روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 17. و18. محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

 

17. مجلد 17. محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 3 ]
{ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } معطوف على { الْأُمِّيِّينَ }
يعني : أنه بعثه في الأميين الذين على عهده ، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم ، من كل من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة ، كما فسره مجاهد وغيره ، واختاره ابن جرير .
قال الرازي : فالمراد بالأميين العرب ، وبالآخرين سواهم من الأمم ، وجعلهم منهم ؛ لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم ، فالمسلمون كلهم أمة واحدة ، وإن اختلفت أجناسهم ، قال تعالى :
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] ، انتهى .
تنبيه :
قال بعض المحققين : في الآية معجزة من معجزات النبوة ، وذلك في الإخبار عن غيب وقع ، والبشارة بدخول أمم غير العرب في الإسلام قد حصل ، فقد صارت تلك الأمم التي أسلمت ، من العرب لأن بلادهم صارت بلاد العرب ، ولغتهم لغة العرب ، وكذلك دينهم وعاداتهم ، حتى أصبحوا من العرب جنساً وديناً ولغة ، وحتى صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس ، لأنهم أمة واحدة { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ المؤمنون : 52 ] ، فصدق الله العظيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 4 ]
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } يعني بعثته تعالى رسولاً في الأميين ، وفي آخرين ، فضله تفضل به على من اصطفاه واختاره لذلك ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، والآيات هذه رد على من أنكر نبوته صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة ؛ حسداً وعناداً ، مع أن لديهم من شواهد رسالته ما لا ترتاب أفئدتهم بصدقها ، ولذا نعى عليهم مخالفتهم لموجب علمهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 5 ]
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } قال الزمخشري : شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها ، وحفاظ ما فيها ، ثم إنهم غير عاملين بها ، ولا منتفعين بآياتها ؛ وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والبشارة به ، ولم يؤمنوا به - بالحمار حمل أسفاراً - أي : كتباً كباراً من كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمرّ بجنبيه وظهر من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل ، فهذا مثله ، وبئس المثل ! { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ } وهو اليهود الذين كذبوا بآيات الله ، الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعنى { حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ } كلفوا علمها ، والعمل بها ، ثم لم يحملوها ، ثم لم يعملوا بها ، فكأنهم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل . انتهى .
قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " : قاس من حَمّلَه سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدّبره ويعمل به ويدعو إليه ، ثم خالف ذلك ، ولم يحمله إلا على ظهر قلب ، فقراءته بغير تدّبر ولا تفهّم ولا اتباع له ، ولا تحكيم له ، وعمل بموجبه - كحمار على ظهره زاملة أسفار - لا يدري ما فيها ، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا . فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره ، فهذا المثل ، وإن كان قد ضرب لليهود ، فهو متناول من حيث المعنى ، لمن حمل القرآن ، فترك العمل به ، ولم يؤدّ حقه ، ولم يرعه حق رعايته . انتهى . { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : الذين ظلموا أنفسهم ، فكفروا بآيات ربهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 6 ]
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } كان اليهود يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقيل لهم : إن كنتم صادقين في زعمكم ، وعلى ثقة من أمركم ، فتمنوا على الله أن يميتكم ، وينقلكم سريعاً إلى الآخرة ، فإن الحبيب يتمنى لقاء من يحب ، ولا يفرّ منه ، ويود أن يستريح من كرب الدنيا وغمومها ، ويصير إلى روح الجنان ونعيمها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 7 - 8 ]
{ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : من المعاصي والسيئات والكفر { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } أي : فيجازيهم على أعمالهم ، وتقدم في البقرة نظير الآية : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } [ البقرة : 94 ] .
{ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ } أي : تخافون أن تتمنوه بلسانكم ، مخافة أن يصيبكم ، فتؤخذوا بأعمالكم { فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : من الأعمال ، حسنها وسيئها ، فيجازيكم عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 9 - 10 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } أي : عند جلوس الإمام على المنبر ، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه ، < كان إذا جلس على المنبر, أذّن بلال رضي الله عنه > { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : الخطبة والصلاة { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي : في ذلك الوقت . قال أبو مالك : كان قوم يجلسون في بقيع الزبير ، فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة ؛ فنزلت : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : سعيكم لها ، وترك البيع ، خير لكم مما نفعه يسير ، وربحه مقارب { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ } أي : أديت وفرغ منها { فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : أذكروا أمره ودِينه وشرعه دائماً ، لتصير ملكة لكم ، تظهر آثارها على أعمالكم وأخلاقكم ، فتفلحوا بسعادة الدارين .
قال ابن جرير : أي : اذكروه بالحمد له ، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه ، لتفلحوا فتدركوا طلباتكم عند ربكم ، وتصلوا إلى الخلد في جنانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ 11 ]
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً } أي : عِيرَ تجارة { أَوْ لَهْواً } أي : ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع { انفَضُّوا إِلَيْهَا } أي : أسرعوا إلى التجارة خشية أن يُسبقوا إليها ، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم المقصود { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } أي : على المنبر { قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ } أي : من الثواب المرجوّ بسماع الخطبة والعظة بها { خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } أي : لأن الثواب مخلد نفعه ، بخلاف ما يتوهمونه منها .
قال الشهاب : وتقديم اللهو ؛ لأنه أقوى مذمة ، فناسب تقديمه في مقام الذم .
{ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : فاعملوا للأعراض الباقية عنده ، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم ، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل ، والثقة بفضله ؛ فإنه خير الرازقين .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها ، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها ، والذين أمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك . فنبههم الله تعالى بقوله :
{ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : إلى ما ينفعكم في الآخرة ، وهو حضور الجمعة ، لأن الدنيا ومتاعها فانية ، والآخرة وما فيها باقية . قال تعالى :
{ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 17 ] . ووجه آخر في التعلق ، قال بعضهم : قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله :
{ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 94 ] ، وبأنهم أهل الكتاب ، والعرب لا كتاب لهم ، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً . وبالسبت ، وليس للمسلمين مثله ، فشرع الله لهم الجمعة ، انتهى .
وقال المهايميّ في وجه المناسبة : بيّن الله تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير ، لاسيما الشكر على الْإِنْسَاْنية ، لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية ، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر ، الذي جرهم إلى الحمارية والبهيمية .
الثاني : قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى :
{ إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } مشروعية صلاة الجمعة ، والأذان لها ، والسعي إليها ، وتحريم البيع بعد الأذان . واستدل بالآية من قال : إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيه النداء . ومن قال : لا يحتاج إلى إذن السلطان ، لأنهه تعالى أوجب السعي ، ولم يشترط إذن أحد . ومن قال : لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور . انتهى .
الثالث : في " الإكليل " : في قوله تعالى :
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } إباحة الانتشار عقب الصلاة ، فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها . انتهى .
وظاهره أنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما ، غير أنه < كان صلى الله عليه وسلم يتنفل بعدها في بيته ركعتين > ، وفي رواية < أربعاً > . وأما اعتقاد فريضة الظهر بعدها إذا تعددت ، فتعصب مذهبي لا برهان له . وقد قلت في مقدمة مجموعة الخطب ، في الفائدة الرابعة ما مثاله :
الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة ، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم ، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلاً ، إلا أن خروجها عن حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد لمثلها ، قد هوَّل فيه السبكي في" فتاويه " ؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها ، وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة ، بل تسميتها جمعة ، فإن صيغة فُعُلَة في اللغة للمبالغة . وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها ، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت ، والتي لا تعاد الظهر بعدها ، وقد بسطناه في كتابنا " إصلاح المساجد من البدع والعوائد " .
الرابع : يدل قوله تعالى :
{ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } على عدم مشروعيته تعطيل يوم الجمعة ، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد ، وردّ على ما ابتدع فيه من الوظائف ما يدعو إلى الانقطاع عن كل عمل . والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم ، ولا الهدي النبويّ ، من خبر قويم ، فهو تشريع ما لم يأذن به الله . وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا ، فما بالنا نستجرّها إلينا بالأسباب الضعيفة ؟ فاللهم غفراً .
الخامس : قال في " الإكليل " : في قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً } مشروعية الخطبة ، والقيام فيها ، واشتراط الجماعة في الصلاة ، وسماعهم الخطبة ، وتحريم الانفضاض ، انتهى .
وفي الصحيحين عن جابر قال : قدمت عيرٌ مرةً المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فخرج الناس ، وبقي اثنا عشر رجلاً ؛ فنزلت { وَإِذَا رَأَوْا } الآية .
وروى ابن جرير عن جابر قال : كان الجواري إذا نكِحوا يمرون بالكَبَر والمزامير ، ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر ، وينفضون إليها ، فأنزل الله : { وَإِذَا رَأَوْا } الآية .
وعن مجاهد : اللهو الطبل .

(/)


سورة المنافقون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون َ *اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 1 - 2 ]
{ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } أي : إن الأمر كما قالوه { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } أي : في قولهم { نَشْهَدُ } وادعائهم فيه مواطأة قلوبهم ألسنتهم ، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ } أي : حلفهم الكاذب ، أو شهادتهم هذه ، فإنها تجري مجرى الحلف في التوكيد { جَنَّةَ } أي : وقاية من القتل والسبي ، { فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي : دِينه الذي بعث به رسوله صلوات الله عليه ، وشريعته التي شرعها لخلقه { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : في اتخاذهم أيمانهم جنة ، وصدهم ، وغير ذلك من أعمالهم .
تنبيه :
في " الإكليل " : استدل بالآية أبو حنيفة على أن أشهد بالله يمين ، وإن لم ينو معه ، لأنه تعالى أخبر عن المنافقين أنهم قالوه ، ثم سماه أيماناً . انتهى .
قال الناصر : وليس فيما ذكره دليل ، فإن قوله : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } غايته أن ما ذكره يسمى يمناً ، وليس الخلاف في تسميته يميناً ، وإنما الخلاف : هل يكون يميناً منعقدة يلزم بالحنث فيها كفارة أم لا ؟ وليس كل ما يسمى حلفاً أو قسماً يوجب حكماً ، ألا ترى أنه لو قال : أحلف ، ولم يقل : بالله ، ولا بغيره ، فهو من محال الخلاف في وجوب الكفارة به ، وإن كان حلفاً لغة باتفاق ؛ لأنه فعل مشتق منه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 3 - 4 ]
{ ذَلِكَ } أي : ما نُعي عليهم من مساوئهم { بِأَنَّهُمْ آمَنُوا } أي : ظاهراً { ثُمَّ كَفَرُواْ } أي : سراً { فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : ختم عليها بما مرنوا عليه من التلوّن والتذبذب ورسوخ الهيئات المنكرة ، فحجبوا عن الحق { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } أي : حقيقة الإيمان ، وحكمة الرسالة والدين { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } أي : لتناسب أشكالهم ، وحسن مناظرهم وروائهم { وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي : للين كلامهم بما يدهنون فيه { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } أي : في الخلوّ عن الفائدة ، لأن الخشب إنما تكون مسندة إذا لم تكن في بناء ، أو دعامة لشيء آخر .
قال القاشاني : روي عن بعض الحكماء أنه رأى غلاماً حسناً وجهه ، فاستنطقه لظنه ذكاءه وفطنته ، فما وجد عنده معنى ، فقال : ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن ! وهذا معنى قوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } أي : أجرام خالية عن الأرواح ، لا نفع فيه ولا ثمر ، كالأخشاب المسندة إلى الجدران عند الجفاف ، وزوال الروح النامية عنها ، فهم في زوال استعداد الحياة الحقيقة ، والروح الْإِنْسَاْني ، بمثابتها .
{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } قال ابن جرير : أي : يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم ، وسوء ظنهم ، وقلة يقينهم ، كل صيحة عليهم ؛ لأنهم على وجل أن ينزل الله فيهم أمراً يهتك به أستارهم ويفضحهم ، ويبيح للمؤمنين قتلهم ، وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل فيهم من الله وحي على رسوله ، ظنوا أنه نزل بهلاكهم وعَطَبِهم .
وقال القاشاني : لأن الشجاعة إنما تكون من اليقين من نور الفطرة ، وصفاء القلب ، وهم منغمسون في ظلمات صفات النفوس ، محتجبون باللذات والشهوات ، أهل الشك والارتياب ، فلذلك غلبهم الجبن والخور .
{ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ } قال القاشاني : فقد بطل استعدادهم ، فلا يهتدون بنورك ولا تؤثر فيهم صحبتك { قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن الحق ، مع وضوح مناره . و قاتل بمعنى لعن وطرد ، وهو دعاء أو خبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [ 5 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ } أي : هلموا إلى التوبة والإنابة مما فرط منكم ، وذاع من أفاعيلكم ضد المؤمنين { لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ } قال ابن جرير أي : حركوها وهزوها استهزاءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وباستغفاره ، وبتشديد الواو من { لْوُواْ } قرأت القراء على وجه الخبر عنهم ، أنهم كرروا هزَّ رؤوسهم وتحريكها وأكثروا ، إلا نافعاً فإنه قرأ ذلك بتخفيف الواو ، على وجه أنهم فعلوا ذلك مرة واحدة .
{ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } أي : يعرضون عما دعوا إليه ، { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي : عن المصير إلى الرسول والاعتذار .
قال القاشاني : لضراوتهم بالأمور الظلمانية ، واعتيادهم الكمالات البهيمية والسبعية ، فلا يألفون النور ، ولا يشتاقون إليه ، ولا إلى الكمالات الْإِنْسَاْنية ، لمسخ الصورة الذاتية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 6 ]
{ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } قال القاشاني : لرسوخ الهيئات الظلمانية فيهم ، وزوال قبول استعدادهم للهداية ، لفسقهم وخروجهم عن دين الفطرة القويم . وهذا معنى قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } [ 7 ]
{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا } أي : حتى تصيبهم مجاعة ، فيتفرقوا عنه . يعنون فقراء المهاجرين .
قال القاشاني : لاحتجابهم بأفعالهم عن رؤية فعل الله ، وبما في أيديهم عما في خزائن الله ، فيتوهمون الإنفاق منهم ، لجهلهم .
{ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } أي : من بيده خزائنهما ، رازقهم منها ، وإن بخل المنافقون .
لطيفة :
قال الشهاب : قوله تعالى :
{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ } إلخ تعليل لرسوخهم في الفسق ، لا لعدم المغفرة ؛ لأنه معلل بما قبله . وقوله :
{ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } الظاهر أنه حكاية ما قالوه بعينه ، لأنهم منافقون مقرون برسالته ظاهراً ، ولا حاجة إلى أنهم قالوه تهكماً ، أو لغلبة عليه ، حتى صار كالعلم ، كما قيل . ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة ، فغيرها الله إجلالاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وإكراماً . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ 8 ]
{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي : لمكان غرورهم وجهلهم وشدة ارتيابهم .
تنبيهان :
الأول : قال ابن جرير : عني بهذه الآيات كلها - فيما ذكر - عبد الله بن أبيّ ابن سلول ؛ وذلك أنه قال لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسمع ذلك زيد بن أرقم فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، < فسأله عما أخبر به عنه > ، فحلف أنه ما قال ! وقيل له : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يستغفر لك ، فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاء ، ويعني بذلك أنه غير فاعل ما أشاروا به عليه ، فأنزل الله عز وجل فيه هذه السورة من أولها إلى آخرها .
ثم أورد ابن جرير الروايات في ذلك . وتقدمه الإمام البخاريّ ، فأسندها من طرق . ويجمعها كلها ما رواه ابن إسحاق في غزوة بني المصطلق : أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم على ماء لهم يقال له : المريسيع وأظفره الله بهم . قال : فبينا الناس على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له : جهجاه ، يقود فرسه . فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج ، على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ! وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ! فغضب عبد الله بن أبي سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال : أوقد فعلوها ؟ ! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ! واللهِ ! ما أعُدُّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . ثم أقبل على من حضر من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ! أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللهِ لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم . فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوّه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب . فقال : مُرْ به عباد بن بشر فليقتله . فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم : < فكيف يا عمر ، إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟ لا ! ولكن أذّن بالرحيل > ، في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها . فارتحل الناس ، وقد مشى عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه ، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به . وكان في قومه شريفاً عظيماً . فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله ! عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قاله الرجل - حدباً على ابن سلول ودفعاً عنه -
قال ابن إسحاق : فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة ، وسلم عليه ، ثم قال : يا نبيّ الله ! والله لقد رحتَ في ساعة منكرة ، ما كنت تروح في مثلها ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أوما بلغك ما قال صاحبكم > ؟ قال : وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : < عبد الله بن أبيّ > ! قال : وما قال ؟ قال : < زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل > ! قال : فأنت يا رسول الله ، واللهِ ، تخرجه منها إن شئت ؛ هو- واللهِ - الذليل وأنت العزيز . ثم قال : يا رسول الله ! ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه به ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً ، ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك ، حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض ، فوقعوا نياماً . . . وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ . ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وقدم المدينة ، ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين ، في ابن أبيّ ، ومن كان على مثل أمره ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ، ثم قال : هذا الذي أوفى لله بأذنه .
وكانت غزاة بني المصطلق هذه ، في شعبان سنة خمس ، كما في " زاد المعاد " .
وزعم قوم أن هذه المقالة كانت في غزوة تبوك . قال الحافظ ابن حجر : وقع في رواية محمد بن كعب عن زيد بن أرقم عند - النسائي - أنها غزوة تبوك ويؤيده قوله في رواية زهير : في سفر أصاب الناس فيه شدة . وأخرج عبد بن حميد بإسناده صحيح عن سعيد بن جبير مرسلاً ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يصلي فيه : فلما كانت غزوة تبوك ، نزل منزلاً ، فقال عبد الله بن أبي : فذكر القصة .
والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة المصطلق . ويؤيده قول جابر ، بعد قوله صلى الله عليه وسلم لعمر : < دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه > .
وكان الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ، ثم إن المهاجرين كثروا بعد . فهذا مما يوضح وهم من قال : إنها كانت بتبوك ، لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيراً جداً . وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك ، فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار انتهى .
وسبقه ابن كثير حيث قال : وقوله - أي : ابن جبير - إن ذلك كان في غزوة تبوك ، فيه نظر ، بل ليس بجيد ، فإن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك ، بل رجع بطائفة من الجيش . وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير ، أن ذلك كان في غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق . انتهى .
التنبيه الثاني : قال الزمخشري : معنى قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ } إلخ أي : الغلبة والقوة ولمن أعزه وأيده من رسوله ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك . كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين .
وعن بعض الصالحات - وكانت في هيئة رثة - ألستُ على الإسلام ، وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه ؟
وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ، أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً ؟ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة وتلا هذه الآية . انتهى .
قال الرازي : قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى : العزة غير الكبر ، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه ، فالعزة معرفة الْإِنْسَاْن بحقيقة نفسه ، وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية ، كما أن الكبر جهل الْإِنْسَاْن بنفسه ، وإنزالها فوق منزلها ؛ فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة ، وتختلف من حيث الحقيقة ، كاشتباه التواضع بالضعة ، والتواضع محمود ، والضعة مذمومة ، والكبر مذموم ، والعزة محمودة . ولما كانت غير مذمومة ، وفيها مشاكلة للكبر قال تعالى : { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [ الأحقاف : 20 ] . وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق ، والوقوف على حد التواضع ، من غير انحراف إلى الضعة ، وقوف على صراط العزة المنصوب على نار الكبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 9 - 11 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } أي : لا يشغلكم الاغتباط بها عن ذكر أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، أو ذكر ما أنزله وأوحى به . ومنه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ؛ فإن مقتضى الإيمان أن لا يبالي المؤمن بعزة المال والولد ، مع عزة الله { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته ، كما قال سبحانه :
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ الحشر : 19 ] .
{ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } أي : أتصدق وأخرج حقوق مالي { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : لن يؤخر في أجل أحد إذا حضر ، ولكن يخترمه .
قال القاشانيّ : معنى قوله :
{ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } إن صدقتم في الإيمان ، فإن قضية الإيمان غلبة حب الله على محبة كل شيء ، فلا تكن محبتهم ومحبة الدنيا ، من شدة التعلق بهم وبالأموال ، غالبة في قلوبكم على محبة ، فتحتجبوا بهم عنه ، فتصيروا إلى النار ، فتخسروا نور الاستعداد الفطري بإضاعته فيما يفنى سريعاً ، وتجردوا عن الأموال بإنفاقها وقت الصحة والاحتياج إليها ، ليكون فضيلة في أنفسكم ، وهيئة نورية لها ، فإن الإنفاق إنما ينفع إذا كان عن ملكة السخاء ، وهيئة التجرد في النفس . فأما عند حضور الموت ، فالمال للوارث لا له ، فلا ينفعه إنفاقه ، وليس إلا التحسر والتندم ، وتمني التأخير في الأجل بالجهل ، فإنه لو كان صادقاً في دعوى الإيمان ، وموقناً بالآخرة لتيقن أن الموت ضروري ، وأنه مقدر في وقت معين قدره الله فيه بحكمته ، فلا يمكن تأخره .
{ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : بأعمالكم ونياتكم ؛ فلا ينفع الإنفاق في ذلك الوقت ولا تمني التأخير في الأجل ، ووعد التصدق والصلاح ، لعلمه بأنه ليس عن ملكة السخاء ، ولا عن التجرد والزكاء ، بل من غاية البخل وحب المال ، كأنه يحسب أنه يذهب به معه ، وبأن ذلك التمني والوعد محض الكذب ، ومحبة العاجلة ، لوجود الهيئة المنافية للتصدق والصلاح في النفس ، والميل إلى الدنيا ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] والله أعلم .
تنبيه :
قال الإمام إلكيا الهراسي : يدلّ قوله تعالى :
{ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } الآية ، على وجوب إخراج الزكاة على الفور ، ومنع تأخيرها .
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلّغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاة ، فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت ، فقيل له : إنما يسأل الرجعة الكفار ، فقال : سأتلوا عليكم بذلك قرآناً ، ثم قرأ هذه الآية .

(/)


سورة التغابن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [1 - 2 ]
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ } أي : ملك السماوات والأرض ، ونفوذ الأمر فيهما { وَلَهُ الْحَمْدُ } أي : الثناء الجميل ، لأنه مولى النعم وموجِدها .
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ التغابن : 5 - 6 ] أي : هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم ، قابل للكمالات العلمية والعملية ، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر ، جاحد للحق ، كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته ، ومنكم مختار للإيمان ، كاسب له ، حسبما تقتضيه خلقته ، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان ، شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد ، وما يتفرع عليها من سائر النعم ، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه ، بل تشعبتم شعباً ، وتفرقتم فرقاً . وتقديم الكفر لأن الأغلب فيما بينهم ، والأنسب بمقام التوبيخ ، أفاده أبو السعود { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فيجازيكم به ، فآثروا ما يجديكم ، وجانبوا ما يرديكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ 3 ]
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : حيث برأكم في أحسن تقويم ؛ وذلك أنه تعالى جعل الْإِنْسَاْن معتدل القامة على أعدل الأمزجة ، وآتاه العقل وقوة النطق ، والتصرف في المخلوقات ، والقدرة على أنواع الصناعات { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : مرجعكم للجزاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 4 ]
{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بخفاياها ، وما تنطوي عليه ، وفيه تقرير لما قبله ، كالدليل عليه ، لأنه إذا علم السرائر ، وخفيات الضمائر ، لم يخف عليه خافية من جميع الكائنات .
قال الزمخشري : نبّه بعلمه ما في السماوات والأرض ، ثم بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور ، أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه ، ولا عازب عنه فحقه أن يتقى ويحذر ، ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه . وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد . وكل ما ذكره بعد قوله تعالى :
{ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } كما ترى ، في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصي الخالق ، ولا تشكر نعمته . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ 5 - 6 ]
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أي : معشر الكفرة الفجرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي : كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط { فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ } من عذاب الاستئصال . و الوبال الثقل ، والشدة المترتبة على أمر من الأمور . و { أَمْرُهُمْ } كفرهم ، عبر عنه بذلك ، للإيذان بأنه أمر هائل ، وجناية عظيمة { وَلَهُمْ } أي : في الآخرة { وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي : ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا ، وما أعد لهم من عذاب الأخرى ، بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة والأعلام ، على حقيقة ما يدعونهم إليه ، فنبذوها ، واتبعوا أهواءهم ، واستهزؤوا برسلهم ، وقالوا : أبشر يهدوننا ؟
قال ابن جرير : استكباراً منهم أن تكون رسل الله إليهم بشراً مثلهم ، واستكباراً عن إتباع الحق من أجل أن بشراً مثلهم دعاهم إليه .
وجمع الخبر عن البشر فقيل { يَهْدُونَنَا } ، ولم يقل : يهدينا ؛ لأن البشر وإن كان في لفظ الواحد ، فإنه بمعنى الجميع . انتهى .
وقال القاشاني : لمّا حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس ، ولم يجدوا منه إلا البشرية ، أنكروا هدايته ، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه ، فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري ، ولا يعرف الكمال إلا الكامل ، ولهذا قيل : لا يعرف الله إلا الله ، وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالاً لما أمكن به التوجه نحوه ، وكذا كل مصدق بشيء فإنه واجد للمعنى المصدق به ، بما في نفسه من ذلك المعنى . فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلاً ، لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه ، ولم يعرفوا من الحق شيئاً ، فيحدث فيهم طلب ، فيحتاجوا إلى الهداية ، فأنكروا الهداية .
{ فَكَفَرُوا } أي : بالحق والدين والرسول { وَتَوَلَّواْ } أي : عن التدبر في الآيات البينات ، { وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ } أي : أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم ، حيث أهلكهم وقطع دابرهم ، ولولا غناه تعالى عنهم لما فعل ذلك . فـ { اسْتَغْنَى } معطوف على ما قبله ، وجوز جعله حالاً بتقدير قد . أي : وقد استغنى بكماله ، عرفوا أو لم يعرفوا .
{ وَاللّهُ غَنِيٌّ } أي : بذاته عن العالمين ، فضلاً عن إيمانهم ، لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم ، ولا على معرفتهم له .
{ حَمِيدٌ } أي : يحمده كل مخلوق ، أو مستحق للحمد بنفسه ، وإن لم يحمده حامد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ 7 ]
{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } أي : من قبوركم { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } أي : في الدنيا { وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : هين لقبول المادة ، وثبوت القدرة الكاملة .
قال ابن كثير : وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل ، على وقوع المعاد ووجوده ، فالأولى في يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ يونس : 53 ] ، والثانية في سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] . والثالثة هذه الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 8 ]
{ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ } أي : إذا كان الأمر كذلك ، فآمنوا بالله وحده وبرسوله فيما يخبركم به من البعث والجزاء وغيره { وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا } يعني القرآن الحكيم . والالتفات إلى نور العظمة ، لإبراز كمال العناية بأمر الإنزال { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 9 ]
{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } ظرف لـ { تُنَبَّؤُنَّ } أو لـ { خَبِيرٌ } لما فيه من معنى الوعيد . كأنه قيل : والله مجازيكم يوم يجمعكم ، أو مفعول لـ : اذكر { لِيَوْمِ الْجَمْعِ } أي : ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، أي : لأجل ما فيه من الحساب والجزاء { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } قال الزمخشري : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء ، وفيه تهكم بالأشقياء لأن نزولهم ليس بغبن ، انتهى .
ومما حسن إطلاق التغابن على ما ذكر ، وورد البيع والاشتراء في حق الفريقين ، فذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ، فكأنهم غبنوا أنفسهم . ودل المؤمنين على تجارة رابحة فقال : { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ } [ الصف : 10 ] الآية . وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة ، فخسرت صفقة الكفار ، وربحت صفقة المؤمنين .
وقال القاشاني : أي : ليس التغابن في الأمور الدنيوية ، فإنها أمور فانية سريعة الزوال ، ضرورية الفناء ، لا يبقى شيء منها لأحد ، فإن فات شيء من ذلك ، أو أفاته أحد ، ولو كان حياته ، فإنما فات أو أفيت ما لزم فواته ضرورة ، فلا غبن ولا حيف حقيقة ، وإنما الغبن والتغابن في إفاته شيء لو لم يفته لبقي دائماً ، وانتفع به صاحبه سرمداً ، وهو النور الكمالي والاستعدادي ، فتظهر الحسرة والتغابن هناك ، في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة ، كما قال :
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] ، فمن أضاع استعداده ونور فطرته ، كان مغبوناً مطلقاً ، كمن أخذ نوره وبقي في الظلمة . ومن بقي نور فطرته ولم يكتسب الكمال اللائق به الذي يقتضيه استعداده ، أو اكتسب منه شيئاً ، ولم يبلغ غايته ، كان مغبوناً بالنسبة إلى الكامل التام ، فكأنما ظفر بذلك الكامل بمقامه ومرامه ، وبقي هذا متحيراً في نقصانه ، انتهى .
{ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 10 - 11 ] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : بقدرة الله ومشيئته ، كقوله تعالى في آية الحديد : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } [ الحديد : 22 ] . { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } أي : إلى العمل بمقتضى إيمانه ، ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير .
{ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فيعلم مراتب إيمانكم ، وسرائر قلوبكم ، وأحوال أعمالكم وآفاتها ، وخلوصها من الآفات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِين ُ *اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 12 - 13 ]
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } أي : لما أرسل به ، والله سبحانه ولي الانتقام ممن عصاه ، وخالف أمره .
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } قال ابن كثير : الأول خبر عن التوحيد ، ومعناه طلب ، أي : وحدوا الإلهية له ، وأخلصوها لديه ، وتوكلوا عليه ، كما قال : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 14 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } خطاب لمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان له من أزواجهم وأولادهم من يعاديهم لإيمانهم ، ويؤذيهم بسببه ، فكان ذلك يغيظهم ، وربما يحملهم على البطش بهم ، فأمروا بالحذر من فتنتهم ، وشركهم فحسب ، وأن يظهروا فيهم بمظهر أولي الفضل ، كما قال : { وَأَن تَعْفُواْ } أي : عن ذنوبهم { وَتَصْفَحُوا } أي : بترك التثريب والتعيير { وَتَغْفِرُوا } أي : جناياتهم بالرحمة لهم ، { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : يعاملكم بمثل ما عملتم .
روى ابن جرير عن إسماعيل بن أبي خالد قال : كان الرجل يسلم فيلومه أهله وبنوه ، فنزلت الآية .
وعن ابن عباس قال : كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تمنعه زوجته وولده ، ولم يألوا يثبطونه عن ذلك ، فقال الله : إنهم عدوّ لكم فاحذروهم واسمعوا وأطيعوا ، وامضوا لشأنكم ، فكان الرجل بعد ذلك إذا منِع وثبط ، مرّ بأهله وأقسم ليفعلن وليعاقبن أهله في ذلك ، فقال الله جل ثناؤه :
{ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا } الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 15 ]
{ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أي : تفتتن بهما النفس ، ويجري عليها البلاء بهما ، إذا أوثرا على محبة الحق .
{ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما .
روى ابن جرير عن الضحاك قال : هذا في أناس من قبائل العرب ، كان يسلم الرجل أو النفر من الحيّ ، فيخرجون من عشائرهم ، ويدعون أزواجهم وأولادهم وآبائهم عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله لا يفارقوهم ، ولا يؤثروا عليهم غيرهم ، فمنهم من يرقّ ويرجع إليهم ، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم .
وعن مجاهد : يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم ، أو معصية ربه ، فلا يستطيع الرجل مع حبِّه إلا أن يطيعه به ، فلذلك وعد في إيثار طاعة الله ، وأداء حق الله في الأموال الأجرَ العظيم ، وهو الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 16 ]
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أي : جهدكم ووسعكم ، أي : ابذلوا فيها استطاعتكم ، { وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } أي : افهموا هذه الأوامر واعملوا بها { وَأَنفِقُواْ } أي : أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه { خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ } أي : وائتوا خيراً لأنفسكم ، أي : اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم . فـ { خَيْراً } مفعول بمقدر ، وهذا قول سيبويه ، كقوله تعالى :
{ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] ، وقيل : تقديره : يكن الإنفاق خيراً ، فهو خبر يكن مضمراً ، وهو قول أبي عبيد . وقيل : مفعول لـ : { أَنفِقُواْ } وهو رأي ابن جرير . قال : أي : وأنفقوا مالاً من أموالكم لأنفسكم ستنقذوها من عذاب الله ، والخير في هذا الموضع المال { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أي : بالعصمة منه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : المنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 17 - 18 ]
{ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي : بالإنفاق في سبيله ، ما تحبون من غير منّ ولا أذى . قال الزمخشري : ذكر القرض تلطف في الاستدعاء { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } أي : يضاعف جزاءه وخلفه { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي : ذنوبكم بالصفح عنها { وَاللَّهُ شَكُورٌ } أي : ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله ، بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا { حَلِيمٌ } أي : عن أهل معاصيه ، بترك معاجلتهم بعقوبته .
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : ما يغيب عن أبصار عباده وما يشاهدونه { العَزِيزُ } أي : الغالب في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه { الْحَكِيمُ } أي : في تدبيره خلقه ، وصرفه إياهم فيما يصلحهم .

(/)


سورة الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ 1 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي : في وقتها ، وهو الطُّهر . فاللام للتأقيت .
قال الناصر : جعلت العدة ، وإن كان في الأصل مصدراً ظرفاً للطلاق المأمور به . وكثيراً ما تستعمل العرب المصادر ظرفا ً مثل خفوق النجم ، ومقدم الحاج . وإذا كانت العدة ظرفاً للطلاق المأمور به ، وزمانه هو الطهر ، فللطهر عدة إذاً .
قال ابن جرير : أي : إذا طلقتم نساءكم فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن طاهراً من غير جماع . ولا تطلقوهن بحيضهن الذي لا يعتددن به من قُرئهن .
ثم روي عن قتادة قال : العدة أن يطلقها طاهراً من غير جماع ، تطليقة واحدة .
قال ابن كثير : ومن هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى : طلاق سنّة ، وطلاق بدعة ، فطلاق السّنة أن يطلقها طاهرة من غير جماع ، أو حاملاً قد استبان حملها . والبدعي هو أن يطلقها في حال الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ، ولا يدري أحملت أم لا . وطلاق ثالث لا سنّة فيه ولا بدعة ، وهو طلاق الصغيرة والآيسة ، وغير المدخول بها ، وسيأتي في التنبيهات زيادة على هذا .
{ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } أي : اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء { وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أي : اتقوه في تعدي حدوده في المطلقات ، فلا تخرجوهن من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق ، غضباً عليهن ، وكراهة لمساكنتهن ؛ لأن لهن حق السكنى ، حتى تنقضي عدتهن .
{ وَلَا يَخْرُجْنَ } أي : باستبدادهن من تلقاء أنفسهن .
قال الناصر : قوله تعالى :
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } توطئة لقوله : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } حتى كأنه نهي عن الإخراج مرتين : مندرجاً في العموم ، ومفرداً بالخصوص . وقد تقدمت أمثاله .
{ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي : فإنهن يخرجن . و الفاحشة الزنا ، أو أن تبذو المطلقة على أهلها ، أو هي كل أمر قبيح تُعدّي فيه حده ، فيدخل فيه الزنا والسرقة والبذاء على الأحماء ونحوها ، والأخير مختار ابن جرير ، وقوفاً مع عموم اللفظ الكريم .
{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي : بتعريضها للعقاب بما أكسبها من الوزر . أو أضرّ بها بما اكتسبت من قوة النفار ، وشدة البغضة التي قد تتفاقم فتعسر الرجعة ، مع أن الأولى تخفيف الشنآن ، وتلافي الهجران ، وهو الأظهر ؛ ولذا قال سبحانه :
{ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية .
قال أبو السعود : وقد قالوا : إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى ، أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه ، فلا بد أن يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ، ولا يمكن تداركه ، أو عن مطلق الضرر الشامل الدنيوي والأخروي . ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد ، واهتمامهم بدفعه أقوى .
وقوله تعالى :
{ لَا تَدْرِي } خطاب للمتعدي بطريق الالتفات ، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي ، لا للنبي صلى الله عليه وسلم ، كما توهم فالمعنى : ومن يتعد حدود الله فقد أضرّ بنفسه ، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر ، لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدي ، أمراً يقتضي خلاف ما فعلته ، فيبدل ببغضها محبة ، وبالإعراض عنها إقبالاً إليها ، ويتسنى تلافيه رجعة ، أو استئناف نكاح . انتهى .
تنبيهات :
الأول : قال في " الإكليل " : فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :
{ لِعِدَّتِهِنَّ } < بأن تطلق في طهر لم يجامع فيه > أخرجه البخاري ومسلم ، وفي لفظ مسلم أنه قرأ : < فطلقوهن في قبل عدتهن > فاستدل الفقهاء بذلك على أن طلاق السنة ما ذكر ، وأن الطلاق في الحيض أو طهر جومعت فيه بدعي حرام . واستدل قوم بالآية على عدم وقوعه في الحيض .
الثاني : في " الإكليل " : في قوله تعالى :
{ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } وجوب السكنى لها ما دامت في العدة ، وتحريم إخراجها أو خروجها { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } كسوء الخلق ، والبذاءة على أحمائها . فتنتقل .
الثالث : في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى :
{ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } من لم يوجب السكنى بغير الرجعة . أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن وعكرمة قال : المطلقة ثلاثاً ، والمتوفى عنها لا سكنى لها ولا نفقة ، لقوله : { لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } فما يحدث بعد الثلاث .
الرابع : كما قال بعض الحكماء : إذا استحال الوفاق بين الزوجين ، ولم يبق في الإمكان إصلاح ، وصمم الزوج عليه ؛ لأن وجود شخصين متنافري الطباع متباغضين ، لا ينظر أحدهما إلى الآخر إلا ويحسّ في نفسه بالنفور ، وفي قلبه بالعداوة ، يسعى كل منهما في أذى صاحبه شرٌّ وفساد يجب محوه وقطعه . انتهى .
وقال ابن القيم في " إغاثة اللهفان" : إن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق ، لما فيه من كسر الزوجة ، وموافقة رضا عدوّه إبليس ، حيث يفرح بمفارقة طاعة الله بالنكاح الذي هو واجب أو مستحب ، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية ، وغير ذلك من مفاسد الطلاق ، وكان مع ذلك يحتاج إليه الزوج أو الزوجة ، وتكون المصلحة فيه شرعه على وجه يحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة ، وحرمه على غير ذلك الوجه ، فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة ، فشرع له أن يطلقها طاهراً من غير جماع طلقة واحدة ، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ، فإن زال الشر بينهما ، وحصلت الموافقة ، كان له سبيل إلى لمّ الشعث ، وإعادة الفراش كما كان ، وإلا تركها حتى انقضت عدتها ، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها ، وتجديد العقد عليها برضاها ، وإن لم تتبعها نفسه ، تركها فنكحت من شاءت .
وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار ، فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه ، ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء ، فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقة واحدة . فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه ، عقوبة له ، ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره ، ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق . فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره ، فيحظى به دونه ، أمسك عن الطلاق . انتهى .
ومباحث الطلاق وفروعه تجدر مراجعتها من " إغاثة اللهفان " و " زاد المعاد " لابن القيم ، و " فتاوي ابن تيمية " شيخه . ومن لم يقف على ما حرراه وجاهدا في الصدع به ، فإنه علم غزير ، وفرقان منير ، وبالله التوفيق .
الخامس : استدل بهذه الآيات من قال : إن جمع الطلاق في دفعة واحدة غير مشروع . قال الإمام ابن القيم في " إغاثة اللهفان " : ووجه الاستدلال بالآية من وجوه :
أحدها : أنه تعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها ، أي : لاستقبال عدتها ، فيطلق طلاقاً يتعقبه شروعها في العدة ، ولهذا < أمر عليه السلام عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، لما طلق امرأته > ، أن يراجعها ، وتلا هذه الآية تفسيراً للمراد بها ، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة . وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر ، ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث : إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر أنه غير مطلق للعدة ، فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى ، فلا تكون الثانية للعدة ، فلا يكون مأذوناً فيها ، فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى ؛ لأنها طلاق للعدة بخلاف الثانية والثالثة . ومن جعله مشروعاً قال : هو الطلاق لتمام العدة ، والطلاق لتمام العدة ، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها ، وكلاهما طلاق للعدة . وأصحاب القول الأول يقولون : المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها ، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة : { فطلقوهن في قبل عدتهن } قالوا : فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق ، قبل الرجعة ، أو العقد ، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى . فإرداف الطلاق أسهل من جمعه ، ولهذا شرع الإرداف في الأطهار من لا يجوّز الجمع في الطهر الواحد .
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية . قال مجاهد : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثاً ، فسكت حتى ظننت أنه رادّها . ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس ! وإن الله عز وجل قال : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } ، فما أجد لك مخرجا ، عصيتَ ربك ، وبانت منك امرأتك ، وإن الله عز وجل قال :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ } في قبل عدتهن . وهذا حديث صحيح ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم ، وهذا فهم من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقّهه في الدين ، ويعلمه التأويل ، وهو من أحسن الفهوم كما تقرر .
الوجه الثاني : من الاستدلال بالآية قوله تعالى :
{ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } وهذا هو إنما في الطلاق الرجعيّ ، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة ، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا يطعن في صحتها ، الصريحة التي لا شبهة في دلالتها ، فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ، ما لم تسبقه طلقتان قبله ؛ ولهذا قال الجمهور : إنه لا يشرع له ، ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض . وأبو حنيفة قال : يملك ذلك ؛ لأن الرجعة حقه ، وقد أسقطها . والجمهور يقولون : ثبوت الرجعة ، وإن كان حقاً له ، فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة ، أو باستيفاء العدد ، كما دل عليه القرآن .
الوجه الثالث : أنه قال :
{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فإذا طلقها ثلاثاً جملة واحدة ، فقد تعدى حدود الله فيكون ظالماً .
الوجه الرابع : أنه سبحانه قال :
{ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن ، وهم الصحابة ، أن الأمر هنا هو الرجعة . قالوا : وأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟
الوجه الخامس : قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فهذا حكم كل طلاق شرعه ، إلا أن يسبق بطلقتين قبله . وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ } في قبل عدتهن كما تقدم ، وهذا حق ؛ فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق في طهر أو أطهار ، قبل رجعة أو عقد - كما تقدم - لأنه يكون مطلقاً في غير قبل العدة - فلأن تدل على تحريم الجمع ، أولى وأحرى .
قالوا : والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة ، لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبه ، وقد وقَّت للعدة أجلاً لاستدراك ألفاظه بالرجعة ، فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها ، لأنه وقت نفرته عنها ، وعدم قدرته على استمتاعه بها ، ولا عقيب جماعها ، لأنه قد قضى غرضه منها ، وربما فترت رغبته فيها ، ويزهد في إمساكها لقضاء وطره ، فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا ، مع ما في الطلاق من تطويل العدة ، وعقيب الجماع من بعلها ، لأنه ربما قد اشتمل رحمها على ولد منه ، فلا يريد فراقها . فأما إذا حاضت ثم طهرت ، فنفسه تتوق إليها ، لطول عهده بجماعه ، فلا يقدم على طلاقها في هذه الحالة إلا لحاجة إليه ؛ فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال ، أو في حال استبانة حملها ، لأن إقدامه أيضاً على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيه ، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، إن بدا له أن يطلقها فيطلقها . وفي ذلك عدة حكم :
منها : أن الطهر المتصل بالحيضة ، هو وهي حكم القرء الواحد ، فإذا طلقها في ذلك الطهر ، فكأنه طلقها في الحيضة ، لاتصاله بها ، وكونه معها ، كالشيء الواحد .
الثانية : أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر ، فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق ، وهذا ضد مقصود الرجعة . فإن الله تعالى إنما شرعها للإمساك ولمنفعة النكاح ، وعود الفراش ، فلا يكون لأجل الطلاق ، فيكون كأنه راجع ليطلق . وإنما شرعت الرجعة ليمسك . وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل ، فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة ، والمحلل تزوج ليطلق ، فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه .
الثالثة : إنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق ، وربما صلحت الحال بينهما ، وأقلعت عما يدعوه إلى الطلاق ، فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها . وإذا كان الشارع ملتفتاً إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج ، وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم ، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقاً ، بحيث لا يكون له سبيل إليها . وكيف يجتمع في حكمة الشارع ، وحكمة هذا وهذا ؟ فهذه الوجوه ونحوها مما بيّن بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع ، هي بعينها تعيّن عدم الوقوع ، وأنه إنما يقع المشروع وحده ، وهي الواحدة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ 2 ]
{ فَإِذَا بَلَغْنَ } أي : المطلقات اللواتي في عدة { أَجَلَهُنَّ } يعني آخر العدة . أي : إذا قرب انقضاؤه وشارفنه { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : فراجعوهن بما أمركم الله به من الحقوق التي أوجبها الله لهن من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : اتركوهن حتى تنقضي عددهن فيبنَّ منكم بمعروف ، وهو إيفاؤهن ما لهن من حق ، كالصداق والمتعة ، على ما أوجب عليه لهن .
{ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } أي : أشهدوا عند الرجعة والفرقة من يرضي دينهما وأمانتهما .
قال ابن عباس : فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين ، وإن لم يراجعها ، فإذا انقضت عدتها فقد بانت منه بواحدة ، وهي أملك بنفسها ، ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره .
وهذا الإشهاد على المراجعة والطلاق مندوب ، ومنهم من ذهب إلى وجوبه عليهما ، ومنهم من فرق بين المراجعة فأوجبه فيها وبين الطلاق فاستحبه . وظاهر الأمر في الآية الوجوب فيهما ، والترجيح يجب أن يكون بدليل مرجح . ومما يؤيد الوجوب أن الأوامر في الآية كلها ، قبل وبعد ، للوجوب إجماعاً ، ولا دليل يصرف الأمر بالإشهاد عن ظاهره ، فبقي كسابقه ولاحقه ، وإن كان القرآن لا يفيد المشاركة في الحكم ، إلا أنه عاضد ومؤيد ، إذا لم يوجد صارف . ثم الأمر بالإشهاد عند الطلاق يدل على أن الحلف بالطلاق ، أو تعليق وقوعه بأمر كله مما لا يعدّ طلاقاً في الشرع ، لأن ما طلب فيه الإشهاد ، لا بد أن ينوي فيه إيقاعه ويعزم عليه ويتهيأ له ، وجدير بعصمة ينوي حلها ، وكانت معقودة أوثق عقد ، أن يشهد عليه ، بعد أن يسبقها مراجعة من حكمين من قبل الزوجين ، كما أشارت إليه آية الحكم ؛ فليتدبر الطلاق المشروع ، والطلاق المبتدع ، وبالله التوفيق .
قال الزمخشري : قيل : فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث .
{ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : لوجهه خالصاً ، وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ، ولا للمشهود عليه ، ولا لغرض من الأغراض ، سوى إقامة الحق ، ودفع الظلم ، كقوله تعالى :
{ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] . انتهى .
وتدل الآية على حظر أخذ الأجرة على أداء الشهادة ، ويؤيده قوله تعالى : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فإن المشار إليه هو الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ، ولأجل القيام بالقسط ، ويحتمل عوده على جميع ما في الآية .
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } [ 3 ]
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } قال الزمخشري : يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن ، والأبعد من الندم . ويكون المعنى : ومن يتق الله فطلَّق للسنة ، ولم يضارّ المعتدة ، ولم يخرجها من مسكنها ، واحتاط فأشهد ، يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من الغموم ، والوقوع في المضايق ، ويفرج عنه وينفس ، ويعطه الخلاص ، ويرزقه من وجه لا يخطره بباله ولا يحسبه ، إن أوفى المهر وأدّى الحقوق والنفقات ، وقلّ ماله ، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } يعني : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة . انتهى .
تنبيه :
قال ابن الفرس : قال أكثر المفسرين : معنى الآية في الطلاق أي : من لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث يجعل له مخرجاً إن ندم في الرجعة . قال : وهذا يستدل به على تحريم جمع الثلاث ، وأنها إذا جمعت وقعت ، نقله في " الإكليل " .
وقال ابن القيم في"الإغاثة " : اعلم أنه من اتقى الله في طلاقه ، فطلّق كما أمره الله ورسوله وشرعه له ، أغناه من الحيل كلها ؛ ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } ، فلو اتقى الله عامةُ المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال ، والمكر والاحتيال ، فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه : أن يطلقها طاهراً من غير جماع ، ويطلقها واحدة ، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ، فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها . وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر . وإن لم يكن له غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره ، فمن فعل هذا لم يندم ، ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل ؛ ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال : عصيت ربك ، وفارقت امرأتك ، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا .
وقال سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني طلّقت امرأتي ألفاً . فقال : أما ثلاث ، فتحرم عليك امرأتك ، وبقيّتهن وزر ، اتخذت آيات الله هزؤاً .
قال مجاهد : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثاً ، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ، ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس ! وإن الله تعالى قال : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً ، عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، ذكره أبو داود . والبحث طويل الذيل لا يستغنى عن مراجعته .
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أي : من يتوكل على ما شرعه ، ويفوّض أمره إلى ما جعله المخرج ، لأنه لا دواء أنجع منه { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } قرئ بالإضافة ، أي : يبلغ ما أراد من أمره ، فمن تيقن فوض أمره إليه ، وعول عليه . وقرئ : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغ أَمْرِهِ } أي : تام وكامل أمره وحكمه وشرعه ، لما فيه من الحكم والرحمة { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أي : حدّاً وتقديراً ، حسبما تقتضيه الحكمة . ومنه تقديره ما قدر في أمر الطلاق ، مما بينه في شأنه وتوقيته ، معرفة المخرج منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [ 4 ]
{ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : أشكل عليكم حكمهن ، أو شككتم في الدم الذي يظهر منهن لكبرهن ، أمن الحيض أو هو من الاستحاضة ؟ { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } أي : من الجواري لصغرهن إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول ، فعدتهن ثلاثة أشهر . فحذف لدلالة المذكور عليه { وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } في انقضاء عددهن { أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي : ما في بطنهن . والآية عامة في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن .
ويروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن الآية خاصة في المطلقات . وأما المتوفى عنها فعدتها آخر الأجلين .
قال ابن جرير : والصواب أنه عام في جميع أولات الأحمال ، لأنه تعالى عَمَّ القول بذلك ، ولم يخصص الخبر عن مطلقة دون متوفى عنها .
فإن قيل : إن سياق الخبر في أحكام المطلقات . يجاب : بأن نظمها خبر مبتدأ عن أحكام عدد جميع أولات الأحمال ، المطلقات وغير المطلقات .
وفي الصحيحين عن أم سلمة أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة فخطبت ، < فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم > وكان أبو السنابل فيمن خطبها .
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ } أي : فلم يخالف إذنه في طلاق امرأته { يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } وهو تسهيل الرجعة ما دامت في عدتها ، والقدرة على خطبتها ، إن انقضت ودعته إليها بسبب التقوى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } [ 5 ]
{ ذَلِكَ } أي : ما ذكر من حكم الطلاق والرجعة والعدة { أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } أي : لتأتمروا له وتعملوا به { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي : بالمضاعفة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [ 6 ]
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } أي : من سعتكم التي تجدون, وطاقتكم ومقدرتكم { وَلَا تُضَارُّوهُنَّ } أي : لا تستعملوا معهن الضرار { لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } أي : في المسكن ببعض الأسباب ، من إنزال من لا يوافقهن ، أو بشغل مكانهن ، أو غير ذلك ، حتى تضطروهن إلى الخروج أو الافتداء .
تنبيه :
قال في "الإكليل " : الآية وجوب السكنى للمطلقات كلهن ، وللبوائن ، لتقدم سكنى الرجعيات ، ولقوله بعده : { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ } فإنه خاص بالبوائن . وفيه أن الإسكان يعتبر بحال الزوج ، وتحريم المضارة بها ، وإلجائها إلى الخروج .
{ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال ابن جرير : أي : وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكن بائنات منكم ، فأنفقوا عليهن في عدتهن منكم حتى يضعن حملهن .
فعن ابن عباس في الآية قال : هذه المرأة يطلقها زوجها ، فيبتّ طلاقها وهي حامل ، فيأمره الله أن يسكنها ، وينفق عليها حتى تضع ، وإن أرضعت فحتى تفطم ، وإن أبان طلاقها ، وليس بها حبل ، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ، ولا نفقه . وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملاً أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث ، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها ، كما قال الله عز وجل :
{ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [ البقرة : 233 ] . فإن لم تكن حاملاً فإن نفقتها كانت من مالها .
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون عنى بقوله : { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } كل مطلقة ، ملك زوجها رجعتها أو لم يملك ، وممن قال ذلك عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما .
فعن إبراهيم قال : كان عمر وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثاً ، السكنى والنفقة والمتعة . وكان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم < مرها أن تعتد في غير بيت زوجها > . قال : ما كنا لنجيز في ديننا شهادة امرأة .
ثم قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوته إلا أن تكون حاملاً ، لأن الله جل ثناؤه جعل النفقة بقوله :
{ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ } للحوامل دون غيرهن من البائنات من أزواجهن ، ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب من النفقة على أزواجهن سواء ، لم يكن لخصوص أولات الأحمال بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم ، إذ هن وغيرهن في ذلك سواء . وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهن أدل الدليل على أن لا نفقة لبائن ، إلا أن تكون حاملاً ، وبالذي قلنا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : حدثتني فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس : أن أبا عمرو المخزومي طلقها ثلاثاً ، فأمر لها بنفقة فاستقلتها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن . فانطلق خالد بن الوليد في نفر ، من بني مخزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند ميمونة ، فقال : يا رسول الله ! إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثا ، فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ليس لها نفقة > فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انتقلي إلى بيت أم شريك ، وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك . ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون ، فانتقلي إلى ابن مكتوم ، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك . فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد . انتهى .
وقال الناصر في < الانتصاف > : لا يخفى على المتأمل لهذه الآي أن المبتوتة غير الحامل ، لا نفقة لها ، لأن الآي سيقت لبيان الواجب ، فأوجب السكنى لكل معتدة تقدم ذكرها ، ولم يوجب سواها . ثم استثنى الحوامل فخصهن بإيجاب النفقة لهن حتى يضعن حملهن ، وليس بعد هذا البيان بيان . والقول بعد ذلك بوجوب النفقة لكل معتدة مبتوتة ، حاملاً أو غير حامل ، لا يخفى منافرته لنظم الآية .
والزمخشري نصر مذهب أبي حنيفة فقال : فائدة تخصيص الحوامل بالذكر أن الحمل ربما طال أمده ، فيتوهم متوهم أن النفقة لا تجب بطوله فخصت بالذكر تنبيهاً على قطع هذا الوهم . وغرض الزمخشري بذلك أن يحمل التخصيص على هذه الفائدة كيلا يكون له مفهوم في إسقاط النفقة لغير الحوامل ، لأن أبا حنيفة يسوي بين الجميع في وجوب النفقة . انتهى .
وفي "الإكليل " : في الآية وجوب الإنفاق على البائن الحامل حتى تنقضي عدتها . ومفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها . واستدل بعموم الآية من أوجبها للحامل المتوفى عنها . انتهى .
{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } يعني : نساءكم البوائن منكم { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : على رضاعهن { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ } أي : ليقبل بعضكم من بعض ما أمر به من معروف ، يعني : المجاملة والمسامحة في الإرضاع والأجر . والخطاب للآباء والأمهات .
تنبيه :
في "الإكليل " : فيها أن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجرة مثل ، وجب على الأب دفعها إليها ، وليس له أن يسترضع غيرها . وفيه دليل على أن الأم أولى بالحضانة .
قال إلكيا : وفيه دلالة على أن الأجرة إما تستحق بالفراغ من العمل . انتهى .
وفي قوله :
{ بِمَعْرُوفٍ } طلب أن لا يماكس الأب ، ولا تعاسر الأم ، لأنه ولدهما معاً ، وهما شريكان فيه ، وفي وجوب الإشفاق عليهن . قالـ [ ـه ] الزمخشري .
{ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } أي : ضيق بعضكم على الآخر بالمشاحّة في الأجرة ، أو طلب الزيادة ونحوه ، { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } قال ابن جرير : أي : فلا سبيل له عليها ، وليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه .
وقال الزمخشريّ : أي : فستوجد ، ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه . وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك . تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم . انتهى .
قال الناصر : وخص الأم بالمعاتبة ، لأن المبذل من جهتها هو لبنها لولدها ، وهو غير متمولّ ولا مضنون به في العرف ، وخصوصاً في الأم على الولد ، ولا كذلك المبذول من جهة الأب ، فإنه المال المضنون به عادة ، فالأم إذاً ، أجدى باللوم ، وأحق بالعتب . انتهى .
وفيه أيضاً إشارة إلى معاتبة الأب أيضاً ، كما حققه بعضهم ، وذلك أن الأب لما أسقط عن درجة الخطاب ، وبين أن معاسرته لا تجدي ، إذ لا بد من مرضعة أخرى بأجر ، وهذه أشفق منها ، كان في حكم المعاتب المذكور في الجواب . وبه يندفع ما يقال : إن المعاسرة فعل الأب والأم ، فكيف يخص الأم بالذكر في الجزاء . وحاصله أنهما مذكوران فيه ، إلا أن الأم مصرح بها ، والأب مرموز إليه . وتقدير ابن جرير يشير إليه أيضاً .
تنبيه :
في "الإكليل " : تدل على أن الأم لا تجبر على الرضاع حيث وجد غيرها ، وقبل الصبي ثديها ، وإلا أجبرت عليه .
قال ابن العربيّ : والآية أصل في وجوب نفقة الولد على الأب ، خلافاً لمن أوجبها عليهما معاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [ 7 ]
{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } أي : من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها ، وعلى ولده الصغير { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي : ضيق عليه { فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } أي : على قدر ماله وطاقته { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا } يعني : وسعها وطاقتها ، فلا يكلف الفقير نفقة الغنيّ ، ولا أحداً إلا فرضه الذي وجب عليه { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } أي : سيؤتي المقلّ بعد ضيق فرجاً ، وبعد فقر غنى ، تسلية للمعسرين من فقراء الأزواج ، وتصبير لمطلقاتهم ، وتطيب لقلوب الجميع ، وتبشّر عام .
تنبيه :
في "الإكليل " : فيه أن النفقة يراعى فيها حال المنفق يساراً وإعساراً ، وإن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر ، لا حال المنفق عليه ، واستدل بقوله : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا } من قال : لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة . وفي الآية استحباب مراعاة الْإِنْسَاْن نفسه في النفقة والصدقة . ففي الحديث : < ن المؤمن أخذ عن الله أدباً حسناً : إذا هو وسع عليه وسع ، وإذا هو قتر عليه قتر >
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبي عبيدة فقيل له : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ماذا يصنع إذا هو أخذها ، فما لبث أن لبس ألين الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاء الرسول فأخبره ، فقال رحمه الله : تأول هذه الآية { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ }
ثم حذر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده فيما شرعه ، عناية بما مرّ من الأحكام ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } [ 8 - 9 ]
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } أي : أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد ، { وَرُسُلِهِ } أي : وعن أمر رسله كذلك { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } أي : على ما قدمت ، فلم نغادر لها منه شيئا { وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } أي : منكراً .
{ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي : عاقبة ما اكتسبت وجزاءه { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } قال ابن جرير : أي : غبناً ، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس من الدنيا قليل ، وآثروااتباع أهوائهم على اتباع أمرالله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً } [ 10 ]
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } يعني عذاب النار المعدّ في القيامة { فَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه . واجتناب معاصيه { يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } أي : العقول { الَّذِينَ آمَنُوا } أي : صدقوا الله ورسله . نعت للمنادى ، أو عطف بيان له { قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً } [ 11 ]
يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وجعله نفس الذكر مبالغة ، لذلك أبدل منه { يتلوا عليكم ايات الله مبينات } أي : لمن سمعها وتدبرها أنها حق من عند الله { لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : من الضلال إلى الهدى { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً } أي : طيبه ، وفيه تعجيب له وتعظيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [ 12 ]
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي : المعبود المستحق للعبادة ، من هذا خلقه ، لا ما يشرك معه . وهاهنا لطائف :
الأولى : قال الزمخشريّ : قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه . انتهى .
قال بعض علماء الفلك : أما كون الأرضين سبعاً كالسماوات ، فهو أمر نجهله ولا نفهمه إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات ، قال : والحق يقال أن كون الأرضين سبعاً ، وهو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء ، ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعاً - أي : أرضين - ولم يرد فيه مطلقاً أن الأرضين سبع ، مع أنه ذكر أن السماوات سبع ، مراراً عديدة وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالأفراد . نعم ! ورد فيه قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع . وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً .
قال : ولنا في تفسيرها وجهان :
أما أن تكون { مَنِ } في قوله تعالى : { وَمِنَ الْأَرْضِ } زائدة ، وإما أن تكون غير زائدة .
أما على الوجه الأول : فتقدير الآية هكذا : الله الذي خلق سبع سماوات والأرض خلقها مثلهن . وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه . أي : أنها إحدى السيارات ، وهو أمر ما كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان يخطر ببال أحد من العرب ، وذلك من دلائل صدق القرآن . والأرض مثل السيارات الأخرى في المادة ، وكيفية خلقها ، وكونها تسير حول الشمس ، وتستمد النور والحرارة منها ، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى ، وكونها كروية الشكل ، فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه ، وكلها مخلوقة من مادة واحدة ، وهي مادة الشمس ، وعلى طريقة واحدة ، قال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] . أي : شيئاً واحداً { فَفَتَقْنَاهُمَا } أي : فصلنا بعضهما عن بعض ، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السماوات تماماً .
وأما على الوجه الثاني : وهو أن { مَنِ } غير زائدة ، فتقدير الآية هكذا : الله الذي خلق سبع سماوات وخلق من الأرض أرضاً مثلهن ، فالآية واردة على طريقة التجريد ، كقولك : اتخذت لي سبعة أصدقاء ، ولي من فلان صديق مثلهم . أي : مثلهم في الصداقة . أو التقدير : وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها . وعليه ، فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون . انتهى .
الثانية : ذكر ابن الأثير في "المثل السائر "في النوع السادس ، في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه ، ما مثاله :
وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرداً ، ولم يرد مجموعاً ، كلفظة الأرض ، فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة . فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن . ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل :
{ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } في قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } انتهى .
الثالثة : قرئ { مِثْلَهُنَّ } بالنصب ، عطفاً على { سَبْعَ } بالرفع على الابتداء ، وخبره { مِّنَ الأَرْضِ }
{ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } أي : يجري أمر الله وحكمه بينهن ، وملكه ينفذ فيهن . وقوله :
{ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } علة لـ { خَلَقَ } و لـ { يَتَنَزَّلُ } أو لمضمر يعمهما ، كفعل ما فعل لتعلموا . . . إلخ ، فإن كلاً منها يدل على كمال قدرته وعلمه .
قال ابن جرير : أي : فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم ، عقوبته ، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع . وهو على ذلك قادر ومحيط أيضاً بأعمالكم فلا يخفى عليه منها خاف . وهو محصيها عليكم ليجازيكم به ، يوم تجزى كل نفس ما كسبت .

(/)


سورة التحريم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 1 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال المهايميّ : ناداه ليقبل إليه بالكلية ، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن . وعبّر عنه بالمبهم إشعاراً منه بأنه من غاية عظمته ، بحيث لا يعلم كنهه . وأتى بلفظ : { النَّبِيُّ } إشعاراً بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل و التحريم الإلهيّ . والمراد بتحريمه ما أحلّ له امتناعه منه ، وحظره إيّاه على نفسه . وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح ، وإنما قيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } رفقاً به ، وشفقة عليه ، وتنويهاً لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم ، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه ، جرياً على ما ألف من لطف الله تعالى نبيّه ، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه ، ومن أجله خلقوا ، ليظهر الله كمال نبوته ، بظهور نقصانهم عنه ، كما أفاده الناصر .
تنبيهان :
الأول : للأثريين في هذا الذي حرمه صلوات الله عليه على نفسه روايات .
فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ، ويمكث عندها ، فتواطأتُ أنا وحفصة أن أيّتنا دخل عليها فلتقل له : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال : < بل شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت ! لا تخبري بذلك أحداً > ، فنزلت الآية .
وروى الشيخان أيضاً عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحَلواء والعسل ، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه ، فيدنو من كل واحدة منهن ، فدخل على حفصة بنت عمر ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة ، فقلت : والله لنحتالنَّ له ! فذكرت ذلك لسودة ، وقلت لها : إذا دخل عليك ، ودنا منك ، فقولي له : يا رسول الله ! أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك : لا ! فقولي له : وما هذه الريح ؟ و < كان صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه > ! فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : أكلت نحلُه العُرفطَ ، حتى صار فيه - أي : في العسل - ذلك الريح الكريه ، وإذا دخل عليّ فسأقول له ذلك ، وقولي أنت يا صفية ذلك . فلما دخل على سودة ، قالت له مثل ما علمتها عائشة ، وأجابها بما تقدم . فلما دخل على صفية ، قالت له مثل ذلك ، فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك ؛ فلما كان اليوم الآخر ودخل على حفصة قالت له : يا رسول الله ! ألا أسقيك منه ؟ قال : < لا حاجة لي به > . قالت : إن سودة تقول : سبحان الله ! لقد حرمناه منه ، فقلت لها : اسكتي .
و المغافير صمغٌ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر ، يقال له : العرفط بضم العين المهملة والفاء .
وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة ، وفي سابقتها أنها زينب . والاشتباه في الاسم لا يضر ، بعد ثبوت أصل القصة .
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : كانت حفصة وعائشة متحابتين ، وكانتا زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهبت حفصة إلى أبيها ، فتحدثت عنده ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته ، فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتها في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غيرة شديدة ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، ودخلت حفصة ، فقالت : قد رأيت من كان عندك ، واللهِ لقد سؤتني ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < واللهِ لأرضينك ، فإني مسرّ إليك سراً فاحفظيه > ! قالت : ما هو ؟ قال : < إني أشهدك أن سريَّتي هذه عليّ حرام ، رضا لك > - وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم - فانطلقت عائشة فأسرت إليها أن أبشري ، إن النبي صلى وسلم قد حرم عليه فتاته . فلما أخبرت بسرِّ النبي صلى الله عليه وسلم ، أظهر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } الآيات .
وروي أيضاً عن الضحاك قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها ، فبصرت به حفصة ، وكان اليوم يوم عائشة ، وكانتا متظاهرتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اكتمي عليّ ، ولا تذكري لعائشة ما رأيت > ، فذكرت حفصة لعائشة ، فغضبت عائشة ، فلم تزل بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبداً ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمره أن يكفِّر يمينه ويأتي جاريته .
وروى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمَة يطؤها ، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرَّمها ، فأنزل الله هذه الآية .
ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر ، بل وقف على إجمال الآية ، على عادته في أمثالها ، ولذا قال : الصواب أن يقال : كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة ، وجائز أن يكون غير ذلك ، غير أنه ، أي : ذلك كان ، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه كما كان له قد أحله ، وبيَّن له تحلة يمينه . انتهى .
والذي يظهر لي هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها ، وذلك لوجوه :
منها : أن مثله يبتغي به مرضاة الضرات ، ويهتم به لهن .
ومنها : أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن ، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة ًمن ريحه ، ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة عليها ، إلا أن يكنَّ عاتبنه في ذلك ، ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك ، فحرمه .
ولكن ليس في الرواية ما يشعر به . وما زاد على ذلك فمن اجتهاد الرواة .
ومنها : أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة ، لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه ، وإيعادهن على الإصرار على ذلك ، بالاستدلال بهن ، وإعلامهن برفعة مقامه ، وأن ظهراءَهُ مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون ، كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية, فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية . هذا ما ظهر لي الآن .
وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية ، وقول بعض السلف نزلت فيه ، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها ، على ما عرف من عادة السلف في قولهم : نزلت في كذا ، كما نبهنا عليه مراراً . وكأنه عليه السلام كان حرم ذلك الشراب ، ثم أخبر الرواةُ بأن مثله فرضت فيه التحلة ، فلا مانع من العود إلى شربه ، والله أعلم .
الثاني : في " الإكليل " : استدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاماً أو زوجة ، لم تحرم عليه ، وتلزمه كفارة يمين .
وروى البخاري عن ابن عباس قال : في الحرام يكفَر ؛ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .
وذهب ابن جرير إلى أنه كان مع التحريم يمين ، ورد كون التحريم بمجرَّده يميناً ، وفيه نظر ، لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله ، كما ذهب إليه ابن عباس والحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم .
قال قتادة : إن النبي صلى الله علبيه وسلم حرمها ، يعني جاريته ، فكانت يميناً - رواه ابن جرير - وسيأتي ما يؤيده . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ 2 ]
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أي : شرع تحليلها - وهو حل ما عقدته - بالكفارة . والتحلة مصدر بمعنى التحليل .
{ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ } أي : متولي أموركم { وَهُوَ الْعَلِيمُ } أي : بمصالحكم { الْحَكِيمُ } أي : في تدبيره إياكم بما شرعه وحكم به .
تنبيهات :
الأول : قال ابن قدامة في " الروضة " : دلت الآية على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به ، لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقيبه :
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وابتدأ الخطاب بمناداته وحده ، ثم تمَّمه بلفظ الجمع بقوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء } والمسألة طويلة الذيل في الأصول .
الثاني : قال تقيّ الدين ابن تيمية : التحلة مصدر حللت الشيء تحليلاً وتحلة ، كما يقال : كرمته تكريماً وتكرمه ، وهذا المصدر يسمَّى به المحلل نفسه ، الذي هو الكفارة فإن أريد المصدر ، فالمعنى : فرض الله لكم تحليل اليمين ، وهو حلها الذي هو خلاف العقد .
ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز ، بهذه الآية على التكفير قبل الحنث ، لأن التحلة لا تكون بعد الحنث ، فإنه بالحنث ينحل اليمين ، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين ، وإنا هي بعد الحنث كفارة ، لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله . فإذا تبين أن ما اقتضت اليمين وجوب الوفاء بها ، رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلاً من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار .
الثالث : شمل قوله تعالى :
{ أَيْمَانِكُمْ } تحريم الحلال المذكور قبل ، وهو الزوجة ، لدخوله فيه دخولاً أولياً ، بل كل يمين .
قال تقي الدين ابن تيمية في" فتاويه" : قوله تعالى :
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } نصّ عام في كل يمين يحلف بها المسلمون ، أن الله قد فرض لها تحلة . وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه وسلم ، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى : فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة ، لكان مخالفاً للآية . كيف وهذا عام لم تخص فيه صورة واحدة ، لا بنص ولا بإجماع ، بل هو عام عموماً معنوياً ، مع عمومه اللفظي ؟ فإن اليمين معقود يوجب منع المكلف من الفعل ، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة ، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق ، أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب : فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس ، أو ليقطعن رحمه ، أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها ، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه ، أن يبرّ ويصلح بين الناس ، أكثر مما يجعل الله عرضة ، ثم إن وفَّى بيمينه ، كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه . وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضاً من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه . وإن طلق امرأته ، ففي الطلاق أيضاً من ضرر الدنيا والدين ما لا خفاء به . وأيضاً فإنه تعالى قال :
{ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله ، إلا والله غفور لفاعله ، رحيم به ، وأنه لا علة تقتضي ثبوت التحريم ؛ لأن قوله لأي شيء استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير ، لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك ، والله غفور رحيم ، فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئاً لا رخصة له ، لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال ، ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل .
ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم حديث : < من حلف فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك > ، فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله . وهذه الدلالة تنبيه على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهما في مسألة نذر اللجاج والغضب ؛ فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية ، وجعلوا قوله { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } كفارة أيمانكم عاماً في اليمين بالله واليمين بالنذر . ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما ، سواء .
فإذا قيل : المراد بالآية اليمين بالله فقط ، فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله :
{ عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } [ المائدة : 89 ] ، و { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } منصرفاً إلى اليمين المعهودة عليهم ، وهي اليمين بالله ، وحينئذ فلا يعلم من اللفظ إلا المعروف عندهم ، والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفاً عندهم . ولو كان اللفظ عاماً ، فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة ، كاليمين بالمخلوقات ، فلا يدخل الحلف بالطلاق ونحوه ، لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله : < من كان حالفاً فليحلف بالله وإلا فليصمت > وهذا سؤال من يقول : كل يمين غير مشروعة ، فلا كفارة لها ولا حنث .
فيقال : لفظ اليمين شمل هذا كله ، بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله . كقوله صلى الله عليه وسلم : < النذر حلف > . وقول الصحابة لمن حلف بالهدي بالعتق : كفِّر يمينك . وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولإدخال العلماء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : < من حلف فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك > . ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال :
{ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ثم قال :
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين ، كما استدل به ابن عباس . وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل ، وإما تحريمه مارية القبطية . وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية ، وليس يميناً بالله ، لهذا أفتى جمهور الصحابة ، كعمرو عثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم ، أن تحريم الحلال يمين مكفرة ، إما كفارة كبرى كالظهار ، وإما كفارة صغرى كاليمين بالله . ومازال السلف يسمون الظهار ونحوه يميناً .
وأيضاً فإن قوله :
{ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام ، وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها ، وإما لم تحرمه مطلقا ، فإن أريد الأول والثالث فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله تعالى ، ثم فيعم ، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله ، فقد سمى الله الحلف بالله تحريماً للحلال . ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية ، لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل ، فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في قوة قوله :
{ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وحينئذ فقوله :
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال ، لأن هذا حكم ذلك الفعل ، فلا بد أن يطابق صوره ؛ لأن تحريم الحلال هو سبب قوله :
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وسبب الجواب إذا كان عاماً كان الجواب عاماً ، لئلا يكون جواباً عن البعض دون البعض ، مع قيام السبب المقتضي للتعميم .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : الذين أوجبوا كفارة اليمين بالتحريم أسعد بالنص من الذين أسقطوها ، فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقيب قوله :
{ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان ، إما مختصاً به ، وإما شاملاً له ولغيره ، فلا يجوز أن يخلي سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة ، ويتعلق بغيره ، وهذا ظاهر الامتناع .
وأيضاً فإن المنع من فعله بالتحريم ، كالمنع منه باليمين ، بل أقوى ؛ فإن اليمين ، إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه ، فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره ، فإنه إذا شرع حلالاً فحرمه المكلف ، كان تحريمه هتكاً لحرمة ما شرعه .
ونحن نقول : لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الاسم ، ولا التحريم هتك حرمة الشرع ، كما يقوله من يقوله من الفقهاء ، وهو تعليل فاسد جداً ، فإن الحنث إما جائز ، وإما واجب ، أو مستحب . وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه ، وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين ، ورأى غيرها خيراً منها كفر عن يمينه ، وأتى المحلوف عليه . ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يبح في شريعة قط ، وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى ، تحلة ، وهي تفعلة من الحل ، فهي تحل ما عقد به اليمين ليس إلا . وهذا العقد ، كما يكون باليمين ، يكون بالتحريم . وظهر سر قوله تعالى :
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } ، عقيب قوله :
{ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }
وقال رحمه الله فيه ، قبلُ : أما من قال : إنه يمين مكفرة بكل حال ، فمأخذ قوله أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمين يكفر بالنص والمعنى وآثار الصحابة ، فإن الله سبحانه قال :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } الآية ، ولا بدَّ أن يكون تحريم الحلال داخلاً تحت هذا الفرض ، لأنه سببه ، وتخصيص محل السبب من جملة العامّ ، ممتنع قطعاً ؛ إذ هو المقصود بالبيان أولاً ، فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان ، وهو ممتنع . وهذا استدلال في غاية القوة ، فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال : نعم ! التحريم يمين كبرى في الزوجة ، كفارتها كفارة الظهار ، ويمين صغرى فيما عداها ، كفارتها كفارة اليمين بالله . قال : وهذا معنى قول ابن عباس وغيره من الصحابة ومن بعدهم : إن التحريم يمين يكفَّر .
وقال رحمه الله في " أعلام الموقعين " : لا يجوز أن يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه ، وتلزمه كفارة يمين حرمه لشدة اليمين ، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ، ولا هي من لغو اليمين ، وهي يمين منعقدة ، ففيها كفارة يمين .
ثم قال في المذهب الثالث عشر : إنه يمين يكفره ما كفر اليمين على كل حال ، صحَّ ذلك أيضاً عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور ، وخلق سواهم رضي الله عنهم . وحجة هذا القول ظاهر القرآن ، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال ، فلا بد أن يتناوله يقيناً ، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله .
وقال في " زاد المعاد " : لا فرق بين التحريم - في غير الزوجة - بين الأمَة وغيرها عند الجمهور ، إلا الشافعي وحده ، فإنه أوجب في تحريم الأمة خاصة ، كفارة اليمين ، إذ التحريم له تأثير في الأبضاع عنده ، دون غيرها : وأيضاً فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية ، فلا يخرج محل السبب عن الحكم ، ويتعلق بغيره . ومنازعوه يقولون : النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال ، وهو أعمّ من تحريم الأمة وغيرها ، فتجب الكفار حيث وجد سببها . وقد تقدّم تحريره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [ 3 ] .
{ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } هي حفصة في قول الرواة : ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك ، كما نقله ابن جرير { حَدِيثاً } وهو تحريم فتاته في قولهم . قال ابن جرير : أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له ، وقوله : < لا تذكري ذلك لأحد > .
{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أي : أخبرت بالسرّ ، صاحبتها كما تقدم ، { وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ } أي : أطلعه على تحديثها به ، { عَرَّفَ بَعْضَهُ } أي : عرّفها بعض ما أفشته معاتباً { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } أي : بعض الحديث تكرماً ، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } أي : الذي لا تخفى عليه خافية .
تنبيه :
في " الإكليل " : في الآية أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق ، وأنه يلزمه كتمانه . وفيها حسن المعاشرة مع الزوجات ، والتلطف في العتب ، والإعراض عن استقصاء الذنب .
وحكى الزمخشري عن سفيان قال : ما زال التغافل من فعل الكرام .
ثم أشار تعالى إلى غضبه لنبيه ، صلوات الله عليه ، مما أتت به من إفشاء السر إلى صاحبتها ، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته ، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ 4 ]
{ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أي : إلى الحق ، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله . وقد صح عن ابن عباس أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن المتظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : عائشة وحفصة .
وفي خطابهما ، على الالتفات من الغيب إلى الخطاب ، مبالغة ، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مطروداً بعيداً عن ساحة الحضور ، ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد .
{ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } أي : تتظاهرا وتتفقا على ما يسوؤه ، { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } أي : متظاهرون على من أراد مساءته ، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظهراؤه ؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم ، ختم الظهراء بهم ليكون أفخم في التنويه بالنبي صلوات الله عليه ، وعظم مكانته ، والانتصار له ، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار ، يملأ القفار ، يتأثر أميره وقائده ، ليحمل على عدوّه ومناوئه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [ 5 ]
{ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ } أي : خاضعات لله بالطاعة { مُؤْمِنَاتِ } أي : مصدقات بالله ورسوله { قَانِتَاتٌ } أي : مطيعات لما يؤمرن به { تَائِبَاتٍ } أي : من الذنوب لا يصررن عليها { عَابِدَاتٍ } أي : متعبدات لله ، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن ، حتى صارت ملكة لهن { سَائِحَاتٍ } قيل : معناه صائمات ، وسننبه على ما فيه { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }
اعلم أن في توصيف المبدلات بهذه الصفات ، تعريضاً بوجوب اتصاف الأزواج بها ، لا سيما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
تنبيه :
ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من { سَائِحَاتٍ } صائمات أو مهاجرات . وقد قدمنا في سورة التوبة في تفسير { السَّائِحُونَ } [ الآية : 112 ] أن الحق فيه هو المعنى الحقيقيّ لعدم ما يمنع منه ، ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع . ولذا قال بعض المحققين : إنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء ، كما هي كذلك للرجال . فمعنى قوله تعالى : { سَائِحَاتٍ } مسافرات ، سواء كان السفر لهجرة أو اطلاع على آثار الأمم البائدة . وقد خصصت السنة عموم سفرهن بكونه مع زوج أو محرم له ، حفظاًً لهن .
ثم قال : كأن الذي دعا البعض لتفسير { سَائِحَاتٍ } بالصائمات ، أو بخصوص المهاجرات ، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب ، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد ، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء ، أو كأنهن لم يخلقن إلا لسجون البيوت التي ربما تكون أنكى من أعمق سجون الجناة ، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد ؟ ! وأما قوله تعالى :
{ خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً }
[ البقرة : 29 ] ، فكأنه مخصوص بالرجل ، أو كأن الآيات الآمرة بالسير للنظر والعبرة والإحاطة والخبرة ، نازلة من السماء ليس للأمة جميعاً ، بل للنصف منها ، وهو الرجال . وحاشا أن يكون ذلك ! أين هديه صلى الله عليه وسلم في سفره مع أزواجه ؟ فقد < كان يقرع بينهن > ، فأيتهن خرجت قرعتها خرج بها ، وسافرت معه . وقد صار ذلك شريعة معمولاً بها في الدين . وهكذا صح أنه صلى الله عليه وسلم < لما قدم بصفية أردفها خلفه وهو مع الركب > .
وبالجملة فالسياحة في القرآن الكريم ليست ترمي إلى غاية واحدة ، بل إلى عدة غايات وفوائد :
أولاً : إدراك المعقولات ، والإحاطة بعظات المسموعات ، كما نتعلمه من آية { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] .
ثانياً : الوقوف على أحوال الأمم البائدة ، وما لهم من جليل الآثار الداعية للاعتبار ، كما نتعلمه من قول الكتاب الحكيم :
{ أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } [ غافر : 21 ] ، وقوله :
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ الروم : 9 ] .
ثالثاً : البحث والتنقيب في أنحاء المسكونة بالنظر في الكون ، وفي الفنون ، للوصول إلى معرفة مبدع هذا العالم تعالى ، كما يحثنا الكتاب الكريم على تسنم هذا المرتقى العالي بقوله :
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } [ العنكبوت : 20 ] .
رابعاً : الحصول على ربح التجارة كما نتعلم ذلك من قول الكتاب الكريم : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } [ المزمل : 20 ] .
فهل ترى هذه الفوائد ذات البال مختصة بالرجل دون الأنثى ، حتى يكون السير خاصاً بالرجل ؟ كلا ! وقد امتن الله على أهل سبأ بما حكاه بقوله :
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [ سبأ : 18 ] . وامتن على جميع عباده بقوله :
{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [ يونس : 22 ] ، وقال تعالى : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [ المائدة : 96 ] ، فهل يجوز أن نذهب إلى أن هذه المنن هي من مخصوصات الرجل دون النساء ؟ كلا ! بل الكل مغمور بهذه المنّات ، كما هو مقتضى عموم الآيات . انتهى ملخصاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ 6 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } أي : سببها ، وذلك بترك المعاصي ، وفعل الطاعات ، والقيام على تأديب الأهل ، وأخذهن بما تأخذون به أنفسكم { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أي : تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ } أي : تلي أمرها وتعذيب أهلها ، زبانية { غِلَاظٌ شِدَادٌ } أي : جفاة قساة { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } قال الزمخشري : وليست الجملتان في معنى واحد ، فإن معنى الأولى : أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به ، لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه . انتهى .
وقيل : الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره ، والثانية لأنهم لا يفعلون شيئاً ما لم يؤمروا به ، كقوله تعالى :
{ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، فإن استمرارهم على فعل ما يؤمرون به يفيده ، فلا تكرار . وقيل : إنه من الطرد والعكس ، وهو يكون في كلامين ، يقرر منطوق أحدهما مفهوم الآخر ، وبالعكس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 7 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يقال لهم ذلك عند دخولهم النار . فالمراد
ب { الْيَوْمَ } وقت دخولهم إياها ، فتعريفه للعهد ، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم ، أو العذر لا ينفعهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 8 ] أي : توبة ترقع الخروق ، وترتق الفتوق ، وتصلح الفاسد ، وتسد الخلل . من النصح بمعنى الخياطة . أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الذي تاب عنه ، والنظر إليه بعدم الالتفات ، وقطع النظر عنه من النصوح بمعنى الخلوص { عَسَى رَبُّكُمْ } أي : بمناصحة أنفسكم بالتوبة النصوح { أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } أي : لا يذلهم . تعريض لأعدائهم بالخزي والصغار { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } أي : أدمه أو زده { وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 9 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : بالسنان والبرهان { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } أي : فيما تجاهدهم به ، لتنكسر صلابتهم ، وتلين شكيمتهم وعريكتهم ، فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع .
{ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [ 10 ]
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ } أي : حالهما { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } أي : بالمظاهرة عليهما والكفر والعصيان ، مع تمكنهما من الطاعة والإيمان { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ } أي : من عذابه { شَيْئاً وَقِيلَ } أي : لهما عند موتهما ، أو يوم القيامة :
{ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } أي : مع سائر الداخلين من الفجرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [ 11 - 12 ]
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : من عملهم وعذابهم { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : حفظته وصانته { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } يعني جبريل عليه السلام ، أو من روح خلقناه بلا توسط ، وهو عيسى عليه السلام { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أي : بصحفه المنزلة من عنده { وَكُتُبِهِ } أي : الموحاة . والعطف للتفسير ، أو الكلمات أعم من المكتوب والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة ، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار .
{ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } أي : من المواظبين على الطاعة لله ، والخضوع لأحكامه . والتذكير للتغليب .
تنبيهات :
الأول : قال الزمخشريّ : مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم ، من غير إبقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة ونسب ، أو وصلة صهر ، لأن عداوتهم لهم ، وكفرهم بالله ورسوله ، قطع العلائق ، وبت الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر ، نبياً من أنبياء الله ، بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما ، بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج ، إغناءً ما من عذاب الله ، ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين لا تضرهم ، ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، الناطق بالكلمة العظمى . ومريم ابنة عمران ، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفاراً . وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأميّ المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ، لما في التمثيل من ذكر الكفر . ونحوه في التغليظ :
{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 97 ] ، وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين . والتعريض بحفصة أرجح ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله . وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب ، بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدق على تفطن العالم ويزل عن تبصره . انتهى .
الثاني : قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال : مثل للكفار ، ومثلين للمؤمنين .
فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب ، أو وصلة صهر ، أو سبب من أسباب الاتصال . فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة ، إلا ما كان منها متصلاً بالله وحده على أيدي رسله ، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح ، مع عدم الإيمان ، لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما . فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل : ادخلا النار مع الداخلين قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله ، وخالف أمره ، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال ، فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية ، ولم يغن نوح عن ابنه ، ولا إبراهيم عن أبيه ، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئاً ؛ قال تعالى :
{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 3 ] ، وقال تعالى :
{ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً } [ الانفطار : 19 ]
وقال تعالى : { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48و123 ] ، وقال :
{ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } [ لقمان : 33 ] ، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة ، أن من تعلقوا به من دون الله ، من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة ، أو يجيرهم من عذاب الله أو يشفع لهم عند الله . وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الذي بعث الله جميع رسله ، وأنزل جميع كتبه ، بإبطاله ، ومحاربة أهله ومعاداتهم .
وأما المثلان اللذان للمؤمنين : فأحدهما امرأة فرعون ، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئاً إذا فارقه في كفره وعمله ، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئاً في الآخرة ، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله ، فتأتي عامة . فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به ، وهو أكفر الكافرين ، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، وهما رسولا رب العالمين .
المثل الثاني للمؤمنين : مريم ، التي لا زوج لها ، لا مؤمن ولا كافر .
فذكر ثلاثة أصناف النساء : المرأة ، والثانيةلتي لها وصلة بالرجل الصالح ، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر ، والمرأة العزب التي لا وصلة بينهما وبين أحد ، فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببه ، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها ، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئاً .
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، والتحذير من تظاهرهن عليه ، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ، ويردن الدار الآخرة ، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة .
قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة . وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم اعتبار آخر : وهو أنها لم يضرها عند الله شيئاً ، قذف أعداء الله اليهود لها ، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله عنه ، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين ، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه .
وفي هذه تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك ، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون ، إن كانت قبلها . كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم . فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن ، والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه . وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ، ولاسيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون . انتهى .
الثالث : قال القاشانيّ : بيَّن تعالى أن الوصل الطبيعية ، والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية ، بل المحبة الحقيقية ، والاتصالات الروحانية ، هي المؤثرة فحسب . والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت ، ولا تكون إلا في الدنيا ، بالتمثيلين المذكورين . وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح ، والاعتقاد الحق ، كإحصان مريم ، وتصديقها بكلمات ربها ، وطاعتها المعدة إياها لقبول نفخ روح الله فيها . وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بالطاعة ، ولا تحفظ الأسرار ، وتبيح المخالفة ، داخلة في نار الحرمان ، وجحيم الهجران مع المحجوبين ، ولا تغني هداية الروح عنها شيئاً من الإغناء في باب العذاب ، وأن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية ، الطالب للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت فيه قوة محبة الله لصفائه ، وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه ، لا يبقى في العذاب بمجاورتها حيناً ، وتألم بأفعالها برهة . وأن النفس المتزينة بفضيلة العفة المشار إليها بإحصان الفرج ، هي القابلة لفيض روح القدس المتنورة بنور الروح المصدقة بكلمات الرب ، من العقائد الحكمية ، والشرائع الإلهية ، المطيعة لله مطلقاً ، علماً وعملاً ، سراً وجهراً . انتهى ملخصاً .
الرابع : في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ } على صحة أنكحة الكفار . أقول : ويستدل بقوله تعالى { اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ } إلى قوله :
{ فَخَانَتَاهُمَا } على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية ، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع ، وهو جليّ . ويستدل بذلك أيضاً على أن نكاح المشركات كان جائزاً في شرع من قبلنا ، وقد حظره الإسلام أشد الحظر ، كما مرّ في آيات عديدة .
الخامس : قال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون : { رَبِّ ابْنِ لِيعِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ } قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار ، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع .
السادس : قال الزمخشريّ : في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله ، والالتجاء إليه ، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين ، وسنن الأنبياء والمرسلين { فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 118 ] .
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ يونس : 85 - 86 ] .

(/)


سورة الملك
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 1 ]
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال ابن جرير : أي : تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة ، وسلطانهما ، نافذ فيهما أمره وقضاؤه ، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع ، ولا يحول بينه وبينه عجز .
وقال القاشانيّ : الملك عالَم الأجسام ، كما أن الملكوت عالم النفوس ؛ ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك ، بحسب مشيئته بالتبارك ، الذي هو غاية العظمة ، ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة ، وباعتبار تسخيره عالم الملكوت ، بمقتضى إرادته بالتسبيح ، الذي هو التنزيه ، كقوله { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ يس : 83 ] ، كلاً بما يناسبه ، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام ، والتنزه يناسب المجردات عن المادة . فمعنى { تَبَارَكَ } تعالى وتعاظم ، الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته ، لا يتصرف فيه غيره فبيده كل ما وجد من الأجسام ، لا بيد غيره ، يصرفها كما يشاء ، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات ، يوجدها على ما يشاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [ 2 ]
{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : قدر الموت والحياة فأمات من شاء وما شاء ، وأحيى من أراد وما أراد ، إلى أجل معلوم . أو أوجد الحياة ، وأزالها حسبما قدّره .
قال القاشانيّ : الموت والحياة من باب العدم والملكة ، فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية ولو اضطرارية كالتنفس . والموت عدم ذلك عما من شأنه أن يكون له ، وعدم الملكة ليس عدماً محضاً ، بل فيه شائبة الوجود . والألم يعتبر فيه المحل القابل للأمر الوجوديّ ، فلذلك صح تعلق الخلق به ، كتعلقه بالحياة ، وجعل الغرض من خلقهما بلاء الْإِنْسَاْن في حسن العمل وقبحه ، أي : العلم التابع للمعلوم الذي يترتب عليه الجزاء ، وهو العلم الذي يظهر على المظاهر الْإِنْسَاْنية بعد وقوع المعلوم ، فإنه ليس إلا علم الله الكامن في الغيب ، الظاهر بظهور المعلوم ؛ لأن الحياة هي التي يتمكن بها على الأعمال ، والموت هو الداعي إلى حسن العمل الباعث عليه ، وبه يظهر آثار الأعمال ، كما أن الحياة يظهر بها أصولها ، وبها تتفاضل النفوس في الدرجات ، وتتفاوت في الهلاك والنجاة . وقدم الموت على الحياة ؛ لأن الموت في علم الملك ذاتيّ ، والحياة عرضية . وقيل : إن أريد به العدم السابق فتقدمه ظاهر ، لسبقه على الوجود ، أو العدم اللاحق فتقديمه لأن فيه عظة وتذكرة ، وردعاً عن ارتكاب المعاصي .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الغالب الذي يقهر من أساء العمل { الْغَفُورُ } أي : لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } [ 3 ]
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } قال ابن جرير : طبقاً فوق طبق ، بعضها فوق بعض .
وقال المهايميّ : أي : يوافق بعضها بعضاً بلا تضاد ، ليتم أمر الحكمة في الكوائن والفواسد .
وقال بعض علماء الفلك : اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الْإِنْسَاْن ، فإنه من السموّ ، وهو العلو ، فسقف البيت سماء . ومنه قوله تعالى { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ } [ الحج : 15 ] أي : فليمدد بحبل إلى سقف بيته ، وهذا الفضاء اللانهائي سماء ، ومنه قوله تعالى :
{ كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء } [ إبراهيم : 24 ] . والسحاب سماء ، ومنه قوله تعالى { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } ، [ البقرة : 22 ] ، والكواكب سماوات ؛ فالسماوات السبع المذكورة كثيراً في القرآن الشريف ، هي هذه السيارات السبع ، وهي طباق ، أي : أن بعضها فوق بعض ، لأن فلك كل منها فوق فلك غيره .
{ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } أي : تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكم ، بل راعاها في كل خلقه .
{ فَارْجِعِ الْبَصَرَ } أي : إن شككت فكرِّر النظر { هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } أي : خلل . وأصل الفطور الصدوع والشقوق ، أريد به لازمه ، كذا قالوه ، والصحيح أنه على حقيقته أي : هل ترى من انشقاق وانقطاع بين السماوات ، بحيث تذهب باتصالات الكواكب فتفرقها ، وتقطع علاقاتها وأحبال تجاذبها ؟ كلا ! بل هي متجاذبة ، مرتبط بعضها ببعض من كل جهة ، كما تقدم في سورة ( ق ) في آية :
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 6 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ 4 ]
{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ } أي : كرره { كَرَّتَيْنِ } أي : رجعتين أخريين ، ابتغاء الخلل والفساد والعبث . والمراد بالتثنية التكرير .
{ يَنقَلِبُ } أي : يرجع { إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً } أي : مطروداً عن إصابة المطلوب .
{ وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مَعْيي كالّ .
تنبيهات :
الأول : ذهب الزمخشري إلى أن قوله تعالى { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } صفة ثانية لقوله :
{ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وضع فيها { خَلْقِ الرَّحْمَنِ } موضع الضمير للتعظيم ، والأصل : فيهن ، وتابعة القاضي والقاشانيّ ، وعبارته :
نهاية كمال عالم الملك ، لأنها السماوات ، لا ترى أحكم خلقاً ، وأحسن نظاماً وطباقاً منها . وأضاف خلقها إلى الرحمن ، لأنها من أصول النعم الظاهرة, ومبادئ سائر النعم الدنيوية ، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضاً ، وحسن انتظامها وتناسبها . وإنما قال { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } لأن تكرار النظر ، وتجوال الفكر ، مما يفيد تحقق الحقائق وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق ، لا يفيد إلا الخسوء والحسور ، تحقق الامتناع ، وما أتعب من طلب وجود الممتنع . انتهى .
ولو جعل قوله تعالى :
{ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } مستأنفاً ، مقرراً بعمومه لتناسب خلقه وإتقانه ، وتناهي حسنه ، فيشمل ما قبله - لكان أولى من تخصيصه بوصفية ما قبله ، ويكون كآية :
{ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] ، وآية :
{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] ، وتلطف بعضهم فقال : في الآية إشارة إلى قياس تقديره : ما ترى فيها من تفاوت لأنها من خلقه تعالى . وما ترى في خلقه من تفاوت .
الثاني : للإمام ابن حزم رحمه الله كلام في هذه الآية في كتاب " الفِصَل " ساقه في مباحثه مع المعتزلة ، نأثره هنا لنفاثته ، قال رحمه الله :
التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس ، أو خرج عن المعهود ، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتاً ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه ، فإذن ليس هو الذي يسميه الناس : تفاوتاً ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ؛ لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت ، لكذب قول الله تعالى : { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } ولا يكذِّب الله تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت ، لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل ، مرئي فيه ، مشاهد بالعيان فيه ، فبطل احتجاجهم .
فإن قال قائل : فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه ؟
قيل لهم : هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلاً ، بل هو معدوم جملة ، إذ لو كان شيئاً موجوداً في العالم ، لوجد التفاوت في خلق الله تعالى . والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يُرى في خلقه .
ثم نقول ، وبالله تعالى التوفيق : إن العالم كله ما دون الله تعالى ، وهو كله مخلوق لله تعالى ، أجسامه وأعراضه كلها ، لا نحاشي شيئاً منها . ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه ، وأنواع أجسامه ، جرت القسمة جرياً مستوياً في تفضيل أجناسه وأنواعه ، بحدودها المميزة لها ، وفصولها المفرقة بينها ، على رتبة واحدة, وهيئة واحدة ، على أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع ، لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ، ولا تخالف في شيء منه أصلاً ، ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا واقعتان معاً تحت نوع الشكل والتخطيط ، ثم تحت نوع الكيفية ، ثم تحت اسم العرض ، وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ، ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم .
وكذلك أيضاً نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ، ثم تحت فعل النفس ، ثم تحت الكيفية والعرَض ، وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ، ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم ، وكذلك أيضاً نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ، ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية ، وتحت اسم العرض ، وقوعاً حقاً مستوياً لا تفاوت فيه ولااختلاف .
وهكذا القول في الظلم والإنصاف ، وفي العدل والجور ، وفي الصدق والكذب ، وفي الزنا والوطء الحلال . وكذلك كل ما في العالم ، حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرؤوس الأوَل التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى ، وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة ؛ فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ؛ ضرورة لا منفك لهم عنها ، وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتاً كما زعموا ، لكان التفاوت موجوداً في خلق الرحمن ، وقد كذَّب الله تعالى ذلك ، وهي أن يرى في خلقه تفاوت . انتهى كلامه .
الثالث : قال الناصر : في قوله تعالى : { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً } وضع للظاهر موضع المضمر . وفيه من الفائدة التنبيه على أن الذي يرجع خاسأ حسيراً غير مدرك الفطور ، وهو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن ، فإذا لم يدرك شيء ، دل على أنه لا شيء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [ 5 ]
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } قال ابن جرير : وهي النجوم . وجعلها { مَصَابِيحَ } لإضاءتها . وكذلك الصبح إنما قيل له : صبح ؛ للضوء الذي يضيء للناس من النهار .
{ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } قال ابن كثير : عاد الضمير في قوله تعالى { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح ، لا على عينها ؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها ، والله أعلم .
وقال القاضي : أي : وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المسببة عنها . وقيل : معناه وجعلناها رجوماً وظنوناً لشياطين الإنس ، وهم المنجمون .
قال الشهاب : مرّضه لأنه خلاف الظاهر المأثور . و الرجم يكون بمعنى الظن ، مجازاً معروفاً . والآية بمعنى آية الصافات : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 6 - 10 ] . { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } أي : في الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ 6 - 11 ]
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : المرجع ذلك العذاب المحرق .
قال الناصر : هذا من الاستطراد ؛ لما ذكر وعيد الشياطين استطرد ذلك وعيد الكافرين عموماً .
{ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً } أي : لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ، الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسيّ ، أو لأنفسهم ، فإنهم يَصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة الصوت ، كقوله { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ هود : 106 ] ، أولها نفسها ، تشبيهاً لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق ، وهو الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة ، كصوت الحمار .
{ وَهِيَ تَفُورُ } أي : تغلي بهم وتعلو .
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } أي : تتفرق أجزاؤها من الغيظ على الذين أغضبوا الله ورسوله ، شبهت في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره ، مبالغ في إيصال الضرر إليه ، فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية ، وهي الغضب الباعث على ذلك . واستعير لتلك الحالة المتوهمة الغيظ كما في" شرح المفتاح الشريفي" ، وأما ثبوت الغيظ الحقيقي لها ، بخلق الله فيها إدراكاً فبحث آخر ، لكنه قد قيل هنا : إنه لا حاجة إلى ادعاء التجوز فيه ، لأن { تَكَادُ } تأباه ، كما في قوله :
{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } [ النور : 35 ] ، وقد صرح به علماء المعاني في بحث المبالغة والغلوّ . وجوز أن يراد غيظ الزبانية ؛ فالإسناد مجازيّ ، أو على تقدير مضاف ، كما في " العناية " .
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } أي : جماعة من الكفرة { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } أي : في الدنيا ينذركم هذا العذاب .
قال في " الإكليل " : استدل به على أنه لا تكليف قبل البعثة .
{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } أي : فكذبنا الرسل ، وأفرطنا في التكذيب ، حتى نفينا الإنزال والإرسال رأساً ، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال .
{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ } أي : من النذر ما جاءت به ، سماع طالب الحق ، وعقل من نبذ الهوى { مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي : في عداد أهل النار .
تنبيهان :
الأول : قال الناصر : لو تفطن نبيهٌ لهذه الآية لعدّها دليلاً على تفضيل السمع على البصر ، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها .
الثاني : قال ابن السمعانيّ في " القواطع " : استدل به من قال بتحكيم العقل .
وقال الزمخشريّ : قيل : إنما جمع بين السمع والعقل ، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل .
{ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي : فأقروا بجحدهم الحق وتكذيبهم الرسل ، فبعداً لهم ، اعترفوا أو أنكروا ، فإن ذلك لا ينفعهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ 12 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ } أي : يخافونه أو يخافون عذابه ، وهم لم يروه { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 13 ]
{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بضمائرها ، فكيف بما نطق به ؟ والمعنى : فاتقوه واخشوه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ 14 ]
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } أي : ألا يعلم السر والجهر من خلق الأشياء ، والخلق يستلزم العلم كما قال :
{ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } أي : اللطيف بعباده ، الخبير بأعمالهم . وقيل : معنى الآية : ألا يعلم الله من خلقه ، وهو بهذه المثابة ، فـ { مَنْ } مفعول ، والعائد مقدر .
قال الغزاليّ : إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما لطفَ منها ، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق دون العنف . و { الْخَبِيرُ } هو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة ، فلا تتحرك في الملك والملكوت ذرة ، ولا تسكن أو تضطرب نفس ، إلا وعنده خبرها . وهو بمعنى العليم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [ 15 ]
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً } أي : ليِّنة سهلة المسالك .
{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي : في نواحيها وجوانبها على التشبيه .
قال ابن جرير : لأن نواحيها نظير مناكب الْإِنْسَاْن التي هي من أطرافه .
{ وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ } أي : التمسوا من نعمه تعالى .
قال الشهاب : فالأكل والرزق ، أريد به طلب النعم مطلقاً ، وتحصيلها أكلاً وغيره ، فهو اقتصار على الأهم الأعم ، على طريق المجاز أو الحقيقة .
قال : وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا وما فيها ، لم تجد شيئاً منها على المرء غير ما أكله ، وما سواه متمم له ، أو دافع للضرر عنه .
{ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي : نشوركم من قبوركم للجزاء .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في قوله تعالى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ } الأمر بالتسبب والكسب .
وقال ابن كثير : في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض ، وتذليله إياها لهم ، بأن جعلها ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال ، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيَّأ فيها من المنافع ، ومواضع الزرع والثمار . والمعنى : سافِروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ 16 - 17 ].
{ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } خطاب للكافرين ، أي : أأمنتم العليّ الأعلى أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم إلى أسفل سافلين .
{ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي : تضطرب وتهتز هزّاً شديداً بكم ، وترتفع فوقكم ، وتنقلب عليكم .
{ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } وهو التراب ، فيه الحصباء الصغار ، { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } قال ابن جرير : أي : عاقبة نذيري لكم ، إذا كذبتم به ، ورددتموه على رسولي .
وقد بينّ تعالى نذيره لهم في غير ما آية ، وهو زهوق باطِلهم إذا أصروا ، ونصر رسوله ، وغلبة جنده ، كما قال تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ ص : 88 ] .
قال الشهاب : النذير مصدر ، والياء محذوفة ، والقرّاء مختلفون فيها : فمنهم من حذفها وصلاً ، وأثبتها وقفاً ، ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة ، وكذلك الحال في { نَكِيرِ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } [ 18 - 19 ]
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : مع كونهم أشد منهم عَدَداَ وعُدَداَ { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : نكيري تكذيبهم ، وذلك بإنزال العذاب بهم ودحرِ باطلهم .
قال القاضي : هو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتهديد لقومه المشركين .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } أي : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ، { وَيَقْبِضْنَ } أي : ويضممنها إذا ضربن بها جيوبهن ، وقت للاستظهار ، ولتجدده عبّر عنه بالفعل إشارة إلى أنه أمر طارئ على الصف ، يفعل في بعض الأحيان للتقوي بالتحريك ، كما يفعله السابح في الماء يقيمم بدنه أحياناً بخلاف البسط والصف ، فإنه الأصل الثابت في حالة الطيران ، ولذا اختير له الاسم .
{ وما يمسكهن } أي : في الجو { إِلَّا الرَّحْمَنُ } أي : المقيض لكلّ ما قُدّر له ، حسب استعداده بسعة رحمته ، ومنه ما دبر للطيور من بنية يتأتى منها الجري في الجوّ .
{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } قال القاشانيّ : أي : فيعطيه ما يليق به ، ويسوِّيه بحسب مشيئته ، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته ، ثم يهديه إليه بتوفيقه .
ثم بكّت تعالى المشركين بنفي أن يكون لهم ناصر غيره سبحانه ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ } [ 20 ]
{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } أي : معشر المشركين { يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ } أي : إن أراد بكم سوءاً ، فيدفع عنكم بأسه .
{ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ } أي : من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضرّ ، أو أنها تقرّبهم إلى الله زلفى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } [ 21 ]
{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } يعني المطر ونحوها { بَل لَّجُّوا } أي : تمادوا { فِي عُتُوٍّ } أي : عناد وطغيان { وَنُفُورٍ } أي : شراد عن الحق واستكبار مع وضوح براهينه ، فأصروا على اعتقاد أنهم يُحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم ، وأنهم الجند الناصر الرازق ، مكابرة وعناداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 22 ]
. { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تمثيل للضالين والمهتدين . والمكب : هو المتعثر الذي يخرّ على وجهه لوعورة طريقه ، واختلاف سطحه ارتفاعاً وانخفاضاً . والذي يمشي سويّاً هو القائم السالم من العثار لاستواء طريقه ، واستقامة سطحه .
قال القاضي : والمراد تمثيل المشرك والموحِّد بالسالكين ، والدينين بالمسلكين . ولعل الاكتفاء بما في الكَبّ من الدلالة على حال المسلك ، للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقاً ، أي : فلذلك ذكر المسلك في الثاني دون الأول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 23 - 26 ]
{ قُلْ هُوَ } أي : المستحق للعبادة وحده ، وسلوك صراطه { الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } أي : العقول والإدراكات { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي : باستعمالها فيما خلقت له .
{ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : خلقكم فيها لتعبدوه وتقوموا بالقسط الذي أمر به { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : للجزاء .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } أي : الحشر أو الفتح على رسوله وظهور دينه { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في الإنذار به ، والترهيب منه .
{ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : بيّن الحجَّة على ما أنذركم به من زهوق باطلكم إذا جاء أجله . وأما تعيين وقته فليس إليّ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } [ 27 ]
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ } أي : ما وعدوا به من العذاب ، وزهوق باطلهم { زُلْفَةً } أي : قريباً ، أو ذا زلفة ، أي : قرب { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن { وَقِيلَ } أي : لهم تبكيتاً { هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } أي : تطلبون وتستعجلون به من الدعاء ، أو تدّعون أن لا بعث ، من الدعوى

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 28 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } كان كفار مكة يَتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم رَيبَ المنون ؛ تخلصاً من دعوته وانتشارها ، فأمر أن يقول لهم ذلك . أي : أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين ، أو رحمنا بتأجيل آجالنا وانتصارنا ، فمن يجيركم من عذاب أليم قضى الله وقوعه بكم لكفركم ؟ .
قال ابن كثير : أي : خلصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة ، والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال ، فسواء عذَّبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم . والمعني بالعذاب : إما الدنيوي وهو خزيهم بالانتصار عليهم ، ودحور ضلالهم ، أو الأخروي ، وهو أشد وأبقى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 29 ]
{ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا في أمورنا لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم .
{ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي : في ذهاب عن الحق وانحراف عن طريقه منا ومنكم ، إذا جاء نصر الله والفتح في الدنيا ، ونشأته الثانية في الأخرى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ } [ 30 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } أي : غائراً لا تناله الدلاء ، أو ذاهباً في الأرض { فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ } أي : جار ظاهر سهل التناول .
قال الرازي : المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر . أي : أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض ، فمن يأتيكم بماء معين ؟ فلا بد وأن يقولوا : هو الله ؛ فيقال لهم حينئذٍ : فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية ، وهو كقوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ } [ الواقعة : 68 ] ، أي : بل هو الذي أنزله وسلكه ينابيع ؛ رحمة بالعباد ، فله الحمد .

(/)


سورة القلم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ 1- 4 ]
{ ن } بالسكون على الوقف : اسم للحرف المعروف ، قصد به التحدي . أو اسم للسورة ، منصوب بـ : اذكر ، أو مرفوع خبراً لمحذوف { وَالْقَلَمِ } أي : الذي يخط به { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : يكتبون . و { مَا } مصدرية أو موصولة .
وقوله { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } جواب القسم ، قصد به تكذيب المشركين في إفكهم المحدث عنه بآية :
{ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] .
قال الزجاج : { أَنتَ } هو اسم { مَا } ، و { بِمَجْنُونٍ } الخبر . وقوله :
{ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } كلام وقع في البين . والمعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل ، وأنت بحمد الله فهِم . ومعناه : أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت ، والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه ؛ فالباء في { بِنِعْمَةِ } متعلقة بمعنى النفي المدلول عليه بـ { مَا } والباء في { بِمَجْنُونٍ } زائدة .
{ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً } أي : ثواباً على أذى المشركين واحتمال هذا الطعن والصبر عليه { غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير منقوص ولا مقطوع .
قال ابن جرير : من قولهم : حبل مَنين ، إذا كان ضعيفاً ، وقد ضعفت منته ، أي : قوته . أو غير ممنون به علي ، زيادة في العناية به صلى الله عليه وسلم ، والتنويه بمقامه .
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال ابن جرير : أي : أدب عظيم ، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به ، وهو الإسلام وشرائعه . قالت عائشة : < كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن > ، أي : كما هو في القرآن .
قال الرازي : وهذا كالتفسير لقوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } والدلالة القاطعة على براءته مما رمى به ، لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية ، والفصاحة التامة ، والعقل الكامل ، والبراءة من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة ، كانت ظاهرة منه . وإذا كانت ظاهرة محسوسة فوجودها ينافي حصول الجنون ؛ فكذب من أضافه إليه وضل ، بل هو الأحرى بأن يرمى بما قذف به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ 5 - 7 ]
{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } أي : أولئك الجاحدون المتفوهون بتلك العظيمة .
{ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ } أي : المجنون . والباء مزيدة . أو الفتنة والفتون ذهاباً ، إلى أن المصدر يجيء على زنة المفعول والباء أصلية بمعنى في . أي : من كوشف بأسرار العلوم وأوتي جوامع الكلم ، أم من حجب عما في نفسه من آيات الله والعبر وفتن بعبادة الصنم ؟ ! .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي : عن طريق الحق الذي أمر به ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : بمن اتبع الحق وسلك سبيله ، فسيجزي الفريقين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } [ 8- 16 ]
{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } أي : بآيات الله وما جاءهم من الحق .
قال الزمخشري : تهييج وإلهاب على معاصاتهم .
{ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } أي : ودوا لو تركن إلى آلهتهم ، وتترك ما أنت عليه من الحق ، فيمالئونك ، رواه ابن جرير عن مجاهد ، ثم قال : أي : لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم ، فيلينون لك في عبادتك إلهك ، كما قال جل ثناؤه : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } [ الإسراء : 74 - 75 ] ، وإنما هو مأخوذ من الدهن ، شبه التليين في القول بتليين الدهن .
{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ } أي : كثير الحلف . قال الزمخشري : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ، ومثله قوله تعالى :
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ } [ البقرة : 224 ] .
{ مُّهِينٌ } أي : حقير الرأي والتمييز .
{ هَمَّازٍ } أي : عيّاب طعان . قال ابن جرير : والهمز أصله الغمز . فقيل للمغتاب : هماز لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون ، وذلك غمز عليهم .
{ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } أي : نقّال لحديث الناس بعضهم في بعض ، للإفساد بينهم .
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي : بخيل بالمال ، ضنين به . والخير المال . أو صادّ عن الإسلام .
{ مُعْتَدٍ } أي : على الناس متجاوز في ظلمهم { أَثِيمٍ } كثير الآثام .
{ عْتِلُ } أي : جاف غليظ دََعيّ { بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أي : دعيّ ملصق في النسب ليس منهم ، أو مريب يعرف بالشر . قال ابن جرير : ومعنى { بَعْدَ } في هذا الموضع معنى مع .
وقال الشهاب : الإشارة لجميع ما قبله من النقائص لا للأخير فقط وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القباحة . فـ { بَعْدَ } هنا كثم الدالة على التفاوت الرتبيّ ، كما مر في قوله :
{ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } قال الزمخشري : متعلق بقوله { وَلَا تُطِعْ } يعني : ولا تطعه مع هذا المثالب ، لأن كان ذا مال ، أي : ليساره وحظه من الدنيا . ويجوز أن يتعلق بما بعده ، على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين ، كذب بآياتنا { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } أي : تقرأ عليه آيات كتابتا { قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : هذا مما كتبه الأولون ، استهزاء به ، وإنكاراً منه أن يكون ذلك من عند الله .
وقوله { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } عدةٌ منه تعالى بغاية إذلالِه ، بعد تناهي كبره وعجبه وزهوه وعتوه . تقول العرب : وسمته بميسم السوء ، يريدون أنه ألصق به من العار مالا يفارقه . قال جرير :
~لما وضعتُ عَلى الفَرَزدَقِ ميسَمي وعلى البعيث جَدَعْتُ أنفَ الأَخْطَلِ
قال الزمخشري : الوجه أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه, لتقدمه له ، ولذلك جعلوه مكان العز والحميّة ، واشتقوا منه الأنفَة ، وقالوا : الأنف في الأنف ، وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين . وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه . فعَّبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على الوجه شين وإذالة ، فكيف بها على أكرم موضع منه ؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أكرموا الوجوه > ، فوسمها في جواعرها . وقيل : لفظ الخرطوم استخفاف به واستهانة ، لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل . وقيل : سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة ، كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة بان بها عنهم . انتهى .
تنبيه :
قيل : عنى بالآية الأخنس بن شريق ، قال ابن جرير : وأصله من ثقيف ، وعداده في بني زهرة ؛ أي : لأنه التحق بهم حتى كان منهم في الجاهلية ؛ ولذا سمي زنيماً للصوقه بالقوم ، وليس منهم ، وقيل : هو الوليد بن المغيرة ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ * إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ } [ 17 -18 ]
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } أي : بلونا مشركي مكة ، فاختبرنا بهذا التنزيل الحكيم ، هل يشكرون نعمته ، فيحيوا حياة طيبة ، أو يصرون على تكذيبه ، فلا تكون عاقبتهم إلا كعاقبة أهل الجنة في امتحانهم الآتي ، ثم دمارهم .
وقيل : معناه أصبناهم ببلية ، وهي القحط والجوع ، بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } وهم قوم من أهل الكتاب ، على ما روي عن ابن عباس ، أو ناس من الحبشة في قول عكرمة ، أي : كتابيون ، فيتفق مع ما قبله ، وليس من ضرورة الاعتبار بالمثل والعظة به تعيين أهله ، لولا محبة المأثور { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي : ليقطعن ثمارها مبكرين بحيث لا يعلم مسكين بذلك { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } قال المهايميّ : أي : ولا يخرجون شيئاً من حق المساكين ، واقتصر عليه ، وحكاه الرازيّ والقاضيّ قولاً ثانياً ، والأول أن معناه : ولا يقولون : إن شاء الله ، واقتصر عليه ابن جرير والأول أظهر ، والاستثناء بمعنى الإخراج الحسي ، والجملة معطوفة على { لَيَصْرِمُنَّهَا } ومقسم عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } [ 19 - 20 ]
{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ } أي : فطرق جنة هؤلاء القوم ، طارق من أمر الله لتدميرها .
قال ابن جرير : ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلاً ، ولا يكون نهاراً . وقد يقولون : أطفت بها نهاراً . وذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده :
~أَطَفْتَ بها نَهَاراً غيرَ ليلٍ وَأَلهَى رَبَّهَا طَلَبُ الرِّخَالِ
و الرخال : أولاد الضأن للإناث .
فقوله :
{ وَهُمْ نَآئِمُونَ } أي : مستغرقون في سُباتهم ، غافلون عما يمكر بهم . تأكيد على الأول ، وتأسيس على الثاني .
{ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } أي : كالبستان الذي صرم ثمره بحيث لم يبق فيه شيء ، أو كالليل الأسود لاحتراقها . وأنشد في ذلك ابن جرير لأبي عمرو بن العلاء :
~ألا بَكَرَتْ وَعَاذِلَتِي تَلُوُم تهجّدني وما انْكَشَفَ الصَّريمُ
وقال أيضاً :
~تَطَاوَلَ لَيْلُكَ الْجَوْنُ الْبَهِيمُ فَمَا يَنْجَابُ عَنْ صُبْحٍ صَرِيمُ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ 21 - 27 ]
{ فَتَنَادَوا } أي : فنادى بعضهم بعضاً { مُّصْبِحِينَ } أي : وقت الصبح ، ولم يشعروا بما جرى عليهم بالليل { أَنِ اغْدُوا } أي : أخرجوا غدوة { عَلَى حَرْثِكُمْ } أي : زرعكم { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } أي : قاصدين قطع ثمارها ، وقد قطعها البلاء من أصلها .
{ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أي : يكتمون ذهابهم ويتسارّون فيما بينهم .
{ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ } أي : فقير ، فالجملة مفسرة . أو { أَن } مصدرية ، أي : بأن .
قال الزمخشري : والنهي عن الدخول للمسكين ، نهي لهم عن تمكينه منه . أي لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل ، كقولك : لا أَرَيَنَّك هاهنا .
{ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي : غدوا إلى جنتهم ، على نشاط وسرعة وجدّ من أمرهم ، أو على منع وغضب .
{ قَادِرِينَ } أي : في زعمهم على ما أصروا عليه من الصرام وحرمان المساكين .
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا } أي : فلما صاروا إليها ، ورأوها محترقاً حرثها .
{ قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : أنكروها وشكوا فيها : هل هي جنتهم أم لا ؛ فقال بعضهم لأصحابه : ظناً منه أنهم قد أغفلوا طريق جنتهم وأن التي رأوها غيرها : إنا أيها القوم ، لضالون طريق جنتنا ! فقال من علم أنها جنتهم ، وأنهم لم يخطئوا الطريق : بل نحن أيها القوم ، محرومون ، حرمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } [ 28 - 32 ]
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أي : أعدلهم وخيرهم رأياً { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } أي : تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، وتخشون انتقامه من المجرمين . وكان أوسطهم وعظهم حين عزموا على عزيمتهم الخبيثة ، فعصوه ، فعيّرهم .
{ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : في ترك استثناء حق المساكين ومنع المعروف عنهم من تلك الجنة . { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ } أي : يلوم بعضهم بعضاً .
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي : متجاوزين حدود الله تعالى في تفريطنا وعزمنا السيء { عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا } أي : بتوبتنا إليه ، وندمنا على خطأ فعلنا ، وعزمنا على عدم العودة إلى مثله .
{ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } أي : في العفو عما فرط منا ، والتعويض عما فاتنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ 33 ]
{ كَذَلِكَ الْعَذَابُ } أي : في الدنيا لمن خالف الرسل ، وكفر بالحق ، وبغى الفساد في الأرض .
{ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي : أعظم منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : لارتدعوا وتابوا وأنابوا ، فالجواب مقدر . قال الشهاب : لأنه ليس قيداً لما قبله ، إذ لا مدخلية لعلمهم في كون العذاب أكبر .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : قال ابن الفَرَس : استدل بهذه القصة عبد الوهاب على أن من فرّ من الزكاة قبل الحول بتبديل أو خلط ، فإن ذلك لا يسقطها ، ووجه ذلك : أنهم قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين ، فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم . وفيها كراهة الجذاذ والحصاد بالليل ، كما ورد التصريح بالنهي عنه في الحديث ، لأجل الفقراء .
هذا ، وحكى الزمخشري عن قتادة أنه سئل عن أصحاب الجنة : أهم من أصحاب الجنة أم من أهل النار ؟ فقال : لقد كلفتني تعباً .
وعن مجاهد : تابوا فأُبدلوا خيراً منها ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } [ 34 - 43 ]
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } أي : في الكرامة والمثوبة الحسنى ، والعاقبة الحميدة .
{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي : بما ينبو عنه العقل السليم ، فإنهما لا يستويان في قضيته .
{ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } أي : من الأمور لأنفسكم ، وتشتهونه لكم ، كقوله :
{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } [ فاطر : 40 ] ، وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل ، ويتمنون من الأماني الكاذبة { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي : تقضون من أمانيكم ومزاعمكم .
قال الزمخشري : يقال : لفلان عليّ يمين بكذا ، إذا ضمنته منه ، وحلفت له على الوفاء به . يعني : أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جواب القسم' ، لأن معنى { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا } أم أقسمنا لكم . فـ { بَالِغَةٌ } - كما قال الشهاب - معناه المراد منه ، متناهية في التوكيد . وأصله بالغة أقصى ما يمكن ، فحذف منه اختصاراً ، وشاع في هذا المعنى { سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ } أي : الحكم { زَعِيمٌ } أي : كفيل به ، يدعيه ويصححه { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء } أي : ناس يشاركونهم في هذا الزعم ، ويوافقونهم عليه .
{ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } أي : في دعواهم .
قال الزمخشري : يعني أن أحداً لا يسلّم لهم بهذا ، ولا يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد به عند الله ، ولا زعيم لهم يقوم به . ففيه تنبيه على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل . { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } قال ابن عباس : أي : عن أمر شديد مفظع من هول يوم القيامة . ألا تسمع العرب تقول : شالت الحرب عن ساق ؟ رواه ابن جرير .
{ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } أي : لما أحاط بهم من العذاب الهائل الحائل . { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : تغشاهم ذلة العصيان السالف لهم .
{ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } أي : لا مانع يمنعهم منه . والمراد من السجود : عبادة الله وحده ، وإسلام الوجه له ، والعمل بما أمر به من الصالحات .
تنبيه :
ما أثرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى { عَن سَاقٍ } هو المعنى الظاهر المناسب للتهويل المطرد في توصيف ذلك اليوم في أمثال هذه الآية ، وعليه اقتصر الزمخشريّ ، وعبارته :
الكشف عن الساق ، والإبداء عن الخدام ، مَثَلٌ في شدة الأمر وصعوبة الخطب .
وأصله في الروع والهزيمة ، وتشمير المخدرات عن سوقِهن في الهرب ، وإبداء خدامهن عند ذلك . قال حاتم :
~أخو الحرب إن عَضَّتْ به الحربُ عَضَّهَا وإن شَمَّرَتْ عن ساقِهَا الحربُ شَمَّرَا
وقال ابن الرقيات :
~تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدِي عن خِدَامِ العقيلة العذراءِ
وجاءت منكرة للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، منكر خارج عن المألوف كقوله : { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ } [ القمر : 6 ] ، كأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل .
وقال أبو سعيد الضرير : أي : يوم يكشف عن أصل الأمر . وساق الشيء : أصله الذي به قوامه ، كساق الشجر وساق الْإِنْسَاْن ، أي : تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها . فالساق بمعنى أصل الأمر ، وحقيقته استعارة من ساق الشجر ، وفي " الكشف " تجوّز آخر ، أو هو ترشيح له .
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في " الفِصَل " : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة < أن الله عز وجل يكشف عن ساقه ، فيخرون سجداً > ، فهذا كما قال الله عز وجل في القرآن :
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } وإنما هو إخبار عن شدة الأمر ، وهول الموقف ، كما تقول العرب : قد شمرت الحرب عن ساقها . قال جرير :
~ألا ربِّ سامي الطرفِ من آل مازنٍ إذا شمَّرَتْ عن ساقها الحربُ شَمَّرَا
والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح ، وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً ، ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به ، وقد عاب الله هذا فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [ يونس : 39 ] انتهى .
هذا وقد ذهب أبو مسلم الأصفهانيّ إلى أن الآية وعيد دنيويّ للمشركين ، لا أخرويّ . قال : إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ، لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم :
{ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه : إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى :
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى } [ الفرقان : 22 ] ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة ؛ لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها ، وإما حال الهرم والمرض والعجز . وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود ، وهم سالمون مما بهم الآن ، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم . ونظير هذه الآية قوله { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } [ الواقعة : 83 ] انتهى .
قال الرازيّ : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم ، فأما قوله : إنه لا يمكن حمله على القيامة ، بسبب أن الأمر بالسجود حاصل هاهنا ، والتكاليف زائلة يوم القيامة ، فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل ، فلم قلتم إن ذلك غير جائز ؟ ثم تأثر تعالى تخويفهم بعظمة يوم القيامة ، بترهيبهم بما عنده وفي قدرته ، من القهر ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } [ 44 ]
{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } أي : كِله إليّ فإني أكفيكه ، وهذا من بليغ الكناية ، كأنه يقول : حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إليّ ، وتخلّي بيني وبينه ، فإني عالم بما يجب أن يفعل به ، قادر على ذلك .
{ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : سنكيدهم بالإمهال وإدامة الصحة ، وزيادة النعم ، من حيث لا يعلمون أنه استدراج ، وسبب لهلاكهم ، يقال : استدرجه إلى كذا ، أي : استنزله إليه درجة فدرجة ، حتى يورطه فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ 45 ]
{ وَأُمْلِي لَهُمْ } أي : أمهلهم وأُنْسئُ في آجالهم ملاوةً من الزمان ، لتكمل حجة الله عليهم .
{ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : كيدي بأهل الكفر شديد قويّ .
قال الزمخشريّ : الصحة والرزق والمدّ في العمر ، إحسان من الله وإفضال ، يوجب عليهم الشكر والطاعة ، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم ، فلما تدرجوا به إلى الهلاك ، وصف النعم بالاستدراج . وقيل : كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه . وسمى إحسانه وتمكينه كيداً ، كما سماه استدراجاً ، لكونه في صورة الكيد ، حيث كان سبباً للتورط في الهلكة . ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } [ 46 - 47 ]
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } أي : على ما أتيتهم به من النصيحة ، ودعوتهم إليه من الحق .
{ فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي : من عزة ذلك الأجر مثقلون ، أي : أثقلهم الأداء ، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك ، وتجنبوا الدخول فيما دعوتهم إليه . والمعنى : لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً فيثقل عليهم حمله حتى يثبطهم عن الإيمان . { أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي : منه ما يحكمون به ، فيجادلونك بما فيه ، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به ، وأنهم مستغنون عن وحيه وتنزيله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ 48 - 50 ]
{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } وهو إمهالهم ، وتأخير ظهورك عليهم ، أي : لا يثنينك عن تبليغ ما أمرت به أذاهم وتكذيبهم ، بل امض صابراً عليه { وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } يعني : يونس عليه السلام { إِذْ نَادَى } أي : دعا ربه في بطن الحوت { وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي : مملوء غيظاً وغمّاً . والمعنى : لا يوجدْ منك ما وجد منه من الضجر والونَى عن التبليغ ، فتبتلى ببلائه . { لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } وهو قبول توبته ورحمته ، تضرعه وابتهاله { لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ } قال الزمخشريّ : يعني أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ بالعراء ، ولولا توبته لكانت حاله على الذم . والعراء : الفضاء من الأرض .
{ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي : برحمته . قال القاشاني : لمكان سلامة فطرته ، وبقاء نور استعداده ، وعدم رسوخ الهيئة الغضبية ، والتوبة عن فرطات النفس ، فقربه تعالى إليه { فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : لمقام النبوة والرسالة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ 51 - 52 ]
{ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال الزمخشريّ : يعني أنهم من شدة تحديقهم ، ونظرهم إليك شزراً ، بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلون قدمك ، أو يهلكونك ، من قولهم : نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، أي : لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل ، لفعله . قال :
~يتقارضون إذا التقوا في موطن نظراً يُزِلّ مواطئ الأقدام
وأنشد ابن عباس - وقد مرّ بأقوام حددوا النظر إليه -
:
~نظروا إليّ بأعين محمرةٍ نظر التيوس إلى شِفَارِ الجازر
وبيّن تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلىالله عليه وسلم للقرآن ، وهو قوله : { لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } أي : القرآن ، معاداة لحكمته . { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أي : من الهذيان الذي يهذي به في جنونه ، لعدم تمالك أنفسهم من الحسد منه ، والتنفير عنه .
{ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي : عظة وحكمة وتذكير وتنبيه لهم ، على ما في عقولهم وفطرهم من التوحيد . فكيف يجنّن من جاء بمثله ؟ وبالله التوفيق .

(/)


سورة الحاقة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } [ 1 - 3 ]
{ الْحَاقَّةُ } أي : الساعة الحاقة التي تحقُّ فيها الأمور ، ويجب فيها الجزاء على الأعمال . من قولهم : حق عليه الشيء ، إذا وجب .
وقوله : { مَا الْحَاقَّةُ } من وضع الظاهر موضع المضمر ، تفخيماً لشأنها ، وتعظيماً لهولها { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } قال بعضهم : من عوائد العرب في محاوراتهم اللطيفة ، إذا أرادوا تشويق المخاطب في معرفة شيء ودرايته ، أَتَوْا بإجمال وتفصيل ، أي : أي : شيء أعلم المخاطب ما هي ؟ تأكيداً لتفخيم شأنها ، حتى كأنها خرجت من دائرة علم المخاطب على معنى : أن عظم شأنها ، وما اشتملت عليه ، من الأوصاف ، مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين ، ولا أدركه وهمه ، وكيفما قدر حالها ، فهي وراء ذلك وأعظم . ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن لازمه ، من أنها لا تعلم ، ولا يصل إليها دراية دارٍ ، ولا تبلغها الأفكار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } [ 4 - 8 ]
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ } أي : بالساعة التي تقرع الناس بأهوالها وهجومها عليهم .
قال الزمخشريّ : ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة ، زيادة في وصف شدتها . ولماّ ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك من كذب بها ، وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة ، وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم . { فَأَمَّا ثَمُودُ } وهم قوم صالح عليه السلام { فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } أي : بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة ، أو بطغيانهم ، و الطاغية مصدر كالعافية . { وَأَمَّا عَادٌ } وهم قوم هود عليه السلام { فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } أي : شديدة العصوف والبرد { عَاتِيَةٍ } أي : متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة . { سَخَّرَهَا } أي : سلطها { عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } أي : متتابعات من حسمت الدابة ، إذا تابعت بين كيّها . شبه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكيّ القاطع للداء . أو معناه : نحسات ، حسمت كل خير واستأصلته ، أو قاطعات ، قطعت دابرهم . هذا على أن { حُسُوماً } جمع حاسم ، كشهود وقعود . فإن كان مصدراً فنصبه بمضمر ، أي : تحسم حسوماً ، أو بأنه مفعول له ، أي : سخرها عليهم للحسوم ، أي : الاستئصال ، وقد قيل : إن تلك الأيام هي أيام العجز . والعامة تقول : العجوز وهي التي تكون في عجز الشتاء ، أي : آخره .
{ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى } أي : هلكى ، جمع صريع { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } أي : ساقطة مجتثة من أصولها كآية :
{ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] , { فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } أي : بقاء ، أو نفس باقية ، أو بقية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ 9 - 12 ]
{ وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } أي : من الأمم المكذبة ، كقوم نوح وعاد وثمود { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } وهي قرى قوم لوط { بِالْخَاطِئَةِ } أي : بالخطأ ، أو الأفعال الخاطئة ، على المجاز في النسبة . { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } أي : زائدة في الشدة .
{ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء } أي : كثر وتجاوز حده المعروف ، بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي ، وتكذيبه ، عليه السلام { حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } أي : السفينة التي تجري في الماء .
قال ابن جرير : خاطب الذين نزل فيهم القرآن ، وإنما حمل أجدادهم نوحاً وولده ، لأن الذين خوطبوا بذلك ، ولد الذين حُملوا في الجارية ، فكان حملُ الذين حملوا فيها من الأجداد ، حملاً لذريتهم, { لِنَجْعَلَهَا } أي : تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين ، وإغراق الكافرين { لَكُمْ تَذْكِرَةً } أي : آية وعبرة تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله ، وتدمير أعدائه .
{ وَتَعِيَهَا } أي : تحفظها { أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي : حافظة لما سمعت عن الله ، متفكرة فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ 13 - 17 ]
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } أي : لخراب العالم .
قال أبو السعود : هذا شروع في بيان نفس الحاقة ، وكيفية وقوعها ، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها .
{ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } أي : رفعتا وضربتا ببعضهما من شدة الزلازل . وفي توصيفها بالوحدة تعظيم لها ، وإشعار بأن المؤثر لدكّ الأرض والجبال وخراب العالم ، هي وحدها ، غير محتاجة إلى أخرى . { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } أي : نزلت النازلة ، وهي القيامة .
{ وَانشَقَّتِ السَّمَاء } أي : انصدعت { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } متمزقة { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } أي : جوانبها وأطرافها حين تشقق .
{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ } أي : فوق الملائكة الذين هم على أرجائها { يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أي : من الملائكة أو من صفوفها .
قال ابن كثير : يحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم ، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة ، لفصل القضاء ، والله أعلم ، انتهى .
ومثله من الغيوب التي يؤمن بها ، ولا يجب اكتناهها . وتقدم في سورة الأعراف ، في تفسير آية : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] كلام لبعض علماء الفلك على هذه الآية ، فتذكره . وذهب بعض منهم إلى أن المراد بالعرش ملكه تعالى للسماوات والأرض ، وب : الثمانية السماوات السبع والأرض . وعبارته :
{ وَيَحْمِلُ } بالجذب { عَرْشَ رَبِّكَ } أي : ملك ربك للأرض والسماوات { فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي : فوق الملائكة الذين هم على أرجائها يوم القيامة ، { ثَمَانِيَةَ } أي : السماوات السبع والأرض .
قال : وهذا يدل على أن السبع ليس للكثرة ، بل المراد به الحقيقة . فهم ثمانية يحملون العرش ، أي : ملك الأرض والسماوات السبع بالجذب ، كما هو حاصل اليوم ، ولكن ذلك يكون بشكل عظيم جداً .
ثم قال : ولا وجه لمعترض يقول : إن حملة العرش مسبحة ، لقوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [ غافر : 7 ] ، فكيف تسبح السماوات والأرض ؟ لأنه يجاب بقوله تعالى :
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } [ الإسراء : 44 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ 18 - 24 ]
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } أي : على ربكم للحساب والمجازاة { لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } أي : سريرة كانت تخفى في الدنيا بستر الله .
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } أي : علامة لفوزه { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ } أي : تعالوا ، أو خذوا . والهاء للسكت ، لا ضمير غيبة .
قال الشهاب : فحقها أن تحذف وصلاً ، وتثبت وقفاً لتصان حركة الموقوف عليه ، فإذا وصل استغنى عنها . ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف ، أو لأنه وصل بنيّة الوقف . وإثباتها وصلاً قراءة صحيحة ، ولايلتفت لقول بعض النحاة : إنها لحن . { إِنِّي ظَنَنتُ } أي : علمت { أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ } أي : جزائي يوم القيامة ، أي : فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح .
{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي : ذات رضا ، ملتبسة به ، فيكون بمعنى مرضية ، أو الأصل : راض صاحبها ، فأسند الرضا إليها ، لجعلها ، لخلوصها عن الشوائب ، كأنها نفسها راضية مجازاً ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييليية ، كما فصل في " المطول" .
{ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } جمع قطف بكسر القاف ، وهو ما يقطف من ثمرها { دَانِيَةٌ } أي : قريبة سهلة التناول .
{ كُلُواْ } أي : يقال لهم : كلوا { وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } أي : الماضية في الحياة الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ } [ 25 - 37 ]
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ } أي : عندما يلاقي العذاب { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ } أي : أي : شيء حسابي .
{ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ } قال ابن جرير : أي : يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها ، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث . و القضاء هو الفراغ . وقيل : إنه تمنى الموت الذي يقضي عليه ، فتخرج منه نفسه .
{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ } أي : ما دفع من عذاب الله شيئاً .
{ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ } أي : ملكي وتسلطي على الناس . أو حجتي ، فلا حجة لي أحتج بها .
{ خُذُوهُ } أي : يقال لخزنة النار : خذوه بالقهر والشدة { فَغُلُّوهُ } أي : ضموا يده إلى عنقه ؛ إذ لم يشكر ما ملكته .
{ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي : أدخلوه ليصلى فيها ؛ لأنه لم يشكر شيئاً من النعم ، فأذيقوه شدائد النقم .
{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ } أي : حلقة منتظمة بأخرى ، وهي بثالثة ، وهلم جرّاً .
{ ذَرْعُهَا } أي : مقدارها { سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } فأدخلوه فيها . أي : لفُّوه بها ، بحيث يكون فيما بين حلقها مرهقاً ، لا يقدر على حركة . قال القاشانيّ : والسبعون في العرف عبارة عن الكثرة غير المحصورة ، لا العدد المعين .
ثم علل استحقاقه ذلك ، على طريقة الاستئناف ، بقوله :
{ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ } أي : المستحق للعظمة وحده ، بل كان يشرك معه الجماد المهيمن .
{ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } أي : إطعامه ، فضلاً عن بذله ، لتناهي شحِّه .
{ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ } أي : قريب تأخذه الحمية له .
{ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ } أي : من غسالة أهل النار وصديدهم .
قال ابن جرير : كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهوغسلين - فعلين - من الغسل من الجراح والدَّبَر ، وزيد فيه الياء والنون بمنزلة عفرين .
{ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ } أي : الآثمون أصحاب الخطايا ، يقال : خطئ الرجل ، إذا تعمد الخطأ . قال الرازيّ : الطعام ما هُيِّءَ الصديد ليأكله أهل النار طعاماً لهم . ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم مقام الطعام ، فسمي طعاماً . كما قال :
~تَحيَّةُ بَيْنِهِمْ ضرب وجيعُ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 38 - 43 ]
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ } أي : بالمشاهدات والمغيَّبات . وهذا القسم - كما قال الرازيّ - يعم جميع الأشياء على الشمول ، لأنها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير مبصر ، فشمل الخالق والخلق ، والدنيا والآخرة ، والعالم العلويّ والسفليّ ، وهكذا . وتقدم في الواقعة الكلام على كلمة لا أقسم ، فتذكر .
{ إِنَّهُ } أي : القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، يبلغه عن الله تعالى ، لأن الرسول لا يبلغ عن نفسه .
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } أي : كما تزعمون ، فإن بين أسلوبه وحقائقه ، وبين وزن الشعلة وخيالاته ، بعد المشرقين .
{ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ } تصدقون بما ظهر صدقه وبرهانه ، عناداً وعتواً . والقلة كناية عن النفي والعدم . ونصب { قَلِيلاً } على أنه نعت لمصدر ، أو زمان مقدر ، أي : إيماناً وزماناً . والناصب { تُؤْمِنُونَ } أو { تَذَكَّرُونَ } و { مَا } زائدة ، هذا ما قاله ابن عادل ، وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون نافية ومصدرية .
{ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ } أي : كما تدعون أخرى بأنه من سجع الكهان { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون وتعتبرون . قيل : نفى الإيمان في الأول ، والذكرى في الثاني ؛ لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن ، لا ينكره إلا معاند . فلا عذر لقائله في ترك الإيمان ، وهو أكفر من حمار . وأما مباينته للكهانة ، فيتوقف على تذكر ما ؛ لأن الكاهن يأخذ جُعلاً ، ويجيب عما سئل عنه ويتكلف السجع ، ويكذب كثيراً ، وإن التبس على الحمقى لإخباره عن بعض المغيبات بكلام منثور ، فتأمل .
{ تَنزِيل } أي : هو تنزيل { مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : ممن رباهم بصنوف نعمه ، ومنها ما نزله وأوحاه ليهتدوا به إلى سبل السعادة ، ومناهج الفلاح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ 44 - 47 ]
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } أي : افترى علينا . وسمى الكذب تقولاً ؛ لأنه قول متكلف ، كما تشعر به صيغة التفعل . و { الْأَقَاوِيلِ } إما جمع قول على غير القياس ، أو جمع الجمع كالأناعيم ، جمع أقوال وأنعام . قيل : تسمية الأقوال المفتراة : أقاويل تحقيراً لها ، كأنها جمع أفعولة من القول ، كالأضاحيك .
{ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } قال ابن جرير : أي : لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة ، ثم لقطعنا منه نياط القلب ؛ وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة ، ولا يؤخّره بها . وقد قيل : إن معنى قوله : { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه . قال : وإنما ذلك كقول ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه : خذ بيده فأقمه ، وافعل به كذا وكذا ، قالوا : وكذلك معنى قوله : { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } أي : لأهنَّاه ، كالذي يفعل بالذي وصفنا حاله . انتهى .
وقال الزمخشري : المعنى لو ادّعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً ، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم ، معالجة بالسخط والانتقام . فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده ، وتضرب رقبته ؛ وخص اليمين عن اليسار ، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده ، وأن يكفحه بالسيف ، وهو أشد على المصبور ، لنظره إلى السيف ، أخذ بيمينه ، فمعنى { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } لأخذنا بيمينه ، كما أن قوله : { لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } لقطعنا وتينه ، وهذا بيّن . انتهى .
وما قرره الزمخشري أبلغ في المراد ، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة ، إذ على الأول يفوت التصوير والتفصيل والإجمال ؛ لأن قوله : { بِالْيَمِينِ } بعد { لَأَخَذْنَا مِنْهُ } بيان بعد الإبهام ، ويصير قوله : { مِنْهَ } زائداً من غير فائدة ، ويرتكب المجاز من غير فائدة أيضاً ، كما في " العناية " .
{ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي : ليس أحد منكم يحجزنا عنه ، ويحول بيننا وبين عقوبته ، لو تَقَوَّل علينا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ 48 - 52 ]
{ وَإِنَّهَ } أي : القرآن { لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } أي : عظة لمن يتقي عقاب الله بالإيمان به وحده ، وما نزل من عنده .
{ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ } أي : له ، إيثاراً للدنيا والهوى ، أي : فنجازيكم على إعراضكم .
{ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : ندامة عليهم ، إذا رأوا ثواب المؤمنين به .
{ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ } أي : للحق اليقين الذي لا ريب فيه .
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي : دُم على ذكر اسمه ، وادأب على الدعوة إليه وحده ، وإلى ما أوحاه إليك . فالعاقبة لك ، ولمن اتبعك من المؤمنين .

(/)


سورة المعارج
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* ل ِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ* م ِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } [ 1- 3 ]
{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* ل ِّلْكَافِرينَ } قال مجاهد : أي : دعا داع بعذاب يقع في الآخرة ، وهو قولهم : { اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . والسائل هو النضر بن الحارث بن كلدة - فيما رواه النسائي عن ابن عباس - وقد قيل : إن الموعود بوقوعه عذاب الدنيا . وقد قتل النضر ببدر ، ففي الآية إخبار عن مغيب وقع مصداقه .
و { لِلْكَافِرِينَ } صفة ثانية لـ عذاب ، أو صلة لـ { وَاقِعٍ } واللام للتعليل ، أو بمعنى على .
{ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } أي : رادّ يرده من جهته ، لتعلق إرادته به . وهذا كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } [ الحج : 47 ] .
وقوله تعالى { ذِي الْمَعَارِجِ } قال الرازيّ : المعارج جمع معرج ، وهو المصعد ، ومنه قوله تعالى { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] .
والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : قال ابن عباس في رواية : أي : هي السماوات ؛ وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها .
وثانيها : قال قتادة : ذي الفواضل والنعم ؛ وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب ، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة .
وثالثها : أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ 4 ]
وقوله تعالى : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال ابن جرير : أي : تصعد الملائكة والروح ، وهو جبريل ، إليه عز وجل ، في يوم كان مقدار صعودهم ذلك ، في يوم لغيرهم من الخلق : خمسين ألف سنة ؛ وذلك أنها تصعد من منتهى أسفل الأرض ، إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع .
وقيل : بل معناه تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه ، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة .
وقد قيل : إن { فِي يَوْمٍ } متعلق بـ { وَاقِعٍ } والمراد به يوم القيامة .
فعن ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة . والمقدار المذكور إما حقيقي ، أو مجاز عن الاستطالة .
قال الشهاب : وهكذا زمان كل شدة ، كما قيل :
~تمتع بأيام السرورِ فإنها قِصَارٌ وأيامُ الغُمُومِ طوَالُ
ونقل الرازي عن أبي مسلم أن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها ، من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء ، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم ، وهذا اليوم مقدَّر بخمسين ألف سنة . ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً ، لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي . انتهى . وهو بعيد ، وهذه الآية كآية : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] ، ولا منافاة في التقدير ؛ لأن المعنيّ به الاستطالة ، لشدته على الكفار ، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات . والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } [ 5 - 14 ]
{ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } أي : على ما يقولون ، ولا يضيق صدرك ، فقد قرب الانتقام منهم .
{ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ } أي : العذاب الدنيوي أو الأخروي { بَعِيداً } أي : وقوعه ، لعدم إيمانهم بوعيده تعالى .
{ وَنَرَاهُ قَرِيباً } أي : قريب الحضور .
{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ } أي : كالشيء المذاب ، أو درديّ الزيت . و { يَوْمَ } إما ظرف لـ { قَرِيباً } ، أو لمحذوف .
{ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } أي : كالصوف .
{ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } أي : قريب قريباً عن شأنه ، لشغله بشأن نفسه .
{ يُبَصَّرُونَهُمْ } أي : يعرّفون أقرباءهم ، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض . وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل ، لا احتجاب بعضهم من بعض .
{ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ } أي : يتمنى الكافر { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } أي : الذين هم محل شفقته .
{ وَصَاحِبَتِهِ } أي : التي هي أحب إليه { وَأَخِيهِ } أي : الذي يستعين به في النوائب .
{ وَفَصِيلَتِهِ } أي : عشيرته { الَّتِي تُؤْويهِ } أي : تضمه إليها عند الشدائد .
{ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } أي : الافتداء ، أو المذكور ، أو من في الأرض . عطف على { يَفْتَدِي } و { ثُمَّ } للاستبعاد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى } [ 15 - 18 ]
{ كَلَّا } أي : لا يكون ذلك { أَنْهَا } أي : النار الموعود بها المجرم { لَظَى } أي : لهب خالص .
{ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى } أي : الأطراف ، كاليد والرجل . أو جمع شواة ، وهي جلدة الرأس .
{ تَدْعُواْ } أي : على صليّها { مَنْ أَدْبَرَ } أي : عن الحق { وَتَوَلَّى } أي : عن الطاعة .
{ وَجَمَعَ } أي : المال { فَأَوْعَى } أي : جعله في وعاء وكنزه ، ومنع حق الله منه ، فلم يزكّ ، ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } [ 19 - 21 ]
{ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } أي : قليل الصبر ، شديد الحرص ، كما بينه بقوله : { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ } أي : الضرّ والبلاء { جَزُوعاً } أي : كثير الجزع من قلة صبره .
{ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ } أي : كثر ماله وناله الغنى { مَنُوعاً } أي : لِما في يده ، بخيل به ، لشدة حرصه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا الْمُصَلِّين َ *الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* ل ِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } [ 22 - 35 ]
{ إِلَّا الْمُصَلِّين َ *الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } أي : مقيمون ، لا يضيّعون منها شيئاً .
{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* ل ِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أي : المتعفّف الذي أدبرت عنه الدنيا ، فلا يسأل الناس . وقيل : الذي لا ينمي له مال . وقيل : المصاب ثمره ، أخذاً من قوله أصحاب الجنة في السورة قبلُ : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ القلم : 27 ] . واللفظ أعمّ من ذلك كله .
وقد روى ابن جرير عن ابن عمر أنه سئل عن الحق المعلوم أهو الزكاة ؟ فقال : إن عليك حقوقاً سوى ذلك .
ومثله عن ابن عباس قال : هو سوى الصدقة ، يصل بها رَحِماً ، أو يُقري بها ضيفاً ، أو يحمل بها َكلاًّ ، أو يعين بها محروماً .
وعن الشعبيّ : أن في المال حقاً سوى الزكاة .
{ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي : الجزاء .
{ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } قال ابن جرير : أي : وَجِلون أن يعذبهم في الآخرة ، فهم من خشية ذلك لا يضيّعون له فرضاً ، ولا يتعدون له حداً .
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي : أن ينال من عصاه ، وخالف أمره .
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } أي : لغلبة ملكة الصبر ، وامتلاك ناصيته .
{ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } قال ابن جرير : أي : التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته ، أو ملك يمينه . .
{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي : الذين عدوا ما أحل الله لهم ، إلى ما حرّمه عليهم .
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } قال ابن جرير : أي : لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه ، وأمانات عباده التي ائتمنوا عليها ، وعهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم ، وعهود عباده التي أعطاهم ، على ما عقده لهم على نفسه راعون ، يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيّعونه .
{ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } أي : لا يكتمون ما استشهدوا عليه ، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمهم أداؤها ، غير مغيّرة ولا مبدّلة .
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أ : ي لا يضيّعون لها ميقاتاً ولا حَدّاً . قيل : الحفظ عن الضياع ، استعير للإتمام والتكميل للأركان والهيئات ؛ ولذا قال القاضي : وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولاً وآخراً باعتبارين : للدلالة على فضلها ، وإنافتها على غيرها .
{ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } أي : بثواب الله تعالى ، لاتصافهم بمكارم الأخلاق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } [ 36 - 39 ]
{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين للحضور ، ليظفروا بما يتخذونه هزؤاً .
وعن ابن زيد : المهطع الذي لا يطرف .
{ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } أي : متفرقين حِلقاً ومجالس ، جماعة جماعة ، معرضين عنك وعن كتاب الله .
{ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } أي : ولم يتّصف بصفات أهلها المنوّه بها قبل .
{ كُلاَ } أي : لا يكون ذلك ، لأنه طمع في غير مطمع .
{ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي : من النطف . يعني : ومن قدر على ذلك فلا يعجزه إهلاكهم ، فليحذروا عاقبة البغي والفساد ؛ ولذا قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ 40 - 44 ]
{ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ } يعني مشرق كل يوم من السَّنة ومغربه ، أو مشرق كل كوكب ومغربه ، أو الأقطار التي تشرق فيها الشمس وتغرب .
{ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : بمغلوبين ، إن أردنا ذلك .
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } أي : أخذهم فيه وهلاكهم .
{ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي : يسرعون .
و النصب : الصنم المنصوب للعبادة ، أو العلَم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك ، أو ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره . فهم يسرعون إسراع عبدة الأصنام نحو صنمهم ، أو إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها ، أو إسراع الجند إلى راية الأمير .
{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أي : من الخزي والهوان .
{ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : تغشاهم ذلة من هول ما حاق بهم .
{ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } أي : بأنهم ملاقوه .

(/)


سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 1 - 4 ]
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني عذاب الطوفان .
{ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي : يعفو عنها . و { مَنِ } إما مزيدة ، أو تبعيضية . وهو ما وعدهم العقوبة عليها . وأما ما لم يعدهم العقوبة عليها ، فقد تقدم عفوه لهم عنها . أو هو ما سبق ، فإن الإسلام يجُبُّ ما قبله { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو أقصى ما قدره بشرط الإيمان . أي : فلا يعاجلكم بعذاب غرق أو نحوه .
{ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ } أي : الذي كتبه على من كذب وتولى { إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : من أهل العلم والنظر لأنبتم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا* م َّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } [ 5 - 14 ]
{ قَالُ } أي : نوح بعد أن بذل غاية الجهد ، وضاقت عليه الحيل ، في تلك المدد الطوال ، { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي } أي : إلى التوحيد والعمل الصالح { لَيْلاً وَنَهَاراً } أي : دائماً بلا فتور ولا توان
{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً } أي : من الحق الذي أرسلتني به .
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ } أي : إلى الإيمان { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي : بسببه { جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ } أي : سدوا مسامعهم من استماع الدعوة { وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } أي : تغطوا بها من كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في الدين { وَأَصَرُّوا } أي : على الشر والكفر { وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً } أي : تعاظموا عن الإذعان للحق ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة
{ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } أي : دعوتهم مرة بعد مرة ، على وجوه متنوعة ، ما بين مجاهرة وإظهار بلا خفاء ، وما بين إعلان وصياح بهم ، وما بين إسرار فيما بيني وبينهم في خفاء . وهذه المراتب أقصى ما يمكن للآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر .
{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } أي : سلوه العفو عما سلف بالتوبة النصوح { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } أي : لذنوب من تاب وأناب .
{ يُرْسِلِ السَّمَاء } أي : المطر { عَلَيْكُم مِّدْرَاراً } أي : متتابعاً .
{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي : فيكثرها عندكم { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } أي : لسقيا جناتكم ومزارعكم .
{ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } أي : لا ترون له عظمة ، إذ تشركون معه مالا يسمع ولا يبصر ، فنفي الرجاء مراد به نفي لازمه ، وهو الاعتقاد ، مبالغة . وجوّز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف ، أي : مالكم لا تخافون عظمة الله . ومنه قوله :
~إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا
قال الشهاب : وهو أظهر .
{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } أي : تارات تراباً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم أجنة ، وهكذا طوراً بعد طور . أي : ومقتضى علم ذلك شدة الرهبة من بطشه وأخذه ، لعظيم قدرته . هذا في أنفسكم . وهكذا يستدل على باهر عظمته ، وقاهر قدرته من آياته الكونية . كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ 15 - 20 ]
{ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً } أي : يزيل ظلمه الليل ، وينير وجه الأرض .
{ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً } أي : أنشأكم منها .
{ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } أي : للحساب والجزاء .
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً } أي : تستقرون عليها وتمتهدونها .
{ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أي : طرقاً مختلفة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا*) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً } [ 21 - 25 ]
{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } أي : خالفوا أمري وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد ، { وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً } أي : رؤساءهم المتبوعين ، أهل المال والجاه ، المعرضين عن الحق ، الذين غرتهم أموالهم وأولادهم ، فهلكوا بسببهما ، وخسروا سعادة الدارين .
{ وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً } أي : متناهياً كبره ، فإن الكبّار أكبر من الكبير .
{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } قال قتادة : كانت آلهة تعبدها قوم نوح ، ثم عبدتها العرب بعد ذلك .
قال : فكان ود لكلب بدومة الجندل ، وكانت سواع لهزيل ، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجرف ، وكان يعوق لهمذان ، وكان نسر لذي الكلاع من حمير .
وقال في رواية : والله ما عدا - أي : كل منها - خشبة أو طينة أو حجراً .
وقال ابن جرير : كان خبرهم - فيما بلغنا - من محمد بن قيس قال : كانوا قوماً صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ؛ فصوروهم . فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم .
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب ، بعدُ : أما ود ، فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غُطَيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمذان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكَلاع : أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ، وتَنَسَّخَ العلمُ ، عُبدت .
تنبيهات :
الأول : قال الرازيّ : في انتقالها عن قوم نوح إلى العرب إشكال ، لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان ، فكيف بقيت تلك الأصنام ، وكيف انتقلت إلى العرب . ولا يمكن أن يقال : إن نوحاً عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها ، لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها ، فكيف يمكن أن يقال : إنه وضعها في السفينة سعياً منه في حفظها ؟ انتهى كلامه .
ونحن نقول : إن جوابه بديهي ، وهو أن انتقالها إلى العرب بواسطة نقل أحوال قوم نوح وأبنائهم وعوائدهم ، على ألسنة الرحّل والسمّار ، لأن سيرة القرن المتقدم في العصر المتأخر ، وسنّة الخالف أن يؤرخ السالف . وجلي أن النفس أميل إلى الجهل منها إلى العلم ، لاسيما إذ زين له المنكر بصفة تميل إليها ، فتكون ألصق به . وهكذا كان بعد انقراض العلم وحملته ، أن حدث ما حدث من عبادتها ، كما أشارت إليه رواية ابن عباس عند البخاري : حتى إذا هلك أولئك ، وتَنَسَّخ العلم ، عبدت . وعجيب من الرازيّ أن لا يجد مخرجاً من سؤاله ، وهو على طرف الثُمَامِ .
الثاني : قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : حكى الواقدي قال : كان وُد على صورة رجل ، و سواع على صورة امرأة ، و يغوث على صورة الأسد ، و يعوق على صورة فرس ، و نسر على صورة طائر . وهذا شاذ ، والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر ، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها . انتهى .
الثالث : قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " : أول ما كاد به الشيطان عبَّاد الأصنام ، من جهة العكوف على القبور ، وتصاوير أهلها ، ليتذكروهم بها ، كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال :
{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } الآية .
ثم قال : وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة ، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم : فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم ، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ، ولهذا < لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد السرج > ، و < نهى عن الصلاة إلى القبور > ، و < سأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد > ، و < نهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً > ، وقال : < اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد > ، و < أمر بتسوية القبور ، وطمس التماثيل > ، فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله ، إما جهلاً ، وإما عناداً لأهل التوحيد ، ولم يضرهم ذلك شيئاً . . . إلى آخر ما ذكره رحمه الله .
وقوله تعالى : { وَقَدْ أَضَلُّوا } أي : الرؤساء { كَثِيراً } أي : خلقاً كثيراً ، أو الأصنام كقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] . { وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً } أي : خذلاناً واستدراجاً . وإنما دعا ذلك ليأسه من إيمانهم .
قال أبو السعود : ووضع الظاهر موضع ضميرهم ، للتسجيل عليهم بالظلم المفرط ، وتعليل الدعاء عليهم به : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } أي : من أجلها { أُغْرِقُوا } أي : بالطوفان { فَأُدْخِلُوا نَاراً } أي : أذيقوا به عذاب النار { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً }
قال الزمخشريّ : تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله ، وأنها غير قادرة على نصرهم ، وتهكم بهم ، كأنه قال فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله ، كقوله تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] .
وقال الرازيّ : لما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات ، بطل القول بالوسائط .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً } [ 26 - 28 ]
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } أي : أحداً .
قال ابن جرير : يعني بـ : الديَّار من يدور في الأرض فيذهب ويجيء فيها ، وهو فَيْعال من الدوران ، ديواراً اجتمعت الياء والواو ، فسبقت الياء الواو وهي ساكنة ، وأدغمت الواو فيها ، وصيرتا ياء مشددة . والعرب تقول : ما بها ديّار ولا عريب ولا دَوِيّ ولا صافر ولا نافخ ضَرَمة .
{ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ } عن طريق الحق .
{ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً } قال أبو السعود : أي : إلا من سيفجر ويكفر ، فوصفهم بما يصيرون إليه ، وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه ، من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن ، منكر ، وإنما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم بعد ما جربهم ، واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنة .
وقال بعضهم : ملَّ نوح عليه السلام من دعوة قومه وضجر ، واستولى عليه الغضب ، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم ، وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله ، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة ، وتتربى بهيئاتها المظلمة ، لا تقبل إلا نفساً مثلها ، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه . انتهى .
{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } قال ابن جرير : أي : ربِّ اعفُ عني ، واستر عليّ ذنوبي وعلى والديّ ، { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } قال ابن جرير : أي : لمن دخل مسجدي ومصلاي ، مصلياً مؤمناً بواجب فرضك عليه . وقيل : بيتي منزلي .
{ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً } أي : هلاكاً وخساراً .

(/)


سورة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً } [ 1 - 2 ]
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ } أي : لهذا القرآن الحكيم . والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط ، كما في " المُجمَل " .
قال القاشاني : قد مرّ أن في الوجود نفوساً أرضية قوية ، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها ، وقلة إدراكها ، ولا على هيئات النفوس الْإِنْسَاْنية واستعداداتها ، ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية ، ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلويّ ، وتتجرد متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة ، غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية ، على اختلاف أحوالها ، سماها بعض الحكماء الصور المعلقة ، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا . ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية ، أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب ، فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة ، أي : النفوس المجردة ، ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية ، تأثرت بتأثير تلك القوى ، فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها ، وإدراك مداها من العلوم ، ولا ينكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك ، أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل ، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان ، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء ، خصوصاً أكملهم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وفي الآية - كما قال القاضي - دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ، ولم يقرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها ، فأخبر الله به رسوله .
{ فَقَالُواْ } أي : لما رجعوا إلى قومهم { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } قال المهايميّ : أي : كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية ، والأحكام والمواعظ ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين .
{ عَجَباً } أي : غريباً ، لا تناسبه عبارة الخلق ، ولا يدخل تحت قدرتهم . { يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ } أي : إلى الحق وسبيل الصواب { فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً } أي : من خلقه ، في العبادة معه .
تنبيهات :
الأول : هذا المقام شبيه بقوله تعالى :
{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } [ الأحقاف : 29 ] الآية . وقد روى البخاري عن ابن عباس قال : < انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ > ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ! فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حِيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ! قال : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث ؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء ! قال : فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له ، فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا ! إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً . وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم :
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ } وإنما أوحي إليه قول الجن . ورواه مسلم أيضاً وزاد في أوله : ما قرأ رسول الله على الجن ولا رآهم ، انطلق . . . . . إلى آخره .
الثاني : قال الماوردي : ظاهر الآية أنهم آمنوا عند سماع القرآن . قال : والإيمان يقع بأحد أمرين : إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة ، فيقع له العلم بصدق الرسول ، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى ، فيها دلائل على أنه النبيّ المبشر به ، وكلا الأمرين في الجن محتمل . انتهى .
الثالث : قال الرازي : في الآية فوائد :
إحداها : أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس ، فقد بعث إلى الجن .
وثانيها : أن يعلم قريش أن الجن ، مع تمردهم ، لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه ، فآمنوا بالرسول .
وثالثها : أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس .
ورابعها : أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ، ويفهمون لغاتنا .
وخامسها : أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان .
وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس . انتهى .
ولما سمعوا القرآن ، ووفَّقوا للتوحيد والإيمان ، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه ، واتخاذه صاحبة وولداً ، فاستعظموه ، ونزَّهوه عنه ، فقالوا :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً } [ 3 ]
{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً } أي : تعالى ملكه وعظمته ، وصدق ربوبيته ، عن اتخاذ الصاحبة والولد .
قال ابن جرير : الجَدَّ بمعنى الحظ . يقال : فلان ذو جَد في هذا الأمر إذا كان له حظ فيه ، وهو الذي يقال له بالفارسية : البخت . والمعنى : أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة العظيمة عالية ، فلا تكون له صاحبة ولا ولد ، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها ، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد . فقال النفر من الجن : علا ملك ربِّنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه ، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو وقاع شيء يكون منه ولد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ 4 - 6 ]
{ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } يعنون به مضلهم ومغويهم { عَلَى اللَّهِ شَطَطاً } أي : قولاً ذا شطط . صفة لقول مقدر بتقدير مضاف . أو جعل عين الشطط مبالغة فيه . وأصله مجاوزة الحد ، والمراد منه نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى : { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : في نسبة ما ليس بحق ، إليه سبحانه . وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك ، لظنهم أن أحداً لا يكذب على الله ، حتى تبيّن لهم بالقرآن كذب السفيه وافتراؤه .
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول : أعوذ بعزيز هذا الوادي ، فزادهم ذلك إثماً . ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مَقرُّ الجن وأن رؤساءها تحميهم منهم . وهكذا قال إبراهيم : كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه ، فتقول الجن : ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً .
وقال الربيع بن أنس : كانوا يقولون : فلان من الجن ربّ هذا الوادي ، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله . قال : فيزيدهم ذلك رهقاً ، وهو الفَرَق .
وقال ابن زيد : كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بوادٍ قبل الإسلام قال : إني أعوذ بكبير هذا الوادي . فلما جاء الإسلام ، عاذوا بالله وتركوهم . انتهى .
أي : لأن ذلك من الشرك ، ولذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله تعالى وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره ، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة ، فإنها للإرشاد لذلك .
روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت : من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك .
قال بعضهم : في الحديث تفسير آية الجن ، وأن ما فيها من الشرك ، وأن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر ، أو جلب نفع ، لا يدل على أنه ليس من الشرك .
وفي الآية تأويل غريب ، نقله الرازيّ وهو أن المراد كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضاً ، لكن من شر الجن ، مثل أن يقول الرجل : أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي . وأصحاب هذا التأويل ، إنما ذهبوا إليه لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن . وهذا ضعيف ؛ فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلاً . انتهى . والضمير المرفوع في { فَزَادُوهُمْ } للجن ، على معنى : فزادوهم باستعاذتهم بهم ، غيّاً وإثماً وضلالاً . أو للإنس على معنى : فزادوا الجن باستعاذتهم كبراً وعتوّاً .
و الرهق في الأصل غشيان الشيء ، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [ 7 - 9 ]
{ وَأَنَّهُمْ } أي : وأوحى إليّ أن الجن { ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ } أي : في جاهليتكم .
{ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً } أي : رسولاً إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم . أو لن ينشر الله أحداً من قبره للحساب والجزاء .
وقيل : الضمير في { وَأَنَّهُمْ } للإنس ، ذهاباً إلى أن قوله :
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } { وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا } من كلام الجن ، والخطاب لهم .
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء } أي : تطلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها { فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } أي : حَفَظَة ورواجم .
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أي : كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث ، وما يكون فيها ، فمن يستمع الآن يجد له شهاب نار قد رصد له .
قال الزمخشريّ : وفي قوله :
{ مُلِئَتْ } دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة ، وكذلك قوله :
{ نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ } أي : كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب . والآن ملئت المقاعد كلها . وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ 10 ]
{ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } يعنون أن ما حدث من منعهم السمع من السماء ، ورجم من استمع منهم بالشهب ، كانوا يقولون هو لأمر عظيم أراده الله بأهل الأرض ، إما عذاب أو رحمة ، أي : حتى علموا بعد باستماعهم القرآن ، أنه لخير أريد بهم ، وذلك بعثة نبيّ مصلح يرشد إلى الحق .
قال الناصر : ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل . والمراد بالمريد هو الله عز وجل ، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقًا * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا * وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } [ 11 - 17 ]
{ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ } أي : المسلمون العاملون بطاعة الله { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي : قوم دون ذلك ، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه ، أو الكافرون { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } أي : أهواء مختلفة ، وفرقاً شتى . وهذا بيان للقسمة قبلُ . أي : كنا مثلها أو ذويها . و الطرائق : جمع طريقة ، وهي طريقة الرجل ومذهبه . و القدد الضروب والأجناس المختلفة ، جمع قدّة كالقطعة .
{ وَأَنَّا ظَنَنَّا } أي : علمنا { أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ } أي : إن أراد بنا سوءاً { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي : إن طلبنا .
قال الزمخشريّ : هذه صفة أحوال الجن ، وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم ، منهم أخيار وأشرار ، ومقتصدون ، وأنهم يعتقدون أن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ، ولا يُنجي عنه مهرب .
{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى } أي : القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم { آمَنَّا بِهِ } أي : صدّقنا بأنه حق من عند الله ، { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً } أي : أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها { وَلَا رَهَقاً } أي : أن ترهقه ذّلة ، وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد . يعني : أنه يجزى الجزاء الأوفى ، وتكون له في العز العاقبة الحسنى .
{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } أي : الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، { فَمَنْ أَسْلَمَ } أي : أذعن وانقاد { فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً } أي : ترجّوا وتوخوا رشداً عظيماً ، وقصدوا صواباً واستقامة . وقوله : { فَمَنْ أَسْلَمَ } إلخ من كلام الله أو الجن . قال الزمخشريّ : وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً ، أن الله تعالى أوعد قاسطيهم ، وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعداً أن قال : { فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً } فذكر سبب الثواب وموجبه . والله أعدل من أن يعاقب القاسط ، ولا يثيب الراشد .
{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : توقد بهم ، كما توقد بكفار الإنس .
{ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا } أي : الجن أو الإنس أو كلاهما { عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الحق والعدل { لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً } أي : لوسعنا عليهم الرزق . وإنما تجوز بالماء الغدق - وهو الكثير - عما ذكر ؛ لأنه أصل المعاش وسعة الرزق ، ولعزة وجوده بين العرب ، أو لأن غيره يعلم منه بالأولى { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي : لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه .
{ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } أي : عبادته أو موعظته { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } أي : شديداً شاقاً .
قال الزمخشري : الصعد : مصدر صعد ، يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب ، أي : يعلوه ويغلبه فلا يطيقه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [ 18 ]
{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } أي : مختصة به { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً } أي : فلا تعبدوا فيها غيره . تعريض بما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى بمسجده الحرام ، ونصبهم في التماثيل والأنصاب ، وبما عليه أهل الكتاب ، فإن المساجد لم تُشَدْ إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده . ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر ، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمُه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ 19 ]
{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، { يَدْعُوهُ } أي : يعبد ربه ، { كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } أي : جماعات بعضها فوق بعض ، تعجباً مما رأوه من عبادته ، واقتداء أصحابه به ، وإعجاباً بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره . فالضمير في { كَادُوا } للجن ، وقد بيّن ذلك حديث البخاري كما تقدم . وجوّز رجوعه للمشركين بمكة . والمعنى : لما قام رسولاً يعبد الله وحده ، مخالفاً للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه ، كاد المشركون لتظاهرهم عليه ، وتعاونهم على عداوته ، يزدحمون عليه متراكمين - حكاه الزمخشري - ثم قال :
{ لِبَداً } جمع لبدة ، وهو ما تلبد بعضه على بعض ، ومنها لبدة الأسد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً } [ 20 - 21 ]
{ قُلُ } وقرئ قال { إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي } أي : أعبده ، وأبتهل إليه وحده ، { وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } أي : فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم ، أو إطباقكم على مقتي .
{ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً } أي : لأن ذلك لله تعالى ، وحده ، فلا تستعجلوني بالعذاب .
قال الشهاب في توضيح ما للقاضي هنا : إما أن يراد بالرشد النفع ، تعبيراً باسم السبب عن المسبب ، أو يراد بالضرّ الغيّ ، تعبيراً باسم المسبب عن السبب . ويجوز أن يجرد من كل منهما ما ذكر في الآخر ، فيكون احتباكاً . والتقدير : لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا غيّاً ولارشداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } [ 22 - 24 ]
{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ } أي : إن أراد بي سوءاً { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي : ملتجأ إن أهلكني . وأصله : المدخل من اللحد .
وقوله : { إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ } استثناء من قوله : { لا أَمْلِكُ } فإن التبليغ إرشاد ونفع . فهو متصل ، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة ، أي : لا أملك إلا التبليغ والرسالات ، من معاني الوحي ، وأحكام الحق .
{ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فلم يسمع ما جاء به ، ولم يقبل ما يبلغه { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ } أي : في الرسالات الإلهية ، من الظهور عليهم والفتح ، أو العذاب الأخروي .
{ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } أي : أجند الرحمن أو إخوان الشياطين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ 25 - 27 ]
{ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً } أي : غاية تطول مدتها .
{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } أي : حرساً من الملائكة يحفظونه من تخاليط الشياطين ووساوسهم ، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه .
قال القاشاني : { رَصَداً } أي : حفظة إما من جهة الله التي إليها وجهه ، فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية . وإما من جهة البدن ، فالملكات الفاضلة والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات ، يحفظونه من تخبيط الجن ، وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات ، بمعارفها اليقينية ، ومعانيها القدسية ، والواردات الغيبية ، والكشوف الحقيقية . انتهى .
تنبيه :
قال الزمخشري : يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى .
قال : وفي هذا إبطال للكرامات ؛ لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل ، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط . انتهى .
وأجاب أبو السعود بأن معنى الآية : فلا يطِلع على غيبه اطلاعاً كاملاً ينكشف به جلية الحال انكشافاً تاماً موجباً لعين اليقين ، أحداً من خلقه ، إلا من ارتضى من رسول . أي : إلا رسولاً ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته ، كما يعرب عنه بيان { مَنِ ارْتَضَى } بالرسول تعلقاً تاماً ، إما لكونه من مبادئ رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها ، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمِر بها المكلفون ، وكيفيات أعمالهم ، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة ، وما تتوقف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث ، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة . وأما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة ، فلا يظهر عليه أحداً أبداً ، على أن بيان وقته مُخِلٌّ بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة ، وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف ؛ فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل ، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاً ، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح . انتهى .
وملخصه تقييد الغيب بما هو معجزة أو من وظائف الرسالة . وهكذا نحا النسفي في الجواب ، مع بيان الفارق وعبارته : أي : إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له ، فإنه يطلعه على غيبه ما شاء : و { مِن رَّسُولٍ } بيان { مَنِ ارْتَضَى } والولي إذا أخبر بشيء فظهر ، فهو غير جازم عليه ، ولكنه أخبر بناء على رؤياه ، أو بالفراسة . على أن كل كرامة للوليّ فهي معجزة للرسول . انتهى .
وقال الرازي : وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه - يعني الزمخشري ومن تابعه - والذي تدل عليه أن قوله { عَلَى غَيْبِهِ } ليس فيه صيغة عموم ، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه ، فنحمله على وقت وقوع القيامة ، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد ، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد .
قال : والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقب قوله :
{ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً } يعني : لا أدري وقت وقوع القيامة ، ثم قال بعده : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً } أي : وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد . وبالجملة فقوله : { عَلَى غَيْبِهِ } لفظ مفرد مضاف ، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد . فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه .
فإن قيل : فإذا حملتم ذلك على القيامة ، فكيف قال : { إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله ؟
قلنا : بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة ، وكيف لا وقد قال : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ، ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة ، وأيضاً يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعاً ، كأنه قال : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص - وهو يوم القيامة - أحداً . ثم قال بعده : لكن من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مرَدة الإنس والجن ؛ لأنه تعالى إنما ذكره هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به ، والاستحقار لدينه ومقالته . وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق ، والرسول بالملك .
وناقشه في" العناية" بأن المرضي حمل الرسول على المتعارف لدلالة السياق والسياق عليه هذا ، ونقل النسفي عن التأويلات ما مثاله :
قال بعضهم : في هذه الآية تكذيب المنجمة ، وليس كذلك ، فإن فيهم من يصدق خبره ، وكذلك المتطببة فإنهم يعرفون طبائع النبات ، وهذا لا يعرف بالتأمل ، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسولٍ انقطع أثره ، وبقي علمه في الخلق . انتهى .
وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة زعماً بأن معرفة مواقيت الكسوف ، وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب . والصواب عدم شموله لمثله ؛ لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث ، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية .
وبالجملة فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء ؛ ولذا قال بعض الحكماء : لو كان من وظيفة النبيّ أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية ، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل ، وينزع الاستقلال من الْإِنْسَاْن ، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من كل شيء بالتسليم ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم . وإن شئت فقل : لوجب أن لا يكون الْإِنْسَاْن هذا النوع الذي نعرفه . نعم ، إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم ، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة ، وقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال : < أنتم أعلم بأمور دنياكم > انتهى . فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } [ 28 ]
{ لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } متعلق بـ { يَسْلُكْ } غاية له . والضمير إما لـ"الرصد " ، وإما لـ { مَنِ ارْتَضَى } والجمع باعتبار معنى من ، أي : ليبلغوا ، فيظهر متعلق علمه . وإيراد علمه تعالى للعناية بأمر الإبلاغ ، والإشعار بترتيب الجزاء عليه ، والمبالغة في الحث عليه ، والتحذير عن التفريط فيه .
{ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِ } أي : بما عند الرصد ، أو الرسل عليهم السلام . حال من فاعل { يَسْلُكْ } جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد .
{ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أي : فرداً فرداً لسعة علمه . تقرير ثان لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه ، ووعد ووعيد كما عرف من نظائره .

(/)


سورة المزمل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [ 1- 4 ]
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } أي : المتزمل . من تزمل بثيابه إذا تلفف بها . فأدغم التاء في الزّاي ؛ خوطب صلى الله عليه وسلم بحكاية حاله وقت نزول الوحي ، ملاطفة وتأنيساً وتنشيطاً للتشمر لقيام الليل ، وقيل : معناه المتحمل أعباء النبوة ، من تزمل الزِّمْل ، إذا تحمل الحمل ؛ ففيه استعارة ، شَّبه إجراء التبليغ بتحمل الحمل الثقيل ، بجامع المشقة .
قال الشهاب : وأورد عليه أنه مع صحة المعنى الحقيقي ، واعتضاده بالأحاديث الصحيحة ، لا وجه لادعاء التجوز فيه .
وقد يجاب بأن الأحاديث رويت في نزول سورة المدثر ، لا في هذه السورة ، كما سيأتي إن شاء الله ، إلا أن يقال : هما بمعنى واحد .
{ قُمِ اللَّيْلَ } أي : فيه للصلاة ، ودع التزمُّل للهجوع { إِلاَّ قَلِيلاً } أي : بحكم الضرورة للاستراحة ، ومصالح البدن التي لا يمكن بقاؤه بدونها .
ثم بيّن تعالى قدر القيام مخيراً له بقوله :
{ نِصْفَهُ } أي : نصف الليل بدل من الليل .
{ أَوِ انقُصْ مِنْهُ } أي : من النصف { قَلِيلاً } أي : إلى الثلث .
{ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي : النصف إلى الثلثين ، والمقصود التخيير بين قيام النصف وما فوقه وما دونه . ولا يقال : كيف يكون النصف قليلاً وهو مساوٍ للنصف الآخر ؟ لأن القلة بالنسبة إلى الكل ، لا إلى عديله .
{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } أي : بيّنه تبييناً ، وترسّل فيه ترسلاً .
قال الزمخشري : ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤده ، بتبيين الحرف ، وإشباع الحركات ، حتى يجيء المتلوّ منه شبيهاً بالثغر المرتل ، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان ، وأن لا يهذّه هذّاً ، ولا يسرده سرداً .
تنبيه :
قال السيوطي : في الآية استحباب ترتيل القراءة ، وأنه أفضل من الهذّ به ، وهو واضح .
وقد ثبت في السُّنة أنه صلى الله عليه وسلم < كان يقطع قراءته آية آية ، وأنها كانت مفسرة حرفاً حرفاً ، وأنه كان يقف على رؤوس الآي > .
واستدل بالآية على أن الترتيل والتدبُّر ، مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها ، لأن المقصود من القرآن فهمه وتدبُّره ، والفقه فيه ، والعمل به .
قال ابن مسعود : لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هَمّ أحدكم آخر السورة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ 5 ]
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أي : رصيناً ، لرزانة لفظه ، ومتانة معناه ، ورجحانه فيهما على ما عداه .
ولما كان الراجح من شأنه ذلك ، تجوّز بالثقيل عنه . أو ثقيلاً على المتأمّل فيه ، لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر ، وتجريد للنظر . أو ثقيلاً تلقّيه ، لقول عائشة رضي الله عنها : رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، < وإن جبينه ليتفصد عرقاً > . وعلى كل فالجملة معللة للأمر بالترتيل ، وأن ثقله مما يستدعيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ 6 ]
{ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } أي : نشأته وطبيعته خلقه ومظهره { هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً } أي : موافقة لما يراد منها من جمع الهم ، وهدوء البال .
{ وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي : أشدّ مقالاً وأصوبه .
قال ابن قتيبة : لأن الليل تهدأ فيه الأصوات ، وتنقطع فيه الحركات ، ويخلص القول ، ولا يكون دون تسمّعه وتفهمه حائل .
ونقل السيوطي عن الجاحظ قال : ناشئة الليل هي المعاني المستنبطة من القرآن بالليل ، أشد وطأً أبين أثراً . وأقوم قيلاً ، أصحُّ مما تخرجه الأفكار بالنهار ، لخلوّ السمع والبصر عن الاشتغال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ 7 - 9 ]
{ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً } أي : تقلباً في مهماتك ، واشتغالاً بها ، فلذا أمرت بقيام الليل .
{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } أي : دم على ذكره ليلاً ونهاراً . قال الزمخشري : وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكرٍ طيب : تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن ، ودراسة علم ، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعات ليله ونهاره .
{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي : أخلص إليه بتجريد النفس عن غيره ، إخلاصاً عظيماً .
{ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } أي : تكل إليه مهامك ، فإنه سيكفيكها .
قال ابن جرير : أي : فيما يأمرك ، وفوض إليه أسبابك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } [ 10 - 14 ]
{ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } أي : من الأذى والفَرْي { وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } أي : بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل ، كما قال تعالى { وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [ الأحزاب : 48 ] { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ } أي : دعني وإياهم ، وكِل أمرهم إليّ ، فإن بي غنيمة عنك في الانتقام منهم .
{ أُولِي النَّعْمَةِ } أي : التنعم ، يريد صناديد قريش ومترفيهم .
{ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أي : تمهل عليهم زماناً ، أو إمهالاً قليلاً .
{ إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً } أي : قيوداً { وَجَحِيماً } أي : نار شديدة الحرّ والاتّقاد { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } أي : يغصُّ به آكله فلا يسيغه ، { وَعَذَاباً أَلِيماً } أي : ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه . أي : فلا ترى موكولاً إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام .
{ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ } أي : تضطرب وترتجّ بالزلزال ، { وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } أي : رملاً متفرقاً منثوراً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } [ 15 - 16 ]
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ } أي : بإجابة من أجاب وإباء من أبى { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } أي : يدعوه إلى الحق .
{ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } أي : ثقيلاً ، وذلك بإهلاكه ومن معه ، غرقاً في اليم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبً ا *السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ 17- 19 ]
{ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً } أي : كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم ، ولم تؤمنوا بالحق ، يوم القيامة ، وحاله في الهول ما ذكر .
قال ابن أبي الحديد : لأن في اليوم الشديد : إنه ليشيب نواصي الأطفال ، كلام جار مجرى المثل . وليس ذلك على حقيقته ؛ لأن الأمَّة مجتمعة على أن الأطفال لا تتغير حُلاهم في الآخرة إلى الشيب . والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الْإِنْسَاْن شاب سريعاً . قال أبو الطيب :
~والهمُّ يخترم الجسيمَ نحافةًً ويشيب ناصية الصبيّ ويُهْرٍمُ
{ السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } قال الزمخشريّ : وصف لليوم بالشدة أيضاً . وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه ، فما ظنك بغيرها من الخلائق ؟
قال السمين : وإنما لم تؤنث الصفة لأحد الوجوه :
منها : تأويله بالمشتق . ومنها : أنها على النسب ، أي : ذات انفطار ، نحو : مرضع وحائض .
ومنها : أنها تذكر وتؤنث . ومنها : أنها اسم جنس يفرق بينه وبين واحدة بالتاء ، فيقال : سماءة ، وفي اسم الجنس التذكير والتأنيث . والباء في { بِهِ } سببية أو للاستعانة ، أو بمعنى في .
{ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } أي : لأنه لا يخلف وعده ، فاحذروا ذلك اليوم .
{ إِنَّ هَذِهِ } أي : الآيات الناطقة بالوعيد الشديد { تَذْكِرَةً } أي : موعظة لمن اعتبر بها واتّعظ ، { فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي : بالإيمان به ، والعمل بطاعته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 20 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } أي : تتهجد فيه هذه التارات المختلفة ، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالاً لأمره وتبتلاً إليه ، { وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ } أي : يعلمهم كذلك ، { وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : أن يجعلهما على مقادير يجريان عليها ، فتارة يعتدلان ، وتارة يزيد أحدهما في الآخر ، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم . أشار إليه ابن كثير . أو المعنى : السورة من التخيير ، ترخيصاً وتيسيراً .
{ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أي : قيام الليل على النحو الذي دأبتم عليه ، أو قيام الليل كله ، للحرج والعسر { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : عاد عليكم باليسر ورفع الحرج .
{ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } أي : في صلاة الليل بلا تقدير . أو المراد : لا تتجاوزوا ما قدره لكم ، رحمة بأنفسكم . وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله ، أو الحرص عليه ، شوقاً إلى العبادة ، وسبقاً إلى الكمالات .
قال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله ، مخافة أن لا يصيب مما أمر به من قيام ما فرض عليه - نقله الرازي - .
{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى } أي : يضعفهم المرض عن قيام الليل { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : للتجارة وغيرها ، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : لنصرة الدين ، فلا يتفرّغون للقيام فيه { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } أي : من القرآن ، ولا تحرّجوا أنفسكم ، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
تنبيهات :
الأول : ذهب كثير من السلف إلى وجوب قيام الليل المفهوم من الأمر به طليعة السورة ، منسوخ بهذه الآيات .
روى ابن جرير عن عائشة قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل ، فتسامع به الناس فاجتمعوا ، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيماً - فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فقال : < يا أيها الناس ؟ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب ، حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما دمتم عليه > ؛ ونزل القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً } الآية ، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى اللهُ ما يبتغون من رضوانه فرحمهم ، فردهم إلى الفريضة ، وترك قيام الليل .
قال ابن كثير : والحديث في" الصحيح" بدون زيادة نزول هذه السورة ، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي مكية . انتهى كلامه .
أقول : وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم : ونزلت الآية ، الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها ، كما بيناه مراراً .
وأخرج أيضاً عن ابن عباس قال : أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلاً ، فشقَّ ذلك على المؤمنين ، ثم خفف عنهم فرحمهم ، وأنزل الله بعد هذا : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم } الآية ، فوسع الله - وله الحمد - ولم يضيق .
وعن أبي عبد الرحمن قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قاموا بها حَوْلاً حتى ورمِت أقدامهم وسُوقهم ، حتى نزلت : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فاستراح الناس .
وهكذا روي عن سعيد والحسن وعكرمة وقتادة .
قال ابن حجر في " شرح البخاري " : ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة ، ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقاً ، ثم نسخ بالخمس . وأنكره المروزيّ . وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة .
وقال السيوطيّ في " الإكليل " : قوله تعالى : { قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً } هو منسوخ بعد أن كان واجباً ، بآخر السورة . وقيل : محكم ، فاستدل به ندب قيام الليل . واستدل به طائفة على وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة . وآخرون على وجوبه على الأمة أيضاً ، ولكن ليس الليل كله ، بل صلاة ما فيه ، وعليه الحسن وابن سيرين . انتهى .
أقول : من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه للندب ، يرى أن آخر السورة تعليمٌ لهم الرفقَ بأنفسهم ، لأنه تاب عليهم باليسر ، ورفع عنهم الآصار . وفيه ما يدل على عنايتهم بالمندوب ، وحرصهم عليه ، حتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه . ويدل عليه أثر عائشة في ربطهم الحبل للتعلق به ، استعانة على قراءة القرآن ، وكثرة تلاوته .
الثاني : قال ابن كثير : في قوله تعالى :
{ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } تعبير عن الصلاة بالقراءة ، كما قال في سورة سبحان : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } [ الإسراء : 110 ] ، أي : بقراءتك . وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، بهذه الآية ، على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية ، أجزأه . واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في "الصحيحين" ، وهو : < ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن > . وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو في" الصحيحين" أيضاً ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا صلاة إلا أن يقرأ بفاتحة الكتاب > . انتهى .
الثالث : في قوله تعالى :
{ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } علم من أعلام النبوة .
قال ابن كثير : هذه الآية ، فهي السورة كلها ، مكية . ولم يكن القتال شرع بعد ، فهي من أكبر دلائل النبوة ، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة .
الرابع : قال ابن الفَرَس : في قوله :
{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } فضيلة التجارة ، لسوقها في الآية مع الجهاد .
أخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال : ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله ، أحب إلي أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله . ثم تلا هذه الآية .
وقال السيوطي : هذه الآية أصل في التجارة .
{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } أي : زكاة أموالكم .
قال ابن كثير : وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة .
{ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } يعني به بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن وجه ، يكون من أطيب المال ، وإعطاءه للمستحق من غير تأخير ، واتقاء المنّ والأذى . وسر الأمر بـ الحسن أن القرض لما كان يعطى بنية الأخذ ، لا يبالي بأي شيء وأي مقدار يعطي منه ، فأشير إلى إيثار المقام الأرفع . ولكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا .
{ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ } أي : في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير ، أو عمل بطاعة الله ، أو غير ذلك من أعمال البر { تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } أي : ثواباً مما عندكم من متاع الدنيا .
{ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ } أي : سلوه غفران ذنوبكم ، { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب ، ورحمة أن يعاقبكم عليها بعد توبتهم منها .

(/)


سورة المدثر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ 1 - 7 ]
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } أي : المتلفِّف بثيابه لنوم أو استدفاء ، من الدثار ، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار . والشعار الثوب الذي يلي الجسد . وأصله : المتدثر ، فأدغم ، خوطب بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزول الوحي . أو لقوله : < دثروني > كما تقدم - وقيل : معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة ، من قولهم : ألبسه الله لباس التقوى ، وزينه برداء العلم . ويقال : تلبس فلان بأمر كذا . فجعل النبوة كالدثار واللباس مجازاً .
قال الشهاب : إما أن يراد المتحلي بها والمتزين ، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة . وكذا يسمى حلّة . والتشبيه بالدثار في ظهورها ، أو في الإحاطة . والأول أتم .
{ قَمْ } أي : من مضجعك ودثارك . أو قيام عزم وجدّ { فَأَنذِرْ } أي : فحذر قومك من العذاب إن لم يؤمنوا .
قال الشهاب : لم يقل { وَبَشِّرِ } لأنه كان في ابتداء النبوة ، والإنذار هو الغالب ، لأن البشارة لمن آمن ، ولم يكن إذ ذاك . أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير .
{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } قال ابن جرير : أي : فعظِّم بعبادته ، والرغبة إليه في حاجاتك ، دون غيره من الآلهة والأنداد .
وقال القاشاني : أي : إن كنت تكبر شيئاً وتعظِّم قدره ، فخصص ربك بالتعظيم والتكبير ، لا يعظم في عينك غيره ، ويصغر في قلبك كل ما سواه ، بمشاهدة كبريائه .
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي : بالماء من الأنجاس . قال ابن زيد ، كان المشركون لا يتطهرون ، فأمره أن يتطهر ويطهِّر ثيابه . وقيل : هو أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام . قال قتادة : العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب . وإذا وفى وأصلح ، قالوا : مطهر الثياب .
وعن ابن عباس : أي : لا تلبسهما على معصية ، ولا على غدرِة . ثم أنشد لغيلان ابن سلمة الثقفي :
~وإني بحمد الله لا ثوبَ فاجر لبستُ ولا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
وفي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما ، وفي الثاني تجوّز بهما . وبقي وجه ثالث ، وهو حمل الثياب على حقيقتها ، والتطهير على مجازه ، وهو التبصير ؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم ، ويجرّون أذيالهم خيلاء وكبراً ، فأمر بمخالفتهم . ورابع وهو عكس هذا ، وذلك بحمل الثياب على الجسد أو النفس كناية ، كما قال عنترة :
~فشككتُ بالرمح الأصمِّ ثيابَه
أي : نفسه . ولذا قال :
~ليس الكريم على القنا بِمُحَرَّمِ
واستصوب ابن الأثير في " المثل الساتر " الوجه الأول . قال في الفصل الثالث من فصول يلبس : اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه ، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل ، كقوله تعالى :
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } ، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس . ومن تأول ، ذهب إلى أن المراد هو القلب ، لا الملبوس ، وهذا لا بد له من دليل ، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ .
ثم قال : المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف . والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف ؛ إذ باب التأويل غير محصور ، والعلماء متفاوتون في هذا ، فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل ، فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية ، فإن السيف بضاربه :
~إن السيوفَ مع الذين قلوبهم كقلوبهن ، إذا التقى الجَمعان
~تلقى الحسامَ على جراءَة حدَّه مثَل الجبان بكفِّ كل جبانِ
انتهى .
ويكفي دليلاً ما للعرب من الشواهد والأمثال . والاستعمال لا ينحصر في الحقيقة . نعم ، المتبادر أولى وأجدر ، وهو عنوان الحقيقة .
وقوله تعالى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } أي : اتركه . و الرجز بكسر الراء كالرجس والسين والزاي يتبادلان ، لأنهما من حروف الصفير . و الرجس اسم للقبيح المستقذر ، كنِّي به عن عبادة الأوثان خاصة ، لقوله :
{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق ، كأنه قيل : اهجر الجفا والسَّفه وكل قبيح ، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز .
وقيل : المراد بالرجز العذاب ، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي .
فالرجز مجاز ، وقد أقيم مقام سببه . أو هو بتقدير مضاف ، أي : أسباب الرجز . أو التجوز بالتشبيه .
وقرئ بضم الراء ، وهو لغة في المكسور ، وهما بمعنى ، وهو العذاب .
وعن مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم ، وبالكسر العذاب .
وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهو بريء منه ، إما أمر لغيره تعريضاً ، أو المراد الدوام على هجره .
{ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } أي : لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها ، بمعنى : لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه . يقال : مننت فلاناً كذا ، أي : أعطيته . كما قال :
{ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } [ ص : 39 ] ، أي : فأعط أو أمسك . وأصله أن من أعطى فقد منَّ ، فسميت العطية بالمنّ على سبيل الاستعارة . وجوّز القَفَّالُ أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العِوض كيف كان زائداً على العطاء . فسمي طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله . وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد ، للحاجة إلى من يربي ولدها ، فسمي الولد ربيباً . ثم اتسع الأمر فسمي ربيباً ، وإن كان ، حين تتزوج أمه ، كبيراً .
وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض ، والتفات النفس إليه تعففاً وكمالاً وعلوّ همة .
وقيل : معنى الآية لا تعط عطاءً مستكثراً له ، فإن مكارم الأخلاق استقلال العطاء ، وإن كان كثيراً ، فالسين للعد والوجدان . وسبق في سورة الروم في قوله تعالى : { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ } [ الروم : 39 ] ، كلام في هذه الآية أيضاً فارجع إليه .
{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } أي : على أذى المشركين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [ 8 - 10 ]
{ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } أي : نفخ في الصور . و الناقور من النَّقر ، بمعنى التصويت . وأصله القرع الذي هو سبب الصوت . ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به ، أي : لما كان الصوت يحدث بالقرع تجوز به عنه ، وأريد به النفخ لأنه من الصوت .
{ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } أي : شديد .
{ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } أي : هيّن ، لما يحيق بهم من صنوف الردى . وفي قوله :
{ غَيْرُ يَسِيرٍ } تأكيد يمنع أن يكون عسيراً عليهم من وجه دون وجه ، ويشعر بيسره على المؤمنين . ففيه جمع بين وعيد الكافرين وبشارة المؤمنين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ 11 - 17 ]
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } أي : لا مال له ولا ولد .
{ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } أي : مبسوطاً كثيراً ، أو ممدوداً بالنماء .
{ وَبَنِينَ شُهُوداً } أي : رجالاً يشهدون معه المحافل والمجامع ، أو حضوراً معه يأنس بهم ، لا يحوجه سفرهم وركوبهم الأخطار ، لاستغنائهم عن التكسب والمدح .
{ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أي : بسطت له في العيش والجاه والرياسة .
{ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي : من المال والولد والجاه . أو من النعيم الأخرويّ . وهذا أظهر لقوله :
{ كُلاَ } أي : لا يكون ما يأمل ويرجو ، لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون ، لا هو ، { إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً } أي : معانداً للحجج المنزلة والمرسلة .
{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } أي : سأغشيه عَقبة شاقة المصعد . وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق ، قاله الزمخشري .
قال الشهاب : ومعنى كونه مثلاً ، أنه شبه ما يسوقه الله له من المصائب ، بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاهقة ، وأطلق لفظه عليه . فهو استعارة تمثيلية .
ثم علل إرهاقه ذلك بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } [ 18 - 20 ]
{ إِنَّهُ فَكَّرَ } أي : ماذا يقول في هذه الآيات الكريمة والذكر الحكيم { وَقَدَّرَ } أي : في نفسه ما يقوله وهيأه .
{ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } أي : لعن ، كيف قدر ذلك الافتراء الباطل ، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه .
{ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } تكرير للمبالغة في التعجب منه ، وقد اعتيد فيمن عجب غاية التعجب أنه يكثر من التعجب ويكرره .
و { ثَّمَ } للدلالة على الثانية أبلغ في التعجب من الأولى للعطف بـ { ثَّمَ } الدالة على تفاوت الرتبة . فكأنه قيل : قتل بنوع ما من القتل ، لا بل قتل بأشده وأشده ؛ لذا ساغ العطف فيه ، مع أنه تأكيد .
وقد جوز الزمخشريّ في هذه الجملة ثلاثة أوجه : أن تكون تعجيباً من تقديره وإصابته فيه المحزّ ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش ، أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به ، أو حكاية لما ذكره من قولهم :
{ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره ، واستعظامهم لقوله .
ثم قال : ومعنى قول القائل : قتله الله ، ما أشجعه ، وأخزاه الله ، ما أشعره ، الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [ 21 - 25 ]
{ ثُمَّ نَظَرَ } أي : في ذلك المقدّر ، أي : تروّى فيه . قال الرازيّ : وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه . فالنظر الأول للاستخراج ، واللاحق للتقدير ، وهذا هو الاحتياط .
وقال غيره : { ثُمَّ نَظَرَ } أي : في وجوه القوم .
{ ثُمَّ عَبَسَ } أي : قطّب وجهه كبراً وتهيؤاً لقذف تلك الكبيرة { وَبَسَرَ } أي : كلح وجهه . شأن اللئيم في مراوغته ومخاتلته ، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه .
{ ثُمَّ أَدْبَرَ } أي : عن الحق { وَاسْتَكْبَرَ } أي : عن الإيمان به .
{ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } أي : ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويُتعلم . أي : يأثره عن غيره .
{ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } أي : ليس بكلام الله ، كما يقوله .
تنبيه :
اتفق المفسرون أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، أحد رؤساء قريش ، لعنه الله . وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ، فقال لهم : يا معشر قريش ! إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا رأياً واحداً ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً ، ويردّ قولكم بعضه بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ! فقل ، وأقم لنا رأياً نقل به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال : لا ، واللهِ ما هو بكاهن ! لقد رأينا الكهّان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا : فنقول : مجنون ! قال : ماهو بمجنون . لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنَقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر ! قال : ما هو بشاعر . لقد عرفنا الشعر كله : رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول ساحر ! قال : ما هو بساحر . لقد رأينا السُّحَّار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله ! إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه ، لأن تقولوا : هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرّق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته فتفرقّوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم . لا يمرّ بهم أحد إلا حذَّروه إياه ، وذكروا لهم أمره . فأنزل الله تعالى في الوليد ابن المغيرة ، وفي ذلك ، من قوله :
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } الآيات .
وعن قتادة : قال الوليد : لقد نظرت فيما قال هذا الرجل ، فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلوا وما يُعلى ، وما أشك أنه سحر . فأنزل الله الآيات ، رواه ابن جرير .
وثم روايات بنحو ما ذكر .
وقد روى مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة . وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه أسلم منهم ثلاثة : خالد وعمار وهشام . قال ابن حجر في " الإصابة " : والصواب خالد وهشام والوليد . فأما عمارة ، فإنه مات كافراً ، لأن قريشاً بعثوه للنجاشيّ ، فجرت له معه قصة ، فأصيب بعقله . وقد ثبت أنه ممن < دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من قريش > لمَّا وضع عقبة بن أبي معيط سلى الجزور على ظهره ، وهو يصلي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ 26 - 30 ]
{ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } أي : جهنم . وهو بدل من { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } بدل اشتمال ، لاشتمال { سَقَرُ } على الشدائد
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ } قال الزمخشريّ : أي : لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته ، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد . أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك ، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة .
{ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } أي : محرقة للجلود ، من لوحته الشمس ، إذا سوّدت ظاهره وأطرافه . و البَشَر : جمع بشرة ، وهي ظاهر الجلد . أو اسم جنس بمعنى الناس . وجوّز أن يكون المعنى : لائحة للناس ، من لاح بمعنى ظهر ، والبَشَر بمعنى الناس
{ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أي : من الخزنة المتولين أمرها ، والتسلط على أهلها ، وفيه إشارة إلى أن زبانية العذاب الأخرويّ ، تفوق زبانية الجبابرة في الدنيا أضعافاً مضاعفة ، تنبيهاً على هول العذاب ، وكبر مكانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } [ 31 ]
{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ } أي : خزنتها { إِلَّا مَلَائِكَةً } أي : وهم أقوى الخلق بأساً ، وأشدهم غضباً لله ، ليباينوا جنس المعذبين ، فلا يستروحون لهم .
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من مشركي قريش . أي : إلا عدة من شأنها أن يفتتن بها الكافرون ، فيجعلوها موضع البحث والهزء .
قال الجبائي : المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوّي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء .
وقال الكعبيّ : المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوّض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعيّن إلى علم الخالق سبحانه . قال : وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به .
{ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } أي : رسالة النبيّ صلوات الله عليه لإنبائه من وعيد الجاحدين المفسدين ما لديهم مصداقه . واللام متعلقة بـ { جَعَلْنَا } الثانية .
فإن قيل : كيف يصح جعلهم في نفس الأمر على هذا العدد ، معللاً باستيقان أهل الكتاب ، وازدياد المؤمنين ، واستبعاد أهل الشك والنفاق ، وليس إيجادهم تسعة عشر سبباً لشيء من ذلك ، وإنما السبب لما ذكر ، هو الإخبار عن عددهم بأنه تسعة عشر ؟
والجواب : أن الجعل يطلق على معنيين :
أحدهما : جعل الشيء متصفاً بصفة في نفس الأمر .
وثانيهما : الإخبار باتصافه بها ، ويقال له : الجعل بالقول . أي : وما جعلنا عدتهم بالإخبار عنها إلا عدداً يقتضي فتنتهم ، لاستيقان أهل الكتاب . . . . إلخ ، أي : وقلنا ذلك وأخبرنا به لاستيقان . . . إلخ . وعبر عن الإخبار بالجعل ، لمشاكلة قوله : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ } إلخ ، هذا ما قرّره شرّاح القاضي .
{ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً } أي : تصديقاً إلى تصديقهم بالله ورسوله { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } أي : حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض ، وهم المنافقون ، والسورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما نجم بالمدينة ؟
قلت : معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة ، والكافرون بمكة : ماذا أراد الله بهذا مثلاً . وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون ، كسائر الإخبارات بالغيوب . وذلك لا يخالف كون السورة مكية . ويجوز أن يراد بالمرض الشك والارتياب ، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكّين ، وبعضهم قاطعين بالكذب . انتهى .
وقال الرازيّ : إن قيل : لم سموه مثلاً ؟ فالجواب : أنه لما كان هذا عدداً عجيباً ، ظن القوم أنه ربما لم يكن مراداً لله منه ما أشعر به ظاهره ، بل جعله مثلاً لشيء آخر ، وتنبيهاً على مقصود آخر ، لا جرم سموه مثلاً .
{ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء } أي : إضلاله لصرفه اختياره إلى جانب الضلال : عند مشاهدته آيات الله الناطقة بالحق .
{ وَيَهْدِي مَن يَشَاء } أي : هدايته لصرف اختياره عند مشاهدته لتلك الآيات إلى جانب الهدى { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } قال الزمخشريّ : أي : وما يعلم ما عليه كل جند من العدد الخاص ، من كون بعضها على عقد كامل ، وبعضها على عدد ناقص ، وما في اختصاص كل جند بعدده ، من الحكمة إلا هو . ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك ، كما لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات والأرضين وأمثالها . أو وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو ، فلا يعزّ عليه الزيادة على عدد الخزنة المذكور ، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها . انتهى .
ويجوز أن تكون الجملة تأييداً لكون ما تقدم مثلاً ، أي : أن المؤمنين يستيقنون بأن عدتهم ضربت مثلاً للكثرة غير المعتاد سماعها للكافرين . ومن سنته تعالى ضرب الأمثال في تنزيله ، وإلا فلا يعلم جنوده التي يسلطها على تعذيب من يشاء إلا هو . وهذا معنى آخر لم أقف الآن على من نبه عليه ، ويؤيده قوله :
{ وَمَا هِيَ } أي : عدتهم المذكورة { إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } أي : عظة يرهبون منها عذاب النار ، وهول أصحابها .
وقيل الضمير لـ { سَقَرَ } وقيل : للآيات . والأقرب عندي هو الأول لسلامته من دعوى كون ما قبله معترضاً ، إذا أعيد الضمير لغيره ، ولتأييده لما قبله بالمعنى الذي ذكرناه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [ 32 - 37 ]
{ كُلاَ } ردع لمن أنكر العدة أو سقر أو الآيات . أو إنكار لأن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون ، { وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } أي : ولَّى ذاهباً بطلوع الفجر .
{ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ } أي : أضاء . ومن فوائد القسم بها الاعتبار بفوائدها ، والاستدلال بآياتها ، كما تقدم في سورة الصافات .
{ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ } أي : الأمور العظام .
{ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ } أي : إنذاراً لهم ، فنصبه على أنه تمييز عن إحدى ؛ لما تضمنه من معنى التعظيم ، كأنه قيل : أعظم الكبر إنذاراً . فـ { نَذِيراً } بمعنى الإنذار ، كنكير بمعنى الإنكار . أو على أنه حال عما دلت عليه الجملة . أي : كبرت منذرة ، فـ { نَذِيراً } مصدر مؤول بالوصف ، أو وصف بمعنى منذرة .
{ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ } أي : يسبق إلى الإيمان والطاعة { أَوْ يَتَأَخَّرَ } أي : يتخلف . و { لْمَنَّ } بدل من { لِّلْبَشَرِ } أي : منذرة لمن شاؤوا التقدم والفوز ، أو التأخر والهلاك . أو خبر مقدم ، و { أَن يَتَقَدَّمَ } مبتدأ مؤخر ، كقولك لمن توضأ أن يصلي ، كآية { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 39 ] ، وفي الثاني بُعْدٌ وزعم أبو حيان أن اللفظ لا يحتمله ، ولم يسلم له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ 38 - 48 ]
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أي : مرهونة ومحبوسة به عند الله تعالى : { إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } أي : فإنهم فكوا رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق,
{ فِي جَنَّاتِ } أي : هم في جنات لا يدرك وصفها { يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ } أي : يسألون عنهم . وإيثار صيغة التفاعل للتكثير ، ومنه دعوته وتداعيناه .
وقال القاشاني : أي : يسأل بعضهم بعضاً عن حال المجرمين ، لاطلاعهم عليها ، وما أوجب تعذيبهم وبقاءهم في سقر ، فأجاب المسؤولون بأنا سألناهم عن حالهم بقولنا : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أي : بلسان الحال أو المقال .
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين َ *و كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي : كنا موصوفين بهذه الرذائل من اختيار الراحات البدنية ، ومحبة المال ، وترك العبادات البدنية ، والخوض في الباطل ، والهزء والهذيان ، والتكذيب بالجزاء ، وإنكار المعاد .
{ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } أي : الموت ، فرأينا به ما كنا ننكره عياناً .
{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } أي : من نبيّ أو ملك ، لو قدر على سبيل فرض المحال ، لأنهم غير قابلين لها . فلا إذن في الشفاعة لذلك . فلا شفاعة ، فلا تنفع .
قال ابن جرير : أي : فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد ، فتنفعهم شفاعتهم . وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى ذِكره ، مشفِّع بعض خلقه في بعض .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسورة * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً * كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [ 49 - 56 ]
{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } أي : فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين ، لا يستمعون لها ، فيتعظوا ويعتبروا .
{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } أي : كأنهم في الإعراض عن الذكرى ، وبلادة قلوبهم ، حمر شديدة النفار
{ فَرَّتْ مِن قَسورة } أي : أسد ، أو عصبة قنص من الرماة .
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } أي : ينزل عليه كتاب كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحوه آية : { وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ } [ الأنعام : 124 ] ، وآية { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] ، وآية { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] الآية .
{ كُلاَ } أي : لا يكون مرادهم ، ولا يتبع الحق أهوائهم . أو ليس إرادتهم تلك للرغبة في الإيمان ، فقد جاءهم ما يكفيهم عن اقتراح غيره ، وإنما هم مردة الداء ، ولذا قال :
{ بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ } أي : لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، ولا يخشون العقاب ، لإيثارهم العاجلة . أي : فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله ، والإباء عن الإيمان بتنزيله .
{ كُلاَ } ردع عن إعراضهم { كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي : فاتعظ وعمل بما فيه من أمر الله ونهيه .
{ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ } أي : ذكرهم واتعاظهم ، لأنه لا حول لهم ولا قوة إلا به سبحانه . وفيه ترويح لقلبه صلوات الله عليه ، مما كان يخامره من إعراضهم ، ويحرص عليه من إيمانهم { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى } أي : حَقيقٌ بأن يتقى عقابه ، ويؤمن به ويطاع .
{ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } أي : حقيق بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه .

(/)


سورة القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [ 1 - 2 ]
{ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال القاشانيّ : جمع بين القيامة والنفس اللوامة ، في القسم بهما ، تعظيماً لشأنهما ، وتناسباً بينهما ؛ إذ النفس اللوامة هي المصدقة بها ، المقرة بوقوعها المهيئة لأسبابها ، لأنها تلوم نفسها أبداً في التقصير ، والتقاعد عن الخيرات ، وإن أحسنت ، لحرصها على الزيادة في الخير ، وأعمال البر ، تيقناً بالجزاء ، فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسياناً .
ومر الكلام على { لَا أُقْسِمُ } في مواقعه قبل هذا فتذكر . وحذف جواب القسم لدلالة قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ 3- 4 ]
{ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ } عليه ، وهو لتبعثُنَّ . قال القاشانيّ : المراد بالقيامة ، هاهنا الصغرى ، لهذه الدلالة بعينها .
{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } أي : بلى ! نجمع عظامه ، قادرين تسوية بنانه التي هي أطراف خلقته وتمامها ، على صغرها ولطافتها ، وضم بعضها إلى بعض ، فكيف بكبار العظام ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } [ 5 ]
{ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } أي : ليدوم على الفجور ، فيما يستقبله من الزمان ، ولا يثنيه عنه شيء ، ولا يتوب منه أبداً .
قال الشهاب :
{ أَمَامَهُ } ظرف مكان ، استعير هنا للزمان المستقبل ، فيفيد الاستمرار والضمير للإنسان ، أو ليوم القيامة . وقيل الدوام ولاستمرار ؛ لأنه خبر عن حال الفاجر ، بأنه يريد ليفجر في المستقبل ، على أن إرادته وحسبانه هما عين الفجور . وفي إعادة المظهر ما لا يخفى من التهديد ونعي قبيح ما ارتكبه ، وأن الْإِنْسَاْنية تأباه . وقيل : حمله على الاستمرار ليصح الإضراب ، ويصير المعنى : بل يريد الْإِنْسَاْن أن يستمر على فجوره ولا يتوب ، فلذا أنكر البعث .
وقال القاشانيّ : أي : ليدوم على الفجور بالميل إلى اللذات البدنية ، والشهوات البهيمية ، غارزاً رأسه فيها ، فيما بين يديه من الزمان الحاضر والمستقبل ، فيغفل عن القيامة لقصور نظره عنها ، وكونه مقصوراً على اللذات العاجلة ، وفرط تهالكه عليها ، واحتجابه بها عن الآجلة ، سائلاً عنها ، متعنتاً مستبعداً إياها ، كما قال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ 6 - 13 ]
{ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } أي : متى يكون ؟ استبعاداً وهزؤاً . والجملة استئناف أو حال أو تفسير لقوله : يفجر ، أو بدل منه والاستئناف بيانيّ ، كأنه قيل : لِمَ يريد الدوام على الفجور ؟ قيل : لأنه أنكر البعث واستهزأ به { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } أي : تحير ودهش ، أي : لما أتى من أمر الله . قال مجاهد : أي : عند الموت . { وَخَسَفَ الْقَمَرُ } أي : ذهب ضوؤه { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } أي : جمع بينهما في ذهاب الضوء ، فلا ضوء لواحد منهما . وقيل : إنهما يجتمعان ثم يكوران ، كما قال جل ثناؤه : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] ، قال ابن زيد : جمعا فرمي بهما في الأرض .
{ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ } أي : الفرار . أي : يطلب مهرباً ومحيصاً لدهشته ، أو يقول قول الآيس لعلمه بأنه لا قرار حينئذ .
{ كُلاَ } ردع له عن طلب المفر ، { لَا وَزَرَ } أي : لا ملجأ .
{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } أي : مستقر العباد ، من نار أو جنة . أي : مفوض إليه لا إلى غيره مستقرهم ، أو استقرار أمرهم ، والحكم فيهم
{ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ } أي من عمله الذي يوجب نجاته وثوابه ، من الخيرات والصالحات ، { وَأَخْرِ } أي : منه ففرط وقصر فيه ولم يعمله .
قال الشهاب :
{ مَا قَدَّمَ } كناية عما عمل ، وما { أَخَّرَ } ما تركه ولم يعمله . وهو مجاز مشهور فيما ذكر . أو ما قدمه ، ما عمله ، وما أخره ، عمل من اقتدى به بعده عملاً له ، كأنه وقع منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ 14 - 15 ]
{ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال القاشانيّ : أي : حجة بينة ، يشهد بعلمه ، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة عليه في نفسه ، ورسوخها في ذاته ، وصيرورة صفاته صور أعضائه ، فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج .
قال الشهاب :
{ بَصِيرَةٌ } مجاز عن الحجة الظاهرة . أو { بَصِيرَةٌ } بمعنى بينة ، وهي صفة لحجة مقدرة . وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها يبصر بها ، فالإسناد مجازي . أو هي بمعنى دالة مجازاً . أو هو استعارة مكنية وتخييلية . و { الْإِنسَانُ } مبتدأ ، و { بَصِيرَةٌ } خبره ، و { عَلَى } متعلق به . والتأنيث للمبالغة ، أو لكونه صفة حجة . { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } أي : ولو ألقى أعذاره مجادلاً عن نفسه بكل معذرة . وفيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك وعبادة الأوثان ، وإنكار البعث ، منكر باطل ، تنكره قلوبهم ، وأنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل . ولا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة ، والدين دين الفطرة .
قال الشهاب : شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به ، فيكون فيه تشبيه لذلك بالماء المرويّ للعطش .

(/)


وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ 16 - 19 ]
{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي : لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي ، لتأخذه على عجلة ، مخافة أن يتفلت منك .
{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي : في صدرك ، وإثبات حفظه في قلبك ، بحيث لا يذهب عليك منه شيء .
{ وَقُرْآنَهُ } أي : أن تقرأه بعدُ فلا تنسى { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي : أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام, { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي : كن مقفياً له ولا تراسله .
{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي : بيان ما فيه ، إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، أو أن نُبَيِّنَهُ على لسانك .
تنبيهات :
الأول : ما ذكرناه في تأويل الآية هو المأثور في "الصحيحين" وغيرهما ، ولفظ البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : < كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه إذا أنزل عليه > ، فقيل له : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } يخشى أن يتفلت منه { انا علينا جمعه } أن نجمعه في صدرك { وَقُرْآنَهُ } أي : تقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } يقول أنزل عليه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أن نبيّنه على لسانك . زاد في رواية : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، إذا أتاه جبريل استمع ، فإذا انطلق جبريل ، قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه .
قال ابن زيد : أي : لا تكلم بالذي أوحينا إليك حتى يقضى إليك وحيُه ، فإذا قضينا إليك وحيه ، فتكلم به . يعني : أن هذه الآية نظير قوله تعالى :
{ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] .
قال ابن كثير : وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، أن هذه الآية نزلت في ذلك ، وأنها تعليم من الله عز وجل لرسوله كيفية تلقيه الوحي .
الثاني : ذكروا في مناسبة وقوع الآية معترضة في أحوال القيامة - على تأويلهم المتقدم - وجوهاً :
منها : تأكيد التوبيخ على ما جبل عليه الْإِنْسَاْن - والمرء مفتون بحب العاجل - حتى جعل مخلوقاً من عَجَل ، ومن محبة العاجل ، وإيثاره على الآجل ، تقديم الدنيا الحاضرة على الآخرة ، الذي هو منشأ الكفر والعناد ، المؤدي إلى إنكار الحشر والمعاد ؛ فالنهي عن العجلة في هذا يقتضي النهي فيما عداه ، على آكد وجه . وهذه مناسبة تامة بين ما اعترض فيه وبينه ، قاله الشهاب .
ومنها : أن عادة القرآن ، إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد ، حيث يعرض يوم القيامة ، أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً ، كما قال في الكهف :
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [ الكهف : 49 ] ، إلى أن قال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا للنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ } [ الإسراء : 89 ] الآية . وقال في طه :
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] ، إلى أن قال : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] .
ومنها : أن أول السورة لما نزل إلى قوله :
{ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } صادف أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل ، وحرَّك به لسانه من عجلته خشية من تفلته ، فنزلت : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } إلى قوله : { ثم انا علينا بيانه } ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدأ به .
قال الفخر الرازي : ونحوه ما لو ألقى المدرِّس على الطالب مثلاً مسألة ، فتشاغل الطالب بشيء عرض له فقال له : ألق إليّ بالك ، وتفهم ما أقول ، ثم كمَّل المسالة ، فمن لا يعرف السبب يقول : ليس هذا الكلام مناسب للمسالة ، بخلاف من عرف ذلك . قاله الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " .
الثالث : استدلوا على التأويل السابق بقوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، كما هو مذهب الجمهور لما تقتضيه { ثُمَّ } من التراخي . وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب ، وتبعوه . وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى ، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له ، وظهوره على لسان ، فلا !
قال الآمدي : يجوز أن يراد البيان التفصيلي ، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي ، فلا يتم الاستدلال . وتعقب باحتمال إرادة المعنيين : الإظهار والتفصيل وغير ذلك ، لأن قوله : { بَيَانَهُ } جنس مضاف ، فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه ، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك . قاله الحافظ في" الفتح" .
وجوز القفال أن تكون { ثُمَّ } للترتيب في الإخبار . أي : إنا نخبرك بأن علينا بيانه ، فلا تدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب . وضعفه الرازي بأنه ترك للظاهر من غير دليل .
الرابع : ما قدمناه من معنى قوله تعالى :
{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } إلخ ، وما استفيد منه ، وما قيل في مناسبته لما قبله ، كله إذا جرى على المأثور فيها . وحاول القفال معنى فقال كما نقله عنه الرازي : إن قوله تعالى :
{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } ليس خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الْإِنْسَاْن المذكور في قوله : { يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، فكان ذلك حال ما ينبأ بقبائح أفعاله ، وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له : { اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] . فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف ، وسرعة القراءة ، فيقال له : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } فإنه يجب علينا بحكم الوعد ، أو بحكم الحكمة ، أن نجمع أعمالك عليك ، وأن نقرأها عليك ، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه ، بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال ، ثم إن علينا بيان أمره ، وشرح مراتب عقوبته .
وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية : أن المراد منه ، أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله ، على سبيل التفصيل . وفيه أشد الوعيد في الدنيا ، وأشد التهويل في الآخرة .
ثم قال القفال : فهذا وجه حسن ، ليس في العقل ما يدفعه ، وإن كانت الآثار غير واردة به . انتهى .
ونقل الشهاب أن بعضهم ارتضى هذا الوجه ، وقدمه على الوجه السابق .
وزعم الحافظ ابن حجر أن الحامل على هذا الوجه الأخير هو عسر بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من أحوال القيامة أي : ولما بيّن الأئمة المناسبة التي أثرناها عنهم ، لم يبق وجه للذهاب إلى هذا الوجه الأخير ، مع أن هذا الوجه - هو فيما يظهر - فيه غاية القوة والارتباط به قبله وما بعده ، مما يؤثر على المأثور ، الذي قد يكون مدركه الاجتهاد ، والوقوف مع ظاهر ألفاظ الآية . ومما يؤيد ما أورد عليه أن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال ؛ لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ البعث النبوي ، ولم يكن ابن عباس وُلد حينئذ . ولا مانع - كما قال ابن حجر - أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد ، فيراه ابن عباس ، أو يخبر به ، فيكون من مراسيل الصحابة ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ 20 - 25 ]
{ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } أي : الدنيا العاجلة ، بإيثار شهواتها { وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ } أي : بالإعراض عن الأعمال التي تورث منازلها ، أو تنسون الآخرة ووعيدها ، وهول حسابها وجزائها .
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } أي : حسنة جميلة من النعيم .
{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : مشاهدة إياه ، ترى جمال ذاته العلية ، ونور وجهه الكريم ، كما وردت بذلك الأخبار والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } أي : كالحة ، لجهامة هيئاتها ، وهول ما تراه هناك من الأهوال ، وأنواع العذاب والخسران .
{ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } أي : داهية تفصِم فقارَ الظهر ، لشدتها وسوء حالها ووبالها . وشتان ما بين المرتبتين ! ويظهر أن في عود الضمير من { بِّهَا } إلى الوجوه - مراداً بها الذوات - شبه استخدام ، ولم أر من نبَّه عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [ 26 - 30 ]
{ كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ } أي : بلغت النفس أعالي الصدر . وإضمارها - وإن لم يجر لها ذكر - لدلالة السياق عليها ، كقول حاتم :
~أماويّ مَا يُغْني الثَّراءُ عَنِ الفَتَى إذا حَشرَجَتْ يَوْمَاً وَضاقَ بِها الصدَّرُ
قال الرازي : يكنى ببلوغ النفس التراقي ، عن القرب من الموت ، ومنه قول دريد ابن الصمة :
~ورب عظيمة دافعتُ عنها وقد بلَغَتْ نفوسُهُمُ التَّراقِي
ونظيره قوله تعالى : { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } [ الواقعة : 83 ] { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قال ابن جرير : أي : وقال أهله : من ذا يَرقيه ليشفيه مما قد نزل به ، وطلبوا له الأطباء والمداويين ، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل به شيئاً . أي : فالاستفهام بمعنى الطلب لراقٍ أو طبيب . وجوز كونه بمعنى الإنكار ، يأساً من أن يقدر أحد على نفعه برقية أو عوذة .
لطيفة :
قال الواحدي : إن إظهار النون عند حروف الفم لحن ، فلا يجوز إظهار نون { مَنْ } في قوله :
{ مَنْ رَاقٍ } وروى حفص بن عاصم إظهار النون في قوله :
{ مَنْ رَاقٍ } و { بَلْ رَانَ } قال أبو علي الفارسي : ولا أعرف وجه ذلك . قال الواحدي : والوجه أن يقال : قصد الوقف على { مَنْ } و { بَلَ } فأظهرهما ، ثم ابتدأ بما بعدهما . وهذا غير مرضي من القراءة . انتهى .
نقله الرازي .
{ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ } أي : وأيقن الذي قد نزل ذلك به أنه فراق الدنيا والأهل والمال .
{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } أي : الْتوَت ساقه بساقه ، فلا يقدر على تحريكها . وقيل : هما ساقاه ، إذا التفتا في الكفن . وقيل : الساق عبارة عن الشدة ، كما مر في سورة القلم . والتعريف للعهد أيضاً .
قال الشهاب : فإن قلت : ما مرّ هو الكشف عن الساق ، ووجه ظاهر ، لأن المصاب يكشف عن ساقه ، فكيف ينزل هذا عليه ؟
قلت : الأمر كما ذكرت ، لكنه شاع فيه ، ففهم ذلك من السياق وحده ، حتى صار عبارة عن كل أمر فظيع ، كما أشار إليه الراغب ، انتهى .
{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } أي : سوقه إلى حكمه تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [ 31 -40 ]
{ فَلَا صَدَّقَ } أي : بالدِّين والكتاب . أو صدق ماله ، أي : ما زكَّاه { وَلَا صَلَّى } أي : الصلاة التي هي رأس العبادات ، التي سها عنها .
{ وَلَكِن كَذَّبَ } أي : بدل التصديق { وَتَوَلَّى } أي : بدل الصلاة التي بها كمال التوجه إلى الله تعالى : { ثُمَّ } أي : مع هذه التقصيرات في جنب الله تعالى :
{ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } أي : يتبختر في مشيته . وأصله يتمطط ، أي : يتمدد ، لأن المتبختر يمد خطاه .
تنبيهات :
الأول : الضمير في الآيات للإنسان المتقدم في قوله تعالى :
{ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ }
الثاني : قال الرازي : إنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه ، وفيما يتعلق بدنياه . أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين, ولكن كذب به . وأما ما يتعلق بفروع الدين فهو أنه ما صلى ، ولكنه تولى ، وأعرض . وأما ما يتعلق بدنياه ، فهو أنه ذهب على أهله يتمطى ويختال في مشيته .
الثالث : دلت الآية على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة ، كما يستحقهما بترك الإيمان .
الرابع : قال الرازي : قال أهل العربية : لا هاهنا في موضع لم ، فقوله :
{ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } أي : لم يصدق ولم يصلّ ، وهو كقوله :
{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } [ البلد : 11 ] ، أي : لم يقتحم .
وكذلك ما روي : < أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا استهل > . قال الكسائي : لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها ، حتى تتبعها بأخرى ، إما مصرحاً بها ، أو مقدراً . أما المصرح ، فلا يقولون لا عبد الله خارج ، حتى يقولوا : ولا فلان ، ولا يقولون : مررت برجل لا يحسن ، حتى يقولوا : ولا يجمل . وأما المقدر فهو كقوله :
{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } [ البلد : 11 ] ، ثم اعترض الكلام فقال :
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ } ، وكان التقدير : لا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ، فاكتفى به مرة واحدة . ومنهم من قال : التقدير في قوله :
{ فَلَا اقْتَحَمَ } أي : أفلا اقتحم ، وهلا اقتحم . انتهى .
{ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } أي : ويل لك مرة بعد مرة . دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه ولاءً متكرراً متضاعفاً .
وقيل : المعنى بُعْداً لك ، فبعداً في أمر دنياك ، وبعداً لك فبعداً في أمراً أخراك ، حكاه الرازي عن القاضي ، ثم قال : قال القفال : هذا يحتمل وجوهاً .
أحدها : أنه وعيد مبتدأ من الله للكافر .
والثاني : أنه شيء قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدوه - يعني أبا جهل - فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه ، فأنزل الله تعالى مثل ذلك .
والثالث : أن يكون ذلك أمراً من الله لنبيه بأن يقولها لعدو الله ، فيكون المعنى : ثم ذهب إلى أهله يتمطى ، فقل له يا محمد : أولى لك فأولى ، أي : احذر, فقد قرب منك مالا قِبل لك به من المكروه . انتهى . والأظهر هو الأول .
لطيفة :
تفسير { أَوْلَى لَكَ } بـ ويل لك ، قال الشهاب : هو محصل معناه المراد منه ، فإنه مثله ، فيرد للدعاء عليه ، أو للتهديد والوعيد .
وعن الأصمعي أنها تكون للتحسُّر على أمر فات .
هذا هو المعنى المراد لها . وأما الكلام في لفظها فقيل : هو فعل ماض دعائي من الوَلي ، واللام مزيدة . أي : أولاك الله ما تكرهه . أو غير مزيدة ، أي : أدنى الهلاك لك . وقريب منه قول الأصمعي : إن معناه قاربه ما يهلكه أن ينزل به . واستحسنه ثعلب .
وقيل : إنه اسم وزنه أفعل ، من الويل ، فقلب . وقيل فَعْلَى ، ولذا لم ينون . ومعناه ما ذكر ، وألفه للإلحاق لا للتأنيث . وعلى الاسمية هو مبتدأ ، و { لَكَ } الخبر . وقيل : إنه اسم فعل مبنيّ ، ومعناه وَلِيَك شر بعد شر .
ونقل الزمخشري عن أبي عليّ أنه عَلَمٌ لمعنى الويل ، وهو غير منصرف للعلمية ووزن الفعل . وقيل عليه : إن الويل غير متصرف ، ومثل يوم أيوم ، غير منقاس ، ولا يفرد عن الموصوف . وادعاء القلب من غير دليل لا يسمع ، وعلم الجنس خارج عن القياس ، فما ذكر بعيد من وجوه عدة . وقيل : الأحسن أنه أفعل تفضيل خبر لمبتدأ يقدر كما يليق بمقامه ، فالتقدير هنا : النار أولى لك ، يعني : أنت أحق بها ، وأهل لها . انتهى .
{ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } أي : همَلاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى ، مع أنه الْإِنْسَاْن الذي أودع العقل وعلِّم البيان ، وغرز في طبعه أن يعيش مجتمعاً ، وخص من المواهب ما فضل على غيره . فمن تمام الإحسان إليه إنقاذه من حيرته ، وإعلامه بسبيل هدايته ، وأن لا يترك خابطاً في متائه جهالته ، وقد كان ذلك بفضل الله ونعمته ، كما أشار لذلك بقوله : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى } أي : يصبّ في الرحم { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } أي : دماً { فَخَلَقَ } أي : قدّر أعضاءه { فَسَوَّى } أي : سوى تلك الأعضاء لأعمالها وعدّلها . { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ } أي : الصنفين { الذَّكَرَ وَالْأُنثَى } أي : لبقاء نوعه ، يعمر الدنيا إلى الأجل الذي كتبه وقدره .
{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } أي : فيوجدهم بعد مماتهم لعمارة الآخرة .
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : < سبحانك ، فبَلىَ > - رواه أبو داود عن رجل من الصحابة . ورواه أيضاً عن أبي هريرة بلفظ : من قرأ : { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } فانتهى إلى { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } فليقل : بلى . ورواه الإمام أحمد والترمذي أيضاً ، والله أعلم .

(/)


سورة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ 1 ]
{ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } أي : في ذلك الحين ، بل كان شيئاً منسيّاً ، نطفته في الأصلاب . والاستفهام للتقرير .
قال الشهاب : أي : الحمل على الإقرار بما دخلت عليه ، والمقرر به من ينكر البعث . وقد علم أنهم يقولون : نعم ، قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه ، فيقال لهم : فالذي أوجدهم بعد أن لم يكونوا ، كيف يمتنع عليه إحيائهم بعد موتهم ؟ والمراد بالْإِنْسَاْن جنس بني آدم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ 2 ]
{ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } أي : ذات أخلاط ، وهي موادها المؤلفة منها . جمع مشَج أو مشيج ، كسبب وأسباب ، ونصير وأنصار . أو مفرد ، كبرمة أعشار ، البرمة : القدر . وأعشار أي : منكرة كأنها صارة عشر قطع . انتهى { نَّبْتَلِيهِ } أي : نختبره . والجملة في موضع الحال أي : خلقناه مبتلين له ، أي : مريدين ابتلاءهُ ، لا عبثاً وسدى { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } أي : لننظر هل صرف سمعه وبصره إلى استماع آيات الله والنظر فيها . ولما كان تمام المنَّة بهما بهبة العقل ، وأشار إليه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ 3 ]
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } أي : سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك ، أي : عرّفناه وبيَّنا له ذلك ، بأدلة العقل والسمع { إِمَّا شَاكِراً } أي : بالاهتداء والأخذ فيه { وَإِمَّا كَفُوراً } أي : بالإعراض عنه . ونصبهما بـ : يكون مقدرة ، أي : ليكون إما شاكراً وإما كفوراً ، أي : ليتميز شكره من كفره ، وطاعته من معصيته ، كقوله :
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] .
قال الرازي : قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل : قد نصحت لك ، إن شئت فاقبل ، وإن شئت فاترك ، أي : فإن شئت فتحذف الفاء . فكذا المعنى { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } فإما شاكراً وإما كفوراً ، فتحذف الفاء . وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد . أي : إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر ، وإن شاء فليشكر ؛ فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا . كقوله :
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . انتهى .
لطيفة :
قال في " النهر " : لما كان الشكر قلّ من يتصف به قال : { شَاكِراً } ولما كان الكفر كثيراً من يتصف به ويكثر وقوعه من الْإِنْسَاْن بخلاف الشكر قال :
{ كَفُوراً } بصيغة المبالغة . انتهى .
وهذا ألطف من القول بمراعاة رؤوس الآي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً } [ 4 ]
{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا } أي : ليقادوا بها ويستوثق بها منهم شداً في الجحيم { وَأَغْلَالاً } أي : لتشد فيها أيديهم إلى أعناقهم { وَسَعِيراً } أي : ناراً تسعر عليهم فتتوقد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } [ 5 - 6 ]
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ } أي : الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه واجتناب معاصيه { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } أي : خمر ، أطلقت عليها للمجاورة { كَانَ مِزَاجُهَا } أي : ما تمزج به { كَافُوراً } قال ابن جرير : يعني في طيب رائحتها كالكافور . ولما كان الكافور من أطيابهم كان كناية عما يطيب به مما له عرف ذكي .
{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي : يثيرونها من منابعها في روض الجنة ، وإثارة مبهجة ، تفنناً في النعيم . و { عَيْناً } منصوب بنحو يؤتون ، والباء في { بِّهَا } بمعنى من . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [ 7 ]
{ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } استئناف مسوق لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم ، مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالاً ، كأنه قيل : ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية ؟ فقيل : يوفون بما أوجبوه على أنفسهم ، فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم ؟ { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ } أي : عذابه { مُسْتَطِيراً } منتشراً ظاهراً للغاية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [ 8 ]
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } أي : مع حب الطعام ، كقوله :
{ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] ، أو على حب الله تعالى ، لما سيأتي من قوله :
{ لِوَجْهِ اللَّهِ } [ الْإِنْسَاْن : 9 ] ، { مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } أي : مأسوراً من حرب أو مصلحة . وإنما اقتصر على الثلاثة لأنهم من أهم من تجدر الصدقة عليهم ؛ فإن المسكين عاجز عن الاكتساب لما يكفيه . واليتيم مات من يعوله ويكتسب له ، مع نهاية عجزه بصغره ، والأسير لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلةً .
قال في " الإكليل " : والآية تدل على أن إطعام المشرك ما يتقرب به إلى الله تعالى ، أي : لقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً } [ 9 ]
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } أي : قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال ، وإزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة ، وتوقع المكافأة ، أي : لا نقصد بإطعامكم إلا ثوابه تعالى والقربة إليه والزلفى عنده . وإطلاق الوجه على الذات مجاز مشهور { نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء } أي : مكافأة { وَلَا شُكُوراً } أي : ثناءً ومديحاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } [ 10 ]
{ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً } أي : عذاب يوم { عَبُوساً } أي : شديداً مظلماً . أو تعبس فيه الوجوه من شدة مكارهه وطول بلائه { قَمْطَرِيراً } أي : شديد العبوسة والكرب . وخوفهم من اليوم كناية عن عمل ما يؤمنهم فزعه وهوله ، من الصالحات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً } [ 11 - 13 ]
{ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ } أي : بسبب ما ذكر من خوفهم منه { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً } أي : في الوجوه { وَسُرُوراً } أي : في القلوب .
{ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا } أي : على طاعة الله واجتناب محارمه والدعوة لسبيله واحتمال الأذى { جَنَّةً وَحَرِيراً } أي : يلبسونه ويتزينون به .
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ } أي : السُّرر { لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً } أي : لا حراً ولا برداً ، من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } [ 14 - 16 ]
{ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا } أي : ظلال أشجارها ، أي : قريبة منهم ، مظلة عليهم ، زيادة في نعيمهم { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } أي : سهّلت ثمارها لمتناوليها . فلا يردّ أيديهم عنها بُعْدٌ ولا شوك .
{ وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ } جمع كوب ، وهو كوز لا أذن له :
{ كانت قواريرا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ } قال أبو البقاء : حسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلهما ، ولولا التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية ، لشدة اتصال الصفة بالموصوف { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } أي : في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم . فجاءت كما قدّروا ، أو قدرها لهم السقاة على قدر ريّهم لا يزيد ولا ينقص . وهو ألذّ للشارب ، لكونه على مقدار حاجته ، لا يفضل عنها ولا يعجز .
قال أبو حيان : أقرب من هذا ما نحاه أبو حاتم ، وهو أن أصله قدر ريهم منها تقديراً والري العطش ، فحذف المضاف وحرف الجر وأوصل الفعل له بنفسه .
قال الشهاب : وفي كونه أقرب ، نظر ، فإنه أكثر تكلفاً ، ولكن كل حزب بما لديهم فرحون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً } [ 17 - 18 ]
{ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } أي : ما يشبهه في الطعم . وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به .
{ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً } وهي شديدة الجرية المنسابة بنوع خاص بهيج . ونصب { عَيْناً } بنحو : يؤتون ، أو ينظرون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } [ 19 ]
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي : لا يموتون . أو دائم شبابهم لا يتغيرون عن تلك السن . أو مسوّرون . أو مقرَّطون .
{ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أي : لحسنهم وكثرتهم في منازلهم ، وانبثاثهم في منازه أماكنهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ 20 - 21 ]
{ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } أي : نظرت في الجنة ، ورميت بطرفك ما أوتي الأبرار { رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } أي : واسعاً لا ينفذه البصر .
{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ } وهو ما رقّ من الحرير { خُضْرٌ } قرئ بالرفع لـ { ثِيَابُ } وبالجر لـ { سُندُسٍ } { وَإِسْتَبْرَقٌ } وهو ما غلظ من الديباج . وفيه القراءتان ، رفعاً وجرّاً { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أي : ليس برجس كخمر الدنيا . أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة ، وتدوسه الأقدام الدنسة ، ولم يجعل في الدنان التي لم يُعْنَ بتنظيفها . والآية مما يستروح بها في نجاسة الخمر ، لما فيها من التعريض بها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } [ 22 ]
{ إِنَّ هَذَا } أي : ما عدّ من ثوابهم { كَانَ لَكُمْ جَزَاء } أي : على ما قدمتم من الصالحات { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } أي : مجازىً عليه غير مضيَّع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً } [ 23 ]
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً } أي : عظيماً لا يقدر قدره ، أي : فأمره الحق ووعده الصدق . والقصد تثبيت قلبه صلوات الله عليه ، وشرح صدره وتحقيق أن المنزل وحي ، وعدم المبالاة برميهم له بالسحر والكهانة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ 24 ]
{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : من الصدع به ، والتبليغ لآيه ، والعمل بأوامره { وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } أي : ولا تطع في معصيته تعالى من مشركي مكة ، من ركب الإثم وجاهر بالكفر ، ممن يريدك عن الرجوع عن دعوتك ، بما شئت من مال أو مطلب ، و { أَوْ } إما على بابها . أي : لا تطع من كان فيه أحد هذين الوصفين ، فالنهي عمن اجتمعا فيه يعلم بالطريق الأولى . وإما بمعنى الواو .
قال الفرّاء :
{ أَوْ } هاهنا بمنزلة الواو . وفي الجحد والاستفهام والجزاء يكون بمعنى لا ، فهذا من ذلك مع الجحد . انتهى .
وإما بمعنى بل إضراب إلى وصف هو به أخلق وأجدر . وإما للتخيير في التسمية أي : من شئتَ بالآثم أو الكفور ، لتحقق مفهومهما فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } [ 25 - 26 ]
{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } أي : بدعائه وتسبيحه والصلاة له { بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ }
أي : بالتهجد فيه { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } أي : مقداراً طويلاً ، نصفه أو زيادة عليه . وفي هذه الأوامر ، مع الأمر في أول المزمّل وأمثالها ما يدل على العناية بقيام الليل والحرص عليه .
ويأتي البحث المتقدم هنا أيضاً في أن الأمر خاص به صلوات الله عليه بناءً على أنه للوجوب ، أو يشمل غيره تبعاً وهو للقدر المشترك ، قولان معروفان في نظيره . والقصد حثه صلى الله عليه وسلم أن يستعين في دعوة قومه والصدع بما أمر به ، بالصبر على أذاهم والصلاة والتسبيح وقد كثر ذلك في مواضع من التنزيل كقوله :
{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } [ البقرة : 45 ] ، وقوله :
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 - 40 ] ، وأمثالهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ 27 ]
{ إِنَّ هَؤُلَاء } أي : المشركين { يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } أي : اللذات العاجلة ، فيسعون لها جهدهم ، وإن أهلكوا الحرث والنسل { وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } أي : شديداً ، لثقل حسابه وشدته وعسره .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } [ 28 ]
{ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } أي : خلقهم وأعضاء بناهم .
قال الشهاب : الأسر ، معناه لغة الشد ليقوى ، ويطلق أيضاً على ما يشد ويربط به ؛ ولذا سمي الأسير أسيراً بمعنى مربوطاً ، فشبهت الأعصاب بالحبال المربوط به ، ليقوى البدن بها أو لإمساكها للأعضاء ؛ ولذا سموها رباطات أيضاً .
{ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } أي : بإهلاكهم والإتيان بآخرين . وهذا محط الترهيب ، وما قبله كالتعليل له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ 29 ]
{ إِنَّ هَذِهِ } أي : السورة ، أو الآيات القريبة { تَذْكِرَةٌ } أي : عظة لمن اعتبر واتعظ { فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي : بالطاعة الموصلة لقربه ، وإيصال السبيل للمقاصد ، فهو تمثيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 30 - 31 ]
{ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ } قال ابن جرير : أي : وما تشاؤون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم ، لأن الأمر إليه لا إليكم ، أي : لأن ما لم يشأ الله وقوعه من العبد ، لا يقع من العبد ، وما شاء منه وقوعه ، وقع . وهو رديف : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، هذا تأويل السلف . وقالت المعتزلة : أي : وما تشاؤون الطاعة إلا أن يشاء الله بقسرهم عليها . والمسالة مبسوطة في الكلام . وقد لخصناها في " شرح لقطة العجلان " فارجع إليه .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً } أي : بأحوالهم وما يكون منهم { حَكِيماً } أي : في تدبيره وصنعه وأمره .
{ يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ } قال أبو السعود : بيان لإحكام مشيئته المترتبة على علمه وحكمته ، أي : يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ، وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى ، حيث يوفّقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة .
{ وَالظَّالِمِينَ } وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يعني عذاب النار . وقاناه الله بمنه وكرمه .

(/)


سورة المرسلات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْراً أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } [ 1 - 7 ]
{ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً } إقسام بالرياح المرسلة متتابعة كشعر العرف . أو بالملائكة المرسلة بأمر الله ونهيه ، وذلك هو العرف . أو بالرسل من بني آدم المبعوثة بذلك .
{ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } أي : الرياح الشديدات الهبوب ، السريعات الممرّ .
{ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً } أي : الرياح التي تنشر السحاب والمطر ، كما قال :
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] ، وقوله :
{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء } [ الروم : 48 ] ، أو الملائكة التي تنشر الشرائع والعلم والحكمة والنبوة والهداية في الأرض { فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أي : الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال الوحي والتنزيل . أو الآيات القرآنية التي تفرق كذلك . أو السحب التي نشرن الموات ففرقن بين من يشكر الله تعالى وبين من يكفر ، كقوله : { لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ الجن : 16 ] { فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أي : الملائكة الملقيات ذكر الله إلى أنبيائه ، المبلغات وحيه .
{ عُذْراً أَوْ نُذْراً } أي : إعذاراً من الله لخلقه ، وإنذاراً منه لهم ، مصدران بمعنى الإعذار والإنذار ، أي : الملقيات ذكراً للإعذار والإنذار ، أي : لإزالة إعذارهم ، وإنذارهم عقاب الله تعالى إن عصو أمره .
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } جواب القسم ، أي : إن الذي توعدون به من مجيء القيامة والجزاء لكائن نازل ، كقوله : { وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] ، أو من زهوق ما أنتم عليه من الباطل ، وظفر الحق بقرنه ، أو ما هو أعم . والأول أولى ؛ لإردافه بعلاماته ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ 8 - 15 ]
{ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ } أي : محقت أو ذهب ضياؤها ، كقوله :
{ انكَدَرَتْ } [ التكوير : 2 ] ، و { انتَثَرَتْ } [ الانفطار : 2 ] .
{ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ } أي : شققت وصدعت .
{ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ } أي : اقتلعت من أماكنها بسرعة فكانت هباءً منبثاً .
{ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } أي : أجّلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة للشهادة على أممهم والفوز بما وعدوه من الكرامة . والهمزة من { أُقِّتَتْ } مبدلة من الواو .
قال ابن جرير : وقرأه بعض قراء البصرة بالواو وتشديد القاف ، وأبو جعفر بالواو وتخفيف القاف . وكل ذلك قراءات معروفات ولغات مشهورات بمعنى واحد ، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب ، غير أن من العرب من يستثقل ضمة الواو ، كما يستثقل كسرة الياء في أول الحرف فيهمزها .
{ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } أي : أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب ، أي : يقال : لأي يوم أجلت ، فالجملة مقول قول مضمر ، هو جواب : إذا ، أو حال من مرفوع { أُقِّتَتْ } والمعنى ليوم عظيم أخرت أمور الرسل . وهو تعذيب الكفرة وإهانتهم ، وتعظيم المؤمنين ورعايتهم ، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أحوال الآخرة وأهوالها ، ولذا عظم شأن اليوم ، وهول أمره بالاستفهام . وقوله تعالى : { لِيَوْمِ الْفَصْلِ } بدل مما قبله ، مبين له . أو متعلق بمقدر ، أي : أجلت ليوم الفصل بين الخلائق . وقد قيل : لامه بمعنى إلى .
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ } أي : بين السعداء والأشقياء . والاستفهام كناية عن تهويله وتعظيمه .
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي : بيوم الفصل ، كما قال في سورة المطففين : { الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } [ المطففين : 11 ] ، والتكذيب به إنكار البعث له والحشر إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ 16 - 19 ]
{ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ } أي : الأمم الماضين المكذبين بالرسل والجاحدين بالآيات ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود .
{ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ } أي : من قوم لوط وموسى ، فنسلك بهم سبل أولئك ، وهو وعيد لأهل مكة .
{ كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الأخذ العظيم .
{ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } أي : بكل من أجرم وطغى وبغى .
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } قال ابن جرير : أي : بأخبار الله التي ذكرها في هذه الآية ، الجاحدين قدرته على ما يشاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ 20 - 24 ]
{ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ } أي : من نطفة ضعيفة .
{ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } أي : رحم استقر فيها فتمكّن .
{ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي : وقت معلوم لخروجه من الرحم .
{ فَقَدَرْنَا } قرئ بالتخفيف والتشديد ، أي : فقدرنا على ذلك أو قدّرناه { فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي : بقدرته تعالى على ذلك ، أو على الإعادة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً } [ 25 - 26 ]
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً } قال ابن جرير : أي : وعاء . تقول : هذا كفْتُ هذا وَكَفِيتُهُ إذا كان وعاءهُ . والمعنى : ألم نجعل الأرض كفات أحيائكم وأمواتكم ، تكفت أحياءكم في المساكن والمنازل فتضمهم فيها وتجمعهم ، وأمواتكم في بطونها في القبور فيدفنون فيها ؟ وجائز أن يكون عنى بقوله : { كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً } تَكْفِتُ أذاهُم في حال حياتهم ، وجِيَفَهُمْ بعد مماتهم . انتهى .
و الكفات إما اسم جنس لما يضم ويقبض ، يقال : كفَتَهُ اللَّهُ إليه أي : قبضه ؛ ولذلك سميت المقبرة كَفتَةً وِكِفاتاً . ومنه الضمام والجماع ، لما يضم ويجمع . يقال : هذا الباب جماع الأبواب .
وإما اسم آلة ؛ لأن فعالاً كثر فيه ذلك . أو مصدر كقتال أَوِّل بالمشتق ونعت به ، كرجل عدل . أو جمع كافت كصائم وصيام . أو كِفْت بكسر فسكون كقدح وقداح .
و { كِفَاتاً } منصوب على أنه مفعول ثان لـ : { نَجْعَلِ } أنها للتصيير ، و { أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً } منصوبان على أنهما مفعولان به لـ : { كِفَاتاً }
قال الشهاب : وهذا ظاهر على كون { كِفَاتاً } مصدراً أو جمع كافت ، لا على كونه اسم آلة فإنه لا يعمل ، كما صرح به النحاة ، وحينئذ فيقدر فعل ينصبه من لفظهِ ، كما صرح به ابن مالك في كل منصوب بعد اسم غير عامل . وثمة وجوه أخر .
تنبيه :
في " الإكليل " : قال الكيا الهراسي : عنى بالكفات الانضمام ، ومراده أنها تضمهم في الحالتين ، وهذا يدل على وجوب مواراة الميت فلا يرى منه شيء . وقال ابن عبد البّر : احتج ابن القاسم في قطع النباش بهذه الآية ؛ لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ ، فيكون حرزاً . انتهى .
ونقله القفّال عن ربيعة . وعندي أن مثل هذا الاحتجاج من الإغراق في الاستنباط وتكلف التماس ما يؤيد المذهب المتبوع كيفما كان ، مما يعد تعسُّفاً وتعصُّباً ، وبين فحوى الآية وهذا الاستنباط ما بين المنجد والمتهم . ومثله أخذ بعضهم من الآية السابقة { لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } تأجيل القضاة الخصوم في الحكومات ، ليقع فصل القضاء عند تمام التأجيل ، كما نقله في " الإكليل " عن ابن الفَرَس . ومآخذ الدين والتشريع ليست من الأحاجي والمعميات . وبالله التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ 27 - 28 ]
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } أي : جبالاً شاهقات { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً } أي : عذباً
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ 29 ]
{ انطَلِقُوا } أي : يقال لهؤلاء المكذبين بهذه النعم والحجج التي احتج بها عليهم يوم القيامة : انطلقوا { إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي : من عذاب الله للكفرة والفجرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ 30 - 40 ]
{ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ } أي : فِرَق ، وذلك دخان جهنم المرتفع من وقودها ، إذا تصاعد تفرّق شعباً ثلاثاً ، لعظمه .
قال الشهاب : فيه استعارة تهكمية لتشبيه ما يعلو من الدخان بالظل ، وفيه إبداع ، لأن الظل لا يعلو ذا الظل .
وقوله تعالى : { لَا ظَلِيلٍ } تهكم بهم ؛ لأن الظل لا يكون إلا ظليلاً ، أي : مظللاً ؛ فنفيه عنه للدلالة على أن جعله ظلاً تهكم بهم ، ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم ، فنفي هذا الاحتمال بقوله :
{ لَا ظَلِيلٍ } { وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ } أي : لا يردّ عنهم من لهب النار شيئاً . والمعنى أنه لا يظلهم من حرّها ولا يكنّهم من لهبها .
{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } أي : تقذف كل شررة كالقصر في عظمها ، والقصر واحد القصور .
قال ابن جرير : العرب تشبّه الإبل بالقصور المبنية ، كما قال الأخطل في صفة ناقة :
~كأنها بُرْجُ رُومِيّ يُشَيدُهُ لُزَّ بِجِصٍّ وآجُرَّ وأحْجَارِ
ثم قال : وقيل : { بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } ولم يقل : كالقصور . والشرر جمع ، كما قيل :
{ سيهزم الجمع ويولون الدبر } ولم يقل : الأدبار لأن الدبر بمعنى الأدبار ؛ وفعل ذلك توفيقاً بين رؤوس الآي ومقاطع الكلام ؛ لأن العرب تفعل ذلك كذلك وبلسانها نزل القرآن .
{ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ } وقرئ : { جمالات } جمع جمال ، جمع جمل ، أو جمع جمالة ، جمع جمل أيضاً ، ونظيرهُ : رجال ورجالات ، وبيوت وبيوتات ، وحجارة وحجارات .
{ صُفْرٌ } أي : في لونها ، فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر . وقيل : صفر أي : سود .
قال قتادة وغيره : أي : كالنوق السود ، واختاره ابن جرير : زاعماً أنه المعروف من كلام العرب { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ } أي : بحجة ، أو في وقت من أوقاته ؛ لأنه يوم طويل ذو مواقف ومواقيت . أو جعل نطقهم كلا نطق ، لأنه لا ينفع ولا يسمع فلا ينافي آية { وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، و { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] ، و { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] , { وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } أي : لا يمهد لهم الإذن في الاعتذار ، لعدم قبول معذرتهم بقيام الحجة عليهم . وإنما لم يقل : فيعتذروا ؛ محافظة على رؤوس الآي . وقيل : هو معطوف على { يُؤْذَنُ } منخرط معه في سلك النفي ، والمعنى : ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له ، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن .
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ } أي : الحق بين العباد { جَمَعْنَاكُمْ } أي : حشرناكم فيه { وَالْأَوَّلِينَ } أي : من الأمم الهالكة .
{ فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ } أي : احتيال للتخلص من العذاب { فَكِيدُونِ } أي : فاحتالوا له .
قال الزمخشري : تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه ، وتسجيل عليهم بالعجز والاستكانة .
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي : فإنه لا حيلة لهم في دفع العقاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ } [ 41 - 46 ]
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } أي : الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه { فِي ظِلَالٍ } أي : كنان من الحرّ والقرّ { وَعُيُونٍ } أي : أنهار تجري خلال أشجار .
{ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي : يرغبون ، مقولاً لهم : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ } أي : في طاعتهم وعبادتهم وعملهم
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ } أي : حظكم حظ من أجرم ، وهو الأكل والتمتع أياماً قلائل ، ثم البقاء في الهلاك أبداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ 47 - 50 ]
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } أي : اخضعوا لهذا الحق الذي نزل ، وتواضعوا لقبوله ، واخشعوا لذكره ، { لَا يَرْكَعُونَ } أي : لا يخضعون ولا ينقادون ولا يقبلون ، تجبراً واستكباراً
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي : الذين كذبوا رسل الله ، فردوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم ونهيه لهم . وتكرير آية { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } للتأكيد ، وهو من المقاصد الشائعة . وقيل : لا تكرار ، لاختلاف متعلق كل منهما . وتقدم تمام البحث في سورة الرحمن ، فارجع إليه في خاتمتها .
أي : بعد هذا القرآن ، إذا كذبوا به ، مع وضوح برهانه وصحة دلائله ، في أنه حق منزل من عنده تعالى . وفيه تنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه ، فضلاً عن أن يفوقه ويعلوه ، فلا حديث أحق بالإيمان منه .

(/)


سورة النبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيم ِ *الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } [ 1 - 3 ]
{ عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } أي : هؤلاء المشركون بالله ورسوله . قال ابن جرير : وذلك أن قريشاً جعلت - فيما ذكر عنها - تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الإقرار بنبوته ، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى ، والإيمان بالبعث ؛ فقال الله تعالى لنبيه : فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون ؟ .
و في و عن في هذا الموضع بمعنى واحد . انتهى .
والاستفهام للتفخيم أو للتبكيت . والتفاعل إما على بابه ، أو هو بمعنى فَعَل ، والمعنى على الأول : يتساءلون فيما بينهم ، وعلى الثاني : يسألون الرسول صلوات الله عليه وسلام ، أو المؤمنين . قيل : مجيء تفاعل بمعنى فعل إذا كان في الفاعل كثرة ، مراعاة لمعنى التشارك بقدر الإمكان ، ونوقش بأن تفاعل يكون بمعنى فعل كثيراً وإن لم يتعدد فاعله ، كتوانى زيد وتدانى الأمر ، بل حيث لا يمكن التعدد نحو : { تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 63 ] .
وقوله : { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } بيان للمفخم شأنه ، أو للمبكت من أجله .
{ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } أي : منقسمون ، بعضهم يجحدهُ وآخر يرتاب فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } [ 4 - 5 ]
{ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } ردع للمتسائلين ووعيد لهم ؛ والتكرير للمبالغة لحذف مفعول العلم ، فإما أن يقدر سيعلمون حقيقة الحال وما عنه السؤال ، أو سيعلمون ما يحلُّ بهم من العقوبات والنكال ؛ فتكريره مع الإبهام ، يفيد مبالغة . وفي { ثُمَّ } إشعار بأن الوعيد الثاني أشد ؛ لأنها هنا للبعد والتفاوت الرتبيّ ، فكأنه قيل : ردع وزجر لكم شديد ، بل أشد وأشد . وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله .
ولذا خص عطفه بـ { ثُمَّ } غالباً . هذا ملخص ما في " العناية " .
ثم ذكّرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً } [ 6 - 11 ]
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً } أي : فراشاً وموطئاً تتمهدونها وتفترشونها .
{ وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً } أي : للأرض ، أي : أرسيناها بالجبال كما يَرسي البيت بالأوتاد ؛ حتى لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهاداً بسبب ذلك . قال الإمام مفتي مصر : وإنما كانت الجبال أوتاداً لأن بروزها في الأرض كبروزِ الأوتاد المغروزة فيها ؛ ولأنها في تثبيت الأرض ومنعها من المَيَدان والاضطراب ، كالأوتاد في حفظ الخيمة من مثل ذلك ، كأن أقطار الأرض قد شدت إليها ، ولولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب بما في جوفها من الموادّ الدائمة الجيَشان .
{ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } أي : ذكوراً وإناثاً . قال الإمام : ليتمَّ الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة وحفظ النسل وتكميله بالتربية .
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أي : راحة ودَعَة ، يريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها . إطلاقاً للملزوم وهو السبات بمعنى النوم ، وإرادة لّلازم وهو الاستراحة . وقيل : السبات هو النوم الممتد الطويل السكون ؛ ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم : إنه مسبوت وبه سبَات . ووجه الامتنان بذلك ظاهر ؛ لما فيه من المنفعة والراحة ، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئاً من الراحة . وقد أفاض السيد المرتضى في" أماليه" في لطائف تأويل هذه الآية .
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً } أي : كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد ، وستره لهم .
قال الرازي : ووجه النعمة في ذلك أن ظلمة الليل تستر الْإِنْسَاْن عن العيون إذا أراد هرباً من عدوّ أو بياتاً له ، أو إخفاء ما لا يحب الْإِنْسَاْن إطلاع غيره عليه قال المتنبي :
~وكمْ لِظَلامِ الليلِ عنْديَ منْ يَدٍ تخبِّر أن المانوية تَكْذِبُ
وأيضاً ، فكما أن الْإِنْسَاْن بسبب اللباس ، يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع عنه أذى الحر والبرد ، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الْإِنْسَاْن وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية ، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة .
{ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً } أي : وقت معاش ؛ إذ فيه تتقلب الخلق في حوائجهم ومكاسبهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } [ 12 - 16 ]
{ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } قال الرازي : أي : سبع سماوات شداداً جمع شديدة ، يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان ، لا فطور فيها ولا فروج .
وقال الإمام : السبع الشداد : الطرائق السبع ، وهي ما فيه الكواكب السبعة السيارة المشهورة ؛ وخصها بالذكر لظهورها ومعرفة العامة لها .
{ وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } أي : متلألئاً وقَّاداً ، يعني الشمس .
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } أي : السحائب إذا أعصرت ، أي : شارفت أن تعصرها الرياح .
{ مَاء ثَجَّاجاً } أي : منصباً متتابعاً .
{ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } قال ابن جرير : الحَبُّ كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد . والنبات : الكلأ الذي يُرعى من الحشيش والزروع .
وقال الزمخشريّ : يريد ما يُتقوَّت من نحو الحنطة والشعير ، وما يعلف من التبن والحشيش . كما قال : { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } [ طه : 54 ] .
{ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } أي : حدائق ملتفة الشجر ، مجتمعة الأغصان .
قال الرازي : قدم الحَب لأنه الأصل في الغذاء ، وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه ؛ وأخر الجنات لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية ، ثم قال : وكان الكعبي من القائلين بالطبائع . فاحتجَّ بقوله تعالى :
{ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً } إلخ على بطلان قول من قال : إنه تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر ، أي : ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه- سبحانه - بحكمته الباهرة نظامَ العمران .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [ 17 - 18 ]
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } أي : يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء ، باعتبار تفاوت الأعمال ، وهو يوم القيامة { كَانَ } أي : عند الله وفي علمه وحكمه { مِيقَاتاً } أي : حداً معيناً ووقتاً مؤقتاً ، ينتهي الخلق إليه ليرى كلٌ جزاء عمله
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } بدل من { يَوْمَ الْفَصْلِ } أو عطف بيان ، كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد ، ورجوعها بها إلى الحياة والحشر في الآخرة ، كما قال القاشاني والشهاب .
وقال الإمام : النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق :
{ فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] ، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور ، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور .
{ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } أي : فِرَقاً مختلفة ، كل فرقة مع إمامهم ، على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } [ 19 - 20 ]
{ وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً } قال ابن جرير : أي : وشققت السماء فصدعت ، فكانت طُرقاً ، وكانت من قبلُ شداداً لا فطورَ فيها ولا صدوع .
وقال القاضي فيما نقله الرازيّ : وهذا الفتح هو معنى قوله :
{ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ } [ الانشقاق : 1 ] و { إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] ؛ إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب ، وهذا كما قال ابن جرير : متين للغاية ، وتعقب الرازي له ، وقوف مع الألفاظ لا يفيد ، لا سيما والأصل هو التفسير بالنظائر والأشباه .
{ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } أي : رفعت من أماكنها في الهواء ، وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء متصاعدة كالهباء . وفي الآية تشبيه بليغ ، والجامع أن كلاً منهما يُرى على شكل شيء ، وليس به ، فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك ، والجبال إذا فتتت وارتفعت في الهواء ترى كأنها جبال وليست بجبال ، بل غبار غليظ متراكم ، يرى من بعيد كأنه جبل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا* ل َّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقًا * جَزَاء وِفَاقاً } [ 21 - 26 ]
{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } أي : موضع رصد ، يرصد فيه خزنتها من كان يكذب بها وبالمعاد . على أن { مِرْصَاداً } اسم مكان ، أو مجدّة في ترصدهم وارتقاب مقدمهم ، على أنه صيغة مبالغة .
{ لِلْطَّاغِينَ مَآباً } أي : للذين طغوا في الدنيا ، فتجاوزوا حدود الله استكباراً على ربهم ، منزلاً ومرجعاً يصيرون إليه .
{ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً } أي : دهوراً متتابعة إلى غير نهاية ، كقوله :
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } [ الأحزاب : 65 ] , { لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } أي : روحاً وراحة { وَلَا شَرَاباً }
{ إِلَّا حَمِيماً } أي : ماءً حارّاً انتهى غليانُه { وَغَسَّاقاً } أي : صديداً ، وهو ما يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها ، فيُسقَونه .
{ جَزَاء وِفَاقاً } أي : جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لما ارتكبوه من الأعمال وقدَّموه من العقائد والأخلاق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } [ 27 - 29 ]
{ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً وكذبوا باياتنا كذابا } قال القاشاني : أي : ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات ، أي : لفساد العمل والعلم ، فلم يعملوا صالحاً رجاء الجزاء ، ولم يعملوا علماً فيصدقوا بالآيات .
{ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } قال القاشاني : أي : كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم .
وقال الرازيّ : المراد من قوله : { كِتَاباً } تأكيد ذلك الإحصاء والعلم ، وهذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر ؛ فإن المكتوب يقبل الزوال ، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال ؛ لأنه واجب لذاته . انتهى .
وهو بمعنى ما نقله الشهاب ، أنه تمثيل لإحاطة علمه بالأشياء لتفهيمنا ، وإلا فهو تعالى غني عن الكتابة والضبط . ومذهب السلف الإيمان بهذه الظواهر وتفويض تأويلها إلى الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْساً دِهَاقًا* ل َّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّابًا * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً } [ 30 - 36 ]
{ فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً } أي : يقال لهم ذاك ؛ تقريعاً وغضباً وتأنيباً لهم من تخفيف العذاب ، وإعلاماً بمضاعفته .
ولما ذكر وعيد الكفار ، تأثره بوعد الأبرار بقوله سبحانه :
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } أي : فوز بالنعيم ، ونجاة من النار التي هي مآب الطاغين .
{ حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً } الحدائق جمع حديقة ، وهي البستان فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به . والأعناب معروفة . قال ابن جرير : أي : وكروم وأعناب ، فاستغنى بالأعناب عنها .
{ وَكَوَاعِبَ } أي : بنات فلّكت ثديّهن ، أي : استدارت مع ارتفاع يسير { أَتْرَاباً } أي : متساويات في السِّن .
{ وَكَأْساً دِهَاقاً } أي : ملأى من خمر لذة للشاربين .
{ لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا } أي : في الجنة { لَغْواً } أي : باطلاً من القول { وَلَا كِذَّاباً } أي : مكاذبة ، أي : لا يكذب بعضهم بعضاً .
قال الإمام : اللغو والتكذيب مما تألَّم له أنفس الصادقين ، بل هو من أشد الأذى لقلوبهم ، فأراد الله إزاحة ذلك عنهم .
{ جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء } أي : جزاء لهم على صالح أعمالهم ، تفضُّلاً منه تعالى بذلك الجزاء { حِسَاباً } أي : كافياً ، أو على حسب أعمالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } [ 37 ]
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } قال ابن جرير : أي : لا يملكون أن يخاطبوا اللهَ . قال : والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه . وقال غيره : أي : لا يملِّكهم اللهُ منه خطاباً في شأن الثواب والعقاب ، بل هو المتصرِّف فيه وحده ، وهذا كما تقول : ملكت منه درهماً فـ : من ابتدائية متعلقة بـ { يَمْلِكُونَ } ، وعلى ما ذكره ابن جرير من أن المعنى : لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب ، فـ { مِنْهُ } صلة { خِطَاباً } كما تقول : خاطبت منك ، على معنى : خاطبتك ، كبعت زيداً ، أو بعت من زيد ، فـ { مِنْهُ } بيان مقدم على المصدر لا صلة { يَمْلِكُونَ } ، وقد قرئ : رب ، و : الرحمن بالجر والرفع . وقرئ بجر الأول ورفع الثاني .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً } [ 38 - 39 ]
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ } أي : جبريل عليه السلام ، وهو المعبَّر عنه بروح القدس في آية أخرى ، وفيه أقوال أخُر نقلها ابن جرير . وما ذكرناه أصوبها ؛ والتنزيل يفسر بعضه بعضاً . ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي اختياره ، قال : لأن القرآن دلَّ على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام . وثبت أن القيام صحيح من جبريل ، والكلام صحيح منه ، ويصح أن يؤذن له ، فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه ، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام ؟ ! وقوله تعالى :
{ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً } قال القاشانيّ : أي : صافِّين في مراتبهم ، كقوله تعالى :
{ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] .
وقال الرازيّ : يحتمل أن يكون المعنى صفاً واحداً ، ويحتمل أنه صفان ، ويجوز صفوفاً . والصف في الأصل مصدر ، فينبئ عن الواحد والجمع ، ورجح بعضهم الأخير لآية : { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، انتهى .
وقوله تعالى :
{ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً } أي : لا يتكلمون في الشفاعة كقوله :
{ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، والضمير للملائكة أو أعم كقوله :
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ هود : 105 ] .
قال الزمخشري : هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذوناً له في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب ، فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] .
{ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } أي : الواقع الذي لا يمكن إنكاره . و { الْحَقُّ } صفة أو خبر .
{ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً } قال ابن جرير : أي : فمن شاء اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحق ، والاستعداد له والعمل بما فيه ، النجاةَ له من أهواله ، مرجعاً حسناً يؤوب إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [ 40 ]
{ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } يعني عذاب الآخرة وقربه ؛ لأن مبدأه الموت { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي : من خير أو شرّ ، أي : ينظر جزاءه :
{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } أي : مثله لم أصب حظّاً من الحياة ؛ لما يلقى من عذاب الله الذي أعدَّّ لأمثاله . وقاناه اللهُ بمنِّه وكرمِه .

(/)


سورة النازعات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [ 1 - 5 ]
{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً } يعني الغزاة أو أيديهم ، يقال للرامي : نزع في قوسه ، إذا مدَّها بالوتر ، و : نزع في قوسه فأغرق ، و : أغرق النازع في القوس ، إذا استوفى مدَّها ، ويضرب مثلاً للغلوّ والإفراط . و { غَرْقاً } بمعنى إغراقاً كالسلام بمعنى التسليم ، وهو الإغراق بحذف الزوائد . أو { النازعات } الكواكب . من : نزع الفرس سنناً ، جرى طلقا ، أي : الجاريات على السير المقدر والحدّ المعين ، مجدَّةً في السير ، مسرعة للغاية .
{ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } أي : الخيل لأنها تخرج من دار إلى دار ، من قولهم : ثور ناشط ، إذا خرج من بلد إلى بلد . أو هي السهام ، يعني خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها ، وكل شيء حللت فقد نشطته ، ومنه : نشاط الرجل وهو انبساطه وخفته ، أو الكواكب تنشط من بُرْج على برج .
{ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً } أي : الخيل تسبح في عَدْوها فتسبق إلى العدّو ، وهو مستعار من : سبح في الماء ، لكنه ألحق بالحقيقة لشهرته . أو هي الكواكب تسبح في الفلك ؛ لأن مرورها في الجو كالسبح ، كما قال تعالى :
{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] , { فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً } أي : الخيل تسبق إلى العدوّ في حَوْمة الوَغَى ، أو الكواكب السيارة تسبق غيرها في السير ، لكونها أسرع حركة .
{ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } أي : الخيل . أسند إليها أمر تدبير الظفر مجازاً لأنها سببه . أو المدبرات مثل المعقبات ، أي : أنه يأتي في أدبار هذا الفعل- الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها - الأمرُ الذي هو النصر ، أو هي الكواكب تدبر أمراً نيط بها ، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات ، مجازاً أيضاً . لأنها سببه ، أو هي الملائكة تدبر ما نيط بها من أمر الله تعالى . وقد جوّز فيما قبلها أن تكون الملائكة أيضاً . واللفظ الكريم متسع لما ذكر من المعاني بلا تدافع . ولا إمكان للجزم بواحد ؛ إذ لا قاطع ، ولذا قال ابن جرير : الصواب عندي أن يقال : إنه تعالى أقسم بالنازعات غرقا ، ولم يخصص نازعة دون نازعة . فكلُّ نازعة غرقاً ، فداخلة في قسَمه مَلَكاً أو نجماً أو قوساً أو غير ذلك . وكذا عم القَسَم بجميع الناشطات من موضع إلى موضع ، فكلُّ ناشط فداخل فيما أقسم به ، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها ، بأن المعنى بالقسم من ذلك بعض دون بعض ، وهكذا في البقية . وكلامه رحمه الله متجه للغاية ؛ إذ فيه إبقاء اللفظ على شموله ، وهو أعم فائدة وعدم التكلف للتخصيص بلا قاطع . وإن كانت القرائن واستعمال موادها في مثلها وشواهدها ، مما قد يخصص الصيغ . إلا أن التنزيل الكريم يُتَوَقَّى في التسرع فيه ما لا يُتَوُقى في غيره .
لطائف :
قال أبو السعود : العطف مع اتحاد الكل ، بتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله :
~إلى الملِكِ القَرْمِ وابن الهُمَامِ ولَيْث الكتَيبةِ في المُزْدَحَمْ
للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيقٌ بأن يكون على حياله مُناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام ، بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه . والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة .
و { غَرْقاً } مصدر مؤكد بحذف الزوائد . وانتصاب { نَشْطاً } و { سَبْحاً } و { سَبْقاً } أيضاً على المصدرية ، وأما { أَمْراً } فمفعول للمدبرات ، وتنكيره للتهويل والتفخيم . والمقسم عليه محذوف ، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه ، وهو : لنبعثنَّ ، وبه تعلق قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } [ 6 - 10 ]
{ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } أي : الواقعة التي ترجف عندها الأجرام الساكنة ، أي : تتحرك حركة شديدة وتتزلزل زلزلة عظيمة ، فالإسناد إليها مجازي لأنها سببه ، أو التجوز في الطرف يجعل سبب الرجف راجفاً ، أو الراجفة الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذٍ كالأرض والجبال ؛ فتسميتها راجفة باعتبار الأول . قال الشهاب : ولو فسرت الراجفة بالمحركة جاز ، وكان حقيقة ؛ لأن رجف يكون بمعنى حرّك وتحرّك .
{ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } أي : السماء وما فيها ، تردفها فتنشق وتنتثر الكواكب ، ولوقوع ذلك فيها بعد الرجفة الأولى جعلت رادفة لها ، أو الرادفة النفخة الثانية لبعث يوم القيامة .
قال الحسن : هما النفختان : أما الأولى فتميت الأحياء ، وأما الثانية فتحيي الموتى ، ثم تلا الحسن :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] ,
{ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } أي : شديدة الاضطراب ، خوفاً من عظيم الهول النازل .
{ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي : أبصار أهلها ذليلة ، مما قد علاها من الكآبة والحزن ، من الخوف والرعب .
وقوله تعالى : { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } قال ابن جرير : أي : يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش - إذا قيل لهم : إنكم مبعوثون من بعد الموت- : أئنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات ، فراجعون أحياءً كما كنا ؟ وقال أبو السعود : حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به ، إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي ، وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار . أي : يقولون - إذا قيل لهم : إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه- : أئنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة ؟ أي : في الحالة الأولى . يعنون الحياة ، من قولهم : رجع فلان في حافرته ، أي : في طريقته التي جاء فيها فحفرها ، أي : أثر فيها بمشيه . وتسميتها حافرة مع أنها محفورة كقوله تعالى : { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ، أي : منسوبة إلى الحفر والرضا ، أو كقولهم : نهاره صائم ، على تشبه القابل بالفاعل ، أي : شبه القابل للفعل بمن يفعله ، لتنزيله منزلته ؛ فالاستعارة في الضمير المستتر ، وإثبات الحافرية له تخييل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } [ 11 - 14 ]
{ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } أي : بالية . وقرئ : ناخرة ، من : نخر العظم ، بلي ، فصار يمرّ به الريح فيسمع له نخير .
وقوله تعالى : { قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } أي : ذات خسر ، أو خاسرة أصحابها ، أي : إن صحت فنحن إذاً خاسرون . قال ابن زيد : وأيُّ كرة أخسر منها ؟ أحيوا ثم صاروا إلى النار ، فكانت كرة سوء . وقال أبو السعود : هذا حكاية لكفر آخر لهم ، متفرع على كفرهم السابق ، ولعل توسيط { قَالُوا } بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار ، مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنها في كافة أوقاتهم ، حسبما ينبئ عنه حكايته بصيغة المضارع ، أي : قالوا ذلك بطريق الاستهزاء ، مشيرين إلى ما أنكروه من الردة في الحافرة .
وقوله تعالى { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم لإحياء العظام النخِرة التي عبَّروا عنها بالكرّة ، فإن مداره لمَّا كان استصعابهم إياها ، رد عليهم ذلك ، فقيل : لا تستصعبوها فإنما هي صيحة واحدة ، أي : حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية . وفيه تهوين لأمر الإعادة على وجه بليغ لطيف .
{ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } أي : على ظهر الأرض أحياء .
قال ابن جرير : والعرب تسمي الفَلاة ووجه الأرض ساهرة ، قال : وأراهم سموا ذلك بها لأن فيه نوم الحيوان وسهرها ؛ فوصف بصفة ما فيه . وقيل : لأن السراب يَجري فيها ، من قولهم : عين ساهرة ، للتي يجري ماؤها ، وفي ضدها نائمة . والسهر على الأول بمعناه المعروف ، والتجوز في الإسناد .
وفي الثاني مجاز على المجاز ، لشهرة الأول التي ألحقته بالحقيقة . ثم ذكّر سبحانه الكفرة ما حلَّ بمن هو أشد منهم قوة لمَّا طغوا ؛ ترهيباً وإنذاراً ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [ 15 - 16 ]
{ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } أي : خبره حين ناجاه ربُّه تعالى . قال أبو السعود : ومعنى { هَلْ أتَاكَ } إن اعتُبر هذا أولُ ما أتاه صلى الله عليه وسلم من حديثه عليه السلام ، ترغيب له في استماع حديثه ، كأنه قيل : هل أتاك حديثه ؟ أنا أخبرك به . وإن اعتُبر إتيانه قبل هذا ، وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص ، حمله صلى الله عليه وسلم على أن يقرّ بأمر يعرفه قبل ذلك ، كأنه قيل : أليس قد أتاك حديثه ؟
وقال الشهاب : المقصود من الاستفهام التذكير لا التقرير ، كما قيل . ولا مجافاة في المعنى على كلٍّ ، كما لا يخفى
{ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } إلى حين ناداه بالوادي المطهَّر المبارك ، وهو وادٍ في أسفل جبل طور سَيناء من برِّية فلسطين .
{ إِذْ } ظرف للحديث لا للإتيان ، لاختلاف وقتيهما { طُوًى } اسم لذلك الوادي ، ومصدر لنادى ، أو المقدس ، أي : ناداه ندائين ، أو المقدس مرة بعد أخرى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ 17 - 19 ]
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : عَتا وتجاوز حدَّه في العدوانِ على بني إسرائيل ، وانتحالِ صفات الربوبية ، ونسبتها إلى نفسه .
{ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أن تَزَكَّى } أي : تتزكى وتتطهر من دنس الشرك والطغيان . و { إِلَى } متعلقة بمبتدأ محذوف . أي : هل لك سبيل أو رغبة إلى أن تتزكى ؟
وقال أبو البقاء : لما كان المعنى : أدعوك ، جيء بـ : { إِلَى } فجعل الظرف متعلقاً بمعنى الكلام ، أو بمقدر يدل عليه .
{ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ } أي : أرشدك إلى علم يُرضيه عنك ، وذلك الدين القيم { فَتَخْشَى } أي : عقابه من سلب الملك وإذاقة البأس مكان النعم ، وذلك بأداء ما ألزمك من فرائضه واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه . وفيه إشارة إلى أن الخشية مسبِّبة عن العلم ، كما في آية : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [ فاطر : 28 ] أي : العلماء به .
قال الزمخشريّ :
ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر ؛ مَن خشي اللهَ أتى منه كل خير ، ومن أمِن اجترَأ على كلِّ شر . وبدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ؟ وأردفه الكلام الرفيق ؛ ليستدعيه بالتلطف في القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوِّه . كما أمر بذلك في قوله : { فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] ، انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } [ 20 - 26 ]
{ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى } أي : الدلالة الكبرى على أنه لله رسولٌ أرسله إليه . والفاء فصيحة تفصح عن جُمَل قد طويت ، تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى ، أي : فذهب وبلّغ ورجع وتحدَّى فأراه الآية الكبرى ، وهو على ما قاله مجاهد : عصاهُ ويَدهُ ، أي : عَصاه إذ تحولت ثعباناً مبيناً ، ويده إذ أخرجها بيضاء للناظرين ؛ وإفرادهما لأنهما كالآية الواحدة في الدلالة ، أو هي العصا لأنها كانت المقدمة والأصل . والبقية كالتبع . وقيل : وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل ، أو هو للزيادة المطلقة .
{ فَكَذَّبَ وَعَصَى } أي : فكذب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة ، ودعاها سحراً ، وعصاه فيما أمره به من طاعة ربِّه وخشيته إياه .
{ ثُمَّ أَدْبَرَ } أي : أعرض عما هدي إليه ، أو انصرف عن المجلس كِبراً { يَسْعَى } أي : يجدّ في معارضة الآية بالمكايد الشيطانية والحيَل النفسانية ، أو أدبر بعد ما رأى الثعبان ، مرعوباً مسرعاً في مشيه .
{ فَحَشَرَ } أي : جمع السحرة ، أو قومه وأتباعه { فَنَادَى } أي : في المجمع بنفسه أو بمنادٍ .
{ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } أي : على كلِّ من يلي أمركم . وفي " التنوير " : أي : أنا ربكم وربُّ أصنامكم الأعلى فلا تتركوا عبادتها .
قال القاضي : وقد كان الأليق به ، بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حيَّةً ، أن لا يقول هذا القول ؛ لأن عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } ؟ فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول . انتهى .
وهذا على أنه أراد بالربِّ الخالق والموجد ، والظاهر أن مراده ذو السلطان الأعلى والنفوذ الأقوى ، وأنه الذي يستأهل الطاعة دون غيره . ولا يخفى ما فيه من جحود قدرة الله تعالى التي هي فوق قدرته ، والكفر بآية موسى والصد عن دعوته ؛ ولذا أُخذ أشد الأخذ ، فإنه لم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر ، عند خروجهم من مصر ، فأغرقه الله تعالى في البحر ، وهو معنى قوله تعالى { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى } أي : عذبه عذابهما ، أي : أن أخذه لم يكن مقصوراً على الإغراق وحده ، بل نكّل به وعذبه عذاب يوم القيامة . و { نَكَالَ } مفعول مطلق أخذ ، بتأويل في الأول أو في الثاني ، والإضافة من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة . وقيل : الآخرة هي قوله : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } ، والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية .
قال القفال : وهذا كأنه هو الأظهر ؛ لأنه تعالى قال : { فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } فذكر المعصيتين ثم قال : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى } فظهر أن المراد أنه عاقبه على هذين الأمرين . انتهى .
وما ذكره القفال كان وقع في قلبي قبل أن أراه . وأُراني في إيثار له .
ثم ختم تعالى القصة بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } أي : في أخذه وما أحلَّ به من العذاب والخزي ، عظة ومعتبراً لمن يخاف الله ويخشى عقابه ، ويعلم أن هذه سنته في كل من يقاوم الحق ويحاربه ؛ فإن نبأ الأولين عبرة للآخرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ( 31 وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } [ 27- 33 ]
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء } خطاب للمكذبين بالبعث من قريش ، المتقدم قولهم أول السورة ، بطريق التبكيت ، لتنبيههم على سهولته في جانب القدرة الربانية ؛ فإن من رفع السماء على عِظمِها ، هيِّنٌ عليه خلقهم وخلق أمثالهم ، وإحياؤهم بعد مماتهم .
كما قال سبحانه : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] ، وقوله تعالى :
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [ يس : 81 ] ، ثم بين كيفية خلقها بقوله :
{ بَنَاهَا } قال ابن جرير : أي : رفعها فجعلها للأرض سقفاً . وقال الإمام : البناء ضمُّ الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض ، مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة ، وهكذا صنع الله بالكواكب ، ووضع كلاً منها على نسبة من الآخر ، مع ما يمسك كلاً في مداره ، حتى كان عنها علَم واحد في النظر ، سمي باسم واحد وهو السماء التي تعلونا ، وهو معنى قوله :
{ رَفَعَ سَمْكَهَا } أي : أعلاه ، و السمك قامة كلِّ شيء ، وقد رفع تعالى أجرامها فوق رؤوسنا { فَسَوَّاهَا } عدلها بوضع كل جِرم في موضعه .
{ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أي : جعله مظلماً . قال ابن جرير : أضاف الليل إلى السماء ، لأن الليل غروب الشمس ، وغروبها وطلوعها فيها ؛ فأضيف إليها لما كان فيها ، كما قيل : نجوم الليل ، إذ كان فيه الطلوع والغروب .
{ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي : أبرز نهارها ، و الضحى : انبساط الشمس وامتداد النهار ؛ وإيثار الضحى لأنه وقت قيام سلطان الشمس وكمال إشراقها .
{ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد تسوية السماء على الوجه السابق ، وإبراز الأضواء { دَحَاهَا } أي : بسطها ومهدها لسُكنى أهلها ، وتقلُّبهم في أقطارها .
{ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا } أي : بأن فجَّر منها عيوناً وأجرى أنهاراً { وَمَرْعَاهَا } أي : رعْيها وهو النبات .
قال الشهاب : والمرعى ما يأكله الحيوان غير الْإِنْسَاْن ، فأريد به هنا - مجازاً - مطلق المأكول للإنسان وغيره ؛ فهو مجاز مرسل .
وقال الطيبي : يجوز أن يكون استعارة مصرحة ؛ لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة قوله :
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } كأنه قيل : أيها المعاندون الملزوزون في قُرَن البهائم ، في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة .
{ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي : أثبتها فيها .
{ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } أي : انتفاعاً إلى حين . قال أبو السعود : ونصبه إما على أنه مفعول له ، أي : فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم ؛ لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى واصلةٌ إليهم وإلى أنعامهم . فإن المراد بالمرعى ما يعم ما يأكله الْإِنْسَاْن وغيره كما تقدم ، وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر ، أي : متعكم بذلك متاعاً ، أو مصدر من غير لفظه ، فإن قوله تعالى :
{ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا } في معنى متع بذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ 34 - 41 ]
{ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } أي : الداهية العظمى التي تطمُّ على كل هائلة من الأمور ، فتغمر ما سواها بعظيم هولها ، وهي القيامة للحساب والجزاء .
{ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى } أي : ما عمل من خير أو شر ، وذلك بعرضه عليه .
{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } أي : أظهِِرت نارُ اللهِ لأبصار الناظرين .
{ فَأَمَّا مَن طَغَى } أي : أفرط في تعديه ومجاوزته حدَّ الشريعة والحق إلى ارتكاب العصيان والفساد والضلال .
{ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : متاعها وشهواتها ، على كرامة الآخرة وما أعدَّ فيها للأبرار .
{ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } أي : مأواه ومرجعه .
{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أي : مقامه بين يديه للسؤال ، أو جلاله وعظمته ، أي : اتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } أي : فيما يكرهه الله ولا يرضاه منها ، فخالفها إلى ما أمره به .
{ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } أي : مصيره يوم القيامة ، وجواب إذا محذوف ؛ لدلالة التقسيم عليه ، تقديره : ظهرت الأعمال ، أو انقسم الناس قسمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ 42 - 46 ]
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } أي : إقامتها ، أي : متى يُقيمها الله ويكوِّنها .
قال الناصر : وفيه إشعار بثقل اليوم كقوله :
{ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الْإِنْسَاْن : 27 ] ، ألا تراهم لا يستعملون الإرساء إلا فيما له ثقل ، كمرْسَى السفينة ، وإرساء الجبال .
{ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } أي : في أي : شيء أنت من ذكر ساعتها لهم ؟ أي : ليس إليك ذِكرُها لأنها من الغيوب ، فلا معنى لسؤالهم إياك عنها .
ولذا قال : { إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا } أي : منتهى علمِها .
{ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } أي : ما بعثت إلا لإنذار من يخاف حسابها ، وعقاب الله على إجرامه . ولم تكلف علمَ وقت قيامها .
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي : كأن هؤلاء المكذبين بها وبما فيها من الجزاء والحساب ، يوم يشاهدون وقوعها ، من عظيم هولها ، لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا ساعة من نهار ، بمقدار عشية أو ضحاها . وإضافة الضحى إلى العشية ، لِما بينهما من الملابسة ؛ لاجتماعهما في يوم واحد .

(/)


سورة عبس
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } [ 1- 2 ]
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى }
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال : < بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وكان يتصدى لهم كثيراً ، ويحرص عليهم أن يؤمنوا > ، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له : عبد الله بن أم مكتوم ، يمشي وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرئ النبيَّ صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن وقال : يا رسول الله ! علِّمني مما علمك الله < فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه ، وتولى وكرِه كلامه ، وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه > وأخذ ينقلب إلى أهله ، أمسك اللهُ بعض بصره وخفق برأسه ثم أنزل الله تعالى :
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى } الآيات ؛ فلما نزل فيه ما نزل < أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّمه ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ما حاجتك ؟ هل تريد من شيء ؟ وإذا ذهب من عنده قال : هل لك حاجة في شيء > ؟
قال ابن كثير : وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة والضحاك وابن زيد وغير واحد من السلف والخلف ، أنها نزلت في ابن أم مكتوم ، والمشهور أن اسمه عبد الله ، ويقال : عمرو . والله أعلم . انتهى .
وقال الرازي : أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول صلوات الله عليه ، وأجمعوا أن الأعمى هو ابن أم مكتوم . قال الشهاب : وهو مكيّ قرشي من المهاجرين الأولين .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدينة في أكثر غزواته . وكان ابنَ خال خديجة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها .
وقيل : عميَ رضي الله عنه بعد نور . وقيل : ولد أعمى ؛ ولذا لقبت أمُّه أم مكتوم . والتعرض لعنوان عماه ؛ إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم ، وإما لزيادة الإنكار ، كأنه قيل : تولى لكونه أعمى . وكان يجب أن يزيده لعماه ، تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى } [ 3 - 10 ]
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } أي : يتطهر - بما يتلَقن منك - من الجهل أو الإثم . وفي الالتفات إلى الخطاب إنكار للمواجهة بالعتب أولاً ؛ إذ في الغيبة إجلال له صلى الله عليه وسلم ؛ لإيهام أن من صَدر منه ذلك غيره ، لأنه لا يصدر عنه مثله ؛ كما أن في الخطاب إيناساً بعد الإيحاش ، وإقبالاً بعد إعراض .
وقال أبو السعود : وكلمة لعلَّ مع تحقق التزكي واردةٌ على سنن الكبرياء ، أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ؛ للتنبيه على أن الإعراض عنه عند كونه مرجوَّ التزكي ، مما لا يجوز ، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكي ؟ كما في قولك : لعلك ستندم على ما فعلت . وفيه إشارة إلى أن إعراضه كان لتزكية غيره . وأن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً .
{ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } أي : يعتبر ويتعظ فتنفعه موعظتك . وتقديم التزكية على التذكر من باب تقديم التخلية على التحلية .
{ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى } أي : بماله وقوته عن سماع القرآن والهداية والموعظة .
{ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى } أي : تعرض بالإقبال عليه ، رجاء أن يسلم ويهتدي .
{ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } أي : وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام ؛ إنْ عليك إلا البلاغ . قال الرازي : أي : لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم ، إلى أنْ تعْرِض عمن أسلم ، للاشتغال بدعوتهم .
{ وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى } أي : يسرع في طلب الخير .
{ وَهُوَ يَخْشَى } أي : يخاف اللهَ ويتقيه .
{ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى } أي : تعرض وتتشاغل بغيره .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجلس العلم وقضاء حوائجهم ، وعدم إيثار الأغنياء عليهم . وقال الزمخشري : لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدباً حسناً . فقد روي عن سفيان الثوريّ رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراءَ .
الثاني : في هذه الآيات ونحوها دليل على عدم ضنِّه صلى الله عليه وسلم بالغيب . قال ابن زيد : كان يقال : لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم من الوحي شيئاً ، كتم هذا عن نفسه .
الثالث : قال الرازي : القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية ، وقالوا : لمّا عاتبه الله في ذلك الفعل دل على أن ذلك الفعل كان معصية . وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين ، إلا بحسب هذا الاعتبار الواحد ، وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء . وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه السلام ، وإذا كان كذلك ، كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل ؛ فلم يكن ذلك ذنباً البتة .
وأجاب الإمام ابن حزم في " الفِصَل " بقوله : وأما قوله :
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى } الآيات ، فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ، ورجا إسلامه . وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناسٌ كثير وأظهرَ الدين ، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته ، وهو حاضر معه ؛ فاشتغل عنه - عليه السلام- بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته ، وهذا غاية النظر في الدِّين والاجتهاد في نُصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله ، الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأُجر ؛ فعاتبه الله عز وجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يُقبل على ذلك الأعمى الفاضل البَر التقي ، وهذا نفس ما قلناه . انتهى .
وقال القاشاني : كان صلى الله عليه وسلم في حِجر تربية ربِّه ، لكونه حبيباً ، فكما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق ، عوتب وأدب كما قال : < أدَّبني ربِّي فأحسَن تأديبي > إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ* م َّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } [ 11 - 17 ]
وقوله سبحانه : { كَلَّا } ردْعٌ عن المعاتَب عليه وعن معاودة مثله . قال أنس رضي الله عنه : < كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه > رواه أبو يعلى . وقوله تعالى { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي : أن المعاتبة المذكورة موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها .
قال الشهاب : وكون عتابه على ما ذكر عظة ؛ لأنه مع عظمة شأنه ومنزلته عند الله إذا عوتب على مثله . فما بالك بغيره ؟ وجوّز عود الضمير للآيات وللسورة ، والوصية بالمساواة بين الناس ، ولدعوة الإسلام . وقوله تعالى :
{ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي : حفظه . على أنه من الذِّكر خلاف النسيان : أو اتعظ به ، من : التذكير .
قال الزمخشري : وذكّر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ . وقيل : الضمير للقرآن ، والكلام استطراد .
{ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } يعني صحف آيات التنزيل وسوره .
{ مَّرْفُوعَةٍ } أي : عالية المقدار { مُّطَهَّرَةٍ } من التغيير والنقص والضلالة .
{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } جمع سافر بمعنى سفير . أو هو الذي سعى بين قومه بالصلح والسلام . يقال : سفر بين القوم ، إذا أصلح بينهم ، ومنه قوله :
~وما أدعُ السفارَةَ بين قومي وما أَمْشي بِغِشٍّ إن مَشَيْتُ
والسفرة ، إما الملائكة لأنهم يسفرونَ بالوحي بين الله تعالى ورسله ، كأنه محمول بأيديهم ، وإما الأنبياء لأنهم وسائط في الوحي يبلغونه للناس .
{ كِرَامٍ } أي : عنده تعالى لاصطفائهم للرسالة { بَرَرَةٍ } أي : أخيار ، جمع : بارٍّ ، وهو صانع البِر والخير .
{ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } قال الرازي : اعلم أنه تعالى لمَّا بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين ، عجّب عباده المؤمنين من ذلك ، فكأنه قيل : وأيُّ سبب في هذا العجب والترفع ؟ مع أنّ أوله نطفه قذرة وآخره جيفةٌ مَذِرة وفيما بين الوقتين حمَّال عَذِرة ؛ فلا جرم ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم ، وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم ؛ فإن خلق الْإِنْسَاْن تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع وعلى القول بالبعث والحشر والنشر ، ومرجعه إلى أن المراد بالْإِنْسَاْن من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به . وجوز أن يراد بالْإِنْسَاْن الجنس المنتظم للمستغني ، ولأمثاله من أفراده ، لا باعتبار جميع أفراده .
لطائف :
الأولى : قال الزمخشري :
{ قُتِلَ الْإِنْسَاْن } دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم ؛ لأن القتل قُصارى شدائد الدنيا وفظائعها .
الثانية : قال ابن جرير : في قوله :
{ مَا أَكْفَرَهُ } وجهان : أحدهما التعجب من كفره مع إحسان الله إليه وأياديه عنده . والآخر ما الذي أكفره ، أي : أي : شيء أكفره ؟ ، وعلى الثانية فالهمزة للتبصير كأَغدَّ البعيرُ .
الثالثة : قال الزمخشري في هذه الآية : ولا ترى أسلوباً أغلظ منه ولا أخشن منتناً ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطاً في المذمة ، مع تقارب طرفيه ، ولا أجمع للأئمة ، على قِصر متنه ؛ وسرُّه ما أشار له الرازي من أن قوله :
{ قُتِلَ الْإِنْسَاْن } تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب . وقوله :
{ مَا أَكْفَرَهُ } تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات .
الرابعة : أفاد في " الكشف " أن الدعاء ليس على حقيقته ، لامتناعه منه تعالى ، لأن منشأه العجز ، فالمراد به إظهار السخط باعتبار جزئه الأول ، وشدة الذم باعتبار جزئه الثاني ، أي : لاستحالة التعجب بمعناه المعروف أيضاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِنْ أي : شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [ 18 - 21 ]
وقوله تعالى : { مِنْ أي : شَيْءٍ خَلَقَهُ } شروع في بيان إفراطه في الكفر ، بتفصيل ما أفاض عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النِّعم الموجب لقضاء حقها بالشكر والطاعة ، مع إخلاله بذلك .
وفي الاستفهام عن مبدأ خلقه ، ثم بيانه بقوله تعالى :
{ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } تحقير له ، أي : من أي : شيء حقير مَهين خلقه ؟ من نطفة مذرة خلقه { فَقَدَّرَهُ } أي : فهيَّأه لِما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال ، أو فقدره أطواراً إلى أن تمَّ خلقه .
{ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } أي : سهَّله ، وهو مَخرجه من رَحِم أمّه بعد اجتنانه وتعاصيه . أو سبيل الإسلام .
قال ابن زيد : هداه للإسلام الذي يسَّره له وأعلمه به ، أي : بما غرز في فطرته من الخير ، وأودع في غريزته من وجدان معرفة الخالق . وقال مجاهد : يعني سبيل الشقاء والسعادة وهو كقوله :
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } [ الْإِنْسَاْن : 3 ] ، واختاره أبو مسلم قال : المراد من هذه الآية هو المراد من قوله :
{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا ، وبين كل خير وشر يتعلق بالدِّين ، أي : جعلناه متمكناً من سلوك سبيل الخير والشر . والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب ، نقله الرازي .
{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي : جعله ذا قبر يوارى فيه ؛ تكرمةً له ، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض للطير والسباع ، كالحيوان . قال الفراء : ولم يقل : فقبره ؛ لأن القابر هو الدافن بيده ، والمقبر هو الله تعالى يقال : قبر الميت ، إذا دفنه ، و : أقبر الميت ، إذا أمر غيرهُ بأن يجعله في القبر .
وقال ابن جرير : القابر هو الدافن الميت بيده ، كما قال الأعشى :
~ولو أسندت ميتاً إلى نحْرِها عاشَ ولم ينقل إلى قابِرِ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْبًا * وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* م َّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } [ 22 - 32 ]
{ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ } أي : بعثه بعد مماته وأحياه ؛ وإنما قال :
{ إِذَا شَاء } لأن وقت البعث غير معلوم لأحد ، فهو مَوكُول إلى مشيئته تعالى ، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم .
قال الشهاب : وتخصيص النشور به دون الإماتة والإقبار ، لأن وقتهما معين إجمالاً ، على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية .
{ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } قال ابن جرير : أي : ليس الأمر كما يقول الْإِنْسَاْن الكافر ، من أنه قد أدّى حقَّ الله عليه في نفسه وماله ، فإنه لمّا يؤد ما فرَض عليه من الفرائض ربُّهُ .
وقال القاشاني : لمَّا بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين تعجَّب من كفران الْإِنْسَاْن واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير . وعدد النِّعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس ، من مبادئ خلقته ، وأحواله في نفسه ، وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به . وقرر أنه مع اجتماع الدليلين ، أي : النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره ، وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن ، لما يقض في الزمان المتطاول ما أمره الله به من شكر نعمته ، باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل ، والتوصل بها إلى المنعم ، بل احتجب بها وبنفسه عنه . انتهى .
ولما فصل تعالى النعم المتعلقة بحدوثه ، تأثرها بتعداد النعم المتعلقة ببقائه .
فقال سبحانه : { فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } أي : فإن لم يشهد خلق ذاته ، وعمي عن الآيات في نفسه ، وأصر على جحوده توحيدَ ربِّه ، فلينظر إلى طعامه ومأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه . ماذا صنعنا في إحدائه وتهيئته لأنْ يكون غذاءً صالحاً .
وقوله تعالى :
{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء } أي : من المُزن { صَبّاً } أي : شديداً ظاهراً . وقد قرئ بكسر همزة إنا ، على الاستئناف المبيِّن لكيفية حدوث الطعام ، وبالفتح على البدلية ، بدل اشتمال ، بمعنى سببية الأول للثاني أو تقوم الثاني بالأول . فهو من اشتمال الثاني عليه أو بدل كلّ ، ادّعاءً .
{ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً } أي : صدَعْناها بالنبات ، أو شققنا أجزاءها بعد الريّ ليتخلل الهواء والضباء في جوفها .
{ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } يعني حَبَّ الزرع ، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب .
{ وَعِنَباً وَقَضْباً } وهو كل ما أكل من النبات رطباً ، كالقثاء والخيار ونحوهما . سمي قضباً لأنه يقضب ، أي : يقطع مرة بعد أخرى .
{ وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ } جمع حديقة وهي البساتين ذوات الأشجار المثمرة ، عليها حوائط تحيط بها { غُلْباً } جمع غَلباء ، أي : ضخمة عظيمة ، وعِظمها إما لاتساعها البالغ حدَّ البصر ، أو لغلظ أشجارها وتكاثفها والتفافها .
{ وَفَاكِهَةً } أي : ما يؤكل من ثمار الأشجار { وَأَبّاً } وهو المَرعى الذي تأكله البهائم من العُشب والنبات .
{ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } أي : تمتيعاً . مفعول له لـ : أنبتنا ، أو مصدر حذف فعله وجُرِدَ من الزوائد ، أي : متعكم بذلك متاعاً ، وجعلكم تنتفعون به أنتم وأنعامكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } [ 33 - 42 ]
{ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ } يعني الداهية الشديدة ، وهي صيحة القيامة وصوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان . يقال صخّه يصخه ، ضرب أذنه فأصمَّها ، وصاح بهم صيحة تصخّ الآذان ، وقد صخ صخيخاً ، وهو صوته إذا قرع . وصخ لحديثه إذا أصاخ له بمعنى : استمع ، كما في " الأساس " ، ويجوز على الأخير أن تجعل بمعنى المستمعة ، مجازاً في الإسناد . وجواب إذا محذوف يدل عليه ما بعده ، كيشتغل كلٌّ بنفسه ، أو افترق الناس : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِه } أي : زوجته .
{ وَبَنِيهِ } أي : لاشتغاله بنفسه ؛ وعلمه بأنهم لا ينفعونه . قال الشهاب : يعني أن الإقبال عليهم إما للنفع أو للانتفاع ، وكلاهما منتفٍ لاشتغاله بنفسه عن نفس غيره ، وعلمه بعدم نفعه . وتأخير الأحبّ فالأحب للمبالغة ؛ فهو للترقي ، كذا قيل .
قال الشهاب : والظاهر أنه لم يقصد ذلك لاختلاف الناس والطباع فيه .
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي : يكفيه في الاهتمام به ، كأنه ذلك الهم الذي نزل به قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهمٍّ آخر ، فصار شبيهاً بالغني .
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } أي : مضيئة .
{ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي : مسرورة بنيل كرامة الله والنعيم المتزايد ، وهي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وقدَّموا من الخير والعمل الصالح ما ملؤوا به صحفَهم .
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أي : غبار وكدورة .
{ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي : تغشاها ظلمة .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } أي : الفسَقة الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله ، وركبوا من محارمه ، فجوزوا بسوء أعمالهم وخبث نياتهم .

(/)


سورة التكوير
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ 1 - 9 ]
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } أي : أزيلت من مكانها ، وُألقيت عن فلكها ، ومُحي ضوؤها
{ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ } أي : تنثرت وانقضّت .
{ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ } أي : رفعت عن وجه الأرض ونُسفت ، من أثر الرجفة والزلزال الذي قطع أوصالها .
{ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } أي : تُركت مهملة لا راعي لها ولا طالب . والعشار جمع عُشَرَاءَ وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ؛ وخصها لأنها أنفس أموالهم ، أي : فإذا هذه الحوامل التي يتنافس فيها أهلها أهملت ، فتركت من شدة الهول النازل بهم ، فكيف بغيرها ؟ !
{ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أي : جمعت من كل جانب واختلطت ، لِما دهم أوكارها ومكامِنها من الزلزال والتخريب ، فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض وتقطع أوصالها .
{ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } أي : ملئت بتفجير بعضها إلى بعض ، حتى تعود بحراً واحداً . من : سجر التنور ، إذا ملأه بالحطب . كقوله : { وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ } وقيل : المعنى تأججت ناراً ، قال القفال : يحتمل أن تكون جهنم في قعور البحار, فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا ، فإذا انتهت مدة الدنيا ، أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار ، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك . وأوضحه الإمام بقوله : وقد يكون تسجيرها إضرامها ناراً . فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزق طبقاتها العليا ، أما الماء فيذهب عند ذلك بخاراً ولا يبقى في البحار إلا النار . أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار . ورد أن < البحر غطاء جهنم > ، وإن لم يعرف في صحيحها . ولكن البحث العلمي أثبت ذلك . ويشهد عليه غليان البراكين وهي جبال النار . انتهى .
قال الرازي : واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا ، ويمكن وقوعها أيضاً بعد قيام القيامة ، وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين ، أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة . انتهى .
{ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي : قرنت الأرواح بأجسادها ، أو ضمت إلى أشكالها في الخير والشر ، وصُنِّفَت أصنافاً ليحشر كل إلى من يجانسه من السعداء والأشقياء .
{ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } يعني البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن ، قال السيد المرتضى في " أماليه " : الموءودة هي المقتولة صغيرة ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات ، بأن يدفنوهنَّ أحياء ، وهو قوله تعالى { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } [ النحل : 59 ] ، وقوله تعالى { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 140 ] ، ويقال أنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين : أحدهما أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإملاق . قال الله تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ } [ الأنعام : 151 ] . قال المرتضى : وجدت أبا علي الجبائيّ وغيرَه يقول : إنما قيل لها : موءودة ؛ لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت ، وفي هذا بعض النظر ؛ لأنهم يقولون من الموءودة وَأَدَ يَئِدُ وَأْداً ، والفاعل وائِد ، والفاعلة وائِدة ، ومن الثقل يقولون : آدَني الشيء يؤودني ، إذا أثقلني ، أَوْداً . انتهى .
وإنما قال : بعض النظر ؛ لأن القلب معهود في اللغة ، فلا يبعد أن يكون وأد مقلوباً من آد . وقال المرتضى : فإن سأل سائل : كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل ، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك ، وما وجه الحكمة فيه ؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها ، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان ، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة . فالقتَلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة ، لا المقتولة ، وإنما المقتولة مسؤول عنها . ويجري هذا مجرى قولهم : سألت حقي ، أي : طالبت به ومثله ، على تعالى :
{ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 34 ] أي : مطالَباً به مسؤولاً عنه .
والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة ، على سبيل التوبيخ له ، والتقريع له ، والتنبيه له ، على أنه لا حجة له في قتلها . ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام :
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } [ المائدة : 116 ] على طريق التوبيخ لقومه ، وإقامة الحجة عليهم . فإن قيل على هذا الوجه : كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم ؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول ، إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب ، لم يمتنع أن يقع ، وإن لم يكن من الموءودة فهم له ؛ لأن الخطاب ، وإن علق عليها وتوجه إليها ، والغرض في الحقيقة به غيرها ، قالوا : وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلاً من ولده فأقبل على ولده يقول له : ُضربتَ ما ذنبك وبأي شيء استحلَّ هذا منك ؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل . والأولى أن يقال في هذا : أن الأطفال ، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة ، أن يكونوا كاملي العقول ، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب ، فإن كان الخير متظاهراً والأمَّة متفقة على أنهم في الآخرة وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال ، وأن عقولهم تكون كاملة ، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة ؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله . وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه . انتهى .
قال الشهاب : والتبكيت قرره الطيبيّ ، بأن المجنيّ عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني ، بعث ذلك الجاني على التفكّر في حاله وحال المجني عليه . فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب . وهذا استدراج على طريق التعريض ، وهو أبلغ من التصريح . والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصيل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له ؛ حتى يبين من صدر عنه ذلك ، كما سئل عيسى دون الكفَرة ، وهو فنٌّ من البديع بديع . انتهى .
وقال الزمخشريّ : وإنما قيل : { قُتِلَتْ } بناءً على أن الكلام إخبار عنها .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية تعظيم شأن الوأد ، وهو دفن الأولاد أحياءً . وأخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال : < الوأد الخفيّ . وهي : إذا الموءودة سئلت > . انتهى .
وقد روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب في هذه الآية قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني وأدت بنات لي في الجاهلية . قال : < أعتق عن كل واحدة منهن رقبة > . قال : يا رسول الله ! إني صاحب إبل . قال : < فانحر عن كل واحدة منهن بَدنَةَ > .
وروى الدارمي في أوائل مسنده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان ، فكنا نقتل الأولاد ، وكانت عندي ابنة لي ، فلما أجابت ، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها ، فدعوتها يوماً فاتبعتني ، فمررت حتى أتيتُ بئراً من أهلي غير بعيد فأخذت بيدها فرديتها في البئر ، وكان آخر عهدي بها أن تقول : يا أبتاهُ يا أبتاهُ < فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكفَ دمعُ عينيه > . فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كفَّ فإنه يسأل عمَّا أهمه > . ثم قال له : < أعد عليَّ حديثك > . فأعاده . < فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته > . ثم قال له : < إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا ، فاستأنف عملك > .
وكان للعرب تفنن في الوأد ، فمنهم من إذا صارت ابنته سداسية يقول لأمها : طيّبيها وزيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها - وقد حفر لها بئراً في الصحراء - فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ويُهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض .
ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع ، حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة ، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابناً حبسته . وقد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال - جد الفرزدق بن غالب - بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية ، ونهى عن قتلهن ، قيل : إنه أحيا ألف موءودة ، وقيل دون ذلك ؛ وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله :
~ومنا الذي منع الوائداتِ وأحيا الوئيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
وفي قوله أيضاً :
~أنا ابنُ عِقالٍ وابن ليلى وغالبِ وفَكَّاكُ أغلال الأسير المكفَّرِ
~وكان لنا شيخانِ ذو القبر منهما وشيخٌ أجار الناسَ من كل مَقْبَرِ
~على حينِ لا تُحْيَى البناتُ وإذ همُ عُكُوف على الأصنام حولَ المدوَّرِ
~أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُهُ وما حسبٌ دافعتُ عنهُ بِمُعْوِرِ

~أَبي أَحَدُ الغَيْثَيْنَ صعصعةُ الذي متى تُخْلِفِ الجوزاءُ والنجمُ يُمْطِرِ
~أجارَ بناتِ الوائدين ومن يُجِرْ على القبر ، يعلمْ أنه غير مُخْفِرِ
~وفارق ليلٍ من نساء أتت أبى تُعالج ريحاً ليلها غير مُقْمِرِ
~فقالت أجر لي ما ولدتُ فإنني أتيتك من هَزْلى الحمولة مُقْتِرِ
~رأى الأرض منها راحة فرمى بها إلى خُدَدٍ منها وفي شر مَحْفَرِ
~فقال لها نامي فأنت بذمتي لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّرِ
وروى أبو عبيدة : أن صعصعة هذا وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم . قال : وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية ، فلم يدع تميماً تئدُ وهو يقدر على ذلك ، فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة ، وفي أخرى ثلاثمائة ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي ! أوصني . فقال : < أوصيك بأمك وأبيك ، وأختك وأخيك ، وأدانيك أدانيك > ، فقال : زدني . فقال عليه الصلاة والسلام : < احفظ ما بين لحييك ورجليك > . ثم قال عليه الصلاة والسلام : < ما من شيء بلغني عنك فعلته > ؟ فقال : يا رسول الله ! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب ، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه ، فرأيتهم يئدون بناتهم ، فعرفت أن ربهم عزَّ وجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم ، ففديت ما قدرت عليه .
ويقال : إنه اجتمع جرير والفرزدق يوماً عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا . فقال الفرزدق : أنا ابن محيي الموتى ، فقال له سليمان : أنت ابن محيي الموتى ؟ فقال : إن جدي أحيا الموءودة ، وقد قال الله تعالى :
{ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] ، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة ، فتبسم سليمان ، وقال : إنك مع شعرك لفقيه . نقله المرتضى في " أماليه " وبالجملة ، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية ، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة .
قال الإمام : انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار ، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب ؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الْإِنْسَاْنية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة . انتهى .
ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يَصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجُمان ، فمن ذلك قول معن بن أوس :
~رأيتُ رجالاً يكرهون بناتِهِمْ وفيهن لا نُكْذَبْ نساء صوالحُ
~وفيهن والأيام يعثرن بالفتى خوادِمُ لا يَمْلَلْنَهُ ونوائحُ
وقال العلويّ الجمانيّ في صديق له ولدت له بنت فسخطها ، شعراً :
~قالوا له ماذا رُزقْتَا فأصاخ ثُمَّتَ قال بنتا
~وأجلّ من ولد النساء أبو البنات فلِمْ جزعتا
~إن الذين تودّ من بين الخلائق ما استطعتا
~نالوا بفضل البنتِ ما كَبَتُوا به الأعداء كبتاً
وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته ، فقال : من هذه يا معاوية ؟ فقال : هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف . فقال : أَمِطْها عنك . قال : وَلِمَ ؟ قال : لأنهن يلدن الأعداء ، ويقرّبنَ البعداء ، ويُورِثْنَ الشحناء ، ويُثْرنَ البغضاءَ . قال : لا تقل ذلك يا عمرو ! فوالله ما مَرّض المرضى ، ولا ندب الموتى ، ولا أعان على الزمان ، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن ، وإنك لواجدٌ خالاً قد نفعه بنو أخته ، وأباً قد رفعه نسل بنيه . فقال : يا معاوية ! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن ، وإني لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إلىّ منهن .
وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت : أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار ، والمبشرة بإخوة يتناسقون ونجباء يتلاحقون :
~فلو كان النساء كمن وَجَدْنا لَفُضِّلَت النساءُ على الرجالِ
~وما التأنيثُ لاسمِ الشمس عَيْبٌ وما التذكير فَخْرٌ للهلالِ
والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها والسعادة بموقعها ، فادّرع اغتباطاً واستأنف نشاطاً ؛ فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها والذكور يعبدونها ، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية ، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب ، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان ، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام ، والجنة مؤنثة وبها وُعِد المتقون وفيها ينعم المرسلون ؛ فهنيئاً لك هنيئاً بما أوتيتَ ، وأوزعك الله شكرَ ما أعطيت .
ونسختُ رقعة لأبى الفرج الببغاء : اتصل بي خبر المولودة المسعودة كرَّم الله عرقها ، وأنبتها نباتاً حسناً ، وما كان من تغيُّرك عند اتصال الخبر وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر ، وقد علمت أنهن أقرب من القلوب ، وأن الله بدأ بهن في الترتيب فقال عز من قائل :
{ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] ، وما سماه الله تعالى هبة فهو بالشكر أولى وبحسن التقبُّل أحْرَى ؛ فهنأك الله بورود الكريمة عليك ، وثمرتها إعداد النسل الطيب لديك .
والنوادر في هذا لا تحصى ، وكلها من بركة الإسلام وفضله .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ 10 - 14 ]
{ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } قال ابن جرير : أي : صحف أعمال العباد نشرت لهم بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات .
{ وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ } أي : قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، كقوله تعالى :
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] ,
{ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } أي : أوقد عليها فأحميت . قال قتادة : سعرها غضب الله وخطايا بني آدم .
{ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } أي : قربت للمتقين .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } أي : علمت كل نفس عند ذلك ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة ، أو شر فتصير به إلى النار ، أي : تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به ، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره . و { عَلِمَتْ } جواب لجميع ما سبق من الشروط .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس ِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ 15 - 21 ]
{ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } أي : الرواجع من النجوم ، من خنَس إذا رجع وتأخر . قال الزمخشريّ : بينا ترى النجم في آخر البرج ، إذ كرّ راجعاً إلى أوله .
{ الْجَوَارِ } جمع جارية ، من الجري { الْكُنَّسِ } أي : الغيّب التي تدخل في بروجها ، في رأي العين ، من : كنس الوحش إذا دخل كناسهُ وهو بيتهُ المتخذ من أغصان الشجر ، فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه ، ثم صار بالغلبة في الاستعمال حقيقة .
{ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } أي : أدبر ولم يبق إلا اليسير ، وذلك وقت السحر .
{ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } أي : أقبل وتَبيّن ، أو هبّ نسيمه اللطيف أو انجابت عنه غمة الليل وكربته ؛ تشبيهاً بمن نفس عنه كربه . قال الإمام : أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ ليُنوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدرها ؛ وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام ، مع نعتها في القسم بما يبعدها عن مراتب الألوهية من الخنوس والكنوس ؛ تقريعاً لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أرباباً . وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها . وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد ، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت . انتهى .
وجواب القسم قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني روح القدس الذي ينفث في روعِه صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام . والضمير إما للبعث والجزاء ، المفهوم من قوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } أو للمذكور وهو هذا أو للقرآن { ذِي قُوَّةٍ } أي : على تحمُّل أعباء الرسالة ، وعلى كل ما يؤمر به ، كما تقدم في قوله تعالى : { شَدِيدُ الْقُوَى } [ النجم : 5 ] , { عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } أي : صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تعالى
{ مُطَاعٍ ثَمَّ } أي : في الملأ الأعلى { أَمِينٍ } أي : على وحيه تعالى ورسالته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [ 22 - 25 ]
{ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ } أي : ليس ممن يتكلم عن جنَّة ويهذي هذيان المجانين .
{ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 37 ] ، وهذا نفي لما كان يبهتهُ به أعداؤه ، صلى الله عليه وسلم ؛ حسداً ولؤماً .
قال الشهاب : وفي قوله { صَاحِبُكُم } تكذيب لهم بألطف وجه ؛ إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن ، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلاً وأرجحُهم نبلاً وأكملهم وأصفاهم ذهناً ، فلا يَسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون . ولله در البحتريّ في قوله :
~إذا مَحَاسِني الَّلاتي أَدِلُّ بها كانت ذُنوبي فقل لي كَيْفَ أَعْتَذرُ
{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } أي : ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى ، المظهر لما يرى فيه .
قال ابن كثير : والظاهر - والله أعلم - أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى ، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } [ النجم 13 - 15 ] ، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم ، وقد نزلت بعد سورة الإسراء .
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام متمثلاً له ، هو التحقيق الموحي به ، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان ، لا على ظن وحسبان ، وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه .
{ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : ببخيل .
قال مجاهد : ما يضن عليكم بما يعلم ، أي : لا يبخل بالتعليم والتبليغ . وقال الفراء : يأتيه غيبُ السماء ، وهو شيء نفيس ، فلا يبخل به عليكم . وقال أبو علي الفارسيّ : المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه ، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً . وقرئ : { بظنين } بالظاء ، أي : ما هو بمهتم على ما يخبر به من الغيب .
قال القاشاني : لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه ، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ ؛ لأن عقله صُفّي عن شوب الوهم . والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء ، ليس من شأنه أن يُتهم فيه ، كما قال هرقل لأبي سفيان : وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا ؛ فعرفتُ أنهُ لم يكن ليدَع الكذبَ على الناس ثم يذهب فيكذب على الله .
تنبيه :
قال ابن جرير : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقه وإن اختلفت قراءتهم به ، وذلك { بِضَنِينٍ } بالضاد ؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها . فأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوّلهُ : وما محمد - على ما علَّمهُ الله من وحيه وتنزيله - ببخيل بتعليمكموه أيها الناس ، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه . انتهى . واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين :
أحدهما : أن الكفار لم يبخلوه ، وإنما اتهموهُ ، فنفي التهمة أولى من نفي البخل .
وثانيهما : قوله :
{ عَلَى الْغَيْبِ } ولو كان المراد البخل لقال : بالغيب ؛ لأنه يقال : فلان ضنين بكذا ، وقلما يقال : على كذا .
وقال الشهاب : قال في " النشر " : هو بالضاد في جميع المصاحف ، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة ، أن الضاد و الظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى ، زيادة يسيرة ، قد تشتبه . وهو كما قال . ويعرفه من قرأ الخط المسند . وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم ؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة . ولا بد مما ذكره أبو عبيدة ، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له . انتهى .
قال ابن كثير : وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم .
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي : من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام ، وهو نفي لقولهم : إنه كهانة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ 26 - 29 ]
{ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } أي : أي : مسلك تسلكون ، وقد قامت عليكم الحجة ؟ لا جَرَم أنكم تنحون الضلال بعد هذه المزاعم في الوحي ومبلغه ، فمن سلك طرقها فقد بعد عن الصواب ، بما لايضبط ولم يتقرّب إليه بوجه ، كمن سلك طريقاً يبعدهُ عن سمت مقصد ، فيقاٍل : أين تذهب .
قال الزمخشريّ : استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيّات الطريق : أين تذهب ؟ مُثلت حالهم بحاله ، في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل .
{ إِنْ هُوَ } أي : القرآن المتلوّ عليكم { إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي : تذكرة وعظة لهم .
قال الإمام : موعظة يتذكّرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير ؛ وإنما أنساهم ذكره ما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أمراض الاجتماع . وقوله تعالى :
{ لِمَن شَاء مِنكُمْ أن يَسْتَقِيمَ } بدل من { الْعَالَمِين } أي : إنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على الطريق الحق ، بصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه ، أما من أعرض ونأى ، فمن أين تنفعهُ الذكرى ، وقد زادهُ الران عمى ؟
وقوله تعالى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : وما تشاؤون شيئاً من فعالكم ، إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم وإقداركم عليها والتخلية بينكم وبينها . وفائدة هذا الإخبار هو الإعلام بالافتقار إلى الله تعالى ، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدرهُ الله عز وجل ؛ فهو خاضع لسلطان مشيئته ، مقهور تحت تدبيره وإرادته .

(/)


سورة الإنفطار
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [ 1 - 5 ]
{ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ } أي : انشقت كما في آية { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ } [ الفرقان : 25 ] , { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ } أي : تساقطت . والانتثار استعارة لإزالة الكواكب ؛ حيث شبهت بجواهر قُطِعَ سلكها . وهي مصرحة أو مكنية .
{ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ } أي : فتح بعضها إلى بعض ، لزوال الحاجز بزلزلة الأرض وارتجافها .
{ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ } أي : بحثت وأخرج موتاها .
قال الشهاب : يعني أزيل التراب التي ملئت به وكان حتى على موتاها ، فانفتحت وخرج من دفن فيها . وهذا معنى البعثرة ، وحقيقتها تبديد التراب أو نحوه ، وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته ، فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معاً ، كما هنا . وقد يتجوزّ به عن البعث والإخراج كما في سورة العاديات . والفارق بينهما أنه أسند هنا للقبور فكان على حقيقته . وَثَمّ لما فيها ، فكانت مجازاً عما ذكر . ثم قال : وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصاراً ، ومثله كثير في لغة العرب ويسمى نحتاً . وأصله : بعث ، و أثير أي : حرك وأخرج ، وله نظائر كبسمل وحقول ودمعز ، أي : قال : بسم الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأدام اللهُ عزَّه . فعلى هذا يكون معناه النبش والإخراج معاً . ولا يرد عليه أن الراء ليست من أحرف الزيادة ، كما توهمه أبو حيان ، فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين ، والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة ، كما فصله في " المزهر " نقلاً عن أئمة اللغة .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ } أي : لذلك اليوم من عمل صالح أو سيّىء { وَأَخَّرَتْ } أي : تركت من خير أو شر ، أو المعنى : ما قدمت من عمل طيب لم تقصر فيه ، وما أخرت : أي : قصرت فيه . والمراد بالعلم بالتقديم والتأخير ، وجدان الجزاء عليهما ، وتحقق مصداق الوعد عليهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم ِ *الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أي : صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } [ 6 - 8 ]
{ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } أي : أي : شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته ؛ وذكر { الْكَرِيمِ } للمبالغة في المنع عن الاغترار ؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته ، ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه ، لاسيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة ، كما قال :
{ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } أي : جعلك سويّاً متساوي الأعضاء والقوة . وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء ؛ فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به { فَعَدَلَكَ } أي : جعلك معتدلا متناسب الخلق ، معتدل القامة ، لا كالبهائم . وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدد ، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة ، مزتَ بها على سائر الحيوان { فِي أي : صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } أي : في أي : صورة شاءها ركبك عليها . يعني أنه ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها . فـ { أي : } استفهامية ، والمجرور متعلق بـ { رَكَّبَكَ } ، و { مَا } زائدة وجملة { شَاء } صفة { صُورَةٍ } والقصد أن ما خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره ، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب ، لجدير بأن يُتّقى بأسه ويحذر بطشُه ويرهب أشدَّ ترهيب .
تنبيه :
قال الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي " في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحاً في ترتيب الجزاء بالخير والشر ، والأحكام الكونية ، على الأسباب ما تتمته : فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب ، وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ، ولا بد . ولكن تغالطه نفسُه .
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغتر بفهم فاسد فهمِه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه . قال : كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } فيقول : كرمه . وقد يقول بعضهم : إنه لقن المغتر حجته . وهذا جهل قبيح ، وإنما غره بربه الغرور ، وهو الشيطان ونفسُه الأمارة بالسوء وجهله وهواه ؛ وأتى سبحانه بلفظ { الْكَرِيمِ } وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه ؛ ووضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه ، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به . انتهى .
وفي مثل هذا الغرور يجب - كما قال الغزاليّ - على العبد أن يستعمل الخوف ، فيخوِّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ، ويقول : إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب . و : إنه مع أنه كريم ، خلّد الكفار في النار أبد الآباد . مع أنه لم يضره كفرهم ، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا ، وهو قادر على إزالتها ، فمن هذه سنته في عباده - وقد خوفني عقابه - فكيف لا أخافه ؟ وكيف أغتر به ؟
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل ، فما لا يبعث على العمل فهو تمنن وغرور ، ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم ، وسبب إقبالهم على الدنيا ، وسبب إعراضهم عن الله تعالى ، وإهمالهم السعي للآخرة ، فذلك غرور . وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة . وقد كان ذلك ، فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات ، و { يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [ المؤمنون : 60 ] يخافون على أنفسهم ، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله ، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ، ويبكون على أنفسهم في الخلوات ، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين ، مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى ، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله ، راجون لعفوه ومغفرته ، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه مالم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون ، فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى ، وينال بالهوينا ، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم ؟ !
ثم قال : والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف ، ولا يتفكر فيه متفكِِّر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه ، وإن كان مؤمناً بما فيه . وترى الناس يهذَّونه هذّاً : يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها ، وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب ، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه ، والعمل بما فيه ، وهل في العالم غرور يزيد على هذا ؟ انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ 9 - 12 ]
{ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ } قال الإمام : أي : لا شيء يغرك ويخدعك ، بل إن سعة عطاء ربك و حكمته في كرمه ، تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آخر لثواب أو عقاب ، وإنما الذي يقع منك أيها الْإِنْسَاْن هو العناد والتكذيب بالدين ، أي : الجزاء ، أي : الانصراف عمداً وعناداً عما يدعو إليه الشعور الأول ، وعن الدليل الذي تقيمه الرسل ، والحجة التي يأتي بها الأنبياء ، مع أن الله تعالى لم يترك عملاً من أعمالك إلا حفظه وأحصاه عليك حتى يوفيك جزاءه كما قال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } أي : رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم { كِرَاماً كَاتِبِينَ } أي : يكتبون ما تقولون .
{ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } أي : من خير أو شر ، أي : يحصونه عليكم ، فلا يغفلون ولا ينسون .
قال الرازيّ : أن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم ؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم ، ولمّا كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود ، خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة فيَخرج لهم كتب منشورة ، ويَحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم ، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره ، فيقولون له : أعطاك الملك كذا وكذا ، وفعل بك كذا وكذا ، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا . فكذا ها هنا . والله أعلم بحقيقة ذلك . انتهى .
ولا يخفى أن الحفظة الكرام وعملهم ، من الغيب الذي لا يمكن اكتناهه ؛ فيجب الإيمان به ، كما ورد مع تفويض كنهه إلى بارئه تعالى . ومن الفضول في العلم التوسع فيما لا يدرك بالنظر وتسويد وجوه الصحف بها . وبالله سبحانه التوفيق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ 13 - 19 ]
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } قال ابن جرير : أي : أن الذين برّوا بأداء فرائض الله ، واجتناب معاصيه ، لفي نعيم الجنان ينعمون فيها .
والأبرار جمع بَرّ بفتح الباء وهو المتصف بالبِّر بكسرها ، أي : الطاعة . قال الأصفهاني : وقد اشتمل عليه قوله تعالى :
{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] , وقوله تعالى { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } أي : الذين فجروا عن أمر الله ، أي : انشقوا عنه وخالفوه ، وهم من لم توجد فيهم نعوت الأبرار المذكورة في الآية قبلُ .
{ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ } أي : يوم يُدان العباد بالأعمال ، فيجازون بها
{ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } أي : بخارجين ، لأنهم مخلدون في صليّها . وقوله تعالى : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه ، أي : أي : شيء أعلمك به ؟ أي : أنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمّ درايته والبحث عنه . والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة .
ثم فسر تعالى بعض شأنه بقوله : { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً } أي : من دفع ضر أو كشف همٍّ { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أي : أمر الملك الظاهر ونفوذ القضاء القاهر ، يومئذ لله وحده ؛ لاضمحلال الممالك وذهاب الرياسات .
قال الرازيّ : وهو وعيد عظيم ، من حيث إنه عرّفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء .

(/)


سورة المطففين
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين َ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ 1 - 3 ]
{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } أي : هلاك لهم . قال الأصفهاني : ومن قال :
{ وَيْلٌ } وادٍ في جهنم فإنه لم يرد أن ويلاً في اللغة هو موضوع لهذا ، وإنما أراد : من قال الله تعالى ذلك فيه ، فقد استحَق مقراً من النار .
ثم بين تعالى المطففين بقوله { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } أي : إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافياً وزائداً على إيهام أن بذلك تمام الكيل ، وإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أجلّ مقداراً ، ففي الوزن بطريق الأوْلى . وإيثار { عْلَى } على من للإشارة إلى ما فيه عملهم من المنكر من الاستعلاء والقهر ، شأن المتغلب المتحامل المتسلط الذي لا يستبرئ لدِينه وذمته : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أي : كالوا للناس أو وزنوا لهم ، ينقصونهم حقهم الواجب لهم ، وهو الوفاء والتمام ، ففيهما حذف وإيصال .
قال ابن جرير : من لغة أهل الحجاز أن يقولوا : وزنتك حقك ، وكلتك طعامَك ، بمعنى وزنت لك وكلت لك .
تنبيه :
في " الإكليل " : في الآية ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن ، أي : لأنه من المنكر فهو من المحظورات أشد الحظر ، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع ، ولو في القليل ؛ لأن من دَنُؤَت نفسُه إلى القليل دل على فساد طويته وخبث ملَكته ، وأنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة . قال ابن جرير : وأصل التطفيف من الشيء الطفيف ، وهو القليل النزر . والمطفِّف : المقلِّل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن . ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد : هم سواء كطفِّ الصاع ، يعني بذلك كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء . وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان . فقال تعالى في عدة آيات : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] ، وقال تعالى : { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [ الرحمن : 9 ] ، وقصَّ تعالى علينا أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 4 - 6 ]
ثم قال سبحانه متوعداً لهم : { أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ } أي : من قبورهم بعد مماتهم .
{ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع ، من خسر فيه أدخل ناراً حامية .
{ يَوْمَ يَقُومُ } أي : لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون في موقف يغشى المجرم فيه من الهول ما يود الافتداء بكل مستطاع . وفي تأثر الويل لمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه ، ووجه ذلك -كما لخصه الشهاب- أن في ذكر الظن من التجهيل مع اسم الاشارة الدال على التبعيد ، تحقيراً ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال { يَوْمَ يَقُومُ } منه ، فإنه يدل على استعظام ما استحقروه .
والحكمة اقتضت أن لا تهمل مثقال ذرة من خير وشر .
وعنوان رب العالمين للمالكية والتربية الدالة على أنه لا يفوتهُ ظالم قويّ ، ولا يترك حق مظلوم ضعيف . وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه ، وأن من لا يهمل مثل هذا كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده ؟ وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة . فتأمّل هذا المقام ، ففيه ما تتحيّر فيه الأوهام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِين َ *الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } [ 7 - 11 ]
{ كَلَّا } ردع عن التطفيف الذي يقترفونه لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف اعتقادهم به { إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ } أي : ما كتب فيه من عملهم السيىء وأحصي عليهم . وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ ، وهو الفجور ، بخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها الشرع والعقل { لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي : مسطور بيِّن الكتابة . أو معلّم برقم ينبئ عن قبحه . سمي سجيناً - فعِّيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق - لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، فهو بمعنى فاعل في الأصل ؛ أو لأنه مطروح في أسفل مكان مظلم ، فهو بمعنى مفعول ، كأنه مسجون لما ذكر . وقيل : هو اسم مكان ، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده ، والتقدير : ما كتاب سجين أو محل كتاب مرقوم ؟ فحذف المضاف ، وقيل : إنه مشترك بين المكان والكتاب . وقال الأصفهاني : السجين اسم لجهنم بإزاء عِلِّيِّين . وزيد لفظُه تنبيهاً على زيادة معناهُ . وقيل : هو اسم للأرض السابعة .
ثم قال : وقد قيل : إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله :
{ وَمَا أَدْرَاكَ } فسّرهُ ، وكل ما ذكره بقوله :
{ وَمَا يُدْرِيكَ } تركه مبهماً ، وفي هذا الموضع ذكر : { وَمَا أَدْرَاكَ } وكذا في قوله :
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } ثم فسّر الكتاب ، لا السجين والعليون . وفي هذه الطبقة موضعها الكتب التي يتبع هذا الكتاب ، لا هذا . انتهى .
وقال القاشانيّ : { لَفِي سِجِّينٍ } في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة أذلاء أخسَّاء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها ، وهو ديوان أعمال أهل الشرّ ؛ ولذلك فسّر بقوله :
{ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي : ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِين َ *الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي : بيوم الحساب والمجازاة ، وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف ؛ لأن إصرارهم على التعدي والاجترام يدل على عدم الظن بالبعث ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [ 12 - 13 ]
{ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ } أي : مجاوز طور الفطرة الْإِنْسَاْنية بتجاوزه حد العدالة إلى الإفراط في أفعاله بالبغي والعدوان { أَثِيمٍ } أي : مبالِغ في ارتكاب أفانين الإثم وأنواع المعاصي
{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : ما سطروهُ من الأحاديث والأخبار ، يريد أنه ليس بوحي ربانيّ ، ولا تنزيل إلهيّ ، مع نصوع بيانه وشواهد برهانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 14 ]
{ كَلَّا } أي : ليست هذه الآيات بأساطير الأولين ، بل هي الحق المبين والشفاء لما في الصدور { بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : غطى على مداركهم ما اكتسبوهُ من الآثام حتى كدّر جوهرها وصار صدأ عليها بالرسوخ فيها . و الرين أصل معناه الصدأ والوسخ القارّ ، شبه به حب المعاصي الراسخ في النفس ، وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكةٌ راسخة لا تقبل الزوال ، وصفة للنفس قارّة فيها ؛ فبكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول ، كالصدأ الذي لا يزول بسهولة . قال في " الأساس " : الران ما غطى القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب ، من قولهم : ران عليه الشراب والنُّعاس ، و : ران به ، إذا غلب على عقله ، و : رينَ بفلان ، ونظيره الغين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ 15 ] .
{ كَلَّا } ردع لهم عن الكسب الرائن على قلوبهم ، أو بمعنى حقاً { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } قال ابن جرير : أي : فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته يصل إليهم ، فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته . وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب فيراه الله تعالى ويرى كرامته . قال الشهاب : لما كان الحجاب هو الساتر من ستارة بزّ وغيرها ، استعير تارة لعدم الرؤية ؛ لأن المحجوب لا يرى ما حجب ، وتارة للإهانة ؛ لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء ؛ لذا قالت العرب : الناس ما بين مرحوب ومحجوب ، أي : معظم ومهان . وهو بمعانيه محال أن يتصف الله ، فلا يصح إطلاقه عليه تعالى ، كما صرحوا به ، وإنما يوصف به الخلق ، كما في هذه الآية . فإذا أجري على اسم من أسمائه تعالى ، فهو وصف سببيّ لا حقيقيّ . بل التشبيه للخلق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ 16 - 17 ]
{ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ } أي : محترقون بها . وقد أشار القاشانيّ إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة ، بأن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالصدأ على قلوبهم بالرسوخ فيها ، كدِّر جوهرها وغيَّرها عن طباعها ، فعندها تحقق الحجاب وانغلق باب المغفرة ، ولذلك قال :
{ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } لامتناع قبول قلوبهم للنور ، وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطريّ ، كالماء الكبريتي مثلاً ؛ إذ لو روّق أو صعّد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة ، لاستحالة جوهرها ، بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ولهذا استحقوا الخلود في العذاب . وحكم عليهم بقوله :
{ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ } انتهى .
قال ابن القيم في " بدائع الفوائد " في هذه الآية ما مثاله : جمع لهم سبحانه بين العذابين عذاب الحجاب وعذاب النار ، فألم الحجاب يفعل في قلوبهم وأرواحهم نظير ما تفعله النار في أجسامهم ، كحال من حِيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا ، وأخذ بأشد العذاب ، فإن أخص عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه ، وهي ممنوعة من الوصول إليه ، فكيف إن حصل لها - مع تواري المحبوب عنها وطول احتجابه - بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها ؟ فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه ؟ فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه عنها يوم لقائه من الألم والحسرة ، لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب . وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة ، منتهى حسنها إلى ما يعلم ، كيف يضجّون من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره ؟ ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة ، كما قال :
~وكنتُ أرَى كالموت من بَين ليلةٍ فكيف بَبَيْنٍ كَان ميعادَهُ الحشرُ
وإنما يتبينَ الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه ، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه .
فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة ، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له ، فخلقَ العين للإبصار ، والأذن للسمع ، والأنف للشم ، واللسان للنطق ، واليد للبطش ، والرجل للمشي ، والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذِكره ، وجعل هذا كمالها وغايتها ، فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له ، وحيل بينها وبينه . بل لا نسبة لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة ، بل ألمها أشد الألم ، وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها ، وحيل بينها وبينه ، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه . والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها ، الذي لا تقرّ عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه ، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنّتها العاجلة في الدنيا ، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه ، وفي حديث الرؤية : < فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى وجهه > .
ثم قال : وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين ، وهما ألم الحجاب وألم العذاب ، جمع لمُحبيه بين نوعي النعيم : نعيم القرب والنظر ، ونعيم الأكل والشرب ، والنكاح والتمتع بما في الجنة ، في قوله :
{ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الْإِنْسَاْن : 11 ] الآيات .
{ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي : في الدنيا . قال الإمام : تبكيتاً لهم وزيادة في التنكيل بهم ، فإن اشد شيء على الْإِنْسَاْن ، إذا أصابه مكروه أن يذكر وهو يتألم له : بأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها ، وأسباب التقصي عنه كانت في مكنته فأغفلها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } [ 18 - 21 ]
{ كَلَّا } ردع عن التكذيب ، أو بمعنى حقاً { إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } قال القاشانيّ : أي : ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة في عليين ، وهو مقابل للسجين ، في علوه وارتفاع درجته ، وكونه ديوان أعمال أهل الخير .
كما قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي : محل شريف رقم بصور أعمالهم :
{ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } أي : يحضره المقربون من حضرة ذي الجلال ، كما في آية
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] .
والمقربون هم الأبرار : أعاد ذكرهم بوصف ثانٍ ؛ تنويهاً بهم وتعديداً لصفاتهم . أو هم الملائكة إجلالاً لهم وتعظيماً لشأنهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [ 22 - 26 ]
ولما عظم تعالى كتابهم تأثره بتعظيم منزلتهم ، بقوله سبحانه : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } أي : عظيم دائم ، وذلك نعيمهم في الجنان .
{ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } أي : على الأسِرة والمتكآت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم .
{ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } أي : بهجته ورونقه ، كما يُرى على وجوه المترفهين ماؤه وحُسنه .
{ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } أي : خمر ، إلا أنه خص بالخالص الذي لا غش فيه ، كما قال حسان :
~يسْقُون منْ وَردَ البَريص عليهمُ بَردَى يُصَفَّقَ بالرحيق السَّلْسَلِ
ومنه قولهم : مسك رحيق لا غش فيه ، وحسب رحيق لا شوب فيه .
وقوله تعالى :
{ مَّخْتُومٍ } أي : ختم على أوانيه تكريماً له لصيانته عن أن تمسه الأيدي على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان .
{ خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال القفال : أي : الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق هو المسك ، كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير فكأن ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم .
وعن بعض السلف واللغويين : المختوم الذي له ختام ، أي : عاقبة ، وقد فسرت بالمسك ، أي : من شربه كان ختم شربه على ريح المسك . والقصد لذة المقطع بذكاء الرائحة وأرَجها ، على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم والرائحة { وَفِي ذَلِكَ } أي : النعيم المنوه به وما تلاهُ { فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } أي : فليرغب الراغبون بالاستباق إلى طاعة الله تعالى :
قال ابن جرير : التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له ، ويتمنى أن يكون له دونَه ، وهو مأخوذ من الشيء النفيس ، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه ، وكأن معناه في ذلك : فليجدّ الناس فيه وإليه ، فليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم . وقال الرازيّ : إن مبالغتهُ تعالى في الترغيب فيه تدل على علوّ شأنه . وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم ، لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [ 27 - 28 ]
{ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } عطف على { خِتَامُهُ } صفة أخرى لـ : { رَّحِيقٍ } وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته ، أي : ما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم . والتسنيم في الأصل مصدر سنَمه بمعنى رفعهُ ، ومنه السنام . سمي الماء به لارتفاعه وانصبابه من علوّ .
وقد بينهُ بقوله { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } أي : يشربون بها الرحيق ، والكلام في الباء ، كما في آية { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [ الْإِنْسَاْن : 6 ] ، من كونها زائدة ، أو بمعنى : من ، أو صلة الامتزاج ، أو الالتذاذ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ } [ 29 - 31 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } يعني كفار قريش { كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } أي : استهزاءً بهم لإيمانهم بالله وحده وبما أوحاه إلى رسوله صلوات الله عليه ، ونبذهم ما ألْفَوْا عليه آباءهم .
قال الإمام : الذين أجرموا هم المعتدون الأئمة الذين شَريَتْ نفوسهم في الشر ، وصَمّتْ آذانهم عن سماع دعوة الحق : هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا ؛ ذلك لأنه حين رحم الله هذا العالَم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدَّهماء وفي ضلال العامة ، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه السلام ، ثم يهمس بها بعض من يليه ، ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم فَيُسِرُّ بها إلى من يرجوه ، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه . ومن شأن القويّ المستعز بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرفه ، وهو أضعف منه قوة وأقل عدداً ، كذلك كان شأن جماعة من قريش ، كأبي جهل والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وأشياعهم ، وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع ، وتفرقت الشيع وخفي طريق الحق بينَ طرق الباطل ، وجهل معنى الدِّين ، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه ، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن ، وحركات أركان لا تشايعها السرائر ، وتحكَّمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل ، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياش والمناصب والألقاب ، وتشبثت الهمم بالمجد الكاذب ، وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل ، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل ، واستوى في ذلك الكبير والصغير ، والأمير والمأمور ، والجاهل والملقب بلقب العالم . إذا صار الناس إلى هذه الحال ، ضعُف صوت الحق وازدرى السامعون منهم بالداعي إليه ، وانطبق عليهم نصُّ الآية الكريمة . انتهى .
{ وَإِذَا مَرُّواْ } أي : الذين آمنوا { بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } أي : يغمز بعضهم بعضاً استهزاءً وسخريةً . والغمز : الإشارة بالجفن والحاجب .
قال السيوطيّ : وفي هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين ، والضحك منهم ، والتغامز عليهم { وَإِذَا انقَلَبُواْ } أي : هؤلاء المجرمون من مجالسهم { إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ } أي : متلذذين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان ، أو بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم بالدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ 32- 36 ]
{ وَإِذَا رَأَوْهُمْ } أي : رأوا المؤمنين { قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ } أي : لتركهم ما عليه العامة ، والاعتصام بغيره . وقوله تعالى :
{ وَمَا أُرْسِلُوا } أي : هؤلاء المجرمون القائلون ما ذكر { عَلَيْهِمْ } أي : على المسلمين { حَافِظِينَ } أي : لأعمالهم . جملة حالية من : واو { قَالُوا } أي : قالوا ذلك ، والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ، ويهيمنون على أعمالهم ، ويشهدون برشدهم وضلالهم . وهذا تهكم بهم وإشعار بأن ما اجترؤوا عليه من القول ، من وظائف من أرسل من جهته تعالى .
وقد جوِّز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين ، كأنهم قالوا : إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين . إنكاراً لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام ، وإنما قيل : { عَلَيْهِمْ } نقلاً له بالمعنى كما في قولك : حلف ليفعلنّ ، لا بالعبارة ، كما في قولك : حلف لأفعلنّ ، أفاده أبو السعود
{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } تفريع على ما قبله ، للدلالة على أنه جزاء سخريتهم في الدنيا ، و اليوم : يوم الدين والجزاء . وضحكهم من الكفار ضحك السرور بما نزل بعدوّه من الهوان والصغار ، بعد العزة والكبر .
{ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } إلى ما أوتوا من النعيم ، وما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم
{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } أي : جوزوا ثواب ما كانوا يفعلون في الدنيا .
والجملة متعلقة بـ { يَنظُرُونَ } في محل نصب بعد إسقاط الجار ، أو مستأنفة . والاستفهام للتقرير كأنه خطاب للمؤمنين ، تعظيماً لهم وتكريماً وزيادة في مسرتهم ، أي : هل رأيتم كيف جازى الله الكافرين بأعمالهم ، أي : أنه فعل . و ما مصدرية أو موصولة . وثوّبهُ وأثابه بمعنى جازاهُ ، وهو من ثاب ، بمعنى رجع . فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ، ويستعمل في الخير والشر .
ونظير هذه الآيات قوله تعالى :
{ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ المؤمنون : 108 - 111 ] .

(/)


سورة الإنشقاق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ 1 - 5 ]
{ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ } أي : انصدعت وتقطعت كما تقدم في قوله : { إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] , { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أي : سمعت له في تصدعها وتشققها ، وهو مجاز عن الانقياد والطاعة . والمعنى أنها انقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها ، انقياد المطوع الذي يستمع للآمر ويذعن له . قال ابن جرير : العرب تقول : أذن لك في هذا أذناً ، بمعنى استمع لك . ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : < ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيٍّ يتغنى بالقرآن > . يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيّ يتغنى بالقرآن . ومنه قول الشاعر :
~صُمٌّ إذَا سَمِعُوا خَيْراً ذكرتُ به وإن ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عندهم أَذِنُوا
ومعنى قوله تعالى :
{ وَحُقَّتْ } أي : حق لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر ولا تمتنع ، وهي حقيقة بالانقياد لأنها مخلوقة له في قبضة تصرفهُ . قال المعرب : الأصل حق الله طاعتها ، ولما كان الإسناد في الآية إلى السماء نفسها ، والتقدير : وحقت هي ، كان أصل الكلام على تقدير مضاف في الضمير المستكنّ في الفعل ، أي : وحق سماعها وطاعتها ، فحذف المضاف ، ثم أسند الفعل إلى ضميره ، ثم استتر فيه
{ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ } أي : بسطت وجعلت مستوية ، وذلك بنسف جبالها وآكامها كما قال :
{ قَاعاً صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً } [ طه : 106 - 107 ] ، ولذا قال ابن عباس : مدت مدَّ الأديم العكاظيّ ؛ لأن الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه واستوى .
{ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } أي : ما في جوفها من الكنوز والأموات { وَتَخَلَّتْ } أي : وخلت غاية الخلوّ, حتى لم يبق شيء في باطنها ، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلوّ
{ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أي : انقادت له في التخلية ، وحق لها ذلك ؛ وإعادة الآية للتنبيه على أن ذلك تحت سلطان الجلال الإلهي وقهره ومشيئته . وجواب { إِذَا } محذوف للتهويل بالإبهام ، أي : كان ما كان مما لا يفي به البيانُ ، أو لاقى الْإِنْسَاْن كدحه ، كما قال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [ 6 - 9 ]
{ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ } قال ابن جرير : أي : إنك عامل إلى ربك عملاً فملاقيه به ، خيراً كان أو شراً . المعنى : فليكن عملك مما ينجيك من سخطه ، ويوجب لك رضاهُ ، ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك . وقال القاشانيّ : أي : إنك ساعٍ مجتهد في الذهاب إليه بالموت ، أي : تسير مع أنفاسك سريعاً ، كما قيل : أنفاسك خطاك إلى أجَلِك ، أو مجتهد مجدٌّ في العمل : خيراً أو شراً ، ذاهب إلى ربك فملاقيه ضرورة . قال : والضمير إما للرب وإما للكدح . وأصل الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه ، حتى يؤثر فيها ، من : كدَح جلده ، إذا خدشه ، فاستعير للجد في العمل وللتعب ، بجامع التأثير في ظاهر البشرة .
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } وهم من آمن وعمل صالحاً واتصف بما وصف به الأبرار ، في غير ما آية .
{ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } قال ابن جرير : بأن ينظر في أعماله فيغفر له سيئها ويجازى على حسنها . وقال القاشاني : بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة ، لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية .
{ وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ } أي : زوجته وأقاربه ، أو قومه من يجانسهُ ويقارنهُ من أصحاب اليمين { مَسْرُوراً } أي : بنجاته من العذاب ، أو بصحبتهم ومرافقتهم ، وبما أوتي من حظوظه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } [ 10 - 15 ]
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ } أي : أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره ، وهو على هيئة المغضوب عليه ، أمام الملك المنصرف به عن ذاك المقام إلى دار الهوان { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ النحل : 60 ] ,
{ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً } أي : ينادى بالهلاك وهو أن يقول : واثبوراه ! واويلاه ! وهو من قولهم دعا فلان لهفهُ ، إذا قال : والهفاهُ . { وَيَصْلَى سَعِيراً } أي : يدخل ناراً يحترق بها .
{ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً } أي : منعماً مستريحاً من التفكر في الحق والدعاء إليه والصبر عليه لا يهمه إلا أجوفاه ، بطراً بالنعم ، ناسياً لمولاه { إِنَّهُ ظَنَّ أن لَّن يَحُورَ } أي : لن يرجع إلى ربه ، أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيي ويموت ولا يهلكه إلا الدهر ؛ فلم يك يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً ولا يبالي ما ركب من المآثم ، على خلاف ما قيل المؤمنين { قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } [ الطور : 26 ] ، { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] , { بَلَى } أي : لَيحورن وليرجعن إلى ربه حياً كما كان قبل مماته { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } أي : بما أسلف في أيامه الخالية فيجازيه عليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } [ 16 - 21 ]
{ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ } وهي الحمرة في الأفق من ناحية مغرب الشمس { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي : جُمع وضمَّ مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير أو يدب نهاراً ، كذا قال ابن جرير والأظهر أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها ، لاشتمال الليل عليها ، فكأنه تعالى أقسم بجميع المخلوقات كما قال : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 - 39 ] { وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ } أي : اجتمع وتمَّ نوره وصار كاملاً . { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ } أي : حالاً بعد حال ، والمعني بالحال الأولى البعث للجزاء على الأعمال ، وبالثانية الحياة الأولى . وفيه تنبيه على مطابقة كل واحدة لأختها ؛ فإن الحياة الثانية تماثل الأولى وتطابقها من حيث الحس والإدراك والألم واللذة ، وإن خفي اكتناهها . وجوز أن يكون { طَبَقاً } جمع طبقة وهي المرتبة ، أي : لتركبن مراتب شديدة مجاوزة عن مراتب وطبقات ، وأطواراً مرتبة بالموت وما بعده من موطن البعث والنشور .
قال الشهاب : الطبق معناهُ ما طابق غيرهُ مطلقاً في الأصل ، ثم إنهُ خص بما ذكر ، وهو الحال المطابقة أو مراتب الشدة المتعاقبة .
و { عَنِ } للمجاوزة أو بمعنى : بعد . والبعدية والمجاوزة متقاربان لكنه ظاهر في الثاني { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أي : بهذا الحديث ، وقد أقام لهم الحجة على التوحيد والبعث .
{ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } أي : لا يَخضعون ولا يستكينون ولا ينقادون .
قال في " الإكليل " : وقد استدل به على مشروعية سجدة التلاوة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ 22 - 25 ]
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } أي : بآيات الله وتنزيله المبين لِما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها ، مع تحقيق موجبات تصديقه ، والإضراب عن محذوف تقديره- كما قال الإمام - لا تظن أن قرع القرآن لم يكسر أغلاق قلوبهم ، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم ، بلى قد بلغ وأقنع فيما بلغ ، ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الإيمان ويصدهم عن الإذعان ، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل ، وإنما هو تقصير المستدل وإعراضه عن هدايته ، فالإضراب يرمي إلى محذوف من القول يدل عليه السابق واللاحق .
{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } أي : بما يسرون في صدورهم من حقية التنزيل ، وإن أخفوه عناداً . أو بما يضمرون من البغي والمكر ، فسيجزيهم عليه . ولذا قال :
{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : جزاء على تكذيبهم وإعراضهم وبغيهم .
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم . والاستثناء منقطع أو متصل ، على أن المراد بمن آمن من أسلم منهم فآمنوا باعتبار ما مضى أو بمعنى : يؤمنون ، وكونه منقطعاً أظهر لمجيء { لَهُمْ أَجْرٌ } بغير فاء . والله أعلم .

(/)


سورة البروج
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُود ِ *النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد ِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ 1 - 9 ]
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ } أي : الكواكب والنجوم ، شبهت بالبروج - وهي القصور - لعلوِّها . أو البروج منازل عالية في السماء .
قال ابن جرير : وهو اثنا عشر برجاً ، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث ، فذلك ثمانية وعشرون منزلاً ، ثم يستتر ليلتين . ومسير الشمس في كل برج منها شهر . وأصل معنى البروج - كما قاله الشهاب - الأمر الظاهر من التبرج ، ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية ؛ لأنها ظاهرة للناظرين . ويقال لِما ارتفع من سور المدينة : برج أيضاً . فشبه - على هذا - الفلك بسور المدينة وأثبت له البروج { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ } أي : الذي وعد فيه العباد لفصل القضاء بينهم ، وذلك يوم القيامة .
{ وَشَاهِدٍ } وهو كل ماله حس يشهد به { وَمَشْهُودٍ } وهو كل مُحسّ يشهد بالحس . فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها . وتخصيص بعض المفسرين بعضاً مما يتناوله لفظهما ، لعله لأنه الأهم ، أو الأولى أو الأعرف والأظهر ، لقرينةٍ عندهُ ، وإلا فاللفظُ على عمومه ، حتى يقوم برهان على تخصيصه .
{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } أي : قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم . على أن الجملة خبرية هي جواب القسم . أو دليل جوابه أن كانت دعائية ، والتقدير : لتبلون كما ابتلي من قبلكم ، ولينتقمن ممن فتنكم كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود .
قال الزمخشري : وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان ، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يَلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم : قُتلت قريش ، كما قيل :
{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } والأخدود : الحفرة في الأرض مستطيلة .
وقوله تعالى : { النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } بدل من { الْأُخْدُودِ } ، و { الْوَقُودِ } بالفتح الحطب الجزل الموقد به ، وأما الوُقود بالضم فهو الإيقاد .
{ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا } أي : على حافات أخدودها { قُعُودٌ } أي : قاعدون يتشفون من المؤمنين .
{ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي : حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية ، وما تفعل بها النيران . ولا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم .
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ } أي : وما أنكروا منهم ، ولا كان لهم ذنب ، إلا الإيمان بالله وحده .
قال الراغب : نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته ، إما باللسان وإما بالعقوبة . ومنه الانتقام { الْعَزِيزِ } أي : الغالب أعدائه بالقهر والانتقام { الْحَمِيدِ } أي : المحمود على إنعامه وإحسانه .
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجَرة أصحابِ الأخدود وغيرهم ، شاهدٌ شهوداً لا يخفى عليه منه مثقال ذرة ، وهو مجازيهم عليه . وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى إشعارٌ بمناط إيمانهم ؛ فإن كونه تعالى قاهراً ومنعماً ، له ذلك الملك الباهر وهو عليم بأفعال عبيده ، مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائر . وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو معروف في كتب المعاني .
تنبيه :
روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال : هم ناس من بني إسرائيل خَدّوا أخدوداً في الأرض ، ثم أوقدوا فيها ناراً ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساءً ، فعرضوا عليها . وهكذا قال الضحاك : هم من بني إسرائيل أخذوا رجالاً ونساءً فخدّوا لهم أخدوداً ، ثم أوقدوا فيه النيران ، فأقاموا المؤمنين عليها . فقالوا : تكفرون أو نقذفكم في النار ؟ .
وقال مجاهد : كان الأخدود شقوقاً بنَجران ، كانوا يعذبون فيها الناس - وتفصيل النبأ - على ما في كتاب " الكنز الثمين " - أن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العَريَّة عن شوائب الإلحاد ، لمَّا دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها ، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران ، وكان أقام عليها ملِك الحبشة أميراً من قِبَله نصرانياً مثله ، وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع ، ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن ، والإيقاع بمن تنصر ؛ بغضاً في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم ، فأقاموا رجلاً يهودياً منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله ، فأشهر ذلك اليهودي نفسَه ملكاً على بلاد سبأ ، وجاء لمحاربة مدينة نجران ، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة ، ولما دخلها قتل عدداً عظيماً من سكانها رجالاً ونساءً . كانت عدتهم - فيما يقال - ثلاثمائة وأربعين شهيداً ، وأتى بذاك الراهب محمولاً يحف به الجنود ، وكان هرماً لا يقوى على المشي ، فسئل عن عقيدته فأقرَّ بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه السلام ؛ فأمر بسفك دمه فقتل ، وكذلك بقية الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جُبن ولا تهيُّب ، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران ، ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره . وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى والفرح بالشهادة ، ما أضحوا مثالاً وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه ، سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له . لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين ، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين . وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الحبر أراثا ورفقته . ويؤرخونها بعام : 524 من التاريخ المسيحي ، وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها . والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [ 10 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : بلوهم بالأذى ليرجعوا عن إيمانهم . قال أبو السعود : والمراد بهم إما أصحاب الأخدود خاصة ، وبالمفتونين المطروحون في الأخدود ، وإما الذين بلوهم في ذلك بالأذية والتعذيب على الإطلاق وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } أي : عن كفرهم وفتنتهم { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } أي : عذابان منوّعان على الكفر وعلى الفتنة ، أوهما واحد ، أو من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه ؛ لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما . والأظهر أنهما واحد وأنه من عطف التفسير والتوضيح .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } [ 11 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : من هؤلاء المفتونين وغيرهم { لِهِمُ } أي : في نشأتهم الأخرى { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } أي : التام الذي لا فوز مثله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ 12 - 16 ]
{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } قال أبو السعود : استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ، إيذاناً بأن لكفار قومه نصيباً موفوراً من مضمونه ، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام . و البطش : الأخذ بعنف ، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم . وهو بطشه بالجبابرة والظلمة ، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام ، كقوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .
{ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } أي : يبدئ الخلق ثم يعيده . قال الإمام : وهو في كل يوم يبدئ خلقاً من نبات وحيوان وغيرهما ، ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى ، ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه .
{ وَهُوَ الْغَفُورُ } أي : لمن يرجع إليه بالتوبة { الْوَدُودُ } أي : المحب لمن أطاعه وأخلص له .
{ ذُو الْعَرْشِ } أي : المُلكِ والسلطان أو السماء { الْمَجِيدُ } أي : العظيم في ذاته وصفاته . وقرئ بالجر صفة للعرش . ومجدُه : علوُّه وعظمته
{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي : لا يريد شيئاً إلا فعله ، فلا يحول بينه وبين مراده شيء ، فمتى أراد إهلاك الجاحدين ونصر المخلصين فعل ؛ لأن له ملك السماوات والأرض ؛ ولذا تأثره بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ 17 - 22 ]
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ } أي : الذين تجنَّدوا على الرسل بأذاهم .
قال ابن جرير : أي : قد أتاك ذلك وعلمتَهُ ، فاصبر لأذى قومك وإياك لِما نالوك به من مكروه ، كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي ، ولا يثنيّنك عن تبليغهم رسالتي كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء ؛ فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عَطب وهلاك ، كالذي كان من هؤلاء الجنود ، فالجملة - كما قال أبو السعود - استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة ، والكفرة العتاة وكونه فعالاً لما يريد متضمن لتسليته صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومَه ما أصاب الجنود .
وقوله تعالى : { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } بدل من { الْجُنُودِ } لأن المراد بفرعون هو وقومه ، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه . والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال .
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ } أي : للحق والوحي ، مع وضوح آياته وظهور بيناته ؛ عناداً وبغياً . والإضراب انتقالي للأشد ، كأنه قيل : ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك ، فإنهم مع علمهم بما حل بهم ، لم ينزجروا ، وفي جعلهم { فِي تَكْذِيبٍ } إشارة إلى تمكنه من أنفسهم ، وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه ، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله .
{ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ } أي : محصٍ عليهم أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء ، وهو مجازيهم على جميعها . فاللفظ كناية عما ذكر . أو المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحوزته ، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ، فسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً . ففيه استعارة تمثيلية .
قال الشهاب : وفيه تعريض توبيخي لهم بأنهم نبذوا اللهَ وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الهوى والشهوات بوجوه انهماكهم ، وقوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } أي : سامٍ شريف لا يماثل في أسلوبه وهدايته .
{ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } قرئ بالرفع صفة لـ { قُرْآنٌ } ، والجر صفة اللوح . قال ابن جرير : والمعنى على الأولى محفوظ من التغيير والتبديل في لوح ، وعلى الثانية محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه ، عما أثبته الله فيه . و { بَلْ } إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عنه ، إلى وصف القرآن بما ذكر ، للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء ؛ فإنه تعالى تولَّى حفظه وظهوره أبد الآبدين .

(/)


سورة الطارق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِق ُ *النَّجْمُ الثَّاقِب ُ *أن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ 1- 4 ]
{ وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ } أي : المضيء كأنه يثقب ظلمة الليل وينفذ فيه ، فيبصر بنوره ويهتدي به . وسمي طارقاً لأنه يطرق ليلاً أي : يبدو فيه .
قال الشهاب : الطارق من الطرق ، وأصل معناه الضرب بوقع وشدةٍ يسمع لها صوت ، ومنه المطرقة والطريق ؛ لأن السابلة تطرقها ، ثم صار في عرف اللغة اسماً لسالك الطريق ، لتصور أنه يطرقها بقدمه ، واشتهر فيه حتى صار حقيقة . وتسمية الآتي ليلاً طارقاً ؛ لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها .
والتعريف في { النَّجْمُ } للجنس . وأصل معنى الثقب الخرق ؛ فالثاقب الخارق ، ثم صار بمعنى المضيء ، لتصور أنه ثقب الظلام أو الفلك . وفي إبهامه ثم تفسيره تفخيم لشأنه وتنبيه على الاعتبار والاستدلال به .
{ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } أي : مهيمن عليها رقيب ، وهو الله تعالى ، كما في آية :
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } [ الأحزاب : 52 ] ، فيحصي عليها ما تكسب من خير أو شر ، وقد قرئ : لمّا بالتخفيف ، فـ : إن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و { كُلُّ نَفْسٍ } مبتدأ و { عَلَيْهَا حَافِظٌ } خبره . و ما صلة واللام هي الفارقة . وقرئ : لمَّا بالتشديد على أنها بمعنى إلا الاستثنائية ، و { إِن كُلُّ } نافية والخبر محذوف ، أي : ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال ، إلا في حال أن يكون عليها حافظ ورقيب و { كُلُّ } على هذا مؤكدة ؛ لأن { نَّفْسَ } حينئذ نكرة في سياق النفي ، فتعم .
قال ابن جرير : والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك التخفيف ؛ لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام العرب ، غير أن الفَرَّاء كان يرى أنها لغة في هُذَيل ، يجعلون إلا مع إن المخففة لمّا ، فإن كان صحيحاً ما ذكر الفراء فالقراءة بها جائزة صحيحة ، وإن كان الاختيار مع ذلك قراءة التخفيف ؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر . انتهى .
وقد صحح غير واحد ثبوتها ، وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ، واستشهد ابن هشام لها في " المغني " فراجعه .

(/)


[ انظر تفسير الآيات السابقة ]
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ } [ 5 - 10 ]
{ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } جواب لمقدر . والفاء فصيحة أي : إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب ، فلينظر إلخ .
قال الإمام : قوله : { فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَاْن } بمنزلة الدليل على الدعوى المقسم عليها ، زيادة في التأكيد ، ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها ، ثم إن هذا السائل ينشأ خلقاً كاملاً كالْإِنْسَاْن مملوءاً بالحياة والعقل والإدراك ، قادراً على القيام بخلافته في الأرض ؛ فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية ، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن ، ثم منح قوة الإدراك والعقل ، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره ، وهو الله جل شأنه . ويجوز أن يكون قوله { فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى ، كأنه يقول : فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب ، فمن الواجب على الْإِنْسَاْن أن لا يهمل نفسه ، وأن يتفكر في خلقه ، وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة قادر على أن يعيده ؛ فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق ، ويعدل بها عن سبل الشر ؛ فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال . انتهى .
و { دَافِقٍ } من الدفق ، وهو صبٌّ فيه دفع . وقد قيل : إنه بمعنى مدفوق ، وإن اسم الفاعل بمعنى المغعول . كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل ك : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] .
والصحيح أنه بمعنى النسبة ك : لابن وتامِر ، أي : ذي دفق ، وهو صادق على الفاعل والمفعول . أو هو مجاز في الإسناد ، فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة . أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقاً ؛ لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضاً ، أي : يدفعه . أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل ، كما نقل عن الليث ، أقوال .
وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } أي : من بين صلب الرجل ونحر المرأة .
قال الإمام : الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فَقار ، ويعبر عنهُ في كلام العامة بسلسلة الظهر . وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقاً لاسم الجزء على الكل . و { التَّرَائِبِ } موضع القلادة من الصدر ، وكنى بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة ، أي : أن ذلك الماء الدافق إنما يكون مادة لخلق الْإِنْسَاْن إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه ، وهو رحم المرأة ؛ فقوله : { يَخْرُجُ } إلخ وصف لابد من ذكره لبيان أن الْإِنْسَاْن إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منهُ .
وقال بعض علماء الطب : الترائب جمع تربية وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى ، ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى ، ومنها قول امرئ القيس :
~ترائُبها مَصْقولة كالسَّجَنْجَل
قال : ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم ، يخرج من شيء ممتد بين الصلب - أي : فقرات الظهر في الرجل - والترائب أي : عظام صدره ، وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر الأورطي ، وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريباً ، ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة ، ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين ، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين ، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المني { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر . وهذه الآية على هذا التفسير تعتبر من معجزات القرآن العلمية وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول . انتهى .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ } أي : الحافظ سبحانه ، المتقدم في قوله : { لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } أو الخالق المفهوم من خلق { عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } أي : رجع الْإِنْسَاْن وإعادته في النشأة الثانية لقادر كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى .
{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } أي : تظهر وتعرف خفيات الضمائر .
قال الزمخشري : السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ، وما أخفى من الأعمال . وبلاؤها تعرّفها وتصفّحها ، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث .
{ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ } أي : من قوة يمتنع من عذاب الله وأليم نكاله . ولا ناصر ينصرهُ فيستنقذه ممن ناله بمكروه ، يعني أنه فقد ما كان يعهدهُ في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته ، يمتنع منهم ممن أرادهُ بسوء . وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده . ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ 11 - 17 ]
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ } أي : المطر ؛ يسمى رجعاً لأنه تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً إلى العباد ، ولولاه لهلكوا وهلكت مواشيهم .
{ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } أي : النبات ؛ لأنه يصدع الأرض ، أي : يشقها ، أي : الانشقاق بالنبات ، فهو علم أو مصدر .
{ إِنَّهُ } أي : القرآن الكريم { لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أي : حق فرق بين الحق والباطل { وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } أي : بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب ، بل هو جدّ الجدّ .
{ إِنَّهُمْ } أي : المكذبين به ، الجاحدين لحقه { يَكِيدُونَ كَيْداً } أي : يمكرون مكراً لإبطال أمر الله وإطفاء نوره .
{ وَأَكِيدُ كَيْداً } قال ابن جرير : أي : وأمكر مكراً . ومكرُه جل ثناؤه بهم إملاؤهُ إياهم على معصيتهم وكفرهم به . يعني أن الكيد هنا استعارة تبعية أو تمثيلية ، بتشبيه إمهال الله لهم ليستدرجهم بالكيد ، وبهذا يظهر تفريع أمره بإمهالهم في قوله : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ } أي : لا تستعجل عقابهم .
وقوله : { أَمْهِلْهُمْ } بمعنى : مهلهم ، فهو بدل منه للتأكيد . أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد . وقوله :
{ رُوَيْداً } أي : قليلاً .
قال الإمام : وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب ، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت . ثم فيه الوعد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بل لكل داعٍ إلى الحق الذي جاء به ، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله ، وأن المناوئين له هم الخاسرون .

(/)


سورة الأعلى
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَ ى *الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى } [ 1 - 5 ]
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } أي : نزِّه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما ، كقوله :
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] ، فالاسم صلة . وسِرُّ إيراده أن المنوَّه به إذا كان في غاية العظمة ، كثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه ، فيقال : سبح اسمه ومجد ذكره ، كما يقال : سلام على المجلس العالي . هذا ما ذكروه . وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى ، لاستحالة اكتناه ذاته العلية ، فأقحم تنبيهاً على ذلك . ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة أنهم < كانوا إذا قرؤوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى > ، كما رواه ابن جرير وغيره .
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه ، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم ، بعضها اللات وبعضها العزى ، حكاه ابن جرير ؛ فالإسناد على ظاهره ، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في " الفِصَل " حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى ، ذهاباً إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره . فقال ابن حزم رحمه الله : وأما قوله تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } فهو على ظاهره دون تأويل ؛ لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز وجل ، هو تنزيه الشيء عن السوء ، وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء ، عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقاً به . ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ومعنى قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 95 - 96 ] ، معنى واحد ، وهو أن يسبح الله تعالى باسمه . ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه ؛ فكلا الوجهين صحيح . وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص . ولا فرق بين قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } وبين قوله { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [ الطور : 48 - 49 ] .
والحمد بلا شك هو غير الله ، وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه ، ولا فرق ؛ فبطل تعلقهم بهذه الآية . انتهى كلامه .
وقد يقال : فرق بين الآيتين ، فإن الباء في { بِحَمْدِ رَبِّكَ } للملابسة ، ولا كذلك هي في { بِاسْمِ رَبِّكَ } ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها ، فالأظهر هو الأول لما أيده من الأخبار ولآية { فَسَبِّحْهُ } وآية { سُبْحَانَ رَبِّكَ } والله أعلم .
و { الْأَعْلَى } هو الأرفع من كل شيء ، قدرةً وملكاً وسلطاناً . واستدل السلف بظاهره في إثبات العلوّ بلا تكييف . والمسألة معروفة .
{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } قال الزمخشري : أي : خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ، ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم ، ولكن على إحكام واتساق ، ودلالة على أنه صادر عن عالم ، وأنه صنعة حكيم .
{ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } أي : قدر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرَّفه وجه الانتفاع به .
{ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } أي : أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات .
{ فَجَعَلَهُ } أي : بعد خضرته ونضرته { غُثَاء } أي : جافاً يابساً تطير به الريح { أَحْوَى } أي : أسود ، صفة مؤكدة لـ : { غُثَاء } لغثاء ؛ لأن النبات إذا يبس تغير إلى الحوّة ، وهي السواد .
قال ابن جرير : وكان بعض أهل العلم بكلام لغة العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ، أي : أخضر إلى السواد فجعله غثاءً بعد ذلك . وهذا القول وإن كان غير مدفوع ، أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره ، فأما وله في موضعه وجه صحيح ، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير . انتهى . والقول المذكور هو للفراء وأبي عبيدة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَ ى *الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } [ 6 - 13 ]
{ سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى } أي : سنجعلك قارئاً ، بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه ، والمعنى : نجعلك قارئاً للقرآن فلا تنساهُ .
قال الزمخشري : بشّره الله بإعطاء آية بيِّنة ، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي ، وهو أميٌّ لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : هذه آية تدل على المعجزة من وجهين :
أحدهما : إنه كان رجلاً أميّاً ، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة ، خارق للعادة ، فيكون معجزاً .
وثانيهما : أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة . فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخبار عن الغيب ، فيكون معجزاً .
الثاني : قيل : لا تنسى نهي ، والألف للإطلاق في الفاصلة وهو جائز مثل { السَّبِيلَا } [ الأحزاب : 67 ] ، والمعنى لا تغفل قراءته وتكريره فتنساه . فالنهي عنه مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية .
قال الرازي : والقول المشهور أن هذا خبر ، والمعنى : سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان ، كقولك : سأكسوك فلا تعرى ، أي : فتأمن العري ، قال : واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية :
منها : أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به ، فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة التذكر ، وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ .
ومنها : أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة ، وهو أيضاً خلاف الأصل .
ومنها : أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه . وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة . وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول . ولأنه على خلاف قوله :
{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة : 16 ] انتهى .
الثالث : قال البرهان الشافعي في كتاب " تفضيل السلف على الخلف " : إن بعضهم ذكر أن هذه الآية ناسخة لآية : { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } وتحقيق معنى النسخ هنا في غاية الإشكال ، لأن قوله : { وَلَا تَعْجَلْ } نهي عن العجلة ، وقوله : { سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى } ليس بأمر بها ليكون ناسخاً للنهي عنها ، بل هو خبر عن بقاء الحفظ بعد إقرائه .
وفحواه مؤكد لمعنى الخطاب الآخر ؛ لأن تأويله : إنا نحفّظك تحفيظاً لا تخاف معه النسيان ؛ فلا حاجة لك إلى أن تعجل بالقرآن وتحرك به لسانك . ولكنهم سموه نسخاً ، لغة لا حقيقةً ، على معنى تبدل الحال عنهُ ، فإنه ظهر له الأمن عن النسيان بعد خوفه أن ينساه لما كان يحرك به لسانه . انتهى .
وقوله تعالى : { إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ } استثناء مفرَّغ من أعم المفاعيل ، أي : لا تنسى مما تقرؤه شيئاً من الأشياء ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، مما تقتضيه الجبلة البشرية أحياناً .
قال الزجاج : إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى ، ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسياناً كلياً دائماً ؛ وذلك لأن ما بالجبلة لا يتغير ، وإلا لكان الْإِنْسَاْن عالماً آخر .
وقد روى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < رحم الله فلاناً ، لقد أذكرني كذا وكذا آية ، كنت أسقطتهن > . ويروى : < ُأنسيتهن > .
وقال صلى الله عليه وسلم : < إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني > . رواه الشيخان عن ابن مسعود .
وقيل : الاستثناء مجازي بمعنى القلة المراد بها النفي ، وذلك أن المخرج في الاستثناء أقل من الباقي ؛ ولأن : ماشاء الله ، في العرف يستعمل للمجهول ، فكأنه قيل : إلا أمراً نادراً لا يعلم ؛ فإذا دل مثله على القلة عرفاً ، والقلة قد يراد بها النفي في نحو : قلّ من يقول كذا مجازاً ، أريد بالاستثناء هنا ذلك . وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله : أو قال : إلا ما شاء الله ، والغرض نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله ، ولا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلة في معنى النفي .
وقال الفراء - فيما نقله الرازي - إنه تعالى ما شاء أن يُنسي محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً ، إلا المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لقدر عليه ، كما قال :
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] ، ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك . وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرّفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه ، لا من قوته . انتهى .
{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } أي : ما يجهر به عباده وما يخفونه من الأقوال والأفعال . وهو تعليل لقوله : { سَنُقْرِؤُكَ } مبين لحكمته ، وهو سبق علمه تعالى بحاجة البشر إلى إقرائه الوحي وإخراجهم به من الظلمات إلى النور .
ثم أشار إلى أن هذا المُقْرأ الموحى به للعمل ، ليس فيه حرج وعسر ، بقوله تعالى : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } أي : نوفقك للطريقة اليسرى ، أي : الشريعة السَّمحة السهلة ، التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة البشر مدى الدهر .
{ فَذَكِّرْ } أي : عباد الله عظمته ، وعظهم وحذرهم عقوبته { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } أي : الموعظة ، و إن إما بمعنى إذ ، كقوله تعالى :
{ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، أو بمعنى قد ، على ما قاله ابن خالويه ، ويؤيده قوله تعالى :
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] ، وقيل : إن شرطية ، والمعنى ذم المذكَّرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم ، تسجيلاً بالطبع على قلوبهم ، كما تقول للواعظ : عظ المكّاسينَ إن سمعوا منك ، قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون .
{ سَيَذَّكَّرُ } أي : يقبل التذكرة وينتفع بها { مَن يَخْشَى } أي : بخاف العقاب على الجحود والعناد ، بعد ظهور الدليل .
{ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } أي : العظمى ألماً وعذاباً .
{ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } أي : لا يهلك فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه . قيل : إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة قالوا : لا هو حي ولا ميت ، فجاء على مألوفهم في كلامهم . و { ثُمَّ } هنا للتفاوت الرتبيّ ، إشارة إلى أن خلوده أفظع من دخوله النار وصليّه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [ 14 - 19 ]
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } أي : فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي ، وعمل بما أمره الله به .
{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } أي : تذكر جلال ربِّه وعظمته ، فخشع وأشفق وقام بما له وعليه ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] ، وجوز أن يحمل { تَزَكَّى } على إيتاء الزكاة ، و صلى على إقامة الصلاة كآية : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] ، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات ، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة . لكن قيل عليه ، بأن المعهود في التنزيل الكريم تقديم الصلاة . وأجيب بفعل مأخوذ منها ، فلا كقوله : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } [ القيامة : 31 ] . والأول أظهر ، لأنه أشمل وأعمّ . وهو أكثر فائدة .
{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } قال أبو السعود : إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح : لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها . والخطاب إما للكفرة ، فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها ، والإعراض عن الآخرة بالكلية ، كما في قوله تعالى :
{ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا } [ يونس : 7 ] الآية ، أو للكل ، فالمراد بإيثارها ما هو أهم مما ذكر ، وما لا يخلو عنه الْإِنْسَاْن غالباً من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ . والالتفات على الأول لشديد التوبيخ ، وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة ، وتشديد العتاب في حق المسلمين . وقرئ : { يؤثرون } بالياء .
{ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : أفضل ، لخلوصها عما يكدر . وأدوم لعدم انصرام نعيمها . والجملة حال من فاعل { تُؤْثِرُونَ } مؤكدة للتوبيخ والعتاب { إِنَّ هَذَا } أي : ما ذكر في قوله :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } أو ما في السورة كلها { لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي : ثابت فيها معناه .
{ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } بدل من { الصُّحُفِ الْأُولَى } ، وفي إبهامها ووصفها بالقدم ، ثم بيانها وتفسيرها ، من تفخيم شأنها ، ما لا يخفى .

(/)


سورة الغاشية
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ* ل َّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } [ 1 - 9 ]
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } أي : خبرها وقصتها ، وهي القيامة .
وأصل الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها . والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه ، مع تقريره .
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } أي : ذليلة . وهي وجوه أهل الكفر بالحق والجحود له . والمراد بالوجوه الذوات .
{ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } قال القاشاني : أي : تعمل دائباً أعمالاً صعبة تتعب فيها ، كالهوي في دركات النار ، والارتقاء في عقباتها ، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها . أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضريت بها في الدنيا ، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب . وجوز أن يكون { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } إشارة إلى عملهم في الدنيا ، أي : عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة . فيكون بمنزلة حابطة أعمالها . أو جعلت أعمالها هباءً منثوراً كما يدل عليه آيات أخر ، ويؤيده مقابلة هذه الآية ، لقوله في أهل الجنة { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا . والله أعلم
{ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً } أي : تدخل ناراً متناهية في الحرارة . قال القاشاني : أي : مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال .
{ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أي : بلغت غايتها في شدة الحر .
{ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ } وهو من جنس الشوك ، ترعاه الإبل ما دام رطباً ، فإذا يبس تحامته ، وهو سم قاتل . قال ابن جرير : الضريع عند العرب نبت يقال له : الشبرَق ، وتسميه أهل الحجاز الضريع ، إذا يبس . ولا منافاة بين هذه الآية وآية :
{ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 36 ] ؛ لأن العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع ، وقيل : الضريع مجاز أو كناية ، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك ، فلا ينافي كونه زقوماً أو غسلينا .
{ لَا يُسْمِنُ } أي : لا يخصب البدن { وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ } أي : لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله .
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } أي : ذات حسن ، على أنه من النعومة ، كناية عن حسن المنظر . أو ناعمة بمعنى متنعمة ، على أنه من النعيم .
{ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } أي : لعملها الذي عملته في الدنيا وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل ، شاكرة لا تندم ولا تتحسر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* ل َّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ 10 - 16 ]
{ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي : مرتفعة المحل . أو رفيعة القدر ، من علوّ المكانة .
{ لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً } أي : لغواً ، أو كلمةً ذات لغو ، أو نفساً تلغو ؛ لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والتحميد .
{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أي : لا انقطاع لها .
{ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } أي : مرتفعة ليروا إذا جلسوا عليها جميع ما خولوه من النعيم والملك .
{ وَأَكْوَابٌ } جمع كوب ، وهو إناء لا أذن له { مَّوْضُوعَةٌ } أي : بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها .
{ وَنَمَارِقُ } أي : وسائد { مَصْفُوفَةٌ } أي : فوق الأسِرّة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها .
{ وَزَرَابِيُّ } أي : بسط { مَبْثُوثَةٌ } أي : مفروشة . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [ 17 - 20 ]
{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } قال أبو السعود : استئناف مسوق لتقدير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون ، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره . والهمزة للإنكار والتوبيخ . والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة { كَيْفَ } منصوبة بما بعدها ، معلقة لفعل النظر . والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من { الْإِبِلِ } أي : أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه ، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل ، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين ، إلى أنها كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات ، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة ، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجرِّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة ، وفي صبرها على الجوع والعطش ، حتى إن إظماءها لتبلغ العشر فصاعداً واكتفائها باليسير ، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك ، مما لا يكاد يرعاهُ سائر البهائم ، وفي انقيادها مع ذلك الْإِنْسَاْن في الحركة والسكون والبروك والنهوض ، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء ، ويقتادها كلّ صغير وكبير .
{ وَإِلَى السَّمَاء } التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار { كَيْفَ رُفِعَتْ } أي : رفعت كواكبها رفعاً سحيق المدى ، وأمسك كل منها في مداره إمساكاً لا يختل سيره ولا يفسد نظامه .
{ وَإِلَى الْجِبَالِ } أي : التي ينزلون في أقطارها { كَيْفَ نُصِبَتْ } أي : أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها ، حفظاً للأرض من الميدان .
{ وَإِلَى الْأَرْضِ } أي : التي يضربون فيها ويتقلبون عليها { كَيْفَ سُطِحَتْ } أي : بسطت ومهدت ، حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق .
قال الزمخشري : والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق ، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث ، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه .
لطيفة :
ذكر السكاكي في " المفتاح " في بحث الجامع الخيالي ، أن جمعهُ على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال ، وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر ، أنى يستحلى كلام ربِّ العزة مع أهل الوبر ، حيث يبصرهم الدلائل ناسقاً ذلك النسق { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }
الآيات ؛ لبعد البعير عن خياله في مقام النظر ، ثم لبعده في خياله عن السماء ، وبعد خلقه عن رفعها ، وكذا البواقي . لكن إذا وفاهُ حقهُ بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم ، جاء الاستحلاء ؛ وذلك إذا نظر أن أهل الوبر ، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي ، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعاً وهي الإبل ، ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب ، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر ، وأهم مسارح النظر عندهم السماء ، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه ، ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال .
~لنا جبلٌ يحتلُّه من نجيرهُ منيعٌ يردُّ الطرفَ وهو كليلُ
فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها ؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل - ومن لأصحاب مواش بذاك - كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور ، فعند نظره هذا ، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له ، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة ، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما ، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن ؟ لا ، وإنما الحضري ، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور ، وما جمع خيالهُ تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت ، ظن النسق بجهله معيباً للعيب فيه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* ل َّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ 21 - 26 ]
{ فَذَكِّرْ } أي : من أرسلت إليه بآياته تعالى التي تسوق إلى الإيمان بخالقها الفطرة { إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ } أي : مبلغ ما نسي من أمره تعالى :
{ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } أي : بمتسلط تقهرهم على الإيمان . وقرئ بالصاد على إبدالها من السين .
{ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ } وهو عذاب جهنم . والاستثناء منقطع ، أي : لكن من تولى وكفر ، فإن لله الولاية والقهر ، فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق .
{ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } أي : رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث . والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر . وجمع الضمير فيه وفيما بعده ، باعتبار معنى { مَن } كما أن إفراده قبل باعتبار لفظها .
{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } أي : فنجازيهم بالعذاب الأكبر ؛ فإن القهر والغلبة له تعالى وحده .

(/)


سورة الفجر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ } [ 1 - 5 ]
{ وَالْفَجْرِ } أي : الصبح كقوله تعالى : { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } [ التكوير : 18 ] أقسم تعالى بآياته ، لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات ، لطلب الأرزاق ؛ وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم . وفيه عبرة لمن تأمل .
{ وَلَيَالٍ عَشْرٍ } هي - على قول ابن عباس ومجاهد - عشر ذي الحجة ؛ لأنها أيام الاهتمام بنسك الحج . وفي البخاري عن ابن عباس مرفوعاً : < ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام > يعني عشر ذي الحجة .
وحكى ابن جرير : أنه قيل : عني بها عشر المحرم . والرازي قولاً أنها العشر الأواخر من رمضان ، لما فيه من ليلى القدر ، ولما صح أنه صلوات الله عليه < كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شدّ مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله > . وثمة وجه آخر في العشر . وهو أنها الليالي التي ُيحلولك فيها الليل ويشتد ظلامه ويغشى الأفق سواده ، وتلك خمس من أوائله وخمس من أواخره . وإن لفظة { عَشْرٍ } بمثابة قوله في السور الآتية { إِذَا يَغْشَى } [ الليل : 1 ] { إِذَا سَجَى } [ الضحى : 2 ] مما يبّين وجه العبرة ويجلّيها أتم الجلاء ، ولا بعد في هذا المعنى ، بل فيه توافق لبقية الآيات . وبالجملة فأوضح المخصصات ما عضدهُ دليل أو أيدته قرينة أو حاكى نظائره . والله أعلم .
{ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } يعني الخلق والخالق . فالشفع بمعنى جميع الخلق ، للازدواج فيه كما في قوله تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] ، قال مجاهد : كل خلق الله شفع : السماء والأرض ، والبر والبحر ، والجن والإنس ، والشمس والقمر ، والكفر والإيمان ، والسعادة والشقاوة ، والهدى والضلالة ، والليل والنهار .
{ وَالْوَتْرِ } هو الله تعالى لأنه من أسمائه وهو بمعنى الواحد الأحد . فأقسم الله بذاته وخلقه . وقيل : المعنى بالشفع والوتر ، جميع الموجودات من الذوات والمعاني ؛ لأنها لا تخلو من شفع ووتر .
قال القاضي : ومن فسرهما بالبروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها أو بيومي النحر وعرفة ، فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد ، أو مدخلاً في الدين ، أو مناسبة لما قبلهما .
قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر ، ولم يخصص نوعاً من الشفع ولا من الوتر ، دون نوع ، بخبر ولا عقل ، وكل شفع ووتر ، فهو مما أقسم به . مما قال أهل التأويل أنه داخل في قسمه هذا ، لعموم قسمه بذلك .
وقد قرئ : { الوتر } بفتح الواو وكسرها ، وهما لغتان .
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } أي : إذا يمضي ، كقوله : { وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] ، والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة ؛ ففي الليل الراحة التي هي من أعظم النعم ، وفي النهار المكاسب وغيرها . وحذف الياء للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي . ومن القراء من حذفها ، أصلاً ووقفاً . ومنهم من خصه بأحدهما ، كما فصل في كتب الأداء .
{ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ } قال ابن جرير : أي : هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر ، وإنما عُني بذلك : أن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه ، مما هو أغلظ منه في الإقسام .
وقال الرازي : المراد من الاستفهام التأكيد ، كمن ذكر حجة باهرة ثم قال : هل فيما ذكرته حجة ؟ والمعنى أن من كان ذا لبّ علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية . فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه ، أي : على طريقة قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] ، وإنما أوثرت هذه الطريقة هضماً للخلق ، وإيذاناً بظهور الأمر . و الحجر العقل ؛ لأنه يحجر صاحبه ، أي : يمنعه من ارتكاب ما لا ينبغي ، والمقسم عليه محذوف وهو : ليعذبن كما ينبئ عنه قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد ِ *الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } [ 6 - 8 ]
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } أي : ألم تعلم علماً يقينياً كيف عذب ربك عاداً ، فيعذب هؤلاء أيضاً ، لاشتراكهم فيما يوجبهُ من جحود الحق والمعاصي . و عاد : قبيلة من العرب البائدة ، وتلقب بإرم أيضاً ، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام ، فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية . فقوله تعالى : { إِرَمَ } عطف بيان لعاد { ذَاتِ الْعِمَادِ } أي : ذات الخيام المعمّدة ، لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان ، ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في حضرموت . وقيل : كنيَ بالعماد عن العلوّ والشرف والقوة ، إلا أنه الأشبه - كما قال ابن جرير - بظاهر التنزيل هو الأول ، وهو أنهم كانوا عمد سيارة ؛ لأن المعروف في كلام العرب من العماد ، ما عُمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء . ثم قال : وتأويل القرآن إنما يوجهُ إلى الأغلب الأشهر من معانيه ، ما وجد إلى ذلك سبيل ، دون الأنكر .
{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } أي : في العِظم والبطش والأيدي .
قال ابن كثير : كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشاً ؛ ولهذا ذكّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم . فقال :
{ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 69 ] . وقال تعالى :
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] .
تنبيه :
قال الإمام الدرّاكة ابن خلدون في " مقدمة تاريخه" في سياق الأخبار الواهية للمؤرخين ما مثاله : وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة الفجر في قوله تعالى :
{ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } فيجعلون لفظه { إِرَمَ } اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد ، أي : أساطين ، وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان ، هما شديد وشداد ، ملكا من بعده ، وهلك شديد فخلص الملك لشداد ، ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنيّن مثلها ، فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة ، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة ، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة ، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم . ذكر ذلك الطبريّ والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين . وينقلون عن عبد الله بن قلابة - من الصحابة - أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه ، وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه ، فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال : هي { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا واللهِ ذاك الرجل .
قال ابن خلدون : وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض ، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زآل عمرانه متعاقباً والأدلاء تقص طرقهُ من كل وجه . ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم ، ولو قالوا : إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبهُ ، إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة ، وبعضهم يقول : إنها دمشق ، بناء على أن قوم عاد ملكوها . وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة ، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر . مزاعم كلها أشبهُ بالخرافات . والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظه : { ذَاتِ الْعِمَادِ } أنها صفة { إِرَمَ } وحملوا العماد على الأساطين ؛ فتعين أن يكون بناء ، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير : عاد إرم على الإضافة من غير تنوين . ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات ، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام . وإن أريد بها الأساطين ، فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم ، بما اشتهر من قوتهم ، لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها . وإن أضيفت ، كما في قراءة ابن الزبير ، على إضافة الفصيلة إلى القبيلة ، كما تقول : قريش كنانة وإلياس مضر ، وربيعة نزار . وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة ؟ انتهى . وسبقه الحافظ ابن كثير في تفسيره حيث قال : ومن زعم أن المراد بقوله :
{ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مدينة إما دمشق أو اسكندرية ، ففيه نظر ؛ فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا إن جعل { إِرَمَ } بدلاً أو عطف بيان ؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ . ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم .
قال : وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية ، من ذكر مدينة يقال لها : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مبنية بلبن الذهب والفضة إلخ ؛ فإن هذا كله من خرافات الإسرائيلين ، من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس إن صدقهم في جميع ذلك . وحكاية عبد الله بن قلابة الأعرابي ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الأعرابي ، فقد يكون اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال ، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وليس كذلك ، وهذا مما يقطع بعدم صحته ، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتخيلين ، ومن وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير ، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها ، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء ، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ، ونحو ذلك من الهذيانات ، ويطنزون بهم ، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَاد ِ *الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ 9 - 14 ]
{ وَثَمُودَ } وهم قوم صالح عليه السلام { الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } أي : قطعوا صخر الجبال ، واتخذوا فيها بيوتاً . كما في قوله : { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } [ الحجر : 82 ] ، والباء ظرفية . والمجرور متعلق بـ { جَابُوا } أو هو حال من الفاعل أو المفعول . وقرئ بالياء وبإسقاطها ، كما في { يَسْرِ } والوادي هو وادي القرى كانت منازلهم فيه ، كما قاله ابن إسحاق .
{ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ } أي : الجنود الذين يشدون له أمره . أو هي أوتاد يشد بها من يعذبه . أو القوى والعَدد والعُدد التي تم لهُ بها ملكهُ ، ورسخ بطشه وسلطانه ، ومنه قولهم لمن تمكن في أرضٍ ما : ضرب بها أوتاداً .
{ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ } صفة للمذكورين : عاد وثمود وفرعون ، أي : تجاوزوا ما وجب عليهم إلى ما حظر من الكفر بالحق والعتو والتمرّد والبغي في بلادهم ، اغتراراً بالقوة وعظم السلطان .
{ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } أي : الضرر والإيذاء وهضم الحقوق .
{ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي : أنزل بهم عذابه ، وأحلّ بهم نقمته ، بما طغوا في البلاد وأفسدوا فيها . وقد بين تعالى إهلاكهم مفصلاً في غير ما سورة وآية . و السوط إما مصدر : ساطه ، أي : خلطه كما في قول كعب :
~لكنها خُلَّةٌ قد سِيطَ من دَمِها فَجْعٌ ووَلْعٌ وَإخْلافٌ وتَبْديلُ
أريد به المفعول هنا أي : أنزل عليهم ما خلط لهم من أنواع العذاب . قيل : وبما ذكر سميت الآلة المعروفة ، وهو الجلد المضفور الذي يضرب به ، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض . وإما أن يكون السوط الآلة المعروفة ، استعيرت لعذاب أدون من غيره ، وهو ما اختارهُ الزمخشري حيث قال : وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعذّ لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به .
وقيل : هو من قبيل : لجين الماء ، أي : عذاباً كالسوط في شدته ، وهو ما يقتضيه كلام الطبري ، حيث زعم أن السوط مَثل لشدة العذاب .
قال الشهاب : وأما استعارة الصبّ للعذاب فشائعة ، كالإذاقة . يقال : صبّ عليه السوط ، وقنّعهُ به وغشّاهُ . وهو تمثيل وتصوير لحلوله أو تتابعه عليه وتكرره .
{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } أي : لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم ، ولضربائهم من الكفرة بالحق والعاثين بالفساد .
و المرصاد اسم مكان للذي يترقب فيه الرصد - جمع راصد - أو صيغة مبالغة . كمطعام ومطعان . فالياء تجريدية وفيه استعارة تمثيلية ، شبه كونه تعالى حافظاً لأعمال العباد ، مترقباً لها ومجازياً على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه أحد بحال من قعد على الطريق مترصداً لمن يسلكها ، ليأخذ فيوقع به ما يريد . ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } [ 15- 16 ]
ثم أشار إلى غفلة الْإِنْسَاْن في حالي غناه وفقره ، ونعى عليه شأنه فيهما ، بما يقرر ما تقدم من استحقاقه صبّ العذاب ، بقوله تعالى : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } أي : بالغنى واليسار { فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } أي : فضّلني ، لما لي عندهُ من الكرامة .
{ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } أي ضيقه عليه وقتره ، فلم يكثر مالهُ ولم يوسع عليه { فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } أي : أذلني بالفقر ؛ وذلك لسوء فكره وقصور نظره في الحالين ، فإنه إنما ابتلاه بالغنى ليقوم بواجبه ويعرف حق الله فيه ، وبالفقر ليظهر بمظهر العفاف ويتخلق بخلق الصبر على الكفاف . ففي كل ابتلاء وامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب ، ونظير الآية ، آية :
{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وآية : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 - 56 ] وآية : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19 - 22 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [ 17 - 20 ]
وقوله تعالى : { كَلَّا } ردع عن قولية في حاليه ، أعني اعتقاد الإكرام في الإعطاء ، والإهانة في المنع ، بل لطلب الشكر ، وهو صرف النعم إلى ما خلقت له ، وإعطاء المال لذويه ، وأحقهم الأيتام وهم لا يفعلونه ، كما قال :
{ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } وهو من فقد كافله ومربيه ، فإن من آكد الواجبات القيام على تأديبه وكفالته ، صوناً إذا أهمل من فساد طبيعته وعيثه بالضرر في أهل جبلته . ومثلهُ التحاضّ على مواساة البؤساء ، وهؤلاء المنعي عليهم ضلالهم في غفلة عنه ، كما قال :
{ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } أي : لا يحض بعضكم بعضاً عليه ولا يتواصى به .
قال الإمام : وإنما ذكر التحاض على الطعام ، ولم يكتف بالإطعام فيقول : لم تطعموا المسكين ؛ ليصرح لك بالبيان الجلي أن أفراد الأمة متكافلون ، وأنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع التزام كلٍّ لما يأمر به ، وابتعاده عما ينهى عنه .
لطيفة :
قال القاشاني : في دلالة قوله تعالى :
{ فَأَمَّا الْإِنْسَاْن } أي : الْإِنْسَاْن يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان ، لحديث : < الإيمان نصفان نصف : صبر ، ونصف شكر > لأن الله تعالى إما يبتليه بالنعم والرخاء ، فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه . ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول : أن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده ، ويترفهُ في الأكل ويحتجب بمحبة المال وبمنع المستحقين ، أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول : إن الله أهانني ، فربما كان ذلك إكراماً له بأن لا يشغلهُ بالنعمة عن المنعم ، ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق ، كما أن الأول ربما كان استدراجاً منه . انتهى .
{ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } قال ابن جرير : أي : تأكلون الميراث أكلاً شديداً ، لا تتركون منه شيئاً . من قولهم : لممت ما على الخوان أجمعُ فأنا ألمهُ لماًَّ ، إذا : أكلت ما عليه فأتيت على جميعه .
قال ابن زيد : كانوا لا يورثّون النساء ولا يورّثون الصغار ، وقرأ : { يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } [ النساء : 127 ] ، أي : لا تورثوهن أيضاً . وقال بكر بن عبد الله : اللمُّ : الاعتداء في الميراث ، يأكل ميراثه وغيره .
{ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } أي : جمعه وكنزه ، حباً كثيراً شديداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكًّا * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ 21 - 26 ]
{ كَلَّا } ردع لهم عن ذلك ، وإنكار لفعلهم ، وما بعده وعيد عليه بالإخبار عن ندمهم وتحسرهم حين لا ينفعهم الندم { إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } أي : دكاً بعد دك حتى عادت هباءً منثوراً .
قال الشهاب : ليس الثاني تأكيداً ، بل التكرير للدلالة على الاستيعاب ، كقرأت النحو باباً باباً ، وجاء القوم رجلاً رجلاً . و الدك قريب من الدق ، لفظاً ومعنى .
{ وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } قال ابن كثير : أي : وجاء الرب ، تبارك وتعالى ، لفصل القضاء ، كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفاً صفوفاً . . وسبقه ابن جرير على ذلك وعضدهُ بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك < في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام ، والملائكة بين يديه ، وإشراق الأرض بنور ربها > . ومذهبُ الخلف في ذلك معروف ، من جعل الكلام على حذف مضاف ، للتهويل ، أي : جاء أمرهُ وقضاءهُ . أو استعارة تمثيلية لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه .
قال الزمخشري : مثلت حاله في ذلك ، بحال الملك إذا حضر بنفسه ، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم . انتهى .
وكأنّ الخلاف بين المذهبين لفظي ، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد . ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق ، فوجب تأويله . وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق ، بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى ، كما أنها لا تشبه الذوات ، فكذلك صفاتُ لا تشبه الصفات ؛ لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما ، فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه على ما يليق به ، كالعلم والقدرة ، لا تمثيل ولا تعطيل .
قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه : واعلم أن من المتأخرين من يقول : إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به ، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد . وهذا لفظ مجمل ؛ فإن قولهُ ظاهرها غير مراد ، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلّي ، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه ، و : إن الله معنا ، ظاهره أنه إلى جانبنا ، ونحو ذلك . فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال : إن مذهب السلف أن هذا غير مراد ، فقد أصاب في المعنى ، لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث ؛ فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع ، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار ، معذوراً في هذا الإطلاق ، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس ، وهو من الأمور النسبية . انتهى .
وقد بسط رحمه الله الكلام على ذلك في " الرسالة المدنية " وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية .
وقال رحمه الله في بعض فتاويه : نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله ، وبالتأويل الجاري على نهج السبيل ، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا ، أنا لا نقول بالمجاز والتأويل ، والله عند لسان كل قائل ، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب ، وما فتح به الباب ، إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرّفة أهل الكتاب ، والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه ، أن القرآن مشتمل على المجاز . ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة . وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم ، كأبي بكر بن أبي داود ، وأبي الحسن الخرزيّ ، وأبي الفضل التميميّ ، وابن حامد ، فيما أظن ، وغيرهم ، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز ؛ وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز ؛ فقابلوا الضلال والفساد ، بحسم الموادّ . وخيار الأمور التوسط والاقتصاد . انتهى .
{ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } أي : أظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيرهُ إليها . فمجيئها متجوز به عن إظهارها ، كما صرح به آية { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } [ النازعات : 39 ] ، { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَاْن } تفريطه في الدنيا في طاعة الله وفيما يقرب إليه من صالح الأعمال { وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } أي : منفعتها ، فالمراد بتذكره ندامته على تفريطه في الصالحات من الأعمال التي تورثه نعيم الأبد ، كما فسره بقوله تعالى : { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } أي : أسلفت من الأعمال الصالحة لحياتي هذه ، فاللام للتعليل ، أو : قدمت وقت حياتي ، فاللام بمعنى وقت ، والحياة هي التي في الدنيا .
{ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي : لا يعذب كعذاب الله ، أحد في الدنيا .
{ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } أي : لا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا . وقرئ { يعذّب } و { يوثق } على بناء المجهول .
قال السمين : وعذاب ووثاق في الآية ، واقعان موقع تعذيب وإيثاق ، والمعنى : لا يعذب أحد تعذيباً مثل تعذيب الله هذا الكافر ، ولا يوثق أحد إيثاقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال ؛ فالوثاق في الآية بمعنى الإيثاق ، كالعطاء بمعنى الإعطاء .
ثم أشار إلى ما يقال لمن آمن وعمل صالحاً ، في مقابلة من تقدم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } [ 27 - 30 ]
{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } أي : الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، وهي التي كان قلبها اطمأن بذكر الله وطاعته وخشية من الاضطراب .
{ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } أي : وعده وثوابه .
{ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } أي : راضية بما أوتيت ، مرضيةً عند ربها .
{ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أي : في زمرتهم ، وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
{ وَادْخُلِي جَنَّتِي } أي : معهم . وهذا القول إما عند الموت أو البعث أو دخول الجنة .
ومن غرائب المأثور هنا تأويل النفس بالروح ، والرب بصاحبها ، أي : ارجعي إلى جسد صاحبك إيذاناً بأن الأرواح المطمئنة تردّ يوم القيامة في الأجساد ، وأن لها مقراً قبل تعلقها بالبدن في عالم الملكوت . والمسألة من الغوامض بل من الغيوب . وبمعرفة نظائر التنزيل ، يظهر بعدُ هذا التأويل .

(/)


سورة البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } [ 1 - 3 ]
{ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } تقدم في مواضع متعددة من التنزيل الكريم تفسير { لَا أُقْسِمُ } و { البلد } هو مكة . وقيد القسم بقوله تعالى : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } عناية بالنبي صلوات الله عليه ، فكأنه إقسام به لأجله ، مع تعريض بعدم شرف أهل مكة ، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً ، لهمهم بإخراج من هو حقيق به ، وبه يتم شرفه .
قال الشهاب : و الحِل صفة مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه . ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة . وقيل : معناه وأنت يستحل فيه حرمتك ، وتعرض لأذيتك . ففيه تعجيب من حالهم في عداوته ، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحَمام ، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام ، عليه الصلاة والسلام ؟
وقيل : معناهُ وأنت حل به في المستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار ، يقتل ويأسر ، مع أنها ما فتحت على أحد قبلهُ ، ولا أحلت له ؛ ففيه تسلية له ، ووعد بنصره ، وإهلاك عدوه . و الحل على هذين الوجهين ضد الحرمة ، وفيهما - كما قالوا - بعدٌ ، لاسيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير ، فإنه غير متبادر منه . وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه السلام ، بجعل حلوله به مناطاً لإعظامه ، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب ، بذكر بعض موادّ المكايدة ، على نهج براعة الاستهلال ، وإنه كابد المشاق ، ولاقى من الشدائد ، في سبيل الدعوة إلى الله ، ما لم يكابده داع قبله ، صلوات الله عليه وسلامه .
{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } عطف على هذا البلد ، داخل في المقسم به . قيل : عني بذلك آدم وولده ، وقيل : إبراهيم وولدهُ . والصواب - كما قال ابن جرير - أن المعني به كل والد وما ولد . قال : وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل ، ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان ، يجب التسليم له بخصوصه . فهو على عمومه كما عمهُ .
وإيثار { ما } على من ؛ لإرادة الوصف . فيفيد التعظيم في مقام المدح ، وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها . ولذا أفادت التعجب أو التعجيب ، وإن لم يكن استفهاماً كما في قوله تعالى :
{ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] أي : أي : مولود عظيم الشأن وضعتهُ . وهذا على كون المراد إبراهيم والنبيّ عليهما الصلاة والسلام ، ظاهر ، أما على أن المراد به آدم وذريته ، فالتعجب من كثرتهم ، أو مما خص به الْإِنْسَاْن من خواص البشر ، كالنطق والعقل وحسن الصورة . حكاه الشهاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا * أَيَحْسَبُ أن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } [ 4 - 7 ]
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } أي : في شدة ، يكابد الأمور يعالجها في أطواره كلها ، من حمله إلى أن يستقر به القرار : إما في الجنة وإما في النار .
قال الزمخشري : الكبد أصله من قولك : كبد الرجل كبداً ، فهو أكبد ، إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المكابدة . كما قيل : كبته بمعنى أهلكه . وأصله كبدهُ إذا أصاب كبدهُ . قال لبيد :
~يَا عينُ هَلاَّ بَكَيْتِ أرْبدَ إذ قُمْنا وَقَامَ الخُصُومُ في كَبَدِ
أي : في شدة الأمر وصعوبة الخطب . انتهى .
وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه ، مما يكابدهُ من قريش ، من جهة أن الْإِنْسَاْن لم يخلق للراحة في الدنيا ، وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصباً . هذا خلاصة ما قالوه .
وقال القاشاني : { فِي كَبَدٍ } أي : مكابدة ومشقة من نفسه وهواه ، أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب ؛ إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفسادهُ وحجاب القلب وفسادهُ من هذه القوة ؛ فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل .
{ أَيَحْسَبُ } أي : لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة { أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } أي : أن لن تقوم قيامة ، ولن يقدر على مجازاته وقهره وغلبته ، مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه .
{ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي : كثيراً ، من : تلبد الشيء ، إذا اجتمع . والمراد ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء . كقولهم : خسرت عليه كذا وكذا ، إذا أنفق عليه ، يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف ، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله . ولهذا قال :
{ أَيَحْسَبُ أن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } أي : أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته ، حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة ، لا على ما ينبغي في مراضي الله ، وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة ؟

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ 8 - 16 ]
{ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } قال القاشاني : أي : ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال ، ليبصر ما يعتبر به ، ويسأل عما لا يعلم ، ويتكلم فيه ؟
وقال السيد المرتضى : هذا تذكير بنعم الله عليهم ، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم ، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم ، ويدفعون بها المضار عنهم ؛ لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة ، فالحاجة إلى العينين للرؤية ، واللسان للنطق ، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم ، والنطق أيضاً .
وقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أي : طريقي الخير والشر ، قال الإمام : النجد مشهور في الطريق المرتفعة ، والمراد بها طريقي الخير والشر ؛ وإنما سماهما نجدين ، ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة مسلك فليس الشر بأهون من الخير كما يُظَن ، وإلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك ، أي : أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر ، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاماً تدلهُ عليهما ، ثم وهبناهُ الاختيار ، فإليه أن يختار أي : الطريقين شاء . فالذي وهب الْإِنْسَاْن هذه الآلات ، وأودع باطنه تلك القوى ، لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته ، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته .
{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } أي : فلم يشكر تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة . و الاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة . و { الْعَقَبَةَ } الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها . استعارها لما يأتي ، لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس .
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } أي : شيء أعلمك ما اقتحام العقبة ؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند الله بمكانة رفيعة .
{ فَكُّ رَقَبَةٍ } أي : عتقها ، أو المعاونة عليه وتخليصها من الرق وأسر العبودية ، رجوعاً به إلى ما فطرت عليه من الحرية .
{ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } أي : مجاعة .
{ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } أي : قرابة . قال السيد المرتضى : وهذا حضٌّ على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين ، على الأجانب في الإفضال .
قال : وقد يمكن في { مَقْرَبَةٍ } أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى ، بل من القرب الذي هو من الخاصرة ، فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضر ، وهذا أشبه بقوله تعالى :
{ ذَا مَتْرَبَةٍ } لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر . وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب . انتهى . وقوله تعالى :
{ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } أي : فقر شديد لا يواريه إلا التراب . يقال : ترب ، كأنه لصق بالتراب . ويقال : فقر مدقع ، و : فقير مدقع ، بمعنى لاصق بالدقعاء ، وهي التراب .
لطيفة :
ذهب الأكثرون إلى أن لا من قوله { فَلَا } نافية . وإنما لم تكرر ، مع أن العرب لا تكاد تفردها ، كما جاء في آية { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } [ القيامة : 31 ] ، { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] ، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكرارها . لأن لا اقتحم لما فسر بما بعده كان في قوة : لافك رقبة ولا أطعم مسكيناً ، وفي الآية أجوبة أخرى : منها أنه لما عطف عليه ، كان وهو منفي أيضاً ، فكأنها كررت . وقيل : لا للدعاء . كقولهم : لا نجا ولا سلم ، وقيل : مخففة من ألا التي للتحضيض . وقيل : إنها للنفي فيما يستقبل . وقال الإمام : أما ما قيل من أن لا إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها ، ولم تكرر في الآية ، فذلك لا يلتفت إليه ؛ لأن الكتاب نفسه حجة في الفصاحة . وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } [ 17 - 18 ]
{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : بالحق الذي جاءهم . عطف على المنفي بـ : لا وهو { اقْتَحَمَ } أو على { فَكُّ }
{ وَتَوَاصَوْا } أي : أوصى بعضهم بعضاً { بِالصَّبْرِ } أي : على ما نابهم في سبيل الدعوة إلى الحق { وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } أي : بالرحمة على بعضهم . كقوله :
{ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ، أو بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به وعمل الصالحات { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } أي : اليمين ، أو جهة اليمين التي فيها السعداء .
تنبيه :
قال القاشاني : يشير قوله تعالى :
{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } الآيات ، إلى قهر النفس بتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها ، حتى يصير التطبع طبعاً ، ثم قال : فإن الإطعام ، خصوصاً وقت شدة الاحتياج للمستحق ، الذي هو وضع في موضعه ، من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها ، والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها ، وهو الإيمان العلمي اليقيني ، والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة ؛ وأخّره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين . و المرحمة أي : التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة ، فانظر كيف عدَّدَ أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس . بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل ، وعبّر عنها بمعظم أنواعها . وأخص خصالها الذي هو السخاء ، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس . وجاء بلفظة { ثُمَّ } لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ ، وعبر عن الحكمة به لكونه أُمّ سائر مراتبها وأنوعها .
ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين . وأخر العدالة التي هي نهايتها . واستغنى بذكر المرحمة ، التي هي صفة الرحمن ، عن سائر أنواعها ، كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } [ 19 - 20 ]
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا } أي : بأدلتنا وأعلامنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق ، التي بها يرتقي إلى معرفة الصراط التي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل { هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } أي : الشؤم على أنفسهم ، أو جهة الشمال التي فيها الأشقياء . وقال الإمام : أهل اليمين ، في لسان الدين الإسلامي ، عنوان السعداء . وأهل الشمال عنوان الأشقياء .
{ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } أي : مطبقة أبوابها ، كناية عن حبسهم المخلد فيها ، وسد سبل الخلاص منها ، أجارنا الله بفضله وكرمه منها .

(/)


سورة الشمس
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ 1 - 8 ]
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } أي : ضوئها إذا أشرقت . قال الراغب : الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار ، وبه سمي الوقت . وحقيقته - كما قال الشهاب - تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين ، ثم صار حقيقة في وقته . وقال الإمام : يقسم بالشمس نفسها ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم ؛ ويقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة ومجلى الهداية في عالمها الفخيم . وهل كنت ترى حياً أو تبصر نامياً ، أو هل كنت تجد نفسك ، لولا ضياء الشمس ، جلَّ مبدعهُ ؟
{ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } أي : تبع الشمس ، قال الإمام : وذلك في الليالي البيض ، من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة . وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه مع الامتلاء ؛ إذ يضيء الليل كله مع غروب الشمس إلى الفجر . وهو قسم في الحقيقة بالضياء في طور آخر من أطواره ، وهو ظهوره وانتشاره الليل كله .
{ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا } أظهر الشمس . وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه ؛ لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء .
وفي هذه الأقسام كلها - كما قاله الإمام - إشارة إلى تعظيم أمر الضياء وإعظام قدر النعمة فيه ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى ونعمه العظمى ، وفي قوله :
{ إِذَا جَلَّاهَا } بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الحكمة الباهرة والآية الظاهرة ، وهي حالة الصحو ، أما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس ، فحاله أشبه بحال الليل الذي يقسم به في قوله :
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } أي : يغشى الشمس ويعرض دون ضوئها فيحجبه عن الأبصار . وذلك في ليالي الظلمة الحالكة المشار إليها بقوله في الآية المتقدمة : { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 2 ] ، على القول الأخير .
قال الإمام : ولقلة أوقات الظلمة عبَّر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخراً عما هو أصل في نفسه . أما النهار فإنه يجلي الشمس دائماً من أوله إلى آخره ؛ وذلك شأن له في ذاته ، ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض . . ولهذا عبَّر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله ، بدون إفادة أنه مما ينفك عنهُ .
{ وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا } أي : ومن رفعها ، وصيّرها بما فيها من الكواكب ، كالسقف أو القبة المحكمة الزينة المحيطة بنا . فـ { مَا } موصولة بمعنى من أوثرت لإرادة الوصفية ، أي : والقادر الذي أبدع خلقها .
قالوا : وذكر { وَمَا بَنَاهَا } مع أن في ذكر { السَّمَاء } غنية عنهُ ، للدلالة على إيجادها وموجدها صراحة .
{ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } أي : بسطها من كل جانب ، لافتراشها وازدراعها والضرب في أكنافها .
قال الإمام : وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية ، كما يزعم بعض الجاهلين ، أي : بتحريفه الكلم عن معناه المراد منه .
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } أي : خلقها فعدل خلقها ومزاجها ، وأعدها لقبول الكمال :
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } أي : أفهمها إياهما ، وأشعرها بهما ، بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما ، وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني .
لطيفة :
جوز في { مَا } كونها مصدرية في الكل ، ولا يضرهُ خلو الأفعال من فاعل ظاهر ومضمر إذ لا مرجع له . وعطف الفعل على الاسم لأنه يكفي لصحة الإضمار دلالة السياق وهي موجودة هنا ، وأن العطف على صلة { مَا } لا عليها مع صلتها . فكأنه قيل : ونفس تسويتها ، فإلهامها إلخ . وعطف الفعل على الاسم ليس بفاسد . نعم في الوجه الأول توافق القرائن وهو أسدّ . وأما الثاني فوجه يتسع النظم الكريم لهُ . وأما تنكير { نَفْسٍ } فللتكثير أو التعظيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا } [ 9 - 12 ]
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } أي : زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام ، أو نمّاها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى : { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أي : أخملها ووضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى . هذا ما قاله ابن جرير : وقال غيره : أي : نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خلقت عليها بالجهالة والفسوق . وهو مأخوذ من : دسّ الشيء في التراب ، أي : أدخله فيه وأخفاه . وأصل دسَّى دسَّسَ . كتقضّى البازي . وجملة { قَدْ أَفْلَحَ } إلخ جواب القسم وحذف اللام للطول .
قال القاضي : وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه ، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ويذكرهم عظائم الإله ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية .
وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله :
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطراد . وجواب القسم محذوف تقديره : ليُدَمْدِنّ الله عليهم ، أي : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود ، لأنهم كذبوا صالحاً عليه السلام .
وقد دل عليه قوله تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } أي : بسبب طغيانها ومجاوزتها الحدّ في الفجور . فالطغوى مصدر . وجوز أن يراد به العذاب نفسه ، على حذف مضاف أو بدونه مبالغة كما يوصف بغيره من المصادر ، أي : كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى ، كقوله :
{ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } فالطغوى على هذا من التجاوز عن الحدّ والزيادة في العذاب . والباء صلة { كَذَّبَتْ } وقوله تعالى : { إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا } ظرف لـ { كَذَّبَتْ } أو طغوى ، أي : حين قام وأشقى ثمود لعقر ناقة صالح عليه السلام . وكانوا نهوا عن مسّها بسوء ، وأنذروا عاقبة المخالفة ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } [ 13 - 15 ]
{ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ } يعني صالحاً عليه السلام لقومه .
{ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } أي : احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينة وشربَها ، الذي اختصه الله به في يومها . وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر ، غير يوم الناقة ، كما بينته آية الشعراء قال :
{ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 155 - 156 ] ، أي : لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها { فَكَذَّبُوهُ } أي : فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا { فَعَقَرُوهَا } أي : قتلوها .
قال في "النهاية" : أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم . ثم اتسع حتى استعمل في القتل والهلاك ، وذلك أنهم أجمعوا على منعها الشرب ورضوا بقتلها . وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها وعقرها من عقرها ؛ ولذلك نسب التكذيب والعقر على جميعهم { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } أي : أهلكهم وأزعجهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته ، استهانةً به واستخفافاً بما بعث به . وقيل : دمدم أطبق عليهم العذاب . وقيل : الدمدمة حكاية صوت الهدة { فَسَوَّاهَا } أي : فسوى الدمدمة عليهم جميعاً ، فلم يفلت منهم أحد .
بمعنى جعلها سواء بينهم أو الضمير لثمود ، أي : جعلها عليهم سواء { وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } أي : لا يخشى تبعة إهلاكهم لأنه العزيز الذي لا يغالب .
قال الشهاب : أي : لا يخاف عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما تفعله ؛ فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله . فالضمير في { يَخَافُ } لله وهو الأظهر . ويجوز عوده للرسول صلى الله عليه وسلم أي : أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وهو على الحقيقة ، كما إذا قيل : الضمير للأشقى ، أي : أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع . والواو الحال أو الاستئناف .
تنبيه :
قال ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " : المقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلالة والكفر عن علم ويقين ؛ ولهذا - والله أعلم - ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية وإلى الفاجرة الضالة الغاوية . وذكر فيها الأصلين : القدر والشرع . فقال :
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 8 ] ، فهذا قدره وقضاؤه ثم قال :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، فهذا أمره ودينه . وثمود هداهم فاستحبوا العمى على الهدى . فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى ، والتدسية على التزكية . والله أعلم .

(/)


سورة الليل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } [ 1 - 4 ]
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } أي : يغشى الشمس أو النهار بظلمته ، فيذهب بذاك الضياء { وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } أي : ظهر بزوال الليل أو تبينَ بطلوع الشمس .
قال الإمام : والتعبير في الغشيان بالمضارع ، لما سبق من عروض الظلمة لأصل النور الذي هو أكمل مظاهر الوجود ، حتى عبر به عن الوجود نفسه . أما تجلي النهار فهو لازم له . لهذا عبر عنهُ بالماضي كما سبق بيانه .
{ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى } أي : والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد . فـ : { مَا } موصولة بمعنى من ، أوثرت لإرادة الوصفية ، كما تقدم .
قال الإمام : وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان ، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها ، والإشارة إلى الإبداع في الصنع ؛ إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى ، في الحيوان ، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل ، كما يزعم بعض الجاحدين ، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى ، فتكوين الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً وتارةً أنثى ، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل ، محكم فيما يضع ويصنع . انتهى .
وقوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } جواب القسم . أو هو مقدر ، كما مر تفصيلهُ . أي : مختلف في جزائه . ومفرَّق في عاقبته . فمنه ما يسعد به الساعي ومنهُ ما يشقى به ، فشتان ما بينهما ، كما فصله بعد . و شتى إما جمع شتيت أو شت ، بمعنى متفرق ، والمصدر المضاف يفيد العموم . فيكون جمعاً معنى . ولذا أخبر عنه بـ : شتى وهو جمع . وفيه وجه آخر وهو أنه مفرد مصدر مؤنث كذكرى وبشرى . فهو بتقدير مضاف ، أو مؤول ، أو بجعله عين الافتراق ، مبالغة .
قال الرازيّ : ويقرب من هذه قوله : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } [ الحشر : 20 ] ، وقوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] ، وقوله : { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } [ 5 - 11 ]
وقوله تعالى : { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى } تفصيل لتلك المساعي الشتى ، وتبيين لمآلها ما تقدم .
قال الرازيّ : وفي { أَعْطَى } وجهان :
أحدهما : أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب ، وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوّهم ، كما كان يفعله أبو بكر ، سواء كان ذلك واجباً أو نفلاً وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] ، فإن المراد منه كل ما كان إنفاقاً في سبيل الله ، سواء كان واجباً أو نفلاً . وقد مدح الله قوماً فقال :
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [ الْإِنْسَاْن : 8 ] ، وقال في آخر هذه السورة { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَ ى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } [ الليل : 17 - 18 ] الآية .
وثانيهما : أن قوله : { أَعْطَى } يتناول إعطاء حقوق المال ، وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى . يقال : فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة . انتهى .
إلا أن الأول هو المناسب للإعطاء ؛ لأن المعروف فيه تعلقه بالمال خصوصاً وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال { وَاتَّقَى } أي : ربه فاجتنب محارمه .
{ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } أي : بالمثوبة الحسنى . قال قتادة : أي : صدق بموعود الله الحسن . وهو بمعنى قول مجاهد : إنها الجنة كما قال تعالى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [ الشورى : 23 ] ، فسمى مضاعفة الأجر حسنى . وقال القاشاني : أي : صدق بالفضيلة الحسنى التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلميّ ، إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي .
{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } أي : فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى ، التي هي السلوك في طريق الحق ، لقوة يقينه .
قال الشهاب : ولما كانت مؤدية إلى اليسر ، وهو الأمر السهل الذي يستريح به الناس وصفت بأنها يسرى ، على أنه استعارة مصرحة أو مجاز مرسل أو تجوّز في الإسناد .
{ وَأَمَّا مَن بَخِلَ } أي : بالنفقة في سبيل الله ، ومنع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها { وَّاسْتَغْنَى } أي : عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوّله ، أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة ، وعمه به عن الحق .
{ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } أي : بوجود المثوبة للحسنى لمن آمن بالحق ، لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم الآخرة .
{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } أي : للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبديّ .
قال الإمام : الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الْإِنْسَاْن من نفسه ، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية ، ويغمسها في أوحال الخطيئة . وهي أعسر الخطتين على الْإِنْسَاْن ، لأنه لا يجد معيناً عليها ، لا من فطرته ولا من الناس .
{ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } أي : وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله ، وأفنى عمره في حفظه وبطر الحق لأجله ، إذا هلك ، من قولهم : تردى من الجبل وفي الهوة ، وفي التعبير به إشارة إلى أنه بما قدمهُ من أعماله الخبيثة ، هو المهلك والموقع لنفسه . وهو الحافر على حتفه بظلفه . و { مَا } نافية أو استفهام في معنى الإنكار . وقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَ ى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَ ى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [ 12 - 21 ]
{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } استئناف مقرر لما قبله ، أي : علينا بموجب قضائنا المبنيّ على الحكم البالغة ، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض ، أن نبين لهم طريق الهدى ليجتنبوا مواقع الردى . وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، والتمكين من الاستدلال والاستبصار ، بخلق العقل وهبة الاختيار .
{ وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى } أي : ملكاً وخلقاً ، فلا يضرنا توليكم عن الهدى ؛ وذلك لغناه تعالى المطلق ، وتفرده بملك ما في الدارين ، وكونه في قبضة تصرفه ، لا يحول بينهُ وبينهُ أحد ، ولا يحصله أحد ، حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه . وفيه إشارة على تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته . وإن من كان كذلك ، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته ؛ ولذا رتب عليه قوله : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى } أي : تتلظى وتتوهج ، وهي نار الآخرة .
{ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَ ى *الَّذِي كَذَّبَ } أي : بالحق الذي جاءه { وَتَوَلَّى } أي : عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها ، عناداً وكفراً .
{ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَ ى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } أي : ينفق ماله في سبيل الخير ، يتزكى عن رجس البخل ودنس الإمساك .
{ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } أي : من يد يكافئه عليها ، أي : لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة .
{ إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } أي : لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته . لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة . وفي حصر { الْأَتْقَى } بالمنقق ، على الشريطة المذكورة ، عناية عظيمة به ، وترغيب شديد في اللحاق به ، كيف لا ؟ وبالمال قوام الأعمال ، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد . وقوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } قال ابن جرير : أي : ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضاً مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى ؛ ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها ، إذ به يتحقق الرضا . وهذا على أن ضمير { يَرْضَى } لـ { الْأَتْقَى } لا للرب . قال الشهاب : وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر .
وذهب بعضهم إلى الثاني ، ومنهم الإمام ، قال : أي : ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب بصفة رضاه ، ثم قال : والتعبير بـ سوف ؛ لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير ، ولا يكفي القليل من المال ، لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهيّ .
تنبيه :
قال ابن كثير : ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الايات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك . ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها ؛ فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى :
{ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَ ى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى}
ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة ، فإنه كان صدّيقاً تقيّاً كريماً جواداً بذّالاً لأمواله في طاعة مولاهُ ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكم من دراهم ودنانير بذلتها ابتغاء وجه ربه الكريم . ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها ، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل . ولهذا قال له عروة بن مسعود - وهو سيد ثقيف - يوم صلح الحديبية : أما والله ! لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك . وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة . فإذا كان هذا حالهُ مع سادات العرب ورؤساء القبائل ، فكيف بمن عداهم ؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة : يا عبد الله هذا خير > . فقال أبو بكر : يا رسول الله ! ما على من يدعى منها ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد ؟ قال : < نعم ، وأرجو أن تكون منهم > . انتهى .

(/)


سورة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [ 1- 5 ]
{ وَالضُّحَى } تقدم في سورة { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } تفسير الضحى بالضوء وارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً .
{ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } أي : اشتد ظلامه . وأصله من التسجية وهي التغطية ، لستره بظلمته . كما في آية { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً } [ النبأ : 10 ] , { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } جواب القسم ، أي : ما تركك وما قطعك قطع المودّع .
قال الشهاب في " العناية " : فالتوديع مستعار استعارة تبعية للترك هنا ، وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى ؛ فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعزُّ مفارقته ، كما قال المتنبي :
~حشاشة نفس ودَّعت يوم وَدَّعوا فلم أَدْر أي : الظاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ
وقال في " شرح الشفاء " : الوداع له معنيان في اللغة : الترك وتشييع المسافر ، فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركهُ أصلاً ، فإنه معهُ أينما كان . وإنما الترك لو تصور في جانبه ، ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع ؛ فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عودهُ ، وإليه أشار الأرجاني بقوله :
~إذا رأيت الودَاعَ فاصبرْ ولا يُهمنَّك البعادُ
~وانتظر العَوْدَ عن قريبٍ فإن قلب الوداع عادُوا
فقوله :
{ وَمَا قَلَى } مؤكد له . قال : وهذا لم أر مَن ذكره مع غاية لطفه ، وكلهم فسروه بالمعنى الأول . ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه ، فيقتضي الانقطاع التام ، قالوا : إن المبالغة في النفي لا في المنفيّ فتركه لحكم عليه ، لا لضرره بهجره ، أو لنفي القيد والمقيد . وقرئ : { مَا وَدَعَكَ } بالتخفيف . وورد في الحديث < شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه > . وورد في الشعر ، كقوله :
~فَكَانَ مَا قدَّموا لأنْفُسِهمْ أَعْظَمَ نفعاً من الذي وَدَعُوا
ولهذا قال في " المصباح " بهذا : اعلم أن قولهم في علم التصريف : أماتوا ماضي يدع ويذر خطأ ، وجعله استعارة من الوديعة تعسّف . انتهى .
وكذا قال في " المستوفى " : إنه كله ورد في كلام العرب ، ولا عبرة بكلام النحاة فيه ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، وإن كان نادرا . انتهى
وقوله تعالى :
{ وَمَا قَلَى } أي : وما أبغضك . والقالي : المبغض . يعني ما هجرك عن بغض .
قال الشهاب : وحذف مفعول { قَلَى } اختصاراً للعلم به ، وليجري على نهج الفواصل التي بعده ، أو لئلا يخاطبهُ بما يدل على البغض .
تنبيه :
روى ابن جرير : عن ابن عباس < أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً > فعُيِّر بذلك ؛ فقال المشركون : ودعهُ ربُّهُ وقلاهُ ؛ فأنزل اللهُ هذه الآية ، وفي رواية : أن قائل ذلك امرأة أبي لهب ، وفي أخرى أنها خديجة رضي الله عنها . ولا تنافي ، لاحتمال صدوره من الجميع ، إلا أن قول المشركين وقول خديجة - أن صح توجع وتحزن - وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال : فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه . فقال : < لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني > . فجاء جبريل بسورة { والضحى } .
{ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى } قال ابن جرير : أي : وللدار الآخرة وما أعد الله لك فيها ، خير لك من الدار الدنيا وما فيها . يقول : فلا تحزن على ما فاتك منها ، فإن الذي لك عند الله خير لك منها . وقال القاضي : أو : لنهاية أمرك خير من بدايته . فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال .
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } أي : يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى ، وهذه عِدةٌ كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين ، وظهور الأمر وإعلاء الدين ، بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام ، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من ملوك الإسلام ، وفشوّ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها ، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى . وبالجملة فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين ، حيث أجملهُ ووكلهُ إلى رضاهُ وهذا غاية الإحسان والإكرام .
تنبيه :
قال في "المواهب اللدنية " : وأما ما يغترُّ به الجهال من أنه < لا يرضى واحداً من أمته في النار > ، أو لا يَرضى أن يدخل أحد من أمته النار ، فهو من غرور الشيطان لهم ، ولعبه بهم ؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى ، وهو سبحانه وتعالى يُدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة ، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة تغريراً للجهال وتزييناً لموارد الضلال . ولا حول ولا قوة إلا بالله . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ 6 - 11 ]
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى } قال أبو السعود : تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت من فنون النعماء العظام ، ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود فيطمئن قلبهُ وينشرح صدره . والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه ، كأنه قيل : قد وجدك إلخ . والوجود بمعنى العلم .
روي < أن أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر ، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب وعطَّفه الله عليه فأحسن تربيته > وذلك إيواؤه { وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى } أي : غافلاً عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان ، فهداك إليه وجعلك إماماً له ، كما في آية { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] .
قال الشهاب : فالضلال مستعار من : ضل في طريقه ، إذا سلك طريقاً غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصلهُ للعلوم النافعة ، من طريق الاكتساب .
{ وَوَجَدَكَ عَائِلاً } أي : فقيراً { فَأَغْنَى } أي : فأغناك بمال خديجة الذي وهبتهُ إياهُ . أو بما حصل لك من ربح التجارة .
{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } فلا تغلبهُ على ماله فتذهب بحقه ، استعطافاً منك له .
{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } قال ابن جرير : أي : وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره ، ولكن أطعمه واقض له حاجته ، أي : لأن للسائل حقاً ، كما قال تعالى :
{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* ل ِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24 - 25 ] .
وقد ذهب الحسن - فيما نقله الرازي - إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم ، فيكون في مقابلة قوله تعالى :
{ وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى } وهكذا قال ابن كثير : أي : وكما كنت ضالاً فهداك الله ، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد . قال الإمام : ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم ، فمنهم أهل الكتاب الممارون ، ومنهم الأعراب الجفاة . ومنه من كان يسأل عما لا يسال عنه الأنبياء ، فلا غرو أن يأمره الله بالرفق بهم ، وينهاه عن نهرهم ، كما عاتبهُ على التوليّ عن الأعمى السائل ، في سورة عبس . انتهى .
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي : بشكرها وإظهار آثارها فيرغب فيما لديه منها ، ويحرص على أن تصدر المحاويج عنها . وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها . وفي الآية تنبيه على أدب عظيم وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها ، حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم ، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى .
قال الإمام : من عادةالبخلاء أن يكتموا مالهم ، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل ، فلا تجدهم إلا شاكين من القل . أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه . فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين . فهذا من قوله :
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي : إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير ، فأوسع في البذل على الفقراء . وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة ، فإن هذا من الفجفجة التي يتنزه عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض ، ولكن الذي عرف منه أنه كان < ينفق ما عنده ويبيت طاوياً > . وقد يقال : أن المراد من النعمة النبوة ، ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله :
{ وَوَجَدَكَ عَائِلاً } فتكون النعمة بمعنى الغنى ، ولو كانت بمعنى النبوة ، لكانت مقابلة لقوله :
{ وَوَجَدَكَ ضَالّاً } وقد علمت الحق في مقابله . والله أعلم .

(/)


سورة الشرح
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك َ *الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ 1 - 4 ]
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } أي : ألم نوسعه بإلقاء ما يسرهُ ويقويه ، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام ، وتأييده وعصمته ، حتى علم ما لم يعلم ، وصار مستقرّ الحكمة ووعاء حقائق الأنباء . والهمزة لإنكار النفي ، ونفي النفي إثبات ؛ ولذا عطف المثبت عليه .
وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه ، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه . استعمل في القلب الشرح والسعة ، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده ؛ فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه ، شرحاً وتوسيعاً ؛ وذلك لأنه بالإلهام ونحوه مما ينفس كربه ويزيل همهُ ، بظهور ما كان غائباً عنهُ وخفياً عليه ، مما فيه مسرتهُ ، كما يقال : شرح الكتاب ، إذا وضحه . ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه ؛ لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه ؛ ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطاً ، ثم سموا ضده ضيقاً وقبضاً ، وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط ، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط ، هذا ما حققه الشهاب .
{ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك َ *الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } قال الشهاب : الوزر الحِمل الثقيل . ووضعه : إزالته عنه . لأنه إذا تعدى بـ : على كان بمعنى التحميل ، وإذا تعدى بـ : من كان بمعنى الإزالة . والإنقاض : حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر . وقيل : صوت الجمل أو الرحْل أو المركوب إذا ثقل عليه . فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض ، أو صوت ، كما قاله الأزهريّ . وقال ابن عرفة : هو إثقال يجعل ما حمل عليه نقضاً ، أي : مهزولاً ضعيفاً . وقد مثل بذلك حاله صلوات الله عليه مما كان يثقل عليه ويغمه من قلة المستجيبين لدعوته ، وضعف من سبق إلى الإيمان به ، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب ، وقوة أهلها . ووضعه عنه هو كثرة من آمن بعدُ ، ودخولهم في دين الله أفواجاً ، وقوة أتباعه وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة ، وذلُّ أهلها بعد العز ، وانقيادهم بعد شدة الإباء . وقيل : الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام كقوله :
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] .
والوجه الأول أقوى ، وفي الآية - على كلٍّ - استعارة تمثيلية ، والوضع ترشيح لها .
{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } أي : بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطاً في قبول الإيمان وصحته . وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله .
وعن مجاهد : أي : لا أذْكَر إلا ذكرتَ معي . قال الشهاب وهذا - أي : المأثور عن مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع ؛ فإنه كم ذكر الله وحده ! وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده ! وإن عيِّن موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح ، وإن جعلت القضية مهملة ، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة .
قال : وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر ، ويردّ السائل غير صفر ، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال : الذكر محمول على الذِّكر في مجامع العبادة ومشاهدها ؛ فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب ، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك ، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام ، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها ، فتتجه الكلية . فإن قلت : من أين لك هذا التقييد ، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح ؟ قلت : المقام ناطق بهذا القيد ؛ فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره الدال على ُقربه صلى الله عليه وسلم من ربه ، كقرب اسمه من اسمه ، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد ، وأيُّ إشاعة أقوى من الآذان ؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر .
ثم قال : واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قالهُ الإمام الشافعيّ في أول " رسالته الجديدة " وبينهُ السبكيّ في تعليقه على الرسالة فقال رحمه الله تعالى :
قال الإمام رضي الله تعالى عنه ، عن مجاهد في تفسير الآية : لا أذْكر إلا ذكِرت معي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله . قال الشافعي : يعني ذكره عند الإيمان بالله والأذان ، ويحتمل ذكرهُ عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية .
قال السبكيّ : هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جداً ، وهو مبني على أن المراد بالذكر ، الذكر بالقلب ، وهو صحيح ، فعلى هذا يعم ؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ، ذاكراً للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه ؛ لأنه المبلغ لها عن الله ، هذا أعم من الذكر باللسان ، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها . قال الشافعيّ : فلم تُمْسِ بنا نعمة ظهرت ولا بطنت ، نلنا بها حظاً في دِين أو دنيا ، أو رُفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما ، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها ؛ فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره ، حمل الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة ، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله ، تذكر من دل على معرفته وهداهُ إلى طاعته ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قيل :
~فأنت باب الله أي : امرئ أتاهُ من غيرك لا يدخل ؟
ولك أن تقول : المراد برفع ذكره تشريفه صلى الله عليه وسلم بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة ، وأولها كلمتا الشهادة ، وهما أساس الدِّين ثم الأذان والصلاة والخطب ، فالحصر إضافيّ . انتهى كلام الشهاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ 5 - 8 ]
وقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } إشارة إلى أن الذي منحهُ - صلوات الله عليه - من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر ، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير ، كان على ما جرت به سنتهُ تعالى في هذا النوع من الخليقة ، وهو أن مع العسر يسراً ؛ ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب . وأل في { الْعُسْرِ } للاستغراق ولكنه استغرق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه ، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ ، وقلة الوسائل إلى المطلوب ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف ، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت ، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها ، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل على ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل ، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة ، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى ؛ فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة . وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر ، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك ، وهو الوحي والنبوة ، ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه ، بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر ، والقوة في الضعف ، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً . أفاده الإمام رحمه الله .
لطيفة :
تنكير { يُسْراً } للتعظيم ، والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين . وفي كلمة { مَعَ } إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر ، كأنه مقارن للعسر ؛ فهو استعارة ، شبه التقارب بالتقارن ، فاستعير لفظ { مَعَ } لمعنى : بعد .
وقوله تعالى : { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } تكرير للتأكيد ، أو عِدةٌ مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة ، وعليه أثر : < لن يغلب عسر يسرين > فإن المعرف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول ، سواء كان معهوداً أو جنساً ، وأما المنكّر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول .
{ فَإِذَا فَرَغْتَ } أي : من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك { فَانصَبْ } أي : خذ في عمل آخر واتعب فيه ، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل ، قاله الإمام .
{ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } أي : في الدعوة إليه ، أي : لا ترغب إلا إلى ذاته ، دون ثواب أو غرض آخر ، لتكون دعوتك وهدايتك إليه ، قاله القاشاني .
وقال ابن جرير : اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه ؛ إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد . والأظهر عندي - اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل - أن يكون معنى قوله تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ } أي : فرغت من مقارعة المشركين ، وظفرت بأمنيتك منهم ، بمجيء نصر الله والفتح ، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار ، شكراً لله على ما أنعم ، وأرغب إليه خاصة ابتغاءً لمرضاته ؛ فتكون الآيتان بمعنى سورة : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال : فإذا فرغت من الجهاد ، جهاد العرب وانقطع جهادهم ، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب . وهو ظاهر . نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعهُ ، إلا أن السياق والنظائر - وهو أهم ما يرجع إليه - يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه . والله أعلم .==

مجلد 18. محاسن التأويل
المؤلف : محمد جمال الدين القاسمي

سورة التين
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } [ 1 - 3 ]
اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكة المشرفة ، الآمن أهلها أن يحارَبوا كما قال الله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وأما المقسمات بها قبل ، ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها ، فعن مجاهد والحسن وغيرهما أن التين الذي يؤكل ، و { الزَّيْتُونَ } الذي يعصر . قالوا : وخصهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما . وعن قتادة التين الجبل الذي عليه دمشق ، و الزيتون الذي عليه بيت المقدس . وعن كعب وابن زيد : التين مسجد دمشق و الزيتون بيت المقدس . فظهر أنهما الشجران المعلومان أو جبلان أو مسجدان . وصوب ابن جرير الأول منها ، وعبارته : والصواب من القول في ذلك عندنا ، قول من قال { التِّين } : هو التين الذي يؤكل ، و { الزَّيْتُون } هو : الزيتون الذي يعصر منه الزيت ؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب . ولا يعرف جبل يسمى تيناً ولا جبل يقال له : زيتون ، إلا أن يقول قائل : أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون ، والمراد من الكلام ، القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهباً وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة في ظاهر التنزيل ولا من قول من لا يجوِّز خلافهُ ، لأن دمشق بها منابت التين ، وبيت المقدس منابت الزيتون . انتهى كلامه . وفيه نظر ، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ . كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين ، معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد .
قال صاحب " الذخيرة " في تعداد جبال فلسطين : ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون . قال : وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه ، وهو قريب المسافة من أورشليم ، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء . انتهى .
ويسمى أيضاً طور زيتاً إلى الآن ، على أن فيما صوبهُ ابن جرير ، تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد - غير مفهومة ، كما قاله الإمام . فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم ، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة .
قال ابن كثير : وقال بعض الأئمة : هذه محَالّ ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار :
فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام .
والثاني : طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران .
والثالث : مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً ، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم وفي التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء : يعني الذي كلم الله عليه موسى . وأشرق من ساعير : يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله عنه عيسى . واستعلن من جبال فاران : يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم . فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجوديّ بحسب ترتيبهم في الزمان . ولهذا أقسم بالأشرف ، ثم الأشرف منه ، ثم بالأشرف منهما . انتهى كلام ابن كثير .
ومرادهُ ببعض الأئمة ، شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان ؛ فإنه ذكر ذلك في كتابه " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " ونحن ننقلها زيادة في إيضاح المقام ، واهتماماً بتحقيقه ، قال رحمه الله فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم : وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية : جاء الله من طور سيناء . وبعضهم يقول في الترجمة : تجلى الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران . قال كثير من العلماء - واللفظ لأبي محمد بن قتيبة - : ليس بهذا خفاء على من تدبره ، ولا غموض ؛ لأن مجيء الله من طور سيناء ، إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء ، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا . وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير ، إنزاله على المسيح الإنجيل . وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها تسمى من اتبعهُ نصارى . وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران ، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبال فاران ، وهي جبال مكة .
قال : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة . فإن ادعوا أنها غير مكة - وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم - قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران ؟ وقلنا : دلُّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمهُ فاران ، والنبيّ الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح ، أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد وهما : ظهر وانكشف . فهل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوّه ؟ .
وقال أبو هاشم بن طفر : ساعير جبل بالشام ، منهُ ظهرت نبوة المسيح عليه السلام .
قلت : وبجانب بيت لحم - القرية التي ولد فيها المسيح - قرية تسمى إلى اليوم ساعير . ولها جبال تسمى جبال ساعير ، وعلى هذا فيكون ذكر الثلاثة الجبال : جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه ، وفيه كان أول نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحوله من الجبال جبال كثيرة . وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم . وفيه كان ابتداء نزول القرآن . والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ، ولا يمكن أحداً أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبيّ ؛ فعلم أن ليس المراد باستعلانه من جبال فاران ، إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم . وهو سبحانهُ ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزمانيّ فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن ، وهذه الكتب نور الله وهداه ، وقال في الأول : جاء أو ظهر . وفي الثاني : أشرق . وفي الثالث : استعلن . وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك . ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى . وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء . ولهذا قال : واستعلن من جبال فاران ، فإن محمداُ صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها ؛ ولهذا سماهُ الله سراجاً منيراً ، وسمى الشمس سراجاً وهاجاً ، والخلق محتاجون إلى السراج المنير ، أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج ، فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت ، بل قد يتضررون به بعض الأوقات . وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في كل وقت ، وكل مكان ، ليلاً ونهاراً ، سراً وعلانيةً . وقد قال صلى الله عليه وسلم : < زُويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها > . وهذه الأماكن الثلاثة ، أقسم الله بها في القرآن في قوله : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } فأقسم بالتين والزيتون ، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل ، وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى وناداهُ فيه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ، وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمهُ هاجر فيه . وهو الذي جعله الله حرماً آمناً ويتخطف الناس من حوله ، وجعله آمناً خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً .
ثم قال ابن تيمية : فقوله تعالى : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداهُ ، وأنزل فيها كتبه الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن . كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران .
ولما كان ما في التوراة خبراً عنها ، أخبر بها على ترتيبها الزماني ، فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن ، فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها ؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة ، فختمها بأعلى الدرجات ، فأقسم أولاً بالتين والزيتون ، ثم بطور سينين ، ثم بمكة ؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله :
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ الذاريات : 1 - 4 ] ، فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة ، فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ، ثم بالجاريات يسراً ، وقد قيل : إنها السفن ، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس ِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] ، فسماها جوارٍ كما سمى الفلك جواري في قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } [ الشورى : 32 ] ، والكواكب فوق السحاب ثم قال : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ الذاريات : 4 ] ، وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله .
واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى : { وَالتِّينِ } يعني به شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية ، التي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقي ؛ لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية ، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها .
ثم قال : والراجح عندنا ، بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية أنهُ كان نبياً صادقاً ويسمى : سكياموتي ، أو جوناما ، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي ، وأرسله الله رسولاً ، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه . ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين ، وتسمى عندهم : التينة المقدسة ، وبلغتهم : أجابالا .
قال : ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم ، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } إلى آخر السورة .
قال : ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عدداً وأرقاهم . والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى ، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها ، كما يبدأ الْإِنْسَاْن بالقسم بالشيء الصغير ، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى ، ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفاً ، ثم اليهودية وهو أصح من النصرانية ، ثم الإسلامية وهو أصحها جميعاً وأبعدها عن التحريف والتبديل ، بل إن أصولها : الكتاب والسنة العملية المتواترة ، لم يقع فيها تحريف مطلقاً . ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ، ذكر ديني الفضل : البوذية والمسيحية أولاً ، ثم ديني العدل : اليهودية والإسلامية ثانياً ؛ للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولاً . ثم تربية الشدة والعدل . وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب . ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينهما ، وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينهما ؛ فلذا جُمع الأولان معاً والآخران كذلك ، وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى ، كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه . ومن محاسن الآية أيضاً الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة ، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية : مكة ، وهي البلد الأمين . ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيراً في أودية الجبال ، كما في جبل الزيتون بالشام وطور سيناء ، وهما مشهوران بها . فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي ، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة ، الذين بقيت شرائعهم للآن ، وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم . انتهى بحروفه . والله أعلم .
لطيفة :
لم ينصرف { سِينِينَ } كما لا ينصرف سيناء ؛ لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض ، فهو علم أعجميّ . ولو جعل اسماً للمكان أو المنزل أو اسماً لمذكر لانصرف ، لأنك سميت به مذكراً . وقرأ العامة : { سِينِينَ } بكسر السين ، وقرأ بعض السلف بفتحها ، وآخرون : سيناء بالكسر والفتح ممدوداً . قال السمين : وهذه لغات اختلف في هذا الإسم السريانيّ ، على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } [ 4 - 8 ]
وقوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } أي : في أحسن تعديل خلقاً وشكلاً ، صورةً ومعنًى ، قال الشهاب : الظرف في موضع الحال من الْإِنْسَاْن ، والتقويم فعل الله ، فهو بمعنى القوام أو المقوم ، أو فيه مضاف مقدر ، أي : قوام أحسن تقويم ، أو { فِي } زائدة والتقدير : قومناهُ أحسن تقويم .
{ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : جعلناه أسفل من سفل ، وهم أصحاب النار لعدم جريانه على موجب ما خلقناهُ عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين ، فـ : رد بمعنى جعل التي تنصب مفعولين . قال الشهاب : و السافلين العصاة وغيرهم ، وأسفل سافل للمتعدد والمتفاوت . و { ثُمَّ } للتراخي الزماني أو هو رتبي . وجوز نصب { أَسْفَلِ } بنزع الخافض صفة لمحذوف ، أي : إلى مكان أسفل سافلين ، أي : محل النار ، أو النار بمعنى جهنم . وهذا ما قاله مجاهد حيث قال : في النار ، وفي رواية : إلى النار ، والسافلين على هذا الأمكنة السافلة ، وهي دركاتها . وجمعها للعقلاء للفاصلة ، أو للتنزيل منزلة العقلاء . كذا قالوا . ولو أريد بهم أهل النار والدركات ، لأنهم أسفل السفل كالأول ، لكان أولى .
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير مقطوع أو غير منقوص أو غير محسوب أو غير ممنون به عليهم . والاستثناء متصل من ضمير { رَدَدْنَاه } فإنه في معنى الجمع ، لأن المكنيّ عنهُ وهو الْإِنْسَاْن ، في معنى الجنس .
هذا وقد اعتمد ابن جرير في تأويل الآية ، ما روي عن ابن عباس من أن المعنى : ثم رددناه على أرذل العمر . وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها ، ثم كبر حتى ذهب عقله ، كتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمل في شبيبته ، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله ، من أجل أنهُ مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته .
وعبارة ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال معناه : ثم رددناه أي : إلى أرذل العمر إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر ، فهو في أسفل من سفل في إدبار العمر ، وذهاب العقل .
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } في حال صحتهم وشبابهم { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } بعد هرمهم ، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم ، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل .
قال : وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن الله تعالى ذِكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال ، احتجاجاً بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت ، ألا ترى أنه يقول : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } يعني بعد هذه الحجج ، ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ، وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه ، أو يقرون به وإن لم يكونوا له محسين . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين ، وكانوا أهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجَلَد شاهدين ، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن ، والشباب والجلد إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف . انتهى كلامه .
وعليه فيكون الاستثناء منقطعاً ، استدراكاً لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره ، ويكون الدين حينئذ مبتدأ ، والفاء داخلة في خبره . وأما على الوجه الأول ، فالفاء للتفريع ، ومدخولها جملة مترتبة عليه ، ومؤكدة له .
وقوله تعالى : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } خطاب للإنسان على طريق الالتفات ، لتشديد التوبيخ والتبكيت ، أي : فما يحملك على التكذيب بالدين ، أي الجزاء بعد البعث ، وإنكاره بعد هذه الدلائل .
والمعنى : أن خلق الْإِنْسَاْن من نطفة وتقويمه بشراً سوياً ، وتحويله من حال إلى حال ، كمالاً ونقصاناً ، من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث ، والجزاء فأي شيء تضطرك إلى التكذيب به ؟ وجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومعنى { يُكَذِّبُكَ } إما ينسبك إلى الكذب ، كفسقته إذا قلت له : إنه فاسق ، والباء في { بِالدِّينِ } بمعنى في ، أي : يكذبك في إخبارك به ، أو سببية أي : بسبب إخبارك به وإثباته ، أو المعنى ما يجعلك مكذباً بالدين ، على أن الباء صلتهُ . وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين ، والمعنى : إنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالدين ، لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله ولا يرفعون لها رأساً . والاستفهام للإنكار والتعجب .
واستصوب ابن جرير : قول من قال : ما بمعنى من ، أي : فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين .
قال الشهاب : { فَمَا } استفهام عمن يعقل ، وفيه نظر ، لأنه خلاف المعروف ، فلا يرتكب مع صحة بقائها على أصلها ، كما بيناهُ لك . والداعي لارتكاب هذا أن المعنى عليه أظهر إذا كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه إنكار توبيخيّ للمكذبين له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر لهم من دلائل صدقه وصحة مدعاه { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } أي : بأحكم من حكم في أحكامه . قال أبو السعود : أي : أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً ، حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء ، وحيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين ، تعين الإعادة والجزاء . فالجملة تقريراً لما قبلها . وقيل : الحكم بمعنى القضاء ، فهي وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما يستحقونه من العذاب . و أحكم من الحكم أو الحكمة . قيل : والثاني أظهر . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأها قال : < بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين > . أرسله قتادة ، ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

(/)


سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق ٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ 1 - 5 ]
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } أي : اقرأ ما يوحى إليك من القرآن ملتبساً باسمه تعالى ، أي : مبتدئاً به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء . قال أبو السعود : والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية ، والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام ، وللإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية ، بإنزال الوحي المتواتر .
ووصف الرب بقوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ } لتذكير أول النعماء الفائضة عليه صلى الله عليه وسلم منه تعالى . والتنبيه على أن من قدر على خلق الْإِنْسَاْن على ما هو عليه من الحياة ، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية ، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلاً عن سائر الكمالات ، قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم ، أي : الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء .
وقال الإمام : ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى : كن قارئاً باسم الله من قبيل الأمر التكويني . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئاً ولا كاتباً ؛ ولذلك كرر القول مراراً : < ما أنا بقارئ > . وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئاً وإن لم يكن كاتباً ، فإنهُ سينزل عليه كتاب يقرؤه وإن كان لا يكتبه . ولذلك وصف الرب بالذي خلق ، أي : الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف ، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها ؛ لأنك لم تكن تدري ما الكتاب . فكأن الله يقول : كن قارئاً بقدرتي وبإرادتي . وإنما عبر بالاسم ، لأنه كما سبق في سورة سبّح ، دال على ما تعرف به الذات ، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعاً ، لأن القراءة علم في نفس حية ؛ فهي تخط ببالك من الله وجودهُ وعلمه وقدرته وإرادته .
أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا : إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ باسم الله - وهو خلاف المتبادر - فيكون معنى ذلك : إذا قرأت فاقرأ دائماً على أن تكون قراءتك عملاً تنفذه لله لا لغيره ، فلو فرض أنهُ قرأ وجعل قراءتهُ لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم ، فهو قارئ باسم الله ، وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل ، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل . ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه . انتهى . وهو جيد .
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } أي : دم جامد ، وهي حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه ، وتخصيص خلق الْإِنْسَاْن بالذكر من بين سائر المخلوقات ، لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وتفخيماً لشأنه ؛ إذ هو أشرفها وإليه التنزيل . وهو المأمور بالقراءة وإنما قال : { عَلَّقَ } دون علقة كما في الآية الأخرى ، لرعاية الفواصل ، ولأن { الْإِنْسَاْن } مراد به الجنس .
فهو في معنى الجمع ؛ فلذا جمع ما خلق منه ليطابقه . وخص العلق دون غيره من التارات ، لأنه أدل على كمال القدر ، من المضغة ، مع استلزامه لما تقدمهُ ، ومع رعاية الفواصل .
قال الإمام : أي : ومن كان قادراً على أن يخلق من الدم الجامد إنساناً ، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية ، ويسخرها لخدمته ، يقدر أن يجعل من الْإِنْسَاْن الكامل مثل النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً ، وإن لم يسبق له تعلم القراءة . وجاء بهذه الآية بعد سابقتها ، ليزيد المعنى تأكيداً ، كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ : أيقن أنك قد صرت قارئاًً بإذن ربك الذي أوجد الكائنات ، وما القراءة إلا واحدة منها . والذي أنشأ الْإِنْسَاْن خلقاً كاملاً من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة . وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الْإِنْسَاْن الكامل ، فهي أولى بسهولة الإيجاد ، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار ، والتعوّد على ما جرت به العادة في الناس ، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء ، في تصييرها ملكة للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلهذا كرر الأمر بقوله : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } وجملة { وَرَبُّكُ } إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء ، فيسيرٌ عليه أن يفيض عليك هذه النعمة ، نعمة القراءة من بحر كرمه . ثم أراد أن يزيده اطمئناناً بهذه الموهبة الجديدة ، فوصف مانحها بأنه { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } أي : أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان . والقلم آلة جامدة لا حياة فيها ، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام ؛ فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان ، ألا يجعل منك قارئاً مبيّناً وتالياً معلماً وأنت إنسان كامل ؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه ، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئاً ، فقال : { عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } أي : أن الذي صدر أمرهُ بأن تكون قارئاً ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها مبلغاً لم يبلغهُ سواك ، هو الذي علم الْإِنْسَاْن جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئاً ، فهل يستغرب من هذا المعلِّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة ، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها ؟ انتهى .
تنبيهات :
الأول : قال الإمام ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " في مباحث عجائب الْإِنْسَاْن وما خلقه من الحكم : ثم تأمل نعمة الله على الْإِنْسَاْن بالبيانين : البيان النطقي والبيان الخطي ، وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد ، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق ٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها ، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه ، فذكر أولاً عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجي ، ثم ذكر ثانياً خصوص خلق الْإِنْسَاْن لأنه موضع العبرة . والآية فيه عظيمة ، ومن شهوده عما فيه محض تعداد النعم . وذكر مادة خلقه هاهنا من العلقة . وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها . أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار ، أو مادة الفرع وهو الماء المهين ، وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة ؛ فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة ، ثم ذكر ثالثاً التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده ؛ إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس ، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين ، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، ودرست السنن وتخبطت الأحكام ، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف ، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم ، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحور صور العلم من قلوبهم ؛ فجعل لهم الكتاب وعاء حافظاً للعلم من الضياع ، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان ؛ فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجلِّ النعم ، والتعليم به - وإن كان مما يخلص إليه الْإِنْسَاْن بالفطنة والحيلة - فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه ، وفضل أعطاه الله إياه ، وزيادة في خلقه وفضله . فهو الذي علمه الكتابة ، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم ، فإنه علمه فتعلّم كما أنه علمه الكلام فتكلم ، هذا ومن أعطاه الذهن الذي يعي به ، واللسان الذي يترجم به ، والبنان الذي يخطّ به ، ومن هيأ ذهنهُ لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات ، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه ، ومن الذي دعم البنان بالكف ، ودعم الكف بالساعد ؛ فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم ؛ فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد ، ووضعته على القرطاس وهو جماد ، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر ، وجوابات المسائل . فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك ، ورسمها في ذهنك ، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشاً عجيباً ، معناهُ أعجب من صورته ، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك ، وترسلهُ إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة ، فيقوم مقامك ، ويترجم عنك ، ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك ، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسلهُ ، سوى من علم بالقلم عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة : مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي ، فقد دل التعليم بالقلم أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب .
ودل قوله : { خَلَقَ } على أنه يعطي الوجود العيني . فدلت هذه الآيات - مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها - على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقاً وتعليماً . وذكر من صفاته ها هنا اسم { الْأَكْرَمُ } الذي هو فيه كل خير وكل كمال ، فله كل كمال وصفاً ، ومنه كل خير فعلاً . فهو { الْأَكْرَمُ } في ذاته وأوصافه وأفعاله ، وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه ، لا من حاجة دعتهُ إلى ذلك ، وهو الغني الحميد .
الثاني : قال الإمام : لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات . فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ، ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل ، وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ، فلا أرشدهم الله ابداً .
الثالث : قال الرازي : في قوله : { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة . وفي قوله : { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل على معرفتها إلا بالسمع ، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية . والثاني إلى النبوّة . وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَ ى *أن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } [ 6 - 8 ]
{ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَ ى *أن رَّآهُ اسْتَغْنَى } أي : حقاً أن الْإِنْسَاْن ليتجاوز حده ويستكبر على ربه ، أن رأى نفسه استغنت . فـ { كَلَّا } بمعنى حقاً لعدم ما يتوجه إليه الردع ظاهراً ، لتأخر نزول هذا عما قبله - على ما تقدم في المأثور - أو هو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر ، لدلالة الكلام عليه . فإن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الْإِنْسَاْن فإذا قيل :
{ كَلَّا } يكون ردعاً للإنسان ، ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم ، وإنعامه بما لا كفء له ، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى .
قال الكرخي ، ومذهب أبي حيان أن كلا بمعنى ألا الاستفتاحية ، وصوبه ابن هشام بكسر همزة إن بعدها كما بعد حرف التنبيه . وفي " الكواشي " : يجوز في كلا أن تكون تنبيهاً ، فيقف على ما قبلها . وردعاً ، فيقف عليها .
تنبيه :
دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود ، قررها الحكماء المصلحون ، وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير . قالوا : لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الْإِنْسَاْن ، كما نطقت به الآية الكريمة .
قال بعض الحكماء : التحول لأجل الحاجات وبقدرها ، محمود بثلاثة شروط ، وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال :
الشرط الأول : أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال ، أي : إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل .
والشرط الثاني : أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير ، كاحتكار الضروريات ، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء ، أو التغلب على المباحات ، مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحاً لكافة مخلوقاته . وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها .
الشرط الثالث : لجواز التمول هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير ، وإلا فسدت الأخلاق . ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها ، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا ؛ وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية ؛ لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ ، ففيه معنى الغضب ، وبدون عمل ، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق ، وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك . دع أن بالربا تربو الثروات ، فيختل التساوي بين الناس ، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة .
وقوله تعالى : { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } أي : المرجع في الآخرة . قال أبو السعود : تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطاغين . والالتفات للتشديد في التهديد ، و { الرُّجْعَى } مصدر بمعنى الرجوع . وتقديم الظرف لقصره عليه ، أي : أن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث ، لا إلى غيره ، استقلالاً ولا اشتراكاً ، فسترى حينئذ عاقبة طغيانك . وقد جوز كون الخطاب للرسول صلوات الله عليه ، والتهديد والتحذير بحاله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ أن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } [ 9 - 14 ]
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى } أي : يمنعه عن الصلاة . وعبر بالنهي إشارة إلى عدم اقتداره على غير ذلك .
قال ابن عطية : لم يختلف المفسرون في أن الناهي أبو جهل والعبد المصلي النبيُّ صلى الله عليه وسلم . كما روي في الصحيحين ، ولفظ البخاري عن ابن عباس : قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه . فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : < لو فعله لأخذَته الملائكة > .
وفي الآية تقبيح وتشنيع لحال ذاك الكافر ، وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضي منها العجب . ولفظ العبد وتنكيره ، لتفخيمه عليه السلام ، واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه . وقيل : إنه من إرخاء العنان في الكلام المنصف ، إذ قال : { يَنْهَى } ينهى ولم يقل : يؤذي ، و : { عَبْداً } دون : نبياً ، والرؤية هاهنا بصرية ، وفيما بعدها قلبية . معناه : أخبرني . فإن الرؤية لما كانت سبباً للإخبار عن المرئي ، أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها . قاله أبو السعود .
وقال الإمام : كلمة أرأيت صارت تستعمل في معنى أخبرني ، على أنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقيّ ، ولكن يقصد بها إنكار المستخبر عنها وتقبيحها . فكأنه يقول : ما أسخف عقل هذا الذي يطغى به الكبر فينهى عبداً من عبيد الله عن صلاته ، خصوصاً وهو في حالة أدائها .
وقوله : { أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } أي : أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان ، كما يعتقد ؟ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما بعده ، أي : ألم يعلم بأن الله يرى . وعليه فالضمائر كلها لـ : { الَّذِي يَنْهَى } وجوز عود الضمير المستتر في { كَانَ } للعبد المصلي . وكذا في { أَمَرَ } أي : أرايت الذي ينهى عبداً يصلي ؟ والمنهيّ على الهدى آمر بالتقوى . والنهي مكذب متول ، فما أعجب من هذا ! وذهب الإمام رحمه الله ، في تأويل الآية إلى معنى آخر ، وعبارته : أما قوله :
{ أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } فمعناه أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق ، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة ، أفما كان ذلك خيراً له وأفضل ؟
وقوله : { أَرَأَيْتَ أن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } أي : نبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون ، وتولى أي : أعرض عن العمل الطيب ، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله ؟ فجواب كل من الشرطين محذوف كما رأيت في تفسير المعنى وهو من الإيجاز المحمود ، بعد ما دل على المحذوف بقوله : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } أي : أجهِِل أن الله يطلع على أمره ؟ فإن كان تقياً على الهدى أحسن جزاءه ، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته ، ثم إن ما يطيل به المفسرون في المفعول الثاني لفعل { أَرَأَيْتَ } الأولى ومفعوليها في الثانية والثالثة ، فهو مما لا معنى له ؟ لأن القرآن قدوة في التعبير ، وقد استعملها بمفعول واحد وبلا مفعول أصلاً بمعنى أخبرني . والجملة المستخبر عن مضمونها ، تسد مسد المفاعيل . انتهى كلامه رحمه الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [ 15 - 19 ]
{ كَلَّا } ردع عن النهي عن الصلاة { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ } أي : عن هذا الطغيان ، وعن النهي عن الصلاة ، وعن التكذيب والتولي { لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ } أي : لنأخذن بناصيته, ولنسحبنه بها إلى النار . والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة . والأخذ بالناصية هنا مَثَلٌ في القهر والإذلال والتعذيب والنكال .
وقوله تعالى : { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } بدل من الناصية ، ولم يقتصر على إحدى الجملتين ، لأن ذكر الأولى للتنصيص على أنها ناصية الناهي والثانية لتوصف بما يدل على علة السفع وشموله لكل من وجد فيه ذلك . ووصفها بالكذب والخطأ ، وهما لصاحبها ، على الإسناد المجازي ، للمبالغة لأنها تدل على وصفه بالكذب بطريق الأولى ، ولأنه لشدة كذبه كان كل جزء من أجزائه يكذب . وكذا حال الخطأ ، وهو كقوله :
{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ } [ النحل : 62 ] ، و : وجهها يصف الجمال ، والتجوز بإسناد ما للكل إلى الجزء ، كما يسند إلى الجزئيّ في قوله : بنو فلان قتلوا قتيلاً ، والقاتل أحدهم .
لطيفة :
قال في " البحر " : كتبت نون { لَنَسْفَعاً } بالألف باعتبار الموقف عليها بإبدالها ألفاً . وقال السمين : الوقف على هذه النون بالألف تشبيهاً لها بالتنوين ، وتكتب هنا ألفاً اتباعاً للوقف لأن قاعدة الرسم مبينة على حال الوقف والابتداء .
{ فَلْيَدْعُ نَادِيَه } أي : أهل مجلسه ، ليمنع المصلين ويؤذي أهل الحق الصادقين ، اتكالاً على قوتهم وغفلة عن قهر الحق وسخطه . والجملة إما بتقدير مضاف ، أو على الإسناد المجازي من إطلاق اسم المحل على من حلّ فيه . والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم ، أي : يجتمعون .
{ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } أي : زبانية العذاب من جنوده تعالى فيهلكونه في الدنيا ، أو يردونه في النار في الآخرة وهو صاغر . ولم يرسم { سَنَدْعُ } بالواو في المصاحف باتباع الرسم للفظ ، أو لمشاكلة قوله { فَلْيَدْعُ } وقيل : إنه مجزوم في جواب الأمر ، وفيه نظر .
{ كَلَّا } ردع للناهي بعد ردع ، وزجر إثر زجر { لَا تُطِعْهُ } أي : لا تطع ذاك الطاغي إذا نهاك عن عبادة ربك . قال الزمخشري : أي : اثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } [ القلم : 8 ] ، { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } أي : صل لربك وتقرب منه بالعبادة وتحبب إليه بالطاعة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً : < أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . فأكثروا من الدعاء > .
تنبيهات :
الأول : قدمنا أن الآيات نزلت في أبي جهل ، على ما صح في الأخبار ، قال الإمام : ولا مانع من أن يكون في الآيات إشارة إليه ، ولكنها عامة في كل وقت وزمن كما ترى . والخطاب فيها موجه إلى من يخاطب لا إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .
الثاني : قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : إنما شدد الأمر - أمر الوعيد - في حق أبي جهل ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط ، حيث طرح سَلَى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي - لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حال صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوة أهل طاعته ، وبوطء العنق الشريف . وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة له ، لو فعل ذلك . وقد عوقب عقبه بدعائه صلى الله عليه وسلم وعلى من شاركه في فعله ، فقتلوا يوم بدر ، كأبي جهل .
الثالث : قال الإمام : ذكر الصلاة في الصورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة ، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس المعروفة .
الرابع : قال في " اللباب " : سجدة هذه السورة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعيّ . فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها . يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : < سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } و { إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ } > أخرجه مسلم في صحيحه .

(/)


سورة القدر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [ 1 - 5 ]
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أي : أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين ، بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر . وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] ، وكانت في رمضان ، لقوله تعالى :
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ البقرة : 185 ] .
قال الإمام : سميت ليلة القدر ، إما بمعنى ليلة التقدير ؛ لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دِينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه ، أو بمعنى العظمة والشرف ، من قولهم : فلان له قدر ، أي : له شرف وعظمة ؛ لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة ، وقد جاء بما فيه الإشارة ، بل التصريح ، بأنها ليلة جليلة ؛ بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن . فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } أي : وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها .
{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } فكرر ذكرها ثلاث مرات . ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به ، ثم قال : إنها خير من ألف شهر لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهو يختبطون في ظلمات الضلال ؛ فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى . ولك أن تقف في التفضيل عند النص ، وتفوض الأمر ، في تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر ، إلى الله تعالى ؛ فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا ، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب . وذلك في الكتاب كثير ، ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } فإنه جار على عادتهم في الخطاب ، وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء . فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له ، بل الغرض منه التكثير ، وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر . ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة . فإذا قلت : إخفاء الصدقة خير من إظهارها ، لم تعين درجة الأفضلية ، وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة ، هي واقعة بدر أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة ، أو بثلاثة آلاف ، أو بخمسة آلاف ، كما تراه في الأنفال وآل عمران ؛ فالعدد هناك لا مفهوم له ، كما هو ظاهر . فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله ، ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } يخبر جل شأنه أن أول عهد للنبي صلى الله عليه وسلم بشهود الملائكة كان في تلك الليلة ، تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحدهُ حد ولا يحيط به مقدار ، حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم ، والروح هو الذي يتمثل له مبلغاً للوحي ، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل . وإنما تظهر الملائكة والروح { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة ، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها . وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم ، فذلك فضل الله يختص به من يشاء . واختصاصه هو إذنه ومشيئته . ثم إن هذه الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام ؛ لأن الله يجلي الملائكة على النفوس ، لإيحاء ما يريده منها . ولهذا قال : { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } أي : أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده ، فيكون الإذن مبتدئاً من الأمر على هذا المعنى . والأمر ها هنا هو الأمر في قوله :
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ الدخان : 4 - 5 ] ، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام ، لا في شيء سواها ؛ ولهذا قال بعضهم : إن من ها هنا بمعنى الباء ، أي : بكل أمر . ولا حاجة إليه لما قلنا . وإنما عبر بالمضارع في قوله :
{ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ } وقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } مع أن المعنى ماض ، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن لوجهين :
الأول : لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله : { وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ } [ البقرة : 214 ] ، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويراً .
والثاني : لأن مبدأ النزول كان فيها ، ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد ، فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين . وقوله تعالى :
{ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } أي : أنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى . والإخبار عنها بالسلام نفسه - وهو الأمن والسلامة - للمبالغة في أنهُ لم يَشُبْها كدر ، بل فرَّج الله فيها عن نبيه كل كربة وفتح له فيها سبل الهداية ، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيامَ والشهور الطوال .
تنبيهات :
الأول : قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ولا إجماع في تعيين تلك الليلة ، بل في صحيح البخاري : أنها < رفعت > . أي : رفع العلم بتعيينها . وفي رواية فيه : < نسيتها أو أنسيتها > ، من قوله صلوات الله عليه . ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه . نعم الأقوى رواية أنها في < العشر الأخير من رمضان > لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله . وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين ، قال ابن حجر : وحجتهم حديث واثلة : أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان . وقد اضطربت أقوال السلف فيها - صحابة ًومن بعدهم - حتى أنافت على أربعين قولاً .
قال الإمام : ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان ، ولا نعيّنها من بين لياليه . فقد اختلف فيها الروايات اختلافاً عظيماً ، وكتاب الله لم يعينها ، وما ورد في الأحاديث من ذكرها ، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة ؛ شكراً لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم ، في أثنائها . ولهم أن يعبدوا الله فيها أفراداً وجماعات ، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها ، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق ، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله . وهذا هو السر في عدم تعيينها . وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفاً لنزول القرآن ، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه ؛ فهي ليلة عبادة وخشوع ، وتذكر لنعمة الحق والدين . فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء ، يتسابق إليها المنافقون ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون ، كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام ، فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه ، ويسمعون شيئاً من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه ، بل إن أصغوا إليه فإنما يصغون لنغمة تاليه ، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره ، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره ، ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال ، فضلاً عن الراشدين من الرجال . انتهى .
وقال الطبريّ : إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة ؛ إذ لو كان ذلك حقاً ، لم يخف على كل من قام ليالي السنة ، فضلاً عن ليالي رمضان .
الثاني : حكى الحافظ ابن جحر في " فتح الباري " قولاً عن بعض العلماء ، أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ولعل مستنده ما صحّ أنها < رفعت > . وقد قدمنا معناه ؛ ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه . وعندي أن لا تنافي ؛ لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن وما كان فيها من التجليّ الخاص التي انفردت به ، وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام ، هي ليلة فيها مزية على غيرها ، بفضل اختصت به دون غيرها . وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه . أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركاً وتيمناً وشكراً لله تعالى على تلك النعمة والهداية ، فالقائم في ليالي العشر الأخير ، أو في رمضان ، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة ؛ لأنها منه قطعاً . وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسماً للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخَر في تذكاراتهم وجعلها أعياداً ، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو ، مما ينافي حكمة ذكراها ؛ فتأمّل الفرق واحمد الله على اتباع الحق .
الثالث : قال الإمام : ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان ، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار ، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر ، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة ، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك ، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ومثل ذلك لم يرد ؛ لاضطراب الروايات ، وضعف أغلبها ، وكذبِ الكثير منها . ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد . ومثل ذلك يقال في بيت العِزّة ، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة ، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين ، لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه ، وإلا كنا من الذين { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } [ الأنعام : 116 ] نعوذ بالله . وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة ، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويُعدّ من عقائد الدين ، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل ، فاحذر أن تقع فيها مثلهم ، انتهى كلامه رحمه الله تعالى .

(/)


سورة البينة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } [ 1 - 3 ]
{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : جحدوا نبوة النبي صلوات الله عليه بعنادهم بعد ما تبينوا الحق منها { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : اليهود والنصارى الذين عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته ، لم يكونوا هم { وَالْمُشْرِكِينَ } أي : وثنيِّ العرب { مُنفَكِّينَ } أي : عن غفلتهم وجهلهم بالحق ، ووقوفهم عندما قلدوا فيه آباءهم ، ولا يعرفون من الحق شيئاً { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } أي : الحجة القاطعة المثبتة للمدعي ، وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فمجيئه هو الذي أحدث هذه الرجة فيما رسخ من عقائدهم وتمكن من عوائدهم ، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومناكرتهم ، بأنه كان شيئاً معروفاً لهم ، يَصلون إليه بما كان لديهم ، ولكنه ليس بمستحق أن يتبع ؛ فإن ما هم فيه أجمل وأبدع ، ومتابعة الآباء فيه أشهى إلى النفوس وأمتع . تلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي : { رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ } أي : محمدٌ صلى الله عليه وسلم { يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط وحشو المدلّين ، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق حتى يعرفه طالبوه ومنكروه معاً .
{ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } أي : مستقيمة لا عوج فيها . واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، والكتب التي في صحف القرآن ومصاحفه ، إما أن تكون هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما ، مما حكاه الله في كتابه عنهم ، فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم . وقد ترك حكاية ما لبّس في الملبّسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه ؛ ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته- عليه السلام- من أهل الكتاب سبيلاً إلى إنكار الحق ، وإنما فضلوا عليه سواه أن هي سور القرآن ، فإن كل سورة من سوره كتاب قويم ؛ فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة . ولما كان لسائل أن يسأل : إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، وقد انفكوا عن ذلك الظلام المطبق ، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، فما بالُهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم ؟ أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعةُ على الحق الذي لا يختلف وجهه ، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم ، وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه ، فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب ، ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل ، لكن هذه البينة لم تفدهم شيئاً ، فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب ، حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر . وكان ذلك بغياً منهم ، واستمرراً في المراد وإصراراً على ما قاد إليه الهوى . وهذا هو قوله تعالى

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ 4 - 5 ]
{ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } أي : على ألسنة أنبيائهم . فهكذا كان شأنهم في النبي صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم بتفرقهم فيها وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها ، فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا ، فما ظنك بالمشركين ، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قياداً للهوى منهم ؟ وقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا } أي : والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم { إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : الإذعان والخضوع ، وذلك بتنقيته من أن يشركه فيه شيء ، لا واسطة ولا مال ، ولا كرامة ولا جاه { حُنَفَاء } أي : متبعي إبراهيم عليه السلام ، أو على مثاله . وأصله جمع حنيف بمعنى المائل المنحرف ؛ سمي به إبراهيم عليه السلام لانحرافه عن وثنية الناس كافة { وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي : الإتيان بها ، لإحضار القلب هيبة المعبود وترويضه بالخشوع ، لا أن تكون مجرد حركات ظاهرة ؛ فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء البتة { وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } أي : بصرفها في مصارفها التي عينها الله تعالى .
{ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } أي : الكتب القيمة ، أو دين الأمة القيمة المستقيمة . ومعنى الآية : أن أهل الكتاب قد افترقوا ، ولعنت كل فرقة أختها ، وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة ، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم ، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة ، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى ، وأن يخشعوا لله في صلاتهم ، وأن يصلوا عباد الله بزكاتهم . فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر ، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم ، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويَحُلُّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل . ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس ، تسلط الإنصاف عليها ، فسادت فيها الوحدة ، ولم تطرق طرقها الفرقة ، هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب ، فما نقول في حالنا ؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا ، في افتراقنا في الدِّين وأنْ صرنا فيه شيعاً ، وملأناه محدثات وبدعاً ؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به . وإن { مِنْ } في قوله { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } للتبعيض . وأن معنى لم يكونوا منفكين :
أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم ، فيقع الزلزال في عقائدهم ، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها ، حتى تأتيهم البينة . ويجوز أن يكون المراد من { الَّذِينَ كَفَرُواْ } - والله أعلم - أولئك الذين جحدوا شيئاً من دين الله تعالى عندما جاءهم ولم ينظروا في دليله ، أو أعرضوا عنه بعدما عرفوا دليله ، سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب ، وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا . فأراد الله أن يذكر منَّته على من آمن من هؤلاء ، فبيّن أن الذين كفروا - أي : جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب - لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا ، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر ، فيؤمنوا . فما أعظم فضل الله عليهم في إرساله رسوله إليهم ! وهذا وجه آخر غير الذي قدمناه في معنى الذين كفروا وانفكاكهم . وبذلك أو هذا ظهر معنى { حَتَّى } وبطل جميع ما يَهذي به كثير من المفسرين الذين أضلهم التقليد عن الرأي السديد ، فصعّبوا من القرآن سهله ، وحرموا من فهمه أهله . انتهى كلام الإمام نقلناه من أول السورة إلى هنا بالحرف لنفاسته ، ولكونه أحسن ما فسرت به ، وقاعدتنا التي انتهجناها في هذا التفسير أن نؤثر في معاني آياته أحسن ما قيل فيها ؛ فلذلك سميناه محاسن التأويل ، هدانا الله إلى أقوم السبيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } [ 6 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : بالله ورسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوته { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } أي : شر من برَأه الله وخلقه . قال الإمام : لأن منكر الحق - بعد معرفته وقيام الدليل عليه - منكر في الحقيقة لعقل نفسه ، مهلك لروحه ، جالب الهلاك لغيره .
لطائف :
الأولى : دلت هذه الآية والتي قبلها على أن عنوان المشركين ، لا يتناول أهل الكتاب في عرف القرآن ، بل هو خاص بالوثنيين ، أعني من يدينون بالإشراك وتعدد الأرباب ، فأهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - لا يتناولهم ذلك العنوان وإن دخل في عقائدهم الشرك ؛ لأنه دخيل لا أصيل ، ولذلك ينفرون من وصمة الشرك ، وبسببه حل النكاح منهم دون الوثنين .
الثانية : قال ابن جرير : العرب لا تهمز البرية . وبترك الهمزة فيها قرأتها قراء الأمصار ، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم ، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها ، وذهب بها إلى قول الله { مِّن قَبْلِ أن نَّبْرَأَهَا } وأنها فعيلة من ذلك ، وأما الذين لم يهمزوها ، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين : أحدهما : أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك ، وهو مفعل ، من ألك ، أو لأكَ ، ومن يزى ، و ترى و نرى ، وهو تفعل من رأيت . والآخر : أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعلية ، من البراء وهو التراب . حكي عن العرب سماعاً فقيل : بفيك البراد ، يعني به التراب . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [ 7 - 8 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بالله ورسوله محمد صلوات الله عليه { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي : من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق ، وبذل المال في أعمال البر ، مع القيام بفرائض العبادات ، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات ؛ لأن إذعانهم الصحيح ، ووجدانهم لذة معرفة الحق ، ملّكت الحق قيادهم فعملوا الأعمال الصالحة ، قاله الإمام { أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } أي : أفضل الخليقة ، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه ، قد حققوا لأنفسهم معنى الْإِنْسَاْنية التي شرفهم الله بها . وبالعمل الصالح ، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الْإِنْسَاْنيّ ، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هُدوا إليه من الخير والسعادة ، فمن يكون أفضل منهم ؟ قاله الإمام .
{ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي : بساتين إقامة ، لا ظعن فيها ، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } أي : ماكثين على الدوام ، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ } أي : بما أطاعوه في الدنيا ، وعملوا لخلوصهم من عقابه ذلك { وَرَضُواْ عَنْهُ } لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا ، فهم راضون عنه . ثم إذا ذهبوا إلى نِعَم الآخرة ، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه ، فهم راضون عن الله في كل حال . أفاده الإمام .
{ ذَلِكَ } أي : هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء { لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي : خاف الله في الدنيا في سره وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ؛ فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية .
قال الإمام : أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم ، الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس ، بل الخاصة كذلك ، وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة وتقليد الأبوين ، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام ، وأداء بعض العبادات ، كحركات الصلاة وإمساك الصوم ، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء ، وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء ، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء ، وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء ، بل ولمن دون الأمراء ، خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء - كلا لا ينالون حسن الجزاء ؛ فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم ، ولهذا لم تهذب من نفوسهم ، ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه ، وأشعر خوفه قلبه . والله أعلم .

(/)


سورة الزلزلة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [ 1 - 2 ]
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } أي : أصابها ذلك الزلزال الشديد والاهتزاز الرهيب . فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص ، بمعنى الزلزال المخصوص بها ، وهي الرجة التي لا غاية وراءها . والأقرب الأول لآية :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] ، وقرئ بفتح الزاي ، وقد قيل : هما مصدران . وقيل : المفتوح اسم والمكسور مصدر ، وهو المشهور .
{ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } أي : قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك . لشدة الزلزلة وتشقق ظهرها . كقوله :
{ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [ الانشقاق : 3 - 4 ] ، والأثقال جمع ثقل ، بفتحتين وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون . وهذا على الاستعارة . ويجوز أن يكون بكسر فسكون بمعنى حمل البطن ، على التشبيه أيضاً ؛ لأن الحمل يسمى ثقلاً كما في قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَثْقَلَت } [ الأعراف : 189 ] ، قاله الشريف المرتضى في " الدرر " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ 3 - 8 ]
{ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا } أي : قال مَن يكون مِن الْإِنْسَاْن شاهداً لهذا الزلزال الذي فاجأه ودهشه ولم يعهد مثله : ما لهذه الأرض رجّت الرجة الهائلة ، وبعثر ما فيها من الأثقال المدفونة ؟ !
{ يَوْمَئِذٍ } بدل من إذا ، أي : في ذلك الوقت { تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } أي : تبين الأرض بلسان حالها ، ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها . فتدل دلالة ظاهرة على ذلك ، وهو الإيذان بفناء النشأة الأولى وظهور نشأة أخرى . فالتحديث استعارة أو مجاز مرسل مطلق الدلالة .
قال أبو مسلم : أي : يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله ، فكأنها حدثت بذلك كقولك : الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة ، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدّث أن الدنيا قد انقضت ، وأن الآخرة قد أقبلت .
{ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } الباء سببية متعلق بـ { تُحَدِّثُ } أي : تحدث بسبب إيحاء ربك لها ، وأمره إياها بالتحديث . والإيحاء استعارة أو مجاز مرسل لإرادة لازمه ، وهو إحداث ما تدل به على خرابها .
وقال القاشانيّ : أي : أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال ، يعني الأمر التكوينيّ ، وهو تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها .
{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً } أي : ينصرفون عن مراقدهم إلى موطن حسابهم وجزائهم ، متفرقين سعداء وأشقياء { لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } أي : ليريهم الله جزاء أعمالهم .
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } أي : فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير يرى ثوابه هنالك . والذرة النملة الصغيرة وهي مثل في الصغر . وقيل : الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة .
{ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } أي : ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر ، يرى جزاءه ثمة .
تنبيهات :
الأول : دل لفظ { مَن } على شمول الجزاء بقسميه للمؤمن وغيره .
قال الإمام : أي : ومن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره ، فإنه يراه ويجد جزاءه ، لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر . غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر ، فهم به خالدون في الشقاء . والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار ، وأنها لا تنفعهم ، معناها هو ما ذكرنا ، أي : أن عملاً من أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر ، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم ، على بقية السيئات الأخرى ، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء ، كيف لا ، والله جل شأنه يقول :
{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
فقوله : { فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء ، وإن كلاً يوفى يوم القيامة جزاءه . وقد ورد أن < حاتماً يخفف عنه لكرمه > ، وأن < أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم > وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما ، لا أصل له . فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم . على أن كلمة الإجماع ، كثيراً ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدِّين ، وحجَراً يلقمونه أفواه المتكلمين . وهم لا يعرفون للإجماع الذي يقوم به الحجة معنى ، فبئس ما يصنعون . انتهى .
وقد سبقه الشهاب في " حواشيه " على القاضي ، حيث ناقش صاحب" المقاصد" في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة . وعبارته : كيف يدعى الإجماع على الإحباط بالكلية ، وهو مخالف لما صرح به في الآية ؟ والذي يلوح للخاطر ، بعد استكشاف سرائر الدفاتر ، أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه . فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل ، ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب ، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهي . انتهى .
الثاني : قال في " الإكليل " : في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره ، والتحذير من قليل الشر وكثيره أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال : هذه الآية أحكم آية في القرآن . وفي لفظ : أجمع .
وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية < الجامعة الفاذة > ، حين سئل عن زكاة الحمير فقال : < ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة > :
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق ، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم < فقرأ عليه : { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } > إلخ . قال : حسبي . لا أبالي أن لا أسمع غيرها . ورواه النسائي في تفسيره .

(/)


سورة العاديات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } [ 1- 5 ]
{ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } إقسام بخيل الغُزاة التي تعدُو نحو العدوِّ ، فتضبح ، و الضبح : صوت أنفاسِها إذا عدت . وليس المراد بالصوت الصهيل . بل قولها : اح اح ، كما قاله ابن عباس . ونصب { ضَبْحاً } إما بفعله المحذوف ، أو بالعاديات لإفادته معناه ، أو بالحالية .
{ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً } أي : تورى النار بحوافرها . والقدح هو الضرب لإخراج النار ، والإيراء يترتب عليه ، لأنه إخراج النار وإيقادها ؛ فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة ، وتسمى نار الحباحب . ولما كان مرتباً على عدوْها عطفهُ بالفاء ، وكون المراد به الحرب بعيد . وفي إعرابه الوجوه السابقة .
{ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } أي : تغير على العدوّ في وقته . يقال : أغار على العدوّ ، إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يستلب ماله .
قال الإمام : وهو وصف عرض للخيل من الغاية التي أجريت لها ، أي : أنها تعدو ويشتد عدوها حتى يخرج الشرر من حوافرها ، لتهجم على عدوّ وقت الصباح ، وهو وقت المفاجأة لأخذ العدو على غير أهبة .
{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } أي : فأهجن بذلك الوقت غباراً من الإثارة ، وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه ليرتفع . والنقع : الغبار كما ذكرنا ، وورد بمعنى الصياح ، فجوّز إرادته هنا بمعنى صياح من هجم عليه ، وأوقع به . لا صياح المغير على المحارب ، وإن جاز على بُعد فيه ، أي : هيجن الصياح بالإغارة على العدوّ ، وضمير { بِهِ } للوقت والباء ظرفية . وفيه احتمالات أخر ككونه للعدو أو للإغارة ، لتأويلها بالجري . فالباء سببية أو للملابسة . ويجوز كونها ظرفية أيضاً . والضمير للمكان الدال عليه السياق ، للعلم بأن الغبار لا يثار إلا من موضع . وهو الذي اختاره ابن جرير .
قال الشهاب : وذكر إثارة الغبار ، للإشارة إلى شدة العدو وكثرة الكرّ والفرّ . وتخصيص الصبح لأن الغارة كانت معتادة فيه ، أي : لمباغتة العدوّ . والغبار إنما يظهر نهاراً . و أثرن معطوف على ما قبله .
قال الناصر : وحكمة الإتيان بالفعل معطوفاً على الاسم الذي هو العاديات أو ما بعدهُ ، لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل . وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلاً عن اسم فاعل ، تصوير هذه الأفعال في النفس . فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف . وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة . وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي .
وقوله تعالى : { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } أي : فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء ، ففرقته وشتته . يقال : وسطت القوم بالتخفيف ، و وسطته بالتشديد ، و توسطتهُ بمعنى واحد . وفي الضمير الوجوه المتقدمة .
قال الإمام رحمه الله : أقسم تعالى بالخيل متصفة بصفاتها التي ذكرها آتية بالأعمال التي سردها ؛ لينوه بشأنها ويعلي من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد ؛ ليعنوا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر ، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل ، والإغارة بها ؛ ليكون كل واحد منهم مستعداً في أي : وقت كان ، لأن يكون جزءاً من قوة الأمّة إذا اضطرت إلى صدّ عدو ، أو بعثها باعث على كسر شوكته . وكان في هذه الآيات القارعات ، وفي تخصيص الخيل بالذكر في قوله :
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] ، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل ، ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها ، وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقاناً . أفليس أعجب العجب أن ترى أمماً ، هذا كتابها ، قد أهملت شأن الخيل والفروسية ، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزؤ والسخرية ؟ وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى .
ثم قال : يقسم الله بالخيل صاحبة تلك الصفات التي رفع ذكرها ، ليؤكد الخبر الذي جاء في قوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ 6 - 8 ]
{ إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } أي : كفور يكفر نعمه ولا يشكرها ، أي : لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه .
قال الهايميّ : أي : لكفور ، فيوجب قتله بهذه الخيول وقهره بهذاالغضب . وعن أبي أمامة : الكنود الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده .
{ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } أي : وإن الْإِنْسَاْن على كنوده لشهيد يشهد على نفسه به ، لظهور أثره عليه . فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفرانه وعصيانه بلسان حاله .
قال القاشاني : لشهادة عقله ونور فطرته إنه لا يقوم بحقوق نعم الله ، ويقصر في جنب الله بكفرانه .
{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } أي : وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها لقويّ ، ولحب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس ، وإنهُ لحب الخير الموصل إلى الحق شديد منقبض ، غير هش منبسط . أو اللام للتعليل ، أي : إنه لأجل حب المال بخيل ، فلذلك يحتجب به غارزاً رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه ، مشغولاً به عن الحق ، معرضاً به عن جنابه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } [ 9 - 11 ]
{ أَفَلَا يَعْلَمُ } أي : أبعدهذا الاحتجاب ومخالفة العقل ، ولا يعلم بنور فطرته وقوة عقله { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ } أي : بعث وأثير ما في القبور وإخراج موتاها .
{ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } أي : أظهر وأبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونياتهم المكتومة فيها ، من خير أو شر .
{ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } أي : عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم ، فيجازيهم على حسبها يومئذ . وتقديم الظرف ، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل ، أو للتخصيص لوقوع علمه تعالى كناية عن مجازاته ، وهي إنما تكون يومئذ .
قال الرازيّ : وإنما خص أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح ، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ، فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب ، لما حصلت أفعال الجوارح ؛ ولذلك جعلها تعالى الأصل في الذم فقال : { آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] والأصل في المدح فقال :
{ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] .

(/)


سورة القارعة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } [ 1 - 5 ]
{ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ } قال أبو السعود : القرع هو الضرب بشدة واعتماد ، بحيث يحصل منه صوت شديد ، وهي القيامة . سميت بها لأنها تفزع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال ، وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال : السماء بالانشقاق والانفطار ، والشمس والنجوم بالتكوير والانكدار والانتثار ، والأرض بالزلزال والتبديل ، والجبال بالدك والنسف .
وهي مبتدأ خبره قوله تعالى : { مَا الْقَارِعَةُ } على أن ما الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ ، لا بالعكس ؛ لأن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ . ولا ريب في أن مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو كلمة ما ، لا القارعة أي : أي : شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة ؟ وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل .
وقوله تعالى : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ } تأكيد لهولها وفظاعتها ، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق ، على معنى أن عظم شأنها ومدى شدتها بحيث لا تكاد تناله دراية أحد ، حتى يدريك بها ، أي : وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة ؟ ولما كان هذا منبأ عن الوعد الكريم بإعلامها ، أنجز ذلك بقوله تعالى : { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } أي : هي يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار ، والضعف والذلة والاضطراب ، والتطاير إلىالداعي ، كتطاير الفراش إلى النار . فـ { يَوْمَ } خبرمحذوف بني على الفتح لإضافته إلى الفعل ، أو هو منصوب بإضمار اذكر ، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها : اذكر يوم يكون الناس .
{ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } أي : كالصوف المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو . ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبتدئ فيه الحياة الآخرة ، وفيها تعرف مقادير الأعمال وما تستحقه من الجزاء ، رتب عليه قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [ 6 - 11 ]
{ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } قال ابن جرير : أي : فأما من ثقلت موازين حسناته ، يعني بالموازين الوزن . والعرب تقول : لك عندي درهم بميزان درهمك ، ويقولون : داري بميزان دارك ووزن دارك ، يراد حذاء دارك . قال الشاعر :
~قد كنتُ قبل لقائكم ذا مِرَّة عندي لكلِّ مخاصم ميزانُهُ
يعني بقوله : ميزانه كلامه وما ينقض عليه حجته . وكان مجاهد يقول : ليس ميزان إنما هو مثل ضرب . انتهى .
وعليه فالموازين جمع ميزان . وجوز كونهُ جمع موزون ، وهو العمل الذي له خطر ووزن عند الله تعالى . ومعنى قوله :
{ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي : في عيشة قد رضيها في الجنة ، فـ { رَّاضِيَةٍ } بمعنى مرضية على التجوز في الكلمة نفسها أو في إسنادها ، أو استعارة مكنية وتخييلية .
{ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : وزن حسناته .
{ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } أي : فمأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم .
قال الشهاب : فسمى المأوى أُمّاً على التشبيه تهكماً ؛ لأن أم الولد مأواه ومقره . وفي "التأويلات " : قيل المراد أم رأسه ، أي : يلقى في النار منكوساً على رأسه . انتهى .
والأول هو الموافق لقوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } فإنه تقرير لها بعد إبهامها ، والإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتهويل . أصل { مَا هِيَهْ }
ماهي ، كناية عن الهاوية فأدخل في آخرها هاء السكت وقفاً . وتحذف وصلاً ، وقد أجيز إثباتها مع الوصل .

(/)


سورة التكاثر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [ 1 - 8 ]
{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أي : شغلكم التباهي بالكثرة في المال والولد ونحوهما ، فيقول هذا : أنا أكثر منك مالاً ، والآخر : أنا أكثر منك ولداً ، وهكذا مما يصرف عن الجد في العمل ، ويطفئ نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والكمالات المعنوية الباقية ، ذهب بكم التفاخر والتباهي بهذه الأمور الفانية ، من كثرة الأموال والأولاد ، وشرف الآباء والأجداد كلَّ مذهب { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أي : حتى هلكتم ومتم وصرتم من أصحاب القبور ، فأفنيتم عمركم في الأعمال السيئة وما تنبهتم طول حياتكم إلى ما هو سبب سعادتكم ونجاتكم . وزيارة القبور عبارة عن الموت .
روى الزمخشري شواهد لها : قال الشهاب : وفيها إشارة إلى تحقق البعث ؛ لأن الزائر لا بد من انصرافه عما زاره ، ولذا قال بعض الأعراب لما سمعها : بعثوا وربِّ الكعبة ! وقال ابن عبد العزيز : لا بد لمن زار ، أن يرجع إلى جنة أو نار . وسمى بعض البلغاء المقبرة دهليز الآخرة .
{ كَلَّا } ردع عن الاشتغال بالتكاثر ، وتوهم أن الفوز بالتفاخر . فإن الفوز بالتناصر على الحق والتحلي بالفضائل { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : مغبة ما أنتم عليه في الاخرة من وخامة عاقبة الاشتغال بهذه الشهوات السريعة الزوال ، العظيمة الوبال ، لبقاء تبعاتها .
{ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } تكرير للتأكيد ، و { ثُمَّ } للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول . أو الأول عند الموت ، والثاني عند النشور .
{ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } أي : لو تعلمون ما بين أيديكم من الجزاء علم الأمر اليقين ، لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز في التكاثر والذهول عن الحق به . واليقين بمعنى المتيقن ، صفة لمحذوف ، أو صفة للعلم ، على أنه من إضافة الصفة للموصوف ، وحذف جواب { لَوْ } يطلبهُ العقل من الشرط وما سبقه ، ليستحكم فيه فضل استحكام .
وقوله تعالى : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } جواب قسم مضمر ، أكد به الوعيد ، وشدد به التهديد ، وأوضح به ما أنذروه تفخيماً .
{ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } أي : الرؤية التي هي نفس اليقين ، فالعين هنا بمعنى النفس ، كما في : جاء زيد عينه ، أي : نفسه . وإنما كانت نفس اليقين ، لأن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة ، فوق سائر الانكشافات ؛ فهو أحق بأن يكون عين اليقين . والتكرير للتأكيد .
قال الإمام : وكني برؤية الجحيم عن ذوق العذاب فيها ، وهي كناية شائعة في الكتاب العزيز : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أي : عن النعيم الذي ألهاكم التكاثر به والتفاخر في الدنيا ماذا عملتم فيه ، ومن أين وصلتم إليه ، وفيم أصبتموه ، وماذا عملتم به ؟ ويدخل في ذلك ما أنعم عليهم من السمع والبصر وصحة البدن .
قال ابن عباس : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار . قال : يسأل الله العباد فيم استعملوا وهوأعلم بذلك منهم . وهو قوله :
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ، قال ابن جرير : لم يخصص في خبره تعالى نوعاً من النعيم دون نوع ، بل عمّ ؛ فهو سائلهم عن جميع النعيم ، ولذا قال مجاهد : أي : عن كل شيء من لذة الدنيا . وقال قتادة : إن الله عزوجل سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه .

(/)


سورة العصر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ 1 - 3 ]
{ وَالْعَصْرِ } أي : الدهر ، أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارّة والمارّة . ولذا قيل له : أبو العجب . ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها . فينبّه الْإِنْسَاْن على أنه مستعد للخسران والسعادة . وللتنويه به والتعظيم من شأنه ، تعريضاً ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم . كما قيل :
~يَعيبون الزمان وليسَ فيه معيب غير أهلٍ للزمان
وجوّز أن يراد بالعصر الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر .
قال الإمام : كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم ، وقد يكون في حديثهم مالا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضاً . فيتوهم الناس أن الوقت مذموم . فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب ، كما اعتاد الناس أن يقولوا : زمان مشؤوم ، و : وقت نحس ، و : دهر سوء ، وما يشبه ذلك . بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات ، وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع . فكيف يذم في ذاته ، وإنما قد يُذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة !
{ إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ } أي : خسران ، لخسارته رأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية ، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر, وإضاعة الباقي في الفاني .
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } أي : بالله وبما أنزل من الحق ، إيماناً مُلك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم ، كما قال : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } قال القاشانيّ : أي : من الفضائل والخيرات ، أي : اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم .
{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } أي : أوصى بعضهم بعضاً بما أنزل الله في كتابه من أمره ، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } أي : على ما يبلوا الله به عباده ، أو على الحق ، فإن الوصول إلى الحق سهل . وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله ، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته .
تنبيهات :
الأول : قال الإمام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة " قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم في هذه الصورة لكفتهم ، وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله :
إحداها : معرفة الحق . الثانية : عمله به .
الثالثة : تعليمه من لا يحسنه . الرابعة : صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه .
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة . وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر ، إلا الذين آمنوا ، وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به ، فهذه مرتبة . وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى . وتواصوا بالحق ، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا ، فهذه مرتبة ثالثة . وتواصوا بالصبر ، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات . فهذه مرتبة رابعة .
وهذا نهاية الكمال . فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه ، مكملاً لغيره . وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية ، فصلاح القوة العلمية بالإيمان . وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات ، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل . فهذه السورة -على اختصارها- هي من أجمع سورة القرآن للخير بحذافيره . والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه ، شافيا من كل داء ، هاديا إلى كل خير . انتهى
الثاني : قال الرازي : هذه السورة فيها وعيد شديد . وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس ، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة . وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، التواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ؛ فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور . وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه ، فكذلك يلزمه في غيره أمور : منها الدعاء إلى الدين ، والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله ، والثاني الثبات عليه . والأول الأمر بالمعروف ، والثاني النهي عن المنكر . ومنه قوله تعالى : { وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } [ لقمان : 147 ] ، وقال عمر : رحم الله من أهدى إليّ عيوبي .
الثالث : قال الرازي : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ؛ فلذلك قرن التواصي بالصبر .
الرابع : تخصص التواصي بالحق والصبر ، من اندراجهما في الأعمال الصالحة ، لإبراز كمال الاعتناء بهما .
قال الإمام : من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر ، لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر ، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر . والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة ، وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة . فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ، ويمكنوه من قلوبهم ، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه ، بأن يدعو كلٌّ صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل ، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها ولا دليل يهدي إليها ، ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان ، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام ، وهذا إطلاق للعقل من كل قيد ، مع اشتراط التدقيق في النظر ، لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم . ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين . كم ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل .
والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب ، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة ، إن كان في نيلها ما يخالف حقا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها . واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع . فشرط النجاة من الخسران أن تصبر ، وأن توصي غيرك بالصبر ، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة ، التي هي أم الفضائل بأسرها ، ولا يمكنك حمله على ذلك حتى تكون بنفسك متحليّاً بها ، وإلا دخلت في من يقول ولا يفعل كما يقول ؛ فلم تكن ممن يعمل الصالحات . انتهى .
الخامس : قال الإمام : إنما قال : { وَتَوَاصَوْا } ، ولم يقل : وأوصوا ؛ ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ، ليوصي صاحبه بطلبه يهمه أن يرى الحق فيقبله ، فكأن في هذه العبارة الجزلة قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم .
السادس : قال ابن كثير : ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبيد الله بن حصن ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الأخر سورة العصر إلى آخرها . ثم يسلم أحدهما على الآخر . قال الإمام : قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك ، وهو خطأ ؛ وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صحابه بما ورد فيها ، خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر ؛ حتى يجتلب منه قبل التفرق ، وصية خير لو كانت عنده .
وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره ، فعلى من أراد التوسع في أسرارها ، أن يرجع إليه .

(/)


سورة الهمزة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة ٍ *الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } [ 1 - 3 ]
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } أي : لكل من يطعن في أعراض الناس ويغتابهم . أصله من الهمز بمعنى الكسر ، ومن اللمز بمعنى الطعن الحقيقيين ، ثم استعير لذلك ثم صار حقيقة عرفية فيه . قال زياد الأعجم :
~تُدْلى بِوُدٍّ إذا لا قيتَني كِذباً وإِن أُغَيَّبْ فأنت الهامِزُ اللُّمَزهْ
وبناء فُعَلَة يدل على أن ذلك عادة منهُ قد ضَريَ بها ، لأنه من صيغ المبالغة ، والآية عني بها من كان من المشركين بمكة ، همازاً لمازاً . كما في قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29 - 30 ] ، وقوله :
{ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } [ القلم : 11 ] الآيات ؛ فالسبب وإن يكن خاصاً ، إلا أن الوعيد عام يتناول كل من باشر ذلك القبيح . وسرّ وروده عاماً ليكون جارياً مجرى التعريض بالوارد فيه ، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه .
{ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } أي : أحصى عدده ولم ينفقه في وجوه البر .
قال الإمام : أي : أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس ، هو جمعه المال وتعديده . أي : عده مرة بعد أخرى ، شغفاً به وتلذذاً بإحصائه ؛ لأنه لا يرى عزاً ولا شرفاً ولا مجداً في سواه ، فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه ، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة ، بحيث يكون كل ذي فضل ومزيه دونه ، فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه ، ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض ؛ لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي : يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه ، مخلدهُ في الدنيا ، فمزيل عنه الموت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ } [ 4 - 9 ]
{ كَلَّا } أي : فليرتدع عن هذا الحسبان ، فإن الأمر ليس كما ظن ، بل لابد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيىء الأعمال ، كما قال : { لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ } أي : ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها ، أي : تكسرهُ . وكلمة النبذ تفيد التحقير والتصغير .
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ } استفهام عنها لتهويل أمرها ، كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول .
{ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ } أي : هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه ، لأنه هو مُنشئُها في عالم لا يعلمهُ سواهُ .
قال أبو السعود : وفي إضافتها إليه سبحانهُ ، ووصفها بالايقاد ، من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه .
{ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } قال ابن جرير : أي : التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب ، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى ؛ حكي عن العرب سماعاً : متى طَلَعت أرضنا ، و : طلعتُ أرضي ، بلغتُ .
وقال الزمخشري : يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ، وهي أوساط القلوب . ولا شيء في بدن الْإِنْسَاْن ألطف من الفؤاد ، ولا أشد تألماً منهُ بأدنى أذى يمسه ، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه ! ! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها موطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة ، أو تطالع ، على سبيل المجاز معادن موجبها .
{ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } أي : مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها .
{ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ } صفة لمؤصدة ، أو حال من الضمير المجرور ، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله : والمعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج ، وتيقنهم بحبس الأبد ، فتؤصد عليهم الأبواب ، وتمدد على العمد ، استيثاقاً في استيثاق . ويجوز أن يكون المعنى أنها عليهم مؤصدة ، موثقين في عمد ممدة ، مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص .
و المقاطر جمع مَقطرة ، بالفتح ، وهي جذع كبير فيه خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم ، وتقطر ، أي : يجعل كلٌّ بجنب آخر ، و { عَمَدٍ } قرئ بضم العين والميم وفتحهما .
قال ابن جرير : وهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، ولغتان صحيحتان ، والعرب تجمع العمود عُمُداً وعَمَداً ، بضم الحرفين وفتحهما ، كما تفعل في جمع إهاب تجمعهُ أُهُباً وأهَباً .
تنبيه :
قال القاشاني في بيان آفات رذيلتي الهمز واللمز اللتين نزلت في وعيدهما السورة ، ما مثاله : الهمز أي : الكسر من أعراض الناس واللمز ، أي : الطعن فيهم ، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر ؛ لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس ، وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس ، ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها . فينسب العيب والرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم ، ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة ، فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية .
ثم قال : وفي قوله :
{ وَعَدَّدَهُ } إشارة أيضاً إلى الجهل ؛ لأن الذي جعل المال عدة للنوائب لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب ؛ لاقتضاء حكمة الله تفريقه في النائبات ، فكيف يدفعها ؟ وكذا في قوله :
{ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي : لا يشعر أن المقتضيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية ، لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنهُ مخدوع بطول الأمل ، مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل . والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية ، أصل جميع الرذائل ، ومستلزم لها . فلا جرم أنه يستحق صاحبه المغمور فيها العذاب الأبديّ المستولي على القلب المبطل لجوهره .

(/)


سورة الفيل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ 1 - 5 ]
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة ، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم . كما سيأتي .
قال أبو السعود : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها . والرؤية علمية ، أي : ألم تعلم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدة والعيان ، باستماع الأخبار المتواترة ، ومعاينة الآثار الظاهرة . وتعليق الرؤية بكيفية فعله عز وجل لا بنفسه ، بأن يقال : ألم تر ما فعل ربك إلخ ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن ذلك من الإرهاصات ؛ لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، كما سنأثره .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } بيان إجمالي لما فعل بهم ، أي : ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا ، وتدميرهم أشد تدمير .
قال الرازي : اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية . إن قيل : لِششم سماهُ كيداً وأمرهُ كان ظاهراً ، فإنهُ كان يصرح أنهُ يهدم البيت ؟ قلنا : نعم ، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر ؛ لأنه كان يضمر الحسد للعرب ، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة ، منهم ومن بلدهم ، إلى نفسه وإلى بلدته { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } أي : طوائف متفرقة ، يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى ، و أبابيل جمع لا واحد له ، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء . وزعم أبو جعفر الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع واحدها إبالة ، بكسر الهمزة وتشديد الموحدة . وهي حزمة الحطب ، استعير لجماعة الطير . وحكى الكسائي عن بعض النحويين في مفردها أبول ، وعن آخرين : أبيل ، سماعاً كما أثره ابن جرير . والتنكير في { طَيْراً } إما للتحقير ، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر ، أو للتفخيم ، كأنه يقول : وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل ، أفاده الرازي .
{ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } أي : من طين متحجر . وروى ابن وهب عن ابن زيد أن المعني بالسجيل السماء الدنيا لأن اسمها سجيل .
قال ابن جرير : وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجهاً في خبر ولا عقل ولا لغة . وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره .
{ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } قال ابن جرير : كزرع أكلته الدواب فراثته ، فيبس وتفرقت أجزاؤه ، شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم ، وتفرق آراب أبدانهم بها ، بتفرق أجزاء الروث ، الذي حدث عن أكل الزرع .
قال الشهاب : ولم يذكر الروث لهُجتنه ، فجاء على الآداب القرآنية . وفيه إظهار تشويه حالهم .
وقال أبو مسلم : العصف التين ، لقوله :
{ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ } [ الرحمن : 12 ] ، لأنه تعصف به الريح عند الذرّ ، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولاً فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه . انتهى .
ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى : كزرع قد أكل حبهُ وبقي تبنه ، والتقدير كعصف مأكول الحب ، كما يقال فلان حسن الوجه ، فأجرى { مَّأْكُولٍ } على العصف من أجل أنه أكل حبه ؛ لأن هذا المعنى معلوم . ومنها أيضاً أن معنى { مَّأْكُولٍ } مما يؤكل ، يعني تأكله الدواب ، يقال لكل ما يصلح للأكل وهو مأكول ، والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك ، أشار له الرازي .
تنبيهات :
الأول : كان السبب الذي من أجله حلَّت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل, مسير أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل على بيت الله الحرام لتخريبه . وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية ، حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث ؛ فيقولون : ولد عام الفيل ، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ، ونحو ذلك . وتفصيل نبئها ما أثره ابن هشام : أن أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء للنجاشي ، وكان ذا دين في النصرانية ، فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها ، ثم كتب للنجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب . فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها - أي : أحدث فيها - ثم خرج فلحق بأرضه . فأخبر بذلك أبرهة ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب غليه بمكة ، لما سمع قولك : أصرف إليها حج العرب ؛ غضب فجاء فقعد فيها ، أي : أنها ليست لذلك بأهل . فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه . ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج معه بالفيل . وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقاً عليهم ، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام . فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له : ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه . فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأتى به أسيراً ، فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك ! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيراً لك من قتلي ، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق - وكان أبرهة رجلاً حليماً - ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم عرص نفيل ابن حبيب الخثعميّ في قبيلي خثعم : شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيراً ، فأتى به ، فلما همَّ بقتله ، قال له نفيل : أيها الملك ! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلة خثعم : شهران وناهس ، بالسماع والطاعة . فخلى سبيله وخرج به معه يدله ، حتى إذا مرَّ بالطائف خرج له مسعد بن معتب الثقفي في رجاله ثقيف ، فقالوا له : أيها الملك ! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه . فتجاوز عنهم - واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة - فبعثوا معه أبا رغال يدلُّه على الطريق إلى مكة . فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمَّس ، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك : فَرجمت قبره العرب - فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس - فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلاً من الحبشة يقال له : الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ، فهمَّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك . وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم .
فإن هو لم يرد حربي فأتني به ، فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها ؟ فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة . فقال له عبد المطلب : والله ! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة ؛ هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه ، فوالله ! ما عندنا دفع عنه . فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك . فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر ، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقاً حتى دخل عليه وهو في محبسه . فقال له : يا ذا نفر ! هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدواً وعشياً ، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيساً سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير ، إن قدر على ذلك . فقال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة : يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال . وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت . فقال : أفعل . فكلم أنيس أبرهة فقال له : أيها الملك ! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة ، وهو يطعم الناس في السهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، فأذن له عليك فليكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة . قال : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم ، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان . فقال : حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي ، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ . قال عبد المطلب : إني أنا ربُّ الإبل وإن للبيت رباً سيمنعهُ . قال : وما كان ليمتنع مني ؟ قال : أنت وذاك . وكان ، فيما يزعم أهل العلم ، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة - يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هزيل - فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم لا يهدم البيت ، فأبى عليهم . والله أعلم أكان ذلك أم لا .
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له . فلما انصرفوا عنه ، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعُف الجبال والشعاب ؛ تخوفاً عليهم من معرة الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
~لا هُمّ أن العبد يمـ ـنع رَحْلَهُ فامنع حلالكْ
~لا يغلبنّ صَليبُهُم ومحالهُمُ عَدْواً مِحالك
إن كنت تاركهم وقبـ ـلتَنَا فأَمرٌ ما بد لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها . فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيَّأ فيله وعبَّى جيشه ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمين ، فلمَّا وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه ، فقال له : ابرُك ، أو : ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل : وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم ، فضربوا رأسه ليقوم فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم في مراقّه فبزغوه بها - أي : أدموه - ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمين فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجههوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله تعالى طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب أحداً إلا هلك ، وليس كلهم أصابت . وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
~أين المفر والإله الطالبُ والأشرم المغلوبُ ليس الغالبْ
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك على كل منهل . وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنمُلةً أنملة ، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تَمُثُّ - أي : تسيل - قيحاً ودماً حتى ، قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون .
قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ، ذلك العام .
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان مما يَعُدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } السورة .
ثم قال ابن إسحاق : فلما ردّ الله الحبشة عن مكة ، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة ، أعظمت العرب قريشاً وقالوا : أهل الله ؛ قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم . فقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة ، وما ردّ عن قريش من كيدهم . ثم ساق القصائد في ذلك .
وإنما آثرت في سياقها ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق ؛ لأنه أحسن اقتصاصاً وأبلغ سبكاً ، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها ، فرحمه الله ورضي عنه .
التنبيه الثاني : إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل واشتهرت به ؛ لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب ، فإنه لو تم لقائديه كيدهم ، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ ؛ وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام ، فإذا غضبوا على محارب أسروه ، أو وزير أوثقوه ، أو بلد ونازلوا حصنه أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل ، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه ، وقواعد البنيان فيهدمها ؛ فيكون أمضى من معاول وفؤوس ، وأعظم رعباً ورهبة في النفوس ، وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه ، فأعمل فيه نابه ، ولف عليه خرطومه وشاله ، ومثَّل به تمثيلاً كان أشد بطشاً وتنكيلاً . وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام .
الثالث : قال القاشانيّ : قصة أصحاب الفيل مشهورة ، وواقعتهم قريبة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي إحدى آيات الله ، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه ، وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الْإِنْسَاْن لكون نفوسهم ساذجة . وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر . ومن اطلع على عالم القدرة ، وكشف له حجاب الحكمة ، عرف لمية أمثال هذه .
قال : وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون ، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر .
الرابع : قال الإمام الماوردي في " أعلام النبوة " : آيات الملك باهرة ، وشواهد النبوات قاهرة ، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق ، ولا منتحل بمحق ، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها . ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته ، فكان من أعظمها شأناً ، وأظهرها برهاناً ، وأشهرها عياناً وبياناً أصحاب الفيل ، أنقذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه على مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة . وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملاً في بطن أمه بمكة ؛ لأنه ولد بعد خمسين يوماً من الفيل ، فكانت آيته في ذلك من وجهين :
أحدهما : أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا ؛ فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملاً ووليداً . والثاني : أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم ، وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة ، ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيساً للنبوة وتعظيماً للكعبة ، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكاً للحج .
فإن قيل : فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكاً ، ولم يمنع الحَجَّاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكاً حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها ؟
قيل : فعل الحَجاج كان بعد استقرار الدِّين ، فاستغنى عن آيات تأسيسه ، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس البنوة ومجيء الرسالة ، على أن الرسول < قد أنذر بهدمها > فصار الهدم آية ًبعد أن كان المنع آية ، فلذلك اختلف حكمها في الحالين ، والله تعالى اعلم .
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل ، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا : أهل الله ، قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم ، فزادوهم تشريفاً وتعظيماً ، فصاروا أئمة ديانين ، وقادة متبوعين ، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين . وكان شأن الفيل رادعاً لكل باغ ودافعاً لكل طاغ . وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته ، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل ، منهم حكيم بن حزام ، وحاطب بن عبد العزى ، ونوفل بن معاوية ؛ لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة : منها ستين سنة في الجاهلية ، وستين سنة في الإسلام ، انتهى .
الخامس : ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل : روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي نهبط به على قريش ، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا : خلأت القصواء - أي : حرنت - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل > ، قال ابن الأثير في " النهاية " : هو فيل أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة ، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم ، وردَّ رأسه راجعاً من حيث جاء . يعني أن الله حبس ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية ، فلم تتقدم ولم تدخل الحرم ؛ لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين . وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : < إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب > .

(/)


سورة قريش
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت ِ *الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ 1 - 4 ]
{ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ } قال ابن هشام : إيلاف قريش إلفُهم الخروجَ إلى الشام في تجارتهم . وكانت لهم خرجَتان : خرْجة في الشتاء وخرجة في الصيف . قال : أخبرني أبو زيد الأنصاري أن العرب تقول : ألفت الشيء إلفاً ، وآلفته إيلافاً ، في معنى واحد ، وأنشدني لذي الرمة :
~من المُؤْلفات الرمْل إدماءُ حرةٌ شُعاعُ الضُّحى في لونها يتَوَضَّحُ
والإيلاف أيضاً أن يكون للإنسان ألف من الإبل أو البقر أو الغنم أو غير ذلك ، ويقال : آلف فلان إيلافاً ، قال الكميت بن زيد :
~بِعَامٍ يقول له المُؤْلِفُو ن هذا المُعيمُ لنا المُرْجِلُ
والمعيم العام الذي قل فيه اللبن . والإيلاف أيضاً أن يصير القوم ألفاً يقال : آلف القوم إيلافاً . قال الكميت :
~وآل مُزَيْقيَاءَ غداةَ لاقَوْا بني سعد بن ضَبَّةَ مُؤْلِفينا
والإيلاف أيضاً أن يُؤلف الشيء فيألفه ويلزمه ، يقال : آلفته إياهُ إيلافاً . والإيلاف أيضاً أن تصيّر ما دون الألف ألفاً ، يقال : آلفته إيلافاً . انتهى . ولورود الإيلاف بهذه المعاني ، ظهر سر إبداله بالمقيد منه بعد إطلاقه ، مع ما في الإبهام ، ثم التفسير من التفخيم والتقرير . روى ابن جرير عن عكرمة قال : كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن ، يختلفون إلى هذه في الشتاء وإلى تلك في الصيف . وعن ابن زيد قال : كانت لهم رحلتان : الصيف إلى الشام والشتاء إلى اليمن في التجارة ، إذا كان الشتاء امتنع الشام منهم لمكان البرد . وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن .
وعن ابن عباس قال : كانوا يُشتون بمكة ويصيِّفون بالطائف . والأكثرون على الأول . واللام في قول { لِإِيلَافِ } متعلق بقوله : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } أي : فليعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين . ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط ؛ إذ المعنى : أن نِعم الله تعالى عليهم غير محصورة ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة . والبيت هو الكعبة المشرفة { وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } أي : مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها بعضاً ؛ فأمنوا من ذلك لمكان الحرم وقرأ { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ القصص : 57 ] ، ونظيره أيضاً قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .
تنبيه :
زعم بعض الناس أن اللام في { لِإِيلَافِ } متعلق بما قبله ، أي : فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش . قال الشهاب : وعلى هذا لا بد من تأويله ، والمعنى : أهلكهم ولم يسلط على أهل حرمه ليبقوا على ما كانوا عليه ، أو أهلك من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترئ عليهم أحد ، فيتم لهم الأمن في الإقامة والسفر . أو هي لام العاقبة . انتهى .
ولا يخفى ما فيه من التكلف ؛ ولذا قال ابن جرير في رده : وأما القول الذي قاله من حكينا قوله أنه من صلة قوله :
{ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } فإن ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون { لِإِيلَافِ } بعض { أَلَمْ تَرَ } ، وأن لا تكون سورة منفصلة من { أَلَمْ تَرَ } ؛ وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان ، كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى ، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك . ولو كان قوله : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } من صلة قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } لم تكن { أَلَمْ تَرَ } تامة حتى توصل بقوله : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر . انتهى .

(/)


سورة الماعون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين َ *الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُون َ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ 1 - 7 ]
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ } أي : بثواب الله وعقابه ، فلا يطيعه في أمره ونهيه ، قال أبو السعود : استفهام أريد به تشويق السامع إلى معرفة من سيق له الكلام والتعجيب منه . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل عاقل . والرؤية بمعنى العلم .
والفاء في قوله تعالى : { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } جواب شرط محذوف ، على أن ذلك مبتدأ والموصول خبره ، والمعنى : هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالإسلام ، أن لم تعرفه أو إن أردت أن تعرفه فهو الذي يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً ويزجره زجراً قبيحاً . يقال : دفعت فلاناً عن حقه : دفعت عنه وظلمته .
{ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } أي : لا يحث غيره من ذوي اليسار على إطعام المحتاج وسدّ خلته ، بل يبخل بسعيه عند الأغنياء لإغاثة البؤساء .
قال الشهاب : إن كان الطعام بمعنى الإطعام - كما قاله الراغب - فهو ظاهر ، وإلا ففيه مضاف مقدر ، أي : بذل طعام المسكين . واختياره على الإطعام للإشعار بأنه كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله :
{ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* ل ِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24 - 25 ] ، فهو بيان لشدة الاستحقاق . وفيه إشارة للنهي عن الامتنان .
قال أبو السعود : وإذا كان حال من ترك حث غيره على ما يذكر ، فما ظنك بحال من ترك ذلك مع القدرة ؟
قال الزمخشري : جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد ، لخشي الله تعالى وعقابه ، ولم يقدم على ذلك ، فحين أقدم عليه علم أنه مكذب ، فما أشده من كلام ! وما أخوفه من مقام ! وما أبلغه في التحذير من المعصية وإنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين .
وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين َ *الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } قال ابن جرير : أي : لاهُون يتغافلون عنها وذلك باللهو عنها والتشاغل بغيرها ، وتضييعها أحياناً وتضييع وقتها أخرى . وقال القاشانيّ : أي : فويل لهم ، أي : للموصوفين بهذه الصفات ، من دعِّ اليتيم وعدم الحث على طعام المسكين الذي إن صلَّوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم . و المصلين من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب ، لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص ، وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس .
{ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } أي : يراؤون الناس بصلاتهم إذا صلوا لأنهم لا يصلون رغبة في ثواب ، ولا رهبة من عقاب ، وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنوهم منهم فيكفوا عنهم . وأصل المراءاة أن ترى غيرك ويراك ، أريد به العمل عند الناس ليثنوا عليهم ، أوضحه الشهاب .
{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } أي : ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به ، لكون الجهل حاكماً عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي وعدم اعتقادهم بالجزاء ؛ فلا محبة لهم للحق للركون إلى العالم الفاني ، ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل ، فلا يعاونون أحداً فلن يفلحوا أبداً ، قاله القاشاني .
تنبيه :
المعني بهذه الآيات أولاً وبالذات المنافقون في عهد النبوة ، ويدخل فيها ثانياً وبالعرض كل من وجد فيهم تلك الخلال الذميمة اعتباراً بالعموم ؛ فالسورة مدنية ونظيرها في المنافقين قوله تعالى :
{ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، ولذا قال ابن عباس فيما رواه ابن جرير : هم المنافقون كانوا يراؤون الناس بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العارية بغضاً لهم ، وهو الماعون .

(/)


سورة الكوثر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } [ 1 - 3 ]
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي : الخير الكثير من القرآن والحكمة والنبوة والدين الحقّ والهدى وما فيه من سعادة الدارين . روى ابن جرير عن أبي بشر قال : سألت سعيد بن جبير عن الكوثر ، فقال : هو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه ، فقلت لسعيد : إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة ؟ فقال : هو من الخير الذي أعطاه الله إياه .
{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال الإمام : أي : فاجعل صلاتك لربك وحده ، وانحر ذبيحتك مما هو نُسك لك لله وحده ، فإنه هو مربيك ومسبغ نعمه عليك دون سواه ، كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين َ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162 - 163 ] { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } قال ابن جرير : أي : مبغضك يا محمد ، وعدوك هو الأبتر ، يعني الأقل الأذل المنقطع دابره الذي لا عقب له .
روى ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له . فإذا هلك انقطع ذكره ؛ فأنزل الله هذه السورة . وعن عطاء قال : نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال : بُتِر محمد الليلة . فأنزل الله في ذلك السورةَ . وقال شمر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط . قال ابن كثير : والآية تعم جميع من اتصف بذلك ، ممن ذكر وغيرهم .
وقال الإمام : كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب وأمثالهم ، إذا رأوا أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم يموتون ، يقولون : بتر محمد ، أي : لم يبق له ذكر في أولاده من بعده ، ويعدون ذلك عيباً يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه ، وكانوا إذا رأوا ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم ، ويعدّون ذلك مغمزاً في الدين ، ويأخذون القلة والضعف دليلاً على أن الدين ليس بحق ، ولو كان حقاً لنشأ مع الغنى والقوة شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل . وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنّون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين ، وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال . وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين ، تمُرُ بنفوسهم خواطر السوء عندما تشتد عليهم حلقات الضيق ؛ فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء ، ويبكّت الآخرين ، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز وأن متبعه هو الظافر ، وإن عدوه هو الخائب الأبتر الذي يُمحى ذِكره ويعفى أثره .
تنبيه :
لما روي من سبب نزول هذه السورة مما رويناه ، ذهب إمام اللغة ابن جنّي إلى تأويل الكوثر بالذرية الكثيرة ، وهو معنى بديع فيه مناسبة لسبب النزول .
قال ابن جنّي في " شرح ديوان المتنبي " في قوله يمدح طاهر بن الحسين العلوّي :
~وأبهرُ آيات التهامي أنهُ أبوك وأجْدَى ما لكم من منَاقبِ
وفي جملة ما أملاه عليّ أبو الفضل العروضي : أن قريشاً وأعداء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : إن محمداً أبتر لا عقب له ، فإذا مات استرحنا منه ؛ فأنزل الله تعالى :
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي : العدد الكثير ، ولست الأبتر الذي قالوه . ومراده بالعدد الكثير الذرية وهو أولاد فاطمة . قال العروضي : فإن قيل : الْإِنْسَاْن بالأبناء والآباء والأمهات . قلنا : هذا خلاف حكم الله تعالى فإنه قد قال :
{ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } إلى قوله { وَيَحْيَى وَعِيسَى } [ الأنعام : 84 ] ، فجعل عيسى من أولاد إبراهيم ومن ذريته ، ولا خلاف في أنه لم يكن لعيسى أب . انتهى .
وقد بسطنا أدلة انتساب الأسباط إلى أجدادهم في كتاب " شرف الأسباط " بما لا مزيد عليه ، فراجعه .

(/)


سورة الكافرون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ 1 - 6 ]
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } أي : المشركون الجاحدون للحق ، الذي وضحت حجتهُ واتضحت محجتهُ .
{ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أي : من الآلهة والأوثان الآن .
{ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } أي : الآن .
{ وَلَا أَنَا عَابِدٌ } أي : فيما أستقبل { مَّا عَبَدتُّمْ } أي : فيما مضى .
{ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ } أي : فيما تستقبلون أبداً { مَا أَعْبُدُ } أي : فيما أستقبل { مَّا عَبَدتُّمْ } أي : الآن وفيما أستقبل ، هكذا فسره الإمام ابن جرير رحمه الله ، ثم قال : وإنما قيل ذلك كذلك ، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم أنهم لا يؤمنون أبداً ، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه وحدَّثوا به أنفسهم . وإن ذلك الغير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات . وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم مع الطمع في إيمانهم ، ومن أن يفلحوا أبداً ، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا ، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف ، وهلك بعضٌ قبل ذلك كافراً . ثم روى رحمه الله عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا قال : لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ! هلم ، فلنعبد ما تعبد وتعبدَ ما نعبد ، ونشركك في أمرنا كله ، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا ، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا واخذ منه بحظك ؛ فأنزل الله { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } السورة ، وفي رواية : وأنزل الله في ذلك هذه السورة ، وقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } [ الزمر : 64 - 66 ] ، انتهى .
وقيل : الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالاً كما أن الأوليين لنفسها استقبالاً ، قال أبو السعود : وإنما لم يقل : ما عبدتُ ؛ ليوافق ما عَبَدتُّم ؛ لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوماً بعبادة الله تعالى . وإيثار ما في { مَا أَعْبُدُ } على من ؛ لأن المراد هو الوصف ، كأنه قيل :
{ مَا أَعْبُدُ } من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته . وقيل : أن { مَا } مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي . وقيل : الأوليان بمعنى الذي ، والأخريان مصدريتان .
وقيل : قوله تعالى : { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيد لقوله تعالى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وقوله تعالى { وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ثانياً تأكيداً لمثله المذكور أولاً . انتهى .
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } نفي الفعل ، لأنها جملة فعلية { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } نفي قبوله لذلك بالكلية ، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلاً لذلك ، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً ، وهو قول حسن .
واختار الإمام كون { مَّا } في الأوليين موصولة وفيما بعدها مصدرية ، قال : فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود ، ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة ، فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة ؛ لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع ، المتعالي عن الظهور في شخص معين ، الباسط فضلَه لكل من أخلص له ، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه ، والذي تعبدونه على خلاف ذلك . وعبادتي مخلصة لله وحده ، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى ؛ فلا تسمى على الحقيقة عبادة . فأين هي من عبادتي ؟ وقوله تعالى : { لَكُمْ دِينَكُمْ } تقرير لقوله تعالى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وقوله تعالى : { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } كما أن قوله تعالى : { وَلِيَ دِينِ } تقرير لقوله تعالى : { وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } والمعنى أن دينكم الذي هو الإشراك مقصورٌ على الحصول لكم ، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضاً ، كما تطمعون فيه ؛ فإن ذلك من المحالات ، وأن ديني الذي هو التوحيد ، مقصور على الحصول لي ، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم ، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه .
تنبيه :
قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } على أن الكفر كلُّه ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس ، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ؛ لأن الأديان - ما عدا الإسلام - كلها كالشيء الواحد في البطلان . وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود ، وبالعكس ؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < لا يتوارث أهل ملتين شتَّى > .

(/)


سورة النصر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [ 1 - 3 ]
{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ } أي : لدينه الحق على الباطل { وَالْفَتْحُ } أي : فتح مكة الذي فتح الله بينه وبين قومه صلوات الله عليه ، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة .
{ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً } أي : ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله ، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه ، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجاً طوائف وجماعات لا آحاداً ، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة ؛ إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل .
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي : فنزِّه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله ، وعن أن يخلف وعده في تأييده ، وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين ، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين . والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين ، فلا يذهب عليه رياء المفسدين ، والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين ، فلا يذهب عليه رياء المرائين { وَاسْتَغْفِرْهُ } أي : اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن ، لتأخر زمن النصر والفتح . والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة . والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله ، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد ، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر ، ولكن الله علم أن نفس نبيه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال ؛ فلذلك أمره به ، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام . والله يتقبل منهم
{ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } أي : إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة ، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن ، فإذا وجدتْ الضعف أنهضها إلى طلب القوة ، وشدد همها بحسن الوعد ، ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال ، وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها ، وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم . وكأن الله يقول : إذا حصل الفتح وتحقق النصر وأقبل الناس على الدين الحق ، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن ، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس ، فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص . ومن هذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه ، فقال فيما روي عنه : < إنه قد نعيت إليه نفسه > . هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره .
تنبيهات :
الأول : قال ابن كثير : المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً ؛ فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبيّ . فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا في دين الله أفواجاً ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهِر للإسلام ولله الحمد والمنة . وقد روى البخاري في" صحيحه" عن عمرو بن سلمة : كنا بماءٍ ممرَّ الناس ، وكان يمرُ بنا الركبان فنسألهم : ما للناس ؟ ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله تعالى أرسله أوحى إليه ، أو أوحى الله بكذا ، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغزى في صدري . وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق . فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم . . . . الحديث .
الثاني : قال الرازي : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت النزول هذه السورة قولان :
أحدهما : أن فتح مكة كان سنة ثمان . ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروي أنه < عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً > ؛ ولذلك سميت سورة التوديع .
ثانيهما : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة وأن يفتحها عليه . ونظيره { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [ القصص : 85 ] ، وقوله : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } يقتضي الاستقبال ؛ إذ لا يقال فيما وقع : { إِذَا جَاء } و : إذا وقع ، وإذا صح القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات ؛ من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له ؛ والإخبار عن الغيب معجزة . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : ولأبي يعلى ، من حديث ابن عمر : نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق ، في حجة الوداع < فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع > .
ثم قال : وسئلت عن قول" الكشاف" : أن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق ، فكيف صدرت بـ : إذا الدالة على الاستقبال ؟ فأجبت بضعف ما نقله . وعلى تقدير صحته ، فالشرط لم يتكمل بالفتح ؛ لأن مجيء الناس أفواجاً لم يكن كمل ، فبقية الشرط مستقبل .
وقد أورد الطيبي السؤال ، وأجاب بجوابين :
أحدهما : أن إذا قد ترد بمعنى إذ كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً } [ الجمعة : 11 ] الآية .
ثانيهما : أن كلام الله قديم . وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى . انتهى كلامه .
الثالث : قال الشهاب : المراد بالناس العرب . فـ أل عهدية . أو المراد الاستغراق العرفيّ والمراد عبدة الأصنام منهم ؛ لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية .
الرابع : روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلا يقول فيها : < سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي > .
وفيه عنها أيضاً : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : < سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي > ، يتأول القرآن .
قال الحافظ ابن حجر : معنى يتأول القرآن ، يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار ، في أشرف الأوقات والأحوال .
وقال ابن القيم في " الهدى " كأنه أخذه من قوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرْهُ } لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور ؛ فيقول إذا سلم من الصلاة : < أستغفر الله > ثلاثاً . وإذا خرج من الخلاء قال : < غفرانك > . وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ } [ البقرة : 199 ] الآية .

(/)


سورة المسد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [ 1 - 5 ]
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } أي : خسرت يداه ، وخسر هو . واليدان كناية عن الذات والنفس ، لما بينهما من اللزوم في الجملة ، أو مجاز من باب إطلاق الجزء على الكل . وجملة { وَتُبْ } مؤكدة لما قبلها ، أو المراد بالأولى خسرانه في نفسه وذاته ؛ لأن سعي المرء لإصلاح نفسه وعمله . فأخبر بأن محروم منهما ، كما تشير له الآيتان بعد : أعني هلاك عمله وهلاك نفسه .
وقال ابن جرير : كان بعض أهل العربية يقول قوله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } دعاء عليه من الله . وأما قوله : { وَتُبْ } فإنه خبر ، أي : عما سيحقق له في الدنيا والآخرة . وعبر عنه بالماضي لتحققه .
وأبو لهب أحد عمومة النبي صلى الله عليه وسلم ، واسمه عبد العزى ، وقد اشتهر بكنيته وعرف بها لولد له يقال : له لهب ؛ أو لتلهب وجنتيه وإشراقهما ، مع الإشارة إلى أنه من أهل النار ، وأن مآله إلى نار ذات لهب ، فوافقت حاله كنيته ، فحسن ذكره بها .
قال الرواة : كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأذية له وبغضة له وازدراء به وتنقصاً له ولدعوته ، ومات على كفره بعد وقعة بدر ولم يحضرها ، بل أرسل عنه بديلاً ، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غماً ؛ وقد روى الشيخان عن ابن عباس قال : لما نزلت { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى : < يا بني فهر ! يا بني عديّ ! > - لبطون من قريش - حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً ؛ لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : < أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقيّ > ؟ قالوا : نعم . ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال : < فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد > . فقال أبو لهب : ُتبّاً لك سائرَ اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت السورة .
وروى الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد الديلي قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : < يا أيها الناس ! قولوا : لا إله إلا الله ، تفلحوا > . والناس مجتمعون عليه . ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ، ذو غديرتين ، يقول : إنه صابئ كاذب . يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب . وفي رواية له : يتبعه من خلفه يقول : يا بني فلان ! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة . فلا تسمعوا له ولا تتبعوه .
{ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } أي : أي : شيء أغنى عنه ماله وما كسبه من سخط الله عليه وخسرانه . فكسبه هو عمله الذي يظن أنه منه على شيء . وقيل : ولده ؛ لقرن الأولاد بالأموال في كثير من الآيات ، وكانت العرب تعد أولادها للنائبات كالأموال ، فنفى إغناءهما عنه حين حلَّ به التباب .
قال الشهاب : والذي صححه أهل الأثر أن أولاده ، لعنه الله ، ثلاثة : متعب وعتبة وهما أسلما ، وعتيبة - مصغراً - وهذا هو الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لما جاهر بإيذائه وعداوته ، ورد ابنته وطلقها ؛ وقال صلوات الله عليه وسلامه : < اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابك > . فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام . وفيه يقول حسان رضي الله عنه :
~من يرجعُ العامَ إلى أهلِهِ فما أُكِيلُ السَّبْعِ بالراجِعِ
ثم قال : ولهب هو أحد هؤلاء فيما قيل ، قال الثعالبي : ومنه يعلم أن الأسد يطلق عليه كلب . ولما أضيف إلى الله ، كان أعظم أفراده .
{ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } أي : توقّد واشتعال ، وهي نار الآخرة ، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاهدته .
{ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } أي : وسيصلاها معه امرأته أيضأ : فـ { امْرَأَتَهُ } مرفوع عطفاً على الضمير في { سَيَصْلَى } أو على الابتداء ، و
{ فِي جِيدِهَا } الخبر . وقرئ : حَمَّالَةَ بالنصب على الشتم والذم ، وبالرفع نعتاً أو بدلاً أو عطف بيان . إنما قيل لها ذلك لأنها كانت تحطب الكلام وتمشي بالنميمة ، كما قاله مجاهد وعكرمة وقتادة .
قال الزمخشري : ويقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس ، يحمل الحطب بينهم ، أي : يوقد بينهم ويورث الشر ، قال :
~البيض لم تُصْطَدْ على ظهر لأْمة ولَمْ تَمْشِ بين الحيّ بالحطَبِ الرَّطْبِ
يمدحها بأنها من البيض الوجوه وأنها بريئة من أن تصطاد على سوء ولؤم فيها ، ومن أن تمشي بالسعاية والنميمة بين الناس . وإنما جعل رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة الشر . ويقال : فلان يحطب على فلان ، إذا أغرى به .
قال الشهاب : وهي استعارة مشهورة لطيفة ، كاستعارة حطب جهنم للأوزار .
قال ابن كثير : وكانت زوجته من سادات نساء قريش ، وهي أم جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية ، وهي أخت أبي سفيان وعمة معاوية ، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده .
{ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } قال الإمام رحمه الله : أي : في عنقها حبل من الليف ، أي : أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة ، للإفساد بين الناس وتأريث نيران العداوة بينهم ، بمنزلة حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن ، يشدّ به ما حمله إلى عنقه ، حتى يستقل به . وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب ، وفي عنقها حبل من الليف ، تشد به الحطب إلى كاهلها ، حتى تكاد تختنق به .
وقال أيضاً : قد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة ، ليكون مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيِّه ؛ مطاوعة لهواه وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال ، واغتراراً بما عنده من الأموال ، وبما له من الصولة أو من المنزلة في قلوب الرجال ، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً ، وسيصلى ما يصلى . نسأل الله العافية .

(/)


سورة الإخلاص
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ 1 - 4 ]
{ قُلْ هُوَ } أي : الخبر الحق المؤيد بالبرهان الذي لا يرتاب فيه ، وهو ما يعبِّر عنه النحويون بالقصة أو الحديث أو الشأن . قال أبو السعود : ومدار وضعه موضعه ، مع عدم سبق ذكره الإيذانُ بأنه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد ، وإليه يشير كل مشير ، وإليه يعود كل ضمير { اللّهُ أحْدَ } أي : واحد في الألوهية والربوبية .
قال الزمخشري : { أَحَدٌ } بمعنى واحد . وقال ابن الأثير : الأحد في أسمائه تعالى الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر . والهمزة فيه بدل من الواو . وأصله : وحد ؛ لأنه من الوحدة .
وفي " المصباح " : يكون أحد مرادفاً لواحد في موضعين سماعاً : أحدهما : وصف اسم البارئ تعالى ، فقال : هو الواحد وهو الأحد ؛ لاختصاصه بالأحدية ، فلا يشركه فيها غيره . ولهذا لا يُنعت به غير الله تعالى ؛ فلا يقال : رجل أحد ، ولا : درهم أحد ، ونحو ذلك .
والموضع الثاني : أسماء العدد للغلبة وكثرة الاستعمال ، فيقال : أحد وعشرون ، وواحد وعشرون . وفي غير هذين يقع الفرق بينهما في الاستعمال ، بأن الأحد لنفي ما يذكر معه ، فلا يستعمل إلا في الجحد ، لما فيه العموم ، نحو : ما قام أحد . أو مضافاً نحو : ما قام أحد الثلاثة . و الواحد اسم لمفتتح العدد ، ويستعمل في الإثبات ، مضافاً وغير مضاف . فيقال : جاءني واحد من القوم . انتهى .
وقال الأزهري : الواحد من صفات الله تعالى ، معناه أنه لا ثاني له ، ويجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد . فأما { أَحَدٌ } فلا ينعت به غير الله تعالى ؛ لخلوص هذا الاسم الشريف له جل ثناؤه .
قال الإمام : ونكّر الخبر لأن المقصود أن يخبر عن الله بأنه واحد ، لا بأنه لا واحد سواه . فإن الوحدة تكون لكل واحد ، تقول : لا أحد في الدار ، بمعنى لا واحد من الناس فيها . والذي كان يزعمه المخاطبون هو التعدد في ذاته ، فأراد نفي ذلك بأنه أحد . وهو تقرير لخلاف ما يعتقد به أهل الأصلين من المجوس ، وما يعتقده القائلون بالثلاثة ، منهم ومن غيرهم . وسيأتي لابن تيمية كلام آخر في سر إيثاره بالتنكير .

(/)


{ اللَّهُ الصَّمَدُ } أي : الذي يُصمَد إليه في الحوائج ، ويُقصد إليه في الرغائب . إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد ، قاله الغزاليّ في " المقصد الأسنى " . وهكذا قال ابن جرير : الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه ، الذي لا أحد فوقه ، وكذلك تسمى أشرافها . ومنه قول الشاعر :
~ألا بَكََرَ النَّاعي بخَيْرَيْ أَسَدْ بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ
قال الشهاب : فهو فَعَل بمعنى مفعول ، وصمد بمعنى قصد . فيتعدى بنفسه وباللام وإلى .
وقال ابن تيمية رحمه الله : وفي الصمد للسلف أقوال متعددة ، قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك ، بل كلها صواب والمشهور منها قولان :
أحدهما : أن الصمد هو الذي لا جوف له .
والثاني : أنه السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج .
والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة .
والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين .
ثم توسع رحمه الله في مأخذ ذلك واشتقاقه والمأثور فيه ، إلى أن قال :
وإنما أدخل اللام في { الصَّمَدُ } ولم يدخلها في { أَحَدٌ } لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف ، ولم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده . وإنما يستعمل في غير الله في النفي وفي الإضافة وفي العدد المطلق ، وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين ، كما تقدم ، فلم يقل : صمد ، بل قال : { اللَّهُ الصَّمَدُ } فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه ؛ فإنه المستوجب لغايته
على الكمال ، والمخلوق وإن كان صمداً من بعض الوجوه ، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه ، فإنه يقبل التفرق والتجزئة ، وهو أيضاً محتاج إلى غيره ، فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه ، فليس أحد يصمد إليه كلُّ شيء ولا يصمد هو على شيء إلا الله ، وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض ، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك ، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة ، لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه ، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه .

(/)


وقال أبو السعود : وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية . وتعرية الجملة على العاطف لأنها كالنتيجة للأولى ، بيَّن أولاً ألوهيته عزَّ وجلّ المستتبعة لكافة نعوت الكمال ، ثم أحديته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجه من الوجوه ، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها ، ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتيّ عما سواه ، وافتقار جميع المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها ؛ تحقيقاً للحق وإرشاداً لهم إلى سننه الواضح ، ثم صرح ببعض ما يندرج فيما تقدم ، بقوله سبحانه : { لَمْ يَلِدْ } نصيباً على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح ؛ ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي ، أي : لم يصدر عنه ولد ؛ لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، كما نطق به قوله تعالى :
{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } [ الأنعام : 101 ] ، ولا يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه ؛ لاستحالة الحاجة والفناء عليه سبحانه . انتهى .
وقال ابن تيمية : وقد شمل ما أخبر به سبحانه من تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة كلَّ أفرادها ، سواء سموها حسية أو عقلية ، كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها ، هل هي جواهر أو أعراض ؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوسَ بمنزلة الإناث ، ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة ، وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم ، الذين جعلوا له بنين وبنات ، قال تعالى :
{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءٍَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] ، وقال تعالى : { أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الصافات : 151 - 152 ] ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله . كما يزعم هؤلاء أن النفوس هي الملائكة ، وهي متولدة عن الله ، فقال تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، والآيات في هذا كثيرة .
وقوله :
{ وَلَمْ يُولَدْ } نفي لإحاطة النسب من جميع الجهات ، فهو الأول الذي لم يتقدمه والد كان منه ، وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه . قال الإمام : قوله { وَلَمْ يُولَدْ } يصرح ببطلان ما يزعمه بعض أرباب الأديان من أن ابناً لله يكون إلهاً ، ويُعبد عبادة الإله ، ويُقصد فيه الإله ، بل لا يَستحي الغالون منهم أن يعبِّروا عن والدته بأم الإله القادرة ؛ فإن المولود حادث ولا يكون إلا بمزاج ، وهو لا يسلم من عاقبة الفناء ، ودعوى أنه أزلي مع أبيه ، مما لا يمكن تعقلهُ ؛ فهو سبحانه منزَّه عن ذلك .

(/)


{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } أي : ولم يكن أحد يكافئه أي : يماثله من صاحبة أو غيرها . وقال الإمام : الكفؤ معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة . وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلاً . فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الشرك ، وقرَّر جميع أصول التوحيد والتنزيه . وقال ابن جرير : الكفؤ والكفئ والكفاء في كلام العرب واحد ، وهو المثل والشبه .
وقرئ : { كُفُواً } بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واواً . وقرئ بتسكين الفاء وهمزها ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان . و { لَّهُ } صلة لـ : { كُفُواً } قدمت عليه ، مع أن حقها التأخر عنه ؛ للاهتمام بها ، لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى . وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل .
فوائد من هذه السورة :
الأولى : قال الشهاب : فإن قلت المأمور : { قُلُ } من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده ، فلِم كانت { قُلْ } من المتلوّ فيه وفي نظائره في القراءة ؟ قلت : المأمور به سواء كان معيناً أم لا ، مأمور بالإقرار بالمقول ، فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ولزوم الإقرار به على مرّ الدهور .
الثانية : قال الإمام ابن تيمية : احتج بقوله تعالى :
{ اللَّهُ الصَّمَدُ } من أهل الكلام المحدث من يقول : الرب- تعالى- جسم . كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما ، قالوا : هو صمد ، والصمد الذي لا جوف له . وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة ، فإنها لا جوف لها ، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة ؛ ولهذا قيل في تفسيره : إنه الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء ولا يأكل ولا يشرب . ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم .
وقالوا : أصل الصمد : الاجتماع ، ومنه تصميد المال . وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع . وأما النفاة فقالوا : الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام ، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام .
وقالوا أيضاً : الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام . وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام . وقالوا : إذا قلتم : هو جسم كان مركباً مؤلفاً من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة . وما كان مركباً مؤلفاً من غيره كان مفتقراً إليه ، وهو سبحانه صمد ، والصمد الغني عمن سواه ، فالمركب لا يكون صمداً . انتهى .
وقال الرازي : قد استدل القوم من جهَّال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم ، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحداً ينافي كونه جسماً . فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغظة ، وتعالى الله عن ذلك . فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه ؛ وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك ، يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير ، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجباً لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته . انتهى .
وأقول : التصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولاً ، وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه . وإذا تحقق هذا ، فلا يعول على هذا الثاني ولا لوازمه .
الثالثة : قال ابن تيمية : كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب ، يجب أن تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له ، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله ، وهذه السورة دلت على النوعين ، فقوله :
{ أَحَدٌ } من قوله :
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ينفي المماثلة والمشاركة . وقوله : صمد يتضمن جميع صفات الكمال ، فالنقائص جنسُها منفيٌّ عن الله تعالى ، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها . بخلاف ما يوصف به الرب ، ويوصف العبد بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ، فإن هذه ليست نقائص بل ما ثبت لله من هذه المعاني ، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات ، فضلاً عن أن يماثله فيه ، بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم ، فكلاهما مخلوق . فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق . وقد سمَّى الله نفسَه عليماً حليماً رؤوفاً رحيماً سميعاً بصيراً عزيزاً ملِكاً جباراً متكبراً ، وسمَّى أيضا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء ، مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلاً للخالق جلَّ جلاله في شيء من الأشياء .
الرابعة : قدمنا ما ورد في الحديث من أن < سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن > .
وقد ذكروا في ذلك وجوها ، منها ما قاله أبو العباس بن سريج : أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام : ثلث منها للأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات . وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات . وقال الغزالي في " جواهر القرآن" : مهمات القرآن هي معرفة الله ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم ، فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة ، والباقي توابع . وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث ، وهي معرفة الله ، وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع . وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ .
قال : والوصف بالصمد يشعِر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه . نعم ، ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم ، فلذلك تعدل ثلث القرآن ، أي : ثلث الأصول من القرآن كما قال : < الحج عرفة > أي : هو الأصل والباقي تبعٌ .
وقال ابن القيم في " زاد المعاد " : < كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون > وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ؛ فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة ، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشرِكة بوجه من الوجوه . والصمدية المثبتة له جميعَ صفات الكمال الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه ، ونفي الولد والوالد الذي هو من لازم الصمدية وغناه وأحديته ، ونفي الكفؤ المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير ، فتضمنت هذه السورة إثبات كلَّ كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ونفي مطلق الشريك عنه ، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك ؛ ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء ، والإنشاء ثلاثة : أمر ، ونهي ، وإباحة . والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه ؛ فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن ، وخلَّصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي ، كما خلّصت سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } من الشرك العملي الإرادي القصدي . ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزِلُه منازله ، كانت سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن ، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغَ التواتر ، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تعدل ربع القرآن ، وفي الترمذي : من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، يرفعه :
< { إِذَا زُلْزِلَتِ } تعدل نصف القرآن و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تعدل ربع القرآن > رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح الإسناد .
ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لِما لها فيه من نيل الأغراض ، وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته ؛ لأن هذا يزول بالعلم والحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة والقصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطن الشهوة والغضب على نفسه ؛ فجاء من التأكيد والتكرار في سورة : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } المتضمنة لإزالت الشرك العملي ما يجيء مثله في سورة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
ولمّا كان القرآن شطرين : شطراً في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها ، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها ، وكانت سورة { إِذَا زُلْزِلَتِ } قد أخلصت من أولها وأخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر إلا الآخرة ، وما يكون من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن فأحْرِ بهذا الحديث أن يكون صحيحاً . والله أعلم .
الخامسة : قال ابن تيمية : سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أكثرهم على أنها مكية ، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة ، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة ، ولا منافاة ؛ فإن الله أنزلها بمكة أولا ، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى ، وهذا مما ذكر طائفة من العلماء . وقالوا : إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك ؛ فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقّاً ، والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها ، نزل جبريل فقرأها عليه ، ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب ، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك . انتهى .
وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير ومواضع أُخَر منه تحقيق البحث في معنى النزول بما يدفع المنافاة في أمثال هذا ، فراجعه .
ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة ، من أمثلها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية : أحدهما في تفسيرها ، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن ، فاحتفظ بهما . والله الهادي .

(/)


سورة الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ 1- 5 ]
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } أي : ألوذ به وألتجئ إليه . والفلق فعل بمعنى المفعول ، كقصَص بمعنى مقصوص .
قال ابن تيمية : كلُّ ما فلقَه الربُّ فهو فلق . قال الحسن : الفلق كل ما انفلق عن شيء كالصبح والحَب والنَّوى . قال الزجاج : وإذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر . وقد قال كثير من المفسرين : الفلق الصبح ، فإنه يقال : هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح .
وقال بعضهم : الفلق الخلق كله ، وأما من قال : إنه وادٍ في جهنم أو شجرة في جهنم ، أو : إنه اسم من أسماء جهنم ، فهذا أمر لا نعرف صحته ، لا بدلالة الاسم عليه ، ولا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة ، بخلاف ما إذا قال : رب الخلق أو رب كلِّ ما انفلق أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار ، فإن في تخصيصه هذا بالذكر . ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به . انتهى

(/)


وقوله تعالى : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } أي : من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم . كائناً ما كان من ذوات الطبائع والاختيار .

(/)


وقوله سبحانه : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال أبو السعود : تخصيص لبعض الشرور بالذِّكر ، مع اندراجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة ، وأدعى إلى الإعاذة . وقال الإمام ابن تيمية : وإذا قيل : الفلق يعمُّ ويخص ، فبعمومه استعيذ من شر ما خلق ، وبخصوصه للنور النهاريّ استعيذ من شر غاسق إذا وقب ؛ فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله :
{ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } [ الإسراء : 78 ] ، وهذا قول أكثر المفسرين ، وأهل اللغة قالوا : ومعنى { وَقَبَ } دخل في كل شيء . قال الزجاج : الغاسق البارد . وقيل لليل : غاسق ؛ لأنه أبرد من النهار . وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم < نظر إلى القمر فقال : يا عائشة ! تعوَّذي بالله من شره ، فإنه الغاسق إذا وقب > . وروي من حديث أبي هريرة مرفوعاً : < الغاسق النجم > . وقال ابن زيد : هو الثريا ، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها . وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولاً آخر ، ثم فسروا وقوبه بسكونه . قال ابن قتيبة : ويقال : الغاسق القمر إذا كسف واسودَّ . ومعنى وقب دخل في الكسوف . وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره ، وهو لا يقول إلا الحق ، وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره . وقد قال الله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 12 ] ، فالقمر آية الليل ، وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل ؛ فأمره بالاستعاذة من ذلك أمرٌ بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته . والدليل مستلزم للمدلول . فإذا كان شر القمر موجوداً ، فشر الليل موجود ، وللقمر من التأثير ما ليس لغيره . فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى ، ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى : < هو مسجدي > هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعاً ، وكذلك قوله عن أهل الكساء : < هؤلاء أهل بيتي > مع أن القرآن يتناول نساءه ؛ فالتخصيص لكونه المخصوص أولى بالوصف ؛ فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة ، والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن مالا تنتشر بالنهار ، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك ؛ فالشر دائماً مقرون بالظلمة . ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم ، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار ، ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته ، وأبو معشر البلخيّ له " مصحف القمر " يذكر فيه من الكفريات والسِّحريات ما يناسب الاستعاذة منه . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله .

(/)


ثم خص تعالى مخلوقات أُخَر بالاستعاذة من شرها ، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها ؛ فلا بد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها ، فقال سبحانه : { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } قال ابن جرير : أي : ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عُقد الخيط حين يَرقين عليها ، وبه قال أهل التأويل ، فعن مجاهد : الرقي في عقد الخيط . وعن طاوس : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين ، ومثله عن قتادة والحسن . وقال الزمخشري : النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط ويَنفثن عليها ويرقين . والنفث : النفخ مع ريق ، ولا تأثير لذلك ، اللهم إلا إذا كان ثَمَّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه ، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ، ولكن الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرّعاع إليهن وإلى نفثهن . والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبؤون به .
فإن قلت : فما معنى الاستعاذة من شرهن ؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهن في ذلك .
والثاني : أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن .
الثالث : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن . انتهى .
وفي الآية تأويل آخر ، وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله ، قال : النفاثات النساء ، والعقد عزائم الرجال وآراؤهم ، مستعار من عقد الحبال ، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبلهُ سهلاً . فمعنى الآية : أن النساء لأجل كثرة حبِّهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة ؛ فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن . كقوله :
{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } [ التغابن : 14 ] ، فكذلك عظم الله كيدهن فقال : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] .
تنبيه :
قال الشهاب : نقل في " التأويلات " عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث < سحره صلوات الله عليه > ، المروي هنا ، متروك لِما يلزم من قول الكفرة أنه مسحور . وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه . ونقل الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلة ، وكيف يمكن القول بصحتها ، والله تعالى يقول :
{ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] وقال : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 69 ] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ؛ ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين ، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم ، وكلُّ ذلك باطلٌ ، ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور . فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه - عليه السلام - ذلك العيب . ومعلوم أن ذلك غير جائز . انتهى . ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرَّجاً في الصحاح ؛ وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من النقد ، سنداً أو معنى ، كما يعرفوه الراسخون . على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة .
قال الإمام الغزالي في " المستصفى " : ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردَّ خبر الواحد ، كردِّ عليٍّ رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق ، وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث . وكردِّ عائشة خبر ابن عمر في < تعذيب الميت ببكاء أهله عليه > ، وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمثال ذلك مما ذكر . أورد الغزالي ذلك في مباحث : خبر الآحاد في معرفة شبه المخالفين فيه ، وذكر رحمه الله في مباحث الإجماع إجماعَ الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد ، لأدلة ظاهرة قامت عندهم .
وقال الإمام ابن تيمية في " المسودة " : الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً ، فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث . انتهى
وقال العلامة الفناري في " فصول البدائع " : ولا يضلل جاحد الآحاد ، والمسألة معروفة في الأصول ، وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي مَن أكبر ردَّ خبر رواه مثل البخاري ، وضلل منكره ؛ فعلمت أن هذا من الجهل بفنِّ الأصول ، لا بأصول مذهبه ، كما رأيت عن الفناري . ثم قلت : العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزناً ، وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من رد خبراً فيه ؟ وقد برهن على مدعاه . وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه .
وبعد ، فالبحث في هذا الحديث شهير قديماً وحديثاً ، وقد أوسع المقال فيه شراح " الصحيح " وابن قتيبة في شرح " تأويل مختلف الحديث " والرازي . والحق لا يخفى على طالبه . والله أعلم .

(/)


{ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قال الزمخشري : أي : إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود . لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره ، فلا ضرر يعود منه على حسده بل هو الضار لنفسه ، لاغتمامه بسرور غيره .

(/)


سورة الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس ِ *الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ } [ 1 ]
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } أي : ألجأ إليه وأستعين به ، و { رَبِّ النَّاسِ } الذي يُربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره ، وهو رب العالمين كلِّهم والخالق للجميع

(/)


{ مَلِكِ النَّاسِ } أي : الذي ينفذ فيهم أمرُه وحكمه وقضاؤه ومشيئته دون غيره .

(/)


{ إِلَهِ النَّاسِ } أي : معبودهم الحق وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر ، دون كل شيء سواه . والإله المعبود الذي هو المقصود بالإرادات والأعمال كلها .

(/)


{ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ } أي : الشيطان ذي الوسوسة . وقد زعم الزمخشري ومن تبعه ، أن الوسواس مصدر أريد به الموسوس أو بتقدير : ذي . وحقق غير واحد أنه صفة كالثرثار ، وأن فعلالاً مصدر : فعلل بالكسر ، والمفتوح شاذ ، وقد بسط الكلام في ذلك الإمام ابن القيم في " بدائع الفوائد "
{ الْخَنَّاسِ } أي : الذي عادته أن يخنس - أي : يتأخر - إذا ذكر الْإِنْسَاْنُ ربَّه ، لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة ، وكلَّما تنبَّه العبدُ فذكر اللهَ خنس .

(/)


{ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } أي : بالإلقاء الخفيّ في النفس ، إما بصوت خفيّ لا يسمعهُ إلا من ألقي إليه ، وإما بغير صوت .
قال ابن تيمية : و الوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة ، يقال : فلان يوسوس فلاناً ، و قد وشوشته إذا حدثه سراً في أذنه ، وكذلك الوسوسة ، ومنه وسوسة الحليّ ، لكن هو بالسين المهملة ، أخص .
وقال الإمام : إنما جعل الوسوسة في الصدور ، على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب ، والقلب مما حواه الصدر عندهم ، وكثيراً ما يقال : إن الشك يحوك في صدره ، وما الشك إلا في نفسه وعقله ، وأفاعيل العقل في المخ ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم وضربات القلب وضيق الصدر أو انبساطه .

(/)


وقوله تعالى : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } بيان للذي يوسوس على أنه ضربان : ضرب من الجِنَّة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم ، وإنما نجد في أنفسنا أثراً ينسب إليهم ، وضرب من الإنس كالمضلِّلين من أفراد الْإِنْسَاْن ، كما قال تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] ، وإيحاؤهم هو وسوستهم .
قال ابن تيمية : فإن قيل : فإن كان أصل الشر كلّه من الوسواس الخناس ، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس ، فإنه تابع لوسواس الجن ؟ قيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن ، ونوع من نفوس الإنس . كما قال :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] ، فالشر من الجهتين جميعاً . والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين .
وقال أيضاً : الذي يوسوس في صدور الناس نفسه لنفسه ، وشياطين الجن وشياطين الإنس ، فليس من شرط الموسوس أن يكون مستتراً عن البصر ، بل قد يشاهد .
لطائف :
الأولى : قال ابن تيمية : إنما خص الناس بالذكر ؛ لأنهم المستعيذون ، فيستعيذون بربهم الذي يصونهم ، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحلُّ بينهم وبين عبادته ، ويستعيذون أيضاً من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجِنَّة ؛ فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم .
وقال الناصر : في التخصيص جرى على عادة الاستعطاف . فإنه معهُ أتمّ .
الثانية : تكرر المضاف إليه وهو : الناس باللفظ الظاهر ؛ لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة ، فإن الإظهار أنسب بالإيضاح المسوق لهُ عطف البيان ، وأدل على شرف الْإِنْسَاْن . وقيل : لا تكرار لجواز أن يراد بالعام بعض أفرادهُ ؛ فـ : الناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية ، والثاني الكهول والشبان ، لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم ، والثالث الشيوخ لأنهم المتعبدون المتوجهون لله .
قال الشهاب : وفيه تأمّل .
الثالثة : في تعداد الصفات العليا هنا إشارة إلى عِظَم المستعاذ منه ، وأن الآفة النفسانية أعظم من المضار البدنية ، حيث لم يكرر ذلك المستعاذ به في السورة قبلُ ، وكررهُ هنا إظهاراً للاهتمام في هذه دون تلك . نقله الشهاب .
الرابعة : قال ابن تيمية : الوسواس من جنس الحديث والكلام ؛ ولهذا قال المفسرون في قوله :
{ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } قالوا : ما تحدث به نفسه . وقد قال صلى الله عليه وسلم : < إن الله تجاوز لأمتي ما تحدِّث به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به > ، وهو نوعان : خبر وإنشاء ، فالخبر إما عن ماض وإما عن مستقبل ، فالماضي يذكره والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أموراً ، أو أن أموراً ستكون بقدر الله أو فعل غيره ؛ فهذه الأمانيّ والمواعيد الكاذبة ، والإنشاء أمر ونهي وإباحة .
الخامسة : قال ابن تيمية : الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة ، فإن كان مما ألقى في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنهُ تقوى لله ، فهو من الإلهام المحمود ، وإن كان مما دلّ على أنهُ فجور ، فهو من الوسواس المذموم ، وهذا الفرق مطرد لا ينقض .
وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان ، فقال : ما كرهتهُ نفسك لنفسك فهو من الشيطان ؛ فاستعِذ بالله منه ، وما أحبَّتهُ نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنهُ .
السادسة : قال الإمام الغزالي في " الإحياء " في بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند كلِّ ركن وشرط من أعمال الصلاة ، ما مثاله : وإذا قلت :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فاعلم أنه عدوك ومرصد لصرف قلبك عن الله عز وجل ؛ حسداً لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له ، مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفَّق لها ، وإنَّ استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه ، بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك ؛ فإن من قصده سبُعٌ أو عدوٌّ ليفترسه أو ليقتله فقال :
أعوذ منك بهذا الحصن الحصين- وهو ثابت على مكانه ذلك- لا ينفعه ، بل لا يفيده إلا بتبديل المكان ، فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محابُّ الشيطان ومكاره الرحمن ، فلا يغنيه مجرد القول ، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان ، وحصنه : لا إله إلا الله إذ قال عز وجل فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم
: < ولا إله إلا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي > . والمتحصن به من لا معبود له سوى الله سبحانه ، فأما من اتخذ إلهه هواه ، فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله عز وجل . انتهى .
وملخصه أن التعوذ ليس هو مجرد القول ، بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل عما يتعوذ منه ، فكان ترجمة لحالهم . وهذا المعنى كان يلوح لي من قبل أن أراه في كلام حجَّة الإسلام ، حتى رأيته فحمدت الله على الموافقة .
السابعة : قال الإمام الغزالي في " الإحياء " أيضاً ، في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس : ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها ، ما مثاله :
اعلم أن القلب في مثال قبَة مضروبة لها أبواب تنصبُّ إليه الأحوالُ من كل باب ، ومثالهُ أيضاً مثال هدف تنصبُّ إليه السهام من الجوانب . أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف السور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا يخلو عنها . أو مثال حوض تصبُّ فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه . وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال ، إما من الظاهر فالحواس الخمس ، وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الْإِنْسَاْن ، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب ، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلاً بسبب كثرة الأكل وسبب قوة المزاج ، حصل منها في القلب أثر ، وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر .
والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذه الأسباب ، وأخص الآثار الحاصلة في الخواطر ، وأعني الخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار ، وأعني به إدراكاته علوماً ، إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر ؛ فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها .
والخواطر هي المحركات للإرادات ، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة . فمبدأ الأفعال الخواطر . ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ، والعزم يحرك النية ، والنية تحرك الأعضاء . والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو للشر ، أعني إلى ما يضر في العاقبة ، وإلى ما يدعو إلى الخير ، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة . فهما خاطران مختلفان . فافتقرا إلى اسمين مختلفين . فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم ، أعني الداعي إلى الشر ، يسمى وسواساً . ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ، ثم أن كل حادث فلابد له من محدث ، ومهما اختلفت الحوادث دلَّ ذلك على اختلاف الأسباب ، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب . فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار ، وأظلم سقفه واسودّ بالدخان ، علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة ، وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان : فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً . واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخبر يسمى توفيقاً ، والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغوائاً وخذلاناً . فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامٍ مختلفة ، والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى ، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف ، وقد خلقه وسخره لذلك . والشيطان عبارة عن خلق شأنهُ ضد ذلك ، وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر ؛ فالوسوسة في مقابلة الإلهام . والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان .
ثم قال الغزالي : ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذِكر سوى ما يوسوس به ؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل . ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به ، فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان . وذكر الله تعالى هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ، ولا يعالج الشيء إلا بضده . وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحَوْل والقوة ، وهو معنى قولك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك لا يقدر عليه إلا المتَّقون الغالب عليهم ذِكْرُ الله تعالى ، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة . قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] .
ثم قال : فالوسوسة هي هذه الخواطر ، والخواطر معلومة ؛ فإذن الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب ، ويفتقر إلى اسم يعرّفه ، فاسم سببهُ الشيطان ، ولا يتصور أن ينفك عنه آدميّ ، وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته ؛ فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام ، والملك والشيطان والتوفيق والخذلان . انتهى . 

قلت المدون :

قلت المدون سبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته} ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالدي ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خلقت الخلق الي يوم الحساب آمين وفرج كربي ورد الي عافيتي وارضي عني في الدارين  واعني علي أن انفقها في سبيلك يا ربي اللهم فرج كربي واكفني همي ورد إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّف بين قلوبنا اجمعين. .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...