، وذل الرغبة إليها ، بل كانت هي الراغبة الذليلة ، وهو العزيز المرغوب إليه .
الثامن : أنه في دارها ، وتحت سلطانها وقهرها ، بحيث يخشى ، إن لم يطاوعها ، من أذاها له ، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة .
التاسع : أنه لا يخشى أن تنمي عليه هي ، ولا أحد من جهتها ، فإنها هي الطالبة والراغبة ، وقد غلقت الأبواب ، وغيبت الرقباء .
العاشر : أنه كان مملوكاً لها في الدار ، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ، ولا ينكر عليه ، وكان الأنس سابقاً على الطلب ، وهو من أقوى الدواعي ، كما قيل لامرأة من العرب : ما حملك على كذا ؟ قالت : قرب الوساد ، وطول السواد . تعني : قرب وساد الرجل من وسادتي ، وطول السواد بيننا .
الحادي عشر : أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال ، فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن ؛ لتستعين بهن عليه ، فاستعان هو بالله عليهن ، فقال : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ يوسف : من الآية 33 ] .
الثاني عشر : أنها توعدته بالسجن والصغار ، وهذا نوع إكراه ؛ إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به ، فيجتمع داعي الشهوة ، وداعي السلامة ، من ضيق السجن والصغار .
الثالث عشر : إن الزوج لم يُظهر من الغيرة والقوة ما يفرق به بينهما ، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه ، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف : { أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } [ يوسف : من الآية 29 ] ، وللمرأة : { اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [ يوسف : من الآية 29 ] ، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع ، وهنا لم يظهر منه غيرة .
ومع هذه الدواعي فآثر مرضاة الله وخوفه ، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى ، فقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : من الآية 33 ] ، وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه ، وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه ، وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة . انتهى كلام ابن القيم .
ثم أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره ، وإعلاء منزلته برحمته بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } [ 54 ] .
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي : أخصه بها ، دون العزيز ، جرياً على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز . قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه ، وكرم نفسه ، وسعة علمه : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أي : فلما أتوا به وكلمه ، أي : خاطبه الملك وعرفه ، وشاهد فضله وحكمته وبراءته - وجوز أن يكون فاعل ( كَلَّمَهُ ) يوسف عليه السلام - : { قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ } أي : ذو مكانة ومنزل : { أَمِينٌ } أي : مؤتمن على كل شيء .
روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك ، وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته ، وقال لهم : هل نجد مثله رجلاً مهبطاً للإمداد الرباني ؟ وقال ليوسف : بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك ، وأنت على بيتي ، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي ، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي ، وقد أقمتك على جميع أرض مصر . ونزع خاتمه من يده ، ووضعه في إصبعه ، وألبسه ثياب بز ، وجعل طوقاً من ذهب في عنقه وأركبه مركبته ، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر ، وينادى أمامه بالخضوع له ، وقال له الملك : لا يمضي أمر ، ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك ، وسماه : مخلص العالم ، وزوجه بنت أحد العظماء لديه . وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة - والله أعلم - .
قال بعضهم : إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام ، علم يقيناً أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه ، بل يحسن عاقبته ، ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة ، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى حدثان الدهر وتجاربه ، ولا يخاف صروفه ونوائبه ، فإن الله يعضده ويُنجح مسعاه ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار . فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيداً ولا للتجارب تهديداً . ولم يخف للسجن ظلماً وشراً ولا للتنكيل به ألماً وضراً ، بل ألقى توكله على الرب ، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب ؛ نال بطهارته وتقواه تاج الفخر ولسان الصدق طول أيام الدهر . وها إن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام ، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام ، بل ادخرت لنا مثالاً نقتفي أثره عند طروء التجارب ، وملاذاً نعوذ به في المحن والمصائب ، ومقتدى نتدرب به على التثبت في مواقف العثار ، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار . فننال في الدنيا سمة المجد ، ونفوز في الآخرة بدار الخلد .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ 55 ] .
{ قَالَ } أي : يوسف للملك : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ } أي : ولني خزائن أرضك . يعني جميع الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها ، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح ، ثم بين اقتداره في ذلك فقال : { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أي : أمين أحفظ ما تستحفظنيه ، عالم بوجوه التصرف فيه .
قال الزمخشري : وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هم طلبة الملوك ممن يولونه .
وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى ، وإقامة الحق ، وبسط العدل . والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله ، لا لحب الملك والدنيا .
فإن قلت : كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر ، ويكون تبعاً له ، وتحت أمره وطاعته ؟ .
قلت : روى مجاهد أنه كان قد أسلم ، وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر . وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه . وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق ، فله أن يستظهر به .
وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ، ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع له والمطيع . انتهى .
وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه ، لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه ، وجواز التولية عن الكافر والظالم . وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته ، وفي أن المتولي أمراً ؛ شرطه أن يكون عالماً به ، خبيراً ، ذكي الفطنة . كذا في " الإكليل " .
قال أبو السعود : وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله ، عليه السلام ، من جعله على خزائن الأرض ، إيذاناً بأن ذلك أمر لا مرد له ، غني عن التصريح ، ولا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها ، من قوله : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ، وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عز وجل ، وإنما الملك آلة في ذلك .
تنبيه :
قال ابن كثير : خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات . . . . . الخ .
ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات ، ولم أقف عليه في كلام غيره .
و ( الأهرام ) بفتح الهمزة ، جمع هرم بفتحتين ، وهي مبان مربعة الدوائر ، مخروطية الشكل ، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة ، بعيدة أميالاً عن القاهرة ، معدودة من غرائب الدنيا ، دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام 1321 هـ . وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم .
ففي كتاب " الأثر الجليل لقدماء وادي النيل " : جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس ، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم ، وتوخَّوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور ، وتراخي العصور ، وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك ( خوفو ) والثاني ( خفرع ) والثالث للملك ( منقرع ) وجميعهم من العائلة المنفيسية . ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب ، أو مدرسة للمعارف الكهنوتية ، أو غير ذلك . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 56 ] .
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ } أي : أرض مصر : { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا } أي : ينزل من بلادها : { حَيْثُ يَشَاء } وذلك أنه عليه السلام لما ولاه النظر على خزائن مصر ، تجول في قطرها ، وطاف قراها ، والأمر أمره ، والإشارة إشارته ، عناية منه تعالى ورحمة ، كما قال : { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : الذين أحسنوا عملاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ 57 ] .
{ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي : ثوابها خير من ثواب الدنيا للمؤمنين المتقين . إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة ، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والمُلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ 58 ] .
{ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف . وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين ، وأخرجت من بركاتها ما يعادل رمل البحر كثرة ، فجمع يوسف غلالها ، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول ، ولما مضت هذه السبع ، دخلت السنون المجدبة ، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما ، فأخذ الناس ، من سائر البلاد ، في المسير إلى مصر ليمتاروا منها ، لأنفسهم وعيالهم ؛ لما علموا من وجود القوت فيها . وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف ، عن أمر أبيهم يعقوب ؛ لتناول القحط بلادهم - فلسطين - فركبوا عشرة نفر ، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين ، شقيق يوسف ، خشية أن يلحقه سوء ، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف . فلما هبطوا مصر ، دخلوا على يوسف ، ولم يعرفوه لطول العهد ، ومفارقته إياهم في سن الحداثة ، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه ، وأما هو فعرفهم . روي أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض ، تحية له ، فشرع يخاطبهم متنكراً لهم ، وقال : من أين قدمتم ؟ قالوا : من أرض كنعان ، لنبتاع طعاماً . فقال لهم : أنتم جواسيس ، إنما جئتم لتجسوا ثغور الأرض . قالوا : معاذ الله ! ما جاء عبيدك إلا للميرة ؛ لأن الجهد أصابنا ، ونحن إخوة ، بنو أب واحد . قال : كم أنتم ؟ قالوا : كنا اثني عشر ، هلك منا واحد . قال : فكم أنتم هاهنا ؟ قالوا : عشرة . قال : فأين الأخ الحادي عشر ؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به من الهالك . قال : لا بد من امتحان صدق كلامكم ، فليبق واحد منكم عندي رهينة ، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم ، وأتوا بأخيكم الصغير إليَّ ، ليتحقق صدقكم . ثم أخذ شمعون ، واحتبسه عنده ، وأذن للبقية ، وأمر أن يعطوا زاداً للطريق ، وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } [ 59 ] .
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } بفتح الجيم ، وقرئ بكسرها ، أي : أوقر ركائبهم بالطعام والميرة { قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ } أي : أتمه : { وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } أي : المضيفين ، وقوله ذلك تحريض لهم على الإتيان به ، لا امتنان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } [ 60 ] .
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي } أي : فيما تستقبلون : { وَلاَ تَقْرَبُونِ } أي : ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية . فالياء محذوفة ، والنون نون الوقاية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } [ 61 ] .
{ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } أي : سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده ، ونجتهد في ذلك . وفيه تنبيه على عزة المطلب ، وصعوبة مناله - قاله أبو السعود - : { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } أي : ذلك . يعنون المراودة ، أو الإتيان به ، فيكون ترقياً إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 62 ] .
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } أي : لخدامه الكيالين : { اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ } يعني ببضاعتهم ، ما شروا به الطعام . روي أنها كانت فضة . أي : اجعلوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي : لكي يعرفونها { إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ } أي : وفتحوا أوعيتهم : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : حسبما أمرتهم به ، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين من أقوى الدواعي إلى الرجوع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ 63 ] .
{ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } أي : أنذرنا بمنعه بعد هذا ، إن لم نأت بأخينا { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } أي : نرفع المانع من الكيل ، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه ، وقرئ ( يكتل ) بالتحتية أي : أخونا لنفسه مع اكتيالنا { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي : من أن يناله مكروه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ 64 ] .
{ قَالَ } أي : يعقوب لهم : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ } أي : من قبله ، يوسف . يعني : هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق ، أكثر مما أخذت عليكم في يوسف ، وقد قلتم : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : من الآية 12 ] ، ثم خنتم بضمانكم ؟ فما يؤمنني من مثل ذلك ؟ فلا أثق بكم ، ولا بحفظكم ، وإنما أفوض الأمر إلى الله : { فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً } أي : منكم ومن كل أحد : { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي : أرحم من والديه وإخوته ، فأرجو أن يرحمني بحفظه . وهذا ميل منه إلى الإذن في إرساله معهم لما رأى فيه من المصلحة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } [ 65 ] .
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } أي : وجدوا دراهمهم ، ثمن طعامهم في متاعهم .
روي أن أحدهم فتح متاعه ليأخذ علفاً لدابته ، فرأى فضته في فم متاعه ، فقال لإخوته : قد ردت دراهمي وها هي في متاعي ، ثم لما وصلوا كنعان ، وأخذوا يفرغون أوعيتهم ، وجد كل واحد منهم صرة دراهمه في وعائه ، فاستطارت قلوبهم ، ودهشوا ، وحمدوا عناية الله بهم .
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي : ماذا نبتغي وراء ذلك ؟ هل من زيادة ؟ أي : لا مزيد على ما فعل ؛ لأنه أكرمنا ، وأحسن مثوانا ، بإنزالنا عنده ، ورد الثمن علينا . والقصد إلى استنزاله عن رأيه . أو : لا نبغي في القول ولا نكذب فيما حكينا لك ، من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره . أو : ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا ، وقرئ على الخطاب . أي : أي : شيء تطلب وراء هذا من الدليل على صدقنا ؟ .
{ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته ، كأنهم قالوا : كيف لا ، وهذه بضعتنا ردت إلينا تفضلاً من حيث لا ندري ؟ .
{ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } معطوف على مقدر مفهوم . أي : فنستظهر بها ، ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك ، أي : نأتيهم بميرة ، أي : بطعام . يقال : ( ماره ) أتاه بطعام ، ومنه : ( ما عنده خير ولا مير ) .
{ وَنَحْفَظُ أَخَانَا } أي : فلا يصيبه شيء مما تخافه : { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } أي : باستصحابه : { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي : سهل على هذا الملك المحسن لسخائه ، فلا يضايقنا فيه . أو المعنى قصير المدة ، ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير . أو المعنى : ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل ، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله . . .
وقال ابن كثير : هذا من تمام الكلام وتحسينه . أي : إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم لا يعدل هذا ، فلا يكون من كلامهم ، والجملة محتملة للكل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ 66 ] .
{ قَالَ } أي : لهم أبوهم : { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ } أي : بهذه المقالة : { حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } أي : عهداً منه ، ويميناً به ، لتردنّه عليَّ : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أي : تغلبوا كلكم ، فلا تقدرون على تخليصه . وأصله من : ( أحاط به العدو ) سد عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه .
{ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شهيد رقيب . والقصد حثهم على ميثاقهم بتخويفهم من نقضه بمجازاته تعالى .
قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك ؛ لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى بهم عنها .
لطيفة :
قال الناصر : ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر ، وهو قولهم : ( البلاء موكل بالمنطق ) فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْب } [ يوسف : من الآية 13 ] ، فابتلي من ناحية هذا القول . وقال ها هنا ثانياً : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أي : تغلبوا عليه . فابتلي أيضاً بذلك ، وأحيط بهم وغلبوا عليه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ 67 ] .
{ وَقَالَ } أي : أبوهم : { يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } أي : لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند ، ومن يعسّ للحاكم ، فيريب بهم ؛ لأن دخول قوم على شكل واحد ، وزيّ متحد ، على بلدهم غرباء عنه ، مما يلفت نظر كل راصد . وكانت المدن وقتئذ مبوبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها ، وعلى كل باب حرسه ، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه ، وإتباع البصر . وقيل : نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة - وسيأتي بيانه - .
{ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ } أي : لا أدفع عنكم بتدبيري شيئاً مما قضي عليكم ، فإن الحذر لا يمنع القدر .
قال أبو السعود : ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة ، كيف لا وقد قال عز قائلاً : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة } [ البقرة : من الآية 195 ] ، وقال : { خُذُوا حِذْرَكُمْ } [ النساء : من الآية 71 و 102 ] . بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة ، بل هو تدبير في الجملة . وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من العزيز القدير ، وإن ذلك ليس بمدافعة للقدر ، بل هو استعانة بالله تعالى ، وهرب منه إليه : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } أي : لا يشاركه أحد ، ولا يمانعه شيء : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 68 ] .
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } أي : من الأبواب المتفرقة : { مَّا كَانَ } أي : ذلك الدخول : { يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } أي : أبداها { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } أي : علم جليل ، لتعليمنا إياه بالوحي ، ونصب الأدلة ، حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر ، وأن التدبير له حظ من التأثير . وفي تأكيد الجملة بـ ( إن ) و ( اللام ) وتنكير العلم ، وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه ؛ من الدلالة على شأن يعقوب عليه السلام ، وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى - أفاده أبو السعود - .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : فيظنون الأسباب مؤثرات .
قال ابن حزم في " الملل " : كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة ، إشفاقاً عليهم ، إما من إصابة العين ، وإما من تعرض عدو ، أو مستريب بإجماعهم ، أو ببعض ما يخوفه عليهم . وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك ، وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك ؛ لا يغني عنهم من الله شيئاً يريده عز وجل بهم . ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام ، وفي سائر الأنبياء عليهم السلام ، كما قال تعالى حاكياً عن الرسل أنهم قالوا : { إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } [ إبراهيم : من الآية 11 ] ، حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب ، وإن كان ذلك لا يغني شيئاً ، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية - على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما - أن العين حق ، وأن الحذر لا يرد القدر . ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب . انتهى .
وقال بعض اليمانين : لهذه الجملة ثمرات وهي : استحباب البعد عن مضار العباد ، والحذر عنها . فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه . ثم قال : وفي " التهذيب " أن أبا علي أنكر الضرر بالعين ، وهو مروي عن جماعة من المتكلمين .
وصحح الحاكم والأمير الحسين وغيرهما جواز ذلك ؛ لأخبار وردت فيها .
ثم قال : واختلف من أين أتت المضرة الحاصلة بالعين ، فمن قائل : بأنه يخرج من عين العائن شعاع يتصل بمن يراه ، فيؤثر فيه تأثير السم . وضعفه الحاكم بأنه لو كان كذلك لما اختص ببعض الأشياء دون بعض ، ولأن الجواهر متماثلة ، فلا يؤثر بعضها في بعض . ومن قائل : بأنه فعل العائن . قال : وهذا لا يصح ؛ لأن الجسم لا يفعل في جسم آخر شيئاً إلا بمماسته ، أو ما في حكمها من الاعتمادات ، ولأنه لو كان فعله وقف على اختياره . ومن قائل : بأنه فعل الله ، أجرى الله العادة بذلك لضرب من الإصلاح . وصحح هذا الحاكم ، وهو الذي ذكره الزمخشري والأمير الحسين ، وهو قول أبي هاشم . ذكره عنهما في " التهذيب " . انتهى .
وقد أوضحه الرازي بقوله : قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي : إنه لا يمتنع أن تكون العين حقاً ، ويكون معناه : أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص ، وذلك الشيء ، حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به ، فهذا المعنى غير ممتنع . ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة ، وعدل عن الإعجاب ، وسأل ربه أن يقيه ذلك ، فعنده تتعين المصلحة . ولما كانت هذه العادة مطردة ، لا جرم قيل : العين حق . انتهى .
أقول : وقد بسط الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " هذا البحث بما يشفي ويكفي ، في " بحث هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العين " بعد إيراده ما روي في الصحيحين وغيرهما من حقية العين ، وشهرة تأثيرها عند العرب ، قال :
فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل ، أمر العين ، وقالوا : إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها ، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ، ومن أغلظهم حجاباً ، وأكثفهم طباعاً ، وأبعدهم عن معرفة الأرواح والنفوس ، وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها . وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا يدفع أمر العين ولا ينكره ، وإن اختلفوا في سببه ، وجهة تأثير العين . فقالت طائفة : إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الردية ، انبعثت من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر . قالوا : ولا يستنكر هذا ، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك ، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك ، فكذلك العائن .
وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة ، غير مرئية ، فتتصل بالمعين ، وتتخلل مسام جسمه ، فيحصل له الضرر .
وقالت فرقة أخرى : قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه ، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلاً . وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم . وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب ، وخالفوا العقلاء أجمعين . ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة ، ولا يمكن للعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام ، فإنه أمر مشاهد محسوس . وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحيي منه ، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه . وقد شاهد الناس من يسقم من النظر ، وتضعف قواه ، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها ، وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثير للروح ، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها ، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيناً ، ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره . وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية ، وهو أصل الإصابة بالعين ، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة تقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية . وأشبه الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السم كامن فيها بالقوة ، فإذا قابلت عدوها انبعث منها قوة غضبية ، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية ، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ، ومنها ما يؤثر في طمس البصر . كما قال صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات : < إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل > . ومنها ما يؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس ، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة . والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية ، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثير يكون تارة بالاتصال ، وتارة بالمقابلة ، وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية والرقي والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل . ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية ، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء ، فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره . وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية ، وقد قال الله تعالى لنبيه : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } [ القلم : من الآية 51 ] ، وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ الفلق : 1 - 5 ] ، فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد عائناً . فلما كان الحاسد أعم من العائن ، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن ، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعين نحو المحسود والمعين ، تصيبه العين تارة ، وتخطئه تارة ، فإن صادفته مكشوفاً لا وقاية عليه أثرت فيه ، ولا بد ، وإن صادفته حذراً ، شاكي السلاح ، لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه ، وربما ردت السهام على صاحبها . وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء ، فهذا من النفوس والأرواح ، وهذا من الأجسام والأشباح . وأصله من إعجاب العائن بالشيء ، ثم يتبعه كيفية نفسه الخبيثة ، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين . وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته ، بل بطبعه . وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني . وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : إن من عُرف بذلك ، حبسه الإمام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت . وهذا هو الصواب قطعاً ، انتهى كلام ابن القيم ، عليه الرحمة .
وقال الرازي : ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثره بحسب الكيفيات المحسوسة ، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق ، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض ، إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ، ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه . وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه ، فعلمنا أن التأثرات النفسانية موجودة .
وأيضاً إن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له ، حصل في قلبه غضب ، ويسخن مزاجه جداً ، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا لذلك التصور النفساني ، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية ، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص ، لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان ، فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان . وأيضاً جواهر النفوس مختلفة بالماهية ، فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ، ويتعجب منه . فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل ، والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه ، والنفوس النبوية نطقت به ، فعنده لا يبقى في وقوعه شك . وإذا ثبت هذا ، ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين ، كلام حق ، لا يمكن رده . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 69 ] .
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه ، ضم إليه أخاه بنيامين ، إما على الطعام ، أو في المنزل ، وأعلمه بأنه أخوه ، وقال له : لا تبتئس . أي : لا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى ، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا ، وجمعنا بخير .
وقد روي أنهم لما قدموا عليه ، ووقفوا بين يديه ، رأى أخاه بنيامين معهم ، فأمر بإنزالهم في بيته ، وحلولهم في كرامته وضيافته ، وحضورهم معه في غدائه . ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له ، وسألهم عن سلامة أبيهم ، ورفع طرفه إلى أخيه ، فأدناه وآواه إليه ، وآنسه بحديثه - كما ذكر في الآية - ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده ، فتواطأ مع فتيانه ، إذا جهز إخوته ، أن يضعوا سقايته في رحل أخيه ، كما بينه تعالى بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ 70 ]
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } أي : من الطعام : { جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } وهي جام فضة يشرب به يوسف ، وضعه في ميرة أخيه .
وقد روي أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا ، أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلاً عن المدينة ، ثم أمر أن يسعى في إثرهم ، ويؤذنوا بما فقد ، كما أشار إليه تعالى بقوله :
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ 71 - 72 ] .
{ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } معنى ( أذن ) نادى . يقال : آذنه : أعلمه ، وأذن أكثر الإعلام ، ومنه ( المؤذن ) لكثرة ذلك منه .
و ( العير ) : الإبل التي عليها الأحمال ، لأنها تعير ، أي : تذهب وتجيء ، وهو اسم جمع للإبل ، لا واحد له ، فأطلق على أصحابها . وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة ( عير ) . و ( الصواع ) هو السقاية المتقدمة ، إناء فضة .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح ، وما فيه الغبطة والصلاح ، واستخراج الحقوق .
قال ابن العربي : وفي إطلاق السرقة عليهم وليسوا بسارقين جواز دفع الضرر بضرر أقل منه .
وقوله تعالى : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } أصل في الجعالة .
وقوله : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أصل في الضمان والكفالة . انتهى .
ولما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } [ 73 ] .
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي : ما جئنا للسرقة ، أو لمطلق فساد ، وإنما جئنا للميرة ، وما كنا نوصف بالسرقة . وإنما استشهدوا بعلمهم على براءتهم ، لما تيقنوه من حالهم ، في كرّتي مجيئهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ 74 - 75 ] .
{ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ } أي : السارق : { إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } .
{ قَالُواْ } أي : لثقتهم ببراءتهم : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي : جزاء سرقته ، أخذ من وجد في رحله رقيقاً ، وهو قولهم : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقريراً لذلك الحكم وإلزامه ، أي : فأخذه جزاؤه لا غيره . ويجوز أن يكون : { جَزَاؤُهُ } مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر مقام المضمر ، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو .
{ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } أي : بالسرقة ، تأكيد إثر تأكيد ، وبيان لقبح السرقة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ 76 ] .
{ فَبَدَأَ } أي : فتي يوسف : { بِأَوْعِيَتِهِمْ } أي : ففتشها : { قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ } أي : بنيامين ، نفياً للتهمة : { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا } أي : السقاية : { مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أي : دبرنا لتحصيل غرضه : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : شرعه وقانونه . والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه . أي : ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك ، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق ، لإيصال يوسف إلى أربه ، رحمة منه وفضلاً . وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك ، وإلا لاستبد بما شاء ، وهذا من وفور فطنته وكمال حكمته . ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر ( ديناً ) لها والآيات في ذلك كثيرة .
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ } يعني : أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره ؛ لأن ذلك كله كان إلهاماً من الله ليوسف وإخوته ، حتى جرى الأمر وفق المراد .
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاءُ } أي : بالعلم ، كما رفعنا يوسف . وفي إيثار صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة ، غير مختصة بهذه المادة .
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } أي : من أولئك المرفوعين : { عَلِيمٌ } أي : فوقه أرفع درجة منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } [ 77 ] .
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } هذا تنصل منهم إلى العزيز بالتشبيه به أي : إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل ، يعنون به يوسف .
{ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } أي : منزلة ، حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ، ثم طفقتم تفترون على البريء .
{ وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } أي : من أمر يوسف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 78 ] .
{ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم ، طفقوا يعطفونه عليهم ، بأن له أباً شيخاً كبيراً يحبه حباً شديداً يتسلى به عن أخيه المفقود ، فخذ أحدنا بدله رقيقاً عندك .
قال بعضهم : الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقاً يتوسل به ، كما توسلوا بكبر يعقوب . وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ . انتهى .
وفي ما عزموا عليه لإنقاذ أخيهم من شرك العبودية ، المقضي عليه بها ، ما يشفّ عن حسن طوية ، ووفاء بالوعد ، ويعرب عن أمانة ، وصدق بر ، وشدة تمسك بموثق أبيهم ، محافظة على رضاه وإكرامه ، وهكذا فليتمسك البار بمراضاة أبويه .
وقولهم : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : إلينا ، فأتمم إحسانك بهذه التتمة . أو من المتعودين بالإحسان ، فليكن هذا منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } [ 79 ] .
{ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } أي : إن أخذنا بريئاً بمتهم ؛ لأنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره . قال بعضهم : إلا ما ورد في العقل .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ 80 ] .
{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } أي : يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس ، كما دل عليه ( السين والتاء ) فإنهما يزادان في المبالغة .
قال أبو السعود : وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس ، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه ، الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة ، وأنه مما يجب أن يحترز عنه ، ويعاذ بالله عز وجل ، ومن تسميته ( ظلماً ) بقوله : { إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } ، و ( خلصوا ) بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس ، خالصين ، لا يخالطهم سواهم ، و ( نجياً ) حال من فاعل ( خلصوا ) أي : اعتزلوا في هذه الحالة مناجين . وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع ؛ إما لأن النجي ( فعيل ) بمعنى ( مفاعل ) كالعشير والخليط ، بمعنى المعاشر والمخالط ، كقوله : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : من الآية 52 ] ، أي : مناجياً ، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً . يقال : هم خليطك وعشيرك أي : مخالطوك ومعاشروك . وإما لأنه صفة على ( فعيل ) بمنزلة صديق ، وبابه . فوحد لأنه بزنة المصادر ، كالصهيل والوحيد والذميل . وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي ، أطلق على المتناجين مبالغة ، أو لتأويله بالمشتق والمصدر ، ولو بحسب الأصل ، يشمل القليل والكثير ، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى ، ولذا قال الزمخشري : وأحسن منه - أي : من تأويل : { نَجِيّاً } بذوي نجوى ، أو فوجاً نجياً أي : مناجياً - إنهم تمحضوا تناجياً لاستجماعهم لذلك ، وإفاضتهم فيه ، بجد واهتمام ، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته ، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي : صفة يذهبون ، وما يقولون لأبيهم في شأن أخيهم ؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب ، فاحتاجوا إلى التشاور . انتهى .
لطيفة :
ذكر القاضي عياض في " الشفا " في ( بحث إعجاز القرآن ) : أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً } فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام .
وقال الثعالبي في كتاب " الإيجاز والإعجاز " في الباب الأول : من أراد أن يعرف جوامع الكلم ، ويتنبه لفضل الاختصار ، ويحيط ببلاغة الإيماء ، ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن ، وليتأمل علوه على سائر الكلام .
ثم قال : فمن ذلك قوله عز ذكره ، في إخوة يوسف : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن ، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه ، وما يوردون عليه من ذكر الحادث . فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة .
وقوله تعالى : { قَالَ كَبِيرُهُمْ } أي : في السن ، كما هو المتبادر ، وهو فيما يروى ، ( رَؤُبين ) : { أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ } أي : عهداً وثيقاً في رد أخيكم . وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم { وَمِن قَبْلُ } أي : قبل هذا : { مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ } أي : قصرتم في شأنه و ( ما ) إما مزيدة ، و ( من ) متعلق بالفعل بعده ، والجملة حالية ، وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء ، و ( من قبل ) خبره ، أو في موضع نصب عطفاً على معمول ( تعلموا ) . وإما موصولة بالوجهين ، أي : قدمتموه في حقه من الخيانة ، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعد ما قلتم : { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [ يوسف : من الآية 11 ] ، و : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : من الآية 63 ] .
{ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ } أي : فلن أفارق أرض مصر : { حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي } أي : في الرجوع : { أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي } أي : بالخروج من مصر ، أو بخلاص أخي بسببٍ ما : { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل .
ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } [ 81 ] .
{ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } أي : نُسبَ إلى سرقة صواع الملك : { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أي : ما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله .
تنبيه :
استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر . وكذا من سمع كلمة من وراء حجاب ؛ لعدم العلم به - كذا في " الإكليل " - ولا يخفى أن مثل هذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف .
{ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي : وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ 82 ] .
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } يعنون مصر . أي : أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة : { وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي : جئنا معها . وكان صحبهم قوم من كنعان : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي : فيما أخبرناك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ 83 ] .
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } معناه : فرجعوا إلى أبيهم ، فقالوا له ما قال لهم أخوهم . فقال : بل سولت ، أي : زينت وسهلت أنفسكم أمراً ، ففعلتموه .
لطيفة :
قال الزمخشري : أمراً أردتموه ، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته ، لولا فتواكم وتعليمكم ؟ ! .
قال الناصر : هذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال ، كأن قائلاً يقول : هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمراً بلا مراء ، وأما في هذه الوقعة الثانية ، فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءاً ، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته ، وما تركوه بمصر إلا بمغلوبين عن استصحابه ، فما وجه قوله ثانياً : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } كما قال لهم أولاً ؟ وإذا ورد السؤال على هذا التقرير ؛ فلا بد من زيد بسط في الجواب ، فنقول : كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين ، وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام ، وقامت عنده قرينة تؤكد نفي التهمة وتقويها ، وهي أخذ الملك له في السرقة ، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده ، لا من دين غيره من الناس ، ولا من عادتهم . وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } [ يوسف : من الآية 76 ] ، تنبيهاً من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم ، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به ، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمداً ؛ ليتخلف أخوهم ، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة ، فذكروا ما عندهم ، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا . واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه ، وخصوصاً فيما يرجع إلى الوالد من الولد . ويحتمل - والله أعلم - أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم ، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله ، سرقة ، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقاً بوجه معلوم ، وهذا في شرعنا لا يثبت لا سرقة عليه - ولله أعلم - .
وقوله : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } واقع بمكانه من حالهم ، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفاً لشرعنا ، فالعمدة على الجواب الأول .
وقوله تعالى : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي : لا جزع : { عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } أي : بيوسف وأخيه المتوقف بمصر ، فتذهب أحزانه بمرة واحدة : { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } أي : العليم بحالي وحالهم ، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر ، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [ 84 ] .
{ وَتَوَلَّى } أي : أعرض : { عَنْهُمْ } أي : عن بنيه كراهة لما جاؤوا به : { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي : يا حزني الشديد ، و ( الألف ) بدل من ياء المتكلم للتخفيف . وقيل : هي ألف الندبة ، والهاء محذوفة . و ( الأسف ) أشد الحزن والحسرة على ما فات ، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه ، والحادث رزأهما . والرزء الأحدث أشد على النفس ، وأظهر أثراً ؛ لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده ، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به ، ولأنه لم يُزل عن فكره ، فكان غضاً طرياً عنده ، كما قيل :
~ولم تُنسني أوفى المصيبات بعده وكل جديد يُذكر بالقديم
ولأنه كان واثقاً بحياتهما - دون حياته .
{ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ } وذلك لكثرة بكائه .
قال الزمخشري : إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين ، وقلبته إلى بياض كدر : { فَهُوَ كَظِيمٌ } أي : مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوؤهم . ( فعليل ) بمعنى ( مفعول ) كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : من الآية 48 ] ، أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن ؛ لأنه لم يشكه إلى أحد قط . فهو بمعنى ( فاعل ) .
تنبيه :
دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ .
قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن ، ولذلك حمد صبره ، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن .
ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : < إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون > .
وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب .
وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } [ 85 ] .
{ قَالُواْ } أي : أولاد يعقوب لأبيهم على سبيل الرفق به ، والشفقة عليه : { تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً } أي : مريضاً مشفياً على الهلاك : { أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } أي : بالموت . يقولون : إن استمر بك هذا الحال ، خشينا عليك الهلاك والتلف ، واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن . وقيل : إنهم علموه ، لكنهم نزَّلوه منزلة المنكر ، فلذا أكدوه . و : { تَفْتَأُ } مضارع فتئ ، مثلثة التاء . يستعمل مع النفي ملفوظاً أو منوياً ؛ لأن موضعه معلوم ، فيحذف للتخفيف كقوله :
~فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي : لا أبرح . ومعنى ( تفتأ ) : لا تزال ولا تبرح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 86 ] .
{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي } أي : غمي وحالي : { وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } أي : لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم ، إنما أشكو إلى ربي داعياً له ، وملتجئاً إليه ، فخلوني وشكايتي .
{ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ } أي : لمن شكا إليه من إزالة الشكوى ، ومزيد الرحمة : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ما يوجب حسن الظن به ، وهو مع ظن عبده به .
ولما علم من شدة البلاء مع الصبر ، قرب الفرج ، قوى رجاءهم ، وأمرهم أن يرحلوا لمصر ، ويتطلبوا خبر يوسف وأخيه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ 87 ] .
{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } أي : تعرَّفوا من نبئهما ، وتخبروا خبرهما : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ } أي : فرجه ورحمته المريحة من الشدة : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ } لم يُقل ( منه ) إشارة إلى ظهور حصوله لمن لم ييأس : { إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } أي : بالله ورحمته ، وقدرته على إفاضة الروح ، بعد مضي المدة في الشدة وسنته في إفاضة اليسر مع العسر ، لا سيما في حق من أحسن الظن به .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } [ 88 ] .
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي : على يوسف بعد ما رجعوا من مصر ، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازاً : { قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ } أي : الملك القادر المتمنع : { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } أي : الشدة من الجدب : { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } أي : بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره . استقلوا الثمن واستحقروه ؛ اتضاعاً لهيبة الملك ، واستجلاباً لرأفته وحنانه . وأصل معنى ( التزجية ) : الدفع والرمي ، فكنوا به عن القليل الذي يدفع ؛ رغبة عنه ، لذلك : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْل } أي : أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة ، كما توفره بالدراهم الجياد : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } أي : برد أخينا ، أو بالإيفاء ، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضاً : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } أي : يثيبهم أحسن المثوبة .
تنبيهات :
الأول : في الآية إرشاد إلى أدب جليل ، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب ، فإنها أنجح لها . وهكذا فعل هؤلاء : قدموا ما ذكر من رقة الحال ، والتمسكن وتصغير العوض ، ولم يفجؤوه بحاجتهم ؛ ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ، ببعث الشفقة ، وهز العطف والرأفة ، وتحريك سلسلة الرحمة - كما قدمنا - ومن ثم رق لهم ، وملكته الرحمة عليهم ، فلم يتمالك أن عرَّفهم نفسه ، - كما يأتي - .
الثاني : يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها .
الثالث : استدل بعضهم بقوله تعالى : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } على أن أجرة الكيال على البائع ؛ لأنه إذا كان عليه توفية الكيل ، فعليه مؤنته ، وما يتم به .
الرابع : استدل بقوله تعالى : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } من قال : إن الصدقة لم تكن محرمة على الأنبياء - كذا في " الإكليل " - وهذا بعد تسليم نبوة إخوة يوسف . وفيها خلاف . وسيأتي في التنبيهات ، آخر السورة ، تحقيق ذلك .
الخامس : في قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين } حثٌّ على الإحسان ، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى ، وإن لم يجزه المحسن إليه .
ثم بيَّن تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [ 89 ] .
{ قَالَ } أي : يوسف مجيباً لهم : { هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } أي : شبان غافلون ؟ استفهام تقرير ، يفيد تعظيم الواقعة . ومعناه : ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف ، وما أقبح ما أقدمتم عليه ! كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت ؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ يوسف : من الآية 15 ] .
لطائف :
الأولى : أبدى المهايمي مناسبة بديعة في قول يوسف لهم : { هَلْ عَلِمْتُم } إثر قولهم : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين } وهو أنهم أرادوا بقولهم : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين } أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيوي ، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل ، بوعد الأجر الآجل ، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل ، كأنكم تنكرونه ، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف ؟ .
الثانية : قيل : من تلطفه بهم قوله : { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } كالاعتذار عنهم ؛ لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه ، أسهل من فعله على علم . وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يُلفوا عذراً كهذا . ألا ترى أن موسى عليه السلام ، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال : { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } [ الشعراء : 20 ] ففيه تخفيف للأمر عليهم .
الثالثة : قال الزمخشري : فإن قلت : ما فعلهم بأخيه ؟ قلت : تعريضهم إياه للغم والثكل ، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه ، وجفاؤهم به ، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز ، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 90 ] .
{ قَالُواْ } أي : استغراباً وتعجباً من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف : { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ } أي : الذي فعلتم به ما فعلتم : { وَهَذَا أَخِي } أي : من أبويِّ .
قال أبو السعود : زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه ، وتفخيماً لشأن أخيه ، وتكملة لما أفاده قوله : { هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } حسبما يفيده قوله : { قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا } فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال ، فأنا يوسف ، وهذا أخي ، قد منَّ الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به ، والاجتماع بعد الفرقة ، والعزة بعد الذلة ، والأنس بعد الوحشة .
ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } أي : ربه في جميع أحواله : { وَيِصْبِرْ } أي : على الضراء ، وعن المعاصي { فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : أجرهم ، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر ، موصوفون بالإحسان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [ 91 ] .
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا } أي : فضَّلك بما ذكرت من التقوى والصبر ، وسيرة المحسنين : { وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } أي : وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين للذنب ، لم نتق ولم نصبر ، ففعلنا بك ما فعلنا ، ولذلك أوثرت علينا . وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار ، ولذلك :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ 92 ] .
{ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ } أي : لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريح : { عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } أي : وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم ، ولا إثم عليكم ؛ إذ : { يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ } أي : حقي لرضاي عنكم ، وحقه أيضاً لواسع رحمته ، كما قال : { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي : فكأنه لا خطأ منكم . و ( اليوم ) متعلق بالتثريب ، أو بالمقدر في ( عليكم ) من معنى الاستقرار . والمعنى : ولا أثرّبكم اليوم ، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب ، فما ظنكم بغيره من الأيام ؟ ! فتعبيره بـ ( اليوم ) ليس لوقوع التثريب في غيره ، لأن من لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره ، فبعده بطريق الأولى .
وقال الشريف المرتضى في " الدرر " : إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله :
~اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
ثم زادهم تكريماً بأن دعا لهم بالمغفرة ، لما فرط منهم بقوله : { يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ } .
وقوله : { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } تحقيق لحصول المغفرة ؛ لأنه عفا عنهم ، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم ، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء . وجوز تعلق ( اليوم ) بـ ( يغفر ) . والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله ؛ لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم . والوجه الأول أظهر . والثاني من الإغراب في التوجيهات .
تنبيه :
قال بعضهم : إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته ، وإبقاءه عليهم ، ومصافاته لهم ، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا ، ونحسن إليه ، ونصفي له الود ، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا ، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا ، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية . وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا ، ونقمنا منهم ، فينتقم الله منا ، ويوردنا مورد الثبور ، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا .
ثم قال لهم يوسف :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 93 ] .
{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أراد يوسف تبشير أبيه بحياته ، وإدخال السرور عليه بذلك ، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر ، ليكون في مقابلة القميص الأول ، جالب الحزن ، وغشاوة العين . و ( الإلقاء على وجهه ) بمعنى المبالغة في تقريبه منه ، لما ناله من ضعف بصره ، فتتراجع إليه قوة بصره ، بانتعاش قلبه ، بشمه واطمئنانه على سلامته . وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم ، وتقوية الأعضاء ، وقد جوَّد الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكي في " تذكرته " في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته .
وفي " الكنوز " من كتب الطب : الفرح ، إن كان بلطف ، فإنه ينفع الجسم ، ويبسط النفس ، ويريح العقل ، فتقوى الأعضاء وتنتعش . انتهى .
ثم رأيت الرازي عوَّل على نحو ما ذكرناه ، وعبارته : قال المفسرون : لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه . قال المحققون : إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ، ولولا الوحي ، لما عرف ذلك ؛ لأن العقل لا يدل عليه . ويمكن أن يقال : لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء ، وضيق القلب ، ضعف بصره ، فإذا ألقي عليه قميصه ، فلا بد أن ينشرح صدره ، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد ، وذلك يقوي الروح ، ويزيل الضعف عن القوى ، فحينئذ يقوى بصره ، ويزول عنه ذلك النقصان . فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب . فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى . انتهى .
ولعل الرازي عنى بالمحققين الصوفية ، أو من يقف على الظاهر وقوفاً بحتاً ، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد ، ينبغي التفطن له .
وقد جوز في قوله : { يَأْتِ بَصِيراً } أن يكون معناه : يصير بصيراً ، أو يجيء إليَّ بصيراً ، على حقيقة الإتيان فـ ( بصيراً ) حال . قيل : ينصره قوله : { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : بأبي وغيره ، وفيه نظر ؛ لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى . ولا يقال : الأصل الحقيقة ؛ لأن ذلك فيما يقتضيه السياق ، ولا اقتضاء هنا . فالأول أرق وأبدع ، لما فيه من التجانس .
روي أن يوسف عليه السلام ، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم : إن الله بعثني أمامكم لأحييكم ، وقد مضت سنتا جوع في الأرض وبقي خمس سنين ، ليس فيها حرث ولا حصاد . فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض ، ويستبقيكم لنجاة عظيمة . وقد جعلني سبحانه أباً لفرعون ، وسيداً لجميع أهله ، ومتسلطاً على جميع أرض مصر ، فبادروا وأشخصوا إلى أبي ، وأخبروه بجميع مجدي بمصر ، وما رأيتموه ، وقولوا له : كذا قال ابنك يوسف : قد جعلني الله سيداً لجميع المصريين ، فهلم إلي ، فتقم في أرض جاسان ، وتكون قريباً مني أنت وبنوك ، وبنو بنيك ، ومواشيك ، وجميع ما هو لك ، وأعولك ، ها هنا ، فقد بقي خمس سنين مجدبة ، فأخشى أن يهلك الأهل والمال . وكان نما الخبر إلى بيت فرعون . وقيل : جاء إخوة يوسف ، فسر بذلك فرعون وخاصته ، وأمره أيضاً بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم ، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم ؛ لئلا يأسفوا على ما خلفوا . ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد ، وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقداراً وافراً ، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك ، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم ، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق - والله أعلم - .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } [ 94 ] .
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } أي : خرجت من مصر . يقال : فصل القوم عن المكان وانفصلوا ، بمعنى فارقوه : { قَالَ أَبُوهُمْ } أي : لحفدته ومن حوله من قومه ، من عظم اشتياقه ليوسف ، وانتظاره لروح الله : { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } الريح : الرائحة ، توجد في النسيم . لأتنسم رائحته مقبلة إلي ، كناية عن تحققه وجوده بما ألقى الله في روعه من حياته ، وساق إليه من نسائم البشارة الغيبية بسلامته . وقد كان عظم رجاؤه بذلك من مولاه ، ووثق بنيل مأموله ومبتغاه ، ولذلك نهى بنيه عن الاستيئاس من روح الله . وإذا دنا أجل الضراء أخذت تهب نسائم الفرج حاملة عرف السراء ، يدري ذلك كل من قوي إحساسه ، وعظمت فطنته ، واستنارت بصيرته ، فيكاد أن يلمس في نهاية الشدة زهر الفرج ، ولا يحنث إن آلى أنه يجد من نسيمه أزكى الفرج . عرف ذلك من عرف ، فأحرى بمن نالوا من النبوة ذروة الشرف .
وإضافة الريح إلى الولد معروفة في كلامهم : وفي حديث عند الطبراني : < ريح الولد من ريح الجنة > وقال الشاعر :
~يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد
وقوله : { لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } بمعنى إلا أنكم تفندون . أو لولاه لصدقتموني . و ( فنده ) نسبه إلى الفند بفتحتين . وهو ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن .
قال في " العناية " : مأخوذ من الفند ، وهو الحجر والصخرة ، كأنه جعل حجراً لقلة فهمه ، كما قال :
~إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
ثم اتسع فيه فقيل : فنده ، إذا ضعف رأيه ، ولامه على ما فعله .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } [ 95 ] .
{ قَالُواْ } أي : حفدته ومن عنده : { تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } أي : لفي ذهابك عن الصواب المتقدم ، في إفراطك في محبة يوسف ، ولهجتك بذكره ، ورجائك للقائه ، وكان عندهم أنه مات أو تشتت ، فاستحال الاجتماع به ، وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 96 ] .
{ فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ } أي : المخبر بما يسرّه من أمر يوسف : { أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ } أي : طرح البشير القميص على وجه يعقوب ، أو ألقاه يعقوب نفسه على وجهه : { فَارْتَدَّ بَصِيراً } أي : عاد بصيراً لما حدث فيه من السرور والانتعاش : { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : من حياة يوسف ، وإنزال الفرج ، وجوَّز كون : { إِنِّي أَعْلَمُ } كلاماً مبتدأ . والمقول : { لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ } إن كان الخطاب لبنيه . أو : { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } إن كان لحفدته ومن عنده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [ 97 ] .
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } الضمير لبنيه . طلبوا أن يستغفر لهم لما فرط منهم ، أو لحفدته ومن عنده لقولهم : { إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } والأول أقرب وأصوب .
ولما كان من حق المعترف بذنبه أن يُصفح عنه ، ويسأل له المغفرة ، وعدهم بذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ 98 ] .
{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : سوف أدعوه لكم ، فإنه المتجاوز عن السيئات ، الرحيم لمن تاب .
قال المهايمي : صرحوا بالذنوب دون الله ؛ لمزيد اهتمامهم بها ، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره . وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب ، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل . انتهى .
وهذا من دقائق لطائف التنزيل ومحاسنها فيه .
تنبيه :
قيل : في هذه الآيات دلالة على جواز التبشير ببشائر الدنيا واستحبابه ، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا . وفيها دلالة على إرجاء الاستغفار والدعاء لوقت يرى أنه أحضر فيه قلباً من غيره أو أنه أفضل وأقرب للإجابة .
وقد روي أنه أخر الاستغفار إلى السحر . وتخصيص الأوقات الفاضلة بالاستغفار والدعاء معروف في السنة ، ومنه شرع الاستغفار في السحر ، وعقب الصلوات ، وقضاء الحج . وكان الدعاء في السجود ، وعند الأذان ، وبينه وبين الإقامة ، والإفطار من الصيام أقرب للإجابة مما عداه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ } [ 99 ] .
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } إشارة إلى ورود يعقوب وآله على يوسف . وذلك أنهم تخلوا عن آخرهم ، وترحلوا من بلاد كنعان ، وأركبوا أطفالهم ونساءهم على العجل التي بعث بها فرعون ، وصحبوا ماشيتهم وسرحهم ، وهبطوا أرض مصر - وروي أنهم كانوا سبعين نفساً - وتقدمهم يهوذا إلى يوسف ليدله على أرض ( جاسان ) فينزلونها . ثم خرج يوسف في مركبته ، فتلقى أباه في ( جاسان ) ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلاً . والمراد بدخولهم على يوسف وصولهم لملتقاه خارج البلد ، وبإيواء أبويه ضمهما إليه ، واعتناقهما واصطحابه لهما في مركبه . قالوا : عنى بأبويه والده وخالته ؛ لأن أمه راحيل توفيت وهي نفساء بأخيه بنيامين ، وتنزيل الخالة منزلة الأم ؛ لكونها مثلها في زوجة الأب ، وقيامها مقامها وتوقيرها ، كتنزيل العم منزلة الأب في قوله : { وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق } [ البقرة : من الآية 133 ] .
{ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ } أي : من القحط وأصناف المكاره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ 100 ] .
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي : أجلسهما معه على سرير ملكه تكريماً لهما : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً } أي : سجد له أبوه وإخوته الباقون ، وكانوا أحد عشر ، تحية وتكرمة له . وكان السجود عندهم للكبير يجري مجرى التحية عندنا .
{ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا } أي : السجود : { تَأْوِيلُ } أي : تعبير : { رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } أي : التي رأيتها أيام الصبا ، وهي سجود أحد عشر كوكباً والشمس والقمر : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } أي : صدقاً مطابقاً للواقع في الحسّ : { وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } أي : نجاني من العبودية ، وجعل الملك مطيعاً لي مفوضاَ إليَّ خزائن الأرض . وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه ، وفخامة شأنه من التواضع ، وتذكر ما سلف من الضراء ، استدامة للشكر ، ما فيه من أدب النفس الباهر . وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس ؛ لأنه كما قال عبد الملك بن العزيز ، لما كان في حبس الرشيد :
~ومحلة شمل المكاره أهلها وتقلدوا مشنوءة الأسماء
~دار يُهاب بها اللئام وتُتقى وتقل فيها هيبة الكرماء
~ويقول علج ما أراد ولا ترى حراً يقول برقة وحياء
~ويرق عن مس الملاحة وجهه فيصونه بالصمت والإغضاء
وقال شاعر من المسجونين :
~خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
~إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ويؤثر عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن : هذه منازل البلاء ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء ، وقبور الأحياء .
هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم ، فقال علي بن الجهم :
~قالوا حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهند لا يغمد ؟
~أو ما رأيت الليث يألف غابه كبراً وأوباش السباع تردد
~والبدر يدركه المحاق فتنجلي أيامه وكأنه متجدد
~ولكل حال معقب ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد
~والسجن ما لم تغشه لدنية شنعاء نعم المنزل المتورد
~بيت يجدد للكريم كرامة فيزار فيه ولا يزور ويحفد
وأحسن ما قيل في تسلية المسجونين قول البحتري :
~أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوساً على الجور والإفك
~أقام جميل الصبر في السجن برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك
نقله الثعالبي في " اللطائف واليواقيت " .
{ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } أي : البادية ، وقد كانوا أصحاب مواش : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ } أي : أفسد : { الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } أي : بالحسد . وأسنده إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته وإلقائه . وفيه تفادٍ عن تثريبهم أيضاً . وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعاً .
{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ } أي : لطيف التدبير له ، والرفق به { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } بوجوه المصالح : { الْحَكِيمُ } في أفعاله وأقضيته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ 101 ] .
{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } أي : بعضاً منه عظيماً ، وهو ملك مصر : { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } أي : تعبير الرؤيا : { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : مبدعهما وخالقهما : { أَنتَ وَلِيِّي } أي : مالك أموري : { فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي : من النبيين والمرسلين . دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك ، فسأل ربه عز وجل ، كما أتم عليه نعمته في الدنيا ، أن يحفظها عليه باقي عمره ، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام ، وألحقه بالصالحين . فليس فيه تمنٍّ للموت ، وطلب التوفي منجزاً كما قيل .
روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، إن كان محسناً فيزداد ، وإن كان مسيئاً فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي > . وفي رواية : < وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي > .
تنبيهان :
الأول : في فقه هذه الآيات : قال بعض اليمانين : يستدل مما روي أن يوسف خرج للقاء أبيه ، على حسن التعظيم باللقاء ، وكذا يأتي مثله في التشييع ، ومنه ما روي في تشييع الضيف : ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته - كما مر - أن من نسب رجلاً إلى خالته فقال : يا ابن فلانة ! لم يكن قاذفاً لها . ويستدل من رفعهما على العرش - وهو السرير الرفيع - جواز اتخاذه ، ورفع الغير ، تعظيماً للمرفوع ، ويستدل من قوله : { وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } على أن الانتقال منه نعمة ، وذلك لما يحلق أهل البادية من الجفاء ، والبعد عن موارد العلوم ، وعن رفاهة المدنية ، ولطف المعاشرة ، والكمالات الإنسانية ، وروي لجرير :
~أرض الحراثة لو أتاها جرول أعني الحطيئة لاغتدى حراثا
~ما جئتها من أي : وجه جئتها إلا حسبت بيوتها أجداثاً
وفي الحديث : < من بدا جفا > أي : من حل البادية . وفي آخر : < إن الجفا والقسوة في الفدادين > . ففي هذا دليل على حسن النقلة من البوادي إلى المدن . بزيادة .
الثاني : قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر . ومجمله : أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان ، فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان ، ثم أدخل أباه على فرعون ، فأكرمه وكلمه حصة . وسأله عن عمره ، فأجابه : مائة وثلاثون سنة ، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر ، وهي أرض رعمسيس ، أي : عين شمس ، وملكها إياهم ، ودعا له يعقوب ثم انصرف . ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته ، فمثلهم بين يدي فرعون ، فقال لهم : ما حرفتكم فأجابوه - كما أوصاهم يوسف - : نحن وآباؤنا رعاة غنم ! فقال فرعون ليوسف : إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق ، فأقمهم وكلاء على ماشيتي . وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعاماً على حسبهم . وأقاموا في أرض مصر بجاسان فتملكوا فيها ونموا وكثروا جداً ، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة ، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعاً وأربعين سنة . ولما دنا أجله قال ليوسف : لا تدفني بمصر إذا مت ، بل احملني منها إلى مدفن آبائي ، فأجابه لذلك . ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه ، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه ، فانتعش أبوه بمقدمه ، ورأى ولديه ، فقال : من هذان ؟ فقال : ابناي رزقنيهما الله ها هنا . فقال : أدنهما مني ، فأدناهما ، فقبلهما ، ودعا لهما ، وقال له : لم أكن أظن أني أرى وجهك ، والآن أراني الله نسلك أيضاً . ثم أعلم يوسف بدنو أجله ، وبشره بأن الله سيكون معكم ، ويردكم إلى أرض آبائكم ، ثم دعا بقية بنيه ، ودعا لهم بالبركة ، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه ، ويدفنوه مع آبائه في المغارة التي في حبرون ، وهي المعروفة اليوم بمدينة الخليل ، فإن فيها دفن إبراهيم ، وسارة امرأته ، وإسحاق ورفقة زوجته ، وليأة امرأة يعقوب . ولما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه فاضت روحه ، فوقع يوسف على وجه أبيه ، وبكى وقبله . ثم أمر الأطباء أن يحنطوه ويصبروه . ولما انقضت أيام التعزية به ، استأذن يوسف فرعون بأن يبرح لدفن أبيه ؛ عملاً بوصيته ، فأذن له وسار من مصر ، وصحبه إخوته آل أبيه وحاشيته ، ووجهاء مصر ، وأتباع فرعون في موكب عظيم ، إلى أن وصلوا أرض كنعان ، ودفنوه في المغارة - كما أوصى - ثم عاد بمن معه إلى مصر ، ولم يزل يوسف يرعى إخوته بالإكرام والإحسان ، إلى أن قرب أجله ، فأوصاهم بأن ينقلوه معهم إذا عادوا إلى الأرض التي كتبها الله لآبائهم . ثم توفي يوسف ، وهو ابن مائة وعشر سنين ، فحنطوه ، وجعلوه في تابوت بمصر .
هذا ما قصه قدماء المؤرخين ، والله أعلم بالحقائق . وإنما لم يذكر هذا القرآن الكريم ؛ لأن القرآن لم يبْنَ على قانون التاريخ ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار ، وإنما هي الآيات والعبر ، تجلت في سياق الوقائع ، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها ، وإنما يذكر موضع العبرة فيها ، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : من الآية 111 ] . وقوله : { وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : من الآية 120 ] . ومضى في المقدمة بسط هذا البحث ، فراجعه . وسنذكر إن شاء الله في السورة شيئاً من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف ، فانتظر .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [ 102 ] .
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، البعيد درجة كماله في جميع ما لا يتناهى من المحاسن والأسرار حتى صار معجزاً . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : هذا من أخبار الغيوب السابقة ، نوحيه إليك ، ونعلمك به ، لما فيه من العبرة والاتعاظ .
وقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } كالدليل على كونه نبأ غيبياً ووحياً سماوياً . أي : لم تعرف هذا النبأ إلا من جهة الوحي ؛ لأنك لم تحضر إخوة يوسف ، حين أجمعوا أمرهم على إلقاء أخيهم في البئر ، وهم يمكرون به ، إذ حثوه على الخروج معهم ، يبغون له الغوائل ، وبأبيهم في استئذانه ليرسله معهم ، أي : فلم تشاهدهم حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها .
قال أبو السعود : وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط ، بل سائر المشاهد أيضاً . وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة ، وأخفى أحوالها ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لكن المراد إلزام المكذبين . والمعنى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ؛ إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك ، إذ عدم سماعك ذلك من الغير ، وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضاً ، ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو ، فتبلغه إليهم . وفيه تهكم بالكفار ، فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم . وفيه أيضاً إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع . وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه . يعني : أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة ، وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي . ومثله قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عِمْرَان : من الآية 44 ] . وقوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ } [ القصص : من الآية 44 ] . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ 103 ] .
{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ } يريد به العموم ، أو أهل مكة : { وَلَوْ حَرَصْتَ } أي : جهدت كل الجهد على إيمانهم ، وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك : { بِمُؤْمِنِينَ } أي : بالكتب والرسل ؛ لميلهم إلى الكفر ، وسبيل الشر . يعني : قد وضح بمثل هذا النبأ نبوته صلوات الله عليه ، وقامت الحجة ، ومع ذلك فما آمن أكثر الناس ، كما قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 - 67 - 103 - 121 - 139 - 158 - 174 - 190 ] .
قال الرازي : ما معناه : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ؛ أن كفار قريش ، وجماعة من اليهود ، طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قص نبأ يوسف تعنتاً ، فكان يُظن أنهم يؤمنون إذا تلي عليهم ، فلما نزلت وأصروا على كفرهم ؛ قيل له : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ } الخ . وكأنه إشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : من الآية 56 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ 104 ] .
{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ } أي : على هذا النصح ، والدعاء إلى الخير والرشد : { مِنْ أَجْرٍ } أي : أجرة : { إِنْ هُوَ } أي : ما هو ، يعني القرآن : { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي : عظة لهم ، يتذكرون به ويهتدون وينجون في الدنيا والآخرة . يعني : أن هذا القرآن يشتمل على العظة البالغة ، والمراشد القويمة ، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالاً ، ولا جعلاً . فلو كانوا عقلاء لقبلوا ، ولم يتمردوا .
قال بعض اليمانين : في الآية دليل على أن من تصدر للإرشاد ، من تعليم ووعظ ؛ فإن عليه اجتناب ما يمنع من قبول كلامه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ 105 ] .
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } أي : وكم من آية على وحدانية الخالق ، وقدرته الباهرة ، ونعوته الجليلة ، في السماوات : من كواكبها وأفلاكها ، وفي الأرض : من قطع متجاورات ، وحدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وقفار شاسعات ، وحيوان ونبات ، وثمار مختلفات ، وأحياء وأموات ، يشاهدونها ولا يعتبرون بها .
قال الرازي : يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك ، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ، ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها ، واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة ، لا بد وأن تكون من أمور محسوسة ، وهي إما الأجرام الفلكية ، وإما الأجرام العنصرية . أما الأجرام الفلكية فهي قسمان : أفلاك وكواكب . أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع . وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته . وقد يستدل بأحوال حركاتها ، إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم ، فلا بد من محرك قادر ، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها ، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات . وأما الأجرام الكوكبية : فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها وأحيازها وحركاتها ، وتارة بألوانها وأضوائها ، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال ، والظلمات والنور .
وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية : فإما أن تكون مأخوذة من بسائط ، وهي عجائب البر والبحر ، وإما من المواليد وهي أقسام :
أحدها : الآثار العلوية ، كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح .
وثانيها : المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها .
ثالثها : النبات وخاصية الخشب والورق والتمر ، واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص ، وخاصية مخصوصة .
ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها .
وخامسها : تشريح أبدان الناس ، وتشريح القوى الإنسانية ، وبيان المنفعة الحاصلة فيها .
فهذه مجامع الدلائل .
ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين ، وحكايات الأقدمين ، وأن الملوك إذا استولوا على الأرض وخربوا البلاد ، وقهروا العباد ؛ ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر ، ثم بقي الوزر والعقاب .
ولما كان العقل البشري لا يفي بالإحاطة بشرح دلائل العالم الأعلى والأسفل ؛ ذكر في الكتاب العزيز مجملاً . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ 106 ] .
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ } أي : الناس ، أو أهل مكة : { بِاللّهِ } أي : في إقرارهم بوجوده وخالقيته : { إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } أي : بعبادتهم لغيره ، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً ، وبقولهم باتخاذه تعالى ولداً : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 43 ] .
تنبيه :
كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر ، وهو أن يعبد مع الله غيره . فإنها تشير إلى ما يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي ، الذي لا يشعر صاحبه به غالباً . ومنه قول الحسن في هذه الآية : ذاك المنافق ، يعمل إذا عمل رئاء الناس ، وهو مشرك بعمله . يعني : الشرك في العبادة . فصاحبه ، وإن اعتقد وحدانيته تعالى ؛ ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه ، أو طلب الدنيا ، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق ؛ فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب ، وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب . وهذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه ابن حبان في صحيحه : < الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل > . فالرياء كله شرك ، وهو محبط للعبادة ، مبطل ثواب العمل ، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجباً . فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة . قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } [ البينة : من الآية 5 ] ، فمن لم يخلص لله في عبادته ؛ لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به شيء غير المأمور ، فلا يقبل منه .
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه > .
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لَبِيد ، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : < إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ! قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء > .
ومن الشرك نوع غير مغفور ، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم ، بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله ، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً } [ البقرة : من الآية 165 ] الآية . وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم ، وقد جمعتهم الجحيم : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ، ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة ، وإنما سووهم به في الحب والتأله ، والخضوع لهم والتذلل . وهذا غاية الجهل والظلم ، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب ؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ، وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات ، العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم ؛ بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام ، من لوازم ذاته ؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأي حكم أشد جوراً منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه . أفاده الشمس ابن القيم في " الجواب الكافي " .
قال الحافظ ابن كثير : وثم شرك خفي لا يشعر به غالباً فاعله ، كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض ، فرأى في عضده سيراً فقطعه ، ثم قال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } .
وفي الحديث : < من حلف بغير الله فقد أشرك > رواه الترمذي عن ابن عمر وحسنه . وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الرقى والتمائم والتولة شرك > . ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ؟ قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح ، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة ، فأدخلتها تحت السرير . قالت : فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في عنقي خيطاً ، فقال : ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت : خيط رقي لي فيه ! فأخذه فقطعه ، ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الرقى والتمائم والتولة شرك > . قالت : قلت له : لم تقول هذا ، وقد كانت عيني تفرق ، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا رقاها سكنت ؟ ! فقال : إنما ذاك من الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا رقاها كفَّ عنها ، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : < أذهب الباس ، رب الناس ، اشف وأنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً > .
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من علق تميمة فقد أشرك > .
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك > .
وبما ذكر يعلم أن لفظ الآية يتناول كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان ، مع وجود مسمى الشرك ، فأهل الشرك الأكبر ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق إلا وهو مشرك به ، بما يتخذه من الشفعاء ، وما يعبده من الأصنام . وكذا أهل الشرك الأصغر من المسلمين ، كالرياء مثلاً ، ما يؤمن أحدهم بالله إلا وهو مشرك به ، بذلك الشرك الخفي . وعلى هذا ، فالشرك يجامع الإيمان ، فإن الموصوف بهما مما تقدم ، مؤمن فيما آمن به ، ومشرك فيما أشرك به . والتسمية في الشريعة لله عز وجل ولرسوله ، فلهما أن يوقعا أي : اسم شاءا على أي : مسمى شاءا . فكما أن الإيمان في اللغة التصديق ، ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات ، واجتناب المعاصي ، إذا قُصد بكل ذلك ، من عمل أو ترك ، وجه الله تعالى ؛ كذلك الشرك نقل عن شرك شيء مع آخر مطلقاً ، إلى الشرك في عبادته تعالى ، وفي خصائص ربوبيته .
قال ابن القيم :
حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق ، والتشبه للمخلوق به ، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية ، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء ، والخوف والرجاء ، والتوكل به وحده . فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فضلاً عن غيره مشبهاً بمن له الأمر كله ، جل وعلا . فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه ، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل ، مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون له وحده . ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون لغيره . فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير ، بمن لا شبيه له ، ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيه وأبطله . ولشدة قبحه ، وتضمنه غاية الظلم ؛ أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره ، مع أنه كتب على نفسه الرحمة . ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين ، لا قوام لها بدونهما : غاية الحب ، مع غاية الذل . هذا تمام العبودية . وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين . فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ؛ فقد شبهه به في خالص حقه ، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع . وقبحُه مستقر في كل فطرة وعقل ، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله الحسنى . إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود ، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به . ومنها التوكل ، فمن توكل على غيره فقد شبهه به . ومنها التوبة ، فمن تاب لغيره فقد شبهه به . ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً ، فمن حلف بغيره فقد شبهه به . هذا في جانب التشبيه . وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع ، والرجاء ، وتعليق القلب به ، خوفاً ، ورجاء ، والتجاء ، واستعانة ؛ فقد تشبه به ، ونازعه في ربوبيته وإلهيته ، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان ، ويذله غاية الذل .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : < يقول الله عز وجل : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحداً منهما عذبته > . وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده ، كملك الأملاك ، وحاكم الحكام ، ونحوه .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : < أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله > .
فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم ، الذي لا ينبغي إلا له ، فهو سبحانه ملك الملوك وحده ، يحكم عليهم كلهم ، ويقضي عليهم ، لا غيره .
وتتمة هذا البحث في " الجواب الكافي " لابن القيم ، فانظره .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 107 ] .
{ أَفَأَمِنُواْ } أي : هؤلاء المشركون : { أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ } أي : عقوبة تنبسط عليهم وتغمرهم : { أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي : فجأة : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : بإتيانها ، وهذا كقوله تعالى : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 45 - 46 - 47 ] ، وقوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 97 - 98 - 99 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 108 ] .
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } أي : هذه السبيل ، التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد ، سبيلي ، أي : طريقي ومسلكي وسنتي . والسبيل والطريق يذكَّران ويؤنثان . ثم فسر سبيله بقوله : { أَدْعُو إِلَى اللّهِ } أي : إلى دينه وتوحيده ، ومعرفته بصفات كماله ، ونعوت جلاله : { عَلَى بَصِيرَةٍ } أي : مع حجة واضحة ، غير عمياء { أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } أي : آمن بي ، يدعون إلى الله أيضاً على بصيرة ، لا على هوى { وَسُبْحَانَ اللّهِ } أي : وأنزهه وأجله وأقدسه عن أن يكون له شريك ، أو ندٌّ أو كفءٌ أو ولد أو صاحبة ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً { وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : على دينهم .
تنبيهات :
الأول : قال السمين : { أَدْعُو إِلَى اللّهِ } يجوز أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالاً من الياء ، و : { عَلَى بَصِيرَةٍ } حال من فاعل : { أَدْعُو } أي : أدعو كائناً على بصيرة ، وقوله : { وَمَنِ اتَّبَعَنِي } عطف على فاعل : { أَدْعُو } ولذلك أكد بالضمير المنفصل . ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف ، أي : ومن اتبعني يدعو أيضاً ، ويجوز أن يكون : { عَلَى بَصِيرَةٍ } خبراً مقدماً ، و : { أَنَا } مبتدأ مؤخراً و : { مَنِ اتَّبَعَنِي } عطف عليه ، ومفعول : { أَدْعُو } إما منوي ، أي : الناس ، أو منسي .
الثاني : دل قوله تعالى : { عَلَى بَصِيرَةٍ } على مزية هذا الدين الحنيف ، ونهجه الذي انفرد به ، وهو أنه لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته ، ولكنه ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين ، وكرَّ عليها بالحجة ، وخاطب العقل ، واستنهض الفكر ، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان ، على أنظار العقول ، وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه - انظر " رسالة التوحيد " في تتمة ذلك .
الثالث : دلت الآية على أن سيرة أتباعه صلى الله عليه وسلم ، الدعوة إلى الله .
قال الرازي : كل من ذكر الحجة ، وأجاب عن الشبهة ؛ فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله . وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط ، وأن يكون على بصيرة مما يقول ، وعلى هدى ويقين ، فإن لم يكن كذلك ، فهو محض الغرور . انتهى .
ولا يخفى أن الدعوة إلى الله إنما هي بنشر مطالب الدين وإذاعة آدابه وتعليمه .
قال بعضهم : ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته ومجالسته لهم ، في بيان الواجبات والمحرمات ، ونوافل الطاعات ، وذكر الثواب والعقاب ، على الإحسان والإساءة . ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها ، ويزيد بياناً للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها ، ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم ، وهو يعلم أنهم محتاجون إليه ، ومضطرون إليه ، فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال . والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين ، علماً وعملاً ، فلا ينبغي للعلماء أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم ، فيعم الهلاك ، ويعظم البلاء . وقلما تختبر عامياً - وأكثر الناس عامة - إلا وجدته جاهلاً بالواجبات والمحرمات ، وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها . وإن لم يوجد جاهلاً بالكل ، وجد جاهلاً بالبعض . وإن علم شيئاً من ذلك ، وجدت علمه به علماً مسموعاً من ألسنة الناس ، لو أردت أن تقلبه له جهلاً فعلت ذلك بأيسر مؤونة ، لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه . وعلى الجملة ، فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم ، ويحدثوهم به ، ويبثوه لهم ، ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاؤوا من أجله ، مثل ما إذا جاؤوا لعقد نكاح ، يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف . أو لعقد بيع ، يكون كلامه في صحيح البيوع وآدابها ، وفوائد التجارة النافعة ، واجتناب الغش والخداع وهكذا . ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين ، ولا أن يصرف شيئاً من أوقاته في غير إقامة الدين . وبالسكوت عن التذكير والتعليم ، يغلب الفساد ، ويعم الضرر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 109 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي : لا ملائكة من أهل السماء ، رد لقول المشركين : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَة } [ فصلت : من الآية 14 ] ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } [ الفرقان : من الآية 20 ] [ في المطبوع وقع خطأ في الآية ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] . وقوله : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل } [ الأحقاف : من الآية 9 ] الآية .
واحتج بقوله تعالى : { إِلاَّ رِجَالاً } على أنه لم ينتظم في سلك النبوة امرأة .
والقرى : جمع قرية ، وهي على ما في " القاموس " : المصر الجامع ، وفي " كفاية المتحفظ " : القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية ، واتخذ قراراً . وتقع على المدن وغيرهما . انتهى .
قال ابن كثير : والمراد بالقرى هنا المدن . أي : لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً . وهذا هو المعهود المعروف : أن أهل المدن أرق طباعاً ، وألطف من أهل بواديهم . وأهل الريف والسواد أقرب حالاً من الذين يسكنون في البوادي . ولهذا قال تعالى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الآية [ التوبة : من الآية 97 ] .
قال قتادة : إنما كانوا من أهل القرى ؛ لأنهم أعلم وأحلم من أهل العُمور .
وقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } أي : هؤلاء المكذبون { فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ } أي : نظر تفكر { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المكذبة ، كقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } الآية [ الحج : من الآية 46 ] ، فإذا استمعوا خبر ذلك ؛ رأوا أن الله أهلك الكافرين ، ونجى المؤمنين . وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ، ولهذا قال تعالى : { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ } أي : الشرك والفواحش ، وآمنوا بالله ورسله وكتبه .
قال ابن كثير : أي : وكما نجينا المؤمنين في الدنيا ، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة ، وهي خير لهم من الدنيا ، كقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : تستعملون عقولكم ، فتعلموا أن الآخرة خير ، أو تعلموا كيف عاقبة أولئك .
ثم بيَّن تعالى أن العاقبة لرسله ، وأن نصره يأتيهم إذا تمادى تكذيبهم ، تثبيتاً لفؤاده صلى الله عليه وسلم ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ 110 ] .
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } أي : من إجابة قومهم { وَظَنُّواْ } أي : علموا وتيقنوا ، يعني : الرسل { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا } يقرأ : { كُذِّبُوا } بضم الكاف وتشديد الذال . أي : كذبهم قومهم بما جاؤوا به ؛ لطول البلاء عليهم . ويقرأ بضم الكاف وتخفيف الذال ، فالضمير في : { ظَنَّوا } - على ما اختاروه - للقوم . أي : ظنوا أن الرسل قد كذبوا . أي : ما وعدوا به من النصر .
وروي عن ابن عباس أن الضمير للرسل . أي : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر . وقال : كانوا بشراً ، وتلا قوله تعالى : { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّه } [ البقرة : من الآية 214 ] ، وقد استشكلوه على ابن عباس ، وتأولوا لكلامه وجوهاً .
قال الزمخشري : أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب ، من شبه الوسوسة ، وحديث النفس ، على ما عليه البشرية . انتهى .
وقيل : المراد بظنهم عليهم السلام ذلك ؛ المبالغة في التراخي والإمهال ، على طريق الاستعارة التمثيلية ، بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب ، باعتبار استلزام كل منهما ؛ لعدم ترتب المطلوب ، فاستعمل ما لأحدهما للآخر .
وقال الخطابي : لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تُكْذَبُ بالوحي ، ولا تشك في صدق المخبر ، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم ، لطول البلاء عليهم ، وإبطاء النصر ، وشدة استنجاز ما وعدوا به - توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسباناً من أنفسهم ، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك ، فيكون الذي بني له الفعل أنفسهم ، لا الآتي بالوحي . والمراد بـ ( الكذب ) : الغلط ، لا حقيقة الكذب ، كما يقول القائل : كذبتك نفسك .
قال الحافظ ابن حجر : ويؤيده قراءة مجاهد : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذِبُواْ } بفتح أوله مع التخفيف أي : غلطوا . ويكون فاعل ( وظنوا ) الرسل .
وقال أبو نصر القشيري : ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل ، فصرفوه عن أنفسهم . أو المعنى : قربوا من الظن ، كما يقال : بلغت المنزل ، إذا قربت منه .
وقال الترمذي الحكيم : وجهه : أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر ؛ أن يتخلف النصر ، لا من تهمة بوعد الله ، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط ، فكان الأمر إذا طال ، واشتد البلاء عليهم ؛ دخلهم الظن من هذه الجهة .
وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال : ما روي عن ابن عباس غير معول عليه ، وأنه ليس من كلامه ، بل تؤول عليه .
قال ابن حجر : وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس ، فإنه صح عنه ، أي : فرواه البخاري في تفسير البقرة بلفظ : ذهب بها هناك ، وأشار إلى السماء ، وزاد الإسماعيلي عنه : كانوا بشراً ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا .
وروى البخاري أن عائشة كانت تقرأ ( كذبوا ) مشددة ، وتتأولها على المعنى الأول ، وأن عروة قال لها : لعلها ( كذبوا ) مخففة ، فقالت : معاذ الله ! .
قال الحافظ ابن حجر : وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف ، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك ، وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء : عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي . ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع . وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي ، والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين .
وقوله تعالى : { فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء } وهم الرسل والمؤمنون بهم . وقرئ ( فننجي ) بالتخفيف والتشديد . وقرئ ( فنجا ) .
{ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } أي : عذابنا : { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } أي : إذا نزل بهم .
وفيه بيان من شاء الله نجاتهم ؛ لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين ، وهم من تقدم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 111 ] .
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } الضمير ليوسف وإخوته ، أو للأنبياء وأممهم . ورجح الزمخشري الثاني بقراءة ( قصصهم ) بكسر القاف ، جمع قصة . والمفتوح مصدر بمعنى المفعول . وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة ، وقد يطلق الجمع على الواحد ، كما مر في : { أَضغَاثُ أَحْلاَمٍ } وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى .
{ مَا كَانَ } أي : القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة : { حَدِيثاً يُفْتَرَى } أي : يختلق { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة ، فهو يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير .
قال بعض المحققين : المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة ، بدليل وجود أمثالها بين الناس ، قبل نزوله . فهي وإن اختلفت قليلاً في بعض التفاصيل والجزئيات ، عما يرويه الناس ، إلا أن توافقها في الجملة ، وتصدقها في الجوهر ، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله ، بل اسألوا عنها أهل الكتاب ، تجدوا أنها معروفة بينهم ، ومروية في كتبهم ، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل من أعظم ما يصدقه ويؤيده ؛ لأن النبي صلوات الله عليه ، لم يطلع على كتب أهل الكتاب . ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما ، كلا إذ لو صح هذا لما قال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النمل : 76 ] ، فقصصه قد تختلف عما عندهم ، وتبين لهم حقه من باطله . فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة ، ومخالفته لها في بعض الجزئيات - كما قلنا - ويجوز أن يكون المراد بقوله : { تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } تصديق الحق الذي عندهم ، لا كل الذي عندهم ، وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها ، مما جاء القرآن لإزالته ومحقه ، ويستحيل أن يكون مصدقاً لما جاء لإبطاله . فتنبه لذلك . ولا تكن من الغافلين . انتهى .
وقوله تعالى : { وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام ، والآداب والأخلاق ، ووجوه العبر والعظات ، ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغي إلى الرشاد ، ومن الضلال إلى السداد ، وتبتغي به الرحمة من رب العباد ، كما قال تعالى : { وَهُدًى } أي : من الضلالة : { وَرَحْمَةً } أي : من العذاب : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون به ، ويعلمون بأوامره ، فإن الإيمان قول وعقد وعمل . وخصهم لأنهم المنتفعون به .
خاتمة في مباحث مهمة :
الأول : فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص .
قال في " اللباب " : الاعتبار والعبرة : الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد . والمراد منه التأمل والتفكر . ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه ، وإخراجه من السجن ، وتمليكه مصر بعد العبودية ، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة ، واليأس من الاجتماع ؛ قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه . وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب ، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : إن قصة يوسف الصديق ، جمة الفائدة ، وجليلة العائدة ، تحدو بكل امرئ أبيّ إلى الإقتداء بها . فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام رآها رغيدة ، وألفاها هنيئة ، وما ذلك إلا لطيب سيرته ، وحميد سريرته ، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة ، ولا سيما فضيلة العفة والطهارة ، التي ترفع قدر صاحبها ، وتنزله المنزلة السامية . فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة ، كيوسف ، فيتسنم ذروة المجد في هذه الدنيا ، وينال السعادة الدائمة في الآخرة . انتهى .
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة من جملة ما قص على النبي ، صلوات الله عليه ، من أنباء الرسل ، وأخبار من تقدمه ، مما فيه التثبت المشار إليه في قوله تعالى : { وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْك } [ هود : من الآية 120 ] الآية . وإنما أفردت على حدتها ، ولم تنسق على قصص الرسل ، مع أنهم في سورة واحدة ؛ لمفارقة مضمونها تلك القصص . ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام ، وكيفية تلقي قومهم لهم ، وإهلاك مكذبيهم ؟ أما هذه القصة ، فحاصلها : فرج بعد شدة ، وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره ، وشتات بنيه . وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن . ثم امتحن جميعهم بشمول الضر ، وقلة ذات اليد : { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرّ } [ يوسف : من الآية 88 ] الآية . ثم تداركهم الله بإلفهم ، وجمع شملهم ، ورد بصر أبيهم ، وائتلاف قلوبهم ، ورفع ما نزغ به الشيطان ، وخلاص يوسف عليه السلام ، وبكيد من كاده ، واكتنافه بالعصمة ، وبراءته عند الملك والنسوة ، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر ، وجلالة اليقين ، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم ، على توالي الامتحان ، وطول المدة . ثم انجرّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز ، ورجوعها إلى الحق ، وشهادتها ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين . ثم استخلاص العزيز إياه ، إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر . فقد انفردت هذه القصة بنفسها ، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ، وما جرى في أممهم ، فلهذا فصلت عنهم . وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طي ذلك . وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } [ النور : من الآية 55 ] إلى قوله : { أَمْنَاً } وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر ، وهجرتهم ، وتشققهم مع قومهم ، وقلة ذات أيديهم ، إلى أن جمع الله شملهم : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عِمْرَان : من الآية 103 ] ، وأورثهم الأرض ، وأيدهم ونصرهم ، وذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم . فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص - والله أعلم - .
ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام ، في صبرهما ، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا ، وما أعد لهما من عظيم الثواب ، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش ، ومفارقة وطنه ، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدوه ، وإعزاز دينه ، وإظهار كلمته ، ورجوعه إلى بلده ، على حالة قرت بها عيون المؤمنين ، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه ، فتأمل ذلك ! ويوضحه ختم السورة بقوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُل } [ يوسف : من الآية 110 ] . فحاصل هذا كله الأمر بالصبر ، وحسن عاقبة أولياء الله فيه - كذا في تفسير " البرهان " للبقاعي ملخصاً - .
وجاء في كتاب " النظام والإسلام " في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله :
طال الأمر على أمتنا ، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة ، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال . يا ليت شعري ! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ، وأهملت أمرها ، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين . القصص في كل أمة ، عليها مدار ارتقائها ، سواء كانت وضعية أم حقيقية ، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد . على هذا تبحث الأمم ، قديمها وحديثها . وناهيك بكتاب " كليلة ودمنة " وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام ، ككتاب " فاكهة الخلفاء " و " مقامات الحريري " . جاء القرآن بقصص الأنبياء ، وهي - لا جرم أعلى منالاً ، وأشرف مزية . كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب ، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه ، والقدوة الحسنة للكمل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم ، وتحققها في أنفسها ، لوقوع مواردها ، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان ، لا سيما لمن يقتدي بهم . فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص ، ونقصت في سواها . أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن ، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان ، ومرت كأمس الدابر ؟ ! وما لنا ولها إذن ؟ تالله إن هذا لهو البوار ! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها ، وإنها عبرة لمن اعتبر ، وتذكرة لمن تفكر ، وتبصرة لمن ازدجر . أما الرجوع إلى التاريخ ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم ، وما سطره الأقدمون على مباينتهم ، وما يقوله القاصون في خرافتهم ؛ فتلك سبيل حائد عن الجادة ، يضل فيه الماهرون ، يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف ، وكيف يقول : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } [ الكهف : من الآية 22 ] فانظر كيف أسند العلم لله ، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين ، ثم لم يبين الحقيقة ؛ لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل . فإن قال : خمسة ، قالوا : ستة ، وإن قال : أربعة ، قالوا سبعة . فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص ، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة . وبالإجمال : فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها ، والعبر المبصرة للسامعين : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } .
ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان ، فلا نعتمد إلا على البرهان . تأمل هذا القصص ، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح ، ويعرض عن كثير من الوقائع ، إذ لا لزوم له ، ولا معول عليها . فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق ، وحجج عقلية ، وتبصرة وتذكرة ، ومحاورات جملية ، تلذ العقلاء . ولأقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام ، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق ، من مدنية المصريين وأحوالهم ، إلى الخلاصة والثمرة . ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا ؛ دلالة على أن للطفل استعداداً يظهر على ملامحه ، وأقواله ، وأفعاله ، ورؤياه ؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء ، من اليونان والفرس ، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق ، كانوا يختبرون أبناءهم ، ويتأملون ملامحهم ؛ ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم . ثم تأمل في قصة الإخوة ، وحديث القميص والجب والذئب والدم ؛ لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي ، والخلق المرضي ، والجلال الظاهر على ملامحه ، فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه ؛ دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبياً ، ولا حكيماً ، ولا عالماً مهما حسنت أخلاقه وجمل ظاهره وباطنه . . . . . ! .
~كل العدوات قد تُرجى إزالتها إلا عداوة من عاداك من حسد
جرت تلك السنة في الأناسي ، فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم ، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين ، وعادوا من آذاه ! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز ، وكيف عف مع الشباب ، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة ، وأرضى إلهه ، واتسم بالفضيلة ، فتوازى جماله الباطني والظاهري . . ! ولنكتف بهذا القدر الآن ، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح ، التي تضمنتها تلك القصة ! .
فأما علم الأخلاق ، وتربية رؤساء الأمم منها ، فتأمل في كلام الحكماء - أولهم وآخرهم - تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولاً فالمنزل فالمدينة ، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها ؛ إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه ، أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله ! .
بايع الصحابة - عليهم رضوان الله - الخليفة الأول ، فأخذ قماشاً وذراعاً وذهب إلى السوق في الغداة ، فاستاء الصحابة ولاموه ، فقال : إذا أضعت أهلي ، فأنا للمسلمين أضيع ! ففرضوا له دريهمات من بيت المال ، فقال : إذن أنظر في شؤونكم ! لذلك نجد الغربيين - إذا ولوا رجلاً إدارة بلادهم - أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله ، علماً منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة .
فانظر هذه الحقائق من سيرة النبي يوسف الصديق كيف ذكرت في الكتب السماوية ، ورتبت في القرآن ترتيباً محكماً ، ذكرت فيها السياسات الثلاث مرتبة هكذا : النفس فالمنزل فالمدينة ، ترتيباً طبيعياً ، تنبيهاً لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة . فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق . وليت شعري ! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم ، وعبد الله وحده ، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة . . . ؟ ! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كل جانب ، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده ، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم . . !
ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية ، فلم يكن ذلك كافياً لإدارة أموره العامة ، فأودع السجن ، وأحيط بالأحداث والجهلة من كل جانب ، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله ، وبث عقيدته بينهم ، ظاهراً بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم : { قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِه } [ يوسف : من الآية 37 ] الآية . وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه ، وحبه لمذهبهم ، وبغضه لأصنام المصريين ونحوهم ، فقال : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ يوسف : من الآية 37 ] الآية . ثم أخذ يذكرهم أن تفرق وجهة الأمة ضلال في السياسة ، وأن توحيد وجهتها كياسة فيها ، فقال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] ، فتفريق الوجهة شتات الجامعة . لم تَسُدْ أمة في الوجود إلا برجال يوحدون وجهتها أياً كانت ، فيؤمون مقصداً واحداً ! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب . . ! .
وفي " آراء أهل المدينة الفاضلة " للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهن قوم اتحدت بها : كاللغة ، والوطن ، والدين ، والأخلاق ، والجنس ، والحكيم المرشد ، والأب الأكبر ، ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة .
ولما تم له ، عليه السلام ، الأمران - سياسة النفس والعشيرة - أخرج من السجن معظماً مبجلاً ، وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش ، وأخذ يربهم كيف يقتصدون الأموال ، وعبر لهم السنبلات الخضر واليابسات ، والبقرات السمان والعجاف ، وأرشدهم إلى خزن البر وسنابله ؛ لئلا يفسد ، وغير ذلك من الأمور العامة . وهذه هي المرتبة الثالثة : سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين .
والبراعة والكياسة في علوم العمران ، وتدبير أمر الأمة ، إما بوحي ، وهذا خاص به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام ، وإما بتعليم وتدريب ، وهو اللائق بسائر الناس .
ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير ، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر ، فإنه لا بد يوماً ما أن يصل إلى الأكابر ، كما في حديث هرقل مع أبي سفيان ، وتعليم الصديق من في السجن . فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين .
ابتلي هذا النبي بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه ، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال ، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق ، وتنسى بها أصول الأعراق ، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة ، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص ! .
وهذه قصة يوسف - الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدنية إلى الرذيلة - جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة ! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال ، فساس مصر بعد أن كان مسوساً ، وملك بعد أن كان مملوكاً ! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصاً بالآخرة ، بل في الدارين : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يوسف : 56 - 57 ] .
هذه هي الأخلاق الفاضلة ، ذكرت في التنزيل نموذجاً ، في غضون هذه السيرة ، للأمم الإسلامية ؛ ليأخذوا ثمرتها ولا يضيعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ ، كما يجمد المفسر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة ، وهذا غيض من فيض من حكم هذه القصة ، وبها نفهم ما ذكر في أولها : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [ يوسف : من الآية 3 ] ، دع قول الجاهلين ، وفهم المتنسكين ، وتجاوز خلط المؤرخين ، واختلافهم ، واصغ إلى ما في هذه القصة من هيئة تربية الحكام والأمراء ، كما أشرنا سابقاً ، ولنزدك بياناً ! :
قال علماء الأخلاق والحكماء : لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين ، ورجال أعمال قائمين ، وفضلاء مرشدين هادين ، لهم شروط معلومة ، وأخلاق معهودة ؛ فإن كان القائم بالأعمال نبياً فله أربعون خصلة ذكروها . كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته . وإن كان رئيساً فاضلاً لمدينة فاضلة ، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها . وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين . ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال ؛ إذ قد حاز الملك والنبوة ! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها ، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة ؛ ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة ؛ لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن ، وتنبيهاً للمتعلمين - العاشقين للفضائل - على نفائس الكتاب العظيم ، وحباً في نظرهم في القرآن ، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرد اللهو واللعب ! .
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة :
1 - العفة عن الشهوات ، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : من الآية 24 ] .
2 - الحلم عند الغضب ، ليضبط نفسه : { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } [ يوسف : من الآية 77 ] .
3 - وضع اللين في موضعه ، والشدة في موضعها : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } [ يوسف : 59 - 60 ] ، والصدر للين والعجز للشدة .
4 - ثقته بنفسه : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : من الآية 55 ] .
5 - قوة الذاكرة ؛ ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون ؛ ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم : { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [ يوسف : 58 ] .
6 - جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : من الآية 4 ] .
7 - استعداده للعلم ، وحبه له ، وتمكنه منه : { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } [ يوسف : 38 ] ، { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 22 ] ، { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [ يوسف : من الآية 101 ] .
8 - شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه ، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ } [ يوسف : من الآية 39 ] الآية ، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما ، فالأول بقوله : { لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : من الآية 37 ] . والثاني بقوله : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : من الآية 37 ] الآية ، وشهدا له بقولهما : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : من الآية 36 ] .
9 - العفو مع القدرة : { قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ يوسف : 92 ] .
10 - إكرام العشيرة : { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : من الآية 93 ] .
11 - قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك ، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة ، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [ يوسف : من الآية 54 ] .
12 - حسن التدبير : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } [ يوسف : من الآية 47 ] الآية .
ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك ، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان : { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } [ يوسف : من الآية 62 ] الآية ، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } [ يوسف : من الآية 76 ] الآية ، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم ، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم ، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم ؛ إتباعاً لما رسمته الشريعة الغراء مما يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام ، وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم : { قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } [ يوسف : 74 ] الآية ، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع ، فعاملهم بما هم عليه ، لذلك يقول الله تعالى : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : من الآية 76 ] ، امتدح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم . وهذه - وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر - فهي أم السياسة ورأس علوم العمران ، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء ! .
تالله ! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم ! وليت شعري كيف يقول الله بعدها : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : من الآية 76 ] . ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحي والبُله الغُفْل ؛ ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم ! فحيا الله العلم وأدام دولته ! .
ومن العجيب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع ، ثم نظر أمتعتهم جميعاً : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } [ يوسف : من الآية 76 ] ، وهذه : - وأيم الله - هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية ، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم ، وطلباً لحصول المقاصد النافعة ، ودخولاً للبيوت من أبوابها ، ولكن بينهم وبين هذا النبي بون بعيد . . . ! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة ! .
لعمري ! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة ! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة ، وعرف الحكماء وسواس الأمم ، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة ، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] ، ويقول في آخرها : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } [ يوسف : من الآية 102 ] ، ويقول : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ يوسف : 108 ] . ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من روح الله فقال : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } [ يوسف : من الآية 110 ] الآية . ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها ، لا مجرد تفسيرها ؛ إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء . وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار ، فقال : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } الآية .
وهذه ترشدك - إن كنت من ذوي الهمة العالية - أن تصبر نفسك مع الذين يتعلمون أمداً طويلاً ، ولا تعجل بالرئاسة حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنال حظاً وافراً من الأخلاق والعلوم . فلا بأس بالوظائف ونفع الأمة مع دوام المثابرة على العلم والاستزادة منه ! فلقد صبر هذا النبي عليه السلام أياماً وأياماً ، ولبس للحوادث أثواباً وأثواباً ، حتى إذا غلب اليأس جاء الفرج والرفعة ! .
فتأمل ! كيف كانت هذه السورة يقرؤها القارئون ، ويسمعها الجاهلون وهم عن آياتها معرضون ! فإذا سمعوا صوتاً حسناً ظنوا أن هذا هو جمال القرآن ، فقالوا للقارئ : سبحان من أعطاك ! وفرحوا بما عندهم من العلم بظواهر ورونق القراءة ، أو مجرد التفسير ومعرفة القصة ، ولم ينظروا إلى الحكم المودعة فيها ! فقبح الجهل ! يترك الرجل أعمى وإن لبس الحلل وارتدى ثياب الفخار الكاذب والسراب الخداع . . كم للإنسان من آيات وعبر في السماوات والأرض فيعرض عنها ! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السماوات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون ، وتلا القرآن - وهو كلام مبدع الكون - وتلطف في تصوير المعاني ، وألبسها أجمل لباس ، فأعرض العقلاء فضلاً عن العامة ! فما للعامة لا يتعلمون ! وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبينون ؟ وما للناس لا يكادون يفقهون ؟ .
ذكرنا نموذجاً عن هذه السورة استنشاطاً لهمم العقلاء ، وحثاً لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة - على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه ، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض ! وجلي أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة ، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها ! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون ؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها ، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مراً . فيقصدها هذا للنغمات ، وذلك لقصة بسيطة ، وآخر تسلية وتضييعاً للزمن ، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها .
ولكن هذا أرقى مما قبله فقد سار في الطريق وهي الألفاظ ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعدَّ تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه ! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا . وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر ، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر : من أين هذا الحديد ؟ ولم يجلب الماء ؟ وإلى أي : مسافة يرتفع ، وما العلة فيه ، ومن أين يأتي الفحم الحجري ، وفي أي : الطرق يسير إلى أن يصل إلينا ؟ فيمر عليه شهر وشهران فيذبل زرعه وتبور أرضه . ! ذلك مثل من يقرأ القرآن ويجعل جل عنايته تطبيقه على كلام المؤرخين أو قواعد النحويين أو الصرفيين وعلماء البلاغة فحسب ! اللهم إلا قدراً يسيراً للفهم ! وهذا - لعمر الله - انتكاس على الرأس ، واتخاذ الوسيلة مقصداً ، كمثل من أراد الحج فجعل همته إعداد الذخائر سنين ، فاختطفته المنون وفارق الحياة ولم يحج ! ذلك مثلهم . ! ! انتهى .
المبحث الثاني :
احتج من جوز المعصية على الأنبياء - وهم الكرامية والباقلاني - بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم ، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه .
قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في " الملل والنحل " :
ما احتجوا به لا حجة فيه ؛ لأن إخوة يوسف ، عليه السلام ، لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قط - في أنهم أنبياء - نص لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا من إجماع ، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم ! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن ، قال عز وجل : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ } إلى قوله : { مِنْ بَعْدِهِ } [ غافر : من الآية 34 ] ، وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم ، فكيف أن يكونوا أنبياء ؟ ! ولكن الرسولين - أباهم وأخاهم - قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم !
وبرهان ما ذكرنا - من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء - قول الله تعالى حاكياً عن الرسول أخيهم أنه قال لهم : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً } [ يوسف : من الآية 77 ] ، ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء ، نعم ، ولا لقوم صالحين ! ؛ إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس ؛ لأن الصالحين ليسوا شراً مكاناً ، وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم ، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا . ولا يحل لمسلم أن يُدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافٍ بصحة نبوته ! ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبياً ، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم ! فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم : ( إنما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد الأنبياء أنبياء ! ) فهذه غفلة شديدة وزلة عالم ، من وجوه :
أولها : أنه دعوى لا دليل على صحتها ! .
وثانيها : أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد كما نبئ عيسى عليه السلام ، وكما أوتي يحيى الحكم صبياً ؛ فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبياً ، وقد عاش عامين غير شهرين ، وحاشا لله من هذا . . ! .
وثالثها : أن ولد نوح كان كافراً بنص القرآن : عمل عملاً غير صالح . فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبياً . وحاشا لله من هذا . . ! .
ورابعها : لو كان ذلك ، لوجب ولا بد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم ، بل جميع أهل الأرض أنبياء ؛ لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء ؛ لأن أباهم نبي ، وأولاد أولادهم أنبياء ؛ لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء ، وهكذا . . . أبداً حتى يبلغ الأمر إلينا ! وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به . وبالله تعالى التوفيق . . !
ثم قال ابن حزم :
وذكروا - يعني الكرامية ومن وافقهم - أيضاً أخذ يوسف عليه السلام أخاه ، وإيحاشه أباه عليه السلام منه ، وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه فلم يفعل ، وليس بينه وبينه إلا عشر ليال ! وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ، ولم يعلم بذلك سائر إخوته ، ثم أمر من هتف : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : من الآية 70 ] ، وهم لم يسرقوا شيئاً ، ويقول الله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : من الآية 24 ] ، وبخدمته لفرعون ، وبقوله للذي كان معه في السجن : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك } [ يوسف : من الآية 42 ] .
قال ابن حزم : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ، ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته ، فنقول وبالله تعالى نتأيد : أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه ، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى ، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك ، وليكون ذلك سبباً لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ! ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل - إلا أحسن الوجوه . وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا . ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه ، فكيف برسول الله صلوات الله عليه ؟ ! وأما ظنهم - أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل - فهذا جهل شديد ممن ظن هذا ؛ لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين ، في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى ! فلم يكن عند يوسف عليه السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ، ولا حي هو أو ميت ؛ أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ، ولا وجد أحداً يثق به ، فيرسل إليه ؛ للاختلاف الذي ذكرنا . وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ، ولساناً واحداً وأمة واحدة ، والطريق سابل ، والتجار ذاهبون وراجعون ، والرفاق سائرة ومقبلة ، والبُرُد ناهضة وراجعة ، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ، ولكن كما قدمنا ، ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره ، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه ، وانقيادهم له للجوع الذي كان عمَّ الأرض ، وامتيازهم عنده ، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب ، فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه . وأما قول يوسف لإخوته : { إِنَّكُم لَسَارقُونَ } وهم لم يسرقوا الصواع ، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم ؛ فقد صدق عليه السلام ؛ لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ، ولم يقل عليه السلام : إنكم سرقتم الصواع ، وإنما قال : { نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِك } [ يوسف : من الآية 72 ] ، وهو في ذلك صادق ؛ لأنه كان غير واجد له ، فكان فاقداً له بلا شك ! وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية ، وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره ، ولعل الملك أو بعض خواصه ، قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير ، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس ؛ إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ، ولا مرية في أن ذلك كان مباحاً في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا ، قال الله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : من الآية 48 ] . وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظوراً في شريعتهما بل كان فعلاً حسناً ، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى . ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام . إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل ، وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك . وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [ يوسف : من الآية 42 ] ، فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد ، وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل ، لكنه رغَّب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه ! وهذا فرض من وجهين : أحدهما : وجوب السعي في كف الظلم عنه . والثاني : دعاؤه إلى الخير والحسنات . وأما قوله تعالى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } [ يوسف : من الآية 42 ] ، فالضمير الذي في ( أنساه ) وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن ، أي : أن الشيطان أنساه أن يُذكر ربه أمر يوسف عليه السلام . ويحتمل أيضاً أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ، ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام ، وبرهان ذلك قول الله عز وجل : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : من الآية 45 ] فصح يقيناً أن المذكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر . وحتى لو صح أن الضمير من ( أنساه ) راجع إلى يوسف عليه السلام ؛ لما كان في ذلك نقص ولا ذنب ؛ إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء ! وأما قوله : { هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : من الآية 24 ] ، فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال : ( إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ) ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم ! فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم ! ! فإن قيل : إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد ، قلنا : نعم ! ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ! والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس ، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك ، إذ إنما أخذه عمن لا يدرى من هو ، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره ؛ لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله ، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به ! لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين : إما أنه همَّ بالإيقاع بها وضربها ، كما قال تعالى : { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } [ غافر : من الآية 5 ] ، وكما يقول القائل : لقد هممت بك ، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها ، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته ، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قدِّ القميص . والوجه الثاني : أن الكلام تم عند قوله : { ولَقَدْ همَّتْ بهِ } ثم ابتدأ تعالى خبراً آخر فقال : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل ، وبهذا نقول . وبرهان ربه ها هنا : هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه ، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة ، وهذا لا شك فيه ! ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ؛ ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك . وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن ؛ إذ قال للأنصاريين حين لقيهما : < هذه صفية > ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام همَّ بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } [ يوسف : من الآية 24 ] فنسأل من خالفنا عن الهمِّ بالزنى : سوء هو أم غير سوء ؟ فلا بد أنه سوء ، ولو قال : إنه ليس بسوء لعاند الإجماع ، فإذ هو سوء ، وقد صرف عنه السوء ، فقد صرف عنه الهم بيقين ! وأيضاً فإنها قالت : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً } [ يوسف : من الآية 25 ] وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق : { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 27 ] ، فصح أنها كذبت بنص القرآن ، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءاً ، فما همَّ بالزنى قط . ولو أراد بها الزنى لكانت من الصادقين ، وهذا بيِّنٌ جداً ، وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } [ يوسف : من الآية 33 ] فصح عنه أنه قط لم يصْبُ إليها .
انتهى كلام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان . وإنما نقلت كلامه برمته ؛ لأنه كما قيل :
( وما محاسن شيء كله حسن . . . ! ! )

(/)


سورة الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 1 ] .
قال أبو السعود : { المر } اسم للسورة ، ومحله : إما الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هذه السورة مسماة بهذا الاسم ، وهو أظهر من الرفع على الابتداء ؛ إذ لم يسبق العلم بالتسمية . وقوله تعالى : { تِلْكَ } على الوجه الأول : مبتدأ مستقل ، وعلى الوجه الثاني : مبتدأ ثان ، أو بدل من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته ، وإما النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو : اقرأ أو اذكر ، فـ : { تلك } مبتدأ كما إذا جعل : { المر } مسروداً على نمط التعديد ، والخبر على التقادير ، قوله تعالى : { آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف به ، المعروف بذلك من بين الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به ، فهو عبارة عن جميع القرآن ، أو عن الجميع المنزل حينئذ . وقوله تعالى : { وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي : من الكتاب المذكور بكماله : { الْحَقُّ } أي : الثابت المطابق للواقع في كل ما نطق به ، الحقيق بأن يخص به الحقية لعراقته فيها ، وقصور غيره عن مرتبة الكمال فيها . وفي التعبير عنه بالموصول ، وإسناد الإنزال إليه بصيغة المبني للمفعول ، والتعرض لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره عليه السلام ، من الدلالة على فخامة المنزل التابعة لشأن جلالة المنزل وتشريف المنزل إليه ، والإيماء إلى وجه الخبر ؛ ما لا يخفى . . . . ! انتهى ملخصاً بزيادة .
لطيفة :
في : { الَّذِيَ أُنزِلَ } وجهان : أحدهما هو في موضع رفع ، و : { الْحَقُّ } خبره ، أو الخبر : { منْ رَبِّكَ } و : { الْحَقُّ } خبر محذوف ، أو خبر بعد خبر . وثانيهما : محله الجر بالعطف على : { الْكِتَابِ } عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى ، أو بتقدير زيادة الواو في الصفة ، و : { الْحَقُّ } خبر محذوف ، ومنع كثير من النحاة زيادة الواو في الصفات . وآخرون على جوازها لتأكيد اللصوق ، أي : الجمع والاتصال ؛ لأنها كما تجمع المعطوف بالمعطوف عليه ، كذلك تجمع الموصوف بالصفة ، وتفيد أن اتصافه به أمر ثابت ، وقوله تعالى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : بذلك الحق لرفضهم التدبر فيه شقاقاً وعناداً . وهذا كقوله تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [ 2 ] .
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بقدرته رفع السماوات ، أي : خلقهن مرتفعات عن الأرض ارتفاعاً لا ينال ولا يدرك مداه . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي : أساطين ، جمع عماد أو عمود . وقوله تعالى : { تَرَوْنَهَا } إما استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك ، كقول الشاعر :
~أنا بلا سيف ولا رمح تراني
أو صفة لـ ( عمد ) جيء بها إبهاماً ؛ لأن لها عمداً غير مرئية ، وإليه ذهب كثير من السلف ، ورجح ابن كثير الأول ، وأنها لا عمد لها ، قال : وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِه } [ الحج : من الآية 65 ] ، والأكمل أيضاً في القدرة . وقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم تفسيره في سورة الأعراف ، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل . وقوله تعالى : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي : ذللهما لما أراد منهما من نفع العالم السفلي . وقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : لغاية معينة ينقطع دونها سيره ، وهو قيام الساعة ، كقوله تعالى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } [ يس : من الآية 38 ] ، وقد بين ذلك في قوله تعالى : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] و : { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } [ الانفطار : 2 ] والاقتصار على الشمس والقمر ؛ لأنهما أظهر الكواكب وأعظم من غيرهما ، فتسخير غيرهما يكون بطريق الأولى . وقد جاء التصريح بتسخيرهما مع غيرهما في قوله تعالى : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر } [ الأعراف : من الآية 54 ] وقوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي : أمر العالم العلوي والسفلي ويصرفه ويقضيه بمشيئته وحكمته على أكمل الأحوال ، لا يشغله شأن عن شأن . وقوله تعالى : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ } يعني : الآيات الدالة على وحدته وقدرته ونعوته الجليلة . أي : يبينها في كتبه المنزلة . وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي : لعلكم توقنون وتصدقون بأن هذا المدبر والمفصل ، لا بد لكم من المصير إليه ، بالبعث بعد الموت للجزاء ؛ فإن من تدبر حق التدبر ؛ أيقن أن من قدر على إبداع ما ذكر من الآيات العلوية ؛ قدر على الإعادة والجزاء ! .
لطائف :
الأولى : جُوَّزَ في قوله تعالى : { اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ } أن يكون الموصول خبراً ، وأن يكون صفة ، والخبر : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ورجح في " الكشف " الأول ، بأن قوله الآتي : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ } [ الرعد : من الآية 3 ] ، عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات ، وفي المقابل الخبرية متعينة ، فكذا هذا ليتوافقا . والجملة مقررة لقوله : { وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } [ الرعد : من الآية 1 ] ، وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة لترشيح التقرير . كأنه قيل : كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق ؟ وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها ؛ لا سيما وقد جعل صلة للموصول ، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفاً مفيداً لتحقيق كونه مدبراً مفصلاً ، مع التعظيم لشأنهما . والمقصود بالإفادة قوله : { لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فالمعنى : أنه فعلها كلها لذلك .
الثانية : قال القاضي : قوله تعالى : { رَفَعَ السَّمَاواتِ } الخ دليل على وجود الصانع الحكيم ، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية ، واختصاصها بما يقتضي ذلك ؛ لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني ، يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته ، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات .
الثالثة : { يُدبِّر } و : { يُفصِّل } يقرآن بالياء والنون . وهما مستأنفان . أو الأول حال من ضمير ( سخر ) والثاني من ضمير ( يدبر ) أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة .
ولما قرر الشواهد العلوية ؛ أردفها بذكر الدلائل السفلية على قدرته وحكمته . فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 3 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ } أي : بسطها وجعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض لإخراج النعم الكثيرة منها .
قال الشهاب : استدل به بعضهم على تسطيح الأرض ، وأنها غير كرية بالفعل . وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها ! ورد بأنه ثبت كريتها بأدلة عقلية ، لكنه لعظم جرمها يشهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح ! وهكذا كل دائرة عظيمة . ولا يعلم كريتها إلا هو تعالى .
{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت أوتاداً لها يكثر فيها النبات وتنحفظ تحتها المياه : { وَأَنْهَاراً } متفجرة منها ، وذلك لتكثير النبات والأشجار وحفظ الحيوان : { وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : صنفين اثنين كالحلو والحامض ، والأسود والأبيض ، والصغير والكبير ، والبستاني والجبلي .
قال المهايمي : ليفيد كل صنف فائدة غير فائدة الآخر ، فكان كل صنف نعمة بعد الإنعام بأصول الأصناف ، وجعل لإتمام الإنعام بالأصناف المختلفة الطبائع ؛ لئلا تجتمع فتضار متناولها فصولاً مختلفة إذ :
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي : يلبسه مكانه فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً فبطول الليل يحصل الشتاء ، وبطول النهار يحصل الصيف ، وبأحد الاعتدالين يحصل الخريف ، وبالآخر الربيع : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في مد الأرض وما بعده : { لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : لآيات باهرة لقوم يتفكرون فيستدلون بأن تكوين ما ذكر على هذا النمط البديع لا بد له من قادر حكيم ! أو يتفكرون فيعلمون أن تكثير النعم لجلب محبة المنعم بصرفها إلى ما خلقت من أجله . والمحبة موجبة للرجوع إليه . وفيه إشارة إلى أن من دبر ذلك لمعايشهم ، أفلا ينعم عليهم بإرسال رسل وإنزال كتب ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم ؟ بلى ، وهو أحكم الحاكمين .
لطائف :
الأولى : قال الرازي : من الاستدلال بأحوال الجبال ، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض . وذلك أن الحجر جسم صلب . فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك ، فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة . ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض . فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ، ولهذا السبب . ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال ؛ قرن بها ذكر الأنهار ، مثل ما في هذه الآية ، ومثل قوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] .
الثانية : أشار الرازي إلى أن الناس ، كما ابتدأوا من زوجين اثنين بالشخص ، هما آدم وحواء ، فكذا الأشجار والزروع خلقت أولاً من زوجين اثنين ثم كثرت ، والله أعلم .
الثالثة : في قوله : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة ، بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية ، أي : يستر النهار بالليل . والتركيب وإن احتمل العكس أيضاً - بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول - فإن ضوء النهار أيضاً ساتر لظلمة الليل ، إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي . وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهراً - باعتبار أن ظهوره في الأرض - فإن الليل إنما هو ظلها ، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلاً . ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج ، على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلها .
وقرئ ( يغشّي ) من التغشية - أفاده أبو السعود - .
ثم بيَّن تعالى طائفة من الآيات بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 4 ] .
{ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } أي : بقاع متقاربات مختلفة الطبائع . فمن طيبة إلى سبخة ، ومن صلبة إلى رخوة ، مما يدل على قادر مدبر مريد حكيم في صنعه : { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } جمع صنو ، وهي نخلة أصلها واحد وفروعها شتى ، وفي " القاموس " النخلتان ، فما زاد في الأصل الواحد ، كل واحدة منهما صنو ، ويضم . أو عام في جميع الشجر ، وإفراد الزرع لأنه مصدر في الأصل يشمل القليل والكثير : { يُسْقَى } قرئ بالتحتية والفوقية : { بِمَاءٍ وَاحِدٍ } أي : بماء المطر أو بماء النهر : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ } فتتفاضل قدراً وشكلاً ورائحةً وطعماً . والأكل ، قرئ بضم الهمزة والكاف وتسكينها وهو ما يؤكل ، وهو هنا الثمر والحب . والمجرور إما ظرف لـ ( نفضل ) أو حال من بعضها ، أي : نفضل بعضها مأكولاً . أو : وفيه الأكل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : الذي فصل : { لَآيَاتٍ } على وحدانيته تعالى وباهر قدرته : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فإن من عقل ما تقدم جزم بأن من قدر على إبداعها وخلقها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتباينة المتجاورة ، وجعلها حدائق ذات بهجة ؛ قادر على إعادة ما أبداه ، بل هو أهون في القياس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } [ 5 ] .
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : إن تعجب من شيء فقولهم عجيب حقيق بأن يقتصر عليه التعجب ؛ لأن من شاهد ما عدد من الآيات العجيبة التي تدل على قدرة يصغر عندها كل عظيم ؛ أيقن بأن من قدر على إنشائها ولم يعي بخلقها ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب . وجوز أن يكون خطاباً لكل من يصلح له ، أي : إن تعجب ، يا من نظر في هذه الآيات ، وعلم قدرة من هذه أفعاله ، فازدد تعجباً ممن ينكر مع هذا ، قدرته على البعث ، وهو أهون من هذه ! .
قال أبو السعود : والأنسب بقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَة } [ الرعد : من الآية 6 ] هو الأول و ( عجب ) خبر قدم على المبتدأ للقصر ، والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم : ذاك أمرٌ عجيباً .
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } أي : المنكرون لقدرته على البعث : { الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } أي : تمادوا في الكفر ؛ فإن من أنكر قدرته تعالى فقد أنكره ؛ لأن الإله لا يكون عاجزاً ، وفيه تكذيب لخبره ولرسله عليهم السلام : { وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } أي : السلاسل في أيمانهم مشدودة إلى أعناقهم يوم القيامة ؛ لأنهم غلوا أفكارهم عن النظر في هذه الأمور ، كما جعلوا خالقهم مغلول القدرة على ذلك وهو القادر الحكيم .
{ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 6 ] .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي : يستعجلونك بالعقوبة قبل العافية والسلامة منها ، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلوات الله عليه ، أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره .
قال الشهاب : والمراد بكونها قبل الحسنة ، أن سؤالها قبل سؤالها ، أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها ! .
{ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ } أي : عقوبات أمثالهم من المكذبين . فما لهم لا يعتبرون بها ولا يخشون حلول مثلها ؟ أو العقوبات التي يضرب بها المثل في الشدة . والجملة حالية أو مستأنفة . و ( المثلات ) قراءة العامة فيها فتح الميم وضم الثاء جمع مثُلة - كسمرة وسمرات - وهي العقوبة الفاضحة . سميت بها لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، كقوله : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص ، ويقال : أمثلته وأقصصته بمعنى واحد ، أو هي من المثل المضروب لعظمها . وقرئ بفتح الميم وسكون المثلثة ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرئ بضم الميم وسكون المثلثة ، وقرئ بفتحهما وبضمهما .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } من الناس من حمل المغفرة على المتعارف منها ، وهو مغفرة الذنوب مطلقاً إلى حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد ، فإن ظلمه - أعني شركه - لا يغفر . . وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة . ومنهم من ذهب إلى المغفرة مراداً بها معناها اللغوي . وهو الستر والصفح ، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة ، أي : إنه ذو صفح عظيم لا يعاجل بالعقوبة . مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار . كما قال سبحانه : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة } [ فاطر : من الآية 45 ] ، وهذا التأويل أنسب بالسياق الرهيب ! .
وعجب من الشهاب حيث وافق الرازي في دعواه ( إن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة ؛ لأنه مخالف للظاهر ، ولاستعمال القرآن ، وللزومه كون الكفار كلهم مغفوراً لهم لأجل تأخير عقابهم إلى الآخرة ) ولا يخفاك صحة تسميته مغفرة ؛ لأنه في اللغة الستر ، ومن أفراده الستر بالإمهال ؟ ودعوى أنه مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن تحكم بحت على أسلوب القرآن ، بإرجاعه إلى ما أصّلوه . مع أن التحاكم إليه في الفروع والأصول ، وهو الحجة في اللغة والاستعمال ! ودعوى فساد اللزوم وتهويل خطبه فارغة ؛ لأنه لا محذور في ذلك ، لا سيما وهو المناسب لاستعجالهم العذاب المذكور قبل ، فالتلازم صحيح ! ثم من المقرر أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فهذه الآية في معناها كآية : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ } الخ . فما ذكر من التأويل مؤيد بهذه الآية ، فتفطن ولا تكن أسير التقليد . . !
ولما بين تعالى سعة حلمه قرنه ببيان قوة عقابه ؛ ليعتدل الرجاء والخوف ، فقال سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن شاء ، كما قال تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 147 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأعراف : من الآية 167 ] ، وقال سبحانه : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } [ الحجر : 49 - 50 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ 7 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم المستعجلون بالسيئة المتقدمون .
قال أبو السعود : وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصول ؛ ذماً لهم ونعياً عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال ، حيث لم يرفعوا لهم رأساً ، ولم يعدوها من جنس الآيات ، وقالوا عناداً :
{ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي : مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام ، أو مثل ما يقترحون من جعل الصفا ذهباً ، أو إزاحة الجبال وجعل مكانها مروجاً وأنهاراً : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ } أي : مرسل للإنذار والتخويف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون ، وناصح كغيرك من الرسل ، فما عليك إلا البلاغ ، لا إجابة المقترحات : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أي : نبي داع إلى الحق مرشد بالآية التي تناسب زمنه ، كقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : من الآية 24 ] ، تعريض بأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل . فقد خلا قبله الهداة الداعون إلى الله ، عليهم السلام . أو المعنى : لكل قوم هاد عظيم الشأن ، قادر على هدايتهم ، هو الله سبحانه ، فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم . وإيتاؤهم الإيمان وصدهم عن الجحود ؛ فإن ذلك لله وحده كقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء } [ البقرة : من الآية 272 ] ، أو المعنى : { لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قائد يهديهم إلى الرشد . وهو الكتاب المنزل عليهم الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم . يعني : أن سر الإرسال وآيته الفريدة ؛ إنما هو الدعاء إلى الهدى وتبصير سبله ، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى . وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه . فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى . وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله ، وقد لا يفيد إنزالها هداية ! قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُون } [ الإسراء : من الآية 59 ] ، { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : من الآية 109 ] ، مع ما يستتبع الإصرار بعدها من الأخذ بلا إمهال ! : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] .
قال الشهاب : وجوز عطف ( هاد ) على ( منذر ) وجعل المتعلق مقدماً عليه ، للفاصلة فيدل على عموم رسالته وشمول دعوته . وقد يجعل خبر مبتدأ مقدر ، أي : وهو هاد ، أو وأنت هاد ، وعلى الأول فيه التفات .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ 8 - 9 ] .
{ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى } جملة مستأنفة ، جواب سؤال وهو : لماذا لم يجابوا لمقترحهم فتنقطع حجتهم فلعلهم يهتدون بأنه آمر مدبر عليم نافذ القدرة فعال لما تقتضيه حكمته البالغة دون آرائهم السخيفة ؟ وهذا على أن ( الهادي ) بمعنى ( الداعي إلى الحق ) .
وإن كان المراد به الله سبحانه ؛ فالجملة تفسير لقوله ( هاد ) أو مقررة مؤكدة لذلك . كذا في " العناية " .
وأشار الرازي إلى أن الآية : إما متصلة بما قبلها مشيرة إلى أنه تعالى واسع العلم لا يخفى عليه أن اقتراحهم عناد وتعنت ، وأنهم لا يزدادون بإظهار مقترحهم إلا عناداً ، فلذا لم يجابوا إليه . وإما متصلة بقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } يعني أنه تعالى عالم بجميع المعلومات . فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم أن فيه مصلحة .
ثم إن لفظ ( ما ) في قوله تعالى : { مَا تَحْمِلُ } مصدرية أو موصولة ، أي : حملها ، أو ما تحمله من الولد ، على أي : حالة هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخداج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر . . . . وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة .
{ وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ } أي : تنقص من الحمل : { وَمَا تَزْدَادُ } أي : تأخذه زائداً .
قال الزمخشري : ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ؛ فإنها تشمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه ، ومنه جسد الولد فإنه يكون تاماً ومخدجاً . ومنه مدة ولادته ، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها ، ومنه الدم فإنها يقل ويكثر .
{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } أي : بقدر وحدٍّ لا يجاوزه حسب قابليته ، كقوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] ، وقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : من الآية 2 ] ، وذلك أنه تعالى خص كل مكون بوقت وحل معينين ، وهيأ لوجوده وبقائه أسباباً مسوقة إليه تقتضي ذلك : { عَالِمُ الْغَيْبِ } أي : ما غاب عن الحس : { وَالشَّهَادَةِ } أي : ما شهده الحس : { الْكَبِيرُ } أي : العظيم الشأن الذي كل شيء دونه : { الْمُتَعَالِ } أي : المستعلي على كل شيء بقدرته . أو المنزه عن صفات المخلوقين ، المتعالي عنها .
وأكثر القراء على حذف ياء : { الْمُتَعَالِ } تخفيفاً ، وصلاً ووقفاً ، وقرئ بإثباته فيهما على الأصل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ 10 ] .
{ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ } أي : في نفسه : { وَمَن جَهَرَ بِهِ } أي : لغيره : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ } أي : طالب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته : { وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي : ذاهب في سربه ، أي : في طريقه يبصره كل أحد .
لطيفة :
قيل : إن ( سواء ) بمعنى الاستواء ، وهو يقتضي ذكر شيئين ، وهنا إذا كان ( سارب ) معطوفاً على جزء الصلة أو الصفة ؛ يكون شيئاً واحداً .
وأجيب عنه بوجهين : الأول : أن ( سارب ) معطوف على ( من هو ) لا على ( مستخف ) كأنه قيل : سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب . والثاني : أنه عطف على ( مستخف ) ، إلا أن ( من ) في معنى الاثنين ، كقوله :
~*نكن مثل من يا ذئب يصطحبان*
كأنه قيل : سواء منكم اثنان : هما مستخف وسارب . وعلى الوجهين ( من ) موصوفة لا موصولة . فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل .
وهناك وجه آخر وهو أن يكون الموصول محذوفاً وصلته باقية ، والمعنى : ومن هو مستخف بالليل ومن سارب بالنهار . وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع ، خصوصاً وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثاً . ومنه قوله تعالى : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم } [ الأحقاف : من الآية 9 ] . والأصل : ولا ما يفعل بكم . وإلا كان حرف النفي دخيلاً في غير موضعه ؛ لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنفي موقع ، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة ، ومنه قول حسان رضي الله عنه :
~فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء !
أي : ومن يمدحه وينصره .
وهذا الأخير نقله الناصر في " الانتصاف " وهو وجيه جداً . وأما تضعيف غيره له بلزوم حذف الموصول وصدر الصلة معاً ، وأن النجاة وإن ذكروا جواز كل منهما ، لكن اجتماعهما منكر ؛ فهو المنكر ؛ لأن أسلوب التنزيل هو الحجة ، وإليه التحاكم في كل فن ومحجة . والجمود على القواعد ورد ما خالفها إليها - من التعصب واللجاج ، والغفلة عن مقام التنزيل في الاحتجاج ! .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ 11 ] .
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } أي : لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب ، ملائكة يتعاقبون عليه : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي : من جوانبه كلها ، أو من أعماله ، ما قدم وأخر : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } أي : يراقبون ما يلفظ من قول وما يأتي من عمل ، خيراً أو شراً ، بأمره وإذنه ، أو من أجل أمره لهم بحفظه . فـ ( من ) تعليلية أو بمعنى باء السببية ، ولا فرق بين العلة والسبب عند النجاة ، وإن فرق بينهما أهل المعقول .
وفي ( الصحيح ) : < يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار . ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر . فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقول : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون > .
وفي الحديث الآخر : < إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء ، وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم > .
و ( المعقبات ) جمع معقبة من ( عقب ) مبالغة في ( عقب ) فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب فهو تكثير للفعل أو الفاعل ، لا للتعدية ؛ لأن ثلاثيه متعد بنفسه . أصل معنى ( العقب ) مؤخر الرجل ، ثم تجوَّز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة ، كأن أحدهم يطأ عقب الآخر . قال الراغب : عقبه إذا تلاه نحو دبره وقفاه . وقيل : هو من ( اعتقب ) أدغمت التاء في القاف ؛ وردوه بأن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين . وقد قال أهل التصريف : إن القاف والكاف ، كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما . والتاء في ( معقبة ) واحدة ( المعقبات ) للمبالغة لا للتأنيث ؛ لأن الملائكة لا توصف به . مثل نسابة وعلامة . أو هي صفة جماعة وطائفة { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } ظرف مستقر صفة : { مُعَقِّباتٌ } أو ظرف لغو متعلق بها . و ( من ) لابتداء الغاية أو حال من الضمير الذي في الظرف الواقع خبراً . والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله : { وَمنْ خَلْفِهِ } . ويجوز أن يكون ظرفاً لـ : { يَحْفَظُونَهُ } أي : معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، أي : تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال ، كناية عن حفظ جميع أعماله . ويجوز أن يكون : { يَحْفَظُونَهُ } صفة لـ : { مُعَقِّباتٌ } أو حالاً من الظرف قبله ، بمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه .
تنبيهات :
الأول : ما قدمناه في معنى الآية هو الأشهر . وعن ابن عباس : هو السلطان الذي له حرس من بين يديه ومن خلفه .
قال الزمخشري : أي : يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله . أي : من قضاياه ونوازله ، أو على التهكم به .
قال الرازي : وهذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني . والمعنى : أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل والسارب المستظهر بالأعوان والأنصار ، وهم الملوك والأمراء . فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره ، ومن سار نهاراً بالمعقبات ، وهم الحراس والأعوان الذين يحفظونه ؛ لم ينجه حرسه من الله تعالى ! والمعقب العون ؛ لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا ، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر ، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره ! وهم وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه ، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة ! . والمقصود من هذه الجملة : بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ، ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ، ولذلك قال تعالى بعد : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً } الآية .
الثاني : قدمنا أن الضمير في : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } لمن أسر أو جهر . . الخ . وأرجعه بعضهم لله ، وما بعده ( لمن ) . قال الشهاب : فيه تفكيك للضمائر من غير داع . وقيل : الضمير ( لمن ) الأخير ، وقيل : للنبي ؛ لأنه معلوم من السياق .
الثالث : أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سر اختصاص الحفظة ببني آدم ، ما ملخصه : إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها ، وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب ؛ لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم ، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها ؛ زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها ، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظمه من البشر . وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال ؛ كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها . وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل . !
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } أي : من العافية والنعمة : { حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } أي : من الأعمال الصالحة أو ملكاتها ، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً } أي : لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك : { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أي : فلا رد لقضائه فيهم : { وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } أي : يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم . وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال . وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة ، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه - أفاده أبو السعود - .
تنبيه :
في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع ، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة ، ومالوا مع الأهواء ، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة ؛ حل بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا ، ويفرق كلمتهم ، ويوهي قوتهم ، ويسلط عدوهم ! .
وفي حديث قدسي عند ابن أبي حاتم : < ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله ، فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون > .
ولابن أبي شيبة : < ما من قربة ولا أهل بيت ، كانوا على ما كرهت من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي ، إلى ما يحبون من رحمتي > .
وقال القاشاني : لا بد في تغيير النعم إلى النقم ، من استحقاق جلي أو خفي .
وعن بعض السلف : إن الفأرة مزَّقت خُفْي ، وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته ، وإلا ما سلطها الله عليَّ ! وتمثل بقول الشاعر :
~*لو كنت من مازن لم تستبح إبلي*
أقول : المنقول عن بعض السلف محمول على شدة الخوف منه تعالى ، وإلا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم ، كما أشارت له الآية . وقد جوَّد الكلام في ذلك ، الإمام مفتي مصر في " رسالة التوحيد " في بحث الدين الإسلامي فقال :
كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير ( العالم ) والكون الصغير ( الإنسان ) . فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية ، التي قدرها الله في علمه الأزلي ، لا يغيرها شي من الطوارئ الجزئية . غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها . بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها ، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله > . وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقضي فيها إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها . ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم ، والمصائب التي يرزؤن بها ؛ ففصل بين الأمرين ( الأشخاص والأمم ) فصلاً لا مجال معه للخلط بينهما .
فأما النعم التي يمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة ، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه ؛ فكثير منها كالثروة والجاه ، والقوة والبنين ، أو الفقر والضعة والضعف والفقد ، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة أو عوج أو طاعة وعصيان . وكثيراً ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة ، أو الفجرة الفسقة ، وترك لهم متاع الحياة الدنيا ؛ إنظاراً لهم حتى يتلقاهم ما أعد لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى ! . وكثيراً ما امتحن الله الصالحين من عباده ، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه ، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله : { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } ! فلا غضب زيدٍ ، ولا رضا عمروٍ ، ولا إخلاص سريرة ، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا ، ولا في تلك النعم الخاصة ، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة ، كارتباط الفقر بالإسراف ، والذل بالجبن ، وضياع السلطان بالظلم . وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب ، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر ، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر . . . ! .
أما شأن الأمم فليس على ذلك ؛ فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية : من تصحيح الفكر ، وتسديد النظر ، وتأديب الأهواء ، وتحديد مطامح الشهوات ، والدخول إلى كل أمر من بابه ، وطلب كل رغيبة من أسبابها ، وحفظ الأمانة ، واستشعار الأخوة ، والتعاون على البر ، والتناصح في الخير والشر ، وغير ذلك من أصول الفضائل ، ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة : { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عِمْرَان : من الآية 145 ] ، ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها . يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه ، حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره ! واستبدل الله عزة القوم بالذل ، وكُثرهم بالقل ، ونعيمهم بالشقاء ، وراحتهم بالعناء ، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ] ، أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل ، ثم لا ينفعهم الأنين ، ولا يجديهم البكاء ، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ، ولا يستجاب منهم الدعاء ، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجأوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة ، يُرسُل الفكر والذكر والصبر والشكر : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] ، وما أجلَّ ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه . اللهم ! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة . . ! .
على هذه السنن ، جرى سلف الأمة ، فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية ، ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة ؛ كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه ، ويشق الفلك ببكائه ، وهو ولع بأهوائه ، ماض في غلوائه ، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئاً . . ! .
ولما خوَّف تعالى العباد بإنزال ما لا مرد له ؛ أتبعه ببيان آيات قدرته وقهره وجلاله . فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } [ 12 - 13 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً } أي : من الصواعق : { وَطَمَعاً } أي : المطر أن يحيي النبات : { وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } أي : الماء .
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } أي : يسبح سامعوه من العباد الراجين للمطر متلبسين بحمده ، أي : يضجون بـ ( سبحان الله والحمد لله ) فيكون على حذف مضاف أو إسناداً مجازياً للحامل والسبب ، أو يسبح الرعد نفسه ، بمعنى دلالته على وحدانيته تعالى وفضله ، المستوجب لحمده . فيكون الإسناد على حقيقته والتجوز في التسبيح والتحميد . إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي . ودلالته على فضله ورحمته ، بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال .
قال الرازي : الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص . والتسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى . فلما كان حدوث هذا الصوت دليلاً على وجود متعال عن النقص والإمكان ؛ كان ذلك في الحقيقة تسبيحاً وهو معنى قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : من الآية 44 ] .
{ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي : وتسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وإجلاله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } أي : فيهلك بها من يشاء . وقوله تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ } يعني الكفرة المخاطبين في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ } وقد التفت إلى الغيبة ؛ إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضاً عنهم ، وتعديداً لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب . كأنه قيل : هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة ، من إراءة البرق ، وإنشاء السحاب الثقال ، وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته ، ويعقلها من يعقلها من المؤمنين ، أو الرعد نفسه ، والملائكة . ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى و ( هم ) أي : الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم ، يجادلون في شأنه تعالى ، بإنكار البعث واستعجال العذاب ، استهزاء واقتراح الآيات . قالوا : ولعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ } . أفاده أبو السعود .
أي : يريكم ما ذكر من الآيات الباهرة الدالة على القدرة والوحدانية . وأنتم تجادلون فيه ، و ( الجدال ) أشد الخصومة ، من ( الجدال ) بالسكون ، وهو فتل الحبل ونحوه ؛ لأنه يقوى به وتشتد طاقته { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } أي : والحال أنه شديد المماحلة والمماكرة والمكايدة لأعدائه ، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون من ( محله ) إذا كاده وعرَّضه للهلاك ، ومنه ( تمحّل لكذا ) إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه .
تنبيه :
ذكر في العلم الطبيعي : أن الصواعق شرارات تنطلق دفعة واحدة من تموجات السحب ومصادمتها لبعضها ؛ فيحصل في الهواء اهتزاز قوي . وأما الرعد فهو الصوت الذي يحصل من ذلك الانطلاق ويصل إلينا ببطء على حسب بعد السحب الحاملة للصواعق عنا . وعلى حسب اتساع السحب يطول سماعنا لصوت الرعد . وإذا لمع البرق من السحابة ، فقد تمت نتائج الصاعقة ، فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد ، فقد أُمن ضررها . فإن لم يمض بينهما شيء ، بأن كان الإنسان قريباً من محل الصاعقة وسمع الرعد مع مشاهدة البرق في آن واحد ؛ أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها . وأما سبب انفجار الصاعقة فقالوا : من المعلوم أن انطلاق الكهربائية إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها ، فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتنبجس بينهما شرارة كهربائية هي البرق . وحينئذ يقال : إن الأجسام الأرضية صعقت . هذا مجمل ما قالوه .
وقد حاول الرازي الجمع بين ما روي عن بعض السلف : أن الرعد ملك ، وبين ما ثبت في العلم الطبيعي بما يدفع المنافاة فقال : اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية ، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره . وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية . قال : وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء . فكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟ ! انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [ 14 ] .
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } أي : الدعاء الحق بالعبادة والتضرع والإنابة . وتوجيه الوجه ثابت له تعالى لا لغيره ؛ لأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء فهو الحقيق بأن يعبد وحده بالدعاء والالتجاء . فإضافة الدعوة للحق من إضافة الموصوف للصفة .
وفيها إيذان بملابستها للحق ، واختصاصها به ، وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال ، كما يقال : كلمة الحق .
ثم بيَّن تعالى مثال من يعبد من الأصنام ويدعي في عدم النفع والجدوى بقوله : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي : الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دونه تعالى : { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } أي : من مطلوباتهم : { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } أي : إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه ، أي : كاستجابة الماء لمن مد يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفه ولا بظمأه وحاجته إليه ، فلا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه ، جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم ! . والغرض نفي الاستجابة على القطع بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم ؛ أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه فضلاً عن مجرد الحاجة . وحاصله : أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلاً عن الاستطاعة للاستجابة ، وبقائهم لذلك في الخسران ؛ بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة . فهو لذلك في زيادة ظمأ وشدة خسران ! والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل ، أبرز في معرض التهكم ، حيث أثبت للماء استجابة زيادة في التخسير والتحسير . فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر ، أي : لا يستجيبون شيئاً من الاستجابة ، والضمير في ( هو ) للماء و ( بالغه ) للفم ، وقيل : الأول للباسط والثاني للماء . وبسط الكف : نشر الأصابع ممدودة كما في قوله :
~تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضاً لم تُطعه أنامله
{ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ } أي : عبادتهم والتجاؤهم لآلهتهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي : في ضياع لا منفعة فيه ؛ لعدم إمكان إجابتهم .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ 15 ] .
{ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } إخبار عن عظمته تعالى وسلطانه الذي قهر كل شيء ، بأنه يقاد لجلاله وإرادته وتصريفه المكونات بأسرها من أهل الملأ الأعلى والأسفل ، طائعين وكارهين لا يقدرون أن يمتنعوا عليه ، وكذا تنقاد له تعالى ظلالهم حيث تتصف على مشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال ! . وقوله : { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } إما ظرف لـ ( يسجد ) والباء بمعنى ( في ) والمراد بهما الدوام ؛ لأنه يذكر مثله للتأييد ، وإما حال من ( الظلال ) والمراد ما ذكر . أو يقال التخصيص ؛ لأن امتدادها وتقلصها فيهما أظهر . هذا ما جرى عليه الأكثر في معنى ( السجود ) فيكون استعارة للانقياد المذكور ، أو مجازاً مرسلاً لاستعماله في لازم معناه ؛ لأن الانقياد مطلقاً لازم للسجود .
وفي " تنوير الاقتباس " : تأويل السجود بالصلاة والعبادة وجعل ( طوعاً وكرهاً ) نشراً على ترتيب اللف . قال ( طوعاً ) أهل السماء من الملائكة ؛ لأن عبادتهم بغير مشقة و ( كرهاً ) أهل الأرض ؛ لأن عبادتهم بالمشقة ، ثم قال : ويقال ( طوعاً ) لأهل الإخلاص و ( كرهاً ) لأهل النفاق . ثم قال : ( وظلالهم ) يعني وظلال من يسجد لله أيضاً ، وتسجد غدوة عن أيمانهم ، وعشية عن شمائلهم .
قال أبو السعود : وقد قيل : إن المراد حقيقة السجود ، فإن الكفرة حال الاضطرار وهو المعني بقوله تعالى : { وَكَرْهاً } يخصون السجود به سبحانه . قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ العنكبوت : من الآية 65 ] ، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجد لله سبحانه ، كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري . ويجوز أن يراد بسجودها : ما يشهد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها . وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الضرورة والشدة ، فالله سبحانه لا يجدي ، فإن سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء مخلٌّ بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور ، فالوجه حمل السجود على الانقياد ، ولأن تحقيق انقياد الكل في إبداع ، والإعدام له تعالى أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه مع تحقيق سجودهم له تعالى . وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضاً كذلك ؛ لأنهم العمدة . وانقيادهم دليل انقياد غيرهم . انتهى .
وهذه الآية كقوله تعالى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 83 ] ، وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } [ النحل : من الآية 48 ] الآية .
تنبيه :
هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة ، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عقب قراءته واستماعه لهذه السجدة . كذا في " اللباب " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 16 ] .
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : خالقهما : { قُلِ اللّهُ } أمر بالجواب من قِبَلِهِ صلى الله عليه وسلم ؛ إشعاراً بتعينه للجواب ، فهو الخصم في تقريره سواء . أو أمره بحكاية اعترافهم ؛ إيذاناً بأنه أمر لا بد لهم منه . كأنه قيل : احك اعترافهم ، فبكتهم بما يلزمهم من الحجة : { قُلْ } أي : إلزاماً لهم وتبكيتاً : { أَفَاتَّخَذْتُم مِّنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض عبدتم من دونه غيره ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك ؟ أفاده الزمخشري .
{ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي : لا يقدرون على نفع أنفسهم ولا على دفع الضر عنها ، فكيف يستطيعونه لغيرهم ؟ ! فإذن عبادتهم محض العبث والسفه ! : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } لما بيَّن ضلالهم وفساد رأيهم في الحجة المذكورة ؛ بيَّن أن الجاهل بها يكون كالأعمى ، والعالم بها كالبصير ، والجهل بمثلها كالظلمات ، والعلم بها كالنور . وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير ، والظلمة لا تساوي النور ، كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها { أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءَ } أي : بل أجعلوا ، والهمزة للإنكار ، وقوله : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } صفة لـ ( شركاء ) داخلة في حكم الإنكار : { فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } أي : خلق الله وخلقهم . والمعنى : أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق ، فيقولوا : هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلاً عما يقدر عليه الخالق .
قال الناصر : وفي قوله تعالى : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } في سياق الإنكار ، تهكم بهم ؛ لأن غير الله لا يخلق خلقاً البتة ، لا بطريق المشابهة والمساواة لله ، تقدس عن التشبيه ، ولا بطريق الانحطاط والقصور ، فقد كان يكفي في الإنكار عليهم ، أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقاً ، ولكن جاء في قوله تعالى : { كَخَلْقِهِ } تهكم يزيد الإنكار تأكيداً ! .
{ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : لا خالق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق ، فلا يكون له شريك في العبادة ! : { وَهُوَ الْوَاحِدُ } أي : المتوحد بالربوبية : { الْقَهَّارُ } الذي لا يغالبُ ، وما عداه مربوب ومقهور ! .
ثم ضرب تعالى مثلين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في اضمحلاله وفنائه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } [ 17 ] .
{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي : المزن : { مَاءً } أي : مطراً : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي : بمقدار ملئها في الصغر والكبر ، أي : أخذ كل واحد بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء ، وهذا صغير وسع بقدره : { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } أي : فحمل ورفع من قوة الجيشان ، زبداً عالياً على وجه الماء : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } أي : من نحو الذهب والفضة والنحاس ، مما يسبك في النار : { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ } أي : طلب زينة : { أَوْ مَتَاعٍ } كالآواني وآلات الحرب والحرث : { زَبَدٌ مِّثْلُهُ } أي : مثل زبد السيل : وهو خبثه الذي ينفيه الكير : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } أي : مثلهما ، أي : إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام ، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما ، مما يسبك في النار ، بل يذهب ويضمحل . وقد بين ذلك بقوله تعالى : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } أي : مقذوفاً مرمياً به ، أي : فلا ينتفع به ، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح . وكذلك خبث ما يوقد عليه من المعادن يذهب ولا يرجع منه شيء ، ولا يبقى إلا ما ينتفع به من الماء والمعدن كما قال : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } أي : يبقى فيها منتفعاً به : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } إلى أمثال الحق والباطل .
تنبيهات :
الأول : قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله ، والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما . فمثل الحق وأهله بالماء الذي يُنزله من السماء فتسيل به أودية الناس ، فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع . وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً ، يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار . وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة ، بزبد السيل وخبث المعدن ، فإنه - وإن علا وارتفع وانتفخ - إلا أنه أخيراً يضمحل . وكذلك الشبهات والتمويهات الزائفة قد تقوى وتعظم ، إلا أنها في الآخرة تبطل وتضمحل وتزول ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات ؛ لأنه لا بقاء إلا للنافع ، وما تصارع الحق والباطل ، إلا وفاز الحق بقرنه . . . !
الثاني : قوله تعالى : { بِقَدَرِها } صفة ( أودية ) ، أو متعلق بـ ( سالت ) أو ( أنزل ) . وقرأ عامة القراء بفتح الدال ، وقرأ زيد بن علي والأشهب وأبو عَمْرو في رواية بسكونها .
الثالث : قوله تعالى : { احْتَمَلَ } بمعنى حمل ، فالمزيد بمعنى المجرد . كذا قيل . ويظهر لي : أن إيثاره عليه لزيادة في معناه ، وقوة في مبناه ! .
الرابع : الأودية جمع واد ، وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام . والإسناد إليه مجاز عقلي ، كما في ( جري النهر ) .
قال السمين : وإنما نكَّر الأودية وعرَّف السيل ؛ لأن المطر ينزل في إيقاع على المناوبة فيسيل في بعض أودية الأرض دون بعض . وتعريف السيل ؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو ( فسالت ) وهو لو ذكر لكان نكرة . فلما أعيد أُعيد بلفظ التعريف نحو : رأيت رجلاً فأكرمت الرجل . انتهى .
وأصله لأبي حيان حيث قال : عرَّف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل . والذي يتضمنه الفعل من المصدر وإن كان نكرة ، إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة ، كما كان لو صرح به نكرة . وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو : من كذب كان شراً له ، أي : الكذب . ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من ( فسالت ) وأورد عليه : أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث ، والمذكور المعرَّف عيْن ، فإن المراد به الماء السائل ؟ وأجيب : بأنه بطريق الاستخدام .
قال الشهاب : وهو غير صحيح ، لا تكلف - كما قيل - لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر . سواء كان حقيقياً أو مجازياً ، وهذا ليس كذلك ، لأن الأول مصدر ، أي : حدث في ضمن الفعل ، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث ، فكيف يتصور فيه الاستخدام ؟ نعم ، ما ذكروه أغلبي لا مختص بما ذكر ، فإن مثل الضمير اسم الإشارة ، وكذا اسم الظاهر كما في قول بعضهم :
~أخت الغزالة إشرافاً وملتفتاً
فالحق أنه إنما عرَّف لكونه معهوداً مذكوراً بقوله : { أَوْدِيَةٌ } وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل .
الخامس : قوله تعالى : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى ، لضرب مثل آخر . و ( زبد ) مبتدأ قدم عليه خبره ، ( من ) في ( مما ) للابتداء أي : نشأ منه ، وجوز كونها للتبعيض ، أي : هو بعضه . ورده أبو السعود بأنه يخل بالتمثيل . وقوله : { فِي النَّارِ } صفة مؤسسة ؛ لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقاً لها ، وقيل : إنها مؤكدة . وقال أبو السعود : في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد . وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل ، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلاً فيه حسبما فصل فيما سلف ، بل له إخلال بذلك . وسر التعبير الموصول في قوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } الخ ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها ، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى ؛ إذ عبَّر عن سبكه بإيقاد النار به ، المشعر بأنه كالحطب الخسيس ، وصوَّره بحالة هي أحط حالاته . وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلاً للحق ؛ لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به ، مع الإشارة إلى كونه مرغوباً فيه منتفعاً به بقوله : { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ } فوفى كلاً من المقامين حقه .
السادس : قدمنا أن قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } على حذف مضاف ، أي : مثلهما ، وسر الحذف : الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به ، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل .
السابع : بدأ بالزبد في البيان في قوله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ } وهو متأخر في الكلام السابق ؛ لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ } الخ [ آل عِمْرَان : من الآية 106 ] ، وقد راعى الترتيب فيه ، ولك أن تقول : النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أولاً ، وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره . والآية من الجمع والتقسيم على ما فصله الطيبي . كذا في " العناية " .
الثامن : قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول ؛ بجعل ذلك إشارة إليهما . كذا في أبي السعود .
التاسع : أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة ، قال :
وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة مَثَلَيْن - ناري ومائي -
وهو قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَه } [ البقرة : من الآية 17 ] الآية ، ثم قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : من الآية 19 ] الآية ، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مَثَلَيْن أحدهما قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } [ النور : من الآية 39 ] الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ، ولهذا جاء في " الصحيحين " : < فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون ؟ فيقولون ؟ أي : ربنا ! عطشنا فاسقنا . فيقال : ألا تردون ؟ فيردون النار ، فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضاً > . ثم قال تعالى في المثل الآخر : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّي } [ النور : من الآية 40 ] الآية ، وفي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً ، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا . وأصابت طائفة منها أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ! فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ، ونفع به فَعَلِمَ وعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ، فهذا مثل الماء > . وفي " مسند الإمام أحمد " عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش ، وهذه الدواب التي يقعن في النار ، يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها . قال : فذلكم مثلي ومثلكم . أنا آخذ بحجزكم عن النار ، هلم عن النار ! فتغلبوني فتتقحمون فيها . . . > وأخرجاه في " الصحيحين " أيضاً . فهذا مثل ناري . انتهى .
ولما بيَّن سبحانه شأن كلٍّ من الحق والباطل حالاً ومآلاً ، تأثره ببيان حال أهل كل منهما مآلاً ، ترغيباً وترهيباً ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 18 ] .
{ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } أي : للمؤمنين الذين استجابوا لربهم بطاعته وطاعة رسوله ، المثوبة الحسنى كما قال تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : من الآية 26 ] ، فالحسنى مبتدأ قدم عليه خبره الموصول : { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } وهم الكفرة : { لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي : بما في الأرض ، ومثله معه من أصناف الأموال ؛ ليتخلصوا عما بهم . وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان ، ولأجله عدل عن أن يقال : وللذين لم يستجيبوا السوأى ، كما تقتضيه المقابلة : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ } أي : في الدار الآخرة ، فيناقشون على الجليل والحقير : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : المستقر . وفي قوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } إشعار بتفسير الحسنى بالجنة ؛ لانفهامها من مقابلتها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [ 19 ] .
{ أَفَمَن يَعْلَمُ } أي : يصدق : { أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } يعني القرآن : { الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } أي : كمن لا يعلم ذلك ، إلا أنه أريد تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } أي : العقول المبرأة عن مشايعة الإلف ومتابعة الوهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [ 20 ] .
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ } أي : مما كلفهم به : { وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ } أي : ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين العباد ، وهو تعميم بعد تخصيص ، وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل . أفاده أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } [ 21 ] .
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } أي : من أرحامهم وقراباتهم وإخوانهم المؤمنين ، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم ، والذب عنهم ، والشفقة عليهم ، والنصيحة لهم ، وكف الأذى عنهم : { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي : يعملون له أو يخافون وعيده فلا يعصونه فيما أمر : { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } [ 22 ] .
{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : يدفعون بالكلام الحسن الكلام السيئ إذا خاطبهم به الجاهلون ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } [ المؤمنون : من الآية 96 ] الآية ، أو يتبعون السيئة الحسنة لتمحوها : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } أي : عاقبة الدنيا وهي الجنة ؛ لأنها مرجع أهلها . فتعريف الدار للعهد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ 23 - 24 ] .
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : آمن ووحَّد وعمل صالحاً من هؤلاء .
قال أبو السعود : وفي التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب .
وأصله للزجَّاج حيث قال : بيَّن تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة ، بل الآباء والأزواج والذاريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة .
وقرئ - شاذاً - بضم لام ( صَلْح ) . قال الزمخشري : والفتح أفصح .
{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ } .

(/)


{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } .
ثم بيَّن تعالى مآل مقابل الفريق الأول بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ 25 ] .
{ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } أي : عذاب جهنم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } [ 26 ] .
{ اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } هذا كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ] ، وتنكير ( متاع ) للتقليل كما في آية : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : من الآية 77 ] ، وقال : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 16 - 17 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [ 27 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } كقولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } [ الأنبياء : من الآية 5 ] ، وتقدم الكلام على هذا غير مرَّة . وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } جملة جرت مجرى التعجب من قولهم ، مشيرة إلى أنه من باب العناد والاقتراح لما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يمهل أحد بعد مجيئها ، لا من باب طلب الهداية . وإلا فلو كان بغيتهم طلب الهداية بآية لكفاهم إنزال هذا الكتاب من مثله ، صلوات الله عليه ، آية ، فإنه آية الآيات . . . ! . ولكنهم قوم آثروا الضلال على الهدى ، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم . فطوى ما دل عليه هذه الجملة ؛ إيجازاً للعلم بها .
قال أبو السعود : { قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها ، أي : يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله ، ويدعه منهمكاً فيه ؛ لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد ، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد ، والغلو في الفساد . فلا سبيل له إلى الاهتداء ، ولو جاءته كل آية .
ثم قال : { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي : أقبل إلى الحق ، وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة . وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير . وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة ، كما في الصلة الأولى ؛ للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها ، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة . وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد . وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة ، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ 28 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُوا } بدل من ( من أناب ) أي : آمنوا بالله ورسوله وكتابه : { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } أي : تسكن وتخشى عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيراً . والعدول إلى صيغة المضارع ؛ لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } أي : بذكره دون غيره تسكن القلوب أُنساً به ، واعتماداً عليه ، ورجاءً منه . وقدر بعضهم مضافاً ، أي : بذكر رحمته ومغفرته ، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته . ورأى آخرون أن المراد : { بِذِكْرِ اللَّهِ } القرآن ؛ لأنه يسمى ذكراً ، كما قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : من الآية 50 ] وقال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] لأنه آية بينة تسكن القلوب ، وتثبت اليقين فيها . وهذا المعنى يناسب قوله : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [ يونس : من الآية 20 ] أي : هؤلاء ينكرون كونه آية ، والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين . قال الشهاب : وهو أنسب الوجوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } [ 29 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } الموصول إما مبتدأ ، و : { طُوبَى لَهُمْ } مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول ، وإما خبر لمحذوف ، أي : هم ، وإما بدل من : { أناب } وجملة : { طُوبَى لَهُمْ } دعائية أو خبرية .
قال الزمخشري : ( طوبى ) مصدر من ( طاب ) كبشرى وزلفى . ومعنى ( طوبى لك ) أصبحت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع كقولك : طيباً لك ، وطيب لك ، وسلاماً لك وسلام لك . والقراءة في قوله : { وَحُسْنُ مَآبٍ } بالرفع والنصب تدلك على محليها . واللام في : { لَهُمْ } للبيان مثلها في ( سقياً لك ) والواو في : { طُوبَى } منقلبة عن ياء ، لضمة ما قبلها . قال ثعلب : قرئ : { طوبىً لهم } بالتنوين .
قال الفاسي : ومن نوَّن : { طُوبَى } جعله مصدراً بغير ألف ، كسقيا . وزعم بعضهم أنها كلمة أعجمية ، وفي " لسان العرب " عن قتادة ، أنها كلمة عربية ، تقول العرب : طوبى لك إن فعلت كذا وكذا ، وأنشد :
~طوبى لمن يستبدل الطود بالقرى ورسلاً بيقطين العراق وفومها
الرسل : اللبن ، والطود : الجبل ، والفوم : الخبز والحنطة . كذا في " تاج العروس " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ 30 ] .
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت : { مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : لتبلغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم ، كما بلغ من خلا قبلك من المرسلين أممهم . وقوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } جملة حالية أو مستأنفة ، أي : يكفرون بالبليغ الرحمة ، الذي وسعت رحمته كل شيء ، والعدول إلى المظهر الدال على الرحمة ، إشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] وإلى أنهم لم يشكروا نعمة هذا الوحي الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية ، وإلى أن الرحمن من أسمائه الحسنى ونعوته العليا ، وقد كانوا يتجافون هذا الاسم الكريم . ولهذا لم يرضوا يوم الحديبية أن يكتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " وقالوا : ما ندري ما الرحمن الرحيم ؟ كما في الصحيح . وقد قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } [ الإسراء : من الآية 110 ] . وفي " صحيح مسلم " عن ابن عمر مرفوعاً : < أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن > .
{ قُلْ هُوَ } أي : الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته : { رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } أي : توبتي وإنابتي . فإنه لا يستحق ذلك غيره . ثم أشار تعالى إلى عظمة هذا الوحي وتفضيله على ما سواه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ 31 ] .
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } أي : قرآناً مَّا : { سُيِّرَتْ بِهِ } أي : بإنزاله أو بتلاوته : { الْجِبَالُ } أي : أذهبت عن مقارّها ، وزعزعت عن أماكنها : { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ } أي : شققت حتى تتصدع وتصير قطعاً : { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } أي : خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها ، والجواب محذوف ، أي : لكان هذا القرآن ؛ لكونه غاية في الهداية والتذكير ، ونهاية في الإنذار والتخويف . وعلى هذا التقدير فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة ، حيث لم يقدروا قدره العليِّ ولم يعدوه من قبيل الآيات ، فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام . وقدر الزجاج الجواب : ( لما آمنوا به ) كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } [ الأنعام : من الآية 111 ] الآية ، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد .
ونقل عن الفراء ؛ أن الجواب مقدم عليه وهو قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } وما بينهما اعتراض ، وفيه بُعْدٌ وتكلف . وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب ، والتذكير في ( كلم ) لتغليب المذكر من الموتى على غيره .
وقوله تعالى : { بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً } أي : له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجوداً وعدماً ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة ، وهو إضراب عما تضمنته : { لَوْ } من معنى النفي ، أي : لو أن قرآناً فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن ، ولكن لم يفعل ، بل فعل ما عليه الشأن الآن ؛ لأن الأمر كله له وحده ، وعلى تقدير الزجاج السالف ، فالإضراب متوجه إلى ما سلف اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح . أي : فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعاً ، إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة ، من غير أن يكون عليه تحكم أو اقتراح . كذا في أبي السعود .
وقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً } أي : أفلم يعلم ويتبين كقوله :
~ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وقوله :
~أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي : لم تعلموا ! وييسرونني من إيسار الجزور ، أي : يقسمونني ، ويروى : يأسرونني من ( الأسر ) . أي : أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم ؛ لأن الأمر له . ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار .
{ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : من أهل مكة : { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } أي : بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه ، وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه . والقارعة : الداهية التي تقرع وتقلق ، يعني : ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب : { أَوْ تَحُلُّ } أي : تلك القارعة : { قَرِيباً } أي : مكاناً قريباً : { مِّن دَارِهِمْ } فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها : { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ } أي : فتح مكة : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : من الآية 47 ] ، وفي الآية وجه آخر ، وهو حمل : { الَّذِينَ كَفَرُواْ } على جميع الكفار ، أي : لا يزالون ، بسبب تكذيبهم ، تصيبهم القوارع في الدنيا ، أو تصيب من حولهم ليعتبروا ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف : 27 ] ، وقوله : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الأنبياء : من الآية 44 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ 32 ] .
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : أمهلتهم وتركتهم ملاوةً من الزمن ، في أمن ودعة ، كما يملى للبهيمة في المرعى : { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : عقابي إياهم . وفيه من الدلالة على فظاعته ما لا يخفى . والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح ، على طريقة الاستهزاء به ، ووعيد لهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ 33 ] .
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } أي : مراقب لأحوالها ومشاهد لها ، لا يخفى عليه ما تكسبه من خير أو شر . فهو مجاز ؛ لأن القائم على الشيء عالم به ، ولذا يقال : وقف عليه ، إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله ، والخبر محذوف تقديره : كمن ليس كذلك . وإنما حذف اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء } أي : عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان ، وقوله : { قُلْ سَمُّوهُمْ } تبكيت لهم إثر تبكيت ، أي : سموهم من هم ، وماذا أسماؤهم ؟ فإنهم لا حقيقة لهم ! أو صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة ؟ .
وقال الرازي : إنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال : سمه إن شئت ، يعني : أنه أخس من يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل . فكأنه تعالى قال : سموهم بالآلهة ، على سبيل التهديد ، والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به ، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها .
{ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ } أي : بشركاء لا يعلمهم سبحانه . وإذا كان لا يعلمهم ، وهو عالم بكل شيء مما كان ومما يكون ، فهم لا حقيقة لهم . فهو نفي لهم بنفي لازمهم على طريق الكناية .
قال الناصر : وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء ، وأن الله لا يعلمهم كذلك ؛ لأنهم ليسوا كذلك ، وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله ، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة . ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع لا تكتنه بلاغته وبراعته . ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان : وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء . فلم يكن بهذا الموقع الذي اقتضته التلاوة .
وقوله تعالى : { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ } أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ، كتسمية الزنجي كافوراً من غير بياض فيه ولا رائحة طيبة ، لفرط الجهل وسخافة العقل ، وهذا كقوله تعالى : { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِم } [ التوبة : من الآية 30 ] : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : من الآية 40 ] ، وعن الضحاك إن الظاهر بمعنى الباطل ، كقوله :
~وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
تنبيه :
قال الزمخشري : هذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها ، منادٍ على نفسه بلسان طلق ذلق ؛ أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه .
قال شارحوه : فإن قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ } لما كان كافياً في هدم قاعدة الإشراك مع السابق واللاحق وما ضمن من زيادات النكت ، وكان إبطالاً من طريق حق ، مذيلاً بإيطال من طرف النقيض على معنى : ليتهم إذ أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به ، أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم ، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ولا حقيقة لها فضلاً عن المسمى على الكناية الإيمائية . ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسأل عنها على الكناية التلويحية استدلالاً بنفي العلم عن نفي المعلوم . ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ ، وتقدير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهو محال على محال وفي جعل اتخاذهم شركاء ، ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى ؛ نكتة بل نكت سرية . ثم أضرب عن ذلك . وقيل : قد بين الشمس لذي عينين ، وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ .
فمن تأمل حق التأمل ، اعترف بأنه كلام خالق القُوَى والقُدَر ، الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر . . . !
وقوله تعالى : { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } إضراب عن الاحتجاج عليهم . كأنه قيل : دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم ؛ لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم ، فلا ينتفعون بهذه الدلائل .
وقوله تعالى :
{ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ } أي : عن سبيل الله ، وقرئ بفتح الصاد أي : صدوا الناس : { وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ } أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره ، أو يخذله : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : من أحد يهديه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ } [ 34 ] .
{ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وهو ما نالهم على أيدي المؤمنين ، أو ما فيه من عذاب الحيرة والضِلَّة . فإن نفس غير المؤمنين في نكد مستمر وداء دويِّ لا برء له إلا الإيمان ، كما فصل في موضع آخر { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ } أي : من عذاب الدنيا كمَّاً وكيفاً : { وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ } أي : حافظ يعصمهم من عذابه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } [ 35 ] .
{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } أي : عن الكفر والمعاصي : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } .
في الآية وجوه من الإعراب :
( الأول ) : أن ( مثل ) مبتدأ خبره محذوف ، أي : فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة ، وجملة ( تجري ) مفسرة أو مستأنفة استئنافاً بيانياً أو حال من ضمير ( وعد ) أي : وعدها مقدراً جريان أنهارها . وهذا الوجه سالم من التكلف ، مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل . وقُدَّر الخبر فيه مقدماً لطول ذيل المبتدأ ، أو لئلا يفصل به بينه وبين ما يفسره ، أو هو كالمفسر له .
( الثاني ) : أن خبره ( تجري ) - على طريقة قولك : صفة زيد أسمر - قيل : هو غير مستقيم معنى ؛ لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة ، وهي فيها لا في صفتها . مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملاً على المعنى .
( الثالث ) : أن ثمة موصوفاً محذوفاً ، أي : مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، وقوله ( وظلها ) مبتدأ محذوف الخبر أي : كذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } [ 36 ] .
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة . قيل : عنى بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن ؛ لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيه ، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } [ البقرة : من الآية 121 ] { وَمِنَ الأَحْزَابِ } يعني بقية أهل الكتاب والمشركين : { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وهو ما يخالف معتقدهم ، وجوز أن يراد ( بالموصول ) من يفرح به منهم لمجرد تصديقه لما بين يديه وتعظيمه له وإن لم يؤمنوا . وبـ : { الأَحْزَابِ } المشركون ، خاصة المنكرين لما فيه من التوحيد . ولذا أمر برد إنكارهم بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو } أي : لا إلى غيره : { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أي : مرجعي للجزاء ، لا إلى غيره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } [ 37 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } أي : حاكماً بالحق ، أو حكمة عربية : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } أي : لئن تابعتهم على دين ، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج ؛ فلا ينصرك ناصر ولا يقيك واق . وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب ، وأن لا يزلَّ زالٌّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة . وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان . كذا في " الكشاف " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ 38 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } أي : مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم ، وهو رد لقولهم : لو كان نبياً لكان من جنس الملائكة كما قالوا : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } [ الفرقان : من الآية 7 ] ، وإعلام بأن ذلك سنة كثير من الرسل ، فما جاز في حقهم لِمَ لا يجوز في حقه ؟ وقد قال تعالى له : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف : من الآية 110 ] { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } أي : ما صح له ولا استقام ولم يكن في وسعه أن يأتي بما يقترح عليه ، إلا بإرادته تعالى في وقته ؛ لأن الآيات معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها ، من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر . فأمرها منوط بمشيئته تعالى ، المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل وقت من الأوقات أمر مكتوب ، مقدر معين أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق حسبما تقتضيه الحكمة ، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات ، في كل وقت يأتي ، بما هو صلاح ذلك الوقت ، رسولٌ من عنده . وكذا جميع الحوادث من الآيات وغيرها ، فليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم ، بل على حسب ما يشاؤه تعالى ويختاره ، وفيه رد لاستعجالهم الآجال وإتيان الخوارق والعذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [ 39 ] .
{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ } أي : ينسخ ما يشاء نسخه من الشرائع لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت : { وَيُثْبِتُ } أي : بَدَلهُ ما فيه المصلحة ، أو يبقيه على حاله غير منسوخ : { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } أي : أصله .
قال الرازي : العرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أُمّاً له ، ومنه أم الرأس : للدماغ ، وأم القرى : لمكة . وكل مدينة فهي أمٌّ لما حولها من القرى . فكذلك أمُّ الكتاب ، هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب . روى عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول : يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله : { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ . وما يبدل وما يثبت . كل ذلك في كتاب . وعن قتادة : أن هذه الآية كقوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } [ البقرة : من الآية 106 ] الآية .
تنبيه :
تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } فقالوا : إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ . قالوا : يمحو الله من الرزق ويزيد فيه . وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر .
قال الرازي : هو مذهب عمر وابن مسعود . والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء . انتهى .
أشار بذلك إلى آثار أخرجها ابن جرير عن عمر وابن مسعود . وليس في الصحيح شيء منها .
ظهر لي في دمر في 12 ربيع الأول سنة 1324 :
إن ما يستدل به الكثير من الآيات لمطلبٍ ما ، أن يدقق النظر فيه تدقيقاً زائداً ، فقد يكون سياق الآية لأمرٍ لا يحتمل غيره ، ويظن ظان أنه يستدل بها في بحث آخر ، وقد يؤكده ما يراه من إطباق كثير من أرباب التصانيف على ذلك وإنما المدار على فهم الأسلوب والسياق والسباق .
خُذ لك مثلاً قوله تعالى : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } فكم ترى من يستدل بها على العلم المعلق ، ومحو ما في اللوح الذي يسمونه ( لوح المحو والإثبات ) ويوردون من الإشكالات والأجوبة ما لا يجد الواقف عليه مقنعاً ولا مطمأناً .
مع أن هذه الآية ، لو تمعن فيها القارئ ؛ لعلم أنها في معنى غير ما يتوهمون . وذلك أنهم كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل البعثة ، أن يأتي بآية كآية موسى وعيسى ؛ توهماً أن ذلك هو أقصى ما يدل على نبوة النبي في كل زمان ومكان ، فأعلمهم الله تعالى أن دور تلك الآيات الحسية انقضى دورها ، وذهب عصرها . وقد استعد البشر للتنبه إلى الآية العقلية وهي آية الاعتبار والتبصر . وإن تلك الآيات محيت كما محي عصرها . وقد أثبت تعالى غيرها مما هو أجلى وأوضح وأدل على الدعوة ، وهو قوله تعالى قبلها : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ 40 ] .
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } أي : من إنزال العذاب في حياتك : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } أي : قبل ذلك : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ } أي : تبليغ الوحي : { وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } أي : حسابهم وجزاؤهم . قال أبو حيان : جواب الشرط الأول : ( فذلك شافيك ) والثاني : ( فلا لوم عليك ) وقوله تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ } الخ دليل عليهما .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 41 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي : أرض الكفرة ، ننقصها عليهم بإظهار دين الإسلام في أطراف ممالكهم .
قال ابن عباس : أي : أولم يروا أنا نفتح للرسول الأرض بعد الأرض ؛ يعني أن انتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أنه تعالى ينجز وعده ، ونظيره قوله تعالى : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الأنبياء : من الآية 44 ] ، وقوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ } [ فصلت : من الآية 53 ] .
قال الشهاب : هذا مرتبط بما قبله . يعني لم يؤخر عذابهم لإهمالهم ، بل لوقته المقدر ، أوَ مَا تَرَى نقص ما في أيديهم من البلاد وزيادة ما لأهل الإسلام ، ولم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم به تعظيماً له ، وخاطبهم تهويلاً وتنبيهاً عن سنة الغفلة . ومعنى : { نَأْتِي الأَرْضَ } يأتيها أمرنا وعذابنا . انتهى .
وقيل : { نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم . فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع ؟ .
تنبيه :
يذكرون - ها هنا - رواية عن ابن عباس ومجاهد : أن نقصها من أطرافها هو موت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها . ويؤيد من يعتمد ذلك بأن الجوهري حكى عن ثعلب : أن الأطراف يطلق على الأشراف ، جمع طرف وهو الرجل الكريم ، وشاهده قول الفرزدق :
~واسأل بنا وبكم إذا وردت منى أطراف كل قبيلة من يتبع
يريد أشراف كل قبيلة . فمعنى الآية : أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات : موت بعد حياة ، وذل بعد عز ، ونقص بعد كمال ، وإذا كان هذا مشاهداً محسوساً ؛ فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر عليهم فيذلهم بعد العزة ! ولا يخفاك أن هذا المعنى لا يذكره السلف تفسيراً للآية على أنه المراد منها ، وإنما يذكرونه تهويلاً لخطب موت العلماء بسبب أنهم أركان الأرض وصلاحها وكمالها وعمرانها ، فموتهم نقص لها وخراب منها . كما قال أحمد بن غزال :
~الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
~كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
ولذا قال الزهري كما في " لسان العرب " : أطراف الأرض نواحيها ، الواحد طرف ، و : { نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي : نواحيها ناحية ناحية ، وعلى هذا من فسر ( نقصها من أطرافها ) فتوح الأرضين . وأما من جعل ( نقصها من أطرافها ) موت علمائها فهو من غير هذا ، قال : والتفسير على القول الأول .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ يَحْكُمُ } أي : ما يشاء كما يشاء ، وقد حكم للإسلام بالعز والإقبال ، وعلى الكفر بالذل والإدبار ، حسبما يشاهد من المخايل والآثار . وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، وبناء الحكم على الاسم الجليل ، من الدلالة على الفخمة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى ، وهو جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها .
وقوله تعالى : { لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } اعتراض في اعتراض ؛ لبيان علو شأن حكمه تعالى ، وقيل : نصب على الحالية ، كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه ، كما تقول : جاء زيد لا عمامة على رأسه ، أي : حاسراً . و ( المعقب ) من ينكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته من يعقبه ويقفّيه بالرد والإبطال . أفاده أبو السعود .
{ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : فعمَّا قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا بالقتل والأسر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ } [ 42 ] .
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : مكر الكفار الذين خلوا ، إيقاع المكروه بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء ، وقوله : { فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً } إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره ، وأنه مما لا يسوء ، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال ، وهم نائمون على فرش الإمهال ، مما لا يخطر لهم على بال ، كما يومئ إليه قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } أي : فيوفيها جزاءها المعد لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم ، من حيث لا يحتسبون : { وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ } أي : العاقبة الحميدة ، وعلى من تدور الدائرة ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [ النمل : 50 - 52 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [ 43 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإنه أظهر على رسالتي ، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة ، وما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر . قيل : جعل هذا شهادة ( وهو فعل والشهادة قول ) على سبيل الاستعارة ؛ لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى . انتهى . ولا يخفى أن الشهادة أعم من القول والفعل . على أن المراد من تلك الججج هي آيات القرآن والذكر الحكيم ، وهي كلامه تعالى ، وقد قال تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي } [ يونس : 53 ] .
وقوله تعالى : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } أي : ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به . كما قال تعالى : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ } [ الشعراء : 197 ] .
ويروى عن مجاهد أنه عنى بـ : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } عبد الله بن سلام . ونوقش بأن السورة مكية ، وإسلامه كان بالمدينة . وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدني وبالعكس ، وكأن هذه الآية من ذلك .
وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في " دلائل النبوة " : أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة ، حيث رحل إلى مكة قبلها ، واستيقن نبوته صلوات الله عليه . ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة . والله أعلم .

(/)


سورة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ 1 ] .
{ الَر كِتَابٌ } خبر لـ ( آلر ) على كونه مبتدأ . أو خبر لمحذوف على كونه خبراً لمضمر ، أو مسروداً على نمط التعديد . وقوله تعالى : { أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } صفة له : { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : من الضلال إلى الهدى : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : أمره . وقوله تعالى : { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } بدل من قوله : { إِلَى النُّورِ } بتكرير العامل . أو مستأنف ، كأنه قيل : إلى أي : نور ؟ فقيل : { إِلَى صِرَاطِ } الخ و : { الْعَزِيزِ } الذي لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر القادر . و : { الْحَميدِ } المحمود في أمره ونهيه لإنعامه فيهما بأعظم النعم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ 2 ] .
{ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } قرئ لفظ الجلالة بالرفع على الابتداء وخبره ما بعده . أو على الخبرية لمحذوف . وقرئ بالجر ، عطف بيان لـ : { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } : { وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ } أي : بما أنزلناه إليك : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } يوم القيامة وهو عذاب النار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } [ 3 ] .
{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } أي : يؤثرونها عليها : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } بتعويق الناس عن الإيمان : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب ، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة ، أو يبغون لها اعوجاجاً ، أي : يطلبون أن يروا فيها عوجاً قادحاً ، على الحذف والإيصال : { أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي : ضلوا عن طريق الحق ووقفوا دونه بمراحل ، والبعد في الحقيقة للضال نفسه ، وصف به فعله للمبالغة بجعل الضلال نفسه ضالاً . وفي إيثار الظرف على ( أولئك ضالون ضلالاً بعيداً ) دلالة على تمكنهم فيه ، باشتماله عليهم اشتمال المحيط على المحاط ، مبالغة في إثبات وصف الضلال . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 4 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي : ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به كما قال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [ فصلت : من الآية 44 ] . ( فإن قلت ) : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعاً : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : من الآية 158 ] ، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة . فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة . وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضاً ؟ ( قلت ) : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل ؛ فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه . فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ؛ قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحدٍ منها ، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها ، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً ؛ لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء . ومعنى : { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بلغة قومه - كذا في " الكشاف " - .
وقال بعض المحققين : يقول قائل : ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للعرب خاصة ؟ نقول : لا ؛ لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدها لتهذيب الأمم الأخرى ، كما يعد فرداً واحداً منها لتهذيب سائر أفرادها . ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم ؛ فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعيد وتتهيأ لأداء وظيفتها . وقد أتم الله نعمته عليها ، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع ، ولله في خلقه شؤون .
تنبيه :
استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية . قال : لأنها لو كانت توقيفية لم تعلم إلا بعد مجيء الرسول ، والآية صريحة في علمها قبله .
وقوله تعالى : { فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ } أي : لمباشرته أسبابه المؤدية إليه ، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف : { وَيَهْدِي مَن يَشَاء } لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق . ( والفاء ) فصيحة ، كأنه قيل : فبينوه ، فأضل الله من شاء إضلاله وهدى من شاء . والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به ، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته ، أمر محقق غني عن الذكر والبيان : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : فلا يغالب ، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة .
ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ 5 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ } أي : أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، كقوم نوح ولوط . ومنه : أيام العرب ؛ لحروبها وملاحمها ؛ لأنها تعظم بها الأيام . وقيل : أيامه : نعماؤه عليهم . فتكون الآية بعدها تفصيلاً لها . وقيل : هي أعم من النعماء والبلاء . والوجه الأول أولى فيما أراه ؛ لاختصاص كل آية بمقام ، والتأسيس خير من التأكيد . وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، بالإضافة إلى الاسم الجليل ، إيذان بفخامة شأنها . قال أبو بكر ابن العربي : هذه الآية في الوعظ المرقق للقلوب .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في التذكير بها : { لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : يصبر على بلائه ويشكر نعماءه . فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر . وقيل : أراد ( لكل مؤمن ) لأن الشكر والصبر عنوان المؤمن . وتقديم ( الصبار ) على ( الشكور ) لتقدم متعلق الصبر - أعني الإيمان على متعلق الشكر - أعني النعماء - وكون الشكر عاقبة الصبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ 6 ] .
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي : يبغونكم إياه : { وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } أي : المولودين صغاراً : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } أي : يبقونهن في الحياة : { وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } الإشارة إلى فعل آل فرعون . . ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين . قيل : كون قتل الأبناء ، ابتلاء ظاهر . وأما استحياء النساء ، وهن البنات أي : استبقاؤهن ، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج ، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :
~ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإلجاء من ذلك . و ( البلاء ) : الابتلاء بالنعمة ، وهو بلاء عظيم .
قال الزمخشري : البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً . قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : من الآية 35 ] ، وقال زهير :
~فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
ولذا جوز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مرَّ ، الشامل للنعمة والنقمة .
لطيفة :
أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء : { وَيُذَبِّحُونَ } هنا بالواو ، وفي سورة البقرة : { يُذَبِّحُون } [ البقرة : من الآية 49 ] ، وفي الأعراف : { يُقَتِّلُونَ } [ الأعراف : من الآية 141 ] ، بدونها . والقصة واحدة - بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه - ، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال . وحيث عطف - كما هنا - لم يقصد ذلك . والعذاب ، إن كان المراد منه الجنس ، فالتذبيح ، لكونه أشد أنواعه ، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيهاً على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس . وإن كان المراد به غيره ، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة ، فهما متغايران ، والمحل محل العطف . وجوز أيضاً كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير - لكونه أوفى بالمراد وأظهر - بمنزلة المغاير فلذا عطف .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ 7 ] .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي : آذن وأعلم إعلاماً بليغاً - من جملة ما قال موسى لقومه - : { لَئِن شَكَرْتُمْ } أي : نعمه ، بصرفها إلى ما خُلقت له . كالعقل إلى تصحيح الاعتقاد فيه واستعمال سائر النعم بمقتضاه : { لأَزِيدَنَّكُمْ } أي : من النعم : { وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } فيصيبكم منه ما يسلب تلك النعم ويحل أشد النقم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ 8 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى } أي : لقومه : { إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن شكر عباده ، المحمود بأجلّ المحامد . وإن كفره من كفره . وهو تعليل لما حذف من جواب ( إن ) أي : إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم ، فإن الله لغني عن شكر الشاكرين .
وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : أنه قال : < يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البخر > فسبحانه من غني حميد .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [ 9 ] .
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أي : في مؤاخذة من كفر : { نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ } أي : مع كثرتهم : { وَعَادٍ } أي : مع غاية قوتهم : { وَثَمُودَ } مع كثرة تحصنهم وصنائعهم : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } .
قال ابن جرير : هذا من تمام قول موسى لقومه ، يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل .
قال ابن كثير : وفيما قال ابن جرير نظر ؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ؛ فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه لقصَّه عليهم ، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً ، أو عطف ( الذين ) على قوم نوح ، و : { لاَ يَعْلَمُهُمْ } الخ اعتراض ، ومعنى الاعتراض على الثاني : ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها ؟ إن في ذلك لمعتبراً . وعلى الأول : فهو ترق ، ومعناه : ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم ؟ كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل .
وقوله تعالى : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين . وأن يكونا من مجاز الكلام . وفي الأول وجوه :
أي : ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل ، كقوله : { عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 119 ] ، أو وضعوها على أفواههم ضحكاً واستهزاءً كمن غلبه الضحك . أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن يكفوا ويسكتوا . أو أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل أن اسكتوا . و ( في ) بمعنى ( إلى ) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعاً لهم من الكلام ، أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم . ومن بالغ في منع غيره من الكلام ؛ فقد يفعل به ذلك . أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم : { إِنَّا كَفَرْنَا } أي : هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا ، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين ، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه ، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب . قيل : وهو أقوى الوجوه المتقدمة ؛ لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار ، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول . ولذا أتى بالفاء تنبيهاً على أنهم لم يمهلوا ، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب . وفي تصديرهم الجملة بـ ( أن ) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد .
وفي الثاني - أعني المعنى المجازي - وجوه :
قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج ، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يداً ، يقال : لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفاً . وقد تذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : من الآية 10 ] . فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعمٌ وأيادٍ ، وأيضاً العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادٍ ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي ، وفي العدد الكثير الأيادي . فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي . وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظير قوله تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [ النور : من الآية 15 ] ، فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع رداً في الأفواه . انتهى .
وفي " الرازي " تتمة الأوجه فانظرها إن شئت .
قال في " العناية " : فإن قلت : قولهم : { إِنَّا كَفَرْنَا } جزم بالكفر لا سيما وقد أكد بـ ( إن ) ، فقولهم : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ } ينافيه ، قلت : أجيب بأن الواو بمعنى أو ، أي : أحد الأمرين لازم وهو : إنا كفرنا جزماً فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه . وأيا ما كان ، فلا سبيل إلى الإقرار . وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه ، فكفرنا بمعنى لم نصدق ، وذلك لا ينافي الشك ، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع ، ومتعلق الشك وما يدعونهم إليه من التوحيد مثلاً . انتهى .
أي : فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بالأول .
وقوله تعالى : { مُرِيبٍ } بمعنى موقع في الريبة ، من ( أرابه ) أوقعه فيها ؛ أو ذي ريبة ، من ( أراب ) : صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ 10 ] .
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : وهو مما لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره .
قال ابن كثير : هذا يحتمل معنيين : أحدهما : أفي وجوده شك ؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به . فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السماوات والأرض - أي : الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق - فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما . فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه . والمعنى الثاني : أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له ، شك ؟ وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له ، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى . انتهى .
وسبق لنا في سورة الأعراف البحث في أن معرفته تعالى ضرورية أو نظرية فارجع إليه .
وفي إدخال همزة الإنكار على الظرف إيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلاً ، وفي العدول عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : ( أأنتم في شك مريب من الله ) مبالغة في تنزيه ساحة جلاله عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول .
وقوله تعالى : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي : يدعوكم إلى الإيمان بإرساله إيانا ، لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم : { مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْه } . ولام ( ليغفر ) متعلقة بـ ( يدعو ) أي : لأجل المغفرة لا لفائدته ، تعالى وتقدس . أو للتعدية أي : يدعوكم إلى المغفرة ، كقولك : دعوتك لزيد . و ( من ) إما تبعيضية أي : بعض ذنوبكم وهو ما بينهم وبين الله تعالى دون المظالم ، أو صلة على مذهب الأخفش وغيره ، من زيادتها في الإيجاب ، أو للبدل أي : بدل عقوبة ذنوبكم ، أو على تضمين ( يغفر ) معنى ( يخلص ) .
وادعى الزمخشري مجيئه بـ ( من ) هكذا في خطاب الكافرين دون المؤمنين في جميع القرآن . قال : وكان ذلك للتفرقة بين خطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد .
قال في " الكشاف " : وللتخصيص فائدة أخرى وهي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل ، وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتاً عنه لئلا يتكلوا على الإيمان .
وقوله تعالى : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى : { قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : آية مما نقترحه تدل على فضلكم علينا بالنبوة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 11 ] .
{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : بالرسالة والنبوة : { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بأمره وإرادته ، وهو لم يرد ذلك ، لقوله : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ } [ الإسراء : من الآية 59 ] .
{ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } قال الزمخشري : أمرٌ منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمَرُوها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ 12 ] .
{ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ } ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه : { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } أي : أرشد كلاً منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له ، وأوجب عليه سلوكه في الدين . وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل ، قالوا على سبيل التوكيد القسمي ، مظهرين لكمال العزيمة : { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا } أي : من الكلام السيئ والأفعال السخيفة . وقوله : { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } فيه اهتمام بالتوكل عليه سبحانه ؛ لأن مقام الدعوة يقتضيه . ولذا أعيد ذكره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ 13 - 14 ] .
{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } يخبر تعالى عما توعد به الكافرون رسلهم ، لما رأوهم صابرين متوكلين ، لا يهمهم شأنهم من الإخراج من الأرض ، والنفي من بين أظهرهم ، أو العود في ملتهم . والمعنى : ليكونن أحد الأمرين .
والسبب في هذا التوعد - كما قال الرازي - أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين ، وأهل الباطل يكونون كثيرين . والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين . فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة . فإن قيل : يتوهم من لفظ ( العود ) أنهم كانوا في ملة الكفر قبل ! أجيب : بأن ( عاد ) بمعنى صار . وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، أو الكلام على ظنهم وزعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة . أو الخطاب للرسل ولقومهم ، فغلبوا عليهم في نسبة العود إليهم .
وقوله تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } الخ وعد صادق للرسل ، وبشارة حقة . كما قال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، وقال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } [ الأعراف : من الآية 137 ] ، والآيات في ذلك كثيرة . والإشارة في ( ذلك ) إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين . وقوله : { لِمَنْ خافَ } الخ ، أي : للمتقين ؛ لأنهم الموصوفون بما ذكر كقوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : من الآية 128 ] . و ( المقام ) إما موقف الحساب ، فهو اسم مكان ، وإضافته إليه سبحانه لكونه بين يديه ، أو مصدر ميمي ، بمعنى : حفظي وقيامي لأعمالهم ليجازوا عليها . أو مقحم للتفخيم والتعظيم كما يقال : المقام العالي . وياء المتكلم في ( وعيد ) محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف .
قال السمين : أثبت الياء هنا وفي ( ق ) في موضعين : { كلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : من الآية 14 ] ، { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : من الآية 45 ] ، وصلاً ، وحذفها وقفاً ورش عن نافع . وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ 15 ] .
{ وَاسْتَفْتَحُواْ } أي : سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم . من ( الفتاحة ) وهي الحكومة كقوله : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَق } [ الأعراف : من الآية 89 ] ، فالضمير : للرسل ، وقيل : للكفرة ، وقيل : للفريقين ، فإنهم سألوا أن ينصر المحقّ ويهلك المبطل . وقوله : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي : فنصروا عند استفتاحهم وأفلحوا : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } وهم قومهم . أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا . وإنما قيل : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبر والعناد . أو استفتحوا جميعاً فنَصَرَ الرسلَ وأنجز لهم الوعد ، وخاب أعداؤهم . و ( الجبار ) المتكبر على طاعة الله تعالى وعبادته . و ( العنيد ) المعاند للحق ، كخليط بمعنى مخالط .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ } [ 16 ]
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } جملة في محل جر صفة لـ ( جبار ) كناية عن تطلبها له وترصدها إياه ، ومن تطلب شيئاً وترصده أدركه لا محالة . وقيل : على تقدير مضاف ، أي : من وراء حياته وانقضاء عمره { وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ } وهو ما يسيل من جوف أهل النار ، قد خالط القيح والدم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [ 17 ]
{ يَتَجَرَّعُهُ } أي : يتكلف تجرعه لقهره عليه : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } لخبثه : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي : تحيط به أسبابه من الأهوال ، وما هو بمستريح مما نزل به : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي : شديد متصل لا ينقطع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } [ 18 ] .
{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } [ 18 ] المثل مستعار للصفة التي فيها غرابة . شبه تعالى أعمالهم اللاتي كانوا يعملونها لأوثانهم أو يراؤون بها - كإنفاق الأموال وعقر الإبل للضيفان ، في حبوطها ؛ لكونها على غير تقوى وإيمان - برماد طيرته الريح العاصف . وقوله تعالى : { لاَّ يَقْدِرُونَ } الخ ، مستأنف ، فذلك للتمثيل بمعنى المقصود منه ومحصل وجهه ، أي : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء منها ، أي : لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر ، من الرماد المطير في الريح ، على شيء .
قال أبو السعود : الاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام ، مع أن لها عقوبات هائلة ؛ للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى ، وفيه تهكم بهم . وفي توصيف الضلال بالبعد ، إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب .
و ( اشتد به ) من ( شد ) بمعنى عدا والباء للتعدية أو ملابسة . أو من ( الشدة ) بمعنى القوة ، أي : قويت بملابسة حمله . و ( العصف ) قوة هبوب الريح ، وصف به زمانها على الإسناد المجازي ، كـ : ( نهاره صائم ) وخبر ( مثل ) محذوف أي : فيما يتلى عليكم . وجملة : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفة جواباً لسؤال : كيف مثلهم ؟ أو ( أعمالهم ) بدل من ( مثل ) و ( كرماد ) الخبر .
وهذه الآية كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . وقوله تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عِمْرَان : 117 ] . وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ 19 - 20 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } الخطاب للرسول صلوات الله عليه ، والمراد به أمته . أو لكل أحد من الكفرة لقوله ( يذهبكم ) والرؤية رؤية القلب .
وفي الآية وجهان من التأويل : أحدهما : أنها سيقت لبيان قدرته تعالى على معاد الأبدان يوم القيامة ، بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس . أي : أفليس الذي قدر على هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد وبراري وقفار وبحار وأشجار ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] .
وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [ يّس : 77 - 81 ] .
الوجه الثاني : ترهيب المشركين بأنهم غير معجزين ، أي : إن يشأ يهلككم إذا خالفتم أمره ويخلف قوماً خيراً منكم ، كقوله تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : من الآية 38 ] ، وقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً } [ النساء : 133 ] .
وقوله تعالى : { بِالْحقِّ } أي : بالحكمة المنزهة عن العبث كقوله : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً } [ آل عِمْرَان : من الآية 191 ] ، وقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : من الآية 27 ] ، وقوله : { مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقّ } [ يونس : من الآية 5 ] ، وذلك ليتفكر في خلقها ويستدل بها على وجود بارئها وقدرته ووحدته .
ثم أخبر تعالى عن تخاصم المجرمين في المحشر وتبرئهم من بعضهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ 21 ] .
{ وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً } أي : اجتمعوا لحسابه وقضائه يوم القيامة في براز من الأرض ، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحداً ، أو برزوا من قبورهم ، أي : ظهروا لذلك : { فَقَالَ الضُّعَفَاءُ } وهم الأتباع : { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } أي : على الرسل وهم قادتهم - توبيخاً لهم : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً } أي : تابعين ، مهما أمرتمونا ائتمرنا : { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : بعض الإغناء : { قَالُواْ } أي : المستكبرون : { لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } إحالة لضلالهم وإضلالهم ، على مقامه سبحانه ، أو لو هدانا باهتدائنا ، ولكن زغنا فأزاغنا ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : من الآية 5 ] ، { سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي : منجى ومهرب من العذاب . ونظير الآية قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : من الآية 31 ] .
واستظهر ابن كثير هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها لآية : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ } [ غافر : 47 ] .
ولا يخفى أن الآية في هذه السورة تصدق بالتخاصم في الموقف وفي النار ؛ لإفادتها أن ذلك أثر بروزهم ، وهو صادق بما ذكرنا ، فلا قرينة فيها ؛ لكون ذلك في النار فقط ، كما ادَّعاه . وربما كان قوله : { وَبَرَزُواْ } يدل للموقف بمعناه المتقدم . ثم إن هذا التخاصم يجوز أن يكون متعدد المواطن لظاهر قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } وقوله : { في النَّارِ } ويجوز أن يكون مرة واحدة . والمراد بـ ( النار ) العذاب . ووقوفهم عند ربهم ، واليأس محيط بهم ، وجهنم ترقبهم ، عذاب وأي عذاب ! .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 22 ] .
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ } وهو الحكم بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء : { إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } أي : على ألسنة رسله بأن في إتباعهم النجاة والسلامة ، أي : فوفى به وأنجز : { وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي : ووعدتكم وعد الباطل ، وهو أن لا بعث ولا جزاء . ولئن كان ، فالأصنام شفعاؤكم . ولم يصرح ببطلانه لدلالة قوله : { فَأَخْلَفْتُكُمْ } عليه . والإخلاف مستعار لعدم تحقق ما أخبر به وكذبه ، أو مشاكلة . وفي الآية من الإيجاز البليغ شبه الاحتباك . حيث حذف أولاً ( فوفى به ) لدلالة قوله بعدُ : { فَأَخْلَفْتُكُمْ } عليه لأنه مقابله ، وحذف ثانياً ( وعد الباطل ) لدلالة : { وَعدَ الْحَقِّ } .
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ } أي : حجة وبرهان : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } أي : أسرعتم لطاعتي بمجرد ذلك ، أي : وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه : { فَلاَ تَلُومُونِي } أي : بوعدي إياكم ، إذ لم يكن بطرق القسر : { وَلُومُواْ أَنفُسَكُم } أي : حيث استجبتم لي باختياركم ، حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل . ولم تستجيبوا ربكم ، إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبراهين والحجج .
قال القاشاني : لما ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنوَّر بنوره ، أسلم وأطاع وصار محقاً ، عالماً بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له . ودعوته إلى الباطل بتسويل الحكام وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة من الحجة . وأقرَّ بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حقٌّ قد وفى به . ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته . فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها . وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها . انتهى .
وحكي في " الإكليل " عن ابن الفرس : أن بعضهم انتزع من هذا إبطال التقليد في الاعتقاد . قال : وهو انتزاع حسن ؛ لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ، ولم يطلبوا منه برهاناً . فحكى الله تقبيحاً لذلك الفعل منهم . انتهى .
{ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بمغيثكم ومنجيكم من العذاب : { وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي : مما أنا فيه . قال ابن الأعرابي : الصارخ : المستغيث ، والمصرخ : المغيث ، يقال : صرخ فلان إذا استغاث وقال : واغوثاه ! وأصرخته : أغثته . فالهمزة للسلب ، يعني أزلت صراخه ، وهو مدُّ الصوت { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم - أي : في الدنيا - يعني : جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل ، وتبرأت منه ومنكم ، فلم يبق بيني وبينكم علاقة كقوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم } [ فاطر : من الآية 14 ] ، وقوله : { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ، وقوله : { كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] { إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ابتداء كلام منه تعالى ، أو تتمة كلام الشيطان .
قال الزمخشري : وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت ؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بد لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول ، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم .
ولما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال ، عطف بمآل السعداء بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ 23 ] .
{ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بالله ورسوله وكتابه : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي : الطاعات : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي : من تحت مساكنها وشجرها ، أنهار الخمر والماء والعسل واللبن : { خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } متعلق بـ ( أدخل ) أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أي : تحييهم وتكرمهم الملائكة بالسلام عليهم ، كقوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُم } [ الزمر : من الآية 73 ] ، وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سلامٌ عَليْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] .
ولما بين تعالى ما أعد للمشركين والمؤمنين من المآل الأخروي ، ضرب مثلاً للشرك والإيمان - بأن مآل الثاني الثبات والاستقرار ؛ لأنه الذي ينفع الناس ، ومآل الأول إلى الدمار والاندحار - فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 24 - 25 ] .
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها : { وَفَرْعُهَا } أي : أعلاها ورأسها : { فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا } أي : ثمرها : { كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } أي : بإرادته وتكوينه : { وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : لأن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } [ 26 ] .
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ } أي : استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية : { مِن فَوْقِ الأَرْضِ } أي : لأن عروقها قريبة منه : { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي : استقرار .
تنبيه :
لحظ في الممثل به - أعني الشجرة - أوصاف جليلة لتلحظ في جانب الممثل له . فمنها : كونها طيبة ، أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمرة وطيب المنفعة . وكون أصلها ثابتاً أي : راسخاً باقياً في أمن من الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ليعظم الفرح به والسرور . وكون فرعها في السماء فدل على كمال حال تلك الشجرة من جهة ارتفاع أغصانها وقوتها في التصاعد ، مما يبرهن على ثبات الأصل ورسوخ العروق ، وجهة بعدها عن العفونات والأقذار فتكون ثمرتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب ، وكون ثمرتها تجتنى كل حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها . ولا ريب أن وجود هذه الأوصاف مما يدل على فخامة الموصوف وإنافة فضله . ولا تخفى مطابقة هذا الممثل به للممثل له - أعني الحق - وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليهم السلام .
ولما كان المثل مضروباً للحق والباطل في الثبات وعدمه ، والقصد أهلهما ؛ صرح بهما فذلك له ، فقال في أهل المثل الأول :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } [ 27 ] .
{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } القول الثابت : هو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة وهو الحق . و ( بالقول ) جوزوا تعلقه بـ ( يثبت ) و ( آمنوا ) . والمعنى على الأول : ثبتهم بالبقاء على ذلك ، أو ثبتهم في سؤال القبر به ، وعلى الثاني فالباء سببية ، والمعنى : آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه . و ( في الحياة ) متعلق بـ ( يثبت ) أو بـ ( الثابت ) كما قاله أبو البقاء . واقتصر الزمخشري وأتباعه على الأول حيث قال :
القول الثابت الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه . وتثبيتهم به في الدنيا ، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلِّوا ، كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر . وقيل : معناه : الثبات عند سؤال القبر . فعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، قال : فذلك قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } > رواه الشيخان وأهل السنن .
وعليه ، فتفسير الآخرة بالقبر ؛ لكون الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا .
وقال في أصحاب المثل الثاني :
{ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ } أي : يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم ، ووصفهم بالظلم لوضعهم الشيء في غير موضعه ، أو لظلمهم أنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها : { وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } أي : من التثبيت والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [ 28 - 30 ] .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً } يعني كفار مكة ، أتتهم نعمة الله ، وهي التوحيد والإيمان والهداية ببعثة رسول من أنفسهم ، فبدلوا شكرها كفراً عظيماً وغمصاً لها : { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } أي : ممن أضلوه وصدره عن الهدى فتابعهم : { دَارَ الْبَوَارِ } أي : الهلاك .
{ جَهَنَّمَ } عطف بيان لها : { يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً } أي : من الأوثان فعبدوها : { لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } أي : عن عبادته وحده : { قُلْ } أي : تهديداً لأولئك الضالين المضلين : { تَمَتَّعُواْ } أي : بشهوات الحياة الدنيا : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } [ 31 ] .
{ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ } وهو يوم القيامة : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } أي : ليتدارك به التقصير ، أو يفتدى به : { وَلاَ خِلاَلٌ } أي : مخالة . مصدر بمعنى المصاحبة ؛ أي : لا مفاداة فيه ولا خلة أحد بمغنية شيئاً من شفاعة أو مسامحة بمال يفتدي به ، كما قال تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [ البقرة : 123 ] .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ قلت : من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها ، أو خيراً منها . وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً ، فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبُعثوا عليه ليأخذوا بدله في اليوم : { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله . انتهى .
قال أبو السعود : والظاهر أن ( من ) متعلقة بـ ( أنفقوا ) وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه ، من حيث أن كلاً من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير ؛ معاوضة وتبرعاً ، وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيله تعالى . أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه ، إنما يقع غالباً للتجارات والمهاداة . فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة ، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت . وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال ، وكونها مجبولة على حبه والفتنة به . ولا يبعد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضاً ، من حيث إن تركها ، كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبيوع والمخالات . كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : من الآية 11 ] . ولما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى ، وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكراً لنعمه ؛ شرع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام ، حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المخلين بها ، الواضعين موضعها الكفر والمعاصي ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ } [ 32 ] .
{ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي : المزن : { مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } أي : تعيشون به : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ } أي : السفن : { لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } أي : بإرادته : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ } أي : فتجري حيث تشاؤون من شرب وسقي وسواهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ 33 ] .
{ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ } أي : يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات : { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يتعاقبان خلفه ، لمعاشكم وسباتكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ 34 ] .
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي : ما تحتاجون إليه مما تصلح أحوالكم ومعايشكم به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال .
وقال القاشاني : { مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } بألسنة استعداداتكم ، فإن كل شيء يسأله بلسان استعداده ، كما لا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا } لعدم تناهيها : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ } أي : بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها . أو بنقص حق الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد { كَفَّارٌ } أي : بتلك النعم التي لا تحصى ، باستعمالها في غير ما ينبغي أن تستعمل ، وغفلته عن المنعم عليه به ، واحتجابه بها عنه . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } [ 35 ] .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } أي : اذكر وقت قوله صلوات الله عليه .
قال أبو السعود : والمقصود من تذكيره ، تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل . والمراد به : تأكيد ما سلف من تعجبه عليه السلام ببيان فنٍ آخر من جناياتهم ، حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم ، بعد ما كفروا بالنعم العامة . وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم بمكة شرَّفها الله تعالى لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى . وسأله تعالى أن يجعله بلداً آمناً ويرزقهم من الثمرات ، وتهوي قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق . فاستجاب الله دعاءه ، وجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء . فكفروا بتلك النعم العظام ، واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار . وجعلوا لله أنداداً وفعلوا ما فعلوا .
{ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ } يعني البلد الحرام ، مكة المكرمة : { آمِناً } أي : ذا أمن . أو آمناً أهله { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ } أي : بعدني وإياهم : { أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 36 ] .
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } أي : كن سبباً في إضلالهم . كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم ، إشارة إلى أنه افتتن بالأصنام خلائق لا تحصى . والجملة تعليل لدعائه . وإنما صدره بالنداء إظهاراً لاعتنائه به ، ورغبته في استجابته : { فَمَن تَبِعَنِي } أي : على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي : { فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي } أي : فخالف ملتي : { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : فإنك ذو الأسماء الحسنى ، والمجد الأسمى ، الغني عن الناس أجمعين . وتخصيص الاسمين إشارة إلى سبق الرحمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ 37 ] .
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } أي : بعض أولادي . وهم إسماعيل ومن ولد منه : { بِوَادٍ } هو وادي مكة : { غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } أي : لا يكون فيه زرع : { عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } أي : الذي حرمت التعرض له والتهاون به : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } أي : لكي يأتوا بعبادتك مقوَّمة في ذلك الموضع . وهو متعلق بـ : { أَسْكَنتُ } أي : ما أسكنتهم هذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وحدك . وتكرير النداء وتوسيطه ؛ لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة .
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } أي : تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ، فيأنسوا ويتعارفوا فيتآلفوا ويعودوا على بعضهم بالمنافع : { وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ } أي : فتجلبها إليهم التجار : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } أي : نعمة إقامتهم عند بيتك المحرم بالصلاة فيها ، على كمال الإخلاص والتوحيد ، مع فراغ القلب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } [ 38 ] .
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } لأن الكل خلقه : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : من الآية 14 ] .
قال الزمخشري : المعنى : إنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا . وأنت أرحم بنا منا بأنفسنا ولها ، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب . وإنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك ، وتخشعاً لعظمتك ، وتذللاً لعزتك ، وافتقاراً إلى ما عندك ، واستعجالاً لنيل أياديك ، وولهاً إلى رحمتك . وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبة في إصابة معروفه ، مع توفر السيد على حسن الملكة .
وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح ، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهماً للغفلة عن حوائج السائلين ، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها . انتهى .
وجوَّز في قوله تعالى : { وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ } الخ ، أن يكون من كلامه تعالى ، تصديقاً لإبراهيم ، أو من كلامه عليه السلام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ 39 ] .
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } أي : ليقوما مقامي في الدعوة إليه تعالى وبث الحنيفية وإقامة الصلاة بعد ذهابي : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي : مجيبه .
قال الزمخشري : وإنما ذكر حال الكبر ، لأن المنَّة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس ، من أجل النعم وأحلاها في نفس الظافر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } [ 40 ] .
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي : عبادتي ، كذا في " التنوير " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ 41 ] .
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } أي : مجازاة العباد على أعمالهم . قرئ ( ولوالدِي ) بالإفراد ، وكأن هذا قبل تبين أمره له عليه السلام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [ 42 ] .
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } يعني مشركي أهل مكة . أي : لا تحسبه ، إذا أنظَّرهم وأجَّلهم ، أنه غافل عنهم ، مهمل لهم ، لا يعاقبهم على عملهم ، بل هو يحصيه عليهم ويعدُّه عليهم عداً . وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه ، ووعد له أكيد ، ووعيد للكفرة وسائر الظالمين شديد .
{ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } أي : بإمهالهم متمتعين بشهواتهم ، ولا يعجل عقوبتهم : { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } أي : ترتفع فيه أبصار أهل الموقف ، لهول ما يرون . فلا تقر أعينهم في أماكنها ولا تطرف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [ 43 ] .
{ مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر . وهذا بيان لكيفية قيامهم من قبورهم ، وعجلتهم إلى المحشر ، كقوله تعالى : { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاع } [ القمر : من الآية 8 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً } [ المعارج : من الآية 43 ] .
{ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أي : رافعيها إلى السماء : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي : لا يطرفون ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } أي : لا قوة فيها ولا ثبات ؛ لشدة الفزع .
قال الزمخشري : الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به . فقيل : قلب فلان هواء ، إذا كان جباناً لا قوة في قلبه ولا جراءة . ويقال للأحمق أيضاً : قلبه هواء . والمعنى : أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها . والأبصار شاخصة ، والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته وخوف ما يقع فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ } [ 44 ] .
قوله : { وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ } يعني يوم القيامة : { فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا } أي : رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا : { إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : أمد من الزمان قريب : { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ } أي : إلى الإقرار بتوحيدك وأسمائك الحسنى : { وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } أي : [ إلى ما ] دعونا إليه من الشرائع .
{ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم } على إضمار القول . أي : فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً [ ألم ] تكونوا تحلفون : { مِّن قَبْلُ } يعني في الدنيا : { مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ } أي : من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء . كقوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } [ النحل : من الآية 38 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ } [ 45 ] .
{ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } كعاد وثمود : { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } أي : بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم ، وما تواتر عندكم من أخبارهم : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ } أي : صفات ما فعلوا وما فعل بهم . أي : ومع ذلك فلم يكن لكم فيهم معتبر ولا مزدجر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ 46 ] .
{ وَقَدْ مَكَرُواْ } أي : بالنبي صلوات الله عليه : { مَكْرَهُمْ } أي : العظيم ، أي : الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل : { وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ } أي : جزاء مكرهم : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } أي : في العظم والشدة : { لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } أي : مُسَوَّى ومُعَداً لإزالة الجبال عن مقارِّها ، لتناهي شدته .
وجوَّز في ( إن ) كونها نافية واللام مؤكدة له . والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أن الجبال مَثَلٌ ( أي : استعارة تمثيلية ) لآيات الله وشرائعه ؛ لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً . وينصره قراءة ابن مسعود : ( وَمَا كانَ مَكرُهُم ) وقرئ ( لَتَزُولُ ) بلام الابتداء أي : هو من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ 47 ] .
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي : من نصرهم المبين في قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : من الآية 51 ] ، { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : من الآية 21 ] ، { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } [ النور : من الآية 55 ] الآية .
واستظهر أبو السعود : أن المعنى بالوعد هنا عذابهم الأخروي المتقدم في قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ } الخ [ إبراهيم : من الآية 42 ] ، ولا يخفى أن الوعد قد بين في مثل الآية الأخيرة والأوليين في معناها . والبيان يرفع اللبس . وإنما أوثر تقديم المفعول الثاني ، أعني ( وعده ) على الأول وهو ( رسله ) للإيذان بالعناية به . فإن الآية في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله به على ألسنة الرسل . فالمهم في التهديد ذكر الوعيد . كذا في " الانتصاف " .
وفي " الكشف " تقديمه للاعتناء به وكونه المقصود بالإفادة . وما ذكره ممن وقع الوعد على لسانه ، إنما ذكر بطريق التبع للإيضاح ، والتفصيل بعد الإجمال . وهو من أسلوب الترقي كما في قوله : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } [ طه : من الآية 25 ] . و : { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } أي : غالب لا يُماكَرُ : { ذُو انْتِقَامٍ } من أعدائه ، نصراً لأوليائه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ 48 ] .
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وذلك أنه تسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوَّى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت . وتبدل السماوات بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها ، وكونها أبواباً و ( يوم ) بدل من ( يوم يأتيهم ) أو ظرف للانتقام أو مقدر بـ ( اذكر ) أو ( لا يخلف وعده ) .
{ وَبَرَزُواْ } أي : الخلائق أو الظالمون من أجداثهم : { للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : لحسابه وجزائه .
قال أبو السعود : والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة وإظهار بطلان الشرك وتحقيق الانتقام في ذلك اليوم على تقدير كونه ظرفاً له . وتحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كونه بدلاً من ( يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) فإن الأمر إذا كان لواحد غلاَّب ؛ كان في غاية الشدة والصعوبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } [ 49 ] .
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } جمع ( مقرَّن ) وهو من جمع في قَرَن ( بفتحتين ) الوثاق الذي يربط به . أي : قرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والفساد . فيجمع بين النظراء والأشكال منهم ، كل صنف إلى صنف . كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] . وقال : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] ، أو : قرنوا مع الشياطين ، لقوله تعالى : { لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } [ مريم : 68 ] ، أو قرنت أيدهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال . وقوله تعالى : { فِي الأصْفَادِ } أي : القيود أو الأغلال ، جمع صَفَد ( بفتحتين ) بمعنى القيد أو الغل . والقيد هو الذي يوضع في الرجل . والغُل ( بالضم ) ما في اليد والعنق وما يضم به اليد والرجل إلى العنق . والجار متعلق بـ : { مُقَرَّنينَ } أو حال من ضميره أي : مصفدين ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } [ 50 ] .
{ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } تشبيه لهم بأكره ما يوجد منظراً عند العرب ، وهو الإبل الجربى التي تطلى بالقطران . وإعلام بأن لهم أعظم ما ينال الجلد داء وهو تقرحه بالجرب . وأخبث ما يكون دواء لقبحه لوناً وريحاً ، وهو القطران ، فإنه أسود منتن الريح .
قال الزمخشري : تطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ، وهي القمص لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران ، وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين . وكل ما وعده الله وأوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهده من جنسه ما لا يقادَرُ قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة . فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه . ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه . انتهى .
ويؤيد ما بيناه من أن في الآية إشارة إلى ابتلائهم بجرب جهنم : ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : < أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت ، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب > .
وقد وقفت على رسالة لشمس البلغاء الخوارزمي أنفذها لمن شكا إليه داء الجرب ، جاء منها قوله : الجرب حكة مادتها يبوسة وحرارة ، ووقود والتهاب ، وعسكر من عساكر البلاء تمده القذارة ، كما تزيد فيه اليبوسة والحرارة ، وعلة تدل على تضييع واجب النفس من التعهد ، وعلى التفريط في العلاج والتفقد ، تنطق بأن صاحبها ضعيف المُنَّة في التوقي ، أسير في يد الحرص والتشهي ، غاش لنفسه ، قليل البقيا على روحه . وهذه العلة تكسب صاحبها خزياً وحياءً ، وتورثه خجلاً واسترخاءً ، ينظر إلى الناس بعين المريب ، ويتستر عنهم كتستر المعيب . تنفر عنه الطباع ، وتستقذره النفوس ، وتنبو عن مواكلته العيون . وأقل ما يصيبه أنه يحرم آلة المطاعم وهي يداه ، وآلة اللقاء والزيارة وهي رجلاه . ولو لم يكن من دقائق آفاتها ومن عجيب هباتها . إلا أنها تشيخ الفتيان ، وتمسخ الإنسان ، وتجعله أمِّياً بعد أن كان غير أمِّي ، وأعجمياً وليس بأعجمِّي . تنفر عن نفسه نفسُه ، وتهرب من فراشه عرسُه ، ويتباعد عنه أقرب الناس منه . ثم هي رُبع من أرباع الخذلان وقسم من أقسام الحرمان . قال الشاعر :
~أعاذك الله من أشياء أربعة الموت والعشق والإفلاس والجرب
وما الظن بداء قد سارت به الأمثال وقيلت فيه دون سائر الأدواء الأقوال .
قال أبو تمام :
~لما رأت أُختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
وقال لَبِيد :
~ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فجعله رأس الأدواء ، ووصفه بأنه غاية البلاء . انتهى . وقوله تعالى :
{ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } أي : تعلوها وتحيط بها النار التي تمس جسدهم المسربل بالقطران . وتخصيص الوجوه ؛ لكونها أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : { تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 7 ] ، ولكونها مجمع الحواس التي خلقت لإدراك الحق . وقد أعرضوا عنه ، ولم يستعملوها في تدبره . كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة ، قد ملؤوها بالجهالات . أفاده الزمخشري وأبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 51 ] .
{ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } الجار متعلق بمحذوف . أي : يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي ، الخ . و ( النفس ) مخصوصة بالنفس المجرمة بقرينة المقام . أو عام للبرة والفاجرة . وعليه فيجوز تعلقه بقوله : { وَبَرزُوْا } وما بينهما اعتراض أو بـ ( ترى ) : { إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : محاسبة الخلائق يوم القيامة ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن . وجميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة } [ لقمان : 28 ] ، أو المعنى : سريع حسابه ، أي : مجيئه كقوله : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [ 52 ] .
{ هَذَا } إشارة إلى القرآن أو السورة وقوله : { بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ } أي : كفاية لهم لما فيه من العظة والتذكير . وقوله : { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } أي : ليخوَّفوا وليوعظوا به عن الجرائم التي أخذ بها الأولون : { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : يستدلوا بما فيه من الحجج والدلائل على أنه لا إله إلا هو . وإنما قدم إنذارهم ؛ لأنهم إذا خافوا ما أُنذروا به ؛ دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد ؛ لأن الخشية أمُّ الخير كله . أفاده الزمخشري : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } أي : ليتعظ به ذوو العقول ، فيقبلوا على ما فيه نجاتهم وسعادتهم .

(/)


سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [ 1 ] .
{ الَرَ } تقدم الكلام في مثله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } الإشارة إلى : { الَرَ } لأنه اسم للسورة ، أي : تلك السورة العظيمة آيات الكتاب الكامل وآيات قرآن عظيم الشأن ، مبين للحكم والأحكام ولسبيل الرشد والغي . من ( أَبَان ) المتعدي . أو الظاهر معانيه أو أمر إعجازه ، وكونه آية قاهرة من ( أَبَان ) اللازم . أو الإشارة إلى آيات السورة ، أو إلى جميع آيات القرآن . وتعريف الكتاب للتعظيم والتفخيم ، كتنكير ( قرآن ) . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ 2 ] .
{ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بظهور دينه . وأنه سوف يأتي أيام يتمنى الكافرون بها أن لو سبق لهم الإسلام فكانوا من السابقين ؛ لما يرون من إعلاء كلمة الدين وظهوره على رغم الملحدين ؛ لأن من تأخر إسلامه منهم ، وإن ناله من الفضل ما وعد به الحسنى ، ولكن لا يلحق السابقين : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً } [ الحديد : 10 ] ، وفيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على الصدع بالدعوة والصبر عليها ؛ ، لما أن العاقبة له . وإنما جيء بصيغة التقليل جرياً على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، ترفعاً واستغناءً عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهوره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 3 ] .
{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } أي : بدنياهم وتنفيذ شهواتهم : { وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ } أي : يشغلهم عن التوبة والتذكير ، أملَ استقامة الحال . وأن لا يلقوا إلا خيراً في المآل : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : لمن تكون له العقبى .
قال الزمخشري : فيه تنبيه .
ثم بيَّن تعالى سر تأخير عذابهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ 4 ] .
{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } أي : أجل مقدر ليتأمل في أسباب الهلاك ليتخلص عنها ، وذلك بما قام من الحجة عليها ، بتقدم الإنذار وتكرره على سمعهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [ 5 ] .
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } أي : لا تهلك قبله : { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } أي : عنه ؛ للزوم الحجة وارتفاع الأعذار . ثم أخبر تعالى عن عتوهم في كفرهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ 6 ] .
{ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } أي : يا أيها المدعي ذلك ! إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى اتباعك ، وترك ما وجدنا عليه آباءنا . أو في دعواك تنزيل الذكر . أو نادوه بذلك استهزاء وتهكماً . أو هو من كلامه تعالى تبرئة له عما نسبوه إليه من أول الأمر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } [ 7 - 8 ] .
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك كقوله : { لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] ، وقول فرعون : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53 ] .
ثم أشار إلى جواب مقالهم ، ورد مقترحهم بقوله تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ } أي : عليهم فيأتونهم ويشاهدونهم : { إِلاَّ بِالحَقِّ } أي : الحكمة التي جرت بها السنة الإلهية ، وهو العذاب : { وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } أي : مؤخرين . كقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 21 - 22 ] .
ثم أشار إلى رد إنكارهم التنزيل مع تسلية وبشارة عظيمة ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ 9 ] .
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي : من كل من بغى له كيداً . فلا يزال نور ذكره يسري ، وبحر هداه يجري ، وظلال حقيَّته في علومه تمتد على الآفاق ، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق ، رغماً عن كيد الكائدين ، وإفساد المفسدين : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ] ، وفي إيراد الجملة الثانية اسمية ؛ دلالة على دوام الحفظ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 10 - 11 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا } أي : رسلاً : { مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ } أي : فرقهم وطوائفهم . جمع ( شيعة ) وهي الفرقة المتفقة على مذهب وطريقة . و ( الأولين ) نعت لمحذوف . أي : الأمم . أو الكلام من إضافة الصفة للموصوف .
{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } أي : كما يفعله هؤلاء المشركون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِين َ *لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } [ 12 - 13 ] .
{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } أي : الذكر المنزل : { فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي : الكافرين وقوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : بالذكر . حال من ضمير ( نسلكه ) أي : مكذَّباً مستهزأ به غير مقبول .
قال الزمخشري : كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام . تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم ، مردودة غير مقضية . وقيل الجملة بيان لما قبلها . وجوز في ضمير ( نسلكه ) أن يعود إلى الاستهزاء والتكذيب المعلوم . وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } استئناف جيء به تكملة للتسلية ، وتصريحاً بالوعيد والتهديد . أي : قد مضت السنة فيهم من هلاكهم ، وزهوق باطلهم ، ونصر الرسل وغلبة جنود المؤمنين عليهم واستعمارهم ديارهم ، ثم بيَّن تعالى أنهم لا يتركون الاستهزاء بالرسل وإن أتتهم الآيات التي تشبه الملجئة لقوة عنادهم وبغيهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [ 14 - 15 ] .
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } أي : على هؤلاء المستهزئين : { بَاباً مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ } أي : فصاروا طول نهارهم : { فِيهِ يَعْرُجُونَ } أي : يصعدون مستوضحين لما يرونه فيها من العجائب .
{ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } أي : حيرت أو حبست من الإبصار ، وما نراه شيء نتخايله لا حقيقة له : { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } .
قال الناصر في " الانتصاف " : المراد ، والله أعلم ، يعني من الآيتين : إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين . فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء ، كلٍّ على علم وفهمٍ : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن . فأعلمهم الله تعالى من الآن ، وهم في مهلة وإمكان ؛ أنهم ما كفروا إلا على علم ، معاندين باغين غير معذورين ، والله أعلم . ولذلك عقبه تعالى بقوله : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } الآية ، أي : هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه ، وولج ذلك في قلوبهم ووقر ، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد ، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة ، وذلك بأن يُفتح لهم باب في السماء ، ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهاراً .
وإلى ذلك الإشارة بقوله : { فَظَلُّوا } لأن الظلول إنما يكون نهاراً ؛ لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف : { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } وسحرنا محمد . وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها . فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب ، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم ، كما فهم غيرهم من المصدقين ؛ لأن ذلك كله حاصل لهم . وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غيره . والله أعلم .
ثم بيَّن تعالى دلائل وحدته وعظمته وقدرته الباهرة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } [ 16 - 18 ] .
{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً } جمع ( برج ) يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الاثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية .
وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور ، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها . فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة : { وَزَيَّنَّاهَا } أي : السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية : { لِلنَّاظِرِينَ } أي : إلى حركاتها وأضوائها . أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته .
{ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ }
{ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ } أي : اختلس : { السَّمْعَ } أي : من الملائكة السماوية : { فَأَتْبَعَهُ } أي : تبعه ولحقه : { شِهَابٌ مُّبِينٌ } أي : لهب محرق ظاهر ، فيرجع أو فيحترق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } [ 19 ] .
{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي : بسطناها : { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } أي : وزن بميزان الحكمة ، وقدر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو بمعنى مستحسن متناسب ، من قولهم : كلام موزون .
وقد ذكر الشريف المرتضى في " الدرر " أن العرب استعملته بهذا المعنى ، كقول عمر ابن أبي ربيعة .
~وحديث ألذه هو مما تشتهيه النفوس يوزن وزنا

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ 20 - 21 ] .
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } أي : ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما ، مما تقتضيه ضرورة الحياة : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } أي : من الأنعام والدواب وما أشبهها . قال القاضي : وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين ، مختلفة الأجزاء في الوضع ، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز أن لا يكون كذلك ، على كمال قدرته وتناهي حكمته ، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ؛ ليوحدوه ويعبدوه . ثم بالغ في ذلك وقال : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي : وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه . شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، المعدَّة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم ، استعارة تمثيلية . أو شبَّه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد ، استعارة مكنية ، ومعنى : { نُنَزِّلُهُ } أي : نوجده ونخرجه في عالم الشهادة . والقدر المعلوم : الأجل المعين له ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } [ 22 - 23 ] .
{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } أي : تلقح السحاب ، أي : تجعلها حوامل بالماء ، وذلك أن السحاب بخار يصير ، بإصابته الهواء البارد حوامل للماء . قاله المهايمي . فاللواقح عليه جمع ( ملقح ) بحذف الزوائد . أو تلقح الشجر بجري مائها فيه ، أو تنيمته ليثمر ويزهو . وجوَّز كون اللواقح جمع ( لاقح ) وهي الناقة الحامل . فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها ، كما يشبه ما لا تكون كذلك بـ ( العقيم ) فقيل : ريح عقيم { فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } أي : بقادرين على إيجاده وإنزاله . و ( الخزن ) اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة ، كما مرَّ ، أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه ، من سهول وجبال وعيون وآبار ، بل هو تعالى وحده الذي حفظه وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذباً ورحم بسقياه .
{ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } أي : الباقون بعد هلاك الخلق كله . وقيل للباقي : وارث ، استعارة من ( وارث الميت ) لأنه يبقى بعد فنائه . ومنه قوله صلوات الله عليه في دعائه : < واجعله الوارث منا > . كذا في " الكشاف " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ 24 - 25 ] .
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } أي : من تقدم ولادةً وموتاً ، ومن تأخر من الأولين والآخرين . أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد . أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر . لا يخفى علينا شيء من أحوالكم . وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه ، وفي تكرير قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا } من كمال التأكيد ما لا يخفى .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي : الأولين والآخرين على كثرتهم : { إِنَّهُ حَكِيمٌ } أي : يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة : { عَلِيمٌ } أي : بكل ما فيهم من خفايا الصفات الذميمة : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُم } [ الأنعام : 139 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ } [ 26 - 27 ] .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ } يعني آدم : { مِن صَلْصَالٍ } أي : طين يابس مصوِّت : { مِّنْ حَمَإٍ } صفة لصلصال ، أي : كائن من طين متغير مسود : { مَّسْنُونٍ } أي : مصور ، من ( سنة الوجه ) وهي صورته . أو مصبوب ، من ( سنِّ الماء ) صبه . أي : مفرغ على هيئة الإنسان . كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم صيَّره جسداً ولحماً ونفخ فيه من روحه .
{ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } أي : من قبل الإنسان .
{ مِن نَّارِ السَّمُومِ } أي : من نار الريح الشديد الحرِّ .
قال أبو السعود : ومساق الآية ، كما هو ، للدلالة على كمال قدرته تعالى ، وبيان بدء خلق الثقلين ؛ فهو التنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ 28 - 29 ] .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : عدلت خلقته وأكملتها : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } أي : تحية له وتعظيماً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ 30 - 33 ] .
{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } .
يعني : وقد خلقتني من نار ، فأنا خير منه ، كمما صرح به في آية غيرها . وفي تكرير قوله : { مِن صَلْصالٍ } الخ تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول ؛ ليكون كابحاً من جماح غوايته ، وشدة تمرده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ 34 - 38 ] .
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } أي : من زمرة الملائكة المعززين : { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي : مطرود من كل خير وكرامة . فإن من يطرد يرجم بالحجارة . أو شيطان يرجم بالشهب ، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته . فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون . أفاده أبو السعود .
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } أي : الجزاء . وهو يوم القيامة .
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } وهو يوم البعث .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [ 39 - 41 ] .
{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } أي : المعاصي : { فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } أي : الذين أخلصتهم لطاعتك وجردتهم بالتوجه إليك . وقرئ بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا دينهم لك وأعمالهم من غير حظ لغيرك فيها .
{ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أي : حق نهجه ومراعاته لا اعوجاج فيه . وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين ، إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي فيتبعونك ، كما قال سبحانه :

(/)


{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ 42 - 44 ] .
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي : قهر على الإغراء .
{ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي : المطبوعين على الغواية .
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } قال المهايمي : لأن غوايتهم إنما كانت بترك متابعة الدليل مع متابعة الأهوية الباطلة ؛ لغلبتها عليهم .
{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ } أي : الغواة : { جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } أي : حزب معين مفرز من غيره ، حسبما يقتضيه استعداده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين َ *لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ 45 - 48 ] .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا } أي : يقال لهم ادخلوها : { بِسَلاَمٍ } أي : سالمين أو مسلماً عليكم : { آمِنِينَ } أي : من الآفات والزوال .
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } أي : حقد كان في الدنيا ، لبعضهم على بعض : { إِخْوَاناً } حال من فاعل : { ادْخُلُوها } أو الضمير في ( آمنين ) : { عَلَى سُرُرٍ } أي : مراتب عالية : { مُّتَقَابِلِينَ } لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم . فيتلذذ بعضهم برؤية وجه بعض : { مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } أي : تعب : { وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } لسرمدية مقامهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ } [ 49 - 52 ] .
{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .
{ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ } أي : لمن لم يتب من كفره . والجملة فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له .
{ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ } أي : عن نبئه . والضيف كالزّور ، يقع على الواحد والجمع .
قال في " الكشاف " : عطف : { وَنَبِّئْهُمْ } على : { نَبِّىءْ عِبَادِي } ليتخذوا ما أحلَّ من العذاب بقوم لوط ، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم .
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ } أي : خائفون ، وذلك لما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } [ 53 - 56 ] .
{ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ } أي : مع مس الكبر بأن يولد لي ، والكبر مانع منه : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } قال الزمخشري : هي ( ما ) الاستفهامية دخلها معنى التعجب . كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني . أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة ، فبأي شيء تبشرون ؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء ؛ لأن البشارة بمثل هذا ، بشارة بغير شيء .
{ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ } أي : الآيسين من ذلك .
{ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } يعني لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله تعالى ، والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } [ 57 - 60 ] .
{ قَالَ } أي : إبراهيم ، بعد أن ذهب عنه الروع : { فَمَا خَطْبُكُمْ } أي : أمركم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة : { أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي : إلى إهلاكهم . يعنون قوم لوط .
{ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين مع الكفرة ، لتهلك معهم . وإسناد التقدير له مجازي من باب قول خواص الملك ( دبرنا كذا وأمرنا بكذا ) وإنما يعنون دبر ملك وأمر . هذا إذا كان ( قدرنا ) بمعنى أردنا وقضينا . وإن كان بمعنى علمنا ، فلا غرو في علم الملائكة ذلك ، بإخباره تعالى إياهم به .
ومن الناس من يجعل ( قدرنا ) من كلامه تعالى ، غير محكي عن الملائكة . قال في " الانتصاف " : وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ 61 - 64 ] .
{ فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي : لا أعرفكم ولا أدري من أي : الأقوام أنتم وما أقدمكم .
وقال المهايمي : أي : يخاف منكم تارة وعليكم أخرى . والظاهر أنه قال ذلك لهم بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم ، كما فصل في سورة هود .
{ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي : العذاب الذي كنت تتوعدهم به ، فيمرون به ويكذبونك .
{ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ } أي : اليقين مع هلاكهم : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } [ 65 - 67 ] .
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } أي : فاذهب بهم في الليل : { بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ } أي : في طائفة منه ، وهي آخره : { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } أي : كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطَّلع على حالهم : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي : لينظر ما وراءه ، فيرى من الهول ما لا يطيقه : { وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } .
{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } أي : يستأصلون عن آخرهم ، حال كونهم داخلين في الصبح .
{ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ } أي : مدينة لوط ، وهي سدوم : { يَسْتَبْشِرُونَ } أي : بأضيافه ، طمعاً فيهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ } [ 68 - 77 ] .
{ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ } أي : بالإساءة إليهم ، فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف .
{ وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ } .
{ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } أي : عن أن تجير أحداً منهم ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد . وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرِّض له . فأوعدوه وقالوا : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } [ الشعراء : 167 ] . أفاده الزمخشري .
{ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } تقدم الكلام عليه في سورة هود مفصلاً .
{ لَعَمْرُكَ } قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ، اعترض به تعباً من شدة غفلتهم وتكريماً للمخاطب : { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ } أي : غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم : { يَعْمَهُونَ } أي : يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم . ولما لم يسمعوا منه النصيحة المبقية لهم ؛ أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } أي : صيحة العذاب : { مُشْرِقِينَ } أي : داخلين في وقت شروق الشمس .
{ فَجَعَلْنَا } أي : من تلك الصيحة المحركة للأرض : { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } قال المهايمي : لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي : طين متحجر ؛ لرجمهم على لواطهم .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } أي : الناظرين بطريق في الآيات .
{ وَإِنَّهَا } يعني مدينة قوم لوط المدمَّرة : { لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ } أي : ثابت يسلكه الناس ، لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار .
قال الزمخشري : وهو تنبيه لقريش ، كقوله : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 - 138 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ } أي : في هلاكهم لعبرة لهم .
تنبيهان :
الأول : قال ابن القيم في " أقسام القرآن " : أكثر المفسرين من السلف والخلف ، بل لا يعرف السلف فيه نزاعاً - أن هذا - يعني قوله تعالى : { لَعْمُركَ } قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته . وهذه مزية لا تعرف لغيره .
ولم يوفق الزمخشري لذلك ، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط . وإنه من قول الملائكة .
فقال : هو على إرادة القول . أي : قالت الملائكة للوط عليه السلام : { لَعْمُركَ } الآية ، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين ، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب ، لا أهل التعطيل والاعتزال .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : { لَعْمُركَ } أي : حياتك ، قال : وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره . والعَمر والعُمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف ؛ لكثرة دور الخلف على ألسنتهم . وأيضاً فإن العمر حياة مخصوصة ، فهو عمر شريف عظيم أهلٌ أن يقسم به ؛ لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم . ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات ، فهو أهل أن يقسم به . والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات . ثم قال ابن القيم : وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة ؛ لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل :
~سُكْرَانِ سُكْرُ هَوْى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرانِ
الثاني : قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في الفراسة . أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً : < اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله > ، ثم قرأ هذه الآية . وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام ، جرياً على طريق إياس بن معاوية . انتهى .
وقد أجاد الكلام في الفراسة الراغب الأصفهاني في كتاب " الذريعة " حيث قال في الباب السابع : وأما الفراسة ، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله .
وربما يقال : هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله . وقد نبه الله تعالى على صدقها بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] ، وقوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُم } [ البقرة : 273 ] ، وقوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] ، ولفظها من قولهم ( فَرسَ السبعُ الشاةَ ) فكأن الفراسة اختلاس المعارف ، وذلك ضربان : ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه ، وذلك ضرب من الإلهام ، بل ضرب من الوحي ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : < المؤمن ينظر بنور الله > وهو الذي يسمى صاحبه : المروّع والمحدَّث . وقال عليه الصلاة والسلام : < إن يكن في هذه الأمة محدَّث فهو عمر > .
وقيل في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] الآية ، إنما كان وحياً بإلقائه في الروع ، وذلك للأنبياء كما قال عز وجل : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلبِكَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] ، وقد يكون بإلهام في حال اليقظة ، وقد يكون في حال المنام . ولأجل ذلك قال عليه الصلاة السلام : < الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة > .
والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال ، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية . ومن عرف ذلك كان ذا فهم ثاقب بالفراسة . وقد عمل في ذلك كتب ، من تتبع الصحيح منها اطلع على صدق ما ضمنوه . والفراسة ضرب من الظن . وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال : الظن بتقلب القلب ، والفراسة بنور الرب . ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [ الحجر : 29 ] و [ ص : 72 ] ، كان ممن وصفه بقوله : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [ هود : 17 ] ، وكان ذلك النور شاهداً ؛ أصاب فيما حكم به . ومن الفراسة قوله عليه السلام في المتلاعنين : < إن أمرهما بيِّنٌ ، لولا حكم الله > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ * وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ 78 - 81 ] .
{ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ } ( إن ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف . أي : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام . كانوا يسكنون أيكة ، وهي بقعة كثيرة الأشجار ، فظلموا بأنواع من الظلم ، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان . فبعث الله إليهم شعيباً عليه السلام فكذبوه .
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي : بعذاب الظلة ، وهي : سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها ، فأحرقتهم : { وَإِنَّهُمَا } يعني قرى قوم لوط والأيكة : { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي : طريق واضح . وقد كانوا قريباً من قوم لوط ، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان . ولهذا لما أنذرهم شعيب قال : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد } [ هود : 89 ] .
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ } يعني ثمود ، كذبوا صالحاً عليه السلام . ومن كذب واحداً من الأنبياء عليهم السلام ، فقد كذب الجميع ؛ لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار . و ( الحجر ) : واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه . معروف ، يجتازه ركب الحج الشاميِّ .
{ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيهم ، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء ، وكانت تسرح في بلادهم : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] ، فلما عتوا وعقروها ، قال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ 82 - 87 ] .
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } أي : من حوادث الدهر .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } أي : وقت الصباح من اليوم الرابع . وفي سورة الأعراف : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة } [ الأعراف : 78 ] أي : الزلزلة ، وهي من توابع الصيحة . أو هي مجاز عنها .
{ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي : ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة ، حتى عقروها ؛ لئلا تضيق في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال لما جاء أمره تعالى .
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } أي : إلا خلقاً متلبساً بالحق والحكمة الثابتة ، التي لا تقبل التغير . وهي الاستدلال بها على الصانع وصفاته وأسمائه وأفعاله ليعرفوه فيعبدوه ، بحيث لا يلائم استمرار الفساد . ولذلك اقتضت الحكمة إرسال الرسل مبشرين ومنذرين : { وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ } أي : فيجزي كلاً بما كانوا يعملون : { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } أي : عاملهم معاملة الصفوح الحكيم ، كقوله : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 89 ] .
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } تقرير للمعاد ، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة . فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ، العليم بما تمزَّق من الأجساد وتفرَّق في سائر أقطار الأرض ، كقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [ يس : 81 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } قال الرازي : إنه تعالى لما صبَّره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل ؛ أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها ؛ لأن الإنسان إذا تذكر نعم الله عليه ، سهل عليه الصفح والتجاوز .
( والسبع المثاني ) هو القرآن كله كما قاله ابن العباس في رواية طاوس ؛ لقوله تعالى : { كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، والواو في قوله : { وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } لعطف الصفة ، كقول الشاعر :
~إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
و ( السبع ) : يراد بها الكثرة في الآحاد ، كالسبعين في العشرات . و ( المثاني ) جمع مثنى بمعنى التثنية أو الثناء ، فإنه تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه . أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز . أو مثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى .
وقد روي عن بعض السلف تفسير السبع بالسور الطوال الأول ، وهذا لم يقصد به ، إلا أن اللفظ الكريم يتناولها ، لا أنها هي المعنية . كيف لا وهذه السورة مكية وتلك مدنيات ؟ كالقول بأنها الفاتحة سواء . وأما حديث : < الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته > عند الشيخين ؛ فمعناه أنها من السبع ، لعطف قوله : < والقرآن العظيم الذي أوتيته > ولو كان القصر على بابه ، لناقضه لمعطوف ؛ لاقتضائه أنها هو لا غيره . وبداهة بطلانه لا تخفى .
وسر الإخبار بأنها السبع ، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ، كما بينه الإمام مفتي مصر في " تفسير الفاتحة " فراجعه . هذا ما ظهر لي الآن في تحقيق الآية .
وللأثري الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار ، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث ، أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء ، لا بمعنى الكتاب كله . والله أعلم .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ } [ 88 - 90 ] .
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } يعني : قد أوتيت النعمة العظمى ، التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ، وهي القرآن العظيم . فعليك أن تستغني ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا وزينتها أصنافاً من الكفار متمنياً لها . فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته . وفي التعبير عما أوتوه ( بالمتاع ) إنباء عن وشك زوالها عنهم .
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : لعدم إيمانهم ، المرجو بسببه تقوي ضعفاء المسلمين بهم : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء .
{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } أي : المنذر المظهر للعذاب لمن لم يؤمن .
{ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ } أي : مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين . أو إنذاراً مثل ما أنزلنا . قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح عليه السلام, الذين تقاسموا بالله : { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } فأخذتهم الصيحة ، كما مر . فالاقتسام من ( القسم ) لا من القسمة .
وهذا التأويل اختاره ابن قتيبة .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 91 - 93 ] .
{ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } أي : أجزاء ، جمع ( عضة ) يعني كفار مكة . قالوا : سحر . وقالوا : كهانة . وقالوا : أساطير الأولين . وهو مبتدأ خبره : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من التقسيم فنجازيهم عليه . وجوَّز تعلق ( كما ) بقوله : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ } أي : لنسألنهم أجمعين مثل ما أنزلنا . فيكون ( كما ) رأس آية و ( المقتسمون ) حينئذ : إما من تقدم ، أو المشركون . ويعني بالإنزال عليهم إنزال الهداية التي أَبَوْها . وجوَّز جعل الموصول مفعولاً أول للنذير ، أو لما دلَّ عليه من أنذر ، أي : النذير . أو أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين . وجوَّز جعل ( كما ) متعلقاً بقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ } أي : أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب الذين جزؤوا القرآن إلى حق وباطل . حيث قالوا : قسم منه حق موافق لما عندنا . وقسم باطل لا يوافقه . أو القرآن هو مقروؤهم . أي : قسموا ما قرؤوا من كتبهم وحرفوه ، فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين َ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 94 - 96 ] .
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أمر من ( الصدع ) بمعنى الإظهار والجهر ، من ( انصداع الفجر ) . أو من ( صدع الزجاجة ) ونحوها وهو تفريق أجزائها . أي : افرق بين الحق والباطل : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } أي : الذين يرومون صدك عن التبليغ ، فلا تبال بهم .
{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } أي : حفظناك من شرهم ، فلا ينالك منهم ما يحذر . وهذا ضمان منه تعالى ، له صلوات الله عليه ؛ لينهض بالصدع نهضة من لا يهاب ولا يخشى . كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] .
{ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ } وصفهم بذلك ؛ تسليةً له عليه الصلاة والسلام ، وتهويناً للخطب عليه ، بأنهم أصحاب تلك الجريمة العظمى ، التي هي أكبر الكبائر ، التي سيخذلون بسببها . كما قال : { فَسَوْفَ يَعْلَمُُونَ } أي : عاقبة أمرهم . وقد جوَّز في الموصول أن يكون صفة ( للمستهزئين ) ومنصوباً بإضمار فعل . ومرفوعاً بتقدير ( هم ) . وفي الآية وعيد شديد لمن جعل معه تعالى معبوداً آخر . وقد أشار كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } عنى به ما عجله من إهلاكهم . كما روى ابن إسحاق عن عروة : أن عظماء المستهزئين كانوا خمسة نفر ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم : من بني أسد أبو زَمْعَة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : < اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده > ومن بني زهرة الأسود ، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة ، ومن بني سهم العاص بن وائل ، ومن خزاعة الحارث . فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء ؛ أنزل الله تعالى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } إلى قوله : { فَسَوفَ يَعْلمُونَ } . قال ابن إسحاق عن عروة : إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت ، فقام وقام رسول الله إلى جنبه ، فمر به الأسود ، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه . ومر به الوليد فأشار إلى أثر جراح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين فانتقض به فقتله . ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه ، فخرج على حمار يريد الطائف ، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه . ومر به الحارث فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله . انتهى .
ومثله ما رواه ابن مسعود : قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي في ظل الكعبة ، وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزوراً في ناحية مكة ، فبعثوا فجاؤوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد . فجاءت فاطمة فطرحته عنه ، فلما انصرف قال : < اللهم ! عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عُتْبَة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط > .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ 97 - 99 ] .
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } لما ذكر تعالى أن قومه يهزأون ويسفهون ؛ أعلمه بما يعلمه سبحانه منه ، من ضيق صدره وانقباضه بما يقولون ؛ لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك . ثم أعلمه بما يزيل ضيق الصدر والحزن ، وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة ، كما قال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 45 ] ، وقال : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] ومعلوم أن في الإقبال على ما ذكر ، استنزال الإمداد الرباني بالنصر والمعونة ؛ لقوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] و [ الأنفال : 46 ] ، وقوله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] .
وقد روي في شمائله صلوات الله عليه ؛ أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، تأويلاً لما ذكر .
قال أبو السعود : وتحلية الجملة بالتأكيد ؛ لإفادة تحقيق ما تضمنته من التسلية . وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ، والإشعار بعلة الحكم ، أعني الأمر بالتسبيح والحمد . والمراد من ( الساجدين ) المصلين ، من إطلاق الجزء على الكل . و ( اليقين ) : الموت ، فإنه متيقن اللحوق بكل حيّ مخلوق . وإسناد الإتيان إليه ؛ للإيذان بأنه متوجه إلى الحيِّ طالب للوصول إليه . والمعنى : دُمْ على العبادة ما دمت حياً . كقوله تعالى في سورة مريم : { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [ مريم : 31 ] .
وقيل : المراد بـ ( اليقين ) : تعذيب هؤلاء وأن ينزل بهم ما وعده . ولا ريب أنه من المتيقن ، إلا أن إرادة الموت منه أولى ، يدلُّ له قوله تعالى إخباراً عن أهل النار : { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 43 - 47 ] . وما في الصحيح عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب ! فشهادتي عليك : لقد أكرمك الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < وما يدريك أن الله أكرمه ؟ > فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ! فمن ؟ فقال : < أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير > .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : يستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } على أن العبادة ، كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً ، كما في صحيح البخاري عن عِمْرَان بن حصين رضي الله عنهما ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : < صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب > . ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين : المعرفة . فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم . وهذا كفر وضلال وجهل . فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم ، أعلم الناس بالله ، وأعرافهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثرهم مواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة . انتهى .

(/)


سورة النحل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 1 ] .
{ أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تقرر في غير ما آية ، أن المشركين كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو إهلاكهم ، كما فعل يوم بدر ، استهزاءً وتكذيباً بالوعد . فقيل لهم : { أَتَى أَمْرُ اللّهِ } أي : ما توعدونه مما ذكر . والتعبير عنه بـ : { أَمْرُ اللّهِ } ؛ للتفخيم والتهويل . وللإيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه ، منوط بحكمه النافذ وقضائه الغالب . وإتيانه عبارة عن دنوِّه واقترابه ، على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع . أو عن إتيان مباديه القريبة ، على نهج إسناد حال الأسباب إلى المسببات . والآية كقوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ، وقوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] ، وقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ العنكبوت : 53 ] . ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره ، وعبادتهم معه ما سواه ، من الأوثان والأنداد ، الذي أفضى بهم إلى الاستهزاء والعناد ، واعتقادهم أنها شفعاؤهم إذا جاء الميعاد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [ 2 ] .
{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } رد لاستبعادهم النبوة ، بأن ذلك سنة له تعالى . ولذا ذكر صيغة الاستقبال ، كقوله تعالى : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه } [ غافر : 15 ] ، وقوله تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس } [ الحج : 75 ] . والروح هو الوحي ، الذي من جملته القرآن ؛ لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيْمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] . والتعبير عنه بالروح على نهج الاستعارة . فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل . و : { مِنْ أَمْرِهِ } بيان للروح ، أو حال منه ، أو صفة ، أو متعلق بـ ( ينزل ) و ( من ) للسببية . و : { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدل من الروح . أي : أخبروهم بالتوحيد والتقوى . فقوله : { فَاتَّقُونِ } من جملة المنذر به . أو هو خطاب للمستعجلين ، على طريقة الالتفات ، والفاء فصيحة ، أي : إذا كانت سنته تعالى ذلك ، فاتقون ، بما ينافيه من الإشراك وفروعه من الاستعجال .
قال الزمخشري : ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو ، بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره ، من خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان وما يصلحه ، وما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه ، وجر أثقاله وسائر حاجاته ، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه . ومثله متعال عن أن يشرك به غيره ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِيْنَ تُرِيحُونَ وَحِيْنَ تَسْرَحُونَ } [ 3 - 6 ] .
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة ، كما تقدم : { تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } أي : مهينة ضعيفة : { فَإِذَا هُوَ } بعد تكامله بشراً : { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي : مخاصم لخالقه مجادل ، يجحد وحدانيته ويحارب رسله . وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً .
{ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } أي : لمصالحكم ، وهي الأزواج الثمانية المفصلة في سورة الأنعام .
قال الزمخشري : وأكثر ما تقع على الإبل .
{ فِيهَا دِفْءٌ } أي : ما يدفئ ، أي : يسخن به من صوف أو وبر أو شعر ، فيقي البرد { وَمَنَافِعُ } أي : من نسلها ودرِّها وركوب ظهرها : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } أي : زينة : { حِيْنَ تُرِيحُونَ } أي : تردونها من مراعيها إلى مراحها ( بضم الميم ) وهو مقرِّها في دور أهلها بالعشيِّ : { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي : تخرجونها بالغداة إلى المراعي .
قال الزمخشري : منَّ الله بالتجمل بها كما منَّ بالانتفاع بها ؛ لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، بل هو من معاظمها ؛ لأن الرعيان ، إذا روحوها بالعشي ، وسرحوها بالغداة ، فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية ، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ؛ أنست أهلها وفرحت أربابها ، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . ونحوه : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة } [ النحل : 8 ] ، { يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً } [ الأعراف : 26 ] .
فإن قلت : لِمَ قدمت الإراحة على التسريح ؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ، ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر لأهلها . انتهى .
ثم أشار إلى فائدة جامعة للحاجة والزينة فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 7 - 8 ] .
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أي : أحمالكم : { إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ } بكسر الشين المعجمة وفتحها ، قراءتان ، وهما لغتان في معنى ( المشقة ) أي : لم تكونوا بالغيه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلاً عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم : { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي : حيث سخرها لمنافعكم .
ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة ، فقال :
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ } عطف على ( الأنعام ) : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } عطف محل ( لتركبوها ) فهي مفعول له ، أو مصدر لمحذوف . أي : وتتزينوا بها زينة ، أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل ( تركبوها ) أو مفعوله . أي : متزينين بها ، أو متزيناً بها . وسر التصريح باللام في المعطوف عليه ، دون المعطوف ؛ هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصلي في الأصناف ؛ هو الركوب . وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب . فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل ؛ تنبيهاً على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين . وتجرد التزين منها تنبيهاً على تبعيته أو قصوره عن الركوب . والله أعلم . كذا في " الانتصاف " .
تنبيه :
استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل ، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها . قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام . فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل . قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزاً ؛ لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب ؛ لأنه أعظم فائدة منه . وأجاب المجوزون لأكلها ، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب ؛ لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي عيره .
ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب . وأيضاً لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل ؛ لدلت على تحريم الحمر الأهلية ، وحينئذ لا يكون ثَم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر . وقد قدمنا أن هذه السورة مكية .
والحاصل : أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل . فلو سلمنا أن هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم ؛ لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال . وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل ، أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ، فأكلناه . وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه ، والنسائي وغيرهم عن جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية . وأخرج أبو داود نحوه . وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل .
وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير . ففي إسناده صالح بن يحيى ، فيه مقال . ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحل . على أنه يمكن أن يكون متقدماً على يوم خيبر ، فيكون منسوخاً . كذا في " فتح البيان " .
وفي " الإكليل " : أخذ المالكية ، من الاقتران المذكور ، رداً على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها . أي : الخيل . وقوله تعالى :
{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : من المخلوقات في القفار والبحار ، وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار . أو لاستحضار الصورة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 9 ] .
{ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } في الآية فوائد :
الأولى : قال ابن كثير : لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيراً ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية ، كقوله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [ البقرة : 197 ] ، وقال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] .
ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ؛ شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها موصلة إليه ، فقال : { وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } . كقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه } [ الأنعام : 153 ] . وقال : { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [ الحجر : 41 ] . انتهى . وقوله سبحانه : { إِنِّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } .
الثانية : قال أبو السعود : ( القصد ) : مصدر بمعنى الفاعل . يقال : سبيل قصد وقاصد : أي : مستقيم . على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . أي : حقٌّ عليه سبحانه وتعالى ، بموجب رحمته ووعده المحتوم ، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق ، الذي هو التوحيد : بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه . أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل . قاله أبو البقاء . أي : عليه ، عز وجل ، تقويمها وتعديلها . أي : جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق . لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه ، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج ( سبحان من صغَّر البعوض ، وكبَّر الفيل ) . وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة . وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لاحبٌ يهتدى بمناره ، وعلم يستضاء بناره ، وأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق ، الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى ، المنجِّية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى .
الثالثة : الضمير في : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } للسبيل . فإنها تؤنث . أي : وبعض السبيل مائل عن الحق ، منحرف عنه ، لا يوصل سالكه إليه . وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها ، المندرج كلها تحت الجائر ، كقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .
قال أبو السعود ، بعد ما تقدم ، أي : وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله ، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد . وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة . فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى . لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته ، بل هو مخلٌّ بحكمته ، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، بحسب الاستعداد . وإليه أشير بقوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد ، هداية موصلة إليه البتة ، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين ؛ لفعل ذلك ، ولكن لم يشأه ؛ لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها . ولا حكمة في تلك المشيئة ؛ لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف ، وإليه ينسحب الثواب والعقاب ، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال ، التي بها نيط الجزاء .
ولما كان أشرف أجسام العلم السفلي ، بعد الحيوان ، النبات ، تأثر ما مرَّ من الإنعام بالأنعام والدواب ، التي يستدل بها على وحدته تعالى ، بذكر عجائب أحوال النبات ، للحكمة نفسها ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 10 - 11 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي : المزن : { مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ } يسكن حرارة العطش : { وَمِنْهُ شَجَرٌ } أي : ومنه يحصل شجر . والمراد به : ما ينبت من الأرض ، سواء كان له ساق أو لا { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي : ترعون أنعامكم .
{ يُنبِتُ } أي : الله عز وجل : { لَكُم بِهِ الزَّرْعَ } أي : الذي فيه قوت الإنسان : { وَالزَّيْتُونَ } أي : الذي فيه إدامه . : { وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ } أي : اللذين فيهما ، مع ذلك ، مزيد التلذذ : { وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي : يخرجها بهذا الماء الواحد ، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها . ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في إنزال وإنبات ما فصل : { لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : دلالة وحجة على وحدانيته تعالى . كما قال سبحانه : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] .
قال أبو السعود : وأصله للرازي في شرح كون ما ذكره حجة ؛ فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض ، وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع ، ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع ، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر ، لا إلى نهاية ، مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية ، بالنسبة إلى الكل ؛ عَلم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال ، فضلاً عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته ، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة . تعالى عن ذلك علواً كبيراً . وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية ، قطع الآية الكريمة بالتفكر . انتهى . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 12 ] .
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ } أي : لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات : { وَالْنُّجُومُ } ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر . وقوله تعالى : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } حال من الجميع ، على معنى جعلها مسخرات ؛ لأن في التسخير معنى ( الجعل ) فصحت على أنه تجريد . أو على أن التسخير لهم نفع خاص .
فمعناه : نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له ، مما هو طريق لنفعكم . فـ ( سخر ) بمعنى ( نفع ) على الاستعارة أو المجاز المرسل ؛ لأن النفع من لوازم التسخير . أو على أن ( مسخرات ) مصدر ميميِّ ، منصوب على أنه مفعول مطلق . وسخرها مسخرات ، على منوال ضربته ضربات ، أو يجعل قوله : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي ؛ لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار . وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر . وقرئ : { وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ } بالرفع مبتدأ وخبر ، وما قبله بالنصب : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : تسخير ما ذكر : { لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
ولما نبه تعالى على معالم السماوات ، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة ، والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات ، على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [ 13 ] .
{ وَمَا ذَرَأَ } عطف على قوله تعالى : { وَالنُّجُومُ } رفعاً ونصباً ، على أنه مفعول ( لجعل ) أي : وما خلق : { لَكُمْ فِي الأَرْضِ } أي : من حيوان ونبات : { مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } .
ثم نبه تعالى ممتناً على تسخيره البحر ، وتعداد النعم به إثر امتنانه بنعم البر ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 14 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً } هو السمك .
قال الزمخشري : ووصفه بالطراوة ؛ لأن الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله ، خيفة الفساد عليه .
قال الناصر : فكأن ذلك تعليم لأكله ، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طرياً . والأطباء يقولون : إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون . والله أعلم . انتهى .
قال الشهاب : ففيه إدماج لحكم طبي . وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخللاً ، كما توهم . انتهى .
أقول : الأظهر في سر وصفه بالطراوة : هو التنبيه على حسنه ولطفه ، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه سبحانه ، في خلقه إياه ، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر ، مع اشتراكهما في الحيوانية .
{ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } كاللؤلؤ والمرجان : { تَلْبَسُونَهَا } أي : تلبسها نساؤكم ، والإسناد إليهم ؛ لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية ، ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم . أو معنى ( تلبسون ) تتمتعون وتلتذون ، على طريق الاستعارة والمجاز . ولو جعل من مجاز البعض لصح . أي : تلبسها نساؤكم .
قال الناصر : ولله درُّ مالك رضي الله عنه ، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها . وذلك مقدر بالزائد على الثلث ؛ لحقه فيه بالتجمل . فانظر إلى مكانة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن ، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له . فعبر عن حظه في لبسها بلبسه ، كما يعبر عن حظها سواء .
قال الشهاب : فإن قلت : الظاهر أن يقال تحلونهن ، أو تقلدونهن كما قال :
~تروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم
وهي للنساء دون الرجال . قلت : أما الأول فسهل ؛ لأن المراد لازمه . أي : تحلونهن . والثاني على فرض تسليمه : هم يتمتعون بزينة النساء ، فكأنهم لابسون . وإذا لم يكن تغليباً ، فهو مجاز ، بمعنى : تجعلونها لباساً لبناتكم ونسائكم . ونكتة العدول : أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم . فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى . انتهى .
وناقش صاحب " فتح البيان " ما قدروه في الآية حيث قال : وظاهر قوله تعالى : { تَلْبَسُونَها } أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان ، أي : يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء . ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله : { تَلْبَسُونَها } بقولهم : تلبسها نساؤهم . لأنهن من جملتهم ، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم . وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة . فإن ذلك ممنوع ، ورد الشرع بمنعه ، من جهة كونه تشبهاً بهن ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجاناً . انتهى .
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها . واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حلياً بلبس اللؤلؤ ؛ لأنه تعالى سماه ( حلياً ) واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء . فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر ، أنه سئل : هل في حلي النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال : { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } . انتهى .
قال في " فتح البيان " : وفي هذا الاستدلال نظر . والذي ينبغي التعويل عليه : أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم . وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف . ولم يرد في الجواهر ، على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها . وقوله تعالى : { وَتَرَى الْفُلْكَ } أي : السفن : { مَوَاخِرَ فِيهِ } أي : جواري جمع ( ماخرة ) بمعنى جارية . وأصل معنى ( المخر ) : الشق ؛ لأنها تشق الماء بمقدمها : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } عطف على محذوف ، أي : لتنتفعوا بذلك : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي : من سعة رزقه ، بركوبها للتجارة : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله .
قال أبو السعود : ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر ، من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة ، مع أحمال ثقيلة ، في مدة قليلة ، من غير مزاولة أسباب السفر . بل من غير حركة أصلاً . مع أنها في تضاعيف المهالك . وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر ؛ للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ 15 - 16 ] .
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي : تضطرب : { وَأَنْهَاراً } أي : جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى آخر ، رزقاً للعباد : { وَسُبُلاً } أي : طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى غيرها ، حتى في الجبال ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [ الأنبياء : 31 ] { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : بها إلى مآربكم .
{ وَعَلامَاتٍ } أي : دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح ، براً وبحراً ، إذا ضلوا الطريق : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } أي : في الظلام براً وبحراً . والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة ؛ للالتفات . وتقديم ( بالنجم ) للفاصلة ، وتقديم الضمير للتقوي . وهذا أولى من دعوى الزمخشري ؛ أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر ، وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عاماً فكذا يكون في لاحقها .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 17 - 18 ] .
{ أَفَمَن يَخْلُقُ } أي : كل شيء ، لا سيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة ، وهو الله الواحد الأحد : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } أي : شيئاً ما ، وهو ما يعبدون من دونه ، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك ، بل على إيجاد شيء ما .
وزعم الزمخشري ومتابعوه ؛ أن قضية الإلزام أن يقال : ( أفمن لا يخلق كمن يخلق ) ثم تكلموا في سره . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } [ آل عِمْرَان : 36 ] ، فجدد به عهداً : { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } أي : فتعرفوا فساد ذلك ، فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر .
ثم نبه ، سبحانه وتعالى ، على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى ؛ إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور ، بقوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا } أي : لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر : { إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها . قاله الزمخشري .
ولحظ ابن جرير ؛ أن مغفرته تعالى ورحمته لهم ، إذا تابوا وأنابوا . أي : فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقي ، ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته .
لطيفة :
قال أبو السعود : كان الظاهر إيراد هذه الآية عقيب ما تقدم من النعم المعددة ، تكملة لها على طريقة قوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] . ولعل فصل ما بينهما بقوله : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ؛ للمبادرة إلى إلزام الحجة ، وإلقاء الحجر ، إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل ، التي هي أدلة الوحدانية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ 19 - 21 ] .
{ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي : من أعمالكم وسيجزيكم عليه .
{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : فأنى تستحق الألوهية ، وقد نفي عنها أخص صفاتها ؟ فإنها ذوات مفتقرة إلى الإيجاد . أو المعنى : أن الناس يخلقونها بالنحت والتصوير . وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم . كما قال الخليل عليه السلام : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] .
ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم ما ينافي الألوهية بقوله :
{ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } أي : هي جمادات لا أرواح فيها ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل . وقوله : { غَيْرُ أَحْيَاءٍ } تأكيد أو تأسيس ، لأن بعض الأموات مما يعتريه الحياة ، سابقاً أو لاحقاً ، كأجساد الحيوان ، والنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً . فلذا احترز عنه بقوله : { غَيْرُ أَحْيَاءٍ } أي : لا يعتريها الحياة أصلاً . فهي أموات على الإطلاق ، حالاً ومآلاً : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : تلك الأصنام المعبودة : { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : متى يكون بعثها . وقد رُوي أنها تبعث ، ويجعل فيها حياة ، فتبرأ من عابديها ، ثم يؤمر بها وبهم جميعاً إلى النار .
وجوَّز عود الضمير إلى عابديها . أي : وما تشعر الأصنام متى يبعث عبدتهم تهكماً بحالها ؛ لأن شعور الجماد محال . فكيف بشعور ما لا يعلمه إلا الله ؟ وفيه إشعار بأن معرفته وقت البعث من لوازم الألوهية ، وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُون َ *لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } [ 22 - 23 ] .
{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } تصريح بالمدعى ، وتمحيض للنتيجة ، غب إقامة الدليل . كما أفاده أبو السعود : { فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } أي : لوحدانيته تعالى ، جاحدة لها ، كما أخبر عنهم ، متعجبين من ذلك بقوله : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 45 ] ، وقوله تعالى : { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي : عن عبادته تعالى .
{ لاَ جَرَمَ } أي : حقاً : { أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } أي : عن التوحيد ، وهم المشركون ، أو عن الحق مطلقاً فيتناول هؤلاء . وهذا كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } [ 24 - 25 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } أي : لم ينزل شيئاً . إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين ، استمدها منها . كما قال تعالى : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] .
{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم ، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم ، وبعض أوزار من أضلوهم ، كقوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ العنكبوت : 13 ] ، فاللام في قوله : { لِيَحْمِلُوا } لام العاقبة ؛ لأن ما ذكر مترتب على فعلهم . ولا باعثاً إما مجازاً ، وإما حقيقة ، على معنى أنه قدر صدوره منهم ليحملوا . وقد قيل : إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة . والمعنى : إن ذلك متحتم عليهم . فيتم الكلام عند قوله : { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } كذا في " العناية " . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال الزمخشري : حال من المفعول : أي : من لا يعلم أنهم ضُلال . وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه ، وإن لم يعلم ؛ لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل . فجهله لا يعذره : { أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أي : ألا بئس ما يحملون . ففيه وعيد وتهديد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 26 ] .
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : بأنبيائهم : { فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } أي : قلع بنيانهم من قواعده وأُسُسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و ( الإتيان ) يتجوز به عن ( الإهلاك ) كقوله تعالى : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } [ الحشر : 2 ] ، ويقال : أُتِي فلان من مأمنه ، أي : جاءه الهلاك من جهة أمنه . وأتى عليه الدهر : أهلكه وأفناه . ومنه الأُتُوُّ وهو الموت والبلاء . يقال أتى على فلان أتوُّ ، أي : موت أو بلاء يصيبه . وقد جوَّز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم . كالمحكي عن قوم لوط وصالح عليهما السلام ، فيما تقدم . أو مجازه على طريق التمثيل ؛ لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى . شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد ، للإيقاع بالرسل عليهم السلام . وفي إبطاله تعالى تلك الحيل ، وجعله إياها أسباباً لهلاكهم ، بحال قوم بنوا بنياناً وعمَّدوه بالأساطين . فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت ، فسقط عليهم السقف فهلكوا . ووجه الشبه : أن ما عدوه سبب بقائهم ، عاد سبب استئصالهم وفنائهم ، كقولهم : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً . وقوله : { مِن فَوْقِهمْ } متعلق بـ ( خَرَّ ) . و ( من ) لابتداء الغاية ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من ( السقف ) مؤكدة . وقيل : إنه ليس بتأكيد ؛ لأن العرب تقول : خر علينا سقف ووقع علينا حائط ، إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه : { وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ } أي : الهلاك والدمار : { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : لا يحتسبون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 27 ] .
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ } أي : يذلِّهم ويهينهم بعذاب الخزي . لقوله تعالى : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عِمْرَان : 192 ] ، { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } أي : تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم . وفيه تقريع وتوبيخ بالقول ، واستهزاء بهم ؛ إذْ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة ، بناءً على زعمهم ، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله : { يُخْزِيهِمْ } أي : ما لهم لا يحضرونكم ليدفعوا عنكم ! لأنهم كانوا يقولون : إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا . فهو كقوله : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] . وقيل : حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم { قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } وهم الأنبياء أو العلماء ، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ } أي : الفضيحة والعذاب : { عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : المشركين به تعالى . ما لا يضرهم ولا ينفعهم . وإنما قال : { الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } هذا شماتة بهم ، وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول ، وتقريراً لما كانوا يعظونهم ، وتحقيقاً لما أوعدوهم به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [ 28 - 29 ] .
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله ، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم ، بأنهم يلقون السلم ، أي : ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقة . والعدول إلى صيغة الماضي ؛ للدلالة على تحقق الوقوع . وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهار الانقياد ؛ إشعاراً بغاية خضوعهم واستكانتهم . وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب على الاستعارة . وقوله تعالى : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ } منصوب بقول مضمر ، حال . أي : قائلين ذلك . أو هو تفسير ( للسلم ) الذي ألقوه ؛ لأنه بمعنى القول ؛ بدليل الآية الأخرى : { فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْل } [ النحل : 86 ] ، كما يقولون يوم المعاد : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] . ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله : { بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس : { فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقدراً خلودكم .
قال ابن كثير : وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، وينال أجسادهم في قبورها . من حرها وسمومها . فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] كما قال تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، وقوله : { فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي : بئس المقيل والمقام لمن كان متكبراً عن آيات الله وإتباع رسله . فذكرهم بعنوان التكبُّر ؛ للإشعار بعليته لثوائهم فيها . ولما أخبر عن الأشقياء بأنهم قالوا في جواب : { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } هو : { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } فجحدوا رحمته وكفروا نعمته ؛ تأثره بالإخبار عن السعداء الذين اعترفوا بخيره ورحمته ، بقوله تعالى : ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...