روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

ب ميك

المدون

 

الثلاثاء، 31 مايو 2022

مجلد 7.و8. محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

 

مجلد 7. محاسن التأويل  محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ 53 ]
{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ } هم الشرفاء : { بِبَعْضٍ } وهم المستضعفون ، بما مننا عليهم بالإيمان . وقوله : { لِيَقُولُوا } أي : الشرفاء : { أَهَؤُلاءِ } أي : المستضعفون { مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } أي : بشرف الإيمان ، مع أن الشرفاء على زعمهم ، أولى بكل شرف ، فلو كان شرفاً لانعكس الأمر ، فهو إنكار لأن يُخَصَّ هؤلاء من بينهم بإصابة الحق ، والسبق إلى الخير ، كقولهم : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان ، لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة ، فيشكرونها حق شكرها . وأما أولئك ، فلا يعرفون قدرها ، فلا يشكرونها ، بقوله سبحانه : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } ؟ ردٌّ لقولهم ذلك ، وإبطالٌ له ، وإشارةٌ إلى أن مدار استحقاق الإنعام ، معرفة شأن النعمة ، والاعتراف بحق المنعم . كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن ، والتوفيق للإيمان ، شاكرون له تعالى على ذلك ، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله - ما لا يخفى .
قال الحافظ ابن كثير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس ، من الرجال والنساء ، والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قوم نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } [ هود : 27 ] الآية - وكما سأل هرقلُ ملك الروم أبا سفيان - حين سأله عن تلك المسائل - : [ فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال : هم أتباع الرسل ] وكان مشركو مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } كقوله : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . وكقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي : الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] ؟ قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً } [ مريم : 74 ] . وقال في جوابهم هنا : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } ، أي : له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم . كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] .
وفي الحديث الصحيح : < إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم > . وروى ابن جرير عن عِكْرِمَة قال : جاء عُتْبَةُ بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم ابن عدي ، والحارث بن نوفل ، وقرظة بن عبد عَمْرو بن نوفل ، في أشراف من بني عبد مناف ، من الكفار ، إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعُسَافاؤنا -كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتّباعنا إياه ، وتصديقنا له . فأتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بالذي كلموه به ، فقال عُمَر بن الخطاب : لو فعلت ذلك ، حتى تنظر ما الذي يريدون ، وإلام يصيرون من قولهم ! فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِم } [ الأنعام : 51 ] . إلى قوله : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } . قال : وكانوا : بلال وعمارُ بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد . ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عَمْرو ، ومسعود بن القاريّ ، وواقد بن عبد الله الحنظليّ ، وعمرو بن عَمْرو ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد بن غنيّ ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء . ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم } . . الآية - فلما نزلت أقبل عمر ، فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا } الآية .
تنبيهات وفوائد :
قال بعض المفسرين :
1 - أن الواجب في الدعاء الإخلاص به ، لأنه تعالى قال : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } - هكذا قال الحاكم - وهكذا جميع الطاعات ، لا تكون لغرض الدنيا ، قال النفس الزكية عليه السلام : إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه ، وجب عليه أن يسلم الأمر له . فإن لم يفعل ذلك فسق ، لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا .
2 - ودلت على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء ، فلذلك خصهما بالذكر .
3 - ودلت على أن الفضل بالأعمال . وما خرج من المفاضلة من غير أمر الدين ، كالكفاءة في النكاح ، فذلك لمخصص ، نحو قوله عليه السلام : العرب بعضها أكفاء للبعض .
4 - ودلت على أن أحداً لا يؤخذ بذنب غيره وهي كقوله : { ا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] . وقد تقدم ما ذكر فيما ورد أن الميت ليعذَّب ببكاء أهله ، على أن المراد إذا أوصاهم بذلك .
5 - ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به ، لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قد همّ بذلك .
6 - ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن . وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : < يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة . > وروي أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله . ورُوي أن عليّاً عليه السلام لم يخلف شيئاً بعد وفاته - هكذا في التهذيب -انتهى .
أقول : الحديث الأول ، رواه الترمذيّ عن أبي هريرة وقال : حسن صحيح ، ولفظه : < يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام > ، وأما حديث آخر : < من يدخل الجنة من الصحابة > . . الخ فلم أجده بهذا اللفظ .
وقد روى البزار وأبو نعيم عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف . والذي نفس محمد بيده ! لن يدخلها إلا حبواً > . قال السيوطي : إسناده ضعيف - كذا في " منتخب كنز العمال " في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، في " فضائل الصحابة " .
7 - هذا ، وقال ابن الفرس : قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره . قال : وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار ، ويبتهل بالدعاء ، يردّد ذلك إلى الصباح ، وتأذى به الجيران ، هل يمنع ؟ واستدل ( من قال : لا يمنع ) بهذه الآية ، وبقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّه } [ البقرة : 114 ] الآية . انتهى .
8 - قرأ ابن عامر : { بِالْغَدَاةِ } بالواو وضم الغين ، هنا وفي سورة الكهف ، والباقون بالألف وفتح الغين ، وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي العطارديّ وغيرهم .
قال أبو عبيد : قرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن السلميّ ( بالغدوة ) ، وقرأ العامة ( بالغداة ) ونراهما قرآ ذلك اتباعاً للخط ، لأنها رسمت في جميع المصاحف بالواو ، كالصلاة ، والزكاة ، وليس ، في إثباتهم الواو في الكتابة ، دليل على أنها القراءة ، لأنهم قد كتبوا ( الصلاة والزكاة ) بالواو ، ولفظهما على تركها ، فكذلك ( الغداة ) ، على هذا وجدنا ألفاظ العرب . انتهى .
وقال أبو علي الفارسي : الوجه قراءة العامة ( بالغداة ) ، لأنها تستعمل نكرة ، فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها . فأما ( غدوة ) فمعرفة ، وهو علم صيغ له ، وحينئذ فيمتنع دخول لام التعريف عليه ، كسائر المعارف ، وكتابتها بالواو لا تدل على قولهم . انتهى .
قال الشهاب مجيباً ومناقشاً : إن ( غدوة ) وإن كان المعروف فيها أنها علم جنس ، ممنوع من الصرف ، ولا تدخله الألف واللام ، ولا تصح إضافته ، فلا تقول : غدوة يوم الخميس - كما قال الفرّاء - ولكنه سمع اسم جنس أيضاً ، منكراً مصروفاً ، فتدخله اللام ، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل ، وذكره جم غفير من أهل اللغة والنحو ، فلا عبرة بقول أبي عبيد أن من قرأ بالواو أخطأ ، وأنه اتبع رسم الخط ، لأن الغداة تكتب بالواو ، كالصلاة والزكاة ، وهو علم جنس ، لا تدخله الألف واللام ، والمُخَطِّئُ مُخْطِئٌ ، لما مر . وقد ذكر المبرّد عن العرب تنكيره وصرفه ، وإدخال الألف واللام عليه ، إذا لم يرد غدوة يوم بعينه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنه علم ، لكنه نكّر ، لأن تنكير علم الجنس لم يعهد . ولا أنه معرفة ، ودخلته اللام لمشاكلة العشيّ . كما في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً ، إذ قال ( اليزيد ) لمجاورة الوليد . ومنه تعلم المشاكلة قد تكون حقيقة . انتهى .
9 - في القاموس : الغدوة بالضم ، البكرة ، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة . والعشيّ والعشية : آخر النهار .
وفي الصحاح : من صلاة المغرب إلى العتمة .
وقال الأزهري : يقع العشي على ما بين الزوال والغروب .
10 - جعل الزمخشري ( ذلك ) إشارة إلى هذا الفتن المذكور ، حيث قال : ومثل ذلك الفتن العظيم ، فتنا بعض الناس ببعض ، أي : ابتليناهم بهم . وعبر عنه بذلك ، إيذاناً بتفخيمه . كقولك : ضربت زيداً ذلك الضرب . ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه ، لأن المثل ليس بمراد ، إنما جيء به مبالغة ، كما يقال ( ذلك كذلك ) كذا قرره العلامة . يعني : أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار ، لأن ما له أمثال يستمر نوعه بتجدد أمثاله ، كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله :
~هكذا يذهبُ الزمان ويفنى العـ ـلمُ فيه ويُدرسُ الأَثَرُ
والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه ، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم . وكونه عظيماً مستفاد من لفظ ( ذلك ) المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور ، وليست الكاف فيه زائدة . ومن قال إنها مقحمة أراد أن التشبيه فيه غير مقصود فيه ، بل المراد لازمه الكنائي أو المجازي . والزمخشري ، لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة ، اختاره فيما ورد فيه كذلك - كذا في " العناية " - .
وقال أبو السعود : ( ذلك ) إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل ، ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف . والتقدير : فتنا بعضهم ببعض فتوناً كائناً مثل ذلك الفتون ، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ، فصار نفس المصدر المؤكد ، لا نعتاً له . والمعنى : ذلك الفتون الكاملَ فتناً .
قال الشهاب : هذا الإقحام للمبالغة ، مطرد في عُرْفِي العرب والعجم . انتهى .
وقيل : الكاف ليست بزائدة ، والمشار إليه هو المشبه به ، الأمر المقرر في الذهن ، والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي ، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله : { فَتَنَّا } ، وهو ما يعلمه كل أحد من الفَتْنَ مَنْ هو - انظر " العناية " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 54 ]
قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم ، فأكرمهم الله بهذا الإكرام .
قال البيضاويّ : وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن ، واتباع الحجج ، بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة ، وأمره بأن يبدأهم بالتسليم ، أو يبلّغ سلام الله تعالى إليهم ، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله ، بعد النهي عن طردهم ، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرّب ولا يطرد ، ويُُعَز ولا يُذَل ، ويُبشَّر من الله بالسلامة في الدنيا ، والرحمة في الآخرة . انتهى .
وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله عنه . وأخرج الفريابيّ وابن أبي حاتم عن ماهان ، قال جاء الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً عظاماً ، فما ردّ عليهم شيئاً ، فأنزل الله : { وَإِذَا جَاءكَ } . . الآية . ولا يخفى أن الآية تشتمل جميع ذلك ، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد ، فتنزل الآية بياناً للكل . وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير ، في بحث سبب النزول ، أن قول السلف : نزلت في كذا ، قد يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية ، لنزولها إثرها فتذكرْهُ ، وأَجِل فكرك في أطرافه ، فإنه مهم جدّاً . وبمعرفته يندفع إشكال الرازيّ الذي قرره هنا .
وقوله تعالى : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : أوجبها أي : أوجبها على ذاته المقدسة ، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً .
وقوله : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } الخ بدل من : { الرَّحْمَةِ } . وقرئ بكسر الهمزة على أنه تفسير للرحمة بطريق الاستئناف .
وقوله : { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال ، أي : عمله وهو جاهل ، وفيه معنيان :
أحدهما - أنه فاعل فعل الجهلة ، لأن من عمل ما يؤدي إلا الضرر في العاقبة ، وهو عالم بذلك ، أو ظانّ ، فهو من أهل السفه والجهل ، لا من أهل الحكمة والتدبير ، ومنه قول الشاعر :
~على أنها قالت عشيةَ زُرْتُهَا جهلتَ على عمدٍ ولم تَكُ جَاهِلاً
والثاني - أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة ، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته - كذا في " الكشاف " - .
فعلى الأول ، الجهل : بمعنى السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب ، كما في قوله :
~فَنَجْهَلَ فَوْقَ جهلِ الجَاهِلِينَا
وكانت العرب تتمدح به ، فلا حاجة لتقدير مفعول .
وعلى الثاني ، المراد : الجهالة بمضار ما يفعله .
وقوله تعالى : { وَأَصْلَحَ } أي : العمل . كقوله : { وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] . وروى الإمام أحمد والشيحان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله على الخلق كتب فيه كتابه ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي .
تنبيه :
نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال : دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين . ودلت على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن ، لأنه أمر بأن يقول لهم : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } لتطيب قلوبهم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [ 55 ]
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ } أي : آيات القرآن ، في صفة المطيعين والمجرمين . ومرّ قريباً الكلام على ( كذلك ) : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل . وقُرئ بالتذكير بناء على تذكيره ، فإن ( السبيل ) مما يذكر ويؤنث ، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور ، لم يقصد تعليله بها بعينها ، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة ، من جملتها ما ذكر . أو علة لفعل مقدّر ، هو عبارة عن المذكور ، فيكون مستأنفاً . أي : ولتستبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفضيل . وقُرئ بنصب ( السبيل ) على أن الفعل متعد ، وتاؤه للخطاب . أي : ولتستوضح أنت ، يا محمد ! سبيل المجرمين ، فتعاملهم بما يليق بهم -أفاده أبو السعود - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ 56 ]
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : تعبدونه أو تسمونه آلهة . ثم كرر الأمر تأكيداً لقطع أطماعهم بقوله تعالى : { قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ } أي : في عبادة الأصنام ، وطرد من ذكر .
ثم قال البيضاوي : هو إشارة إلى الموجب للنهي . وعلة الامتناع عن متابعتهم ، واستجهال لهم ، وبيان لمبدأ ضلالهم ، وأن ما هم عليه هوى ، وليس بهدى . وتنبيه لمن تحرّى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد . انتهى . : { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } أي : إن اتبعت أهواءكم ، لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعاً { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } أي : للحق إن اتبعت ما ذكر . وفيه تعريض بأنهم كذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [ 57 ]
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليّ ، لا يمكن التشكيك فيها : { وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } استئناف أو حال ، والضمير للبينة . والتذكير باعتبار المعنى المراد . أعني : الوحي ، أو القرآن ، أو نحوهما { مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أي : من العذاب .
قال أبو السعود : استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بالبينة ، وهو عدم مجيء ما وعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم : { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] ؟ بطريق الاستهزاء ، أو بطريق الإلزام ، على زعمهم . أي : ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن ، وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه ، في حكمي وقدرتي ، حتى أجيء به ، وأظهر لكم صدقه . أو ليس أمره بمفوّض إليّ .
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي : لو كان عندي لكنت أنا الحاكم ، لكن ما الحكم في ذلك تعجيلاً وتأخيراً إلا لله ، وَقَدْ حَكَمَ بتأخيره ، لما له من الحكمة العظيمة ، لكنه محقق الوقوع لأنه : { يَقُصُّ الْحَقَّ } أي : يبينه بياناً شافياً { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } أي : القاضين بين عباده .
لطيفة :
قُرئ : { يَقُصُّ الْحَقَّ } بالضاد ، وانتصاب الحق على المصدرية ، لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه . أو على المفعولية ، بتضمين ( يقضي ) معنى ( ينفذ ) ، أو هو متعد من ( قضى الدرع ) إذا صنعها . قال الهذلي :
~وعليها مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
قال الرازي : واحتج أبو عمر على هذه القراءة بقوله : { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } قال : والفصل يكون في القضاء ، لا في القصص . وأجاب أبو عليّ الفارسي . فقال : القصص هاهنا بمعنى القول ، وقد جاء الفصل في القول . قال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ الطارق : 13 ] . وقال : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] وقال : { نُفَصِّلُ الْآياتِ } [ الأعراف : 32 ] . انتهى .
قال الشهاب : معنى ( يقصه ) أي : يبيّنه بياناً شافياً ، وهو عين القضاء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } [ 58 ]
{ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } أي : لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه ، بأن يكون أمره مفوضاً إليّ من قبله تعالى ، لقضي الأمر بيني وبينكم ، بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم .
وفي " العناية " : قضي الأمر بمعنى قطع . وقضاؤه كناية عن إهلاكهم .
قال أبو السعود : وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيين الفاعل ، الذي هو الله تعالى ، وتهويل الأمر ، مراعاة حسن الأدب - ما لا يخفى . فما قيل في تفسيره : لأهلكتكم عاجلاً ، غضباً لربي ، واقتصاصاً من تكذيبكم به ، ولتخلصت سريعاً - بمعزل من توفية المقام حقه .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الامتناعية ، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم ، المستتبع لانتفاء قضاء الأمر ، وتعليل له . والمعنى : والله تعالى أعلم بحال الظالمين ، وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج ، لتشديد العذاب ، ولذلك لم يفوض الأمر إليّ ، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب . انتهى .
تنبيه :
قال ابن كثير : فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : < لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني . فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال فناداني ملك الجبال ، وسلّم عليّ ، ثم قال يا محمد ! إن الله قد سمع قول قومك لك . وأنا ملك الجبال . وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك . فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبْين ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً > .
وهذا لفظ مسلم . فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم ، وسأل لهم التأخير ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً .
فالجواب : - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه ، حال طلبهم له ، لأوقعه بهم . وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه ، إن شاء أطبق عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة ، يكتنفانها جنوباً وشمالاً ، فلهذا استأني بهم وسأل الرفق لهم . انتهى .
ثم بيّن تعالى اختصاص المقدورات الغيبية به ، من حيث العلم ، إثر بيان اختصاص جميعها به تعالى من حيث القدرة ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 59 ]
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } جمع ( مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ) وقُرئ : { مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } شبه بالأمور الجليلة التي يستوثق منها بالأقفال ، وأثبت لها المفاتح تخييلاً .
وقوله تعالى : { لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } تأكيد لمضمون ما قبله ، وإيذان بأن المراد الاختصاص من حيث العلم . والمعنى : ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي ، حتى ألزمكم بتعجيله ، ولا معلوماً لديّ لأخبركم بوقت نزوله ، بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلماً ، فينزله حسبما تقتضيه مشيئته ، المبنية على الحكم والمصالح -أفاده أبو السعود - .
ثمّ لما بين تعالى علمه بالمغيبات ، تَأثَّرَهُ بالمشاهدات ، على اختلاف أنواعها ، وتكثر أفرادها بقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } من الخلق والعجائب . ثم بالغ في إحاطة علمه بالجزئيات الفائتة للحصر بقوله سبحانه : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي : مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي .
تنبيهات :
الأول -قال الحاكم : دل قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئاً من الغيب . انتهى .
وفي " فتح البيان " : في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرملّيِين وغيرهم من مدّعي الكشف والإلهام ، ما ليس من شأنهم ، ولا يدخل تحت قدرتهم ، ولا يحيط به عملهم . ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة , الأنواع المخذولة , ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : < من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد > .
قال ابن مسعود : أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب .
قال ابن عباس : إنها الأقدار والأرزاق .
وقال الضحاك : خزائن الأرض , وعلم نزول العذاب .
وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب .
وقيل : هو انقضاء الآجال , وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم . واللفظ أوسع من ذلك . وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى . لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله , ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله . ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً . ولا تدري نفس بأي أرض تموت . ولا يدري أحد متى يجيء المطر > - أخرجه البخاري - وله ألفاظ . وفي رواية : < ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله > . انتهى .
الثاني -قُرئ ( ولا حبةٌ ولا رطبٌ ولا يابسٌ ) بالرفع ، وفيه وجهان : أن يكون عطفاً على محل ( من ورقة ) وأن يكون رفعاً على الابتداء ، وخبره : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار - كذا في " الكشاف " - .
الثالث -ما أسلفناه في " الكتاب المبين " من أنه ( اللوح المحفوظ ) هو المتبادر من إطلاقه أينما ورد . وقيل : الكتاب المبين علم الله تعالى . والأظهر الأول .
قال الزجاج : يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق ، كما قال عز وجل : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [ الحديد : 22 ] . وفائدة هذا الكتاب أمور :
أحدها - أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء . فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ ، لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم ، فيجدونه موافقاً له .
وثانيها - يجوز أن يقال : إنه تعالى ذكر ما ذكر ، من الورقة والحبة ، تنبيهاً للمكلفين على أمر الحساب ، وإعلاماً بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء ، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف ، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى .
وثالثها - أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم ، وإلا لزام الجهل ، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام ، امتنع أيضاً تغييرها ، وإلا لزم الكذب ، فتصير كِتْبَةُ جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجباً تامّاً ، وسبباً كاملاً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر ، وتأخر ما تقدم ، كما قال صلوات الله عليه : < جف القلب بما هو كائن إلى يوم القيامة > . انتهى .
الرابع - روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر ، إلا مَلَك موكل بها ، يكتب ما يسقط منها .
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن الحارث قال : ما في الأرض من شجرة ، ولا كمغرز إبرة ، إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها . يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا ركبت . وكذا رواه ابن جرير .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خلق الله النون وهي الدواة ، وخلق الألواح ، فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي ، ما كان من خلق مخلوق ، أو رزق حلالٍ أو حرام ، أو عمل بر أو فجور ، وقرأ هذه الآية : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } إلى آخر الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 60 ]
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } أي : يُنيمكم فيه . استُعير ( التوفي ) من الموت للنوم ، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز ، فإن أصله قبض الشيء بتمامه .
{ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أي : فيه : وتخصيص الليل بالنوم ، والنهار بالكسب ، جرياً على المعتاد { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ } أي : يوقظكم . أطلق البعث ترشيحاً للتوفي : { فِيهِ } أي : في النهار : { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً } أي : ليتم مقدار حياة كل أحد .
{ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي : رجوعكم بالبعث بعد الموت { ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في ليلكم ونهاركم ، بالمجازاة عليه ، مبالغة في عدله .
تنبيهان :
الأول -ظاهر الخطاب في الآية على العموم . وخصه في " الكشاف " بالكفرة ، ذهاباً إلى أن قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ } يدل على تهديد شديد ، لا يليق إلا بالمعاندين الجاحدين ، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل ، كما أن قوله : { مَا جَرَحْتُم } بيان حالهم المذمومة في النهار . وحمل ( البعث ) لا على الإيقاظ ، بل على البعث من القبور . وفي ( فيه ) بمعنى ( من أجله ) كقولك : فيم دعوتني ؟ فتقول : في أمر كذا ، والمعنى : أنكم ملقَوْنَ كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار . وأنه تعالى مطلع على أعمالكم ، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم ، من النوم بالليل ، وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى ، وجزائهم على أعمالهم . والذي حمله على ذلك . زعمه أن قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } دالّ على حال اليقظة ، وكسبهم فيها . وكلمة : { ثُمَّ } تقضي تأخير البعث عنها .
قال شراحه : ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وأنه لا حاجة إليه ، لأن قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل ، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي ، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي . وإن قولنا ( يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة ) كلام منتظم غاية الانتظام .
الثاني -قال الشريف المرتضى في " الدرر والغُرر " فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو : { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } و [ في المطبوع : إليه تُرْجَعُ الامُورُ ] : كيف ترجع إليه ، وهي لم تخرج من يده ؟ وأجاب : بأنه في دار التكليف قد يغير البعض ، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره . فإذا انكشف الغطاء ، انقطعت حبال الآمال عن غيره ، فيرجع إليه . أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقيّ . فـ ( رجع ) بمعنى ( صار ) . تقول العرب : رجع عليّ من فلان مكروه ، بمعنى صار ، ولم يكن سبق . فهو بمعنى المصير إليه ، كما تشهد به اللغة . أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهرا كالعبد لسيده ، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة ، زال ذلك ، ورجع الأمر كله إلى الله ، ظاهراً وباطناً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ 61 ]
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } قد مرّ تفسيره ، وأنه المتصرف في أمورهم لا غيره ، يفعل بهم ما يشاء . . : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } أي : ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها ، وهم الْكرَامَ الكَاتِبُونَ ، كقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } [ الانفطار : 10 ] وقوله : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } [ ق : 17 ] الآية .
لطيفة :
الحكمة في ذلك أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه ، وتعرض على رؤوس الأشهاد ، كان أزجر عن المعاصي . وأن العبد إذا وثق بلطف سيده ، واعتمد على عفوه وستره ، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه - أفاده القاضي .
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : أسبابه ومباديه : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي : ملائكة موكلون بذلك { وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } أي : بالتواني والتأخير . وقال ابن كثير : أي : في حفظ روح المتوفى ، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل ، إن كان من الأبرار ففي علِّيين ، وإن كان من الفجار في سجِّين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [ 62 ]
{ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } أي : الذي يتولى أمورهم . و ( الْحَقِّ ) : العدل الذي لا يحكم إلا بالحق . قال ابن كثير الضمير للملائكة . أو للخلائق المدلول عليهم بـ ( أحد ) . والإفراد أولاً ، والجمع آخراً لوقوع التوفي على الانفراد ، والرد على الاجتماع . أي : ردوا بعد البعث ، فيحكم فيهم بعدله ، كما قال : { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الواقعة : 49 - 50 ] . وقال : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] . إلى قوله : { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } ولهذا قال : { مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } .
{ أَلا لَهُ الْحُكْمُ } يومئذ لا حكم فيه لغيره { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } يحاسب الخلائق في أسرع زمان .
فوائد :
الأولى - قال ابن كثير : ونذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرَجَل الصالحَ ، قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة ، كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ، ورب غير غضبان . فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج . ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقال : من هذا ؟ فيقال فلان . فيقولون مرحباً بالنفس الطيبة ، كانت في الجيد الطيب ، ادخلي حميدة ، وابشري بروح وريحان ، ورب غير غضبان ، فلا زال يقال لها حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل . وإذا كان الرَجل السوءَ ، قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة ، كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة ، وابشري بحميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج . فلا يزال حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقال : من هذا ؟ فيقال فلان ! فيقال : لا مرحباً بالنفس الخبيثة ، كانت في الجسد الخبيث . ارجعي ذميمة ، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء ، فترسل من السماء ، ثم تصير إلى القبر . فيجلس الرجل الصالح ، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ، ويجلس الرجل السوء > . فيقال له ما قيل في الحديث الأول . قال الحافظ ابن كثير : هذا حديث غريب .
الثانية - قال بعض أهل الكلام : إن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقيض عند النوم ، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم . فإما الروح التي تحيا بها النفس ، فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل . والمراد بالأرواح ، المعاني والقوى التي تقوم بالحواس ، ويكون بها السمع والبصر ، والأخذ والمشيء والشم ، ومعنى : { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي : يوقظكم ، ويرد إليكم أرواح الحواس ، فيستدل به على منكري البعث ، لأنه بالنوم يُذهب أرواح هذه الحواس ، ثم يردها إليها . فكذا يحيى الأنفس بعد موتها - نقله النسفي - .
الثالثة - قال الخازن : فإن قلت : قال الله في آية : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] . وقال في آية أخرى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم } [ السجدة : 11 ] . وقال هنا : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } ، فكيف الجمع بين هذه الآيات ؟ .
قلت : وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى . فإذا حضر أجل العبد ، أمر الله ملك الموت بقبض روحه ، ولملك الموت أعوان من الملائكة ، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده . فإذا وصلت إلى الحلقوم ، تولى قبضها ملك الموت نفسه ، فحصل الجمع .
قال مجاهد : جعلت الأرض لملك الموت ، مثل الطشت ، يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم . انتهى .
ثم أمر تعالى أن يبكَّت المشركين بانحطاط شركائهم عما زعموا لها ، بأنهم يخصون الحق تعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ 63 ]
{ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ } أي : شدائده ، كخوف العدوّ ، وضلال الطريق { وَالْبَحْرِ } كخوف الغرق ، والضلال ، وسكون الريح . استعيرت الظلمة للشدة ، لمشاركتهما في الهول ، وإبطال الأبصار ، ودهش العقول . يقال لليوم الشديد : يوم مظلم ، ويوم ذو كواكب . أي : اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل ، وظهرت الكواكب فيه .
{ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً } أي : تذللاً إليه ، تحقيقاً للعبودية { وَخُفْيَةً } بضم الخاء ، وقرئ بكسرها . أي : سراً ، تحقيقاً للإخلاص { لَئِنْ أَنْجَانَا } حال من الفاعل بتقدير القول . أي : قائلين ، وعداً بالشكر ، لئن أنجيتنا : { مِنْ هَذِهِ } أي : الشدة المعبر عنها بالظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : لك ، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [ 64 ]
ثم أمره تعالى بالجواب تنبيهاً على ظهوره وتعينه عندهم ، أو إهانة لهم إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله : { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ } أي : من غير شفاعة أحد ولا عون { ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } أي : ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها ، الموعود فيها بالشكر وعداً وثيقاً بالقسم ، تشركون ، بعبادته والثناء عليه ، غيره . وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة ، إلى شفاعة الشريك ، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر .
تنبيهات :
الأول - ما قدمناه من أن ظلمات : { الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } مجاز عن مخاوفها وأهوالها ، هو ما قاله المحققون .
قال الرازي ومنهم من حمله على حقيقته فقال : أما ظلمات البحر ، فهي أن تجتمع ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة السحاب ، ويضاف الرياح الصعبة ، والأمواج الهائلة إليها ، فلم يعرفوا كيفية الخلاص ، وعَظُمَ الخوف ، وأما ظلمات البر ، فهي ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب . والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد ، لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى . وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً ، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى . وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى . وهو المراد من قوله : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } . فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة ، والخلقة الأصلية في هذه الحالة ، بأنه لا ملجأ إلا الله ، ولا تعويل إلا على فضل الله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات . ولكنه ليس كذلك ، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة . يحيل تلك السلامة إلى الأسباب ، ويقدم على الشرك . ومن المفسرين من يقول : كالمقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان .
ثم قال الرازيّ رحمه الله ، وأنا أقول : التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية ، يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن ، ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي . انتهى .
الثاني -قال بعض المفسرين : دل قوله تعالى : { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } على أن دعاء السرّ أفضل . قيل : وكان جهر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلّم غيره . انتهى .
وهذا بناء على أن قوله تعالى : { تَضَرُّعاً } تذللاً ، لا جهراً . وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهراً وسراً ، ولعله الصواب . فإن العيان يؤيده ، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر ، وأظلم عليه طريق الخلاص ، على الاقتصار على دعاء السر وحده -والله أعلم - .
وفي القاموس وشرحه : تضرع إلى الله تعالى ، أي : ابتهل وتذلل . وقيل : أظهر الضراعة ، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى . ومنه قوله تعالى : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } أي : مظهرين الضراعة ، وحقيقة الخشوع . انتهى .
الثالث - المراد بالكرب ما يعم ما تقدم ، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص ، لكثرة وروده . أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى ، كالأمراض والأسقام ، وما قيل : إن المراد بالأول كرب مخصوص ، أو الأولى نعمة رفع ، وهذه نعمة دفع ، وأنه من قبيل ( متقلداً سيفاً ورمحاً ) - تكلف لا داعي له - كذا في " العناية " - .
الرابع -وضع ( تشركون ) ، موضع ( لا تشركون ) الذين هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله : { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم ، وشكرهم لأنه عبادة ، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه . إذ التوحيد ملاك الأمر ، وأساس العبادة ، فوضعه موضعه توبيخاً لهم ، لعدم الوفاء بالعهد . ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم ، تنبيهاً على استبعاد الشرك في نفسه - كذا في " العناية " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } [ 65 ]
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ } قال المهايمي : أي : قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر : إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد ، لكن لا وجه للأمان منها ، لاستمرار منشأ الخوف ، وهو القدرة الإلهية على أنواع الشدائد من الجهات كلها . إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم ، كإمطار النار أو الحجارة ، أو إسقاط السماء .
{ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } كالخسف والطوفان { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أي : يخلطكم فرقاً خلط اضطراب ، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال ، بأن يقوي أعداءكم : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ } أي : شدة : { بَعْضٍ } يعني : يسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب .
{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ } أي : نحوِّلها من نوع إلى آخر { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ويعتبرون ، فيكفوا عن كفرهم وعنادهم .
تنبيهان :
الأول - روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال . لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أعوذ بوجهك ! : { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : أعوذ بوجهك ! : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : هذا أهون ، أو أيسر > .
قال الحافظ ابن حجر : وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر ، ولفظه : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين . دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض ، وأن لا يلبسهم شيعاً ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض ؛ فرفع الله عنهم الخسف والرجم ، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين > . فيستفاد من هذه الرواية بقوله : { مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } ، ويستأنس له أيضاً بقوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُم } [ الإسراء : 68 ] .
وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية ، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية ، دخل فركع فيه ركعتين ، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ، ثم انصرف إلينا فقال : < سألت ربي ثلاثاً ، فأعطاني ثنتين ، ومنعني واحدة . سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة ، فأعطانيها . وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق ، فأعطانيها . وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها > .
وروى الإمام أحمد من حديث أبي بصرة نحوه ، لكن قال ( بدل خصلة الإهلاك ) . أن لا يجمعهم على ضلالة . وكذا الطبري من مرسل الحسن .
قال الخفاجي : فإن قلت : كيف أجيبت الدعويان ، وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب ؟ أي : كما رواه الترمذي وغيره ؟ قلت : الممنوع خسف مستأصل لهم ، وأما عدم إجابته في بأسهم ، فبذنوب منهم ، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم لهم ، ونصيحته لهم ، لم يعملوا بقوله . انتهى .
وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ } . . الخ . فقال : < أما إنها كائنة ، ولم يأت تأويلها بعدُ > . قال الحافظ ابن حجر : وهذا يحتمل أن لا يخالف حديث جابر ، بأن المراد بتأويلها ما يتعلق بالفتن ونحوها . انتهى . أي : مما ستصدق عليها الآية ، ولما تقع بالمسلمين . فقوله : إنها كائنة ، أي : في المسلمين ، لا أنها خطاب لهم ، ونزولها فيهم -كما وهم -إذ يدفعه السياق والسباق ، وتتمة الآية -كما لا يخفى -وسنزيده بياناً .
الثاني - ما روي عن ابن عباس من أنه كان يقول في قوله تعالى : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } يعني أئمة السوء و : { مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني : خدم السوء . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . فإن صح إنه ، فمراده أن لفظ الآية مما يصدق على ذلك . لأن العذاب كل ما مرّ ( من المرارة ) على النفس ، وشق عليها ، لا أن ذلك هو المراد من الآية . لنبوه عن مقام التهويل ، في شديد الوعيد ، ولخفاء الكناية عن ذلك من جوهر اللفظ ، ولعدم موافقته لنظائر الآية في هذا الباب - كما لا يخفى .
والظاهر أن السلف كانوا يبلون بعض الآيات في بعض المقامات ، إشعاراً بأن معناها يحاكي تلك الواقعات ، لا أنها نزلت في تلك القضيات . ومن ذلك قول أبيّ بن كعب ، قال في هذه الآية : هن أربع خلال ، كلهن واقع ، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين : { يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } : { في المطبوع أُلْبِسُوا شِيَعاً } و ( ذَاقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ، وبقيت اثنتان لا بد منهما الرجم والخسف - رواه الإمام أحمد وغيره - وقد أعلّ هذا الأثر بأن أبيّاً لم يدرك خمس وعشرين من الوفاة النبوية ، وكأن التقييد بذلك من كلام أبي العالية ، رواية عنه . وبالجملة ، فاستشهاد السلف بالآيات في بعض الشؤون ، للإشعار المذكور - مما لا ينكر ، فافهم ذلك ، فإنه ينفعك في مواطن كثيرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } [ 66 ]
قوله تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } أي : بالقرآن المجيد : { وَهُوَ الْحَقُّ } أي : الكتاب الصادق في كل ما نطق به { قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : لم يفوض إليّ أمركم فأمنعكم من التكذيب ، وأجبركم على التصديق . إنما أنا منذر ، وقد بلغت . وبعضهم أرجع الضمير في ( بِهِ ) للعذاب . أي : كذب بالعذاب الموعود ، قومُك المعاندون ، وهو الواقع لا محالة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ 67 ]
{ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ } أي : لكل خبر عظيم وقت استقرار ، لصدقه أو كذبه { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : مستقر هذا النبأ ومآله ، وأن العاقبة له ، كما قال تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 68 ]
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ } أي : بالطعن والاستهزاء { فِي آيَاتِنَا } أي : المنسوبة إلى مقام عظمتنا ، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا . والموصول كناية عن مشركي مكة ، فقد كان ديدنهم ذلك { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : فلا تجالسهم ، وقم عنهم { حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي : حتى يأخذوا في كلام آخر ، غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا .
{ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : إن ينسينّك الشيطان ، فجلست معهم ، فلا تؤاخذ به ، لكن إذا ذكرت النهي ، فلا تقعد معهم ، لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز ، عناداً .
وفي الحديث : < إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه > - رواه الطبرانيّ عن ثوبان مرفوعاً . وإسناده صحيح - وهذه الآية هي المشار إليها في قوله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُم } الآية . لأن في حضور المنكَر مع إمكان التباعد عنه ، مشاركة لصاحبه .
فوائد :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين ، وأهل اللغو ، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف ، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف ، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه . ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات . انتهى .
وقال الرازي : ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته . قال : لأن ذلك خوض في آيات الله ، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية .
والجواب عنه : أن المراد من الخوض في الآية الشروع في الطعن والاستهزاء . فسقط هذا الاستدلال - والله أعلم - .
وقال بعض مفسري الزيدية - ثمرة الآية أحكام :
الأول -وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله ، وأن لا يقعد معهم ، لأن في القعود إظهار عدم الكراهة ، وذلك لأن التكليف عامّ لنا ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يجب الإعراض ، وترك الجلوس معهم ، إذا لم يطمع في قبولهم ، فإذا انقطع طمعه إذاً ، فلا فائدة في دعائهم . ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سبباً في ترك الخوض ، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف ، إذ كان وقوفه يوهم عدم الكراهة .
الحكم الثاني - جواز مجالسة الكفار ، مع عدم الخوض ، لأنه إنما أمرنا بالإعراض مع الخوض . وأيضاً فقد قال تعالى : { حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } . قال الحاكم : والآية تدل أيضاً على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة ، إذا أظهروا المنكرات ، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض ، كما يباح للتذكير . وفي الآية أيضاً دلالة على وجوب الإنكار ، لأن الإعراض إنكار . قال : وتدل على أن التقية من الأنبياء والأئمة بإظهارهم المنكر لا تجوز ، خلاف الإمامية ، وتدل على جواز النسيان على الأنبياء .
الحكم الثالث - أن الناسي مرفوع عنه الحرَج ، فإن قيل : النسيان فعل الله ، فِلمَ أضيف إلى الشيطان ؟ أجيب : بأن السبب من الشيطان ، وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر ، فأضيف إليك لذلك . كما أن من ألقى غيره في النار فمات ، يقال ، إنه القاتل ، وإن كان الإحراق فعل الله ، واختلف في النسيان ما هو ؟ فقال الحاكم : هو معنى يحدثه الله في القلب . وقال أبو هاشم وأصحابه : ليس بمعنى ، وإنما هو زوال العلم الضروريّ الذي جرت العادة بحصوله . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 69 ]
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء عما يحاسبون عليه من حوضهم { وَلَكِنْ ذِكْرَى } أي : ولكن أمروا بالإعراض عنهم ، ليكون ذكرى لضعفاء المسلمين ، لئلا يقع شيء من مطاعن المستهزئين في قلوبهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يبلغ مبلغ التوقي من شبهاتهم ، بالجلوس مع علمائه بدلهم .
تنبيهان :
الأول - ما ذكرناه في معنى الآية ، هو ما قرره المهايميّ رحمه الله تعالى . وقيل : المعنى : ولكن على المتقين أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون ، بالقيام عنهم ، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم ، لعلهم يتقون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم ، فلا يعودون إليه ، وجوزوا أن يكون الضمير : { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ، أي : يذكرونهم رجاء أن يثبتوا على تقواهم ، أو يزدادوها . انتهى .
وما ذكرناه أسدّ وأوجه .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، قال في الآية : أي : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك . أي : إذا تجنبتهم ، وأعرضت عنهم . وعليه فالموصول كناية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . التفت به تعظيماً وتكريماً .
الثاني - قال السيوطي في " الإكليل " : قد يستدل بقوله تعالى : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ } . . الخ على أن من جالس أهل المنكر ، وهو غير راض بفعلهم ، فلا إثم عليه . لكن آية النساء تدل على أنه آثم ، ما لم يفارقهم ، لأنه قال : { إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُم } [ النساء : 140 ] . أي : إن قعدتم فأنتم مثلهم في الإثم ، وهي متأخرة . فيحتمل أن تكون ناسخة لهذه كما ذهب إليه قوم منهم السدّي . أقول : المنفيّ في الآية هو لحوق شيء من وبال الخائضين ، وإثم كفرهم لمجالسيهم المتقين ، فلا ينافي ذلك لحوق وبال المجالسة على انفرادها ، وهو ما أفادته آية النساء . فالمثلية إذن في مطلق الإثم ، وإن تباين ( ما صدقه ) فيهما ، إذ لا قائل بأن مطلق مجالستهم ردة وكفر . نهم ! لو قيل بأن المثلية محمولة على ما إذا حصل الرضا بشأن مجالستهم ، فلا إشكال إذن . وبالجملة فاستدلال " الإكليل " واهٍ ، ولذا عبر بـ ( قد ) ، ودعوى النسخ أوهى . فتأمل !

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ 70 ]
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ } أي : الذي كلفوه ودعوا إليه ، وهو دين الإسلام { لَعِباً وَلَهْواً } حيث يخروا به واستهزؤوا : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } حيث اطمأنوا بها ، وزعموا أن لا حياة بعدها أبداً ، وأن السعادة في لذاتها . أي : أعرض عنهم ، ودعوهم ، ولا تبال بتكذيبهم ، وأمهلهم قليلاً ، فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم { وَذَكِّرْ بِهِ } أي : ذكر الناس بهذا القرآن : { أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي : مخافة أن تسلم إلى الهلاك ، وترتهن بسوء كسبها . وغرورها بإنكار الآخرة . يقال : أبسله لكذا : عرضه ورهنه ، أو أسلمه للهلكة { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ } ينصرها بالقوة : { وَلا شَفِيعٌ } يدفع عنها بالمسألة .
{ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : وإن تفد كل نوع من أنواع الفداء ، بما يقابل العذاب ، لا يقبل منها ، لبعدهم عن مقام الفداء . والعدل : الفدية ، لأن الفادي يعدل المفدى بمثله .
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً : { الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أي : سلموا للهلاك ، بحيث لا يعارضه شيء { بِمَا كَسَبُوا } بهذا الاغترار من إنكار الآخرة معها ، والانهماك في الشهوات المحرمة { لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي : ما ء مغليّ يتجرجر في بطونهم ، وتقطع به أمعاؤهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بنار تشتعل بأبدانهم { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 71 ]
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا } أي : أنعبد من دونه ما لا يقدر على نفعنا ، إن دعوناه ، ولا ضرنا إن تركناه { وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } عطف على ( ندعو ) ، داخل في حكم الإنكار والنفي . أي : ونرد إلى الشرك . والتعبير عنه بالرد على الأعقاب - لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو عَلَمٌ في القبح ، مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر - أفاده أبو السعود - .
{ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } أي : للإسلام والتوحيد ، وأنقذنا من عبادة الأصنام ، فنصير كالمستمر على الضلال ، بل : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ } أي : استمالته عن الطريق الواضح مردة الجن { فِي الْأَرْضِ } القفر المهلكة { حَيْرَانَ } أي : تائهاً ضالاً عن الجادّة ، لا يدري كيف يصنع { لَهُ } أي : لهذا المستهوى : { أَصْحَابٌ } أي : رفقة : { يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } أي : إلى الطريق المستقيم { ائْتِنَا } على إرادة القول ، أي : يقولون ائتنا . أي : وهو قد اعتسف المهمة ، تابعاً للشياطين ، لا يجيبهم ولا يأتيهم . فشبه حال من خلص من الشرك ، ثم عاد له ، بحال من ذهب به المردة في مهمه بعد ما كان على الجادة ، ولا يدري مقصده الذي هو سائر إليه ، مع وجود رفقة تناديه لتهديه ، وهو لا يسمع لهم { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ } أي : الذي أرسل به رسله { هُوَ الْهُدَى } أي : وما وراءه ضلال وغيّ { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 72 ]
{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ } أي : في مخالفة أمره { وَأَنْ أَقِيمُوا } عطف على : { لِنُسْلِمَ } . ومعناه : أن نسلم . فاللام فيه رديفه : { أَنْ } ، أو عطف عليه ؛ واللام تعليلية ، أي : للإسلام ، ولإقامة الصلاة . وفي ورود : { أَقِيمُوا الصَّلاةَ } محكياً بصيغته ، وورود : { نسلم } محكياً بمعناه . احتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم حكى قول الله بمعناه ، دون لفظه . انظر " الانتصاف " .
تنبيه :
في تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع ، وعطفها على الأمر بالإسلام ، وقرنها بالأمر بالتقوى - دليل على تفخيم أمرها ، وعظيم شأنها - ذكره بعض الزيدية - : { وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ 73 ]
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة ، كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] .
وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ } بيان لقدرته تعالى على حشرهم ، بكون مراده لا يتخلف عن أمره ، وأن قوله هو النافذ والواقع ، والمراد بـ ( القول ) كلمة ( كن ) تحقيقاً أو تمثيلاً . فـ ( قوله الحق ) متبدأ وخبر . و ( يوم ) ظرف لمضمون هذه الجملة . كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
وكأن قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ } الخ عقب قوله : { وهو الذي إليه تحشرون } سيق للاحتجاج على قدرته تعالى على البعث ، ردّاً على منكري ذلك من المشركين ، الذين السياق فيهم . وما أشبه الآية بقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [ يس : 81 - 82 ] .
ولا يخفى أن باستحضار النظائر القرآنية ، تنجلي الحقائق . وقد توسع المفسرون هنا في إعراب هذه الجملة ، بسرد وجوهٍ ضاع الظاهر بينها - وقد علمتَه ، فاحرص عليه - .
{ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } أي : فلا بد أن يفعل بالمطيع والعاصي فعل الملوك ، لمن يطيعهم أو يعصيهم . فـ ( يوم ) ظرف لقوله : { وَلَهُ الْمُلْكُ } -قاله أبو السعود - وتقييد اختصاص الملك به تعالى ، بذلك اليوم ، مع اليوم ، مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات ، لغاية ظهور ذلك . بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا ، المصححة للمالكية المجازية في الجملة ، كقوله تعالى : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 26 ] .
وقد زعم بعضهم أن المراد بـ ( الصور ) هنا جمع صورة ، أي : يوم ينفخ فيها ، فتحيى . قال ابن كثير : والصحيح أن المراد بـ ( الصور ) القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ، وهكذا قال ابن جرير : الصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن إسرافيل قد التقم الصور ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ > .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو قال : إن أعرابياً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصور ؟ فقال : < قرن ينفخ فيه > . ورواه داود والترمذيّ والحاكم ، عنه أيضاً .
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : هو عالمهما { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } ذو الحكمة في سائر أفعاله . والعلم بالأمور الجلّية والخفية .
ثم أمر تعالى بنيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر لمن اتخذ دينه هزواً ولعباً إنكار إبراهيم عليه الصلاة والسلام -الذي يزعمون أنهم على دينه ، ويفتخرون به - على أبيه في شركه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 74 ]
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً } أي : صوراً مصنوعة { آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : باعتقاد إلهيتها ، أو اتصافها بصفاته ، أو استحقاقها للعبادة ، لأن الإلهية بوجوب الوجود بالذات ، وهي ممكنة مصنوعة وأنى لها الاتصاف بصفاته ، وهي عاجزة عن النفع والضر ، خالية عن الحياة والسمع والبصر ، والعبادة غاية التذلل ، غلا يستحقها من لا يخلو عن هذه الوجوه من الذلة ، وإنما يستحقها من كان في غاية العلوّ -أفاده المهايمي - .
تنبيهات :
الأول -قرئ : { آزَرَ } بالنصب ، عطف بيان ، لقوله : { لِأَبِيهِ } وبالضم على النداء .
الثاني - الآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافراً ، وأن آزر عم إبراهيم ، لا أبوه ، على ما بسطه الرازيّ هنا ، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ومثله لا يجزم به من غير نقل .
الثالث - قال بعض مفسري الزيدية : في الآية دلالة على بطلان قول الإمامية : إن الإمام لا يجوز أن يكون أبوه كافراً ، لأنه إذا جاز نبيّ ، أبوه وزوجته كافران ، فالإمام أولى .
اشتمل كلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذكر الحجة العقلية إجمالاً على فساد قول عَبْدة الأصنام ، بإنكاره اتخاذها آلهة ، وهي ما هي في عجزها . وقد جاءت مفصلة في سورة مريم في قوله : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } [ مريم : 41 - 46 ] الآيات .
قال ابن كثير : ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة . فيقول إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب ! إنك وعدتني يوم أن لا تخزني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقال : يا إبراهيم ! نظر ما تحت رجليك ، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار > .
الرابع - قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين ، لا سيما للأقارب ، فإن من كان أقرب ، فهو أهمّ . ولهذا ولهذا قال تعالى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] . وقال تعالى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] . قال صلى الله عليه وسلم : < ابدأ بنفسك ثم بمن تعول > . ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بعليّ وخديجة وزيد ، وكانوا معه في الدار ، فآمنوا وسبقوا ، ثم بسائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالي . وبدأ إبراهيم بأبيه ، ثم بقومه . وتدل هذه الآية على أن النصيحة في الدين والذم والتوبيخ لأجله ، ليس من العقوق ، كالهجرة - هكذا في التهذيب . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [ 75 ]
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : نطلعه على حقائقهما ، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل ، من حيث إنهما بما فيهما ، مربوبان ومملوكان ، له تعالى . و ( الملكوت ) مصدر على زنة المبالغة ، كالرَّهبوت والجَبَروت ، ومعناه : الملك العظيم ، والسلطان القاهر . وقيل : ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما . وقد أسلفنا الكلام في ( وكذلك ) قريباً عند قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا } [ الأنعام : 53 ] . وأن مختار الزمخشري كونه إشارة إلى مصدر ما بعده ، والكاف مقحمة ، والتقدير : تلك الإراءة والتبصير البديع ، نريه ونبصره . فجدّدْ به عهداً .
{ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } عطف على علة محذوفة لم تقصد بعينها ، إشعاراً بأن لتلك الإراءة فوائد جمة ، من جملتها ما ذكر .
قال المهايميّ في الآية : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ليعلم أن شيئاً من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة . وقيل : { وَلِيَكُونَ } علة لمقدر هو عبارة عن المذكور . أي : وليكون من الموقنين بالتوحيد ، فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض .
لطائف :
الأولى -قال الرازي : وههنا دقيقة عقلية ، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة ، والأرواح البشرية ، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب ، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى . فإذا كان الأمر كذلك . فبقدر ما يزول ذلك الحجاب ، يحصل هذا التجليّ . فقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى ، لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى ، فلما زال ذلك الحجاب ، لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام . فقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ } معناه : وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نورٌ تجلى جلال الله تعالى ، فكان قوله : { وَكَذَلِكَ } منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية .
الثانية - قال الرازي : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل . ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقيناً ، لأن علمه غير مسبوق بالشبهة ، وغير مستفاد من الفكر والتأمل . واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به ، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت ، صارت سبباً لحصول اليقين . وذلك لوجوه :
الأول - أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة ، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم .
الثاني - أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة . فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد ، جارٍ مجرى تكرار الدرس الواحد . فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب ، فكذا ههنا .
الثالث - أن القلب عند الاستدلال كان مظلماً جدّاً ، فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول ، امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب ، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة ، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى ، فيصير الإشراق واللمعان أتم . وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر ، وهو الصبح ، فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح . ثم ، كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس ، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام ، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر ، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى . إلا أن الفرق بين شمس العلم ، وشمس العالمَ ، أن شمس العالم الجسمانيّ لها في الارتقاء والتصاعد حدّ معين ، لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود . وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد ، فلا نهاية لتصاعدها ، ولا غاية لازديادها . فقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات . وقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } إشارة إلى درجات أنوار التجلي ، وشروق شمس المعرفة والتوحيد . انتهى .
الثالثة - ذكر تعالى الإراءة في هذه الآية مجملة ، ثم فصلها بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } [ 76 ]
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي } قال المهايميّ : لما رأى - يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام -الملكوت ، وأيقن أن شيئاً منها لا يصلح للإلهية ، أراد الرد على قومه في اعتقاد إلهيتها لخستها ، باعتبار افتقارها في أفعالها إلى أجسام لها دناءة الأفول ، وإن كانت علوية ، وكذا في اعتقاد إلهية تلك الأجسام . كما رد عليهم في اعتقاد إلهية الأصنام ، فَلِتَظْهَر ظهور الكواكب التي كانوا يعبدونها . انتهى .
وبالجملة ، فالآية بيان كليفية استدلاله عليه الصلاة والسلام ، ووصوله إلى رتبة الإيقان . ومعنى : { جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } ستره بظلامه . و ( الكوكب ) قيل : الزهرة ، وقيل المشتري .
أقول : ( الكوكب ) لغة : النجم . قال الزبيدي في " شرح القاموس " : وكونه علماً بالغلبة على الزهرة غير معتدّ به ، وإنما هي الكوكبه بالهاء . انتهى .
قال الزمخشريّ : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً ، لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها ، وصانعاً صنعها ، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها . وقول إبراهيم لقومه : { هَذَا رَبِّي } إرخاء للعنان معهم بإظهار موفقته لهم أولاً ، ثم إبطال قولهم بالاستدلال ، لأنه أقرب لرجوع الخصم . قال الزمخشري : قول إبراهيم ذلك . هو قول من ينصف خصمه ، مع علمه بأنه مبطل . يحكي قولهُ كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق ، وأنجى من الشغب . ثم يكرّ عليه بعد حكايته ، فيبطله بالحجة .
{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي : غاب : { قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } أي : لا أحب عبادة من كان كذلك ، فإن الأفول دناءة تنافي الإلهية ، بل تمنع من الميل إلى صاحبها ، فضلاً عن اتخاذه إلهاً أو معبوداً ، فضلاً عما يفتقر إليه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } [ 77 ]
{ فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً } أي : طالعاً منتشر الضوء : { قَالَ هَذَا رَبِّي } على الأسلوب المتقدم : { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } فإن ما رأيته لا يليق بالإلهية لدناءته بمحوه .
قال الزمخشري : وفيه تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً ، وهو نظير الكواكب في الأفول ، فهو ضال . وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى ولطفه .
وفي " الانتصاف " : التعريض بضلالهم ثانياً أصرح وأقوى من قوله أولاً : { لـ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } وإنما ترقى إلى ذلك ، لأن الخصوم قد أقامت عليه ، بالاستدلال الأول ، حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ، ولا يصغون إلى الاستدلال . فما عرّض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة ، إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود ، واستماعهم إلى آخره . والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم ، والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة ، وتبلج الحق ، وبلغ من الظهور غاية المقصود . كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ 78 ]
{ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي } على نحو ما تقدم ، وتذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر ، أو لأنه أراد : هذا الطالع ، أو الذي أراه ، أو لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ، ليستدرجهم . إذ لو حقر بوجه ما كان سبباً لعدم إصغائهم - وعلى الأخير اقتصر المهايميّ - فقال : لم يؤنثه لئلا يعارض عظمته نقص الأنوثة ، ولو غير حقيقة ، وهي وإن كانت في الواقع لم يأت بها لفظاً ، لأنه قصد بذلك مساعدة الخصم أولاً .
وقوله تعالى : { هَذَا أَكْبَرُ } أي : أكبر الكواكب جرماً ، وأعظمها قوة ، فهو أولى بالإلهية . وفيه تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة ، مع إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى ، ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر .
{ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ } صادعاً بالحق : { يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } أي : من الأجرام المحدثة المتغيرة من حالة إلى أخرى ، أو من إشراككم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 79 ]
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } أي : وجهت قلبي وروحي في المحبة والعبادة ، بل جعلته مسلماً : { لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الأديان الباطلة ، والعقائد الزائغة { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
وفي هذا المقام :
مباحث :
الأول - توسع المفسرون هنا في قوله : { هَذَا رَبِّي } .
فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر ، وأنه لما قال ذلك ، قال إبراهيم : { لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } .
وقيل : إنه إبراهيم . وكان ذلك في حال الطفولية ، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } . . . الخ .
وقيل : بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة . إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاريّ ، توبيخاً لقومه ، فحذف الهمزة ، ومثله كثير .
وقيل : على إضمار القول أي : يقولون هذا ربي ، وإضمار القول كثير .
وقيل : المعنى في زعمكم واعتقادكم . وقيل : الإخبار على سبيل الاستهزاء . . . إلى أقوال أخر .
والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة ، واعتقاد ربوبية ذلك ، لمنافاته للعصمة .
وأقول : هذا مسلم بلا ريب ، ولكنّ الأوجَه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله : { هَذَا رَبِّي } من باب استعمال النصفة مع الخصوم ، على سبيل الوضع ، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها ، لكونها مسلمة عند غيره ، لأجل إلزامه بها . وهو مصطلح أهل الجدل . وقد اقتصر الزمخشريّ على هذا الوجه الفريد .
قال الناصر في " الانتصاف " : وذلك متعين . وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فيلتمسون منه الشفاعة ، فيقول : نفسي ! نفسي ! ويذكر كذباته الثلاث ، ويقول لست لها ، يريد قوله لسارة هي أختي ، وإنما عنى : في الإسلام ، وقوله إنه سقيم ، وإنما عنى همّه بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك - وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض . فإذا عدّ صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات ، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها ، دلّ ذلك على أنه أعظم ما صدر منه . فلو كان الأمر على ما يقال ، من أن هذا الكلام محكيّ عنه على أنه نظره لنفسه ، لكان أولى أن يعده ، وأعظم ، مما ذكرناه . لأنه حينئذ يكون شكاً ، بل جزماً . على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك ، انتهى .
وقال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنهم مقام نظر . واختاره ابن جرير مستدلاً عليه بقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } الآية . وقال محمد بن إسحاق قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ . فلما حملت أم إبراهيم به ، وحان وضعها ، ذهبت إلى سربٍ ، ظاهر البلدة ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك . وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين . ثم قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه ، مبيّناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين ، في المقام الأول مع أبيه ، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا له إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وبيّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة . وأشدُّهن إضاءة وأشرفهن عندهم ، الشمس ثم القمر ثم الزهرة . فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه ، ولا تملك لنفسها تصرفاً ، بل هي جرم من الأجرام ، خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب ، حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال . وهذه لا تصلح للإلهية . ثم بين في القمر ما بين في النجم ، ثم الشمس كذلك . فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن ، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن .
ثم قال ابن كثير : وكيف يجوز أن يكون ناظراً في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 51 - 52 ] . وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 120 - 121 ] .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < كل مولود يولد على الفطرة > .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < قال الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء > . وقال تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [ الأعراف : 172 ] . ومعناه ، على أحد القولين ، كقوله : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله : { أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ناظراً في هذا المقام ؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا شك ولا ريب .
ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك ، لا ناظراً ، قوله تعالى : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } الآية الآتية . انتهى .
وممن جوّد هذا المبحث الجليل ، وبيّن أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظراً لقومه ، العلامة الشهرستانيُّ في كتابه " الملل والنحل " ، ونحن نسوقه عنه تأييداً لهذا البحث المهم ، وتعرّفاً بمعتقد قومه ، وما دفعهم إليه ، لما فيه من الفوائد .
قال رحمه الله تحت ترجمة " أصحاب الهياكل والأشخاص " : هؤلاء من فرق الصابئة ( وهم المتعصبون الروحانيين ) ، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة ، ونذكرها ههنا تفصيلاً :
اعلم أن أصحاب الروحانيات ، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط ، ولا بد للمتوسط من أن يُرى فيتوجه إليه للتقرب به ، ويستفاد منه ، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، فتعرفوا أولاً بيوتها ومنازلها ، وثانياً مطالعها ومغاربها ، وثالثاً اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة ، مرتبة على طبائعها ، ورابعاً تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها ، وخامساً تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها ، فعملوا الخواتيم ، وتعلموا العزائم والدعوات ، وعينوا ليوم زحل مثلاً يوم السبت ، وراعوا فيه ساعته الأولى ، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته ، ولبسوا اللباس الخاص به ، وبخروا ببخوره الخاص ، ودعوا بدعواته الخاصة ، وسألوا حاجاتهم منه ، الحاجة التي تستدعى من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به .
وكذاك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته ، وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه . وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب . وكانوا يسمونها : أرباباً آلهة ، والله تعالى هو رب الأرباب ، وإله الآلهة . ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب ، فكانوا يتقربون إلى الهياكل ، تقرباً إلى الروحانيات -يعني الملائكة - ويتقربون إلى الروحانيات ، تقرباً إلى البارئ تعالى ، لاعتقادهم بأن لكل روحاني هيكلاً ، ولكل هيكل فلكاً ، فالهياكل أبدان الروحانيات ، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات ، وهي أربابها ومدبراتها ، تتصرف في أبدانها تدبيراً وتصريفاً وتحريكاً ، كما يتصرف في أبداننا . ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه . ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب . وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور ، كلها من علومهم . وأما أصحاب الأشخاص فقالوا : إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به ، وشفيع يتشفع إليه ، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل ، لكنا إذا لم نرها بالأبصار ، ولم نخاطبها بالألسن ، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها ، ولكن الهياكل قد ترى في وقت ، ولا ترى في وقت ، لأن لها طلوعاً وأفولاً ، وظهوراً بالليل ، وخفاء بالنهار ، فلم يصف لنا التقرب بها ، والتوجه إليها ، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا ، فنعكف عليها ، ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرب بها إلى الروحانيات ، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى ، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، فاتخذوا أصناماً أشخاصاً على مثال الهياكل السبعة ، كل شخص في مقابلة هيكل ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره ، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه ، وراعوا في ذلك الزمانَ والوقتَ والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية ، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه ، فتقربوا إليه في يومه وساعته ، وتبخّروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ، ولبسوا ثيابه ، وتضرعوا بدعائه ، وعزموا بعزائمه ، وسألوا حاجتهم منه ، فيقولون كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها ، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنه أنهم عَبْدة الكواكب والأوثان ، فأصحاب الهياكل هم عَبْدة الكواكب ، إذ قالوا بإلهيتها - كما شرحنا - وأصحاب الأشخاص هم عَبْدة الأوثان ، إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية ، وقالوا : { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه } [ يونس : 18 ] . وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين ، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص ، وذلك قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } . وتلك الحجة أن كسرهم قولاً بقوله : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } . ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم . بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام ، لا من غيره ، كان أكثر الحجج معه ، وأقوى الإلزامات عليه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] . لأنك جهدت كل الجهد ، واستعملت كل العلم ، حتى عملت أصناماً في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعاً وبصراً ، وأن تغني عنك وتضر وتنفع ، وإنك بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها ، لأنك خلقت سميعاً بصيراً ضاراً نافعاً ، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفاً ، والمعمول تصنعاً ، فيا لها من حيرة ، إذ صار المصنوع بيديك معبوداً لك ، والصانع أشرف من المصنوع { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ } : { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } [ مريم 44 - 46 ] . لم يقبل حجته القولية . فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل ، فجعلهم جذاذاً ، إلا كبيراً لهم : { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 59 ] { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 - 65 ] . فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم ، كما أفحمهم بالقول ، حيث أحال الفعل منهم ، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم ، وإلا فما كان الخليل كاذباً قط ، ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه ، قال : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفاً له على الروحانيات وهياكلها ، وترجيحاً لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة ، وتقريراً أن الكمال في الرجال ، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي } على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وإلا فما كان الخليل كاذباً في هذا القول ، ولا مشركاً في تلك الإشارة ، ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال ، بأنه لا يصلح أن يكون ربّاً إلهاً ، فإن الإله القديم لا يتغير ، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير ، وهذا لو اعتقدتموه ربّاً قديماً وإلهاً أزلياً ، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعاً ووسيلة ، فالأفول والزوال أيضاً ، يخرجه عن الكمال . وعن هذا ما استدل عليه بالطلوع ، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول ، فإنهم إنما انتقلوا إلى الأشخاص ، لما عراهم من التحير بالأفول ، فأتاهم الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم ، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته ، وذلك أبلغ في الاحتجاج . ثم : { فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } . فيا عجباً ! من لا يعرف رباً كيف يقول : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ، ونهاية المعرفة ، والواصل إلى الغاية والنهاية ، كيف يكون في مدارج البداية ؟ دع هذا كله خلف قاف ، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف . فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج ، وأوضح المناهج . وعن هذا قال : { فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ } لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك ، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار ، ويقبلون منه الآثار : { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، قرر مذهب الحنفاء ، وأبطل مذهب الصابئة ، وبين أن الفطرة هي الحنيفية ، وأن الطهارة فيها ، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها ، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها ، وأن الفاتحة والخاتمة ، والمبدأ والكمال ، منوطة بتلخيصها وتحريرها . ذلك الدين القيم ، والصراط المستقيم ، والمنهج الواضح ، والمسلك اللائح . انتهى كلام الشهرستاني رحمه الله تعالى . وإنما نقلت كلامه برمته ، لأنه كما قيل :
~وما محاسن شيء كلُّهُ حَسَنُ
وقد قدّم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة ، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء ، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى . فجزاه الله خيراً .
الثاني - تبين مما ذكره الشهرستاني أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ ، مع كون كل منهما منافياً لاستحقاق معروضه للربوبية - هو إتيانهم من حيث تحيرهم ، إلزاماً لهم بما يعترفون بصحته .
وقال أبو السعود : لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة -عدل عنه إلى الأفول ، لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار ، وبطلان الأحكام المنافييْن للاستحقاق المذكور منافاة بينة ، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد . انتهى . وهو لطيف إلا أن الأول أسدّ .
الثالث - لو قيل : إن الأفول ، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة الربوبية على ما ذكرنا ، وقد ثبت ذكر في أكبر الكواكب - ( أعني الشمس ) -فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى - فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار ؟ أجيب : بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى ، إلى الأعلى ، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد ، لا يحصل من غيره ، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى -أفاده الرازي - .
الرابع -قال الرازي : تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيّاً على الدليل ، لا على التقليد ، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } [ 80 ]
قوله تعالى : { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } أي : جادلوه ، وأرادوا مغالبته بالحجة ، فيما ذهب إليه من توحيد الله ، ونفي الشركاء عنه ، تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد ، وأخرى بالتخويف ، وقد أشير إلى جواب كل منهما { قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } أي : أتجادلونني في توحيده ، وقد هداني لإقامة الحجج ، ورفع الشبه على نفي إلهية ما سواه ، وقد ثبت أنها ناقصة في ذواتها ، فكمالاتها من غيرها ، ولا إلهية للناقص بالذات ، لأن كماله لا يكون مطلقاً ، و ( تحاجوني ) بإدغام نون الجمع في نون الوقاية ، وقرئ بحذف الأولى .
وقوله تعالى : { وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } أي : لا أخاف معبوداتكم ، لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع ، وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم ، كما قال لهود عليه السلام قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [ هود : 54 ] . وتخويفهم ، وإن لم يسبق له ذكر فهم من قوله : { وَلاَ أَخَافُ } .
وقال ابن كثير : أي : ومن الدليل على بطلان قولكم ؛ إن هذه المعبودات لا تؤثر شيئاً ، وأنا لا أخافها ولا أباليها ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تُنظرون . انتهى .
{ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً } أي : من إصابة مكروه بي من جهتها ، وذلك إنما هو من جهته تعالى ، من غير دخل لمعبوداتكم فيه أصلاً .
وفي " الانتصاف " : غاية خوف إبراهيم منها . المعلق على مشيئة الله تعالى لذلك ، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى ، لا بها ، وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله ، لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته ، وهو كالخوف منها - والله أعلم - .
وقوله تعالى : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } كأنه علة الاستثناء ، أي : أحاط بكل شيء علماً . فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها ، أي : كرجمه بالنجوم لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله ، أشعر بجواز وقوعه . وفي الإظهار في موضع الإضمار ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى ، واستسلام لأمره ، واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته .
هذا وجعل المهايمي ذلك علة لاستدراك محذوف ، لعلمه من المقام ، حيث قال في الآية : ولا أخاف الضرر على نفسي من تأثير ما تشركون به ، إلا أن يشاء ربي أن يجعل لهم شيئاً من التأثير ، لكنه لا يشاء في شأني لأنه : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فعلم أنه لو أوجد التأثير فيهم بما يضرون به من بعثه لتوحيده ، صار محجوباً انتهى -والأول أقرب - .
{ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } أي : تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات ، لا تضر ولا تنفع ، وأن النافع الضار هو الذي خلق السماوات والأرض .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 81 ]
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } أي : معبوداتكم ، وهي مأمونة الخوف { وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } ، أي : بإشراكه : { عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } أي : حجة . إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة . والمعنى : وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ } أي : فريقي الموحدين والمشركين { أَحَقُّ بِالْأَمْنِ } أي : من لحوق الضرر { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : ما يحق أن يخاف منه . أو من أحق بالأمن أو مِنَْ أولي العلم ؟ وجواب الشرط محذوف . أي : فأخبروني .
ثم بيّن تعالى من له الأمن ، جواباً عما استفهم عنه الخليل عليه السلام بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [ 82 ]
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } أي : بشرك ، كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل ، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانكم وأحكامه ، لكونها لأجل التقريب والشفاعة ، كما قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] . وهذا معنى اللبس - أفاده أبو السعود - وسيأتي زيادة لذلك .
{ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ } يوم القيامة : { وَهُمْ مُهْتَدُونَ } أي : إلى الحق ، ومن عداهم في ضلال .
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله قال : لما نزلت : { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } قال أصحابه : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . -هذا لفظ رواية البخاري - .
ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } شقّ ذلك على الناس ، فقالوا : يا رسول الله ! فإينا لا يظلم نفسه ؟ قال : < إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ؟ إنما هو الشرك > .
أقول : هذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة -أعني : قول ابن مسعود : فنزلت : { إِنَّ الشِّرْكَ } . . الخ - من جهة أن النزول أريد به تفسير الآية ، لا سبب نزولها ، وهو اصطلاح الصحابة والتابعين دقيق ، ينبغي التنبه له . وقد أشرنا له في المقدمة . فجدد به عهداً .
ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً : { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } قال : < بشرك > .
قال : روي عن أبي بكر وعمر وأُبي بن كعب وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدّيّ ، وغير واحد نحو ذلك . نقله ابن كثير . وبالجملة ، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير ( الظلم ) هنا بالشرك ، وقوفاً مع الحديث الصحيح في ذلك ، المبين للنظائر القرآنية الموضِّح بعضها لما أبهم في بعض . وتعرف تلك القاعدة من مثل هذا الحديث يكشف غمة أوهام كثيرة . ولو قيل : لا يلزم من قوله : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } أن غير الشرك لا يكون ظلماً ، يجاب : بأن التنوين في ( بظلم ) للتعظيم ، فكأنه قيل : لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم . ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد : لم يلبسوا إيمانهم بشرك ، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده - كذا في " العناية " - .
قال الرازي : والدليل على أن هذا هو المراد ، أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد ، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات ، فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك .
تنبيه :
حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما تقدم فليُعَضَّ عليه بالنواجذ وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية : أي : لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم بالكفر ، لفظُ ( اللبس ) أي : لأن لبس الإيمان بالشرك أي : خلطه به ، مما لا يتصور ، لأنهما ضدان لا يجتمعان - على زعمه - فمدفوع بأنه يلابسه . لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق ، سواء كان اللسان أو غيره ، فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق . وكذا إن أريد تصديق القلب ، لجواز أن يصدّق بوجود الصانع ، دون وحدانيته ، لما في قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] . وهو ما أشير إليه قبل . ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر ، فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما ، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك ، بل تغطيته بالكفر ، وجعله مغلوباً مضمحلاً ، أو اتصافه بالإيمان ، ثم الكفر ، ثم الإيمان ثم الكفر مراراً ، وبعد تسليم ما ذكر ، فاختصاص الأمن بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة ، بل خائفين ذلك ، متوقعين للاحتمال ، ورجحان جانب الوقوع - كذا في " شرح الكشاف " .
وفي " الانتصاف " : إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده ، في وجوب وعيد العصاة ، وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار . ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين : الإيمان والبراءة من المعاصي . ونحن نسلم ذلك ، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة ، هو الخوف اللاحق للكفار ، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت ، وهم آمنون من الخلود . وأما الكفار فغير آمنين بوجهٍ ما . انتهى . وأما قوله المعتزلة : حديث عبد الله المتقدم - إن صح - يكون خبر واحدٍ ، في مقابلة الدليل القطعي ، ومثله لا يعمل به - فالجواب : بأنه صح بلا ريب ، لتخريج الشيخين له .
~وإذا جاء نهر الله ، بطل نهر معقل
وقولهم : في مقابلة الدليل القطعي ، بهتان عظيم . ويا لله العجب من هؤلاء ، قابلوا السنة الصحيحة بكناسة الرأي ، ولم يستحيوا من الله تعالى ورسوله في هذه المخالفة ، فأين تذهب به عقولهم ؟ إلى الحق أم إلى الباطل ؟ ولكن كما قال ابن سهل :
~فما أضيعَ البرهانَ عند المقلِّدِ
هذا ، وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال : يا رسول الله ! والذي بعثك بالحق ! لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي ، لأهتدي بهداك ، وآخذ من قولك ، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض ، فاعرض عليّ . فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل . فازدحمنا حوله ، فدخل خفّ بَكْرِه في بيت جرذان ، فتردّى الأعرابيّ ، فانكسرت عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < صدق ! والذي بعثني بالحق ! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ، ويأخذ من قولي ، وما بلغني حتى ما لهُ من طعام إلا من خضر الأرض . أسمعتم بالذي علم قليلاً وأُجر كثيراً ؟ هذا منهم ! أسمعتم بـ : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ؟ فإن هذا منهم . وفي لفظ قال : هذا عمل قليلاً وأُجر كثيراً > .
وروى نحو الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله مطولاً ، وفيه بيان قوله : فاعرض عليّ ، ولفظه : ما الإيمان ؟ قال : < تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت > قال : قد أقررت .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ 83 ]
قوله تعالى : { وَتِلْكَ } أي : الدلائل المشار إليها في قوله : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } إلى هاهنا : { حُجَّتُنَا } أي : لا يمكن نقضها : { آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ } أي : أرشدناه إليها ، وعلمناه إياها ، بلا واسطة معلّم : { عَلَى قَوْمِهِ } متعلق بـ : { حُجَّتُنَا } إن جعل خبر : { َتِلْكَ } ، وبمحذوف إن جعل بدله ، أي : آتيناها حجة ودليلاً على قومه الكثيرين ، ليغلب وحده .
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } يعني : في العلم والحكمة ، وقُرئ بالتنوين { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في رفعه وخفضه { عَلِيمٌ } بحال من يرفعه واستعداده له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 84 ]

(/)


{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ 85 ]

(/)


{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 86 ]
{ وَوَهَبْنَا لَهُ } أي : لإبراهيم عوضاً عن قومه ، لما اعتزلهم وما يعبدون { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : ولداً ، وولد ولد ، لتقر عينه ببقاء العقب : { كُلّاً هَدَيْنَا } أي : كلاًّ منهما هديناه الهداية الكبرى ، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] .
قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، وذلك بعد أن طعن في السن ، وأيس وامرأته سارة ، من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك : { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود : 73 ] . فبشروهما فتعجبت ، وبشروهما مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلاً وعقباً ، كما قال تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] . وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة . وقال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] . أي : ويولد لهذا المولود ولدٌ في حياتكما ، فتقرَّ أعينكما به ، كما قرت بوالده ، وإن الفرح بولد الولد شديد ، لبقاء النسل والعقب . ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ، وقعت البشارة به ، وبولد اسمه يعقوب ، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم ، وهاجر من بلادهم ، ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين ، من صلبه ، على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ } [ مريم 49 ] الآية .
{ وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبله ، هديناه كما هديناه . وعدّ هداه نعمة على إبراهيم ، من حيث إنه أبوه ، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد .
قال ابن كثير : كل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض ، إلا منن آمن به ، وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام ، فلم يبعث الله عزّ وجل بعده نبياً إلا من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب } [ العنكبوت : 27 ] الآية . وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ الحديد : 26 ] . وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] .
وقوله تعالى : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } الضمير لإبراهيم أو لنوح ، على ما يأتي { دَاوُدَ } عطف على : { نُوحاً } أي : وهدينا داود { وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } .
{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ } .
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } .
اعلم أن المقصود من هذه الآيات ، وما قبلها ، وما يلحقها ، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون ، وقيامه بنصرة التوحيد ، ودحض الشرك . فذكر تعالى أولاً رفع درجته ، بإيتائه الحجة على قومه ، وتخصيصه بها ، ثم جعله عزيزاً في الدنيا ، حسباً ونسباً ، أصلاً وفرعاً ، لأنه تولد من نوح أول المرسلين رسالة عامة ، ووهبت له الذرية الطاهرة ، أنبياء البشر . ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } لإبراهيم ، لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة ، كأنه قيل : ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود . . الخ ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات . وذكر نوح عليه السلام ، لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم . والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين .
ولا يقال : إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه ، لأنه يقال : إن العرب تجعل العمّ أباً ، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] مع أن إسماعيل عم يعقوب ، ودخل في آبائه تغليباً .
وقال محي السنة رحمه الله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } أي : ذرية نوح صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم ، وكان من الأسباط ، في زمن شعياء ، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل .
وقال : إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، آمن بإبراهيم ، وشخص معه مهاجراً إلى الشام ، فأرسله الله إلى أهل سدوم .
ومن قال : الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، يقدّر : ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا . لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر . وذكر نوح لتعظيم إبراهيم . ولذلك ختم بيونس ولوط ، وجعلهما معطوفين على : { َنُوحاً هَدَيْنَا } من تعطف الجملة على الجملة . وصاحب ( الكشف ) أخرج ( إلياس ) صلى الله عليه وسلم . وليس كذلك . لما في " جامع الأصول " عن الكسائي ، أنهما من ذريته . فبقي لوط خارجاً ، لما كان ابن أخيه آمن به ، وهاجر معه ، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب - كما ذكره الطيبي - . وبالجملة ، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين ، لأن شرف الذرية ، وشرف الأقارب شرف ، لكنه على الأول أظهر ، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى .
تنبيهات :
الأول - قال الحافظ ابن كثير : في ذكر عيسى عليه السلام ، في ذرية إبراهيم أو نوح ( على القول الآخر ) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام ، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبيّ صلى الله عليه وسلم ، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ ! قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } . . . حتى بلغ : { وَيَحْيَى وَعِيسَى } قال : بلى ! قال : أليس من ذرية إبراهيم ، وليس له أب ؟ قال صدقت ! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته ، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم . فأما إذا أعطى الرجل بنيه ، أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه ، وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر :
~بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم ، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن عليّ : إن ابني هذا سيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . فسماه ( ابناً ) فدل على دخوله في الأبناء . وقال آخرون : هذا تجوّزٌ : انتهى .
وفي " العناية " : أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية ، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه ، فلا يظهر قياس غيره عليه . والمسألة مختلف فيها ، والقائل بها استدل بهذه الآية ، وآية المباهلة ، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل : { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } [ آل عِمْرَان : 61 ] . أن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم . انتهى .
الثاني - إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق ، بل أخرّ ذكره عنه ، لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم . ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده ، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ، ومنها إيتاؤه أولاداً أنبياء . فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يُذكر في هذا المعرض . ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق -أفاده الرازي - .
الثالث -اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيّاً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب ، لا بحسب الزمان ، ولا بحسب الفضل ، لأن الواو لا تقتضي الترتيب . ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب ، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء ، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً . ثم من المراتب المعتبرة ، بعد النبوة ، الملك والقدرة والسلطان . وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظّاً وافراً . ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد ، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام . ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع ببينهما ، وهو يوسف عليه السلام ، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة ، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات ، وقوة البراهين ، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر . ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا ، والإعراض عنها ، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام ، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين ، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء ، من لم يبق له أتباع ولا شريعة ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط . فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه ، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر ، والله أعلم بمراده ، وأسرار كتابه - أفاده الخازن وأصله للرازيّ - .
الرابع -استدل بقوله تعالى : { وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة . لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل فيه الملك .
الخامس - نكتة ذكر " الهداية " في قوله تعالى : { كُلاًّ هَدَيْنَا } هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع -كما أسلفنا -والولد لا يُعدّ نعمة ما لم يكن مهديّاً .
السادس - قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا } من أنكر إفادة التقديم الحصرَ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 87 ]
{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } عطف على : { كُلاًّ } أو : { وَنُوحاً } أي : كلاًّ منهم فضلنا ، وفضلنا بعض آبائهم ، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعاتٍ كثيرة ، فالمفعول محذوف { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي في الاعتقادات والأخلاق والأعمال ، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضاً ، ولحقت إبراهيم ، فازداد ارتفاع درجاته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 88 ]
{ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } إشارة إلى ما دانوا به { يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا } أي : هؤلاء مع عظمتهم : { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من الأعمال المرضية . فكيف بمن عداهم ؟
قال ابن كثير : فيه تشديد لأمر الشرك ، وتغليظ لشأنه ، وتعظيم لملابسته ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله : { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [ الزخرف : 81 ] . وكقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] . وكقوله : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ الزمر : 4 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [ 89 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر ، والمعطوفين عليهم ، باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أي : جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي : فرد كان من أفراد الكتب السماوية . والمراد بـ ( إيتائه ) ؟ التفهيم التام بما فيه من الحقائق . والتمكينُ من الإحاطة بالجلائل والدقائق ، أعمّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء ، أو بالإيراث نقاءً . فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معيّن -أفاده أبو السعود - .
{ وَالْحُكْمَ } أي : الحكمة ، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب { وَالنُّبُوَّةَ } قال البيضاوي وأبو السعود : أي : الرسالة . قال الخفاجي : النبوة وإن كانت أعم ، إلا أن المراد بها ما يشتمل الرسالة ، لأن المذكورين رسل . انتهى .
{ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا } أي : بهذه الثلاثة { هَؤُلاءِ } يعني : قريشاً ، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن ، كافرون بما يصدقه جميعاً { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } أي : وفقنا للإيمان بها { قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } وهم الأنبياء عليهم السلام ، المذكورين وأتباعهم . أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأظهر - في مقابلة كفار قريش . أي : فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها . وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها ، بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء ، ومراعاته - إيذان بفخامتها وعلوّها ، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها قياماً بحق الوكالة ، وعهد الاستحفاظ .
قال الرازي : دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ، ويقوي دينه ، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه ، قاهراً لكل من نازعه . وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع . فكان جارياً مجرى الإخبار عن الغيب ، فيكون معجزاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } [ 90 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى الأنبياء المذكورين : { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أي : إلى الصراط المستقيم : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } أي : بطريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده ، والأخلاق الحميدة ، والأفعال المرضية ، والصفات الرفيعة ، اعمل .
تنبيهات :
الأول -استدل بهذه الآية من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد ناسخ .
الثاني - استدل بها ابن عباس رضي الله عنه على استحباب السجدة في ( ص ) ، لأن داود عليه السلام سجدها ، رواه البخاري وغيره - ولفظ البخاري : عن العوّام ، قال سألت مجاهداً عن سجدة ( ص ) ، فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أو ما تقرأ : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به ، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثالث - قال الرازي : احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وتقريره : أنا بيّنا أن خصال الكمال ، وصفة الشرف ، كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ، ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين ، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة ، والمعجزات الظاهرة ، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد ، وإسماعيل كان صاحب الصدق ، ويونس كان صاحب التضرع ، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء ، لأن الغالب غليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف . ثم إنه تعالى لما ذكر الكل ، أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به ، فثبت أنه اجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال ، وثبت أنه أفضلهم . وهو استنباط حسن .
الرابع - : { اقْتَدِهْ } يُقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل ، وهي على هذا هاء السكت . ومنهم من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها بهاء الإضمار . ومنهم من يكسرها وفيه وجهان :
أحدهما هي هاء السكت أيضاً ، شبهت بهاء الضمير ، وليس بشيء .
الثاني هي هاء الضمير والمصدر أي : اقتد الاقتداء . ومثله :
~هذا سُرَاقَةُ للقرآن يدرُسُهُ والمرء عند الرُّشا ، إنْ يَلَقَهَا ذيبُ
( فالهاء ) ضمير ( الدرس ) لا مفعول ، لأن ( يدرس ) قد تعدى إلى ( القرآن ) . وقيل : مَنْ سكن الهاء جعلها هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف - أفاده أبو البقاء - .
وأما قول الواحدي : الذين أثبتوا الهاء راموا موافقة المصحف ، فإن الهاء ثابتة في الخط ، فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل ، لأثبتوا - فقد قال الخفاجي : إنه مما لا ينبغي ذكره ، لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليداً للخط . فمن قاله فقد وهم .
{ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : على القرآن أو التبليغ . فإن مساق الكلام يدل عليهما ، وإن لم يجر ذكرهما { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } أي : عظة وتذكير لهم ليرشدوا من العمى إلى الهدى .
تنبيهان :
الأول - فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق ، من الجن والإنس . وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق .
الثاني -قال الخفاجي : قيل الآية تدل على أنه يحلّ أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام . قال : وللفقهاء فيه كلام . انتهى .
وعكس بعض مفسري الزيدية حيث قال : في هذا إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم ، لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة . انتهى .
أقول : إن الآية على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجراً ، كي لا يثقل عليهم الامتثال . وأما ما استفاده الحل والتحريم منها ، ففيه خفاء . والقائل بالأول يقول : المعنى لا أسألكم جعلاً تعففاً . أي : وإن حلّ لي أخذه . وبالثاني : لا أسألكم عليه أجراً لأني حظرت من ذلك .
قال ابن القيمّ : أما الهدية للمفتي ، ففيها تفصيل : فإن كانت بغير سبب الفتوى ، كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت ، فلا بأس بقبولها ، والأولى أن يكافأ عليها . وإن كانت بسبب الفتوى ، فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له ، لم يجز له قبول هديته . لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء . وأما أخذ الرزق من بيت المال ، فإن كان محتاجاً إليه ، جاز له ذلك . وإن كان غنيّاً عنه ، ففيه وجهان : وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة ، وعامل اليتيم . فمن ألحقه بعامل الزكاة قال : النفع فيه عام ، فله الأخذ . ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ . وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي ، بل القاضي أولى بالمنع . وأما أخذ الأجرة فلا يجوز ، لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله ، فلا يجوز المعاوضة عليه ، كما لو قال : لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة . أو سئل عن حلال أو حرام ؟ فقال للسائل : لا أجيبك عنه إلا بأجرة ، فهذا حرام قطعاً ، ويلزمه ردّ العوض ، ولا يملكه ، انتهى .
وفي حديث عبد الرحمن بن شِبْل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < اقرؤوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به > -أخرجه الإمام أحمد برجال الصحيح . وأخرجه أيضاً البزار وله شواهد - .
وأخرج أحمد والترمذي -وحسّنه -عن عِمْرَان بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به ، فإنه سيجيء قوم يقرؤون القرآن يسألون الناس به > . وأخرج ابن ماجة والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال : علّمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً ، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخذتها أخذت قوساً من نار .
وهناك أحاديث أخر ، ومنها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم .
وأما أخذ الأجرة على التلاوة ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود في قصة اللديغ من قوله صلى الله عليه وسلم : < إن أحق ما أخذتم عليه أجراً ، كتاب الله ، أصبتم اقتسموا ، واضربوا لي معكم سهماً > .
قال العلامة الشوكاني : حديث ( أحق ما أخذتم عليه أجراً ) عامٌّ يصدق على التعليم ، وأخذ الأجرة على التلاوة . لمن طلب من القارئ ذلك ، وأخذ الأجرة على الرقية ، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء ، لأجل كونه قارئاً ، ونحو ذلك . فيخص من هذا العموم تعليم المكلف ، ويبقى ما عداه داخلاً تحت العموم . وبعض أفراد العامّ فيه ، أدلة خاصة تدل على جوازه ، كما دل العامّ على ذلك . فمن تلك الأفراد أخذ الأجرة على الرقية ، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها . قال : هكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام ، والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن . أي : لأنه يُصار إليه عند تعذر الجمع ، وقد أمكن ، فكان الأحق - والله الموفق - .
ولما بين تعالى شأن القرآن العظيم ، وأنه نعمة كبرى على العالمين ، تأثره ببيان كفرهم بذلك ، على وجه سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [ 91 ]
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عظموه حق تعظيمه و : { حق } نصب على المصدرية ، وهو في الأصل صفة للمصدر . أي : قَدْرَهُ الحق ، فلما أَضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } أي : حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء ، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً ، حيث قيل في جواب سلبهم العام ، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم :
{ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً } حال من الضمير في : { به } أو من : { الكتاب } { وَهُدىً لِلنَّاسِ } أي : ضياء من ظلمة الجهالة ، وبياناً يفرق بين الحق والباطل { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا } : يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه . أي : فكيف ينكر إنزال شيء ، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان . والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته ، والحال بعده - لزيادة التقريع ، وتشديد التبكيت ، وإلقام الحجر { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } معطوف على ( تُبْدُونَهَا ) ، والعائد محذوف . أي : كثيراً منها . أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب . أي : وهم يخفون كثيراً . أي : ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه ، المعترف لديهم بحقيّته . وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور ، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين .
{ وَعُلِّمْتُمْ } أي : على لسان محمد صلى الله عليه وسلم : { مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني { قُلِ اللَّهُ } أي : أنزله الله ، أو الله أنزله . أَمَرَهُ بأنه يجيب عنهم ، إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيهاً على أنهم بُهِتُوا ، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب .
{ ثُمَّ } بعد التبليغ وإلزام الحجة : { ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ } أي : في باطلهم : { يَلْعَبُونَ } أي : يفعلون فعل اللاعب ، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ، ولا يدفع عنهم ضرراً ، مع تضييع الزمان .
تنبيه :
في هذه الآية قولان :
الأول -أنها مكية النزول تبعاً للسورة ، وأن القائل ذلك هم المشركون ، وإلزامهم إنزال التوراة ، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة ، وهذا هو الظاهر .
قال ابن كثير : قال ابن عباس ، ومجاهد وعبد بن كثير : هذه الآية نزلت في قريش ، واختاره ابن جرير . قال ابن كثير : وهو الأصح ، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه من البشر كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [ يونس : 2 ] . وكقوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً } [ الإسراء : 94 ] . وكذا قالوا هنا : { مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } . فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى ، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم ، وإيقافاً على عنادهم . ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف ، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب ، وأنهم أعلم منهم لأجله ، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة ، وأنها منزلة من لدنه تعالى ، وعلى هذا القول ، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة . وعلى قراءة الخطاب ، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين . وهو التفات عند الأدباء - حكاه الخفاجي - وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية ، تعريضاً لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان ، وعدم الإسناد إلى برهان . ثم القول بأن الخطاب في : { عُلِّمْتُم } لمؤمني قريش . لا يقتضيه السياق ولا السباق ، وفيه تفكيك للنظم الجليل ، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن . بل الخطاب فيه كسابقه ، والمراد بتعليمهم ، وهم مشركون ، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته ، من فرائد الوحي وفوائده ، مما لا يرتاب في تنزيلها ، كما أوضحناه قبل .
القول الثاني - إن هذه الآية مدنية النزول . ولا يرد أن هذه السورة مكية ، ومناظرات اليهود كانت في المدينة ، لأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية ، وحينئذ فقولهم ( هذه السورة مكية ) أي : إلا ما استثني مما ألحق بها ، كما أوضحه السيوطي في " الإتقان " وساق له شواهد . وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة ، فتذكر ! .
ثم القائلون بأنها مدنية ، منهم من قال : نزلت في طائفة من اليهود ، أو في فنحاص ، أو في مالك بن الصيف . أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من السماء كتاباً ، فأنزلت .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير - مرسلاً- قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف ، فخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين - وكان حبراً سميناً - ؟ فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه : ويحك ! ولا على موسى ؟ فأنزل الله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } . . الآية . قال البغويّ : وفي القصة أن مالك بن الصيف ، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة ، عتبوا عليه ، وقالوا : أليس الله أنزل التوراة على موسى ، فلم قلت : ما أنزل الله من شيء ؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد ، فقلت ذلك ! فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق ! فنزعوه عن الحبرية . وبعد الوقوف على ذلك ، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك ، ومع هذا المذهب لا يمكنه البتة أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء ، لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظاً ، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عناداً ومكابرة ، توصلاً لدفع ما يريده . وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حدٍّ يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده ، إغاظة لخصمه على زعمه . وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس ، مما لا تغتفر ، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله : { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } .
قال العلامّة البقاعيّ : لأن من نسب ملكاً تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه ، وما يسخطه ليجتنبوه ، فقد نسبه إلى نقص عظيم . فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً ؟ وإنما أسند إلى الكل -والقائل بعضهم -لأنهم لم يردّوا على قائله ، ولم يعالجوه بالأخذ على يده ، تهويلاً للأمر ، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآيه من آيات الله أن يسعى إليها ، ويتعرف أمورها ، فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته ، فقال مشيراً إلى اليهود قائلوا ذلك . ملزماً لهم بالاعتراف بالكذب ، أو المساواة للأميّين في التمسك بالهوى دون كتاب ، موبخاً لهم ، ناعياً عليهم سوء جهلهم ، وعظيم بهتهم ، وشدة وقاحتهم ، وعدم حيائهم : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى } ؟ أي : قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرأوا على هذه المقالة ، غير ناظرين في عاقبتها ، وما يلزم منها ، توبيخاً لهم ، وتوقيفاً على شنيع جهلهم : { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى } الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } أي : أوراقاً مفرقة ، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم { تُبْدُونَهَا } للناس أي : تظهرونها للناس { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } أي : منها مما تريدون به تبديل الدين . هذا على قراءة الفوقانية . وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب ، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحي من ذكره ، فكيف بفعله . وقوله : { وَعُلِّمْتُم } أي : أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى : { مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ } أي : أيها اليهود من أهل هذا الزمان : { وَلاَ آبَاؤُكُمْ } أي : الأقدمون . انتهى كلام البقاعيّ رحمه الله تعالى . وفي قوله : ( وإنما أسند إلى الكل . . ) إلى آخره ، نظر . لأن إسناده ليس إليهم ، لأنهم رضوا به ، لأن القصة السالفة تدل على خلافه . وللبقاعي رحمه الله وجه آخر في الآية . قال : ويمكن أن تكون مكية ، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته ، فاحتج عليهم بإرسال موسى عليه السلام ، وإنزال التوراة عليه . انتهى . وهو قريب وجيه جدّاً .
وبالجملة ، فالآية الكريمة من صادقة مع الأوجه المذكورة ، وتتنزل في التأويل ، على ما بينا في كلٍ تنزيلاً لا شائبة معه لإشكال مّا . وقد استصعب الرازي تأويلها ، وأخذ يحاول أسئلة هي على طرف الثُّمام ، بعد النظر فيما بينّا ، فالحمد الله الذي هدانا لهذا .
لطائف :
الأولى -قال أبو السعود رحمه الله : ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط ، بل بإنزال القرآن أيضاً ، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً ، لما فيها من الشواهد الناطقة به .
الثانية - قال أيضاً في قوله تعالى : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } أي : تضعونه في قراطيس مقطعة ، وورقات مفرقة ، بحذف الجار ، بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم ، أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة . وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم ، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ، ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة .
الثالثة - في قوله تعالى : { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الدينيّ عمن يهتدي به . قاله بعض الزيدية .
ولما أبطل تعالى كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة ، بين تنزيل ما يصدقها بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [ 92 ]
{ وَهَذَا } يعني : القرآن { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أي : كثير المنافع والفوائد ، لاشتماله على منافع الدارين ، وعوم الأولين والآخرين ، وما لا يتناهى من الفوائد .
قال الرازي : العلوم إما نظرية ، وإما عملية . فالأولى أشرفها . وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعله وأحكامه وأسمائه . ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب .
وأما الثانية : فالمطلوب إما أعمال الجوارح ، وإما أعمال القلوب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق ، وتزكية النفس . ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب . ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه ، والمتمسك به ، يحصل له عز الدنيا ، وسعادة الآخرة . انتهى . قال الخفاجيّ : وقد شوهد ذلك في كل عصر .
{ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ، أي : من التوراة أو من الكتب التي أنزلت قبله ، في إثبات التوحيد ، والأمر به ، ونفي الشرك ، والنهي عنه . وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ .
{ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى } يعني : مكة . سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأناً ، وغيرها كالتبع لها ، كما يتبع الفرع الأصل . وفي ذكرها بهذا الاسم ، المنبئ عما ذكر ، إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة { وَمَنْ حَوْلَهَا } من أطراف الأرض ، شرقاً وغرباً . كما قال في الآية الأخرى : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] . وقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] . وقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] . وقال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عِمْرَان : 20 ] .
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ، وذكر منهن : وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة > .
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر ، حتى يؤمن بالنبيّ والكتاب ( والضمير يحتملها ) ويحافظ على الصلاة . والمراد بها إما الطاعة مجازاً ، أو حقيقتها ، وتخصيصها لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان ، وأعظمها خطراً .
قال الرازي : ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] . أي : صلاتكم . ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة . قال عليه الصلاة والسلام : < من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر > . فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف ، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام . انتهى .
أقول : الحديث المذكور رواه الطبرانيّ في أوسط معاجمه عن أنس وصحح . وتمامه : < فقد كفر جهراً > -كما في الجامع الصغير - .
أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق ، قال في هذه الآية : أي : يحافظون على مواقيتها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ 93 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : اختلق إفكاً ، فجعل له شركاء أو ولداً ، أو أحكاماً في الحل والحرمة ، كعمرو بن لحيّ وأشباهه ، ممن جعل قوله قول الله { أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } ممن ادعى النبوة كذباً ، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة .
قال البقاعي : هذا تهديد على سبيل الإجمال ، كعادة القرآن الجميل ، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك ، كمسيلمة والأسود العنسيّ وغيرهما ، ثم قال : رأيت في كتاب " غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود " لابن يحيى المغربي الذي كان من علمائهم في حدود سنة 560 ثم هداه الله للإسلام فبين فضائحهم : إن الربانيين منهم زعموا أن الله يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات . ثم قال : إن الربانيين أكثرهم عدداً ، يزعمون أن الله يخاطبهم في كل مسألة بالصواب ، وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم في الأمم . انتهى . : { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } أي : ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول ، كالنضر بن الحارث . وهذا كقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [ الأنفال : 31 ] .
قال المهايمي : أي : ومن أنكر إعجاز القرآن حتى قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ، مع أنه قد عرف إعجازه ، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله ، فكأنه ادعى الإلهية لنفسه ، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة . فيعلم ما للظالمين فيها ، المبيَّن بقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } . أي : شدائده وسكراته وكرباته { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب والعذاب ، كقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] .
{ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } أي : قائلين لهم : أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم ، تغليظاً وتوبيخاً وتعنيفاً عليهم . وقد جنح بعضهم إلى أن ما ذكر من مجاز التمثيل . أي : فشبه فعل الملائكة في قبض أرواحهم ، بفعل الغريم الذي يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف في استيفاء حقه من غير إمهال . وفي " الكشف " أنه كناية عن ذلك ، ولا بسط ولا قول حقيقة . قال الناصر في " الانتصاف " : ولا حاجة إلى ذلك . والظاهر أنهم . يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة ، على الصور المحكية . وإذا أمكن البقاء على الحقيقة ، فلا معدل عنها . انتهى .
وقال الحافظ ابن كثير : إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصى ، وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : أخرجوا أنفسكم . انتهى .
أقول : مما يؤيد الحقيقة آية : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى } المتقدمة ، فإنها صريحة ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل .
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية حال الكافر عند القبض ، وعذاب القبر . واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعواناً من الملائكة -أخرجه ابن أبي حاتم - .
{ الْيَوْمَ } أي : وقت الإماتة ، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له { تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أي : الهوان الشديد { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } كالتحريف ودعوى النبوة الكاذبة . وهو جراءة على الله متضمنة للاستهانة به -قاله المهايمي - { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } حتى قال بعضكم : سأنزل مثل ما أنزل الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ 94 ]
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } أي : للحساب والجزاء : { فُرَادَى } أي : منفردين عن الأموال والأولاد ، وما أثرتموه من الدنيا . أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم . و ( فرادى ) جمع فريد ، كأسير وأسارى .
{ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : مشبهين ابتداء خلقكم ، حفاة عراة غرلاً ( يعني قلفاً ) .
روى الشيخان عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : < أيها الناس ! إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً > { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } .
ورويا أيضاً عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < تحشرون حفاة عراة غرْلاً . قالت عائشة : فقلت يا رسول الله ! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ ! قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك > .
وروى الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عزَّ وجل : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فقالت : يا رسول الله ! واسوأتاه ! إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه . لا ينظر الرجال إلى النساء ، ولا النساء إلى الرجال ، شُغِل بعضهم عن بعض > .
{ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا ، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم والخول : { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } يعني : في الدنيا ، ولم تحملوا منه نقيراً . كناية عن كونهم لم يصرفوه إلى ما يفيد في الآخرة .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول ابن آدم : مالي ! مالي ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟ وزاد في رواية : وما سوى بذلك فهو ذاهب وتاركه للناس .
{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } أي : لله في الربوبية ، واستحقاق العبادة { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قُرئ بالرفع . أي : شملكم . فإن البين من الأضداد ، يستعمل للوصل والفصل . وبالنصب على إضمار الفاعل ، لدلالة ما قبله عليه . أي : تقطع الأمر ، أو الاشتراك ، أو وصلكم بينكم . أو على إقامته مقام موصوفه والأصل : لقد تقطع ما بينكم ، وقد قُرئ به . أي : تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات .
{ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي : ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام ، كقوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 - 167 ] . وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] ، والآيات في هذا كثيرة جداً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 95 ]
{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } شروع في بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته ، وعلمه وحكمته ، إثر تقرير شأن توحيده تعالى ، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله ، وأنه مبدع الأشياء وخالقها . ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة ، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ولتعريف خطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه . والمعنى : أن الذي يستحق العبادة دون غيره ، هو الله الذي فلق الحب عن النبات ، والنواة عن النخلة .
وفي معنى ( فالق ) قولان :
أحدهما - أنه بمعنى خالق . وهو قول ابن عباس في رواية العوفيّ عنه . وبه قال الضحاك ومقاتل . قال الواحديّ : ذهبوا بـ ( فالق ) مذهب ( فاطر ) . وأنكر الطبري هذا ، وقال : لا يعرف في كلام العرب ( فلق الله الشيء ) ، بمعنى خلق . ونقل الأزهريّ عن الزجاج جوازه . وكذا المجد في القاموس .
قال الرازي : ( الفطر ) هو الشق ، وكذلك ( الفلق ) . فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوماً محضاً ، ونفياً صرفاً . والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ، ولا انفلاق ، ولا انشقاق . فإذا أخرجه المبدع الموجود من العدم إلى الوجود ، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه . وأخرج الحدث من ذلك الشق . فهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمبدع .
والقول الثاني - وهو قول الأكثرين : أن الفلق هو الشق . وفي معناه وجهان :
أحدهما - مروي عن ابن عباس قال : فلق الحبة عن السنبلة ، والنواة عن النخلة . وهو قول الحسن والسدّي وابن زيد . قال الزجاج : يشق الحبة اليابسة ، والنواة عن اليابسة ، فيخرج منها ورقاً أخضر .
الوجه الثاني - وهو قول مجاهد : أنه الشقان اللذان في الحب والنوى .
وضعف بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة .
و ( الحب ) : ما ليس له نوى ، كالحنطة والشعير والأرز .
و ( النوى ) : جمع نواة ، وهو الموجود في داخل الثمرة ، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما .
قال الإمام الرازي : إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ، ثم مرّ به قدر من المدة ، أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقّاً ، ومن أسفلها شقّاً آخر ، فالأول يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض ، المسماة بعروق الشجرة . وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض . ثم إن ههنا .
عجائب :
فإحداها - أن طبيعة الشجرة ، إن كانت تقتضي الهويَّ في عمق الأرض ، فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء ؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء ، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض ؟ فلما تولد منها الشجرتان ، مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى -علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع .
وثانيها - أن باطن الأرض جرم كثيف صلب ، لا تنفذ المسلّة القوية فيه ، ولا يغوص السكين الحادّ القوي فيه . ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة ، لصارت كالماء ، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة ، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة . فحصول هذه القوى الشديدة ، لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة ، لا وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم .
وثالثها - أنه يتولد من تلك النواة شجرة ، ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة ، فإنَّ قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة ، وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة ، وفي تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه ، العهن المنفوش . ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ، ويتولد على الأغصان الأوراق أولاً ، ثم الأزهار والأنوار ثانياً ، ثم الفاكهة ثالثاً . ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر : مثل الجوز ، فإن قشره الأعلى هو ذلك الأخضر ، وتحته ذلك القشر الذي يشبه الخشب ، وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب ، وتحته ذلك اللب وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف ، وهو أيضاً كالقشر ، وعلى جرم لطيف ، وهو الدهن . وهو المقصود الأصلي . فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها ، مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة ، والطبائع الأربعة - يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر ، لا بتدبير الطبائع والعناصر . ورابعها - أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة , فالأترنج : قشره حارّ يابس , ولحمه بارد رطب , وحماضه بارد يابس , وبزره حار يابس . وكذلك العنب : قشره وعجَمَهُ بارد يابس , وماؤه ولحمه حارٍ رطب . فتولد هذه الطبائع المتضادة , والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة - لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار .
و خامسها - أنك تجد الفواكه مختلفة , فبعضها يكون اللب في الداخل , والقشرة في الخارج , كما في الجوز واللوز . وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج , وتكون الخشبة في الداخل , كالخوخ والمشمش . وبعضها يكون النواة لها لبّ , كما في نوى المشمش والخوخ . وبعضها لا لب له , كما في نوى التمر . وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر , بل يكون كله مطلوباً , كالتين . فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه . وأيضاً هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور , فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة , وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتهما , وشكل العدس كأنه دائرة , وشكل الحمص على وجه آخر . فهذه الأشكال المختلفة لا بد وأن تكون لأسرار وحكمٍ , علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل . وأيضاً فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى . ومنفعة أخرى . وأيضاً تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوانٍ , وسمّاً لحيوان آخر , فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال , مع اتحاد الطبائع , وتأثيرات الكواكب ,يدل على أن كلها إما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم .
وسادسها - أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة , وجدت خطّاً واحداً مستقيماً في وسطها , كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان . وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة , يمنه ويسرة , في بدن الإنسان , ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أُخر ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار , بسبب الصغر - فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة , وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى , ولا يزال يبقى على هذا المنهج , حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر . الخالق تعالى إنما فعل ذلك , حتى أن القوى الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة , تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة . فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة , عملت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل , وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل , ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان , علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل . ولما عرفت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان , علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل . ثم إنه تعالى خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غداء ودواءً للإنسان بحسب جسده , والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة ,كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة , واعرف كيفية تلك العروق والأوتار فيها , ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها , حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية ، كما قال : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة . فهذا كلام مختصر في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } . ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آ خر له . ونسأل الله التوفيق والهداية . انتهى كلام الرازي رحمه الله تعالى .
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } كالحيوان من النطفة ، والنبات الغض الطريّ من الحب اليابس { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } كالنطفة والحب : { مِنَ الْحَيِّ } كالحيوان والنبات .
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ } أي : الفالق للحب والنوى ، والمخرج الحيّ من الميت وعكسه ، هو الله ، القادر العظيم الشأن ، المستحق للعبادة وحده .
{ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون عنه إلى غيره .
قال الرازي : والمقصود منه أن الحيّ والميت متضادان متنافيان ، فحصول المثل عن المثل ، يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية . أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية . بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم ، والمدبر العليم .
تنبيه :
ذهب الزمخشري ومن تبعه إلى أن قوله تعالى : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } عطف على : { فَالِقُ } لا على : { يُخْرِجُ الْحَيَّ } . لأنه بيان لفالق الحب والنوى ، وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه ، كقوله : { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] . والصحيح أنه معطوف على : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } واشتماله على زيادة فيه ، لا يضر ذلك بكونه بياناً . كما أن : { مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } بيان مع شموله للحيوان والنبات . وفيه من البديع التبديل ، كقوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [ الحج : 61 ] .
قال في " الانتصاف " : وقد وردا جميعاً بصيغة الفعل كثيراً في قوله : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ الروم : 19 ] . وقوله : { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ } [ يونس : 31 ] فعطفُ أحد القسمين على الآخر ، كثيراً دليلٌ على أنهما توأمان مقترنان ، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه وردّه إلى : { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } فالوجه -والله أعلم -أن يقال : كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله : { فَالِقُ الْحَبِّ } و : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ } و : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ } و : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } [ وفي المطبوع : مُخْرِجُ الحَيَّ نِنَ الْمَيِّتِ ] إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده ، وهو قوله : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } إرادة لتصوير إخراج الحيّ من الميت ، واستحضاره في ذهن السامع . وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائها الفعلُ المضارع دون اسم الفاعل والماضي . وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] فعدل عن الماضي المطابق لقوله : { أَنزَلَ } لهذا المعنى ، ومنه ما في قوله :
~بأنّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْوِي بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحَان
~فَأَضربُها بلا دَهَشٍ فَخَرَّتْ صَريعاً لليدينِ ولِلجرَانِ
فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته ، واستحضارها لذهن السامع . ومنه : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة } [ ص : 18 - 19 ] ، فعدل عن ( مُسَبِّحات ) وإن كان مطابقاً لـ : { مَحْشُورَةً } لهذا السبب - والله أعلم - . ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما يكون العناية به أقوى . ولا شك أن إخراج الحيّ من الميت أشهر في القدرة من عكسه . وهو أيضاً أول الحالين ، والنظر أول ما يبدأ فيه . ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي بان عنه ، فكان الأول جديراً بالتصديق والتأكيد في النفس ، ولذلك هو بمقدم أبداً على القسم الآخر في الذكر ؛ حسب ترتيبهما في الواقع . وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه . أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع ، فكل واحد منهما يقدّر بالآخر ، فلا جناح في عطفه عليه - والله أعلم -انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 96 ]
وقوله تعالى : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } خبر آخر لـ ( إنْ ) ، أو لمبتدأ محذوف . و ( الإصْبَاحِ ) مصدر سمي به الصبح . قال امرؤ القيس :
~ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِي بصُبْحٍ وما الإصباح فيك بأَمْثَلِ
أي : شاقُّه عن ظلمة الليل : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً } أي : صيّر الظلام يسكن إليه ، ويطمئن به ، استرواحاً من تعب النهار . أو يسكن فيه الخلق ، أي : يقرّوا ويهدؤا ( من السكون ) -وهو الأظهر لقوله : { لتسكنوا فيه } - وقُرئ ( وَجَاعِلُ اللَّيْلَ ) .
{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً } أي : على أدوار مختلفة ، لتحسب بهما الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات . كما ذكره في سورة يونس في قوله : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب } [ يونس : 5 ] .
{ ذَلِكَ } أي : التسيير بالحساب المعلوم : { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : الغالب على أمره { الْعَلِيمِ } بتدبيرهما ، ومراعاة الحكمة في شأنهما .
تنبيهات :
الأول - قال الرازي : قوله تعالى : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ } . . الآية ، نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته . فالنوع المتقدم كان مأخذوذاً من دلالة أحوال النبات والحيوان . والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية . وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية . ثم قرر الحجة من وجوه عديدة ، وأجاد رحمه الله .
الثاني -قُرئ : { الإِصْبَاحِ } بفتح الهمزة ، على أنه جمع صُبْح ، كقُفْل وأقفال .
الثالث - في " البحر الكبير " : أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية ، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج ، وإنما أضيف الحساب في الآية إليهما ، لأن بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام العي تتركب منها الشهور والسنون ، فمن هنا دخلت - انتهى . الرابع - قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم ، كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس : 37 - 38 ] . ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة ( حم السجدة ) قال : { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 12 ] . انتهى .
وفي ( العزة ) معنى القهر ، أي : الذي قهرهما بجعلهما مسخرين ، لا يتيسر لهما إلا ما أريد بهما ، كما قال : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ] . ومعنى القدرة الكاملة أيضاً .
قال الرازيّ : { الْعَزِيزِ } إشارة إلى كمال قدرته ، و : { الْعَلِيمِ } إشارة إلى كمال علمه ، ومعناه : أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيأتها الممحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات . وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة . وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار -والله أعلم .
الخامس -وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { حُسْبَاناً } قال : يعني عدد الأيام والشهور والسنين . وقال قتادة : يدوران في حساب . قال السيوطيّ : فالآية أصل في الحساب والميقات . انتهى .
ثم بيّن تعالى نعمته في الكواكب ، إثر بيان نعمته في النيرّين إعلاماً بكمال قدرته وحكمته ورحمته بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 97 ]
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : في ظلمات الليل في طرق البر والبحر : { قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ } أي : بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : وجه الاستدلال بها . وإنما خلقت للاستدلال المتأثر بالعمل بموجبها ، ألا وهو الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم ، وكمال قدرته وعلمه واستحقاقه العبادةَ وحده .
تنبيهان
الأول -ذكر تعالى في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء ، وكونها رجوماً للشياطين . قال بعض السلف : ممن اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه : أن الله جعلها زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، ويُهتَدى بها في ظلمات البر والبحر - نقله ابن كثير - .
أقول : مراده اعتقادٌ مناف للعقد الصحيح لا اعتقاد حكم وإسرار غير الثلاث فيها إذ فوائد المكونات غير محصور . وذكر حكمة في مكون لا ينفي ما عداها - فافهم .
الثاني - قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في الميقات ، وأدلة العقليات ، ثم بين تعالى نوعاً آخر من نعمه ، وأدلة قدرته الباهرة بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [ 98 ]
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم عليه السلام : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } قُرئ : { مُسْتَقَرٌّ } بفتح القاف وكسرها ، وأما : { مُسْتَوْدَعٌ } فبفتح الدال لا غير . وهما على الأول ، إما مصدران ، أي : فلكم استقرار واستيداع ، أو اسما مكان ، أي : موضع استقرار استيداع . والاستقرار إما في الأصلاب ، أو فوق الأرض ، لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [ البقرة : 36 ] . أو في الأرحام ، لقوله تعالى : { وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ } [ الحج : 5 ] أو الاستيداع في الأرحام ، فجعل الصلب مستقرّ النطفة ، والرحم مستودعها ، لأنها تحصل في الصلب ، لا من قبل شخص آخر ، وفي الرحم من قبل الأب ، فأشبهت الوديعة ، كأن الرجل أودعها ما كان عنده ، أو في الأصلاب ، أو تحت الأرض ، أو فوقها ، فإنها عليها ، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله :
~وما المال والأهلون إلا ودائعُ ولا بدَّ يوماً أن تردّ الودائعُ
ونقل الرازي عن الأصمّ أن المستقر من خُلِقَ من النفس الأولى ، ودخل الدنيا واستقر فيها . والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق . وجعل الأصفهاني ( المستقر ) كناية عن الذَّكرَ ، و ( المستودع ) كناية عن الأنثى . قال : إنما عبر عن الذكر بـ ( المستقر ) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه ، وإنما تستقر هناك . وعبر عن الأنثى بـ ( المستودع ) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة - والله أعلم - .
وعلى قراءة ( مستقر ) بكسر القاف اسم فاعل ، أي : فمنكم قارّ ، ومنكم مستودع ، ووجه كون الأول معلوماً . والثاني مجهولاً ، كون الاستقرار صادراً منّا دون الاستيداع .
قال الرازيّ : مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام ، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول : الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية ، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع . والاختلاف في تلك الصفات لا بدّ له من سبب ومؤثر ، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها ، وإلاّ لامتنع حصول التفاوت في الصفات ، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم . ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى : { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } [ الروم : 22 ] .
{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } قال الزمخشري : فإن قلت ، لم قيل ( يعلمون ) مع ذكر النجوم ، و ( يفقهون ) مع ذكر إنشاء بني آدم ؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة ، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً . فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر ، مطابقاً له . انتهى -وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة ، ومن قال : إنه الفهم مطلقاً ، وليس بأبلغ من العلم - قال : إنه تفنن ، حذراً من صورة التكرير .
قال الناصر في " الانتصاف " : جواب الزمخشريّ صناعي ، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت ، ولا سبيل إلى الحقيقة .
قال : والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيهاً على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ ، لما في ذلك من التكرار ، فعدل إلى فاصلة مخالفة ، تحسيناً للنظم ، واتساقاً في البلاغة ، ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم ، والثانية بالفقه ، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ، ولا يعتبر بمخلوقاته ، وكانت الآيات المذكورة أولاً خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذا النجوم والنظر فيها ، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها ، أمر خارج عن نفس الناظر ، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة ، وتقابلتهم في أطوار مختلفة ، وأحوال متغايرة فإنه نظرٌ لا يعدو نفس الناظر ، ولا يتجاوزها . فإذا تمهد ذلك . فجهل الإنسان بنفسه وأحواله ، وعدم النظر فيها والتفكر ، أبشع من جهله بالأمور الخارجية عنه ، كالنجوم والأفلاك ، ومقادير سيرها وتقلبها . فلما كان الفقه أدنى درجات العلم ، إذ هو عبارة عن الفهم ، نفي من أبشع القبيلين جهلاً ، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ، ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة ، فخص به أسوأ الفريقين حالاً . و ( يفقهون ) ههنا مضارع فقه الشيء -بكسر القاف -إذا فهمه ، ولو أدنى فهم . وليس من ( فقُه ) بضم القاف ، لأن تلك درجة عالية ، ومعناه صار فقيهاً -قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن ( فقه ) أنزل من ( علم ) - . وفي حديث سلمان أنه قال ، وقد سألته امرأة جاءته : فَقِهَتْ أي : فَهِمَتْ ، كالمتعجب من فهم المرأة عنه . وإذا قيل : فلان لا يفقه شيئاً كان أذمّ في العرف من قول : فلان لا يعلم شيئاً . وكأن معنى قولك : ( لا يفقه شيئاً ) ليست له أهلية الفهم وإن فهِّم . وأما قولك ( لا يعلم شيئاً ) فغايته نفي حصول العلم له ، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم ، لو يعلّم . والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالاً من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات ، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكاراً مستأنفاً . وقولنا ، في أدراج الكلام : ( إنه نفي العلم عن أحد الفريقين ، ونفي الفقه عن الآخر ) يعني : بطريق التعريض ، حيث خص العلم بالآيات المفصلة ، والتفقه فيها بقومٍ . فأشعر أن قوماً غيرهم لا علم عندهم ، ولا فقه - والله الموفق - فتأمل هذا الفصل ، وإن طال بعض الطول ، فالنظر في الحسن غير مملول . انتهى . وهذا من دقة النظر في الكتاب العزيز ، وإبراز محاسنه ولطائفه .
ثم بين تعالى حجة كبرى على كمال قدرته ، ومنة أخرى من جسيم نعمته بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 99 ]
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي : من السحاب ، لقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } [ الواقعة : 68 - 69 ] . وسمي السحاب سماءً ، لأن العرب تسمي كل ما علا سماء .
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ } التفت إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله أي : فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء ، مع وحدته : { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } أي : صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان ، كقوله تعالى : { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } [ الرعد : 4 ] .
{ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } أي : من النبات ، يعني أصوله : { خَضِراً } أي : شيئاً غضّاً أخصر . يقال : أخضر وخضر ، كأعور وعور ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُخْرِجُ مِنْهُ } صفة لـ ( خَضِراً ) وصيغة المضارع ، لاستحضار الصورة ، لما فيها من الغرابة ، أي : نخرج من ذلك الخضر : { حَبّاً مُتَرَاكِباً } أي : متراكماً بعضه على بعض ، مثل سنابل البر والشعير والأرز .
قال الرازي : ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر ، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة .
ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر ، إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات بقوله سبحانه : { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } الطلع : أول ما يبدو من ثمر النخيل كالكيزان يكون نفيه العذق ، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً ( بكسر العين وسكون الذال المعجمة بعدها ) - وهو القنو ، أي : العرجون ، بما فيه من الشماريخ ، وجمعه قنوان - ( مثلث القاف ) وهو ومثناه سواء ، لا يفرق بينهما إلا الإعراب .
قال الزمخشري : قنوان ، رفع الابتداء ، و ( من النخل ) خبره ، و ( من طلعها ) بدل منه ، كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان ، انتهى . وجوّز أن يكون ( من النخل ) عطفاً على ( منه ) وما بعده مبتدأ وخبر . أي : وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوان دانية ، أي : ملتفة ، يقرب بعضها من بعض ، أو قريبة من المتناول ، وإنما اقتصر على ذكرها لدلالتها على مقابلها ، أعني البعيدة ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ولزيادة النعمة فيها : { وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ } عطف على ( نبات كل شيء ) أي : وأخرجنا به جنات ، أو على ( خضراً ) . وقال الطيبيّ : الأظهر أن يكون عطفاً على ( حبّاً ) لأن قوله : ( نبات كل شيء ) مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي ، كأنه قال : فأخرجنا بالنامي نبات كل شيء ينبت كل صنف من أصناف النامي ، والنامي : الحب والنوى وشبههما . وقوله : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } الخ تفصيل لذلك النبات . أي : أخرجنا منه خضراً بسبب الماء ، فيكون بدلاً من ( فأخرجنا ) الأول ، بدل اشتمال . ومن ههنا يقع التفصيل ، فبعض يخرج منه السنابل ذلت حبوب متكاثرة ، وبعض يخرج منه ذات قنوان دانية ، وبعض يخرج منه وبعض آخر جنات معروشات . . الخ .
{ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } العطف فيه كما تقدم : { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } حال من ( الزيتون ) ، اكتفى به عن حال ما بعده . أو من ( الرمان ) لقربه . والمحذوف حال الأول .
قال الزمخشري : يقال اشتبه الشيئان وتشابها ، كقولك : استويا وتساويا . والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً . وقُرئ : متشابهاً وغير متشابه . والمعنى : بعضه متشابهاً ، وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم ، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها ، وحكمة منشئها ومبدعها .
{ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أي : ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره ، كيف يكون ضئيلاً ضعيفاً ، لا يكاد ينتفع به { وَيَنْعِهِ } أي : وإلى حال ينعه ونضجه ، كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ . أي : انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستبصار واستدلال ، على قدرة مقدره ومدبره وناقله ، على وفق الرحمة والحكمة ، من حال إلى حال ، فإن فيه آيات عظيمة دالة على ذلك ، كما قال :
{ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه ، أو هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم . قال بعضهم : القوم كانوا ينكرون البعث ، فاحتج عليهم بتصريف ما خلق ، ونقله من حال إلى حال ، وهو ما يعلمونه قطعاً ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها ، وإخراج أنواع النبات والثمار منها ، وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى . فبين أنه تعالى كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم ، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء ، ثم إنبات الأجساد كالنبات ، ثم جعلها خضرة بالحياة ، ثم تصوير الأعمال بصورة كثيرة ، وإفادة أمور زائدة ، وتفريعها ، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة ، غير متشابهة في اللذة ، جراء عليها ، والله أعلم - .
لطيفة :
قال الرازيّ : اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وإنما قدم الزرع على الشجر ، لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة . وإنما قدم النخل على سائر الفواكه ، لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابه في خواص كثيرة ، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات . ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم : < فإنها خلقت من بقية طينة آدم > . وإنما ذكر العنب عقيب النخل ، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال . فأول ما يظهر على الشجر ، يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم ، لذيذة المطعم ، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه . ثم بعده يظهر الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى ، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق ، نافعة لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة . ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها ، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر ، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخل ، ومنافع هذه لا يمكن ذكرها إلا في المجلدات . وأحسن ما في العنب عَجَمُهُ ، والأطباء يتخذون منه ( جوارشنات ) عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة . فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه .
وأما الزيتون فهو أيضاً كثير النفع ، لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل أيضاً عنه دهن كثير ، عظيم النفع في الأكل ، وفي سائر وجوه الاستعمال .
وأما الرمان فحاله عجيب جدّاً ، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام : قشرة وشحمه وعَجَمهُ وماؤه . أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات . وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات ، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال ، وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ، ودواء من وجه ، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين . فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم .
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة ، التي هي أشرف أنواع النبات ، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي . انتهى .
أقول : حديث < أكرموا عمتكم النخلة > المذكور ، رواه أبو يعلى وابن أبي حاتم والعقيليّ وابن عدي وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه ، كما في الجامع الصغير ، ورمز عليه بالضعف . ولما ذكر تعالى هذه البراهين ، من دلائل العالم العلوي والسفلي ، على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ، ووافر نعمته ، واستحقاقه للألوهية وحده - عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [ 100 ]
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ } أي : جعلوهم شركاء له في العبادة . فإن قيل : فكيف عُبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن ، وأمرهم بذلك . كقوله : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } [ النساء : 117 - 119 ] . وكقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي } [ الكهف : 50 ] الآية . وقال إبراهيم لأبيه : { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] . وكقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ يس : 60 - 61 ] وتقول الملائكة يوم القيامة : { ا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] .
{ وَخَلَقَهُمْ } حال من فاعل : { جَعَلُواْ } ، مؤكدة لما في جَعْلِهِمْ ذلك من كمال القباحة والبطلان ، باعتبار علمهم بمضمونها . أي : وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } : { وفي المطبوع وليس من يخلق كمن لا يخلق } ! وقيل : الضمير للشركاء . أي : والحال أنه تعالى خلق الجن ، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له ؟ كقول إبراهيم : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] . أي : وإذا كان هو المستقل بالخالقية ، وجب أن يفرد بالعبادة ، وحده لا شريك له .
تنبيه :
ما ذكرناه من معنى قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ } أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان ، هو ما قرره ابن كثير ، وأيده بالنظائر المتقدمة ، ونقل عن الحسن ، فتكون الكناية لمشركي العرب . وقيل : المراد بالجن الملائكة ، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله . وكلا الأمرين موجب للشريك . أما الأول فظاهر . وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد ، فيشاركه في صفات الألوهية . وتسمية الملائكة ( جنّاً ) حقيقة ، لشمول لفظ الجن لهم . وقيل : استعارة . أي : عبدوا ما هو كالجن ، فيكون مخلوقاً مستتراً عن الأعين .
وذهب بعض السلف - منهم الكلبي - إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين : أحدهما خالق الخير وكل نافع . وثانيهما خالق الشر وكل ضار . ونقله ابن الجوزي عن ابن السائب . وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه ، وأنه قال : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله وإبليس أَخَوَانِ . فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات ؛ وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور .
قال الرازي : وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكور في هذه الآية ، وذلك ، لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في هذه الآيات المتقدمة .
وقوّى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا } [ الصافات : 158 ] . وإنما وصف بكونه من الجن ، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة والروحانيين مستترة من العيون ، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها .
قال الفخر : هذا مذهب المجوس . وإنما قال ابن عباس : هذا قول الزنادقة ، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة ، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بـ ( الزند ) ، والمنسوب إليه يسمى ( زندي ) ، ثم عُرّب فقيل : ( زنديق ) ، ثم جمع فقيل : ( زنادقة ) . واعلم أن المجوس قالوا : كل ما فيه هذا العالم من الخيرات فهو من ( يزدان ) ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من ( اهرمن ) محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة . والأقلون منهم قالوا : إنه قديم أزلي . وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم ، فخيرات هذا العالم من الله تعالى ، وشروره من إبليس . فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وإنما جمع حينئذ في الآية ، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون .
ثم قال الرازيّ : وقوله تعالى : { وَخَلَقَهُمْ } إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكاً ، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم ، بل هو محدث . إذا ثبت هذا فنقول : إن كل محدث فله خالق وموجد ، وما ذلك إلا الله سبحانه وتعالى . فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى . ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح ، والمجوس سلّموا أن خالقه هو الله تعالى ، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقابئح والمفاسد . وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولا : لا بد من إلهين ، فسقط قولهم . انتهى ملخصاً .
وقوله تعالى : { وَخَرَقُوا لَهُ } أي : اختلقوا وافتروْا له : { بَنِينَ } كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير : { وَبَنَاتٍ } كقول بعض العرب في الملائكة .
قال الزمخشري : يقال خلق الإفك وخرقه واختلقه بمعنى . وسئل الحسن عنه فقال كلمة عربية كانت العرب تقولها . كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله ! ويجوز أن يكون من ( خَرَقَ الثَّوْبَ ) إذا شقه : أي : اشتقوا له بنين وبنات . وقُرئ : { وَخَرَقُواْ } بالتشديد للتكثير لقوله ( بنين وبنات ) .
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقولٍ عن عمى وجهالة ، من غير فكر وروية ، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا ، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدره . وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى . وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به ، وقام عليه الدليل .
ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد .
ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترؤوا عليه بوجوه أربعة . بدأ منها بقوله

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 101 ]
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مبدعهما بلا مثال سبق . وقيل : بمعنى عديم النظير فيهما . قال أبو السعود : والأول هو الوجه . والمعنى : أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلويّ والسفليّ ، بلا مادة ، فاعل على الإطلاق ، منزه عن الأنفعال بالمرة .
والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه ، فكيف يمكن أن يكون له ولد ؟
{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } أي : من أين وكيف يكون له ولد - كما زعموا - والحال أنه ليس له على زعمهم أيضاً صاحبة يكون الولد منها ؟ ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة ، وإن أمكن وجوده بلا والد . وأيضاً ، الولد لا يحصل إلا بين متجانسين ، ولا مجانس له تعالى .
وقوله تعالى : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } جملة مستأنفة ، لتقرير تنزهه عنه ، والحالية بعدها مؤكدة للاستحالة المذكورة .
وقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } جملة أخرى مستأنفة ، لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال ثانية مقررة لها . أي : أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولداً له تعالى : فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه ؟ - أفاده أبو السعود - .
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : مبالغ في العلم أزلاً وأبداً . جملة مستأنفة أيضاً ، مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ، ببطلان مقالتهم الشنعاء . أي : أنه سبحانه لذته عالم بكل المعلومات ، فلو كان له ولد ، فلا بد أن يتصف بصفاته ، ومنها عموم العلم ، وهو لغيره تعالى منفي بالإجماع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ 102 ]
{ ذَلِكُمُ } أي : الموصوف بما سبق ، البعيد رتبته عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة ، إذ هو : { اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } أي : بالإيمان به وحده ، فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : رقيب وحفيظ ، يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ 103 ]
قوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } جملة مستأنفة ، إما مؤكدة لقوله تعالى : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر ، وإما هي مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد ، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة وهي أبصار أهل الدنيا ، لجلاله وكبريائه وعظمته ، فأنى يصح أن ينسب إلى عليائه تلك العظيمة ؟ وذلك لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعداداً لرؤيته المقدسة .
قال العارف الجليل الشيخ الأكبر قدس سره في " فتوحاته " : سبب عجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا ضعف نشأة هذه الدار ، إلا لمن أمده الله بالقوة ، بخلاف نشأة الآخرة لقوتها . وسبب رؤيته تعالى في المنام كون النوم أخا الموت . وفي الحديث إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا . فما نفى الشرع إلا رؤية الله في الدنيا يقظة . انتهى .
وقال بعضهم : إن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه تعالى ، لأن هذه الأحداق مادامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى ، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها ، وتغيرت أحوالها .
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل ، وعمل الليل قبل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه > .
قال ابن كثير : وفي الكتب المتقدمة ، أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى ! إنه لا يراني حيّ إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] .
أقول : كون المنفيّ من الإدراك في هذه الآية هو الإدراك الدنيويّ خاصة ، لا يحتاج إلى حجة ولا برهان . ومن فهم من تعض الفرق ، كالمعتزلة ، من هذه الآية أن المنفيّ هو الإدراك في النشأتين ، فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة . أما الكتاب فمثل قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . وأما السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال : كنا جلوساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : < إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامّون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها > ، فافعلوا ثم قرأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } .
قال ابن كثير : تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصاة وفي روضات الجنات > . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم ، ومنع ذلك في الدنيا . إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم . انتهى .
قال ابن كثير : كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤيا في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية . انتهى .
فعن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه ! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ، فقالت لقد قفّ شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب . ثم قرأت : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب } [ الشورى : 51 ] . ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب . ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } [ لقمان : 34 ] ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [ المائدة : 67 ] . ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين -أخرجه الشيخان والترمذيّ - .
وخالفها ابن عباس . فعنه إطلاق الرؤية ، وعنه أنه رآه بفؤاده . والمسألة تذكر مبسوطة في أول سورة النجم إن شاء الله تعالى . ومن الناس من ذهب إلى أن الإدراك ليس هو مطلق الرؤية ، بل معرفة الكنه أو الإحاطة .
قال ابن كثير : قال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك . فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم . ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفيّ ما هو ؟ فقيل : معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلا هو ، وإن رآه المؤمنين ، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك ، وله المثل الأعلى .
وقال آخرون : الإدراك أخص من الرؤية ، وهو الإحاطة . قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية ، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم . قال تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] .
وفي صحيح مسلم : < لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك > . ولا يلزم منه عدم الثناء ، فكذلك هذا . انتهى .
وقال النسفي : تشبثُ المعتزلة بهذه الآية لا يستتب ، لأن المنفيّ هو الإدراك لا الرؤية والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئيّ وحدوده ، وما يستحيل عليه الحدود والجهات ، يستحيل إدراكه ، لا رؤيته ، فنزّل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم ، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود ، لا يقتضي نفي العلم به ، فكذا هذا . على أن مورد الآية ، وهو التمدح ، يوجب ثبوت الرؤية ، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته . لا تمدح فيه ، لأن كل ما لا يرى لا يدرك ، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية ، إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية ، دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات ، فكانت الآية حجة لنا عليهم . انتهى .
وقد جود العلامة العضد في " المواقف " البحث في هذه الآية ، ونقل شبه المنكرين فيها ، وأجاب عنها . ونحن ، لنفاسته ، ننقل كلامه مع شرحه للسيد الشريف قدس سره ، وبعض حواشيه ، ونصه :
الأولى - من شبه المنكرين للرؤية السمعية قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } :
1 - والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية . فمعنى قولك : أدركته ببصري ، معنى رأيته . لا فرق إلا في اللفظ . أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر ، فلا يجوز : رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه . فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة ، في جميع الأوقات ، لأن قولك : فلان تدركه الأبصار ، لا يفيد عموم الأوقات ، فلا بد أن يفيده ما يقابله ، فلا يراه شيء من الأبصار ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة لما ذكرنا .
2 - ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يُرى ، فإنه ذكره في أثناء المدائح : وما كان من الصفات عدمه مدحاً ، كان وجوده نقصاً ، يجب تنزيه الله عنه ، فظهر أنه يمتنع رؤيته ، وإنما قلنا : ( من الصفات ) احترازاً عن ( الأفعال ) ، كالعفو والانتقام ، فإن الأول فضل ، والثاني عدل ، وكلاهما كمال . والجواب :
أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه :
الأول - أن الإدراك هو الرؤية ، على نعت الإحاطة بجوانب المرئيّ ، إذ حقيقته النيل والوصول ، و ( إنا لمدركون ) أي : ملحقون ، و ( أدركت الثمرة ) أي : وصلت إلى حد النضج و ( أدرك الغلام ) أي : بلغ . ثم نقل إلى الرؤية المحيطة ، لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة . والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة ، أخص مطلقاً من الرؤية المطلقة . فلا يلزم من نفي المحيطة عن الباري سبحانه ، لامتناع الإحاطة ، نفي المطلقة عنه . وقوله ( لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر ) ممنوع ، بل يصح أن يقال : رأيته وما أدركه بصري . أي : لم يحط به من جوانبه ، وإن لم يصح عكسه .
الثاني - أن ( تدركه الأبصار ) موجبة كلية ، لأن موضوعها جمع محلَّى باللام الاستغراقية . وقد دخل عليها النفي فرفعها . ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية . وبالجملة فيحتمل قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } إسناد النفي إلى الكل ، بأن يلاحظ أولاً دخول النفي ، ثم ورود العموم عليه ، فيكون سالبة كلية . ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولاً ، ثم ورود النفي عليه ، فيكون سالبة جزئية . ومع احتمال المعنى الثاني ، لم يبق فيه حجة لكم علينا . لأن أبصار الكفار لا تدركه ، إجماعاً . هذا ما نقوله : لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق ، وإلا عكسنا القضية ، فادَّعَيْنَا أن الآية حجة لنا وقلنا : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } سالبة مهملة في قوة الجزئية ، فالمعنى : لا تدركه بعض الأبصار ، وتخصيص البعض بالنفي يبدل بالمفهوم على الإثبات للبعض ، فالآية حجة لنا لا علينا . انتهى - لكن هذا إنما يستقيم إذا كانت المهملة مرادفة للجزئية . وكونها في قوتها لا يفيد المرادفة . ولهذا اعترض عليه بأن الجنس في حيزّ النفي يفيد العموم اتفاقاً ، نحو : ما جاءني الرجل . وإنما الاحتمال لعموم السلب ، وسلب العموم عند قصد الاستغراق ، فكيف تعكس القضية على تقدير حمل اللام على الجنس ؟ ولو ثبت المرادفة لا ندفع الاعتراض ، إذ تصير الآية حينئذ حجة لنا إلزامية ، حيث يرجع قيد البعضية إلى النفي ، كما أرجع المعتدل قيد العموم ، على تقدير الاستغراق ، إليه . فتأمل ! - كذا في حواشي الحلبي والشرواني - .
الثالث - من تلك الوجوه أنها - أي : الآية - وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام ، فإنها لا تعم في الأزمان ، فإنها سالبة مطلقة لا دائمة ، ونحن نقول بموجبه ، حيث لا يرى في الدنيا .
قال العلامة حسن حلبي : وما استدل به الخصم سابقاً على أنها دائمة ، من أن إيجابها لا يفيد عموم الأوقات ، فلا بد أن يفيد ما يقابله - فجوابُه : أنه إنما يتم إذا كان التقابل ببينهما تقابل التناقض ، وهو ممنوع . فإن القضية الموجبة والسالبة ، الغير الموجهتين ، لم توضعا في العربية لمعنيين متناقضين ، بل لهما محامل يحملهما المستعمل حسب ما يريده .
الرابع -منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ، ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه ، لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية ، نفياً للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعاً ، كما هو العادة ، فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقاً . وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو قوله : تمدح الباري بأنه لا يرى ، فنقول : هذا مدعاكم ، فأين الدليل عليه ؟ إن قلت : أشير فيما تقدم إلى دليله بأنه ذكر في أثناء المدائح ، والمذكور بينهما يجب أن يكون مدحاً -قلت : ذلك الدليل إنما يدل على التمدح بنفي المبصرية ، لا بنفي الرؤية ، والفرق قد سبق في الجواب الأول . انتهى .
وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح ، لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته ، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية ، لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه ، إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يُرى ، حيث لم يكن له ذلك ، وإنما المدح في عدم الرؤية للمتمنع المتعزز بحجاب الكبرياء ، كما في الشاهد . انتهى .
وناقش الخيالي قولهم : ( لا مدح للمعدوم ) بأن عدم مدح المعدوم لاشتماله على معدن كل نقص أعني : العدم ، فإن أصل الممادح والكمالات هو الوجود ، وقد عرا عنه . كما أن الأصوات والروائح لا تمدح بمنع إمكان رؤيتها ، لكونها مقرونة بسمات النقص .
قال : والحق أن امتناع الشيء لا يمتنع التمدح بنفيه ، إذ قد ورد التمدح بنفي الشريك ، ونفي اتخاذ الولد في القرآن ، مع امتناعهما في حقه تعالى . انتهى .
ووافقه حسن حلبي في " حواشي شرح المواقف " ، لكنه أجاب بأن المدح بجهة لا يقتضي الكمال من جهات أخر ، وكذا النقصان من جهة لا ينافي المدح بغيرها . انتهى .
وأجاب قره خليل بوجوه :
الأول -أن مراد ذلك المستدل هو الإلزام على المعتزلة ، لا تحقيق الاستدلال على جواز الرؤية .
الثاني - أن مبنى كلامه على العرف واللغة ، فإن أهلها إذا أرادوا مدح شيء يقولون هذا الشيء مما لا تدركه الأبصار ، أو مما لا تراه العيون ، مع أنها مما تدركه عادة . فهذا القول منهم يدل على إمكان رؤية ذلك الشيء عادة ، بل على وقوعها أيضاً . بخلاف الأصوات والروائح ونحوها ، فإنها ليست مما تدركه الأبصار عادة ، فلا يحسن مدحها بعدم إدراك الأبصار ، أو بعدم رؤيتها . نعم ! إذا أرادوا مدح الأصوات يقولون : لم تسمعها أذن ، وإذا أرادوا مدح الروائح ، يقولون : لم يشمها أنف .
الثالث - إنا قلنا : إن نفي الرؤية في مقام المدح يدل على إمكان الرؤية ، ولم نقل إن نفي كل شيء في مقام المدح يدل على إمكان ذلك الشيء ، حتى يرد علينا النقض بنفي الشريك ، أو بنفي اتخاذ الولد في مقام المدح ، مع أن إمكان المنفي في صورة النقض نقص ينافي الألوهية ، وإمكان المنفي فيما نحن بصدده ليس نقصاً ، بل هو كمال . انتهى .
قال حسن حلبي : إن قيل : يلزم على ثبوت التمدح بنفي الرؤية ، تعززاً وتمنعاً ، أن لا يزول ، لأن زوال ما به التمدح نقص ، فيلزم أن لا يرى في الآخرة . والجواب : أن ذلك فيما يرجع إلى الصفات . والتمدحُ بنفي الرؤية يرجع إلى التمدح بخلق ضدها ، وهو من قبيل الأفعال ، كما أنخلق الرؤية أيضاً منها . انتهى .
وقد بيناه أولاً ، وسيأتي لذلك تتمة شافية إن شاء الله تعالى عند قوله سبحانه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ، مما هو أعظم حجة ، وأوضح برهاناً ، والله الموفق . وقوله تعالى : { وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } أي : يرى جميع المرئيات ، ويبصر جميع المبصرات ، لا يخفى عليه شيء منها { وَهُوَ اللَّطِيفُ } أي : الذي يعامل عباده باللطف والرأفة { الْخَبِيرُ } أي : العليم بدقائق الأمور وجلياتها . وجوز أن تكون الجملة وتعليلاً لما قبلها ، على طريقة اللف ، أي : لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف ، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير . قيل : فيكون : { اللَّطِيفُ } مستعاراً من مقابل الكثيف ، فشبه به الخفيّ عن الإدراك . وهذا بناء على أنه في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم والتحقيق أن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم ، لأن الجسمية يلزمها الكثافة ، وإنما لطافتها بالإضافة ، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق ، الذي يجلّ عن إدراك البصائر ، فضلاً عن الإبصار ، ويعز عن شعور الأسرار ، فضلاً عن الأفكار ، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال ، وينزه عن حلول الألوان والأشكال . فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق ، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ، ويوصف بالنسبة إليه بالكثافة - كذا حققه البهائي قي " شرح الأسماء الحسنى " . وقول الخفاجي : ( اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة ) ، لا يظهر له مناسبة هنا - مدفوعٌ بملاحظة أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ذكر للتخويف ، كما أسلفنا ، وحينئذ يناسب أن يشفع ببيان رأفته ورحمته ، جرياً على سنن الترغيب والترهيب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } [ 104 ]
وقوله تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة . جمع ( بصيرة ) ، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء ، والعلم به . وجوز أن يكون المعنى : قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب ، جمع ( بصيرة ) وهو النور الذي يستبصر به القلب ، كما أن البصر نور تستبصر به العين .
{ فَمَنْ أَبْصَرَ } أي : الحقَّ بتلك البصائر وآمن به : { فَلِنَفْسِهِ } أي : فلنفسه أبصر ، لأن نفعه لها { وَمَنْ عَمِيَ } أي : ضل عن الحق . والتعبير عنه بـ ( العمى ) للتقبيح له ، والتنفير عنه : { فَعَلَيْهَا } أي : فعلى نفسه عمى ، وإياها ضر بالعمى { وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : برقيب يرقبكم ، ويحفظكم عن الضلال ، بل أنا منذر ، والله يحفظ أعمالكم ، ويجازيكم عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 105 ]
{ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ } أي : نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع ، لتكمل الحجة على المخالفين { وَلِيَقُولُوا } في ردها : { دَرَسْتَ } أي : قرأت على غيرك ، وتعلمت منه . وحفظت بالدرس أخبار من مضى . كقولهم : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] .
يقال : درس الكتاب يدرسه دراسة ، إذا أكثر قراءته وذَلَّلَهُ للحفظ . قال ابن عباس : { وَلِيَقُولُواْ } يعني : أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن ( درست ) يعني : تعلمت من يسار وخير ، وكانا عبدين من سبي الروم . ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله ! وقال الفرّاء : معناه تعلمت من اليهود - كذا في " اللباب " - .
وقُرئ : { دَرَسْتَ } بالألف وفتح التاء . أي : دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية . كقولهم : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } [ النحل : 103 ] .
ويُقرأ : { دَرَسْتَ } بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء . أي : مضت وقدمت وتكررت على الأسماع ، كما قالوا : { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [ الأنعام : 25 ] . وهذه القراآت الثلاث متواترة . وقرئ في الشواذ : { دَرَسْتَ } ماضياً مجهولاً . أي : تليت وعفيت تلك الآيات . وقُرئ : { دَرَسْتَ } مشدداً معلوماً . وتشديده للتكثير أو للتعدية . أي : درّست غيرك الكتب . وقُرئ مشدداً مجهولاً . وقُرئ : { دُورست } بضم الراء ، والإسناد للآيات مبالغة في محوه أو تلاوته ، لأن ( فعل ) المضموم للطبائع والغرائز . وقرأ أبيّ رضي الله عنه ( درس ) وفاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم أو الكتاب ، إن بمعنى انمحى . و ( درسن ) بنون الإناث مخففاً ومشدداً . وقُرئ ( دارسات ) بمعنى قديمات ، أو بمعنى ذات درس أو دروس ، كـ : { عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] . وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف . أي : هي دارسات .
{ وَلِنُبَيِّنَهُ } أي : القرآن ، وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً . أو الآيات ، لأنها في معنى القرآن . : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : الحق فيتبعونه ، والباطل فيجتنبونه .
تنبيهان :
الأول -قيل اللام الثانية حقيقية ، والأولى لام العاقبة والصيرورة . أي : لتصير عاقبة أمرهم ، إلى أن يقولوا : درست ، كهي في قوله تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . وهم لم يلتقطوه للعداوة ، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين ، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة . فكذلك الآيات صرّفت للتبيين ، ولم تصرف ليقول : درست . ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات ، كما حصل التبيين ، فشبه به .
قال الخفاجي : وجَوَّزَ أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره ، لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء ، وهداية السعداء . قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] . وقال الرازي : حمل اللام على العاقبة بعيد . لأنه مجاز . وحمله على لام الغرض حقيقية ، والحقيقة أقوى من المجاز . وإن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } قال ومما يؤكد هذا التأويل قوله : { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، يعني : إنا ما بيناه إلا لهؤلاء . فأما الذين لا يعلمون ، فما بينا هذه الآيات لهم ، وإذ لم يكن بياناً لهم ثبت جعله ضلالاً لهم . انتهى .
وقيل : هذه اللام لام الأمر ، ويؤيده أنه قرئ بسكونها ، كأنه قيل : وكذلك نصرف الآيات ، وليقولوا هو ما يقولون ، فإنه لا احتفال بهم ، ولا اعتداء بقولهم . وهم أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم .
وفيه نظر ، لأن ما بعده يأباه ، إذ اللام في ( لنبينه ) نص في أنها لام كي . وأما تسكين اللام في القراءة الشاذة ، فلا دليل فيه ، لاحتمال أنها خففت لإجرائها مجرى كبد ، وكونها معترضة . و ( لنبينه ) متعلق بمقدر معطوف على ما قبله ، وإن صححه لا يخرجه عن كونه خلاف الظاهر - كذا في " العناية " - .
الثاني -قال الشريف قدس سره : أفعاله تعالى يتفرع عليها حكم ومصالح متقنة هي ثمراتها ، وإن لم تكن عللاً غائية لها ، حيث لولاها لم يقدم الفاعل عليها . ومن أهل السنة من وافق المعتزلة في التعليل والغرض الراجع منفعته إلى العباد ، وادعى أنه مذهب الفقهاء والمحدثين .
إذا عرفت هذا ، فاعلم أن حقيقة التعليل والغرض عند أهل السنة بيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل . وأما تفسيره بالباعث الذي لولاه لم يقدم الفاعل على الفعل ، أو عدم اشتراط ذلك ، فهو من تحقيقات المتكلمين ، لا تعلق له باللغة . وأما عند أهل اللغة فهو حقيقة في ذلك مطلقاً ، والفرق بينها وبين لام العاقبة ، أن لام العاقبة ما تدخل على ما يترتب على الفعل وليس مصلحة . وهل يشترط فيها أن يظنه المتكلم غير مترتب أم لا ، حتى يكون في كلامه تعالى من غير حكاية أم لا ، فيه خلاف - كذا في " العناية " - .
ولما حكى تعالى عن المشركين قدحهم في تصريف الآيات ، أتبعه بالأمر بالثبات على ما هو عليه ، تقوية لقلبه ، وإزالة لما يحزنه ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ 106 ]
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } أي : من تبليغ الرسالة ، التي هي الآيات المصرفة ، مبالغة في إلزام الحجة . وقوله : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } اعتراض أكد به إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة من : { رَّبِّكَ } ، بمعنى : منفرداً في الألوهية { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } قال أبو مسلم : أريد بالإعراض الهجران لهم دون الإنذار ، وترك الموعظة . وقال المهايميّ : أي : لا تحزن عليهم إذا أصروا على الشرك والعمى مع هذه البصائر . فإنه تعالى أراد بقاءهم على الشرك والعمى ، لاقتضاء استعدادهم ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ 107 ]
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } أي : مع استعدادهم ، ولكن جرت سنته برعاية الاستعدادات { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : هم وإن كان لهم الاستعداد للإيمان في فطرتهم ، وقد أبطلوه ، فأنت وإن كنت داعياً إلى إصلاح الاستعداد الفطري ، وما جعلناك متولياً عليهم ، تحفظ مصالحهم ، حتى تكون مصلحاً لاستعدادهم الفطري .
{ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } تدبر عليهم أمورهم ، أو تغيرهم من استعدادهم إلى آخر ، بل هو مفوض إلى الله تعالى ، يفعل بهم بمقتضى استعدادهم الطبيعيّ لهم من غير تغيير له ، بل هو مفوّض إلى اختيارهم - أفاده المهايمي - .
تنبيهان :
الأول - في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ } دليل على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر ، لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه ، مع توجهه إليه ، بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه ، لعدم صرف اختياره الجزئي نحو الإيمان ، وإصراره على الكفر . والزمخشريّ يفسره بمشيئة إكراه وقسر ، لأن عندهم مشيئة الاختيار حاصلة البتة . قال النحرير : وهذه عكازته في دفع مذهب أهل السنة .
الثاني - قال القاشاني في تفسير قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ } : أي : كل ما يقع ، فإنما يقع بمشيئة الله ، ولا شك أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك ، وأسباب ذلك ، من تعليم الآباء والعادات وغيرها ، أيضاً واقعة بإرادة من الله ، وإلا لم تقع . فإن آمنوا بذلك فبهداية الله ، وإلا فهوّن على نفسك ، فما جعلناك تحفظهم عن الضلال ، وما أنت بموكل عليهم بالإيمان . ولا ينافي هذا ما قال في تعييرهم فيما بعد بقوله : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } لأنهم قالوا ذلك عناداً ودفعاً للإيمان بذلك التعلل ، لا اعتقاداً . فقولهم ذلك ، وإن كان صدقاً في نفس الأمر ، لكنهم كانوا به كاذبين ، مكذبين للرسول ، إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين أيضاً بإرادة الله ، وكذا كل دين ، فلم يعادوا أحد . ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين ، بل كانوا موحدين . لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد ، وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم ، فلذلك عيرّهم به ، لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر . فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله ، وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق ، لم يرد إيمانهم الآن ، إذ ليس كل منهم مطبوع على القلب ، بدليل إيمان من آمن منهم ، فلم لا يجوز أن يكون بعضهم كانوا مستعدين للإيمان والتوحيد ، واحتجوا بالعادة ، وما وجدوا من آبائهم فأشركوا ، ثم إذا سمعوا الإنذار ، وشاهدوا آيات التوحيد ، اشتاقوا إلى الحق ، وارتفع حجابهم فوحّدوا . فلذلك وبخهم على قولهم ، وطلب منهم الحجة على أن الله أرادهم بذلك دائماً ، وأنذرهم بوعيد من كان قبلهم ، لعل من كان فيه أدنى استعداد ، إذا انقطع عن حجته ، وسمع وعيد من قبله من المنكرين ، ارتفع حجابه ، ولان قلبُه فآمن ، ويكون ذلك توفيقاً له ، ولطفاً في شأنه ، فإن عالم الحكمة يبتني على الأسباب . وأما من كان من الأشقياء المردودين ، المختوم على قلوبهم ، فلا يرفع لذلك رأساً ، ولا يلقي إليه سمعاً . انتهى .
وليكن هذا على بال منك ، فالمقام دقيق جدّاً ، وسيأتي بيانه في الآية الآتية إن شاء الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 108 ]
{ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : لا تذكروا آلهتهم ، التي يعبدونها ، بما فيها من القبائح ، لئلا يتجاوزوا إلى الجناب الرفيع .
روى عبد الرزاق عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فنهوا عنه لذلك . وقال الزجاج : نهوا أن يلعنوا الأصنام التي كانت تعبدها المشركون . انتهى .
فـ : { الَّذِينَ يَدْعُونَ } عبارة عن الآلهة ، والعائد مقدر ، والتعبير بـ : { الَّذِينَ } على زعمهم أنهم من أولي العلم ، أو بناء على أن سبّ آلهتهم سبّ لهم ، كما يقال : ضربُ الداية صفعٌ لراكبها . فإن قيل : إنهم كانوا يقرّون بالله وعظمته ، وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء عنده ، فكيف يسبونه ؟ قلنا : لا يفعلون ذلك صريحاً ، بل يفضي كلامهم إلى ذلك ، كشتمهم له ولمن يأمر بذلك مثلاً . وقد فسر : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } بهذا ، وهو حسن جداً . أو أن الغيظ والغضب ربما حملهم على سب الله صريحاً . ألا ترى المسلم قد تحمله شدة غضبه بالكفر ؟ !
و : { عَدُوّاً } مصدر ، أي : ظلماً وعدواناً ، يقال : عدا عليه عدواً ، كـ ( ضرباً ) ، و ( عدوّاً ) ك ( عتوّ ) ، و ( عداء ) كـ ( عزاء ) ، و ( عدواناً ) كـ ( سبحان ) إذا تعدى وتجاوز ، وهو مفعول مطلق لـ ( تسبوا ) من معناه ، لأن السبب عدوان . أو مفعول له ، أو حال مؤكدة مثل : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } - كذا في العناية - .
تنبيه :
قال ابن الفرس في الآية : إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم ، أن يسبوا الله وأو رسوله أو القرآن ، لم يجز أن يُسَبّوا ولا دينهم . قال : وهي أصل في قاعدة سد الذرائع .
قال السيوطي : وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى . وكذا كل فعل مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن الحَسَن يصير قبيحاً إذا كان يحصل بفعله مفسدة . قال الحاكم : نهوا عن سب الأصنام لوجهين :
أحدهما : أنها جماد لا ذنب لها .
والثاني : أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسبّ الله تعالى .
قال : والذي يجب علينا بيان بغضها ، وأنه لا تجوز عبادتها ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنها لا تستحق العبادة ، وهذا ليس بسبٍّ . ولهذا قال أمير المؤمنين ( يوم صفين ) : لا تسبوهم ، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم . انتهى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : سب الآلهة حق وطاعة ، فكيف صح النهي عنه ، وإنما يصح النهي عن المعاصي ؟ قل : رب طاعة عُلِمَ أنها تكون مفسدة ، فتخرج عن أن تكون طاعة ، فيجب النهي عنها لأنها معصية ، لا لأنها طاعة . كالنهي عن المنكر ، هو من أجل الطاعات ، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية ، ووجب النهي عن ذلك ، كما يجب النهي عن المنكر . فإن قلت : فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة ، فرأى محمد نساءً ، فرجع . فقال الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية ، لأسرع ذلك في ديننا . قلت : ليس هذا مما نحن بصدده ، لأن حضور . الرجال الجنازة طاعة ، وليس بسبب لحضور النساء ، فإنهن يحضرنها ، حضر الرجال أو لم يحضروا . بخلاف سب الآلهة . وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله ، حتى نبه عليه الحسن . انتهى .
ومنه قال بعض مفسري الزيدية : واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة ، سواء فعل الحسن أم لا ، لم يسقط الواجب ، ولا يقبح الحسن . انتهى .
وكذا قال الخفاجي : إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة ، وكانت سبباً لها , وجب تركها . بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية ، لا يمكن دفعها . وكثيراً ما يشتبهان ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء ، وخالفه الحسن للفرق بينهما . انتهى .
قال الرازيّ : وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين ، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب ، لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع ، يكفي في القدح في إلهيتها ، فلا حاجة ، مع ذلك ، إلى شتمها .
{ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } من الأمم الماضية على الضلال : { عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ } أي : بالبعث بعد الموت { فَيُنَبِّئُهُمْ } أي : يخبرهم : { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في الدنيا . وذلك بالمحاسبة والمجازاة عليه . تنبيهات :
الأول - ذهب أهل السنة إلى ظاهر الآية ، من أن المزيَّن للكافر الكفر ، وللمؤمن الإيمان ، هو الله تعالى . وذلك لأن صدور الفعل من العبد يتوقف على حصول الداعي ، ولا بد أن يكون ذلك الداعي بخلق الله تعالى . وقد بسط الرازي ذلك ، وساق تأويلات المعتزلة الركيكة ، فانظره !
الثاني - في قوله تعالى : { فَيُنَبِّئُهُم } الخ وعيد الجزاء والعذاب . كقول الرجل لمن يتوعدة : سأخبرك بما فعلت .
الثالث - فيه نكتة سرية , مبينة على حكمة أبيّة , وهي أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض , فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقة التي بها يظهر في النشأة الآخرة . فإن المعاصي سموم قاتلة , قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة , كما نطقت به هذه الآية الكريمة , وكذا الطاعات , فإنها مع كونها أحسن الأحاسن , قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة , ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : حُفَّت الجنة بالمكاره , وحفت النار بالشهوات . فأعمال الكفرة قد برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة تستحسنها الغواة وتستحبها الطغاة . وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقة المنكرة الهائلة, فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا ؟ فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالأخبار بها , لما أن كلاً منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي . فليتدبر ! -أفاده أبو السعود .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 109 ]
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } مصدر في موضع الحال . أي : أقسموا به تعالى جاهدين في أيمانهم , باذلين في توثيقها طاقتهم : { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } أي : خارق كما اقترحوا, : { لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : أمرها في حكمه وقضائه خاصة , يتصرف بها حسب مشيتئه المبنية على الحكم البالغة , لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته , حتى يمكنني أن أتصدى لا ستنزالها بالاستدعاء . وهذا سدٌّ لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه , ببيان صعوبة منالها , وعلو شأنها - أفاده أبو السعود - .
{ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قرئ : { أَنَّهَا } بالكسر على الاستئناف , والمفعول الثاني محذوف , كأنه قيل : وما يدريكم إيمانهم ؟ ثم أخبرهم بما علم منهم إخباراً ابتدائياً . أو هو جواب سؤال , كأنه قيل : لم وُبِّخوا ؟ فقيل : لأنها إذا جاءت لا يؤمنون ! أو هو مبني على قوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } فإنه أبرز في معرض المحتمل , كأنه سأل عنه سؤال شاكً , ثم علل بقوله لـ : { أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جزماً بالطرف الخالف , وبياناً لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة . وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه . وهذا نوع من السحر البياني , لطيف المسلك , هذا على أن الخطاب للمؤمنين , إذ كانوا يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم . وقيل : هو للمشركين , لقراءة : { لَا تُؤْمِنُونَ } , فيكون فيه التفات . وقرئ : { إِنَّهَا } بالفتح , وعليه فقيل : مقتضى حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين , حذف ( لا ) . وتوضيح ذلك بالمثال أنه إذا قيل لك : أكرم زيداً يكافئك , قلت في إنكاره : ما أدراك أني إذا أكرمته يكافئني ؟ ! فإن قيل : لا تكرمه فإنه لا يكافئك , قلت في إنكار : ما أدراك أنه لا يكافئني ؟ ! تريد : وأنا أعلم منه المكافأة . فمقتضى بحسن ظن المؤمنين بالمشركين أن يقال : وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون , فإثبات ( لا ) يعكس المعنى , إلى أن المعلوم لك الثبوت , وأنت تنكر على من نفى .
وقد وجه الفتح بستة وجوه :
منها - جعل ( لا ) صلة , كقوله : { مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُد } [ الأعراف : 12 ] ، وقوله تعالى : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] ، أي : يرجعون . وضعفّ الزجاج هذا الوجه , بأن ما كان لغوَاً يكون كذلك على جميع التقديرات , وليس كذلك هنا , فإن ( لا ) على قراءة الكسر ليست بصلة . وأجاب الفارسيّ بأنه لم لا يجوز أن يكون لغواً على أحد التقديرين , ومفيداً على التقدير الثاني ؟ انتهى .
ومنها - جعل : { أَنَّ } بمعنى ( لعل ) . قال الخليل : تقول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً , أي : لعلك . فكأنه تعالى قال : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . قال : الواحدي : { أَنَّ } بمعنى ( لعل ) كثير في كلامهم , قال الشاعر :
~أرِيني جَوَاداً ماتَ هَزْلاً لأنني أرَى مَا تَرَيْنَ أو بخيلاً مخلَّدا

وقال عديّ بن حاتم :
~أعاذلَ ما يُدْريكَ أن منيتي إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضُحَى الْغَدِ
ويؤيده أن ( يشعرك ) و ( يدريكم ) بمعنى . وكثيراً ما تأتي ( لعل ) بعد فعل الدراية . نحو : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } [ عبس : 3 ] . وفي مصحف أُبيّ : { وما أدراك لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون } .
ومنها - جعل : { أن } بمعنى هل .
ومنها -جعل الكلام جواب قسم محذوف بناء على أن : { إن } في جواب القسم يجوز فتحها . والذي ارتضاه الزمخشريّ وتبعه المحققون حمل الكلام على ظاهره ، وأن الاستفهام في معنى النفي ، والإخبار بعدم العلم لا إنكار عليهم . والمعنى : وما يدريكم أن الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، يعني : أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وأنتم لا تدرون ذلك .
قال في " الانتصاف " : لما جاءت الآية تفهم ، ببادئ ، أن الله تعالى علم الإيمان منهم ، وأنكر على المؤمنين نفيهم له ، والواقع على خلاف ذلك . اختلف العلماء ( وساق نحو ما قدمنا في الوجوه ) ثم قال : وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها ، من غير حذف ولا تأويل . فقال قوله السالف . ونحن نوضح اطراده في المثال المتقدم ، ليتضح بوجهيه في الآية ، فنقول : إذا حرمت زيداً لعلمك بعدم مكافأته ، فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة ، فلك معه حالتان : حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه ، وحالة تعذره في عدم العلم بما أحطت به علماً . فإن أنكرت عليه قلت : وما يدريك أنه يكافئ ؟ وإن عذرته في عدم علمه بأنه لا يكافئ قلت : وما يدريك أنه لا يكافئ ؟ يعني : ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته ، وأنت لا تخبر أمره خبري . فكذلك الآية إنما ورد فيها الكلام إقامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى ، وهو عدم إيمان هؤلاء . فاستقام دخول ( لا ) وتعين ، وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار بإقامة الأعذار . انتهى .
وفي نفي السبب ، وهو الإشعار ، مبالغة في نفي المسبب ، وهو الشعور .
قال الخفاجيّ : وفي نفي المسبب بهذا الطريق مبالغة ليست في نفيها بدونها ، لأن في الكناية إثبات الشيء ببينة . وفيه تعريض بأن الله عالم بعدم إيمانهم ، على تقدير مجيء الآية المقترحة لهم ، وتنبيه على أنه تعالى لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون . فعدم الإنزال لعدم الإيمان . و ( يشعركم وينصركم ) ونحوه ، قُرئ بضم خالص وسكون واختلاس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 110 ]
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } عطف على ( لا يؤمنون ) ، داخل في حكم ( ما يشعركم ) ، مقيد بما قيد به . أي : وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه . وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه ، لكن لا مع توجهها إليه ، واستعدادها لقبوله ، بل لكمال نبوّها عنه ، وإعراضها بالكلية . ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم ، إشعاراً بأصالبهم في الكفر ، وحسماً لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار -أفاده أبو السعود - .
{ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ } أي : بما جاء من الآيات : { أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها { وَنَذَرُهُمْ } أي : ندعهم : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : يترددون متحيرين ، لا نهديهم هداية المؤمنين .
قال أبو السعود ( ونذرهم ) عطف على ( يؤمنون ) ، داخل في حكم الاستفهام الإنكاريّ ، مقيد به ، مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار ، ومعرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره ، بأن يقلب الله سبحانه مشاعرهم عن الحق ، مع توجههم إليه ، واستعدادهم له بطريق الإجبار ، بل بأن يخليهم وشأنهم ، بعد ما علم فساد استعدادهم ، وفرط نفورهم عن الحق ، وعدم تأثير اللطف فيهم أصلاً ، ويطبع على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادهم ، كما أشرنا إليه . انتهى .
وفي " اللباب " : في الآية دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وأن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه ، فيقيم ما شاء منها ، ويزيغ ما أراد منها . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : < يا مقلب القلوب ! ثبت قلبي على دينك > . انتهى . ثم بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ 111 ]
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ } أي : ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة ، بل نزلنا إليهم الملائكة ، كما قالوا : { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } [ الفرقان : 21 ] .
{ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } كما قالوا : { فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الدخان : 36 ] : { وَحَشَرْنَا } أي : جمعنا : { عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ } من الحيوانات والنباتات والجمادات { قُبُلاً } أي : كفلاء بصحة ما بشروا به وأنذروا : { مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } لغلوهم في التمرد والطغيان { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أي : إيمانهم فيؤمنوا { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } أي : إنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا ، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون . أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات .
قال القاشاني : وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات ، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس ، وإقرار باللسان ، وليس في القلب من معناه شيء ، كإيمان أصحاب السامريّ . والإيمان لا يكون إلا بالجنان ، كما قال تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ و } [ الحجرات : 14 ] .
تنبيهان :
الأول -يُقرأ ( قُبُلاً ) بضم القاف والباء ، وفيه وجهان : أحدهما : هو جمع قبيل بمعنى الكفيل ، مثل قليب وقَلُب ؛ والآخر : أنه مفرد ، كقبل الإنسان ودُبُره . وعلى كلا الوجهين هو حال من كلّ . ويقرأ بالضم وسكون الباء على تخفيف الضمة يقرأ بكسر القاف وفتح الباء ، وانتصابه على الظرفية . كقولهم : لي قبل فلان حق . أو على الحالية ، وهو مصدر ، أي : ومشاهدة .
الثاني - في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى ، حتى الإيمان والكفر . وقد اتفق سلف هذه الأمة ، وحملة شريعتها على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية ، على مشيئة القسر والاضطرار . وإنما يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء . وأما وهو القوة والمتبوع ، فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه ، فإلى النار ، وما بعد الحق إلا الضلال .
ثم سلى تعالى نبيه عما كان يقاسيه من قومه ، بتأسيه بمن سبقه من الأنبياء عليه الصلاة والسلام ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ 112 ]
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ } أي : مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك ، حيث جعلنا لك عدوّاً يضادونك ولا يؤمنون ، جعلنا لكل نبي تقدمك عدوّاً من مَرَدَةَ الإنس والجن ، فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك ، كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِك } [ فصلت : 43 ] . وقال ورقة بن نوفل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لم يأت رجل قط بمثل ما جئتَ به إلا عودي .
{ يُوحِي } أي : يلقي ويوسوس : { بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ } أي : المموه منه ، المزين ظاهره ، الباطل باطنه { غُرُوراً } أي : للضعفاء ، لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب ، وكذا الغابرّين ، ليقهرهم بمقتضى استعدادهم . وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بفعل الله سبحانه وتعالى ، وخلقه .
قال المهايمي : لتظهر الحجج بمجادلتهم ، وترتفع شبهاتهم ، ولئلا يقال إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس ، أو يتواسوا عليهم .
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي : ما فعلوا ذلك ، يعني : معاداة الأنبياء ، وإيحاء الزخارف . وهو أيضاً دليل على المعتزلة { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : من الكفر ، فسوف يعلمون .
ثم عطف على قوله : { غُرُوراً } علة ثانية للإيحاء بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } [ 113 ]
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } أي : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ، ليغرّهم به ، ولتميل إليه : { أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } لمساعدته لهم على أهوائهم { وَلِيَرْضَوْهُ } أي : لأنفسهم بعد ما مالت إليه قلوبهم { وَلِيَقْتَرِفُوا } أي : وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له { مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } أي : من الآثام .
قال القاشاني : فتقوى غوايتهم ، ويتظاهرون ، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل ، ويزدادوا طغياناً وتعدياً على النبي ، فتزداد قوة كماله ، وتهيج أيضاً بسببه دواعي المؤمنين ، والذين في استعدادهم مناسبة للنبيّ ، فتنبعث حميتهم ، وتزداد محبتهم للنبي ، ونصرهم إياه ، فتظهر عليهم كمالاتهم .
لطيفة :
إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة ، دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها ، وهم بها كافرون ، إشعاراً بما هو المدار في صَغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم ، فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره ، وآلامها مزينة بالشهوات ، فالذين لا يؤمنون بها ، وبأحوال ما فيها ، لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ، ودون هذه الشهوات آلاماً ، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادئ الرأي ، فهم مضرون إلى حب الشهوات ، التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ، ومموّهات الأباطيل . وأما المؤمنون بها ، فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ، ناظرين إلى عواقب الأمور ، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات ، لعلمهم ببطلانها ، ووخامة عاقبتها -أفاده أبو السعود - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ 114 ]
وقوله تعالى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } على تقدير القول ، كما في نظائره ، أي : قل لهم : أفغير الله أطلب من يحكم ببيني وبينكم ، ويفصل المحق منّا من المبطل . والمعني : أطلب معبوداً ، لأنه كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم -وهذا عندي أظهر - ثم رأيت في " تنوير المقباس " الاقتصار عليه ، حيث قال : { أَبْتَغِي حَكَماً } أعبد ربّاً . وأما كون الآية واردة على قولهم ( اجعل بيننا وبينك حكماً ) فلا يصح ، لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك .
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ } أي : القرآن المعجز { مُفَصَّلاً } أي : مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وأنتم أمة أمية ، لا تدرون ما تأتون وما تذرون .
وفي الآية مسائل :
الأولى -قال في " الإكليل " : استدل الخوارج بقوله تعالى : { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } على إنكارهم التحكيم . قال : وهو مردود ، فإن التحكيم المنكر أن يريد حكماً يحكم بغير ما حكم الله تعالى . انتهى .
قلت : هذا مبني على الوجه الأول ، وقد عرفت أن الأظهر الوجه الثاني ، فلا استدلال ، ولا ردَّ .
الثانية - قالوا : الحكم أبلغ من الحاكم ، وأدل على الرسوخ ، لما أنه لا يطلق إلى إلا على العادل ، وعلى من تكرر منه الحُكْم ، بخلاف الحاكم .
الثالثة - في الآية تنبيه على أن القرآن الكريم كافٍ في أمر الدين ، مغنٍ عن غيره ، ببيانه وتفصيله .
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين ، ولتصديقه ما عندهم ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم ، ولم يخالط علماءهم . وهذا تقرير لكونه منزلاً من عند الله ببيان أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته ونزوله من عنده تعالى .
{ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي : في أنه منزل من ربك بالحق ، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به ، فيكون من باب التهييج والإلهاب ، كقوله تعالى : { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 14 ] .
قال ابن كثير : هذا كقوله تعالى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ يونس : 94 ] . قال : وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي وقوعه . ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا أشك ولا أسأل > . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 115 ]
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } وقُرئ ( كلمات ربك ) أي : بلغت الغايةَ أخباره وأحكامه ومواعيده : { صِدْقاً } في الأخبار والمواعيد : { وَعَدْلاً } في الأقضية والأحكام .
وقال القاشانيّ : أي : تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم ، وكفر من كفر ، ومحبة من أحب ، وعداوة من عادى ، قضاءً مبرماً ، وحكماً صادقاً ، مطابقاً لما يقع ، عادلاً بمناسبة كل قول وكل كمال وحال ، لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له . انتهى .
{ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل . أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً ، كما فعل بالتوراة . على أن المراد بها القرآن فيكون ضماناً لها منه تعالى بالحفظ ، كقوله : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وقال القاشاني : أي : لا مبدل لأحكامه الأزلية . انتهى .
قال السيوطي في " الإكليل " : يستدل به من قال إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل ، وإنما بدلوا المعنى ، لأن كلمات الله لا تبدل . انتهى - وهو رواية عن ابن عباس - أخرجها البخاري في آخر صحيحه . وبسط المقام في ذلك الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " . وتقدم لنا في سورة البقرة شذرة من هذا البحث ، فجدد به عهداً .
{ وَهُوَ السَّمِيعُ } لما يظهرون من الأقوال : { الْعَلِيمُ } أي : بما يخفون . ثم حذر تعالى من الركون إليهم والعمل بآثارهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ 116 ]
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ } أي : من الناس ، وهو الكفار : { يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : عن الطريق الموصل إله ، بتزيينهم زخارفهم عليك ، ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى ، كما قال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق ، فهم يقلدونهم : { وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه ، كاتخاذ الولد ، وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه ، وتحليل الميتة ، وتحريم البحائر . و ( إنْ ) فيه وفيما قبله نافية . والخرص : الحَزْرُ والتخمين ، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء ، وأصله القول بالظن ، وقول ما لا يستيقن ويتحقق - قاله الأزهري - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ 117 ]
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } تقرير لمضمون الشرطية ، وما بعدها . وتأكيد لما يفيده من التحذير . أي : هو أعلم بالفريقين ، فاحذر أن تكون من الأولين . -أفاده أبو السعود - .
تنبيه :
قال الرازي : تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن ، بسبب كونهم متبعين للظن . والشيء الذي يجعله الله تعالى موجباً لذم الكفار ، لا بد وأن يكون في المعنى في أقصى مراتب الذم . والعلم بالقياس يوجب اتباع الظن ، فوجب كونه مذموماً محرماً . لا يقال : لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة ، كان العمل له عملاً بدليل مقطوع ، لا بدليل مظنون . لأنا نقول : هذا مدفوع من وجوه :
الأول - أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقليّاً ، وإما أن يكون سمعيّاً ، والأول باطل ، لأن العقل لا مجال له في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز ، لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه . والثاني أيضاً باطل لأن الدليل السمعيّ إنما يكون قاطعاً لو كان متوتراً ، أو كانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر ، سوى هذا المعنى الواحد . ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة ، ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة . فحيث لم يوجد ذلك . علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود .
الثاني - هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة ، إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن . وبيانه أن التمسك بالقياس مبنيّ على مقامين : الأول : أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا . والثاني : أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف . فهذان المقامان ، إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين ، فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته . وإن كان مجموعهما ، أو كان أحدهما ظنيّاً ، فحينئذ لا يتم العلم بهذا القياس إلا بمتابعة الظن ، وحينئذ يندرج تحت النص الدالّ على أن متابعة الظن مذمومة . والجواب لِمَ لا يجوز أن يقال : الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة ، وهو مثل اعتقاد الكفار . أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة ، فهذا الاعتقاد لا يسمى ظنّاً ، وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ 118 ]
وقوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال . وذلك أنهم خاصموا المسلمين فقالوا : ما ذبح الله لا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه - أخرجه النسائي عن ابن عباس - فنزلت الآية . والمعنى : كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه ، لرفعه تنجيس الموت إياه المانع من الأكل ، لا مما ذكر عليه اسم غيره ، أو مات حتف أنفه .
{ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ } فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله سبحانه ، واجتناب ما حرمه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } [ 119 ]
قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب . أي : وأي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله ، وما يمنعكم عنه ؟ : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } أي : بيّنه ووضحه .
قال بعض المفسرين : يعني في آية المائدة في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] الآية . وردّ بأن المائدة من آخر ما نزل بالمدينة ، والأنعام مكية . فالصواب أن التفصيل إمّا في قوله تعالى بعد هذه الآية : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } [ الأنعام : 145 ] الآية . فإنه ذكر بعد بيسير ، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد ، وإما على لسان الرسول ، ثم أنزل بعد ذلك في القرآن . و ( فصل ) و ( حرم ) قرئ كل منهما معلوماً ومجهولاً . ومعنى الآية : لا مانع لكم من أكل ما ذكر ، وقد بين لكم المحرم أكله ، وهذا ليس منه .
{ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } أي : مما حرم عليكم . أي : إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة ، فيباح لكم .
{ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ } قُرئ بفتح الياء وضمها : { بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : يضلون فيحرّمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم ، من غير تعلق بشريعة .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } أي : المتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام .
تنبيه :
قال الرازي : دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام ، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة ، والآية دلت على أن ذلك حرام . انتهى .
وقال بعض الزيدية : في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة ، ولكن اتباع الهوى .
ولما بين تعالى أنه فصل المحرمات ، أتبعه بما يوجب تركها بالكلية ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } [ 120 ]
{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ } أي : سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح : { وَبَاطِنَهُ } أي : ما يسّر منه بالقلب كالعقائد الفاسدة ، والعزائم الباطلة . أو ما يعلن من الذنوب وما يسر منها ، ويستتر فيه .
قال السديّ : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات ، وباطنه مع الخليلة والصدائق والأخدان . ولا يخفى أن اللفظ عامّ في كل محرم ، ولذا قال قتادة : أي : سره وعلانيته ، قليله وكثيره ، وصغيره وكبيره . كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } أي : يكتسبون . قال الشهاب : الاقتراف في اللغة الاكتساب ، وأكثر ما يقال في الشر والذنب . ولذا قيل : الاعتراف يزيل الاقتراف وقد يرد في الخير كقوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [ الشورى : 23 ] انتهى .
وقد روى مسلم وغيره عن نواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < البِرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس > .
قال الحاكم : في الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب ، كما يؤاخذ بأفعال الجوارح . أي : على التفسير الأول فيها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ 121 ]
{ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أي : عند ذبحه . أي : بأن ذكر عليه اسم غيره ، يعني : ذبح لغيره تعالى { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } والفسق ما أُهِلَّ لغير الله به ، كما في الآية الآتية آخر السورة . قال المهايمي : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } أي : خروج عن الحسن إلى القبح ، بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ } أي : يوسوسون { إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } أي : من الكفار { لِيُجَادِلُوكُمْ } أي : في تحليل الميتة { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أي : في تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي : لهم مع الله ، فيما يختص به من التحليل والتحريم .
تنبيهات :
الأول - روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى ناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! إنا نأكل ما نقتل ، ولا نأكل ما يقتل الله تعالى ، فأنزل الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ } إلى قوله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . أخرجه أصحاب السنن .
وفي رواية لأبي داود في قوله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } قال : يقولون ما ذبح الله - فلا تأكلوا ، وما ذبحتم أنتم فكلوا ؟ فأنزل الله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } ، فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } .
وعند النسائي قال : خاصمهم المشركون ، فقالوا : ما ذَبَحَ اللهُ لا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه ؟ - كذا في تيسير الوصول .
الثاني -دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح فقيل : باسم الله ، بهذا اللفظ الكريم . وقيل بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن ، وسائر أسمائه الحسنى ، لقوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن } [ الإسراء : 110 ] ، ولقوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] .
الثالث -ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها ، لقوله تعالى بعد : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } ومراعاة النظائر في القرآن أولى ما يلتمس به المراد .
وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال : نزلت عي ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان ، وذبائح المجوس . وقد حاول بعضهم أن يقويه فجعل الواو في قوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } حالية ، لقبح عطف الخبر على الإنشاء . قال : والمعنى : لا تأكلوه حال كونه فسقاً . والفسق مجمل يفسره قوله : { أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } ، فيكون النهي مخصوصاً بما أهل لغير الله به ، فيبقى ما عداه حلالاً ، إما بالمفهوم ، أو بعموم دليل الحل ، أو بحكم الأصل . واعترض على هذا الحمل بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة ، مع أنه سبب النزول ، وبأن التأكيد بـ ( إن ) و ( اللام ) ينفي كون الجملة حالية ، لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه البتة ، والرد على منكر تحقيقاً أو تقديراً ( على ما بين في المعاني ) ، والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير ، كأنه قيل : لا تأكلوا منه إن كان فسقاً ، فلا يحسن ( وإنه لفسق ) بل ( وهو فسق ) وأجيب عن الأول بأنه دخل بقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : { مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } وبقوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ } . . . الخ الميتة ، فيتحقق أن هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب ، أو مات حتف أنفه . وعن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال لغير الله ، كان التأكيد مناسباً ، كأنه قيل : لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق ، والمشركون ينكرونه - كذا في " العناية " - .
ومما يقويه أيضاً قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } على أن المراد به الخروج عن طاعة الله تعالى ، وهو وجه ثان فيه ، وقوله تعالى : { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } فإن من أكل الميتة ، أو ما على النصب فسق ، ومع ، الاستحلال يكفر ، بخلاف ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه ، فإن آكله لا يفسق ولا يكفر إجماعاً -أشار له الرازيّ - وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمداً أو سهواً .
وقد روى أبو داود في " مراسيله " عن الصلت السدوسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكره ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله > .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطنيّ عن ابن عباس أنه قال : < إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله ، فليأكل ، فإن المسلم في اسم من أسماء الله تعالى > .
واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ، فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهدٍ بكفر - رواه البخاري والنسائي - قال : فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها . وكذا قال الخطابي : فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة ، لأنها لو كانت شرطاً لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه ، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة ، فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أم لا ؟ وهذا هو المتبادر من سياق الحديث ، حيث وقع الجواب فيه : ( سموا أنتم ) ، كأنه قيل لهم : لا تهتموا بذلك ، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا . وهذا من الأسلوب الحكيم . ومما يدل أيضاً قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } [ المائدة : 5 ] فأباح الأكل من ذبائحهم ، مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا . هذا ، وقد تمسك بظاهر الآية قوم فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلماً ، عمداً تركت التسمية أو نسياناً . واحتجوا أيضاً بقوله تعالى في آية الصيد : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] ، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عديّ بن حاتم وأبي ثعلبة : < إذا أرسلت كلبك المعلَّم ، وذكرت اسم الله فكل > ، وهما في الصحيحين .
وحديث رافع بن خديج : < ما أنهر الدم وذُكِر اسمُ الله فكلوه > -في الصحيحين أيضاً - . وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجنّ : < لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه > -رواه مسلم - .
وحديث جُنْدب بن سفيان البجليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من ذبح قبل أن يصلي ، فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا ، فليذبح باسم الله > -أخرجاه .
قالوا : ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية ، والمعلق بالوصف ينتفي هند انتفائه ، عند من يقول بالمفهوم . والشرط أقوى من الوصف .
واحتجوا أيضاً بحديث عائشة المتقدم ( سموا عليه أنتم وكلوا ) . قالوا : إن القوم فهموا أن التسمية لا بد منها ، وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك ، لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عن الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح ، إن لم تكن وجدت . أي : فتسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا أَذَكَرُوا اسم الله عليه أم لا ، إذا كن الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمّى . قالوا : ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة ، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين ، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية . انتهى .
وأجاب من حمل الآية على الوجه الأول ؛ بأن الأمر في حديث عديّ وأبي ثعلبة محمول على التنزيه ، من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية ، فعلمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح ، فرضه ومندوبه ، لئلا يوافقا شبهة في ذلك ، وليأخذا بأكمل الأمور . وأما الذين سألوا عن تلك الذبائح ، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع لغيرهم ، فعرّفهم بأصل الحل فيه .
وقال ابن التين : يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل ، وبذلك جزم النووي .
وأما التسمية على ذبحٍ تولاه غيرهم ، فلا تكلف عليهم فيه ، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها .
وقال المهلب : هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضاً . فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح ، دل على أنها سنة ، لأن السنة لا تنوب عن فرض . انتهى .
وذهب بعض من اشترط التسمية في الحل إلى جواز أكل ما تُرِكَتْ عليه سهواً لا عمداً . واحتج بما رواه البيهقيّ عن ابن عباس مرفوعاً : < المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله > . قال الحافظ ابن كثير : وَرَفْعُهُ خطأ والصواب وقفه على ابن عباس ، من قوله . نص عليه البيهقيّ . واحتج أيضاً بالحديث المرويّ من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعقبة بن عامر وعبد الله بن عَمْرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه > .
ورواه الطبراني عن ثوبان مرفوعاً بلفظ : < رفع عن أمتي الخطأ . . . > . الحديث .
وروى ابن عدي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! أرأيتَ الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < اسم الله على كل مسلم > . قال ابن كثير : وإسناده ضعيف .
وقد علمت الأظهر في تأويل الآية أولاً - والله أعلم - .
الرابع - قال ابن جرير : اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نُسِخ من حُكمها شيءٌ أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء ، وهي محكمة فيما عُنِيَتْ به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم .
وروي عن الحسن البصري وعكرمة أنه تعالى نسخ من هذه الآية واستثنى قوله : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } . وروى ابن أبي حاتم عن مكحول أيضاً أنه تعالى نسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب .
قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله صحيح . ومن أطلق نم السلف النسخ ههنا ، فإنما أراد التخصيص . انتهى .
وقد قدمنا في المقدمة أنه علم من استقراء كلام الصحابة والتابعين أنهم كانوا يستعلمون النسخ بإزاء المعنى اللغويّ ، الذي هو إزالة شيء بشيء ، لا بإزاء مصطلح الأصوليين . فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى . إما بانتهاء مدة العمل ، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غيره ، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقياً ، أو تخصيص عام ، وغير ذلك مما أسلفنا ، فتذكر !
الخامس - قال الزجاج : في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله تعالى ، أو حرم شيئاً مما أحل الله تعالى ، فهو مشرك . وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى . وهذا هو الشرك . انتهى .
وقال ابن كثير : { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدّمتم عليه غيره ، فهذا هو الشرك . كقوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] . . . الآية . وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عديّ بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ! ما عبدوهم . قال : إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم . فذاك عبادتهم إياهم . انتهى .
السادس - قال الكعبي : الآية حجة على أن ( الإيمان ) اسم لجميع الطاعات ، وإن كان معناه في اللغة التصديق ، كما جعل تعالى ( الشرك ) اسماً لكل ما كان مخالفاً لله تعالى ، وإن كان في اللغة مختصاً بمن يعتقد أن لله شريكاً ، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين ، في إباحة الميتة ، شركاً .
وتعقبه الرازي ؛ بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكاً في الحكم والتكليف ؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط . انتهى .
ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر ، لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين ، إثر تحذيرهم عنها ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 122 ]
{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } مثل به من هداه الله بعد الضلالة ، وبصّره بنور الحجج والآيات ، يتأمل بها في الأشياء ، فيميز بين الحق والباطل ، والمهتدي والضالّ ، بمن كان ميتاً فأعطاه الحياة ، وما يتبعها من القوى المدركة والمحرِّكة . ومن بقي على الضلالة ، بالخابط في الظلمات ، لا ينفك منها ، ولا يتخلص ، فهو متحيّر على الدوام { كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك التزيين البليغ : { زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من فنون الكفر والمعاصي ، ولذا جادلوا بها الحق ، وأصروا عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 123 ]
و قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم . أي : كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل ، وستر الحق - جعلنا في كل قرية ، أرسلنا إليها الرسل ، أكابرها المجرمين ، متصفين بصفات المذكورين ، مزيناً لهم أعمالهم ، مصرين على الباطل ، مجادلين به الحق ، ليفعلوا المكر فيها على أتباعهم بالتلبيس ، ليتركوا متابعة الرسل .
قال ابن كثير : المراد بـ ( المكر ) ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال ، كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح : { وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً } [ نوح : 22 ] ، وكقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً } [ سبأ : 31 - 33 ] الآية .
وقال الزمخشري : خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال ، والماكرون بالناس ، كقوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } [ الإسراء : 16 ] .
{ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : ما يضرون بمكرهم إلا أنفسهم ، لأن وباله يحيق بهم ، كما قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] . وقال : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] . قال الزمخشري : هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقديم موعد بالنصرة عليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } [ 124 ]
{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } أي : برهان وحجة قاطعة : { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } أي : من الوحي والمعجزات المصدقة له . كقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] الآية .
وقوله قوله سبحانه : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً } [ المدثر : 52 ] .
{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } كلام مستأنف للإنكار عليهم ، وأن لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها ، فيليق للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيره انكشافه له ، لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم .
وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم ، إسماعيل . واصطفى من بني إسماعيل ، بني كنانة . واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش ، بني هاشم . واصطفاني من بني هاشم > . وانفرد بإخراجه مسلم أيضاً .
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وَدَاعَة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فريقين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل ، فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتاً ، فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً > .
{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ } أي : ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم : { عِنْدَ اللَّهِ } أي : يوم القيامة ، جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره بردّ آياته ورسالته ، واعتراضهم عليه في تخصيصه بالرسالة غيرهم { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } يعني : في الآخرة { بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } في الدنيا إضراراً بالأنبياء .
قال ابن كثير لما كان المكر غالباً ، إنما يكون خفياً ، وهو التلطف في التحليل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة ، جزاء وفاقاً . ولا يظلم ربك أحداً . وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان > .
والحكمة في هذا ، أنه لما كان الغدر خفيّاً لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير عَلَماً منشوراً على صاحبه بما فعل . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 125 ]
{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ } أي : للتوحيد : { يَشْرَحْ } أي : يوسع : { صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } بتصقيله بنور الهداية ، فيقبل نور الحق ، كما قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] .
روى عبد الرزاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره ؟ قال : نور يقذف فيه فينشرح . قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت . ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم . قال ابن كثير : وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً .
{ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } أي : شديد الضيق ، فلا يتسع للاعتقادات الصائبة في الله ، والأمور الأخروية .
قال أبو البقاء : حرجاً ( بكسر الراء ) صفة لـ ( ضيّقاً ) ، أو مفعول ثالث ، كما جاز في المبتدأ أن تخبر عنه بعدة أخبار . أو يكون الجميع في موضع خبر واحد ( حلو حامض ) . وعلى كل تقدير ، هو مؤكد للمعنى . يقرأ بفتح الراء ، على أنه مصدر . أي : ذا حرج . وقيل : هو جمع حَرَجَة ، مثل قصبة وقصب ، والهاء فيه للبالغة . انتهى .
وقوله تعالى : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } أي : يتكلف الصعود في جهة السماء ، وطبعة يهبط إلى الأرض ، فشبه ، للمبالغة في ضيق صدره ، بمن يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثلٌ فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة ، وتضيق عنه المقدرة . وقيل : معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوّاً عن الحق ، وتباعداً في الهرب منه . وأصل ( يصعد ) يتصعد من ( الصعود ) .
{ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } في الاعتقادات والأخلاق . والرجس ما استقذر من العمل ، وسمي بذلك مبالغة في ذمه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [ 126 ]
{ وَهَذَا } أي : البيان الذي جاء به القرآن ، أو طريق التوحيد ، وإسلام الوجه إلى الله : { صِرَاطُ رَبِّكَ } أي : طريقه الذي ارتضاه : { مُسْتَقِيماً } لا ميل فيه إلى إفراط وتفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال . أو لا اعوجاج فيه إلى النظر إلى الغير والشرك به .
{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي : المعارف والحقائق التي هي مركزة في استعداهم ، فيهتدوا بها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 127 ]
{ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ } أي : السلامة من المكاره ، وهو الجنة ، لكونهم في مقام القرب : { عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } يتولاهم بمحبته ، ويجعلهم في أمانة { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } [ 128 ]
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } أي : اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم ، وتنذرهم به ، يوم تحشرهم جميعاً ، يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ، ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً .
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ } أي : نقول : يا معشر الجن ! يعني : الشياطين . قال المهايمي : خصمهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر { قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ } أي : من إغوائهم وإضلالهم . أو منهم ، بأن جعلتموهم أتباعكم ، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية ، واللذات الجسمانية عليهم ، ووسوستكم لهم بالمعاصي ، فحشروا معكم . وهذا بطريق التوبيخ والتقريع . : { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ } أي : الذين أطاعوهم وتولوهم : { مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } قال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت ، وعلمت الإنس . أي : فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت ، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة ، على اللذات الغائبة : { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } أي : بالموت ، أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة ، وأسوأ عيش .
قال أبو السعود : قالوا اعترافاً بما فعلوا من طاعة الشياطين ، واتباع الهوى ، وتكذيب البعث ، وإظهاراً للندامة عليها ، وتحسراً على حالهم ، واستسلاماً لربهم . ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين ، للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً .
{ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي : منزلكم ، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين .
{ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } قال القاشاني : أي : إلا وقت مشيئته أن تخفف ، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركاً راسخاً في اعتقاده .
وقال المهايمي : أي : إلا وقت مشيئته أن ينقلكم منها إلى الزمهرير ، انتقالكم من شهوة إلى أخرى .
وقال الزمخشري : أي : يخلدون في عذاب النار ، الأبَد كلَّه ، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير . فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم . أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه : أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت . وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد . فيكون قوله ( إلا إذا شئت ) من أشد الوعيد ، مع تهكم بالموعد ، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع . انتهى .
قال الخفاجيّ : لما كان الخطاب للكفرة ، وهم لا يخرجون من النار ، لأن ما قبله بيان حالهم ، فيعبد جعلهم شاملاً للعصاة ، ليصح الاستثناء باعتباره ، مع أن استعمال ( ما ) للعقلاء قليل - وَجَّهُوه ُبأن المراد النقل من النار إلى الزمهرير ، أو المبالغة في الخلود ، بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله ، وهو مما لا يكون مع إبرازه في صورة الخروج وإطماعهم في ذلك تهكماً وتشديداً للأمر عليهم . و ( ما ) مصدرية وقتية . أو إن المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول . وردَّ الأول بأن فيه صرف النار من معناها العلميّ ، وهو دار العذاب ، إلى اللغوي . وأجيب عنه بان لا بأس بالصرف إذا دعت إليه ضرورة . وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة ، لإمكان غير ذلك التأويل . مع أن قوله : { مَثْوَاكُمْ } يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر . وردّ الأخير أبو حيّان بأن في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج ، والمخرج منه ، فإذا قلت : قام القوم إلا زيداً ، فمعناه : إلا زيدا ما قام . ولا يصح أن يكون المعنى : إلا زيداً ما يقوم في المستقبل . وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً ، معناه : إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل ، ولا يصح أن يكون المعنى : إلا زيداً فإني ما ضربته قبل ، إلا إذا كان استثناء منقطعاً ، فإنه يسوغ ، كقوله : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } . فإنهم ذاقوها . ولك أن تقول : إن القائل بل يلتزم انقطاعه ، كما في الآية التي ذكرها ، ولا محذور فيه ، مع ورود مثله في القرآن ، وفيه نظر . وقيل : إنه غفلة عن تأويل الخلود بالأبد ، والأبد لا يقتضي الدخول . انتهى .
وقال الناصر في " الانتصاف " : قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتاً قطعيّاً ، فمن ثم اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية ، وفي أختها في سورة هود . فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار ، والمستثنى العصاة ، لأنهم لا يخلدون -وقد علمت بُعْدَه - .
ثم قال : وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب ، أي : مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء . وفائدته إظهار القدرة ، والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه ، وكان الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ، ولو عذبهم لا يخلدهم ، وإن ذلك ليس بأمر واجب عليه ، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل . وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة ، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك .
وذهب الزجاج إلى وجه لطيف ، إنما يظهر بالبسط فقال : المراد -والله أعلم -إلا ما يشاء من زيادة العذاب . ولم يبين وجه الاستثناء . والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم ، ونحن نبيّنه فنقول : العذاب -والعياذ بالله -على درجات متفاوتة ، كأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية ، وتنتهي إلى أقصى النهاية ، حتى تكاد لبلوغها الغاية ، ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة ، تعدّ ليس من جنس العذاب ، وخارجة عنه . والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد ، كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل بـ ( رب ) و ( قد ) ، وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة ، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب . وقد حام أبو الطيب حوله فقال :
~لقد جدتَ حتى كاد يبخل حاتم للمنتهى ومن السرور بكاء
فكأن هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ، ونهاية الشدة ، فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق ، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير . وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط .
وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه ما يؤيده . انتهى .
وفي الآية تأويلات أخر :
منها : ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوماً قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبيّ صلى الله عليه وسلم . وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكيّ ، وأن ( ما ) بمعنى ( من ) .
ومنها : أنهم يفتح لهم أبواب الجنة ، ويخرجون من النار ، فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم . وهو معنى قوله : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] . قال الشريف المرتضى في " الدرر " : فإن قيل : أي : فائدة في هذا الفعل ، وما وجه الحكمة فيه ؟ قلنا : وجه الحكمة فيه ظاهر ، لأن ذلك أغلظ على نفوسهم ، وأعظم في مكروههم ، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة . لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه ، واشتد حرصه على ذلك ، ثم حيل بينه وبين الفرج ، وردّ إلى المكروه ، يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه - كذا في " العناية " - .
ومنها : إن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار . أي : إلا وقت مشيئته فناءَها ، وزوال عذابها .
قال السيوطي في " الدار المنثور " : أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر رضي الله عنه : لو لبث أهل النار في النار ، كقدر رمل عالج ، لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه . وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن أيضاً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم . انتهى . وقد انتصر لهذا القول جماعة . قالوا : وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج , وأن عذابها مقيم , كله حق مسلم لا نزاع فيه . وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقين , وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد , ففرق بين من يخرج من الحبس , وهو حبس على حاله , وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه . وقد بسط البحث في ذلك وجوده الإمام ابن القيم في كتابه " حادي الأرواح " , ومع كونه انتصر لهذا القول انتصاراً عظيماً , وذكر له خمسة وعشرين دليلاً , لم يصححه , حيث قال : أما أبدية الجنة , وأنها لا تفنى ولا تبيد , فمما يعلم بالاضطرار , ولم يقل بفنائها أحد . ومن قال به - كالجهمية -فهو ضال مبتدع منحرف عن الصواب وليس له في ذلك سلف . وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف , والأصح عدم فنائها أيضاً . انتهى .
وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا المقام في آية هود .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه . لا ينزلهم جنة ولا ناراً .
{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } فلا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة { عَلِيمٌ } أي : بمن يعذب بكفره ، فيدوم عذابه . أو بسيئات أعماله ، فيعذب على حسبها ، ثم ينجو منه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ 129 ]
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ } أي : من الإنس : { بَعْضاً } أي : نجعلهم بحيث يتولونهم بالإغواء والإضلال ، كما فعل الشياطين وغواة الإنس { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي .
قال الرازي :
لأن الجنسية علة الضم . فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث . وكذا القول في الأرواح الطاهرة ، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : الآية معنى حديث < كما تكونون يولَّى عليكم > ، أخرجه بن قانع في معجم الصحابة من حديث أبي بكرة . انتهى .
وأسند في " الجامع الصغير " تخريجه إلى الديلميّ في " الفردوس ) " عن أبي بكرة وإلى البيهقيّ ، عن أبي إسحاق السبيعيّ مرسلاً -ورمز له بالضعف - .
وأسند في " الدر المنثور " عن منصور بن الأسود قال : سألت الأعمش عن قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً } ما سمعتَهم يقولون فيه ؟ قال : سمعتُهم يقولون : إذا فَسَدَ الناسُ أُمِّرَ عليهم شرارهم .
وأخرج نحوه عن مالك بن دينار وكعب والحسن .
قال أبو الليث السمرقندي في " تفسيره ) " : ويقال في معنى الآية : نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذلّه . قال : وهذا كلام لتهديد الظالم ، لكي يمتنع عن ظلمه . ويدخل في الآية جميع من يظلم : من راع في رعيته ، وتاجر في تجارته ، وسارق ، وغيرهم .
قال الفضيل بن عياض : إذا رأيت ظالماً يَنتقم من ظالم ، فقف وانظر فيه متعجباً . انتهى .
وقال ابن كثير : معنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض ، جزاء على ظلمهم وبغيهم .
ثم بين تعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة ، إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم ، وأَعْلَمَ أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل ، فيشهدون على أنفسهم بالكفر ، وأنهم لم يعذبوا إلا بالحجة ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ 130 ]
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أي : في الدنيا : { رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } بالأمر والنهي : { وَيُنْذِرُونَكُمْ } يخوفونكم : { لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال { قَالُوا } يعني الجن والإنس { شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أي : أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم ، وبتكذيب دعوتهم ، كما فصِّل في قوله تعالى : { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 9 ] . : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : ما فيها من الزهرة والنعيم ، وهو بيان لما أداهم في الدنيا إلى الكفر : { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : في الآخرة . قال المهايميّ : بعد شهادة جوارحهم : { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } أي : في الدنيا بما جاءتهم الرسل .
تنبيهات :
الأول - استدل بقوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } من قال إن الله بعث إلى الجن رسلاً منهم . وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مُزَاحم ، والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول ، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط . نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة ، من السلف والخلف .
قال ابن عباس : الرسل من بني آدم ، ومن الجن نُذُرٌ . وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها مضافاً . أي : من أحدكم ، وهم الإنس . أو من إضافة ما للبعض للكل ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرجان من أحدهما ، وهو الملح دون العذب . وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله : { مَرَجَ الْبَحْرَيْن } [ الرحمن : 19 ] ، وهو جائز في كل ما اتفق في أصله . فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز ، مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين ، وهم الإنس . وهذا قول الفراء والزجاج .
وقال أبو السعود : المعنى : ألم يأتكم رسل من جملتكم ، لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً ، بل من الإنس خاصة . وإنما جعلوا منهما ، إما لتأكيد وجوب اتباعهم ، والإيذان بتقاربهما ذاتاً ، واتحادهما تكليفاً وخطاباً ، كأنهما من جنس واحد . ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر . وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل . وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن ، وأنذروا به قومهم ، حيث نطق به قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } [ الأحقاف : 29 ] إلى قوله تعالى : { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] . انتهى .
وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب من جنّ عصره فيسمعون كلامهم ، ويأتون قومهم من الجن ، ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل ، وينذرونهم به . وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه فقال : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْن } [ يس : 14 ] وتحقيق القول فيه : أنه تعالى إنما بكّت الكفار بهذه الآية ، لأنه تعالى أزال العذر ، وأزاح العلة ، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين . فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق ، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر ، وإزالة العلة ، فكان المقصود حاصلاً -كذا قرره الرازيّ - .
قال الحافظ ابن كثير : والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } [ النساء : 163 ] إلى قوله تعالى : { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] . وقوله تعالى عن إبراهيم : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته . ولم يقل أحد : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم ، ثم انقطعت عنهم ببعثته . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق } [ الفرقان : 20 ] . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] . ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب . انتهى .
الثاني - إن قيل : ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر ، وجحدوه في قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ؟ قلنا : يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة ، فتارة يقرّون ، وأخرى يجحدون . وذلك يدل على شدة خوفهم ، واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه ، كثر اضطراب في كلامه - أفاده الرازيّ .
زاد الزمخشري : أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم .
الثالث - إن قيل : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم ؟ أجيب : بأن الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون ؛ والثانية ذم لهم ، وتخطئة لرأيهم ، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم ، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا ، واللذات الحاضرة ، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه . وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم - كذا في " الكشاف " - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ 131 ]
وقوله تعالى : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } إعلام بأنه تعالى أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتبيين الآيات ، وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد . وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه ، وهم لا
تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه ، وينبههم على بطلانه ، لأنه ينافي الحكمة . وجوز في ذلك أن يكون خبراً لمحذوف . أي : الأمر ذلك . أو مبتدأ وخبره محذوف . أي : كما ذكر . أو خبره : { أَن لَّمْ يَكُن } . . . الخ . والمشار إليه إتيان الرسل ، أو ما قص من أمرهم ، أو السؤال المفهوم من قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } . واستظهر أبو السعود أن الإشارة إلى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، واستيجاب العذاب ، وأنه مبتدأ خبره ما بعده ، وأن ( أنْ ) مصدرية ، و ( اللام ) مقدرة قبلها . أو مخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و : { بِظُلْمٍ } متعلق بـ : { مَهْلِكَ } . أي : بسبب ظلم ، أو بمحذوف حالاً من ( الْقُرَى ) ، أي : متلبسة بظلم . والمعنى : ذلك ثابت لانتفاء كون ربك ، أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول .
تنبيه :
في الآية دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة ، ولا حكم للعقل . كقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [ 132 ]
{ وَلِكُلٍّ } أي : من المكلفين : { دَرَجَاتٌ } أي : مراتب : { مِمَّا عَمِلُوا } أي : من أعمالهم ، يبلغونها ويثابون بها ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر . واستدل بها ، على هذا التأويل ، بأن الجن يدخلون الجنة ويثابون .
قال ابن كثير : ويحتمل أن يعود قوله : { وَلِكُلٍّ } لكافري الجن والإنس . أي : ولكلٍّ درجة في النار بحسبه ، كقوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] [ في المطبوع : الأنعام : 14 ] .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ 133 ]
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ } عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم : { ذُو الرَّحْمَةِ } أي : يترحم عليهم بالتكليف ، تكميلاً لهم ، ويمهلهم على المعاصي . وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه سبحانه ، بل لترحمه على العباد ، وتمهيد لقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } أي : من الخلق يعملون بطاعته : { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } ذهب بهم ثم بذريتهم ، لكنه أبقاكم ترحماً عليكم . وهذا كقوله تعالى : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [ 134 ]
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } أي : من البعث وأحواله : { لَآتٍ } أي : لكائن لا محالة : { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين يعجز عنكم . وهذا ردٌّ لقولهم : من مات فقد مات . أي : هو قادر على إعادتكم ، وإن صرتم رفاتاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ 135 ]
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : على غاية تمكنكم واستطاعتكم . يقال : مكن مكانة ، إذا تمكن أبلغ التمكن . أو على جهتكم وحالتكم ، من قولهم : مكان ومكانة ، كمقام ومقامة . والمعنى : اثبتوا على كفركم { إِنِّي عَامِلٌ } أي : ما أمرت به من الثبات على الإسلام { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } أي : التي بنيت لعبادته تعالى وحده ، دون غيرهم ، - هل تكون للعدل الذي يضع العبادة في موضعها ، أو للظالم بوضعها في غير موضعها . والراد بالدار ، الدنيا . وبالعاقبة ، العاقبة الحسنى . أي : عاقبة الخير ، لأنها الأصل ، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة ، وقنطرة المجاز إليها .
{ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : الكافرون . ووضع الظلم موضع الكفر ، إيذاناً بأن امتناع الفلاح يترتب على أي : فرد كان من أفراد الظلم ، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده ؟
لطائف :
في إيراد التهديد بصيغة الأمر ، أعني : قوله : { اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } مبالغة في الوعيد ، كأن المهدِّد يريد تعذيبه ، مجمعاً عليه ، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه . وتسجيل بأن المهدَّد لا يتأتى منه إلا الشر ، كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصّى عنه .
وفي قوله تعالى : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } مع الإنذار ، إنصاف في المقال ، وحسن الأدب ، حيث لم يقل ( العاقبة لنا ) وفوض الأمر إلى الله . وهذا من الكلام المنصف ، كقوله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق .
وفيه تبشير بأن العاقبة له .
قال ابن كثير : وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه ، فمكن له في البلاد ، وحكّمه في نواصي مخالفيه من العباد ، وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب ، وكذلك اليمن والبحريْن ، وكل ذلك في حياته . ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته ، في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين . كما قال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] . وقال : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 51 - 52 ] وقال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ إبراهيم : 13 - 14 ] ، وقال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [ النور : 55 ] . وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة ، وله الحمد والمنة .
ثم بين تعالى نوعاً من جهالات مشركي مكة وضلالاتهم ، وهو ترجيحهم جانب الأصنام على جانبه سبحانه ، بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ 136 ]
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } أي : خلق : { مِنَ الْحَرْثِ } أي : الزرع : { وَالْأَنْعَامِ نَصِيباْْْ } يصرفونه إلى الضيفان والمساكين . أي : ولأصنامهم يصيباً يصرفونه إلى التنسك والسدنة . وإنما لم يذكر اكتفاء بما بعده .
{ فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ } بالفتح والضم ( وقال الشهاب : الزعم مثلث كالودّ ) . أي : هذا مستقر له الآن , من غير استقرار له في المستقبل العارض { وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا } وهو مستقر لهم , بل يستقر لهم ما ليس لهم أيضاً ,فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه , أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه كما قال تعالى : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ } أي : عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله . أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين { وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } أي : عند نماءه أو سقوطه فيما هو للأصنام , أو هلاك مالها , فينفقون عليها , بذبح نسائك عندها , والإجراء على سدنتها , ونحو ذلك . وعللوا ذلك بأن الله غني , وهي محتاجة : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ما يقسمون , لأنهم أولاً عملوا ما لم يشرع لهم , وضلوا في القسم . لأنه تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه , لا إله غيره ,ولا رب سواه . ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة , لم يحفظوها , بل جاروا فيها , إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية سفهاً .
وقال المهايني : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله , بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته , وعدم صلاحيتها للإلهية مع الحاجة .
وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير .
فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً, أو كانت لهم ثمرة , جعلوا لله منه جزءاً , وللوثن جزءاً, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه . وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد , رَدّوه إلى ما جعلوه للوثن , وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن , فسقى شيئاً جعلوه لله , جعلوا ذلك للوثن . وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله , فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا : هذا فقير , ولم يردوه إلى ما جعلوه لله , فسقى ما سمِّي للوثن تركوه للوثن , وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . فيجعلونه للأوثان , ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى , فقال تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ } . . . الآية .
قال ابن كثير : وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدّي وغير واحد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ 137 ]
{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } أي : مثل ذلك التزيين , وهو تزيين الشرك في القسمة المتقدمة , زين لهم أولياؤهم من الشياطين ما هو أشد منه قبحاً في باب القربان , وهو قتل أولادهم خشية الإملاق , ووأد البنات خشية العار, وإنما سميت الشياطين شركاء , لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل أولادهم , فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم , : { لِيُرْدُوهُمْ } أي : يهلكوهم بالشرك وقتل الولد . من ( الإرداء . وهو, لغة , الإهلاك ) , : { وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } أي : ليخلطوا عليهم ما هم عليه , بدين إبراهيم في ذبح إسماعيل عليهما السلام . أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به ، لأنهم كانوا على دين إسماعيل . فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } أي : فلا تحزن على هلاكهم بما يفعلونه ، لأنه بمشيئة الله { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : لأن له فيما شاءه حكماً بالغة : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ آل عِمْرَان 178 ] ، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .
تنبيه :
{ شُرَكَآؤُهُمْ } فاعل : { زَيَّنَ } أُخِّر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدَّم ، واهتماماً به ، لأنه موضع التعجب ، لأنهم يقدمون الأهمَّ ، والذين هم بشأنه أَعْنَى . وقرأ ابن عامر وَحْدَهُ : { زُيِّن } على البناء للمفعول الذي هو القتل ، ونصب الأولاد ، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه ، مفصولاً بينهما بمفعوله . وقد زيف الزمخشريّ ، عفا الله عنه ، هذه القراءة ، وعد ذلك من كبائر كشافه : حيث قال : وأما قراءة ابن عامر ، فشيء لو كان في مكان الضرورات ، وهو الشعر ، لكان سمجاً مردوداً ، كما سمج ورُدَّ :
~زَجَّ الْقَلُوصَ أبي مَزَادَهْ
فكيف به في الكلام المنثور ؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته ؟ قال : والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف : { شُرَكَآئِهِمْ } مكتوباً بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء -لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب . انتهى . قال الناصر في " الانتصاف " : لقد ركب الزمخشريّ متن عمياء ، وتاه في تيهاء ، وأنا أبرأ إلى الله ، وأبرئ حملة كتابه ، وحفظة كلامه ، مما رماهم به ، فإنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة ، اختار كل منهم حرفاً قرأ به اجتهاداً ، لا نقلاً وسماعاً ، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه ، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في ( شركائهم ) ، فاستدل بذلك على أنه مجرور ، وتعين عنده نصب ( أولادهم ) بالقياس ، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معاً فقرأه منصوباً . قال : وكانت له مندوحة من نصبه إلى جره بالإضافة ، وإبدال الشركاء منه ، وكان ذلك أولى مما ارتكبه . فهذا كله كما ترى ظنٌّ من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأياً منه ، وكان الصواب خلافه ، والفصيح سواه . ولم يعلم الزمخشريّ أن هذه القراءة بنصب الأولاد ، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها . يعلم ضرورة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل ، كما أنزلها عليه ، ثم تلاها النبيّ صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة ، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ، ويقرؤون بها ، خلفاً عن سلف ، إلى أن انتهت إلى ابن عامر ، فقرأها أيضاً كما سمعها . فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلاً عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم . فإذا علمت العقيدة الصحيحة ، فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشريّ ، ولا بقول أمثاله ممن لحَّن ابن عامر ، فإن المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعاً وضرورة . ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين : أعنى علم القراءة وعلم الأصول ، ولا يعدّ من ذوي الفنين المذكورين ، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين . وإنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة ، وزلة منكرة ، تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة ، فيها ما ليس متواتراً ، فإن هذا القائل لم يثبتها بغير النقل . وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر . وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأي ، غير موقوفة على النقل ، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين . وما حمله على هذا الخيال إلا التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية ، فظنها قطعية ، حتى يردّ ما خالفها . ثم إذا تنزل معه اطراد القياس الذي ادعاه مطرداً ، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه . وذلك أن الفصل بين المضاف إليه ، وإن كان عسراً ، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله ، فهو مقدر بالفعل ، وبهذا التقدير عمل . وهو وإن لم تكن إضافته غير محضة ، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة . حتى قال بعض النحاة : إن إضافته ليست محضة ، لذلك . فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره ، وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر ، وبين المضاف إليه بالظرف ، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره ، لما بيناه من انفكاكه في التقدير ، وعدم توغله في الاتصال ، بأن يفضل بينه وبين المضاف إليه , بما ليس أجنبياً عنه , وكأنه بالتقدير : فكّه بالفعل , ثم قدم المفعول على الفاعل , أضافه إلى الفاعل , وبقي المفعول مكانه حين الفك . ويسهل ذلك أيضاً تغاير حال المصدر , إذ تارة يضاف إلى الفاعل , وتارة يضاف إلى المفعول . وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل , لوقوعه في غير مرتبته , إذ ينوي به التأخير , فكأنه لم يفصل . كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حلّ في غير رتبته , لأن النية به التأخير , وأنشد أبو عبيدة :
~فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ
وأنشد أيضاً :
~يَفْرُكْنَ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ بِالْقَاعِ فَرْكَ الْقُطُنَ الْمَحَالِجِ
ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول . ومما يقويّ عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعاً ونصباً . فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد , منظرة بشواهد من أقيسة العربية , تجمع شمل القوانين النحوية , لهذه القراءة . وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربية , بك تصحيح قواعد العربية بالقراءة . وهذا قدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما - والله الموفق - وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة , إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته , ولا مستبعد من القياس , ولم نفرده في الدلالة المذكورة . إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل , فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة -الله الموفق -انتهى كلام الناصر رحمه الله تعالى .
ثم بيّن تعالى نوعاً آخر من مفترياتهم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 138 ]
{ وَقَالُوا هَذِهِ } إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم , والتأنيث للخبر : { أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } أي : حرام ( والجمهور على كسر الحاء وسكون الجيم ) فَعْل بمعنى مفعول , كالذِّبح والطّحن , يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع , لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات . أي : محرمة علينا , أو محجرة علينا في أموالنا للأوثان . ويقرأ بضم الحاء .
{ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ } قال في " المدارك " : كانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآتيناهم قالوا : لا يطعمها إلا من نشاء : يعنون : خدم الأوثان ، والرجال دون النساء { بِزَعْمِهِمْ } حال من فاعل ( قالوا ) أي : متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة .
قال ابن كثير : وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
{ وَأَنْعَامٌ } أي : وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم : هذه أنعام : { حُرِّمَتْ ظُهُورُها } يعنون بها البحائر والسوائب والحوامي : { وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } أي : حالة الذبح ، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام : { افْتِرَاءً عَلَيْهِ } أي : على الله وكذباً منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه ، فإنه لم يأذن لهم في ذلك ، ولا رضيه منهم { سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : عليه ، ويسندون إليه . وفيه وعيد وتهديد .
ثم بيّن تعالى فنّاً آخر من ضلالهم بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ } [ 139 ]
{ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ } يعنون أجنة البحائر والسوائب : { خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } يعنون أنه حلال للذكور دون الإناث ، إن ولد حيّاً لقوله سبحانه : { وَإِنْ يَكُنْ } أي : ما في بطونها : { مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } فالذكور والإناث ، فيه سواء .
وفي رواية العوفيّ عن ابن عباس أن المعني بـ ( مَا في بُطُونِهَا ) هو اللبن . كانوا يحرمونه على إناثهم ، ويشبه ذكرانهم . وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه . وكان للرجال دون النساء . وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء .
وقال الشعبيّ : البحيرة ، لا يأكل من لبنها إلا الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء . وكذا قال عِكْرِمَة وقتادة وابن أسلم .
{ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : بالتحليل والتحريم على سبيل التحكم ونسبته إلى الله تعالى : { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي : حكيم في أفعاله وأقواله وشرعه ، عليم بأعمال عباده من خير أو شر ، وسيجزيهم عليها .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل مالك بقوله : { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون البنات ، وأن ذلك الوقف يفسخ ، ولو بعد موت الواقف ، لأن ذلك من فعل الجاهلية . واستدل به بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة . انتهى .
لطائف :
( التاء ) في : { خَالِصَةٌ } إما للنقل إلى الاسمية ، أو للمبالغة ، أو لأن ( الخالصة ) مصدر كالعافية ، وقع موقع ( الخالص ) مبالغة ، أو بحذف المضاف . أي : ذو خالصة ، أو للتأنيث بناء على أن ( ما ) عبارة عن الأجنة . والتذكير في ( محرم ) باعتبار اللفظ . وقرئ ( خَالِصَةً ) بالنصب على أنه مصدر مؤكد ، والخبر : { لِّذُكُورِنَا } . ووصفهم واقع موقع مصدر : { سَيَجْزِيهِمْ } بتقدير مضاف . أي : جزاء وصفهم بالكذب عليه تعالى في التحريم والتحليل من قوله تعالى : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ } [ النحل : 62 ] .
قال الشهاب : وهذا من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب ، إذا كذب ، وعينه تصف السحر ، أي : ساحرة ، وقد يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق ، مبالغةً . حتى كأنَّ من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له . قال المعرّي :
~سَرَى برقُ المَعَرَّةِ بعد وَهْنٍ فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلاَلاَ

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ 140 ]
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ } يعني : وأد بناتهم خشية السبْي أو الفقر : { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم ، لا هم : { وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ } من البحائر والسوائب ونحوهما : { افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا } عن الصراط المستقيم { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : إلى الحق والصواب .
قال الشهاب : وفي قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } بعد قوله : { قَدْ ضَلُّواْ } مبالغة في نفي الهداية عنهم ، لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال ، بعد أن لم يكن . فلذا أردف بهذه الحال ، لبيان عراقتهم في الضلال ، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض .
تنبيه :
حمل كثير من المفسرين ( الخسران ) على ما يشمل الدارين . أما الدنيا فخسروا منافع أولادهم ، وثمرة ما خلقوا له . وكذا منافع أنعامهم بما ضيقوا وحجروا فيها ابتداعاً . وأما الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل . وهذا التعميم ، وإن كان حقاً ، إلا أن الأظهر حمله على الآخرة ، توفيقاً بين النظائر ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 - 70 ] .
روى الحافظ ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب ، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة ، سورة الأنعام : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ } الآية - وهكذا رواه البخاريّ في " مناقب قريش " من " صحيحه " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [ 141 ]
وقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام . أي : هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم ، لتعبدوه وحده ، فخلق لكم بساتين من الكروم وغيرها معروشات ، أي : مسموكات بما عملتم لها من الأعمدة . يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } متروكات على وجه الأرض لم تعرش { وَ } أنشأ : { النَّخْلَ } المثمر لما هو فاكهة وقوت { وَالزَّرْعَ } المحصل لأنواع القوت : { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أي : ثمره وحَبّه في اللون والطعم والحجم والرائحة { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً } في اللون والشكل ، ورقهما : { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } في الطعم : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أي : كلوا من ثمر كل واحد مما ذكر ، إذا أدرك .
قال الرازي : لما ذكر تعالى كيفية خلقه لهذه الأشياء ، ذكر ما هو المقصود الأصليّ من خلقها ، وهو انتفاع المكلفين بها ، فقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } واختلفوا ما الفائدة منه ؟ فقال بعضهم : الإباحة . وقال آخرون : بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق ، لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله ، لمكان شركة المساكين فيه ، بل هذا هو الظاهر . فأباح تعالى هذا الأكل ، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعاً من هذا التصرف . وقال بعضهم : بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل ، وإما التصدق ، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق ، لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير . قال تعالى : { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] انتهى .
{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قُرئ بفتح الحاء وكسرها . وهذا أمر بإيتاء من حضر يومئذ ما تيسر ، وليس بالزكاة المفروضة - وهكذا قال عطاء - أي : لأن السورة مكية ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة . وكذا قال مجاهد : إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه . وفي رواية عنه : عند الحصاد يعطي القبضة ، وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم يتبعون آثار الصرام . وهكذا روي عن نافع وإبراهيم النَّخَعِي وغيرهم . وعند هؤلاء أن هذا الحق . باق لم ينسخ بالزكاة ، فيوجبون إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية . ومما يؤيده أنه تعالى ذم الذي يصرمون ولا يتصدقون ، حيث قص علينا سوء فعلهم وانتقامه منهم . قال تعالى في سورة ( ن ) : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } [ القلم : 17 - 20 ] ، أي : كالليل المدلَهمّ ، سوداء محترقة { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } [ القلم : 21 - 24 ] الآيات .
وذهب بعضهم إلى أن هذا الحق نسخ بآية الزكاة ، حكاه ابن جرير عن ابن عباس وثلة من التابعين . قال ابن كثير : في تسمية هذا نسخاً نظر ، لأنه قد كان شيئاً واجباً . ثم إنه فسر بيانه وبين مقدار المخرج وكميته . انتهى .
ولا نَظَرَ ، لما عرفت في المقدمة من تسمية مثل ذلك نسخاً عند السلف ، ومرَّ قريباً أيضاً ، فتذكر !
وذهب بعضهم إلى أن الآية مدنية ، ضمت إلى هذه السورة في نظائر لها ، بيّناها أول السورة ، وأن الحق هو الزكاة المفروضة . روي عن أنس وابن عباس وابن المسيّب .
والأمر بإيتائها يوم الحصاد ، للمبالغة في العزم على المبادرة إليه . والمعنى : اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد ، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء . قال الحاكم : وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على الأرباب ، فلا يحسب عليهم ما أكل قبله .
وقد روى العوفيّ عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده ، لم يُخرج مما حصد شيئاً ، فقال تعالى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد ، وما يلقط الناس من سنبله .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله قال : < أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جادّ عشرة أوسق من التمر ، بقنوٍ يعلق في المسجد للمساكين > .
قال ابن كثير : إسناده جيد قوي .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : استدل بالآية من أوجب الزكاة في كل زرع وثمر ، خصوصاً الزيتون والرمان المنصوص عليهما . ومن خصها بالحبوب ، قال : إن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليهما . وفيها دليل على أن الزكاة لا يجب أداؤها قبل الحصاد . واستدل بها أيضاً على أن الاقتران لا يفيد التسوية في الأحكام ، لأنه تعالى قرن الأكل ، وهو ليس بواجب اتفاقاً ، بالإيتاء ، وهو واجب اتفاقاً . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } النهي عن الإسراف ، إما في التصدق ، أي : لا تعطوا فوق المعروف . قال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئاً ثم تبادروا فيه وأسرفوا ، فنزلت : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } . وقال ابن جريج : نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس . جدَّ نخلاً له فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة ، فنزلت . ولذا قال السدي : أي : لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . وإما في الأكل قبل الحصاد , وهذا عن أبي مسلم قال : ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء . وإما في كل شيء , قال عطاء : نهوا عن السرف في كل شيء . وقال إياس بن معاوية : ما جاوزْتَ به أمر الله , فهو سرف . اختار ابن جرير قول عطاء . قال ابن كثير : ولا شك أنه صحيح , لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية , حيث قال تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أن يكون عائداً على الأكل . أي : لا تسرفوا في الأكل ، لما فيه من مضرة العقل والبدن ، كقوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [ الأعراف 31 ] الآية .
وفي صحيح البخاري تعليقاً : كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة . وهذا من هذا - والله أعلم -انتهى .
وقد جنح إلى هذا المهايمي في تفسيره حيث قال : ولا تسرفوا في أكلها لئلا يبطل ، باستيفاء الشهوات ، معنى المزرعة .
ثم بين تعالى حال الأنعام ، وأبطل ما تقوّلوا عليه في شأنها بالتحريم والتحليل ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 142 ]
{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } أي : وأنشأ لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال ، وما يفرش للذبح ( أي : يضجع ) أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش .
وعن ابن عباس : الحمولة الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش الصغير كالفصلان والعجاجيل والغنم ؛ لأنها دانية من الأرض ، للطافة أجرامها ، مثل الفرش المفروش عليها . فعلى الوجهين الأولين : الفرش بمعنى المفروش ، وعلى الثالث : الكلام على التشبيه .
{ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي : من الثمار والزروع والأنعام ، لحفظ الروح ، واستزادة القوة .
{ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : أوامره في التحليل والتحريم ، كما اتبعها أهل الجاهلية ، فحرموا ما رزقهم الله افتراء عليه - كما مرّ - .
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي : ظاهر العداوة ، يمنعكم مما يحفظ روحكم ، ويزيد قوتكم ، ويدعوكم إلى الافتراء على الله إن نسبتموه إلى أمره ، أو إلى دعوى الإلهية لكم إن استقللتم به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 143 ]
وقوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بدل : { حَمُولَةً وَفَرْشاً } أو مفعول ( كُلُوا ) . ( وَلاَ تَتَّبِعُوا ) معترض بينهما ، أو فعل دل عليه ، أو حال من ( ما ) بمعنى مختلفة أو متعددة . والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه . قال تعالى : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } [ النجم : 45 ] ، وقد يقال لمجموعهما ، والمراد الأول .
{ مِنَ الضَّأْنِ } زوجين : { اثْنَيْنِ } الكبش والنعجة : { وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } التيس والعنز { قُلْ } أي : تبكيتاً لهم ، وإظهار لانقطاعهم عن الجواب : { آلذَّكَرَيْنِ } من الضأن والمعز : { حَرَّمَ } الله عليكم أيها المشركون : { أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ } منهما : { أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } أي : أم ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى ، كما قالوا : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَة } [ الأنعام 139 ] الآية .
{ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ } أي : بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل ، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين ، و النوعين الآتيين -قاله المهايمي - .
{ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعوى التحريم .
وفي قوله تعالى : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ } تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 144 ]
{ وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ } عطف على قوله تعالى : { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } أي : وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة { وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } ذكراً وأنثى { قُلْ } أي : إفحاماً لهم أيضاً في هذين النوعين : { آلذَّكَرَيْنِ } منهما : { حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } أي : من ذينك النوعين . والمعنى إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة ، وإظهار كذبهم في ذلك . وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها - للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل ممادة من مواد افترائهم . فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى . مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه . وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعي الصغار ونوعي الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال : قل آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث - لما في التثنية والتكرير من المبالغة في التبكيت والإلزام . أفاده أبو السعود .
ثم كرر الإفحام بقوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } حاضرين : { إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا } أي : حين وصاكم بتحريم بعضٍ وتحليله . وهذا من باب التهكم : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : فنسب إليه تحريم ما لم يحرم : { لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : دليل : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } قال ابن كثير : أول من دخل في هذه الآية عَمْرو بن لُحيّ بن قمعة . لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي . كما ثبت ذلك في الصحيح .
وقال أبو السعود : المراد كبراؤهم المقرّون لذلك . أو عَمْرو بن لُحيّ وهو المؤسس لهذا الشر . أو الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه ، سبحانه وتعالى .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه ؟ قلت : قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود . وذلك أن الله عز وجل منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم . فاعترض بالاحتجاج على من حرمها . والاحتجاجُ على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل . والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد . انتهى .
تنبيه :
دلت الآية على إباحة لحوم أكل الأنعام . وذلك معلوم من الدين ضرورة . وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب , والافتراش للأصواف والأوبار والجلود . وعلى ردّ ما كانت الجاهلية تحرّمه بغير علم .
قال المؤيد بالله : ويدخل الإنسيّ والوحشيّ في قوله : { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } . وردّ بأن قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بيان للأنعام . والأنعام لا تطلق على الوحشي . أفاده بعض مفسري الزيدية .
ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقوّلونه في أمر التحريم افتراء بحت - بأن يبين لهم ما حرمه عليهم , فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ 145 ]
{ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } أي : طعاماً محرماً من المطاعم : { عَلَى طَاعِمٍ } أي : أي : طاعم كان من ذكر أو أنثى . رداً على قولهم : { مُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } وقوله : { يَطْعَمُهُ } لزيادة التقرير : { إِلَّا أَنْ يَكُونَ } أي : ذلك الطعام : { مَيْتَةً } . قال المهايمي : والموت سبب الفساد . فهو منجس ، إلا أن يمنع من تأثيره مانع من ذكر اسم الله ، أو كونه من الماء ، أو غيرهما : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } أي : سائلاً لا كبداً أو طحالاً : { أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } لتعوده أكل النجاسات : { أَوْ فِسْقاً } أي : خروجاً عن الدين الذي هو كالحياة المطهّرة : { أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ذبح على اسم الأصنام ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله . وإنما سمي ( مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) فسقاً ، لتوغله في باب الفسق ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر : { غَيْرَ بَاغٍ } أي : على مضطر مثله ، تارك لمواساته : { وَلا عَادٍ } متجاوز قدر حاجته من تناوله : { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيم } لا يؤاخذه . وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه كفاية .
تنبيهات :
الأول -قال ابن كثير : الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الردّ على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوا من تحريم البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك . فأمر تعالى رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم . وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها . وما عدا ذلك فلم يحرم . وإنما هو عفو مسكوت عنه . فكيف تزعمون أنه حرام ؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه تعالى ؟ وعلى هذا ، فلا ينفي تحريم أشياء أُخَر فيما بعد هذا . كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير - انتهى - وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره . ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر ، كالموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة وغيرها . وذلك لأن هذه السورة مكية . فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضاً ، طارئ . قيل : إذا حرم غير ما ذكر كان نسخاً لما اقتضته هذه الآية من تحليله . وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية . فصحّ تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير . ومن الناس من يسمي هذا نسخاً بالمعنى السلفيّ . وقد بيّناه مراراً .
قال بعض الزيدية : وقد تعلق ابن عباس بالآية في تحليل لحم الحمر الأهلية . وعائشة في لحوم السباع . وعكرمة في إباحة كل شيء سوى ما في الآية . وعن الشعبي ؛ أنه كان يبيح لحم الفيل ويتلو هذه الآية .
ولا تعلق لجميعهم بالآية . لأنه تعالى بين ما يحرم في تلك الأحوال . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : أحتج بها كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها . فمن ذلك الحمر الأهلية ، أخرجه البخاري عن عَمْرو بن دينار قال : قلت لجابر بن يزيد : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حُمرُ الأهلية . فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عَمْرو الغفاريّ عندنا بالبصرة . ولكن أبى ذلك البحرُ ( ابن عباس ) وقرأ : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ } الآية . وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ ؟ فقرأ : { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم وغيره . بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ؟ تَلَتْ : { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية . وأخرج عن ابن عباس أنه قال : ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية . انتهى .
وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً . فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه . فما أحل فهو حلال وما حرّم فهو حرام . وما سكت عنه فهو معفوّ . وتلا : { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية .
وذكرنا ضعف التعلق بهذه الآية على ما ذهبوا إليه .
قال في " فتح البيان " : معنى الآية أنه تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرّماً غير هذه المذكورات . فدل على انحصار المحرمات فيها ، لولا أنها مكية . وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ، ونحو ذلك .
بالجملة ، فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات ، كما يدل عليه السياق ويفيده الاستثناء ، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات . وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره ، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء . وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة ؛ أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية وروي ذلك عن مالك . وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها , مما نزل بعدها من القرآن , وإهمال ما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول هذه الآية . بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه . وقول جابر ( لكن أبى ذلك البحر ابن عباس ) في رواية البخاريّ المتقدمة , أقول : وإن أبى ذلك البحر , فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والتمسك بقول صحابيٍّ في مقابلة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف . انتهى كلام الفتح .
وفي " نيل الأوطار " : الاستدلال بهذه الآية إنما يتمّ في الأشياء التي لم يرد النصّ بتحريمها . وأمّا الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك . والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل , وعلى القياس . وأيضاً الآية مكية . انتهى .
وقد ثبت عن ابن عمر رجوعه عن التعلق بعمومها .
روى سيعد بن منصور والإمام أحمد وأبو داود عن نميلة الفزازي قال : كنت عند ابن عمر , وإنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ عليه : { قُل لاَّ أَجِدُ } . . الآية . فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خبيث من الخبائث . فقال ابن عمر : إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال .
أي والخبائث محرّمة بنص القرآن , فهو مخصص لعموم هذه الآية .
وعن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله . فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه . وما وجدنا فيه حراما حرمناه . وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب .
ولأبي داود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه . لا يوشك رجل شبعانُ على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن , فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه . وما وجدتم فيه حرام فحرموه . ألا لا يحل لكم ( لحم ) الحمار الأهليّ ولا كل ذي ناب من السبع ولا لُقَطَةُ معاهد ألا أن يستغني عنها صاحبها . ومن بزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه . فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه . ( أي : يأخذ منهم عوضاً عما حَرَموه من القرى ) .
هذا والزمخشري فسر محرماً بـ ( طعاماً محرماً من المطاعم التي حرمتموها ) وجعل الاستثناء منطقاً . أي : لا أجد ما حرمتوه لكم أجد الأربعة محرّمة . وهذا لا دلالة فيه على الحصر حتى ترد المحرمات الأخر . إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر . وغير الزمخشري لم يقّيده بما ذكر . لأن الأصل الاتصال وعدم التقييد وأوّلوها بما قدمنا قبل . وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغاً . بمعنى : لا أجد شيئاً من المطاعم المحرمات في وقت من الأوقات ، أو حال من الأحوال , إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الطعام أحد الأربعة . فإني أجد حينئذ محرماً . فالمصدر للزمان أو الهيئة . وفيه أن المصدر المؤول من ( أن والفعل ) لا ينصب على الظرفية . ولا يقع حالاً , لأنه معرفة . والله أعلم .
الثاني -في قوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } إيذان التحريم إنما بالوحي لا بالهوى . قال الشهاب : كني بعدم الوجدان عن عدم الوجود . ومبنى هذه الكناية على أن طريق التحريم التنصيص منه تعالى . وتفسيره بمطلق الوحي استظهروه . ولذا قال : أوحي ولم يقل : أنزل .
الثالث -قال السيوطي في " الإكليل " : استدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } على أنه إنما حرم من الميتة أكلها . وأن جلدها يطهر بالدبغ . فأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنتَ زَمْعَة فقالت : يا رسول الله ! ماتت فلانة ( يعني الشاة ) فقال : فلولا أخذتم مَسْكها ؟ فقالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما قال الله عز وجل : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ } . فإنكم لا تطعمونه . إن تدبغوه تنتفعوا به . فأرسلت إليها فسلختْ مسكها فدبغته , فاتخذت منه قربة , حتى تخرَّقت عندها .
الرابع - استدل بقوله تعالى : { مَّسْفُوحاً } على إباحة غيره . وذلك لأن الدم المسفوح هو ما سال من الحيوان في حال الحياة , أو عند الذبح -لا كالكبد والطحال -وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل . قال عِمْرَان بن جدير : سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم , وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال : لا بأس بذلك ! إنما نهى عن الدم المسفوح .
وقال إبراهيم النَّخَعِي : لا بأس بالدم في عِرقٍ أو مخّ , إلاّ المسفوح .
وقال عِكْرِمَة : لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود .
ثم بيّن تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة , تحقيقاً لافتراء المشركين فيما حرّموه , إذْ لم يوافق شيئاً مما أنزله تعالى ,فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ 146 ]
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود خاصة : { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } قال سعيد بن جبير : هو الذي ليس منفرج الأصابع - كالجمل والوَبْر والأرنب - فإنها من ذوات الأظفار الغير المشقوقة - أي : المنفرجة - وأما ذو الظفر المشقوق وهو يجترّ من البهائم , فلم يحرم عليهم .
{ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } لا لحومهما : { إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعنى : ما علق بالظهر من الشحوم : { أَوِ الْحَوَايَا } أي : الأمعاء والمصارين - أي : ما حملته من الشحوم - : { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } كالمخ والعصعص : { ذَلِكَ } أي : تحريم تلك الأطايب عليهم : { جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمهم , وهو قتلهم الأنبياء بغير حقٍ , وأكلهم الربا - وقد نهوا عنه - وأكلهم أموال الناس بالباطل كقوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } [ النساء : 160 ] .
قال المهايميّ : أي : ولم يكن لغيرهم ذلك البغي , فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها أطايب في أنفسها .
{ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي : في جميع أخبارنا التي من جملتها هذا الخبر ؛ وهو تخصيص التحريم بهم , لبغيهم . قال ابن جرير : لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرّمه على نفسه .
قال أبو السعود : ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : 93 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ 147 ]
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ } الضمير إمَّا لليهود لأنهم ذكراً , ولذكْرِ المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك ؛ وإما للمشركين , وإما للفريقين . أي : فإن كذبتك اليهود في التخصيص وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ , وأصرّوا على ادعاء قدم التحريم ؛ في أو المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم ,أو هما فيما أدّعيا : { فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل : { وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } أي : ومع رحمته فهو ذو بأس شديد . وفيه ترغيبٌ لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة , وذلك في اتباع رضوانه , وترهيبٌ من المخالفة .
وليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة - ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله - أخبر تعالى عنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرّموا . وفائدة الإخبار بما سوف يقولونه , توطين النفس على الجواب , ومكافحتهم بالردّ , وإعداد الحجة قبل أوانها , فقال تعالى :

(/)


القول في قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } [ 148 ]
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } يعني مشركي قريش والعرب : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغيرهما : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا } أي : حتى أنزلنا عليهم العذاب : { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا : { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } أي : أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرّمتم : { وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } تكذبون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 149 ]
{ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات . ومنه : ( أيمان بالغة ) أي : مؤكدة . أو ( البالغة ) التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه فهي ( كعيشة راضية ) { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : ولكنه لم يشأ ذلك . بل شاء هداية بعضٍ صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحقّ . وضلالَ آخرين صرفوا كسبهم إلى خلاف ذلك , من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطف يثنيهم , فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه .
قال الإمام أبو منصور الماتريدي في " تأويلاته " : قيل : الآية في مشركي العرب . قالوا ذل حين لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرّموا من الأشياء . وأضافوا ذلك إلى الله , وهو صلة قوله : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } -إلى قوله - : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا } [ الأنعام : 143 - 144 ] . فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [ الأنعام 148 ] . انتهى .
والقصد : الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال . أي : ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل , ففعلنا طوع مشيئته , وهو لا يشاء إلا الحق , لأنه قادر . فلو لم يكن حقّاً يرضاه لمنعنا منه . وهو لم يمنعنا منه فهو حقّ . وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيانٌ لنوع من كفرهم شنيع جداً . . !
تنبيه :
هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور , وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها .
فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر , كما تبجّح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في " تفسيره " وقال : إن فيها تكذيباً ظاهراً لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه ؛ وكذا الزمخشري في " تفسيره " .
ومعلومٌ أنّ عقيدة الفرقة الناجية , الإيمانُ بأن : ما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه , لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد , وهو خالقٌ لأفعال العباد . !
وقد خالف في ذلك عامة القدرية - الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة - فقالوا : لا إرادة إلا بمعنى المشيئة , وهو لم يرد إلا ما أمر به , ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد . فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف أرادته تعالى . ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة . تبرأ منهم الصحابة . وأصل بدعتهم - كما قال ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه . وسنبيّن تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها -بعونه تعالى -بعدة وجوه فنقول :
قالوا : إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا : أشركنا بإرادة الله تعالى . ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ، ولَمَا صدر عنا تحريم المحللات فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم . ثم إنه تعالى ردّ عليهم مقالتهم وبيّن بطلانها وذمّهم عليها وأوعدهم عليها وعيداً شديداً . فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك ، على ما تضيفون أنتم ، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعّدهم ؟
قلنا : إن المشيئة في الآية تتخرّج على وجوه :
أحدهما : ما قال الحسن والأصمّ -إن المشيئة ههنا الرضا -فمرادهم : أنّ الله رضي بفعلنا وصنيعنا - حيث فعل آباؤنا ما فعلنا - فلم يَحُل الله بينهم وبين ذلك ، ولا أخذ على أيديهم ، ولا منعهم عن ذلك ؛ فلو لم يرض بذلك عنهم لكان يمنعهم عنه !
قال أبو منصور : وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيما كانوا فيه ، أنهم كانوا يخوفون بالهلاك والعذاب على صنيعهم ، ثم رأوا آباءهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب ، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أنّ الله رضي بذلك .
وبالجملة ، أرادوا بقولهم ذلك . أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله . ولما كانت حجتهم داحضة باطلة -لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمّر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام - قال تعالى : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : بأن الله راض عليكم فيما أنتم فيه ! وهذا من التَهكّمِ والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة .
وفي " الوجيز " : الحاصل أن المشركين اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضيّ والمشيئة ، كما اعتقدت المعتزلة ، فاحتجوا على حقيّة الإشراك . وينادي على ذلك قوله : { كَذَلِكَ كَذَّبَ } فإنه لو كان المراد أنّ ذلك ليس بمشيئة الله تعالى لقال ( كَذَلكَ كَذَبَ ) بالتخفيف لا التشديد . وهذه الآية - عند من له أذن واعية -تصيح على المعتزلة بالويل والثبور ، لكن في آذانهم وقر ، ومن لم يهده الله فلا هادي له . انتهى .
الوجه الثاني : إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك . أي : يقولون : إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه ، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } فردّ تعالى عليهم بقوله : { قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } .
الوجه الثالث : إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دافعاً لدعوته صلى الله عليه وسلم ، وتعللاً لعدم إجابته وانقياده ، لا تفويضاً للكائنات إلى مشيئة الله تعالى . فما صدر عنهم كلمةُ حقّ أريد بها باطل . ولذلك ذمَّهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباعه والمتابعة ، فقال : { كَذَلِكَ كَذَّبَ } بالتشديد ، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك ، وإلا لقال ( كَذَلِكَ كَذَبَ ) بالتخفيف ، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق .
وقال آخر : { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم . فالعتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم ، إنما كان لاستهزائهم .
كما ذكر في قوله تعالى : { وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [ مريم : 66 ] . وهي كلمة حقّ . لكن قالها استهزاء فلحقه الذم .
وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في " المواقف " وقرره أيضاً أبو منصور في " تأويلاته " .
قال الحسن بن الفضيل : لو قالوا هذه المقالة تعظيماً لله وإجلالاً له ومعرفةً بحقه وبما يقولون ، لما عابهم بذلك . ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيباً وجَدَلاً . من غير معرفة بالله وبما يقولون .
الوجه الرابع : ما يستفاد من قول الإمام : إنّ في كلام المشركين مقدمتين :
إحداهما : أن الكفر بمشيئة الله تعالى .
و الثانية : أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم . وما ورد من الذمّ والتوبيخ إنما هو على الثانية ، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام ، وإن كان لا يهدي إلاَّ من يشاء .
الوجه الخامس : إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتوّ .
قال البقاعي في قوله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } : أي : بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم : إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة . وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تامّ ، لا يسأل عما يفعل .
وقال الإمام القاشاني قدس الله سره ، في قوله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله ، عناداً وعتوّاً ، فعذّبوا بكفرهم .
ثم قال في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : إن كان لكم علمٌ بذلك وحجةّ ، فبيّنوا . وإنما قال ذلك ، إشارة إلى قولهم : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } لأنهم لو قالوا ذلك عن علمٍ ، لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء ، لا يقع إلا بإرادة الله . فلم يعادوهم ولم ينكروهم بل والوْهم ، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف . ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علمٍ ، لما كانوا مشركين بل كانوا موحّدين ، ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك ، وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد ، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزاماً لهم وإثباتاً لعدم امتناعهم عن الرسل . لأنهم محجوبون في مقام النفس . وأنَّى لهم اليقين ؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله ؟ وقوله تعالى : { قل فللَّه الحجة البالغة } أي : إن كان ظنكم صدقاً في تعليق شرككم بمشيئة الله ، فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين ، لكون كل دين حينئذٍ بمشيئة الله ، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم ، بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم ، بمن لا يقع أمرٌ إلا بإرادته ، ما لا أثر لإرادته أصلاً . فأنتم أشقياء في الأزل مستحقّون للبعد والعقاب . وقوله تعالى : { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : بلى ، صدقتم . ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم ، فبأي شيءٍ علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم ؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن . انتهى .
الوجه السادس : ما في " لباب التأويل " من أنه قيل في معنى الآية : أنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة - وهو قولهم : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } -إلاّ أنهم كانوا يعدّونه عذراً لأنفسهم ، ويجعلونه حجّة لهم في ترك الإيمان ، والردّ عليهم في ذلك : أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته ؛ فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمرٍ بجميع ما يريد ، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته ، فإن مشيئته لا تكون عذراً لأحد عليه في فعله ، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به ، ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمره بالإيمان . وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع . فالحاصل : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم ، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسدٌ باطل ، فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كلّ الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام . انتهى .
الوجه السابع : ما قرره الناصر في " الانتصاف " : إنّ الرد عليهم إنَّما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم ، وإن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار ، وزعموا أنهم يقيمون الحجَّة على الله ورسله بذلك . فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم - عدم الاختيار لأنفسهم -وشبَّهَهُمْ بمن اغترّ قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل . وأشرك بالله ، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كلّه بمشيئة الله ، ورامّ إفحامّ الرسل بهذه الشبهة . ثم بيَّن الله تعالى أنهم لا حجّة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم ، بقوله : { فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } . ثم أوضح تعالى أنّ كل واقع بمشيئته ، وإنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم . وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله : { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } : والمقصود من ذلك : أن يتمحّض وجه الردّ عليهم ، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة ، وعموم تعلقها بكل كائن عن الرّد ؛ وينصرف الرّد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم ، وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة . وإذا تدبّرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة . بل هو مجبور على أفعاله مقهورٌ عليها . وهم الفرقة المعروفون بـ ( المجبرة ) . والزمخشري يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختياراً وقدرةً ، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية . فمن هذه الجهة سوّى بينهم وبين المجبرة ، ويجعله لقباً عاماً لأهل السنة . وبإجماع الرد على المجبرة - الذين ميزناهم عن أهل السنة -في قوله تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } -إلى قوله تعالى : { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } . وتتمة الآية ردٌّ صراح على ( طائفة الاعتزال ) القائلين بأنّ الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين . فلم تقع من أكثرهم ! ووجه الردّ : أن ( لو ) إذا دخلت على فعل مثبت نفته ؛ فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال : { فَلَوْ شَاء } لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم . ولو شاءها لوقعت . فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحلّ عقدهم . فإذا ثبت اشتمال الآية على ردّ عقيدة الطائفتين المذكورتين -المجبرة في أوّلها والمعتزلة في آخرها - فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها . فإن أوّلها - كما بيّنا - يثبت للعبد اختياراً وقدرةً على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان ، وآخرها يثبت نفوذ الله في العبد ، وأنّ جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، خيراً أو غيره . وذلك عين عقيدتهم . فإنهم -كما يثبتون للعبد مشيئةً وقدرة -يسلبون تأثيرها ، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجّته ، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره . ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضاً وقدرته في أفعال عباده فهم -كما رأيت -تبعٌ للكتاب العزيز : يثبتون ما أثبت ، وينفون ما نفى ، مؤيدون بالعقل والنقل . والله الموفق . انتهى .
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قيل له : إن ناساً يقولون : ليس الشرّ بقَدَرَ . فقال ابن عباس : بيننا وبين أهل القدر هذه الآية : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ الأنعام 148 ] - إلى قوله : { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
وبتحقيق هذه الوجوه يسقط قول الطبرسي المعتزلي : لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر - من أن الله تعالى شاء منهم الكفر - لكانت الحجة للكفّار على الله ، من حيث فعلوا ما شاء الله ، ولكانوا بذلك مطيعين له . لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد ، ولا تكون الحجة لله عليهم على قولهم ، من حيث إنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر . فأيّ حجّة له عليهم مع ذلك ؟ انتهى .
وكذا قول الزمخشري : ما حكي عن المشركين كمذهب المجبرة بعينه . ولذا قال النحرير : نعم ! هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله . لكن الكفرة يحتجّون بذلك على حقية الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح . وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر ، على ما هو مذهب القدرية : من عدم التفرقة بين المأمور والمراد ، وأنّ كلّ ما هو مرادٌ لله فهو ليس بمعصية منهي عنها . والمجبرة - اعتقدوا أن الكلّ بمشيئة الله- لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد ، ويعفو عن بعضها بحكم الوعد . فهم -في ذلك - يصدّقون الله فيما دلّ عليها العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء . والكفرة يكذّبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى . انتهى .
فصل
قال الإمام شمس الدين ابن القيّم الدمشقي رحمه الله في كتابه " طريق الهجرتين " بعد أن أطال في سرد أحاديث القدرة وآثاره ، ما نصّه :
فالجواب أنّ ههنا مقامين : مقام إيمانٍ وهدىً ونجاة ، ومقام ضلالٍ وردى وهلاك ، زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء .
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة ، فمقام إثبات القدر والإيمان به ، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها ، وأن ما شاء كان وإنْ لم يشأ الناس . وما لم يشأ لم يكن ، وإن شاء الناس . وهذه الآثار - التي كلها تحقق هذا المقام- تبيّن أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ، ولبس جلباب الشرك ، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه . وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله .
وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على الله ، وحمل العبد ذنبه على ربّه ، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمّارة بالسوء ، حتى يقول قائل هؤلاء :
~ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له : إيّاك ! إيّاك ! أن تبتلّ بالماء
ويقول قائلهم :
~دعاني وسدَّ الباب دوني . فهل إلى دخولي سبيلٌ ؟ بيّنوا لي قصتّي
ثم ساق -رحمه الله -قصصاً غريبة في ذلك ، ثم قال :
وسمعته -يعني شيخ الإسلام ابن تيميّة -يقول :
القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة : نفاة القدر وهم ( القدرية المجوسيّة ) . والمعارضون به للشريعة الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } وهم ( القدرية المشركية ) . والمخاصمون به للربّ سبحانه وتعالى وهم أعداء الله وخصومه وهم ( القدرية الإبليسية ) وشيخهم إبليس . وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال : { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } [ الأعراف 16 ] . ولم يعترف بالذنب ويُبؤْ به كما اعترف به آدم . فمن أقرّ بالذنب وباء به ونزّه ربَّه فقد أشبه أباه آدم ، ومن أشبه أباه فما ظلم . ومن برّأ نفسه واحتجّ على ربّه بالقدر فقد أشبه إبليس . ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة . لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب وتعظيماً له أن يقدّر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب . ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة . بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه . . ونحو ذلك . كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة . فأتى بطرّار ( وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستلّ ما فيها ) . أحولَ . فقال له الوالي : ما ترى فيه ؟ فقال : اضربه خمسة عشر - يعني سوطاً -فقال له بعض الحاضرين - ممن ينفي الجبر- بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطاً : خمسة عشر لطرّه ومثلها لحَولِهِ . فقال الجبريّ : كيف يضرب على الحَولَ ولا صنع له فيه ؟ فقال كما يضرب على الطرّ ولا صنع له ليه ، عندك . . فبُهتَ الجبري .
وأما ( القدرية الإبليسية والمشركية ) فكثير منهم منسلخ عن الشرع ، عدوّ لله ورسوله ، لا يقرّ بأمر ولا نهي ، وتلك وراثة عن شيوخه الذي قال الله فيهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء } [ الأنعام 148 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] . وقال تعالى : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [ الزخرف : 20 ] . وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ يس : 47 ] ، فهذه أربعة مواضع في القرآن بَيَّنَ سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين للرسل .
وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق :
الفرقة الأولى : جعلت هذه الحجة حجة صحيحة ، وأنّ للمحتج بها الحجة على الله . ثم افترق هؤلاء فرقتين : ( فرقة ) كذبت بالأمر والوعد والوعيد ، وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد ، بعد هذا ، يكون ظلماً ، والله لا يظلم من خلقه أحداً ! و ( فرقة ) صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت : ليس ذلك بظلم . والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه ، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده . إذ العبد فعل له ، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يُسألُونَ . فإنَّ هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة - التي حكاها الله عنهم -استهزاء منهم ، ولو قالوا - اعتقاداً للقضاء والقدر ، وإسناداً لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته -لم ينكر عليهم . ومضمون قول هذه الفرقة إنّ هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد -لا على جهة الاستهزاء - فيكون للمشركين على الله الحجّة ، وكفى بهذا القول فساداً وبطلاناً .
الفرقة الثانية : جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذْ لو صحت المشيئة العامة -وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان- لكانوا قد قالوا الحق ، وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم . فحيث وصفه بالخرص -الذي هو الكذب- ونفى عنهم العلم , دلّ على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح , وأنهم كاذبون فيه ؛ إذْ لو كان علماً لكانوا صادقين في الإخبار به , ولم يقل لهم : هل عندكم من علم .
وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر , وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء , ويشاء ما لا يكون , وإنه لا قدرة له على أفعال عبادة من الإنس والجن والملائكة , ولا على أفعال الحيوانات . وإنه لا يقدر أن يضل أحداً , ولا يهديه , ولا يوافقه أكثر مما فعل به , ولا يعصمه من الذنوب والكفر , ولا يلهمه رشدَه , ولا يجعل في قلبه الإيمان , ولا هو الذي جعل المصلي مصلياً والبرَّ برّاً والفاجر فاجراً والمؤمن مؤمناً والكافر كافراً . بل هم جعلوا أنفسهم كذلك .
فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر . فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع . والثانية تحيزت إلى الشرع, وكذبت القدر . والطائفتان ضالتان , وإحداهما أَضلّ من الأخرى .
و الفرقة الثالثة : آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي . ونزّلوا كلّ واحدٍ منزله : فالقضاء والقدر يُؤمن به ولا يُحتجّ به , والأمر والنهي يمتثل ويطاع . فالإيمان بالقضاء والقدر -عندهم -من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلاَّ الله . والقيام بالأمر . والنهي موجب شهادة أن محمداً رسول الله . وقالوا : من لم يقرّ بالقضاء والقدر , ويقم بالأمر والنهي فقد كذَّب بالشهادتين وإنْ نطق بهما بلسانه . ثمّ افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين : ( فرقة ) قالت : إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك . فجعلوا مشيئته له وتقديره له , دليلاً على رضاه به ومحبته له . إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم . فإنّ الحكيم إذا كان قادراً على دفع ما يكرهه ويبغضه . دفعه ومنع من وقوعه . وإذا لم يمنع من وقوعه , لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته . وكلاهما ممتنع في حق الله . فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به .
وقد وافق هؤلاء من قال : إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها . ولكن خالفهم في أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها , فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر .
وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين , وإن مشيئة الله تعالى وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدّره .
وهؤلاء المشركون - لمّا استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه - كذبهم وأنكرَ عليهم , وأخبر أنه لا علم لهم بذلك , وأنهم خارصون مفترون . فإن محبة الله للشيء ورضاه به , إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله , لا بمجرد خلقه . فإنه خلق إبليس وجنوده -وهم أعداؤه- وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه . . فهكذا في الأفعال . خلق خيرها وشرها وهو يحبّ خيرها ويأمر به ويثيب عليه . ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه . وكلاهما خلقه . ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه , من الذوات والصفات والأفعال , كلٌّ صادر عن حكمته وعلمه , كما هو صادر عن قدرته ومشيئته . .
وقالت الفرقة الثانية : إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر, ودفع الأمر بالمشيئة . فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره . فجعلوا القضاء والقدر إبطالاً لدعوة الرسل , ودفعاً لما جاءوا به . وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقولهم , وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي .
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام , وورث كلّ قوم أئمتهم وأسلافهم , إما في جميع تركتهم , وإما في كثير منها , وإما في جزء منها . وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث بينهم وأصحابه , فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض, بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة , وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن , وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد , وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمناً والمصلي مصلياً والمتقي متقياً , وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره , وأئمة الضلالة يدعون إلى النار ، وأنه ألهم كلّ نفس فجورها وتقواها ، وأنه يهدي من يشاء بعدله وحكمته ، وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فقصوه ، وأنه حال بين الكفار وقلوبهم - فإنه يحول بين المرء وقلبه- فكفروا به . ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه ، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } .
و ( القضاء والقدر ) عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى :
الأولى - علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم .
الثانية - كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض .
الثالثة - مشيئته المتناولة لكل موجود ، فلا خروج لكائن عن مشيئته ، كما لا خروج له عن علمه .
الرابعة - خلقه له وإيجاده وتكوينه ، فإنه لا خالق إلا الله ، والله خالق كل شيء . فالخالق -عندهم- واحد وما سواه فمخلوق . ولا واسطة - عندهم- بين الخالق والمخلوق . ويؤمنون - مع ذلك - بحكمته ، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه . وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه . وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته ، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره -كما تقوله نفاة الحكمة الذين يقرّون بلفظها دون حقيقتها- بل هي أمر وراء ذلك ، هي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدّر فهدى ، وأمات وأحيى ، وأشقى وأضلّ وهدى ، ومنع وأعطى . وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها ، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات ، وهو محال ، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة . فنفي الوسيلة -وهي الفعل- لازم لنفي الغاية وهي الحكمة . ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة ؛ إذ فعلٌ لا يقوم بفاعله ، وحكمةٌ لا تقوم بالحكيم- شيء لا يعقل . وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته . وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه ، وإن أبى التزامه . وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل ، لم يلزم من قوله محذور البتة ، بل قوله حق ، ولازم الحق حق ، كائناً ما كان . والمقصود : أن ورثة الرسل وخلفاءهم -لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاء والقدر والحِكَم والغايات المحدودة في أفعال الرب وأوامره ، وقاموا- مع ذلك بالأمر والنهي ، وصدّقوا بالوعد : فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة . وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب ؛ فصدّقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما -كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر- وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبويّ ، و : { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة ، لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولبّ العالم ، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلالاّ . فإن القدرية تؤمن بلفظ ( القدر ) ، ومنهم من يرده إلى العلم ، ومنهم من يرده إلى الأمر الدينيّ ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها ، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر . وكذلك ( الحكمة ) فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها ، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى ، فهي -عندهم- وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته . . والقدرية النفاة لا يرضون بهذا ، بل يرتفعون عنه طبقة ، ويثبتون حكمة زائدة على ذلك ، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ، ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته ، كما قالوا في كلامه وإرادته . فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ ( الحكمة ) وجحدوا معناها وحقيقتها . وكذلك ( الأمر ) و ( الشرع ) فإن من أنكر كلام الله وقال : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، ولا يحب شيئاً ولا يبغض شيئاً ، وجميع الكائنات محبوبة له ، وما لم يكن فهو مكروه له ، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر . ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية . ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل ، ولكن مشى الحال بعض الشيء بتناقضهم ، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها .
والمقصود : أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد ، حقيقة الإيمان ، إلا أتباع الرسل وورثتهم .
والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته . ولهذا قال الإمام أحمد : القدر قدرة الله . واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال : إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر .
ولهذا ، كان المنكرون للقدر فرقتين : فرقة كذبت بالعلم السابق ونَفَتْهُ ، وهم غلاتهم الذين كفّرهم السلف والأئمة وتبرّأ منهم الصحابة . وفرقة جحدت كمال القدرة ، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى ، وصرّحت بأنّ الله لا يقدر عليها . فأنكر هؤلاء قدرة الرب ، وأنكرت الأخرى كمال علمه . وقابلهم الجبرية : فجاءت على إثبات القدرة والعلم ، وأنكرت الحكمة والرحمة .
ولهذا ، كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الربّ وعزته وحكمته . ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيراً كقوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] ، وقال : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ غافر : 2 ] ، وقال : { حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الجاثية : 2 ] ، وقال في ( حم فصّلت ، بعد ذكر تخليق العالم ) : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت 12 ] ، وذكر نظير هذا في ( الأنعام ) فقال : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ] . فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته . وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدّمه عليه . وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها ، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للربّ سبحانه . وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته ، فهو عليم بخلقه وأمره ، حكيم في خلقه وأمره . ولهذا كان ( الحكيم ) من أسمائه الحسنى . فالحكمة من صفاته العُلَى ، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة ، والرسول المبعوث بها مبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة . والحكمة هي سنة الرسول ، وهي تتضمّن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به . فكلّ هذا يسمّى حكمة . وفي الأثر : الحكمة ضالّة المؤمن . وفي الحديث : < إنّ من الشعر الحكمة > . فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته ، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده . وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشرٍّ حمداً استحقه لذاته ، وصدر عنه خلقُه وأمرُه . فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة ، والله أعلم . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في خلال بعض فتاويه ، في حقيقة الاحتجاج بالقضاء والقدر ، ما نصّه :
وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية . حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } الآية ؛ فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي ، وأنكروا التوحيد -الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له- وهم يقرّون بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء ، ما بقي عندهم من فرق ، من جهة الله تعالى ، بين مأمور ومحظور فقالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ، وهذا حق فإن الله لو شاء أن لا يكون هذا لم يكن . ولكن أي : فائدة لهم في هذا ؟ غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر ، ولا يلزم إذا كان مقدراً أن يكون محبوباً مرضيّاً لله . ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه ، بل ليسوا في ذلك إلاّ على ظنّ وخَرْص . انتهى .
وقال بعض المحققين في حقيقة العقيدة :
ثبت بالبرهان أنّ قدرة الله تعالى متصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار . وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة ، ووجوه النظام . وأنه خالق كلّ شيء وإليه يرجع الأمر كله . ومن الممكنات التي اقتضاها الحكمة والنظام وجودُ مخلوقٍ ذي قدرةٍ وإرادةٍ وعلمٍ ، يعمل بقدرته ما تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه ، وهو الإنسان . وهذا - عند البعض- هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله وبدائع أسراره فيها ، ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه . ولا يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آناً بعد آن ، ولا يعلم مبلغه من ذلك إلاّ الله تعالى . والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم السلام . ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك . حاشاه .
قال البيضاوي في " بيان أن كلّ نبيٍّ خليفة " : استخلفهم في عُمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وتنفيذ أمره فيهم -لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه -بل لقصور المستخلف عليه من قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط . ولذلك لم يستنبئ مَلَكاً كما قال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام 9 ] . انتهى . وكذلك إذا قلنا : إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية .
فعلم من كلٌّ من القولين ؛ أن في الإنسان معنى ليس في غيره . فإذا كانت خلقة المَلَك لا تساعد على إرشاد الناس ، لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكلّ واحد التلقّي منه ، فكذلك لا تساعد خلقته . وليس من وظيفتها ، إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع بها . ولو كان إيجاد مخلوقٍ - على ما ذكرنا في خلق الإنسان - غير ممكن لما وجد . ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلاّ من ينكر الحسّ والوجدان ، وهما أصل كلّ برهان . ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيءٍ ما .
إذن ، معنا قضيّتان قطعيّتا الثبوت :
إحداهما : كون الْإِنْسَاْن يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف ، وهي بديهية .
و الثانية : هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ ، وهي نظرية ويتولّد من هاتين القضيتين القطعيّتين مسألتان نظريتان :
الأولى : ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته ، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته ؟ والجواب من وجوه :
إحداها : أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له لذاته . وصفات الإنسان حادثة بحدوثه وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته .
ثانيها : أن علم الله محيط بكلّ شيءٍ : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [ البقرة 255 ] . وأما الإنسان فما أوتي : { مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [ الإسراء 85 ] ! وإرادة الله تعالى لا تتغيّر ولا تقبل الفسخ لأنها عن علمٍ تامٍّ . بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردّده في العلم بالشيء . وتفسخ لظهور الخطأ في العلم الذي بنيت عليه . وتتجدّد لتجدد علمٍ لمن لم يكن له من قبل . وقدرةُ الله تعالى متصرّفة في كلّ ممكن . فيفعل كلّ ما يعلم أنّ فيه الحكمة . وقدرة الإنسان لا تصرّف لها ولا كسب إلاّ في أقلّ القليل من الممكنات . فكم من أمرٍ يعلم أن فيه مصلحته ومنفعةً له وهو لا يقدر على القيام به .
ثالثها : أن صفات الإنسان عرضة للضعف والزوال ، وصفات الله تعالى أبدية كما أنّها أزلية . وبالجملة : إنّ المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنّما هي في الاسم ، لا في الجنس كما زعم بعضهم ، فبطل زعم من قال : إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته -يقتضي أن يكون شريكاً لله تعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] .
المسألة الثانية : - وهي عضلة العقد ومحكّ المنتقد - أن القضاء عبارة عن تعلّق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل ؛ بأنّ الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة ، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل .
ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية . فإذا كان قد سبق القضاء المبرم -بأن زيداً يعيش كافراً ويموت كافراً -فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته ؟ ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه . لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له ؟ كما قال بعضهم .
والجواب عن هذا : أن تعلق العلم والإرادة بأن فلاناً يفعل كذا ، لا ينافي أن يفعله باختيار ، إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطراً كحركة المرتعش مثلاً . ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية ، أي : بإرادة فاعليها لا رغماً عنهم . وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثاً ولا لغواً .
وثم وجه آخر في الجواب ، وهو : لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلاً يفعل كذا ، يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبوراً على فعله ، لكان الواجب ، تعالى وتقدس ، مجبوراً على أفعاله كلها . لأن العلم الأزليّ قد تعلق بذلك ، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه .
فتبين -بهذا -أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار ، واشتبهت عليهم الأنظار ، فكابروا الحسّ والوجدان ، ودابروا الدليل والبرهان ، وعطلوا الشرائع والأديان ، وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره ، ولا فقهوا سر نهيه وأمره ، حيث جرّؤا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار ، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر ، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله . بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان . فيا عجباً لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء ، وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء ! أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته ، ويظلم الجهل بصيرته ، أن يكون أعظم مهذب لنفسه ، ومؤدب لعقله وحسه ، اعتقاده بأن الله عليهم بما يسر ويعلن ، ويظهر ويبطن ، وأنه ناظر إليه ومطلع عليه . ؟ بلى ! إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وأما الذين ضلوا السبيل ، واتبعوا فاسد التأويل ، فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عزّ وجلّ { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا } [ وفي المطبوع : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا . . ] الآية . فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل ، وجعل احتجاجهم بالقدر من أسباب وقوع البأس والبلاء بهم .
وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قبله ، والله عليم حكيم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ 150 ]
قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ } أي : أحضروهم : { الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا } يعني ما تقولون من الأنعام والحرث . والمراد بـ ( شهدائهم ) قدوتهم الذين ينصرون قولهم . وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة ، ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم ، وأنه لا متمسك لهم ، كمن يقلدهم فيحق الحق ويبطل الباطل : { فَإِنْ شَهِدُوا } أي : بعد حضورهم بأن الله حرم هذا : { فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي : فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم ، لما علمت من افترائهم على الله ومشيهم مع أهويتهم .
وفي " العناية " : { فَلا تَشْهَدْ } استعارة تبعية . وقيل مجاز مرسل ، من ذكر اللازم وإرادة الملزوم . لأن الشهادة من لوازم التسليم . وقيل كناية . وقيل مشاكلة { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } من وضع المظهر موضع المضمر ، للدلالة علة أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره ، أي : سوَّى به الأصنام ، فهو متبع للهوى لا غير ، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات ، موحّداً لله تعالى .
ولما بيّن تعالى فساد ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه ، بأمر الله ومشيئته ، بظهور عجزهم عن إبراز ما يتمسك به في ذلك ، وإحضار شهداء يشهدون بذلك ، بعد ما كلفوه مراراً -أمر الرسولَ بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 151 ]
فقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } من الأوثان : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي : وأحسنوا بالوالدين إحساناً . قال الحاكم : والإحسان ما يخرج عن حد العقوق ، ومثل هذا قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان 15 ] . ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ، ذكر في المحرمات . وكذا حكم ما بعده من الأوامر . فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده . بل هو عينه عند البعض . كأن الأوامر ذكرت وقُصِدَ لوازمها ، ومن سر ذلك هنا -أعني وضع : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } موضع ( النهي عن الإساءة إليهما ) -المبالغة والدلالة عن أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف في قضاء حقوقهما ، بخلاف غيرهما { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } أي : من أجل فقر ، ومن خشيته . والمراد بالقتل : وأد البنات وهن أحياء ، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية . فنهاهم الله عن ذلك وحرمه عليهم : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأن رزق العبيد على مولاهم : { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } يعني : الزنى لقوله : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء 32 ] وإنما جيء بصيغة الجميع قصداً إلى النهي عن أنواعه أو مبالغة باعتبار تعدد من يصدر منه : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } يعني : علانيته وسره : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } أي : قتلها لأيمانها أو أمانها : { إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ، يعني بالقَوَد والرجْم والارتداد : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } تلطفاً ورأفة : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : لتعقلوا عظمها عند الله تعالى فتكفوا عن مباشرتها .
قال المهايمي : فالشرك وعقوق الوالدين وقتل الأولاد للفقر ، منشؤه الجهل بما في الشرك من استهانة المنعم بالإيجاد ، وبما في الإساءة إلى الأبوين من مقابلة الإحسان بالإساءة ، وقربان الفواحش من متابعة الهوى ، والقتل من متابعة الغضب ؛ وكلها أضداد العقل .
تنبيه :
قال بعض ( الزيدية ) : قوله تعالى : { مِّنْ إمْلاَقٍ } خرج على العادة . وإلا فهو محرم ، خشي الفقر أم لا . وقد دلت على تحريم قتل الأولاد .
قال الحاكم : فيدخل في ذلك شرب الدواء لقتل الجنين . قال الإمام يحيى : إذا نفخ فيه الروح دون إفساد النطفة والعلقة والمضغة قبل أن ينفخ فيها الروح . وفي " الأحكام " يجب على من انقطع حيضها أن توقى من الأدوية ما يخاف على الجنين منها ، إذا كانت من ذوات البعول . وفي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } تأكيد للزوم ما تقدم . انتهى .
لطيفة :
قال القاشاني : لما كان الكلام مع المشركين في تحريم الطيبات ، عدّد المحرمات ليستدل بها على المحللات . فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل . وابتدأ بالنهي عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها . فإن رذيلتها أكبر الكبائر مستلزمة لجميع الرذائل . بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية السبعية . فقال : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } إذ الشرك من خطئها في النظر ، وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان . وعقبه بإحسان الوالدين . إذ معرفة حقوقهما تتلو معرفة الله في الإيجاد والربوبية . لأنهما سببان قريبان في الوجود والتربية . وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته ولهذا قال : ( من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله ) فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته . ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر . فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق . وأن أرزاق العباد بيده ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . والاحتجاب عن سر القدر ، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال . فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى . والثانية من خطئها في معرفة صفاته . والثالثة من معرفة أفعاله . فلا يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس محجوب عن نذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ؛ وهذه الحجب أُمُّ الرذائل وأساسها . ثم بيّن رذيلة القوة البهيمية لأن رذيلتها أظهر وأقدم فقال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ } ، ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ } . الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 152 ]
وقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ } أي : بوجه من الوجوه : { إِلَّا بِالَّتِي } أي : بالخصلة التي : { هِيَ أَحْسَنُ } يعني أنفع له . كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضاً . لا بأكله ، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه ، فإنه أفحش . وقد ذكرنا طرفاً فيما رخص فيه لوليّ اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [ النساء : 6 ] وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ } الآية ، و : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى } [ النساء 10 ] الآية ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه . فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله ، أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة 220 ] فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه . قيل : إنما خص تعالى مال اليتيم بالذكر ، لكونه لا يدفع عن نفسه ولا عن ماله هو ولا غيره . فكانت الأطماع في ماله أشد . فعزم في النهي عنه لأنه حماه ومقدمته ، وأمر بتنميته { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي : قوته التي يقر بها على حفظه واستنمائه ، وهذا غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي ، كأنه قيل : احفظوه حتى يصير بالغاً رشيداً . فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } . والأشد جمع ( شدة ) كنعمةً وأنعم ، أو شَدّ ككلب وأكلب ، أو شد كصِرّ وآصُر . وقيل هو مفرد كآنك : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل والتسوية في الأخذ والإعطاء . وقد توعد تعالى على تركه في قوله : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ المطففين : 1 - 6 ] .
قال ابن كثير : وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال . روى الترمذي عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الكيل والميزان : < إنكم وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم > . ثم ضعفه وصحح وقفة على ابن عباس . وروى نحوه ابن مردويه مرفوعاً ، ولفظه : < إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين ، بهما هلكت القرون المتقدمة : بالمكيال والميزان > .
{ لا نُكَلِّفُ نَفْساً } أي : عند الكيل والوزن : { إِلَّا وُسْعَهَا } أي : جهدها بالعدل . وهذا الاعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل ، لبيان أن مراعاة الحدّ من القسط ، الذي لا زيادة فيه ولا نقصان ، مما يجري فيه الحرج ، لصعوبة رعايته . فأمر ببلوغ الوسع ، وأن الذي ما وراءه معفوّ عنه . وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < : { أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } : من أوفى على يده في الكيل والميزان ، والله أعلم بصحة نيته بالوفاء فيهما ، لم يؤاخذ > .
قال ابن المسيّب : وذلك تأويل ( وسعها ) .
قال ابن كثير : هذا غريب .
وفي " العناية " : يحتمل رجوع قوله تعالى : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى ما تقدم . أي : جميع ما كلفناكم ممكن ، ونحن لا نكلف ما لا يطاق . انتهى . والأول أولى .
{ وَإِذَا قُلْتُمْ } أي : في حكومة أو شهادة ونحوهما : { فَاعْدِلُوا } أي : فيها أي : لا تقولوا الحق : { وَلَوْ كَانَ } أي : المقول له أو عليه : { ذَا قُرْبَى } أي : ذا قرابة منكم . فلا تميلوا في القول له أو عليه ، إلى زيادة أو نقصان .
قال بعض الزيدية : معنى قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } أي : اصدقوا في مقالتكم . قال : وهذه اللفظة من الأمور العجيبة في عذوبة لفظها وقلة حروفها وجمعها لأمور كثيرة من الإقرار والشهادة والوصايا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتاوى والأحكام والمذاهب .
ثم إنه تعالى أكد ذلك ، وبين أنه يلزم العدل في القول ، ولو كان المقول له ذا قربى . كقوله تعالى : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [ النساء 135 ] .
{ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } أي : ما عهد إليكم من الأمور المعدودة ، أو أي : عهد كان . فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أوليّاً . أو ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور : { ذَلِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر في هذه الآيات : { وَصَّاكُمْ بِهِ } أي : أمركم بالعمل به في الكتاب : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون . وفي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } تأكيد آخر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 153 ]
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } يقرأ بفتح همزة ( أن ) والتشديد . ومحلها مع ما في حيزها بحذف لام العلة . أي : ولأن هذا الذي وصيتكم به . من الأمر والنهي طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي قويماً لا اعوجاج فيه ، فاعلموا به . وجوز أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على ( ما حرم ) أي : وأتلو عليكم أن هذا صراطي . وقُرئ بكسر الهمزة على الاستئناف { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } يعني الأديان المختلفة أو طرق البدع الضلالات : { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : فتفرقكم عن صراطه المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده . روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً ثم قال : هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه . ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً } الآية . ورواه الحاكم وصححه .
لطائف :
قال الكيا الهراسي : في الآية دليل على منع النظر والرأي ، مع وجود النص .
قال ابن كثير : إنما وحد ( سبيله ) لأن الحق واحد ولهذا جمع ( السبل ) لتفرقها وتشعبها . كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات } [ البقرة 257 ] .
قال ابن عطية : وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية ، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات ، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع ، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام . وهذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد .
قال قتادة : اعلموا أن السبيل سبيل واحد . جماعة الهدى ، ومصيره الجنة . وأن إبليس استبدع سبلاً متفرقة . جماعة الضلالة ، ومصرها إلى النار . وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
{ ذَلِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل : { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : اتباع الكفر والضلالة . وفيه تأكيد أيضاً . روى الترمذيّ وحسنه ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء الآيات : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } -إلى قوله - : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . وروى الحاكم ، وصححه عن ابن عباس قال : في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات .
وروى الحاكم وصححه وابن أبي حاتم عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من ثلاث آيات . ثم قال : ومن وفى بهن فأجره على الله . ومن انتقص منهن شيئاً ، فأدركه الله في الدنيا ، كانت عقوبته . ومن أخره إلى الآخرة . كان أمره إلى الله . إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه > .
لطيفة :
قال النسفيّ : ذكر أولاً ( تَعْقِلُونَ ) ثم ( تَذَكَّرُونَ ) ثم ( تَتَّقُونَ ) لأنهم إذا عقلوا تفكروا ، ثم تذكروا ، أي : اتعظوا ، فاتقوا المحارم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [ 154 ]
{ ثُمَّ آتَيْنَا } أي : أعطينا : { مُوسَى الْكِتَابَ } يعني التوراة : { تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } يقرأ بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله إما ضمير ( الَّذي ) أي : تماماً للكرامة والنعمة على الذي أحسن . أي : على من كان محسناً صالحاً . يريد جنس المحسنين . وتدل عليه القراءة عبد الله ( عَلَى الذين أحسنوا ) وإما ضمير موسى عليه السلام ومفعوله محذوف . أي : تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به . أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع . من ( أحسن الشيء ) إذا أجاد معرفته ، أي : زيادة على علمه على وجه التتميم وعلى الأول فـ ( تماماً ) في موقع المفعول له . وجاز حذف اللام لكونه في معنى ( إتماماً ) أو مصدر لقوله ( ءَاتَيْنَا ) من معناه . لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة . كأنه قيل : أتممنا النعمة إتماماً . فـ ( تمام ) بمعنى ( إتمام ) كنبات في قوله تعالى : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً } . أو ( أصله إيتاء تمام ) . وعلى الوجه الثاني هو حال من الكتاب . وقرأ يحيى بن يعمر ( عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ ) بالرفع أي : على الذي هو أحسن ، أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب . فـ ( تماماً ) حال من الكتاب بمعنى ( تاماً ) أي : حال كون الكتاب تامّاً كائناً على أحسن ما يكون . قال ابن جرير : هذه قراءة لا استجير القراءة بها . وان كان في العربية له وجه صحيح { وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ } أي : وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين : { وَهُدىً } لهم إلى ربهم في سلوك سبيله : { وَرَحْمَةً } عليهم بإفاضة الفوائد : { لَعَلَّهُم } أي : أهل الكتاب : { بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يصدقون بلقائه للجزاء .
لطيفة
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { ثُمَّ آتَيْنَا } مَن قال إن : { ثُمَّ } لا تفيد الترتيب . انتهى
قال ابن كثير و : { ثُمَّ } ههنا لعطف الخبر بعد الخبر ، لا للترتيب كما قال الشاعر :
~قل لمن سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
وقال أبو السعود : و : { ثُمَّ } للتراخي في الأخبار كما في قولك : بلغني ما صنعت اليوم ، ثم ما صنعت أمس أعجبُ . أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل : ذلك وصاكم به قديماً وحديثاً . ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة . فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها ، أعظم من التوصية بها فقط . انتهى .
ثم أشار إلى أن التوراة . وإن كانت تماماً على النهج الأحسن ، فالقرآن أتم منه وأزيد حسناً . فهو أولى بالمتابعة ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 155 ]
{ وَهَذَا } أي : القرآن : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أكثر نفعاً من التوراة ديناً ودنيا : { فَاتَّبِعُوهُ } أي : اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام : { وَاتَّقُوا } يعني مخالفته واتباع غيره لكونه منسوخاً به : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : لترحموا بواسطة اتباعه ، وهو العمل بما فيه . وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحبها بلقاء ربه .
قال بعض الزيدية : وفي قوله تعالى : { فَاتَّبِعُوهُ } دلالة على وجوب تعلم القرآن ليمكن الاتباع له . لكن هو كسائر العلوم فرض كفاية إلا ما يتعين على كل مكلف ، كتعلم ما لا تصح الصلاة إلا به ، فإنه يجب عليه . انتهى . : { مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً } [ الأحقاف 12 ] [ وفي المطبوع : هود : 17 ] ، وقوله أول السورة : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } [ الأنعام 91 ] ، ثم قال : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام 92 ] الآية ، وقوله تعالى مخبراً عن المشركين : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } [ القصص 48 ] . وقوله تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا : { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ الأحقاف 30 ] الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } [ 156 ]
{ أَنْ تَقُولُوا } علة لـ ( أَنْزَلْنَاهُ ) . أي : كراهة أن تقولوا يوم القيامة . أو لئلا تقولوا : { إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } اليهود والنصارى : { وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ } عن تلاوة كتابهم : { لَغَافِلِينَ } لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا .
قال أبو السعود : ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافي عموم أحكامه . فلِمَ لَمْ تَعْملوا بأحكامه العامة ؟ والمعنى : وإن كنا لا ندري ما في كتابهم ، إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها ، وإن لم يكن منزلاً علينا . وبهذا تبين أن معذرتهم هذه ، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم ، أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضاً عليها ، لا على سائر الشرائع والأحكام فقط . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } [ 157 ]
{ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ } أي : كما أنزل عليهم : { لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } أي : إلى الحق وأسرع منهم إجابة للرسول لمزيد ذكائنا وجدّنا في العمل : { فَقَدْ جَاءَكُمْ } قال أبو السعود : متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة ، إما معلل به ، أي : لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم . وإما شرط له . أي : إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم ، فقد حصل ما فرضتم وجاءكم : { بَيِّنَةٌ } أي : كتاب حجة واضحة : { مِنْ رَبِّكُمْ } متعلق بـ ( جَاءَكُمْ ) أو بمحذوف صفة لـ ( بَيِّنَةٌ ) أي : بينة كائنة منه تعالى لا يتوهم فيه السحر : { وَهُدىً } بإقامة الدلائل ورفع الشبه : { وَرَحْمَةٌ } بإفاضة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات : { فَمَنْ أَظْلَمُ } . قال أبو السعود : الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها . فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه . أي : وإذا كان الأمر كذلك : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } أي : صَرَفَ الناس وصدَّهُم عنها . فجمع بين الضلال والإضلال . والمعنى إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له : { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ } الناس : { عَنْ آيَاتِنَا } أي : التي لو لم يصدفوا عنها لعرفوا إعجازها : { سُوءَ الْعَذَابِ } أي : العذاب السيء : { بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } وهذا كقوله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [ 158 ]
{ هَلْ يَنْظُرُونَ } يعني قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الضلالة . فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدّهم عن آيات الله ؟ .
قال البيضاوي : يعني أهل مكة . وهم ما كانوا منتظرين لذلك . ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر ، شبهوا بالمنتظرين { إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } يعني للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة .
قال ابن كثير : وذلك كائن يوم القيامة . وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } [ البقرة 210 ] بما فيه كفاية .
ومذهب السلف : إمرار ذلك بلا كيفٍ ، كما مرّ مراراَ .
قيل : { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ } أي : ملائكة الموت لقبض أرواحهم : { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وذلك قبل يوم القيامة ، كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئاً من ذلك . كما روى البخاريّ في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها . فإذا رآها الناس آمن من عليها . فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل . ورواه مسلم أيضاً ، ولمسلم والترمذيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض > { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } صفة ( نفساً ) : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } عطف على ( ءَامَنَتْ ) والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء ، وهي آية ملجئة مضطرة ، ذهب أوان التكليف عندها ، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات . أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً لفسقها . فتوبتها حينئذ لا تجدي .
قال الطبري : معنى الآية لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع ، إيمانٌ بعد الطلوع . ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع ، عملٌ صالح بعد الطلوع . لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ ، حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة . وذلك لا يفيد شيئاً . كما قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر 85 ] . وكما ثبت في الحديث الصحيح : < إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر > . انتهى .
وبالجملة : فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانُه . ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة . وذلك لذهاب زمن التكليف .
قال الضحاك : من أدركه بعض الآيات ، وهو على عمل صالح مع إيمانه ، قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية ، كما قبل منه قبل ذلك . فأما من آمن من شركٍ أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية ، فلا يقبل منه . لأنه حالة اضطرار . كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا . فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك ، لمعاينتهم الأهوال والشدائد ، التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة .
وقال ابن كثير : إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لم يقبل منه . فأما من كان مؤمناً قبل ذلك ، فإن كان مصلحاً في عمله ، فهو بخير عظيم . وإن لم يكن مصلحاً ، فأحدث توبة حينئذ ، لم تقبل منه توبته . كما دلت عليه الأحاديث . وعليه يحمل قوله تعالى : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } أي : لا يقبل منها كسب عمل صالح ، إذا لم يكن عاملاً به قبل . انتهى .
والأحاديث المشار إليها ، منها ما رواه ( مسلم ) عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه . > وروى الترمذيّ وصححه عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بابٌ من قِبَل المغرب مسيره عرضه - أو قال يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض . مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه > . ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه : < لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها > .
قال ابن حجر : سنده جيد . وأخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد من حديثه أيضاً بلفظ : لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . وروى اللإمام أحمد عن ابن السعديّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تنقطع الهجرة مادام العدوّ يقاتل > . فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عَمْرو بن العاص : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إن الهجرة خصلتان : إحداهما أن تهجر السيئات ، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تُقُبِّلَتِ التوبة ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طُبِعَ على كل قلب بما فيه ، وكُفِيَ الناسُ العملَ > .
قال ابن كثير : هذا الحديث حسن الإسسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة .
وهاهُنا مسائل :
الأولى : ذهب الجمهور إلى أن المراد بـ ( البعض ) في الآية هو طلوع الشمس من مغربها . كما في حديث الصحيحين السابق . ولا يقال يخالف ذلك حديث مسلم : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها . . الحديث . وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال نظراً . لأن نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده . وفي زمنه خير كثير دنيويّ وأخرويّ . فالإيمان مقبول وقتئذ . لأنا نقول : لا منافاة . وذلك لأن ( البعض ) في الآية ، إن كان عدة آيات ، فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول ، وإن كان إحدى آيات ، فهو محمول على المعيّن في الحديث ، لأنه أعظمها . كذا في " العناية " .
قال ابن عطية : إذا أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بتخصيص ِمانع القبول بالطلوع ، في الحديث الصحيح ، لم يجز العدول عنه ، وتعيّن أنه معنى الآية . انتهى .
وقال القاضي عياض : المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك . بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها . والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلويّ . فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة . وارتفع الإيمان بالغيب . فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع . فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله . الثانية : قال السيوطي في " الإكليل " : استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه . وهو مردود . ففي الكلام تقدير . والمعنى : لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبلُ ، إيمانُهَا حينئذ ، ولا ينفع نفساً لم تكسب خيراً قبلُ ، توبتُها حينئذ .
وقال الشهاب السمين : قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفساً كافرة ، إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك . ولا ينفع نفساً سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيراً . فقد علق نفي الإيمان بأحد وصفين : إما نفي سبق الإيمان فقط ، وإما سبقه مع نفي كسب الخير . ومفهوم الصفة قويّ فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة . ويكون فيه قلب دليل المعتزلة ، دليلاً عليهم .
وأجاب ابن المنير في " الانتصاف " فقال : هذا الكلام من البلاغة يلقب ( اللف ) وأصله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً ، لم تكن مؤمنة قبلُ ، إيمانُها بعدُ . ولا نفساً لم تكسسب خيراً قبلُ ، ما تكتسبه من الخير بعدُ ، فَلَفَّ الكلامين فجعلهما كلاماً واحداً إيجازاً . وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق . فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود . فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم .
وقال ابن الحاجب في " أماليه " : الإيمان قبل مجيء الآية نافع لو لم يكن عمل صالح غير ، ومعنى الآية : لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها العمل الصالح ، لم يكن الإيمان قبل الآية ، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها . فاختصر للعلم .
ونقل الطيبيّ كلام الأئمة في ذلك . ثم قال : المعتد ما قال ابن المنير وابن الحاجب . وبسطه : أن الله تعالى ، لما خاطب المعاندين بقوله تعالى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ } [ الأنعام 155 ] الآية ، علل الإنزال بقوله : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ } [ الأنعام 156 ] الخ ، إزالة للعذر وإلزاماً للحجة . وعقبه بقوله : { فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ } الخ ، تبكيتاً لهم وتقريراً لما سبق ممن طلب الاتباع . ثم قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ } الآية . أي : أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفاً لكل ريب وهادياً إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق ، ليجعلوه زاداً لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح . فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها . ثم قال : { هَلْ يَنظُرُونَ } الآية . أي : ما ينتظر هؤلاء المكذبين إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم . كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم . أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها ، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلان ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبلُ ، من الإيمان ، وكذا العمل الصالح مع الإيمان ، فكأنه قيل : يؤم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ ، إذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً من قبل . ففي الآية لف . لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً } [ النساء 172 ] .
قال : فهذا الذي عناه ابن المنير بقوله : إن هذا الكلام في البلاغة يقال له ( اللف ) والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً ، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك ، إيمانها من بعد ذلك ، ولا ينفع نفساً كانت مؤمنة ، لكن لم تعمل في إيمانها عملاً صالحاً قبل ذلك ، ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك . قال : وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة . فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير ، أي : لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة ، وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة .
ثم قال الطيبي : وقد ظفرتُ ، بفضل الله بعد هذا التقرير ، على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنىً ولفظاً ، من غير إفراط ولا تفريط . وهي قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } [ الأعراف : 52 - 53 ] . فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع . وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع . وأما بعد حصولها أنفع . وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلاً . والله أعلم . انتهى ملخصاً .
الثالثة : قال في " الوجيز " في قوله تعالى : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } أي : لفصل القضاء بين خلقه . وإتيانه نؤمن به ولا نعرف كيفه . انتهى .
وفي حواشي " جامع البيان " : كيف لا يؤمن بإتيانه ومجيئه تعالى يوم القيامة ، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } [ البقرة 210 ] { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] { إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل 33 ] . وأي أمر أصرح منه في القرآن ؟ .
وروي الطبري في " تفسيره " عن ابن عباس مرفوعاً : إن في الغمام طاقات يأتي الله فيها ، محفوفاً . وذلك قوله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الإمام وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } [ البقرة : 210 ] .
قال عِكْرِمَة : والملائكة حوله ، فهذا من صفات الله تعالى . يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت وإن لم نعرف كيفيتها . وعدم علمنا بكيفيتها ، بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته . فلا نكذب بما علمناه لعدم علمنا بما لم نعلمه . وهذا هو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة . انتهى .
وقوله تعالى : { قُلِ انتَظِرُواْ } أي : قل لهؤلاء الكافرين ، بعد بيان حقيقة الحال على وجه التحديد : انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أي : شيء تنتظرون .
{ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أي : لذلك ، لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة .
ثم بيّن تعالى أحوال أهل الكتاب ، إثر بيان حال المشركين بقوله سبحانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ 159 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } أي : اختلفوا فيه ، مع وحدته في نفسه ، فجعلوه أهواء متفرقة : { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي : فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها بسحب غلبة تلك الأهواء .
فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع ، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي : من عقابهم . أو أنت بريء منهم محميّ الجناب عن مذاهبهم . أو المعنى : اتركهم فإن لهم مالهم .
وقال القاشاني : أي : لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء . إذ هم أهل التفرقة لا يجتمع هممهم ، ولا يتحد قصدهم : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ } أي : في جزاء تفرقهم ومكافأتهم ، لا إليك : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم } يعني إذا وردوا يوم القيامة : { بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي : من السيئات والتفرقة ، لمتابعة الأهواء . ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم .
تنبيه :
قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى . وروى العوفي عن ابن عباس في الآية ؛ أن اليهود والنصارى اختفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا ، وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة . وآخر على الخوارج ، وأسندوا في ذلك حديثاً رفعوه .
قال ابن كثير : وإسناد ذلك لا يصحّ . ثم قال : والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق . فمن اختلف فيه ( وكانوا شيعاً ) أي : فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات ، فإن الله تعالى قد بّرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه ، وهذه الآية كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية [ الشورى 13 ] . وفي الحديث : < نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلاَّت . ديننا واحد > . فهذا هو الصراط المستقيم ، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له ، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر ، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء . والرسل برءاء منها كما قال الله تعالى : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ؛ ثم قال : وقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ الحج : 17 ] انتهى .
وقد أخرج أبو داود عن معاوية قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < ألا إِنَّ مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة . وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين . اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة > . ورواه الترمذي عن عبد الله بن عَمْرو ، وفيه : قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال : من كان على ما أنا عليه وأصحابي .
ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة . فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 160 ]
{ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ } أي : جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } يعني : عشر حسنات أمثالها في الحسن .
قال المهايمي : كمن أهدى إلى سلطان عنقود يعطيه بما يليق بسلطنته ، لا قيمة العنقود . انتهى . والعشر أقل ما وعد من الأضعاف . وقد جاء الوعد بسبعين ، وبسبعمائة وبغير حساب . ولذلك قيل : المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص : { وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ } أي : بالأعمال السيئة : { فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } في القبح .
قال المهايمي : فمن كفر خلد في النار ، فإنه ليس أقبح من كفره . كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله . ومن فعل معصية عذب بقدرها كمن أساء إلى آحاد الرعية . انتهى .
{ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : بنقص الثواب وزيادة العقاب .
لطيفة :
قال القاشاني في قوله تعالى : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } : هذا أقل درجات الثواب . وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب والسيئة بظهور النفس . فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلوا مقام النفس في الارتقاء ، تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد . وأما في السيئة فلأنه لا مقام أدون من مقام النفس . فينحط إليه بالضرورة . فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل . ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل . فإنه يزيد به صاحبه ويتنورّ استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق . فيتقوى على أضعاف ما فعل ويكتسب به أجوراً متضاعفة إلى غير نهاية ، بازدياد القبول على فعل كل حسنة وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله . كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [ البقرة 261 ] ، وأن العقاب من باب العدل إذ العدل يقتضي المساواة . ومن فعل بالنفس ، إذا لم يعف عنه ، يجازي بالنفس سواء . انتهى .
تنبيه :
وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية . فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فيما يروي عن ربه تعالى : < إن ربكم تبارك وتعالى رحيم . من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة . فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة . ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة . فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله إلا هالك > . ورواه البخاريّ ومسلم والنسائيّ . وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يقول الله تبارك وتعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } أو أزيد . ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر . ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ,من تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً . ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً ، لقيته بمثلها مغفرة > . وروى الشيخان عن أبي هريرة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < يقول الله تعالى : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها . وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة > لفظ البخاري . وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام . وذلك لأن الله تعالى قال : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } > . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله > . ورواه النسائي والترمذيّ وزاد : فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه : { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } ، اليوم بعشرة أيام . وبقيت أخبار أخرى . وفيما ذكر كفاية .
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه عليه ، من إرشاده إلى دينه القويم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 161 ]
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده المخلصين : { دِيناً } نصب على البلد من محل ( إلى صراط ) لأن معناه هداني صراطاً .
بدليل قوله : { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } [ النساء 175 ] ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور . أي : عرفني ديناً . أو مفعول ( هداني ) . و ( هدى ) يتعدى إلى اثنين : { قِيَماً } صفة ( ديناً ) يقرأ بالتشديد أي : ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل ، ولا تنسخه الشرائع والكتب ، مقوماً لأمر المعاش والمعاد . ويقرأ بالتخفيف . على أنه مصدر نعت به . وأصله قوَم كَعِوَض . فأُعلَّ لإعلال فعله كالقيام { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } المتفق على صحتها وهي التي أعرض بها عن كل ما سواه تعالى . عطف بيان لـ ( ديناً ) : { حَنِيفاً } حال من : { إِبْرَاهِيمَ } أي : مائلاً عن كل دين وطريق باطل ، فيه شركٌ ما ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من عقد وعمل . أي : ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلاً وفرعاً . صرح بذلك ردّاً على الذين يدعون أنهم على ملته من مشركي مكة واليهود والنصارى . أفاده أبو السعود .
تنبيه :
قال ابن كثير : هذه الآية كقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية ، أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها . لأنه عليه السلام قام بها قياماً عظيماً ، وأكملت له إكمالاً تامّاً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال . ولهذا قال : أنا خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق ، حتى الخليل عليه السلام ، وروى ابن مردويه عن ابن أَبْزَى عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال : < أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين > . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي : الأديان أحب إلى الله تعالى ؟ قال : < الحنيفية السمحة > ، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت : وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زَفْنِ الحبشة . حتى كنت التي مللت ، فانصرفت عنهم . وقالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : < ليعلم يهود أن في ديننا فسحة . إني أرسلت بحنيفية سمحة > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 162 ]
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي } لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع ، وما سبق بأصولها . أي : إن صلاتي إلى الكعبة : { وَنُسُكِي } أي : طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة ، أو عبادتي كلها : { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي : وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح . أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات ، كالوصية والتدبير . أو الحياة والممات أنفسهما : { لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ 163 ]
{ لاَ شَرِيكَ لَهُ } أي : خالصة لله لا أشرك فيها غيره : { وَبِذَلِكَ } أي : القول أو الإخلاص : { أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } أي : من هذه الأمة . لأن إسلام كل نبيّ متقدم على إسلام أمته .
قال ابن كثير : يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه ؛ أنه مخالف لهم في ذلك . فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ 164 ]
{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً } فأشركه في عبادته ، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم ، وفي إيثار نفي البغية والطلب ، على نفي العبادة ، أبلغيّة لا تخفى : { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } حال في موضع العلة للإنكار والدليل له . أي : وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية ، فلا أكون عبداً لعبده .
قال ابن كثير : أي : فلا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه . لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر . ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل . كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له . وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً . كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود 123 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك 29 ] . وقوله : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] وأشباه ذلك من الآيات .
{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
قال ابن كثير : إخبار عن الواقع يوم القيامة من جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير وإن شراً فشر . وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد . وهذا من عدله تعالى .
وقال أبو السعود : كانوا يقولون للمسلمين : { اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم ، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا - فهذا رد له بالمعنى الأول . أي : لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها . ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر ، حتى يتأتى ما ذكرتم ، وقوله تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } رد له بالمعنى الثاني . أي : لا تحمل يومئذ نفس حاملة ، حمل نفس أخرى ، حتى يصح قولكم .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد ، وقد ردت عائشة به على من قال : إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه . أخرجه البخاري ، وأخرج ابن أبي حاتم عنها ؛ أنها سئلت عن ولد الزنى ؟ فقال ليس عليه من خطيئة أبويه شيء . وتلت هذه الآية .
قال : الكيا الهراسيّ : ويحتج بقوله : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } في عدم نفوذ تصرف زيد على عَمْرو إلاَّ ما قام عليه الدليل . قال ابن الفرس : واحتج به من أنكر ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام .
وقال بعض الزيدية : قوله تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } يعني في أمر الآخرة . فيبطل قول إن أطفال المشركين يعذبون بكفر آبائهم . ويلزم أن لا يعذب الميت ببكاء أهله عليه . حيث لا سبب له . وأما في أمر الدنيا ، فقد خص هذا بحديث العاقلة ، وكذلك أسر أولاد الكفار ونحو ذلك . انتهى . : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ } أي : رجوعكم بعد الموت يوم القيامة : { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } يتميز الحق من الباطل . وهذه الآية كقوله تعالى : { قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ الزخرف : 25 - 26 ] [ في المطبوع : الزخرف : 32 ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 165 ]
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ } جمع خليفة . أي : يخلف بعضكم بعضاً فيها ، فتعمرونها خلفاً بعد سلف ، للتصرف بوجوه مختلفة : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان ، وله الحكمة في ذلك . كقوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف 32 ] ، وقوله سبحانه : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] ، وقوله تعالى : { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } أي : ليختبركم في الذي أنعم به عليكم ، أي : امتحنكم ، ليختبر الغنيّ في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره . وفي صحيح مسلم ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الدنيا حلوة خضرة . وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون . فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فغن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء . أفاده ابن كثير .
ثم رهب تعالى من معصيته ورغّب في طاعته بقوله سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ } أي : لمن عصاه وخالف رسله : { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن والاه واتبع رسله .
لطائف :
الأولى : قال السيوطيّ في " الإكليل " . استدل بقوله تعالى : { جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ } مَنْ أجاز أن يقال للإمام : خليفة الله . انتهى .
أي : بناء على وجهٍ في الآية . وهو أن المعنى : جعلكم خلائف الله في الأرض تتصرفون فيها . ذكره المفسرون . وآثرتُ ، قبلُ ، غير هذا الوجه لأنه أدق وأظهر ، والله أعلم .
الثانية : قال القاضي : وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه ، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة ، وأتى ببناء المبالغة واللام المبالغة واللام المؤكدة - تنبيهاً على أنه سبحانه وتعالى غفور بالذات ، معاقب بالعرض ، كثير الرحمة مبالغ فيها ، قليل العقوبة مسامح فيها . انتهى .
الثالثة : قال ابن كثير : إن الحق تعالى ، كثيراً ما يقرن في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ] ، وقوله : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم ُ *وأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } [ الحجر : 49 - 50 ] . إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب .
فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها . وتارة بهما . لينجع في كلّ بحسبه . جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر ، وترك ما نهى عنه وزجر ، إنه قريب مجيب .
قد تم بحمده تعالى الكلام على " محاسن تأويل " سورة الأنعام . وذلك ضحوة الأربعاء في 28 ربيع الأول . في شباك السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية عام 1321 . وكان تخلّل مدة شهر ونصف ، وقفت عن كتابة شيء من هذه السورة فيها ، وذلك من آخر البحث في قوله تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } الآية ، لعارض رحلتي إلى بيت المقدس في 28 محرم من العام المذكور . وبعد العود إلى الوطن في 8 ربيع الأول بدأت من قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ } الآية . في 20 ربيع الأول ، وتمت السورة في التاريخ المتقدم ، وَالْحَمدُ للهِ الَّذي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانَا اللهُ . بقلم جامعه جمال الدين القاسميّ .
ويليه الجزء الخامس - ويحتوي على تفسير سُوَر :
7 - الأعراف ، 8 - الأنفال ، 9 - التوبة .

(/)


سورة الأعراف
بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى :
{ المص } [ 1 ] .
{ المص } تقدم الكلام في أول سورة البقرة ، على حروف فواتح السور ، والمذاهب فيها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ 2 ] .
{ كِتَابٌ } أي : هذا كتاب : { أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } أي : لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه ، مخافة أن يكذبوك ، أو أن تقصر في القيام بحقه .
فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه ، وتكذيبهم له ، وإعراضهم عنه ، وأذاهم . فكان يضيق صدره من الأداء ، ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم .
قال الناصر : ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ } الآية : { لِتُنْذِرَ بِهِ } أي : بالكتاب المنزل ، المشركين ليؤمنوا : { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : عظة لهم .
وتخصيص الذكرى بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالمشركين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [ 3 ] .
قوله تعالى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } خطاب منه تعالى لكافة المكلفين بالأمر باتباع ما أنزل ، وهو القرآن ، والمراد بـ : { مَا أُنزِلَ } : القرآن والسنة ، وقوفا مع عمومه ، لقوله سبحانه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به ، لأنه من جملة ما أنزل الله ، وقد أمرنا الله باتباعها - انتهى - .
وأقول : هذا غلو في الاستنباط ، وتعمق بارد ، ويرحم الله القائل : إذا اشتد البياض صار بَرَصاً .
{ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : لا تتبعوا أولياء غيره تعالى ، من الجن والإنس ، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع .
{ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } أي : ما تتعظون إلا قليلا ، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه ، وتتركون دينه تعالى ، وتتبعون غيره .
ثم حذرهم تعالى بأسه ، إن لم يتبعوا المنزل إليهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 4 ] .
{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم .
{ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا } أي : فجاء أهلها عذابنا .
{ بَيَاتاً } أي : بائتين . كقوم لوط . والبيتوتة : الدخول في الليل ، أي : ليلا قبل أن يصبحوا .
{ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي : قائلين نصف النهار ، كقوم شعيب . والمعنى : فجاءها بأسنا غفلة ، وهم غير متوقعين له ، ليلا وهم نائمون ، أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة ، وكل ذلك وقت الغفلة .
والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم ، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب ، وفيه وعيد وتخويف للكفار ، كأنه قيل لهم : لا تغتروا بأسباب الأمن الراحة ، فإن عذاب الله إذا نزل ، نزل دفعة واحدة .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَو َأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ } ؟
ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ 6 ]
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } أي : المرسل إليهم وهم الأمم ، يسألهم عما
أجابوا عنه رسلهم كما قال : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } { وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } أي : عما أجيبوا به ، كما قال سبحانه : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } [ 7 ] .
{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ } أي : على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بِعِلْمٍ } أي : عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة .
{ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } أي : عنهم وعما وجد منهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 8 ] .
{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } أي : وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها ، يوم يسأل الله الأمم ورسلهم ، العدل .
{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي : حسناته في الميزان .
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الناجون من السخط والعذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ } [ 9 ] .
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : حسناته في الميزان { فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } بالعقوبة { بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ } أي : يكفرون .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية ذكر الميزان ، ويجب الإيمان به . انتهى .
وقال الإمام الغزالي في " المضنون " : تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور ، وبالموت ينكشف الغطاء كما قال تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ } ، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده ، وهي مقادير تلك الآثار ، وإن بعضها أشد تأثيراً من البعض ، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سبباً يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال ، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد . فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ، ومثاله في العالم
المحسوس مختلف ، فمنه الميزان المعروف ، ومنه القبان للأثقال ، والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات ، والمسطرة للمقادير والخطوط ، والعروض لمقادير حركات الأصوات . فالميزان الحقيقي ، إذا مثله الله عز وجل للحواس ، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها .
فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك ، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان ، وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ، وللخيال عند التمثيل ، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات ، والتصديق بجميع ذلك واجب . انتهى .
الثاني : الذي يوضع في الميزان يوم القيامة . قيل : الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً .
قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في " الصحيح " : < أن البقرة وآل عِمْرَان يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غَيابتان ، أو فِرقان من طير صَوَاف > .
ومن ذلك في " الصحيح " : قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون ، < فيقول : من أنت ؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك ، وأظمأت نهارك > ، وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر : < فيأتي المؤمن شاب حسن اللون ، طيب الريح ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح > . وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق .
فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية ، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية ، مناسبة لها في الحسن والقبح .
فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك ، وتتصور بصورة النار ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ، وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } . الآية
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة : < إنما يجرجر في بطنه نار جهنم > ، ولا بعد في ذلك ، ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن .
وقيل : صحائف الأعمال هي التي توزن ، ويؤيده حديث البطاقة ، فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عُمَر وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجل منها مد البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا ، يا رب ! فيقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل ، فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : يا رب ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة > .
وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث : < يؤتى يوما القيامة بالرجل
السمين ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، ثم قرأ : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } > .
وفي مناقب عبد الله بن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < أتعجبون من دقة ساقيه ؟ والذي نفسي بيده ! لهما في الميزان أثقل من أحد > .
قال الحافظ ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار ، بأن يكون ذلك كله صحيحاً ، فتارة توزن الأعمال ، وتارة يوزن محلها ، وتارة يوزن فاعلها . والله أعلم - انتهى .
قال أبو السعود : وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي ، والحكم العادل ، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ، بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريقة الكناية ، قالوا : إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء ، ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك ، لأنها أعراض قد فنيت ، وعلى تقدير بقائها ، لا تقبل الوزن . انتهى . وأصله للرازي .
قال في " العناية " : فمنهم من أول الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل ، أو مقابلتها بجزائها ، من قولهم : وازنه ، إذا عادله ، وهو إما كناية أو استعارة ، بتشبيه ذلك بالوزن المنتصف بالخفة والثقل ، بمعنى الكثرة والقلة ، والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف . انتهى .
فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل .
قال في " فتح البيان " : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه ، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الإستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة لأحد ، فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم ، من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم ، وقال كلٌ ما شاء ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم ، وليتهم جاءوا
بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها ، بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه ، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم ، يعرف هذا كل منصف ، ومن أنكره فليصفِّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه .
وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } وقوله : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } وقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً مذكورة في كتب السنة المطهرة ، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما ، فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق ، والصباح يغني عن المصباح . انتهى .
وخلاصته ، أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت ، ولا تعذر هاهنا .
الثالث : إن قلت : أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد ؟ فما الحكمة في وزنها ؟ قلت : فيه حكم :
منها : إظهار العدل ، وإن الله عز وجل لا يظلم عباده .
ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى .
ومنها : تعريف العباد ما لهم من خير وشر ، وحسنة وسيئة .
ومنها : إظهار علامة السعادة والشقاوة .
ونظيره ، أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ، ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم ، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى ، كذا في " اللباب " .
وقال أبو السعود : إن قيل : إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور ، فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها ، وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات
تلك الأعمال ، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه ، فما الفائدة في الوزن ؟
أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه ، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح ، وغير ذلك ، وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا ، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها ، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ، ولا يخطر بباله خلاف ذلك - انتهى .
وقد سبقه إلى نحوه الرازي .
ولما أمر تعالى أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ، ونهاهم عن اتباع غيره ، وبيّن لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، ذكرهم فنون نعمه ترغيباً في اتباع أمره ونهيه ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ 10 ]
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ } أي : جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها .
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } جمع معيشة ، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك من المتاجر والمزارع والصنائع .
{ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } الكلام فيه كالذي في قوله : { قليلاً ما تذكرون } وقد مرّ قريباً ، والتذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم ، أي : ما مننا عليكم بذلك إلا لتشكروا بمتابعة ما أنزلنا إليكم ، وترك متابعة من دوننا ، فتحصلوا معايش السعادات الأبدية .
ثم بيّن تعالى نعمته على آدم التي سرت إلى بنيه ، وبيّن لهم عداوة إبليس وما انطوى عليه من الحسد لأبيهم ، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } [ 11 ] .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ }
هذا كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } وفي تصدير هذه الآية بالقسم وحرف التحقيق ، كالتي قبلها ، إعلام بكمال العناية بمضمونها .
قال أبو السعود : وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين ، مع أن المراد بهما خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما ، توفية لمقام الإمتنان حقه ، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم ، بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام وتصويره ، لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه ، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعاً ، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه ، ومصنوع على شاكلته ، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره ، أي : خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ، ثم صوّرناه أبدع تصوير ، وأحسن تقويم ، سار إليكم جميعاً . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ 12 ]
{ قَالَ } سبحانه وتعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } أي : أن تسجد كما وقع في سورة : { ص } ، و لا ، مزيدة للتنبيه على أن الموبّخ عليه ترك السجود ، ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كما في قوله تعالى : { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } ، كأنه قيل : ليتحقق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك .
وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة لا النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه ، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقاً ، بل إذا صحبت نفياً مقدماً أو مؤخراً صريحاً أو غير صريح ، كما في : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } ، وكما هنا ، فإنها تؤكد تعلق المنع به . انتهى .
وقيل : ما منعك ، محمول على ما حملك وما دعاك ، مجازاً أو تضميناً .
وقال الراغب : المنع ضد العطية ، وقد يقال في الحماية ، والمعنى ما حماك عن عدم السجود ؟ ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود ، مع علمه به ، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره ، وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام ، كما أوضحه قوله تعالى : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } قال ابن كثير : هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب . انتهى .
وإنما قال هذا ولم يقل : منعني كذا ، مطابقة للسؤال ، لأن في هذه الجملة
التي جاء بها مستأنفة ، ما يدل على المانع ، وهو اعتقاده أنه أفضل منه ، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول ، مع ما في طيّها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله .
فالجملة متضمنة لجواب بقياس استدلاليّ ؛ وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمرود . وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين ، لأنها جوهر نورانيّ ، وهو ظلمانيّ ، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } . أي : بغير واسطة ، وباعتبار الصورة ، كما نبه عليه بقوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } ، وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواصّ ليست لغيره .
وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته ، يشرف بفاعله وغايته وصورته ، والثلاثة في آدم عليه السلام دونه ، فاستبان غلطه .
وفي " اللباب " أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق ، وأخطأ طريق الصواب ، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب ، وهذا الذي حمله ، مع سابقة شقائه على الاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام ، والاستخفاف بأمر ربه ، فأورده ذلك العطب والهلاك .
ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت ، وهذا كان الداعي لآدم عليه السلام ، مع سابقة سعادته ، إلى التوبة من خطيئته ، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم > . رواه مسلم .
تنبيه :
روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى :
{ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال : قال إبليس وهو أول من قاس .
وأخرج أيضاً بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس ، ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس ، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد .
قال الرازي : بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة : { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة ، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس ، وهو أنه مخلوق من النار ، والنار أشرف من الطين ، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف ، والأشرف لا يجوز أن لا يؤمر بخدمة الأدنى ، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر ، ولا معنى للقياس إلا ذلك .
وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم ، وما ذاك إلا لعدم جوازه ، وأيضاً ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر : وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى : { فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكونُ لَكَ أَن تَتكبَّرَ فِيهَا } فوصفه الله تعالى بكونه متكبراً ، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص ، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبّر على الله .
ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد ، والإخراج من زمرة الأولياء .
ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز ، وهذا هو المراد مما نقله الواحديّ في " البسيط " عن ابن عباس أنه قال : كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس ، فعصى ربه وقاس ، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه ، قرنه الله مع إبليس ، هذا ما نقله الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس ، وأفاده الرازي .
وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس ، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس ، وعن مسروق قال : لا أقيس شيئاً بشيء ، فتزلّ قدمي بعد ثبوتها .
وعن الشعبي : إياكم والقياس ، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام ، وحرمتم الحلال ، ولأن أتغنى غنية ، أحب إليّ من أن أقول في شيء برأيي .
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله من هذا المعنى آثاراً وافرة في " جامع بيان العلم وفضله " وقال : احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها ، وقالوا في حديث معاذ : إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة ، وتكلم داود في إسناد حديث معاذ ، وردّه ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ ، ولم يُسَمُّوا ، قال الحافظ ابن عبد البر : وحديث معاذ صحيح مشهور ، رواه الأئمة العدول ، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول ، ثم قال : وسائر الفقهاء قالوا في هذه الآثار وما كان مثلها في ذم القياس : إنه القياس على غير أصل ، أو القياس الذي يردّ به أصل ، والقول في دين الله بالظن ، ألا ترى إلى قول من قال منهم : أول من قاس إبليس ؟ لأن إبليس ردّ أصل العلم بالرأي الفاسد ، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها ، لا في رد الأصول بالرأي والظن ، وإذا صح النص من الكتاب والأثر بطل القياس
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } الآية ، و أي : أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود ، وهو العالم بما خُلق منه آدم ، وما خلق منه إبليس ؟ ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء ، فهذا ومثله لا يحلّ ولا يجوز ، وأما القياس على الأصول ، والحكم للشيء بحكم نظيره ، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف ، وبل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصاً ، لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل ، مخالف للسلف في الأحكام .
وقال مسروق الوراق :
~كلنا من الدين قبل اليوم في سعةٍ
حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس
~قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس
~أما العُرَيب فقوم لا عطاء لهم وفي الموالي علاماتُ المفاليس
فلقيه أبو حنيفة فقال : هجوتنا ، نحن نرضيك ، فبعث إليه بدراهم فقال :
~إذا ما أهل مصرٍ بادَهونا بآبدةٍ من الفُتيا لطيفهْ
~أتيناهم بمقياسٍ صحيحٍ صَليبٍ من طراز أبي حنيفهْ
~إذا سمِعَ الفقيهُ بهِ وَعاهُ وأثبته بحِبر في صحيفهْ
قال ابن عبد البر : اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك الزمن ، فقال :
~إذا ذو الرأي خاصَمَ عن قياسٍ وجاء ببدعة منه سخيفهْ
~أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرّزَةٌ شريفهْ
هكذا حكاه ابن عبد البر في " جامع فضل العلم " ، وله فيه في باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل ، مقالات سابغة جديرة بالمراجعة .
ومما ذكر فيه : أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحدّ .
قال : والسبب الموجب لذلك ، عندهم ، إدخاله الرأي والقياس على الآثار ، واعتبارهما ، وأكثرُ أهل العلم يقولون : إذا صح الأثر بطل النظر ، وكان ردّه لما ردّ من أخبار الآحاد بتأويل محتمل ، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره ، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي
وجُلّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعاً لأهل بلده ، كإبراهيم النَّخَعِي وأصحاب ابن مسعود ، إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل ، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم ، فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف ، ثم قال : وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية ، أو مذهب في سنة ، ردّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ ، أو ادعاء نسخ ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً ، وهو يوجد لغيره قليل .
قال : لليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، مما قال مالك فيها برأيه . قال : وقد كتبت إليه أعظه في ذلك . هذا كلام ابن عبد البر ملخصاً .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه : أنه روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس ، فمن ادعى إجماعهم - أي : الصحابة - على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقاً فقد غلط ، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط ، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها . انتهى .
وقال ابن تيمية رحمه الله في فتوى أخرى : والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم ، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضاً .
والقياس الصحيح نوعان :
أحدهما : أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقاً غير مؤثر في الشرع ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : < ألقوها وما حولها ، وكلوا سمنكم > ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصاً بتلك الفأرة وذلك السمن ، فلهذا قال جماهير العلماء : أن [ في المطبوع : إنه ] أي : نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت ، وكالهرّ الذي يقع في السمن ، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن .
ومن قال من أهل الظاهر : إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن ، فقد أخطأ ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة ، لكن لما استفتى عنها أفتى فيها ، و الاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع ، فأجاب المفتي عن ذلك ، خصه لكونه سئل عنه ، لا لاختصاصه
بالحكم ، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمّخة بخلوق فقال : انزع عنك الجبة الخلوق ، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك .
فأجابه عن الجبة ، ولو كان عليه قميص أو نحوه ، كان الحكم كذلك بالإجماع .
والنوع الثاني من القياس : أن ينص على حكم لمعنى من المعاني ، ويكون ذلك المعنى موجوداً في غيره ، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما ، وكان هذا قياساً صحيحاً .
فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما ، وهما من باب فهم مراد الشارع ، فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه ، وعلى أن يعرف مراده باللفظ ، وإذا عرفنا مراده ، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك ، لا لمعنى يخص الأصل ، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك ، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص ، منعنا القياس ، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة ، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان ، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة ، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس ، ونحو ذلك ، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره .
وإذا عين الشارع مكاناً أو زماناً للعبادة ، كتعيين الكعبة وشهر رمضان ، أو عين بعض الأقوال والأفعال ، كتعيين القراءة في الصلاة ، والركوع والسجود ، بل وتعيين التكبير وأم القرآن ، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم ، وقالوا : المقصود أربعة أشهر من السنة ، فقال تعالى : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص ، من جنس قياس الذين قالوا : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ للَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }
وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكّي وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؟ قال تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . فهذه الأقيسة الفاسدة ، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد ، وكل من الحق منصوصاً بمنصوص يخالف حكمه ، فقياسه فاسد . وكل من سوى بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد . لكن من القياس ما يعلم صحته ، ومنه ما يعلم فساده ، ومنه ما لم يتبين أمره . فمن أبطل القياس مطلقاُ فقوله باطل . ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل .
ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته ، فقد استدل بما لا يعلم صحته ، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته ، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته ، وإلى ما يعلم فساده ، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها .
ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة ، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة ، وهذا هو المراد من قول من قال : النصوص تتناول أفعال المكلفين .
ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض ، كقوله :
{ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } و : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } ، فالكتاب هو النص ، والميزان هو العدل . والقياس الصحيح من باب العدل ، فإنه تسوية بين المتماثلين ، وتفريق بين المختلفين ، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة
النص ، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد ، ولا يوجد نص يخالف قياساً صحيحاً ، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح ، ومن كان متبحراً في الأدلة الشرعية ، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأنيسة ، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة ، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر ، كما يدل النص على ذلك ، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء ، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة كما دل القرآن على هذا المعنى ، وهذا المعنى موجود في جميع الأربة المسكرة ، لا فرق في ذلك بين

شراب وشراب ، فالفرق بين الأنواع المشتركة من الجنس تفريق بين المتماثلين ، وخروج عن موجب القياس الصحيح ، كما هو خروج عن موجب النصوص .
وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس ، لكن يقولون : معنا آثار توافق ، اتبعناها ، ويقولون : إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر ، وغلطوا في فهم النص ، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم .
ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها ، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ، وقد قال تعالى :
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا - والله أعلم - انتهى كلامه رحمه الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [ 13 ] .
{ قَالَ } تعالى لإبليس : { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي : بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي ، وأكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الجنة ، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها .
قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى . انتهى .
وعليه اقتصر المهايمي حيث قال : فاهبط منها أي : من رتبة الملكية إلى رتبة العناصر : { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } أي : فما يصح ولا يستقيم ، فإنها مكان المطيعين الخاضعين : { فَاخْرُجْ } تأكيد للأمر بالهبوط ، متفرع على علته : { إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي : من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ 14 ]
{ قَالَ أَنْظِرْنِي } أي : أمهلني ولا تمتني { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : آدم وذريته من القبور .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين } [ 15 ]
{ قَالَ } أي : الله له : { إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ } أي : من المؤجلين إلى نفخة الصور
الثانية .
قال ابن كثير : أجابه تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ، ولا معقب لحكمه .
وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشميّ اليماني في تفسيره " التهذيب " : ومتى قيل : ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون ؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى ، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية ، ومتى قيل : هل خاطبه بهذا ؟ قلنا : يحتمل ذاك ، ويحتمل أنه أمر ملكاً فخاطبه به ، ومتى قيل : هل يجوز إجابة دعاء الكافر ؟ فيه خلاف .
الأول : قيل لا ، لأنه إكرام وتعظيم - عن أبي علي - ولذلك يقال : فلان مستجاب الدعوة ، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه ، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع .
الثاني : يجوز إجابة دعائه استصلاحاُ له ، لأنه تفضل - عن أبي بكر أحمد بن علي - وليس بالوجه .
ومتى قيل : إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية ؟ قلنا : لا ، لأنه لم يعلم ما الوقت المعلوم ، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه ، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار ، ولعنه - علم أنه لا يختار الإيمان أبداً .
ومتى قيل : ما فائدة إنظاره ؟ قلنا : لطف له ، لأنه يمكنه من استدراك أمره ، وهل يضل به أحد ؟ قال أبو علي ، لا ، لقوله تعالى : { مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } { إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } ولأنه لو ضل به ، لكان بقاؤه مفسدة ن فكان الله تعالى لا ينظره .
فأما أبو هاشم فيجوِّز أن يضل به أحد ، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة ، ويجوز أن يكون لطفاً من وجوه :
أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح ، كان ثوابه أكثر ، ولأنه تعالى عرفنا عداوته ، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوه ويغمه ، وذلك إنما يكون بطاعة ربه ، ومن أطاعه فمن قِبَل نفسه أتى ، لا من قبل ربه . انتهى كلام الجشمي ، وهو جارٍ على أصول المعتزلة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [ 16 ]
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } أي : أضللتني عن الهدى ، أو حكمت بغوايتي ، والباء للقسم ، كما في قوله تعالى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ } أي : فأقسم لإغوائك إياي ، وقيل : هي بمعنى لام التعليل ، أي : لأجل إغوائك إياي : { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي :
لآدم وبنيه ترصداً كما يقعد القطاع للطريق على السابلة : { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : طريقك السوي ، وهو طريق الحق ومعناه لا أفتر عن إفسادهم ، وانتصابه على الظرفية أو على نزع الجار .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ 17 ]
{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي : من جميع الجهات الأربع ، مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي : وجه يمكنه ، بإتيان العدو من الجهات الأربع التي يعتاد هجومه منها ، ولذلك لم يذكر الفوق والتحت .
{ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } أي : مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم ، في طريق الطاعة والتقرب إلى الله ، وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن ، كقوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
روى الإمام أحمد عن سَبْرة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ؟ قال : فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماؤك ، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول ، قال : فعصاه فهاجر ، قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل فتنطح المرأة ويقسم المال ؟ قال : فعصاه فجاهد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات ، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، أو قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة > .
وقال الحافظ : ورد في الحديث استعاذة من تسلط الشيطان على الْإِنْسَاْن من جهاته كلها فروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان

والحاكم عن عبد الله بن عُمَر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي : < اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي ، وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي > . ورواه البزار عن ابن عباس .
فائدة :
قال الجشمي : تدل الآية أنه سأل الإنظار ، وأنه تعالى أنظره ، وقد بينا ما قيل فيه ، وتدل على شدة عداوته لبني آدم وحرصه على إضلالهم ، وتدل على أن أكثر بني آدم غير شاكرين ، وتدل على أن الإضلال فعل إبليس ، والقبول عنه فعلهم ، لذلك أضافه إليهم ، وذمهم عليه ، ولو كان خلقاً له لما صح ذلك . انتهى .
والكلام في أمثالها معروف .
ثم أكد تعالى على إبليس اللعنة والطرد والإبعاد عن محل الملأ الأعلى ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 18 ] .
{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوما } بالهمزة في القراءة المشهورة ، من ذأمهُ ، إذا حقره وذمه ، وقرئ ( مذوماُ ) بذال مضمومة وواو ساكنة ، وهي تحتمل أن تكون مخففة من المهموز ، بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها ، وأن تكون من المعتل ، وكان قياسه مذيم كمبيع ، إلا أنه أبدلت الواو من الياء ، على حد قولهم مَكُول في مكيل ، و مَشوب في مشيب .
{ مَدْحُوراً } مقصياً مطروداً .
{ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ } اللام فيه ، لتوطئة القسم ، وجوابه
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } ، أي : لمن أطاعك من الجن والإنس ، لأملأن جهنم من كفاركم ، كقوله تعالى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً } .
قال الجشميّ : وإنما قال ذلك لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس وحزبه من الشياطين ، وكفار الإنس وفساقهم ، الذين انقادوا له وتركوا أمر الله لأمره ، فجمعهم في الخطاب ، ومتى قيل : لم ضيَّق جهنم ووسَّع الجنة ؟ قلنا : لأن جهنم حبس ، والجنة دار ملك .
ومتى قيل : فما الفائدة في قوله : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ } قلنا : لطفاً ليكون
المكلف تبعاً للأنبياء دون الشياطين ، ولطفاً لإبليس وحزبه ، لأنه غاية في الزجر والنهي .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على الوعيد لمن تبع إبليس ، وأنه يملأ جهنم منهم ، ولا بد فيه من شرط ، وهو أن لا يتوب ، أو لا يكون معه طاعة أعظم ، وتدل على إذلال إبليس وطرده ولعنه بسبب عصيانه ، تحذيراً عن مثل حاله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين } [ 19 ]
قوله تعالى : { وَيَا آدَمُ } أي : وقلنا يا آدم : { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } أي : جنة الخلد ، أو جنة في الأرض .
قال الجشمي : وقد تقدم ذكر هذه القصة ، والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة ، والعوارض تعرض ، والوفود تقدم ، فكانت القصة تعاد ، ليسمع من لم يسمع ، استصلاحاُ ولطفاً ، لأن في إعادة قصة واحدة ، في مواضع بألفاظ مختلفة ، كل واحد منها في نهاية الحسن ، من إعجاز القرآن .
{ فَكُلا مِنْ حَيْثُ } أي : من كل مكان : { شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : فتصير من الذين ظلموا أنفسهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا ما وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهَ ِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ 20 ]
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ } أي : إبليس بأكل الشجرة مخيلاً لهما النفع .
{ لِيُبْدي لَهُمَا } أي : يظهر لهما : { مَا وُورِيَ } أي : ستر : { عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا } أي : عوراتهما واللام في : { لِيُِبْدي } إما للعاقبة ، لأنه لم يعلم صدوره منهما ، أي : فكان عاقبة وسوسته أن أظهر سوآتهما ، أو للتعليل والغرض ، وهو الأصل فيها ، بناء على حدسه أو علمه بطريق ما .
تنبيه :
في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه مستهجن في الطباع ولذلك سميت سوأة ، لأنه يسوء صاحبها . .
قال الحاكم : وقد استدل قوم بالآية على وجوب ستر العورة ، وأنه كان في شريعة آدم عليه السلام .
قال القاضي : لا دليل في الآية على الوجوب ، لأنه ليس فيها إلا أنهما فعلا ذلك .
قال الأصم : في الآية دليل على أنهما كرها التعريّ ، وإن لم يكن لهما ثالث ، ففي ذلك دليل على قبح التعري ، وإن لم يكن مع المتعري أحد ، إلا لحاجة { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا } أي : إلا كراهة أن تكونا : { مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } أي : من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين .
وقد استدل بهذا من رأى تفضيل الملائكة على الأنبياء ، لارتكابهما ذلك طمعاً في نيل ما ذكر ، وأجاب من لم ير هذا ، باحتمال أن تكون هذه الواقعة قبل نبوة آدم ، ولئن كانت بعدها ، فلعل آدم رغب في الملكية للقوة والشدة والقدرة ، أو لخلقة الذات ، بان يصير جوهراً نورانياُ - أشار له الرازي .
وقال الناصر : لا يلزم من اعتقاد إبليس لذلك ووسوسته لأن الملائكة أفضل ، أن يكون الأمر كذلك في علمه تعالى ، ألا ترى إبليس قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخلدا أو لا يكونا ملكين ، وهو في ذلك كاذب مبطل فلا دليل فيه إذاً ، وليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لإبليس على ذلك ، ولا تصديقه فيه ، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما ، إذ قال الله تعالى : { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } فلعل تفضيل الملائكة على النبوة من جملة غروره . انتهى .
قال السيوطي في " الإكليل " : وأنا أقول : لا أزال أتعجب ممن أخذ يستدل من هذه الآية ، والكلام الذي فيها ، حكاه الله تعالى عن قول إبليس في معرض المناداة عليه بالكذب والغرور والزور والتدليس ، وإنما يستدل من كلامه تعالى ، أو من كلام حكاه عن بعض أنبيائه ، وإن لم يكن ذلك ، فكلام حكاه راضياً به مقراً له . انتهى .
على أنه قرئ ( مَلِكين ) بكسر اللام ، كان يقرؤها كذلك ابن عباس ويحيى بن أبي كثير . قال الواحدي : إنما أتاهما إبليس من جهة الملك . ويدل على هذا قوله تعالى : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } . انتهى .
والقراءة الشاذة قد تكون تفسيراً للمتواترة ، كما لا يخفى ، وبه يندفع ما للرازي هنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ 21 ]
{ وَقَاسَمَهُمَا } أي : أقسم لهما : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } أي : في هذا الأمر .
قال ابن كثير : أي : حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما ، وقد يخدع المؤمن بالله . انتهى .
وعن قتادة : إنما يخدع المؤمن بالله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة ، أعتقه ، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك ، فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } [ 22 ]
{ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } أي : أطمعهما ، وأصله : الرجل العطشان يدلي في البئر ليروي من مائها ، فلا يجد فيها ماء ، فيكون مدلياً فيها بغرور ، فوضعت التدلية موضع الإطماع فيها لا يجدي نفعاً ، وفيه إشعار بأنه أهبطهما بذلك من درجة عالية ، إلى رتبة سافلة ، فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل .
وقيل : معنى دلاهما جرَّأهما بغروره ، والأصل فيه دلَّلَهما ، والدلّ والدالة الجرأة كما قال :
~أظن الحلم دلَّ عليَّ قوْمي وقد يُستَجْهلُ الرجل الحليم
فأبدل أحد حرفي التضعيف ياءً :
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } أي : أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما اللباس ، فظهرت لهما عوراتهما .
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل له بعضهم على أن من ذاق الخمر عصى . انتهى .
وهذا وقوف مع ظاهر ما ههنا ، فإن الذوق وجود الطعم بالفم ، وظاهر أنه قد يعبر به عن الأكل اليسير ، وهو المراد هنا ، لأنه وقع في آية أخرى مصرحاً بالأكل فيها : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } أي : أخذا يرقعان

ويلزقان ورقة فوق ورقة : { عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي : ليستترا به .
قال الجشمي : تدل على أن ستر العورة كان من شريعة آدم عليه السلام ، وقد استدل قوم بالآية على وجوب الستر .
قال القاضي : وليس في الآية ما يوجب الوجوب ، إذا ليس فيها أكثر من أنهما فعلا ذلك .
قال الأصم : وتدل على أن الستر من خلق آدم وحواء ، وأنهما كرها العري وإن لم يكن لهما ثالث ، ففي ذلك دليل على قبح التعري إلا عند الحاجة .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } أي : يذكرهما النهي السابق والأمر والتجنب عن الشيطان .
{ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } أي : عن الأكل منها : { وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 23 ] .
{ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } أي : أضررناها بالمعصية : { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا } أي : ما سلف : { وَتَرْحَمْنَا } أي : بالتوبة وقبولها { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : لنصيرن ممن خسر جميع ما حصل له من الكمالات .
قال الضحاك بن مُزَاحم في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا } الآية : هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه .
لطيفة :
قال الجشمي : يقال إن آدم عليه السلام سعد بخمسة أشياء : إعترف بالذنب ، وندم عليه ، ولام نفسه ، وسارع إلى التوبة ، ولم يقنط من الرحمة ، وشقي إبليس بخمسة أشياء : لم يقر بالذنب ، ولم يندم ، ولم يلم نفسه بل أضاف إلى ربه فلم يتب ، وقنط من الرحمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [ 24 ]
{ قَالَ اهْبِطُوا } أي : من الجنة إلى ما عداها ، وقال أبو مسلم : معناه اذهبوا ، وهو خطاب لآدم وحواء وإبليس .
قال ابن كثير : والعمدة في العداوة آدم وإبليس ، ولهذا قال في سورة طه : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَما جَمِيعاً } الآية ، وحواء تبع لآدم ، والحية إن كان ذِكْرها صحيحاً فهي تبع لإبليس .
وقد ذكر المفسرون الأماكن
التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها ، ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة ، تعود على المكلفين ، في أمر دينهم أو دنياهم ، لذكرها الله تعالى في كتبه ، أو رسوله صلى الله عليه وسلم . انتهى .
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي : استقرار أو موضع استقرار { وَمَتَاعٌ } أي : تمتع ومعيشة .
{ إِلَى حِينٍ } أي : إلى تقضيّ آجالكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [ 25 ]
{ قَالَ فِيهَا } أي : الأرض { تَحْيَوْنَ } تعيشون { وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } أي : يوم القيامة للجزاء ، كقوله تعالى
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } . ثم ذكرهم سبحانه بنعمته في تبوئة الدار والمستقر في الأرض وكسوتهم لباساً يسترون به سوءاتهم ، بعدما نزع عنهما لباس الجنة ، وذلك لما هم بعد الإهباط ، من الحاجة إلى اللباس والمعاش ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 26 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } يعني ما يلبس من الثياب وغيره .
قال الزمخشري : جعل ما في الأرض منزلاًَ من السماء ، لأنه قضى ثمة وكتب ، أي : قضى وقسم لكم ، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح المحفوظ .
وقال أبو البقاء : لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر ، والمطر ينزل ، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول : لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة ، في اللباس والأثاث ، وهذا - والله أعلم - معنى إنزاله ، فإنه ينزله من ظهور الأنعام ، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار ، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش ، فقد أنزلها عليهم ، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب ، فهي لدفع الحر والبرد ، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان .
{ يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } أي : يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق ، وأنتم مستغنون عن ذلك .
{ وَرِيشاً } عطفه إما من عطف الصفات ، فوصف اللباس بشيئين : مواراة السوأة والزينة ، فالريش بمعنى الزينة ، لأنه زينة الطير فاستعير منه ، وأما من عطف الشيء على غيره ، أي : أنزلنا لباسين :
لباس مواراة ، ولباس زينة ، فيكون مما حذف فيه الموصوف ، أي : لباساً ريشاً ، أي : ذا ريش ، والريش مشترك بين الاسم والمصدر .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه : الريش المال ، وحكاه غير واحد من السلف ، قال الإمام ابن تيمية : وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال ، والمراد به مال مخصوص ، قال ابن زيد : جمالا ، قال ابن السكيت : الرياش هو الأثاث من المتاع والأموال ، وقد يكون في الثياب دون الأموال ، وإنه لحسن الريش ، أي : الثياب . انتهى .
ويقال : راش فلان ، أي : جمع الريش ، وهو المال والأثاث . وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه ، وأصله من الريش كأن الفقير المملق لا نهوض له ، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيراً ، فقد رشته ، كذا في تاج العروس .
فائدة :
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة عن عُمَر بن الخطاب قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : < من استجد ثوباً فلبسه ، فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في ذمه الله تعالى وفي جوار الله ، وفي كنف الله حياً وميتاً > . ورواه الترمذي وابن ماجة ، وروى الإمام أحمد عن أبي مطر أنه رأى علياً رضي الله عنه أتى
غلاماً حدثاً ، فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين ، ويقول ولبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي . فقيل : هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوة : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي .
ولما بين تعالى ساتر الظاهر وزينته ، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } أي : خشية الله ، أو الإيمان ، أو السمت الحسن ، والكل متقارب ، ورفعة بالابتداء خبره جملة : { ذَلِكَ خَيْرٌ } أو خيرٌ ، وذلك صفته ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير .
قال المهايمي : لأن الظاهر محل نظر الخلق ، والباطن محل نظر الحق ، والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة .
وقال القاشاني : لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس ، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع ، لأنه أصل الدين وأساسه ، كالحمية في العلاج . انتهى .
قال أبو علي الفارسي : معنى الآية : ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به ، وأقرب له إلى الله تعالى ، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به ، قال : وأضيف اللباس إلى التقوى ، كما أضيف إلى الجوع في قوله : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } . انتهى .
أي : فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس ، تشتمل على جميع بدنه ، بحسب الورع والخشية من الله ، اشتمال اللباس على اللابس ، أو من قبيل
لجين الماء . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ( ولباس التقوى ) بالنصب ، عطفاً على ( لباساً ) .
{ ذَلِكَ } أي : إنزال اللباس : { مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } الدالة على فضله ورحمته على عباده { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : نعمته عليهم فيعرفون عظمتها فيشكرونها .
قال الزمخشري : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت ، وخصف الأوراق عليها ، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري ، وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدها ، وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة ، وقال آخرون : لا تدل ، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به ، فأما أنه واجب ، فبعيد ، ولو ثبت وجوبه عليه ، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف ، وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع ، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شريعة أخرى .
وتدل على أنه تعالى كما أنعم بنعم الدنيا ، أنعم بنعم الدين ، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح ، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب ، فتحصل نعمة الدارين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } [ 27 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : لا يخدعنكم عن دخول الجنة ، بنزع لباس الشريعة والتقوى عنكم ، فيخرجكم من نظر الله بالرحمة إليكم : { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } نعت لمصدر محذوف ، أي : لا يفتننكم فتنةً مثل إخراج أبيكم .
{ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } أي : الظاهر بسبب نزع لباس التقوى { لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا } أي : الظاهرة الدالة على السوأة الباطنة . وجملة : { يَنْزِعُ } حال من : { أَبَوَيْكُمْ } أو من فاعل : { أَخْرَجَ }
أي : أخرجهما نازعاً لباسهما ، بأن كان سبباً في أن نزع عنهما ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة .
تنبيهان :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بهذه الآية أيضاً على وجوب ستر العورة ، واستدل بالآيتين من قال : إن العورة هي السوأتان خاصة . انتهى .
الثاني : قال الإمام الرازي : أعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها ، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم ، وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده ، أتبعها بأن حذر أولاده من قبول وسوسة الشيطان ، فقال : { يَا بَنِي ءَادَمَ } الآية ، وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ، ولطف
وسوسته ، وشدة اهتمامه ، إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة ، فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى .
فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالإحتراز عن وسوسته .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } أي : جنوده من الشياطين : { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } أي : من مكان لا ترونهم فيه .
والجملة استئناف لتعليل النهي ، وتأكيد التحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي ، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون .
عن مالك بن دينار : إن عدواً يراك ولا تراه ، لشديد المؤنة ، إلا من عصم الله .
تنيبه :
قال السيوطي في " الاكليل " : قال ابن الفرس : استدل بها بعضهم على أن الجن لا يرون وأن من قال إنهم يُرون فهو كافر . انتهى .
ومراده بالبعض ، المعتزلة ، ولذا قال الزمخشري : فيه دليل بين أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس ، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة . انتهى .
وقال الجشمي : تدل على بطلان قول العامة إن الشيطان يتصور لنا ونراه ، ثم قال : ومتى قيل : أليس يُرون زمن الأنبياء ، ويرى المعاين الملَك ؟ فجوابنا : أنه يزداد قوة الشعاع أو تتكاثف أبدانهم ، فيكون معجزة للنبي . انتهى .
وأجاب أهل السنة كما في " العناية " : بأنه قد ثبتت رؤيتهم ، بالأحاديث الصحيحة المشهورة ، وهي لا تعارض ما في الآية لأن المنفي فيها رؤيتهم إذا لم يتمثلوا لنا .
وقال في فتح البيان : وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة ، وليس في الآية ما يدل على ذلك ، وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه وليس فيها أنا لا نراه أبداً ، فإن انتفاء الرؤية منّاً له ، وفي وقت رؤيته لنا ، لا يستلزم انتفاءها مطلقاً .
والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة ، وتكون الآية مخصوصة بها ، فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض . انتهى .
وقد أوضح الغزالي رحمه الله رؤيا الجن والشياطين برؤيا الملائكة حيث قال في الركن الثاني : الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها . مختلفة
بالحقائق إختلافاً يكون بين الأنواع ، ثم قال : ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر - أعنى جواهر الملائكة - وإن كانت غير محسوسة ، وهذه المشاهدة على ضربين :
إما على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } .
وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام ، يرى جبريل في صورة دَحْيَة الكلبي .
والقسم الثاني : أن يكون لبعض الملائكة بدن مخصوص ، كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها ، فكذلك بعض الملائكة ، وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفاً على إشراق نور النبوة ، كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوفة عند الإدراك على إشراق نور الشمس ، وكذا في الجن والشياطين . انتهى .
وقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال الزجاج : يعني سلطناهم عليهم ، يزيدون في غيهم . انتهى .
والجملة تعليل آخر للنهي ، وفيه تحذير أبلغ من الأول .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 28 ] .
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } أي : ما تناهى قبحه من الذنوب ، كالشرك وكشف العورة في الطواف { قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } أي : إذا فعلوها إعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها ، فاقتدوا بهم ، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها ، حيث أقرنا عليها
إذ لو كرهها لنقلنا عنها ، وهما باطلان ، لأن أحدهما تقليد للجهال ، والتقليد ليس بطريق للعلم ، والثاني افتراء على ذي الجلال .
قال الشهاب : في قوله تعالى : { وَاللّهُ أَمَرَنَا } : مضاف مقدر أي : أمر آباءنا ، فلا يقال الظاهر أمرهم بها ، والعدول عن الظاهر إشارة إلى إدعاء أن أمر آباءهم أمر لهم .
{ قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } أي : هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك ، لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال : { أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إنكار لإضافتهم الأمر بالفحشاء إليه سبحانه ، يتضمن النهي عن الإفتراء عليه تعالى ، وفيه شهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط .
قال الشهاب : ولا دليل في الآية لمن نفى القياس ، بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم ، لأنه مخصوص في عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به ، أو بدليل آخر .
تنبيه :
قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراةً ، يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ، فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء وتقول :
~اليومَ يبدو بعضهُ أو كلُّهُ وما بدا منه فلا أُحِلُّهُ
فأنزل الله : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } الآية ، قال ابن كثير : كانت العرب ، ما عدا قريشاً ، لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها .
وكانت قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه ، فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوباً جديداً ، ولا أعاره أحمسي ثوباً ، طاف عرياناً ، وربما كانت امرأة ، فتطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعد الستر ، فتقول : اليوم يبدو . . . - البيت - وأكثر ما كان النساء يطفن بالليل ، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر تعالى عليهم ذلك .
وذكر السيوطي في " الإكليل " عن ابن عباس أيضاً ، أنه نزلت في طوافهم بالبيت عراة ، رواه أبو الشيخ وغيره ، قال : ففيها وجوب ستر العورة في الطواف .
تنبيهان :
الأول : ذهب المعتزلة إلى أن الإرادة مدلول الأمر ، ولازمة له ، والفحشاء - أعني الشرور والمعاصي - غير مأمور بها بنص الآية ، فلا تكون مرادة له تعالى .
وأجاب أهل السنة بأن الأمر قد ينفك عن الإرادة ، بمعنى أنه يوجد بدون الإرادة ، فلا تكون الإرادة تابعة له وجوداً ، ومما يوضح أن الشيء قد يؤمر به ولا يكون مراداً ، أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده ، يأمره بالشيء ولا يريده منه .
ومنها أن الأمر أمران :
أمر تكويني : يحصل به وجود الأشياء ، وهو خطاب كن وهو تابع للإرادة ، يعم جميع الكائنات . فالطاعات والمعاصي كلها مأمورة ومرادة بهذا الأمر ، ولا يتعلق بهذا الأمر الطاعة والعصيان والثواب والعقاب ، لأنه يتعلق بالأشياء حال العدم .
وأمر تشريعي تدويني : أي : شرعه الله لعباده ، وكلفهم به ، مما دون في كتب الشريعة وبُين ، وهذا الأمر يتعلق به الطاعة والعصيان والثواب والعقاب والرضا والسخط ، والكفر والمعاصي ليست مأمورة بهذا الأمر .
والمعتزلة لم يفرقوا بين الأمرين ، وقالوا : إن الكفر والمعاصي لو كانت مراده تعالى ، لكانت مأموراً بها ، وإتيان المأمور به طاعة ، فيكون الكافر والفاسق مطيعين ، فإنهما مأمور بهما بالأمر الأول ، وليس مأموراً بهما بالأمر الثاني ، حتى يكون إتيانهما طاعة .
قال السيلكوتي : ولا يخفى عليك تقسيم الأمر إلى أمرين ، إنما يستقيم إذا كان قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } على ظاهره ، كما ذهب إليه البعض .
وأما إذا كان عبارة عن الإيجاد من غير أن يتعلق بها خطاب ، كما ذهب إليه الأشعري ومن تبعه ، فلا . انتهى .
والمسألة مبسوطة في محالها المعروفة .
الثاني : قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } جواب عن شبهتهم الثانية .
ولم يذكر جواباً عن الأولى ، قال الإمام : لأنها إشارة إلى محض التقليد ، وقد تقرر في المعقول أنه طريقة فاسدة ، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة ، فلو كان التقليد حقاً ، لزم القول بحقية الأديان المتناقضة ، فلما كان فساده ظاهراً ، لم يذكره تعالى .
الثالث : قال في " فتح البيان " : في هذه الآية الشريفة أعظم زاجر ، وأبلغ واعظ ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق ، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر ، لا بأهل الحق ، فإنهم القائلون : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }
والقائلون : { وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } . والمقلد ، لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب ، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به ، وأنه الحق لم يبق عليه .
وهذه الخصلة هي التي بقى بها اليهودي على يهوديته ، والنصراني على نصرانيته ، والمبتدع على بدعته ، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية والبدعة ، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب ، ولا بحثوا عن الله كما ينبغي ، وهذا هو التقليد البحت القصور الخالص .
ثم قال : وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق ، اختيار المقلدة لآراء الرجال ، مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم ، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم ، ووجود آلة الفهم لديهم ، وملكة العقل عندهم . انتهى .
ولما نفى ما تقولوه عليه وأخبر أنه لا يأمر بالفحشاء ، بين ما أمر به بقوله تعالى

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ 29 ] .
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل ، وللسلف فيه هنا
وجوه : ما ظهر في العقول كونه حسناً ، أو التوحيد ، أو كلمة الإخلاص .
وعن أبي مسلم : جميع الطاعات ، قال الحاكم : وهو الوجه : ولا يخفى أن الجميع مما يشمله : { القِسْط } فلا منافاة .
{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع : { أن } ، أي : بأن أقسطوا وأقيموا ، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر ، كما نقله المُعرب ، أو معطوف على : { أمَرَ رَبِّي } أي : قل أقيموا .
قال الجرجاني : الأمر معطوف على الخبر ، لأن المقصود لفظه ، أو لأنه إنشاء معنى . انتهى .
والوجوه مجاز عن الذوات . ومسجد إما مصدر ، والوقت مقدر قبله ، و : { عِنْدَ } بمعنى في ، أي : أقيموا ذواتكم في كل وقت سجود ، وذلك بمنعها عن الالتفات إلى الغير فيه ، وبمراعاة موافقة الأمر مع صدق النية ، أو باستقبال القبلة فيه ، وإما اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي ، أي : في كل وقت سجود أو مكانه .
والسجود على هذه الأوجه مجاز عن الصلاة ، أو المسجد هو المصطلح عليه ، والمعنى : في أيّ
مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم ، والأمر على هذا الوجه للندب ، قيل : وهو لا يناسب المقام ، وإما على ما قبله ، فهو للوجوب .
وهذه الوجود مستفادة مما روي عن السلف . قال في
" اللباب " : معنى الآية في قول مجاهد والسدّيّ : وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة .
وقال الضحاك : المعنى إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلّوا فيها ، ولا يقولن أحدكم : أصلي في مسجدي ، أو مسجد قومي ، وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصاً .
{ وَادْعُوهُ } أي : اعبدوه : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : الطاعة بتخصيصها له ، لأنه استحق عبادتكم بإبدائه إياكم ، ولا يسعكم تركها ، إذا إليه عودكم بالآخرة ، فإنه : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } أي : كما أنشأكم ابتداء ، يعيدكم إليه أحياء ، فيجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة . وإنما شبه الإعادة بالابتداء ، تقريراً لإمكانها والقدرة عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ 30 ] .
{ فَرِيقاً هَدَى } بأن وفقهم للإيمان : { وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } وهم الكافرون : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء } أي : أنصاراً وأرباباً : { مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي : أنهم على هداية وحق فيما اعتقدوا .
تنبيهان :
الأول : قال ابن جرير : قوله تعالى : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها ، أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ، فيركبها عناداً منه لربه فيها ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل ، وهو يحسب أنه مهتد ، وفريق الهدى فرقٌ ، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية . انتهى .
وحاصله ، كما قال القاضي : إن الآية دلت على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم .
قال القاضي : وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر ،
أي : يحمل الضمير في : { اتَّخَذُوا } على الكافر المقصر في النظر ، وأما الذين اجتهدوا وبذلوا الوسع فمعذورون ، كما هو مذهب البعض ، كذا في " العناية " .
الثاني : قال الرازي : هذه الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين ، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين ، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ، ولولا أن هذا الحسبان مذموم ، لما ذمهم بذلك . انتهى .
قال المهايمي : ومما حسبوا فيه أنهم مهتدون بمتابعة الشيطان ، تركهم التزين والتلذذ مع العبادة ، فطافوا عراة ، وتركهم اللحم والسم مع الإحرام ، فقال عز وجل :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [ 31 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أي : من اللباس : { عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أي : بيت بُنِي للعبادة ، على أنه اسم مكان ، أو مصدر بمعنى السجود ، مراداً به الصلاة والعبادة ، فإن العبادة أولى أوقات التزين : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } أيام الحج تقوياً على العبادة : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } أي : إسرافاً يوجب الإنهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة ، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } المعتدين .
تنبيهات :
الأول : كما أسلفنا في مقدمة هذا التفسير ، أن من فوائد معرفة سبب النزول الوقوف على المعنى ، وإزالة الإشكال ، وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا ، لأنها نزلت في ذلك .
فقد روى مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة ، فتقول : من يعيرني تِطْْوافاً ؟ تجعله على فرجها وتقول :
~اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أُحله
فنزلت هذه الآية : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } الآية . ونزلت : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّه } الآية .
وعند ابن جرير عن ابن عباس قال : كانوا يطوفون عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانت المرأة تقول :
~اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أُحله
فنزلت : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } . قال في " اللباب " : وفي رواية أخرى عنه : فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا . وروى العوفي عن ابن عباس أيضاً في الآية قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد .
وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال : أُمروا بلبس الثياب ، وأخرج من وجه آخر عنه قال : الشملة من الزينة ، وقال مجاهد : كان حيٌّ من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجاً أو معتمراً يقول : لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول : من يعيرني مئزراً ؟ فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً . فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } الآية .
وقال الزهري : إن العرب كانت [ في المطبوع : كنت ] تطوف بالبيت عراة إلا الحمس - وهم قريش وأحلافهم - فمن جاء من غير الحمس ، وضع ثيابه ، وطاف في ثوب أحمسي ، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه ، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ، ويطوف عرياناً ، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها ، وإذا قضى طوافه وحرمها ، أي : جعلها حراماً عليه ، فلذلك قال تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
والمراد من الزينة الثياب التي تستر العورة . قال مجاهد : ما يواري عوراتكم ، ولو عباءة - انتهى -
قال ابن كثير : هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النَّخَعِي ، وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ، والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها : أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة . انتهى .
فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول ، دون لباس التجمل المتبادر منه ، لأن المستفاد من : { خُذُواْ } هو وجوب الأخذ ، ولباس التجمل مسنون - قاله الشهاب - وأقول دلت الآية بما أفاده سبب نزولها على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من اللباس كما توهم ، وبين ذلك العوفي عن ابن عباس فيما نقلناه .
وفي " التهذيب " : الزينة إسم جامع لكل شيء يتزين به . ومثله في " الصحاح " و " القاموس " وعبارته : الزينة ما يتزين به .
وقال الحراني : الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة .
وقال الراغب : الزينة الحقيقية ما لا يشين الْإنسَان في شيء من أحواله ، ولا في الدنيا ولا في الآخرة . انتهى .
وقد نقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد بالزينة لبس الثياب التي تستر العورة .
قال : والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ، قال : وأيضاً إنه تعالى قال في الآية المتقدمة : { قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا } فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة .
ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية ، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية .
وأيضاً فقوله : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أمر ، والأمر للوجوب ، فثبت أن أخذ الزينة واجب ، وكل ما سوى اللبس فغير واجب ، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان ، ولا يقال : إن قوله : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } أمر إباحة ، فيكون المعطوف عليه كذلك ، لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف ، تركه في المعطوف عليه .
هذا ، وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً : أنها نزلت في الصلاة في النعال ، وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه ، وعن أبي هريرة مثله ، قال ابن كثير : وفي صحته نظر - والله أعلم -
قلت : لا نظر ، لأن ذلك مما تشمله الزينة ، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم : نزلت في كذا ، لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به ، بل مخصوص بنوعه ، فتعم ما أشبهه ، فتذكر .
والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جداً ، منها : عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد ، قال : سألت أنساً : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ؟ قال : نعم . متفق عليه .
قال العراقي في " شرح الترمذي " : وممن كان يفعل ذلك - يعني لبس النعل في الصلاة - عُمَر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي ، ومن التابعين :
سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار ، وعطاء بن أبي رَبَاح ومجاهد ة وطاوس وشريح القاضي ، وأبو مجلز وأبو عمر الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النَّخَعِي وإبراهيم التَّيمي وعلي بن الحسين وإبنه أبو جعفر . انتهى .
وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : < إذاجاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما > .
وحديث عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً . أخرجه أبو داود وابن ماجة .
الثاني : دلت الآية على وجوب الستر عند الطواف ، لأنه سبب النزول ، قالوا : واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد .
الثالث : حاول بعضهم استنباط التجمل عند الصلاة منها حيث قال : لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة ، فُهِم منها في الجملة ، حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها .
قال الكيا الهراسي : ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد ، للفضل الذي يتعلق به تعظيماً للمسجد و الفعل الواقع فيه ، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف .
وقال ابن الفرس : استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية ، واستدل بها قوم من السلف على أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين ، كذا في " الإكليل " ، والأخير من الغلو في النزع .
وقال ابن كثير : ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة ، يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه من تمام ذلك ، ومن أفضل اللباس البياض لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إلبسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ، وإن من خير أكحالكم الِإثمد ، يجلو البصر وينبت الشعر > ولأحمد وأهل السنن ، عن سمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم > .
وروى الطبراني بسند صحيح ، عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميماً الداري اشترى رداءً بألف ، وكان يصلي فيه .
الرابع : وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة ، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } ما رواه الكلبي أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً ، يعظمون بذلك حجهم .
فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله . فأنزل الله عز وجل : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } .
وقال السدي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم . فقال الله تعالى لهم : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } الآية .
الخامس : فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل ، وذلك بتحريمه ، وقال الجشمي اليمني في تفسيره " التهذيب " : تدل الآية على المنع من الإسراف . وذلك على وجهين :
أولهما : إنفاق في معصية كالفخَار واللعب والزنى والخمر ونحوها .
وثانيهما : أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار ، لأن من له قدر يسير ، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز ، وهو وعياله يحتاجون إليه ، فهو سرف محرم .
ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفاً ، وتدل على أن الأشياء على الإباحة .
والعقل يدل على ذلك ، لأنه تعالى خلقه لمنافعهم ، والسمع ورد مؤكداً ، ولذلك قال : { مَنْ حَرَّمَ } مطالباً بدليل سمعي .
وقد روى الإمام أحمد عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده > .
وأخرج النسائي وابن ماجة نحوه .
وقال البخاري : قال ابن عباس : كلْ ما شئت ، ما أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة .
ورواه ابن جرير عنه أيضاً بلفظ : أحل الله الأكل والشرب ، ما لم يكن سرفاً أو مخيلة .
قال الشهاب : هذا ـ أي : ما قاله ابن عباس ـ لا ينافي ما ذكره
الثعالبي وغيره من الأدباء ، أن ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ، ويلبس ما يشتهيه الناس ، كما قيل :
~نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس
~كل ما اشتهيت والبس نَّ ما اشتهته الناس
فإنه لِترك ما لم يعتد بين الناس ، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه . و المخيلة : الكبر . و ما دوامية زمانية . و أخطأتك ، من قولهم أخطأ فلان كذا ، إذا عدمه .
وفي الأساس : من المجاز لن يخطئك ما كُتب لك و وأخطأ المطر الأرض : لم يصبها ، وتخاطأته النبل : تجاوزته وتخطأته . انتهى .
وفي قوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وعيد تهديد لمن أسرف في هذه الأشياء ، لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه .
السادس : تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } الآية ، جمع الطب كله . وأصله ما حكاه الزمخشري والكرماني في عجائبه ، أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأبدان ، وعلم الأديان .
فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه ، قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } ، فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب ! فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة ، قال : وما هي ؟ قال قوله : < المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وأعط كل بدن ما عودته > فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً .
قال في " العناية " : وترك بعضهم تمام القصة ، لأن في ثبوت هذا الحديث كلاماً للمحدثين .
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة ، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم > . انتهى .
أقول : إن صحت هذه الحكاية ، فصواب جواب النصراني في سؤاله الثاني بالتفنيد والفرية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ما لم يؤثر عن نبي قط ، وللمحدثين في عهد السلف منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم . وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في
أسفار مطولة ومختصرة بعنوان " الطب النبوي " .
وقد بين الإمام ابن القيم : عليه الرحمة ، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب ، والسنة المطهرة على بدائعه ، في كتابه " زاد المعاد " ، بياناً يدهش الألباب ، وفوق كل ذي علم عليم ، قال عليه الرضوان في كتابه " زاد المعاد في هدي خير العباد " :
فصل
قد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم ، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ، ووصفه لغيره ، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها ، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم ، فنحن نقول وبالله المستعان :
المرض نوعان :
مرض القلوب ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
ومرض القلب نوعان : مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغي ، وكلاهما في القرآن .
قال تعالى في مرض الشبهة : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } وقال تعالى : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } ، وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، فهذا مرض الشبهات والشكوك .
وأما مرض الشهوات فقال تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً } ، فهذا مرض شهوة الزنى - والله أعلم ـ .
وأما مرض الأبدان فقال تعالى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } ، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع ، يبين ذلك عظمة القرآن والاستغناء به ، لمن فهمه وعقله ، عن سواه ، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ، والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة . فقال في آية
الصوم : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } .
فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ، والمسافر ، طلباً لحفظ صحته وقوته ، لئلا يذهبه الصوم في السفر ، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل ، فتخور القوة وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظاً لصحته وقوته عما يضعفها .
وقال في آية الحج : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك } فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه ، من قمل أو حكة أو غيرهما ، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر ، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها .
فهذا الإستفراغ يقاس عليه استفراغ يؤذي انحباسه . والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ، والمني إذا سبغ ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش .
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه ، وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس ، على استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن ، التنبية بالأدنى على الأعلى .
وأما الحمية ، فقال في آية الوضوء : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبا } فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حميةٌ له أن يصيب جسده ما يؤذيه .
وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذٍ له ، من داخل أو خارج . فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ، ومجامع قواعده .
ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .
فأما طب القلوب ، فمسلّم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم ، وعلى أيديهم ، فإن صلاح القلوب أن تكون عرافة بربها وفاطرها ، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه .
ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل .
وما يظن من حصول القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك ، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها ، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل . ومن لم يميز بين هذا وبين هذا ، فليبك على حياة قلبه ، فإنه من
الأموات ، وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات . انتهى .
وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتاب " طريق الهجرتين " نورده أيضاً لبداعة أسلوبه قال عليه الرحمة :
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له ، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية ، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل ، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه ، كما يدرك الحلو مراً ، والخبيث طيباً ، والطيب خبيثاً .
وأما فساد حركته الطبيعية ، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة .
فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال ، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك ، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة ، سبب هذا الخروج عن الاعتدال ، إما فساد في الكمية أو في الكيفية ، فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها ، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها .
والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة ، أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي ، فيداوى بمقتضى ذلك ، ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، نظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة ، وقد تضمنها الكتاب العزيز ، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة .
فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان ، ويقضي المسافر إذا قدم ، والمريض إذا برأ ، حفظاً لقوتهما عليهما .
فإن الصوم يزيد المريض ضعفاً ، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر ، فالصوم يضعفها .
فأما الحمية عن المؤذي ، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره ، وأمره بالعدول إلى التيمم ، حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه ، فكيف بالمؤذي له في باطنه ؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة ، فإنه سبحانه أباح للمُحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له ، وهذا من أسهل أنواع الإستفراغ وأخفها ، فنبه به على ما هو أحوج إليه منه .
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال : والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة ، لكان سفراً قليلاً أو كما قال . انتهى .
ثم ردّ تعالى على من حرَّم شيئاً من المآكل والمشارب والملابس ، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله ، تأكيداً لما سبق ، بقوله سبحانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 32 ] .
{ قُلْ } أي : لهؤلاء المشركين الذي يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم : { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ } أي : من الثياب وسائر ما يتجمل به : { اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } من النبات كالقطن والكتان ، والحيوان كالحرير والصوف ، والمعادن كالدروع ، هكذا عمم المفسرون هنا ، وجهه أن تخصيصه يغني عنه ما مر : { وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } أي : المستلذات من المآكل والمشارب .
قال المهايمي : يعني إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل الذي هو العبادة ، فيحرمان معها ، فأعلمهم أن قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة ، فعل عبيد الملوك إذا حضروا خدمتهم ، ولا ينافي ذلك تذللهم لهم ، وكذلك الطيبات التي خلقها التي خلقها لتطييب قلوب عباده ليشكروه ، والشكر عبادة ، فلا ينافي التلذذ العبادة ، بل قد يكون داعية إليها . انتهى .
تنبيهات :
الأول : فسرت الطيبات بالحلال ، وفسرت باللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم ، وفسرت بالبحائر والسوائب كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً } . وظاهر أن لفظ الآية أعم من ذلك ، وإن كان يدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً ، لأنها إنما وردت نعياً عليهم فيه ، والعبرة بعموم اللفظ .
قال الرازي : لفظ الزينة يتناول جميع أنواع التزين ، ومنه تنظيف البدن ، ومنه المركوب ، ومنه أنواع الحي يعني للنساء . ثم قال : ويدخل تحت الطيبات ، كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات ، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب ، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون ، ما هم به من الإختصاء والتبتل .
الثاني : دلت الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة ، لأن الاستفهام في : { مَنْ } لإنكار تحريمها على وجه بليغ ، لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه .
الثالث : في الآية رد على من تورّع من أكل المستلذات وليس الملابس الرقيقة ، لأنه لا زهد في ترك الطيب منها ، ولهذا جاءت الآية معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه ، أو حرمه على غيره ، وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف ، على لباس القطن والكتان ، مع وجود السبيل إليه من حله ، ومن أكل البقول والعدس ، واختاره على خبر البر ، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة . انتهى .
الرابع : قال ابن الفرس : واستدل بالآية من أجاز لبس الحرير والخز للرجال .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز ، فقال له الناس مثلك يلبس هذا ؟ فقال لهم : من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده ؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال : لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج ، ولكنه كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه . كذا في " الإكليل " .
أقول : عدم شمول الآية للحرير غني عن البيان ، لأنه ما خصه الدليل لا يتناوله العام ، والأحاديث في تحريم الحرير لا تحصى كثرة ، فاستنباط حله منها مردود على زاعمه .
{ قُلْ هِي } أي : زينة الله والطيبات ، مخلوقة : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بالأصالة ، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع : { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : لا يشاركهم فيها غيرهم ، لأن الله حرم الجنة على الكافرين وانتصابها على الحالية ، وقرئ بالرفع ، أي : على أنه خبر بعد خبر .
لطيفة :
قال المهايمي : إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة ، فيرغبوا فيها مزيد رغبة ، لكن شاركهم الكفرة فيها لئلا يكون هذا الفرق ملجئاً لهم إلى الإيمان .
فإذا ذهب هذا المعنى ، تصير خالصة لهم يوم القيامة ، فلو حرمت على المؤمنين لكانت مخلوقة للكافرين ، وهو خلاف مقتضى الإيمان ، وهو العبادة والتقوى ، ولكن من غير انهماك في الشهوات .
{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : الحكمة في خلق الأشياء ، واستعمال الأشياء على نهج ينفع ولا يضر .
فإن زعموا أنه يُخاف من التزين والتلذذ الوقوع في
الكبر ، والإنهماك في الشهوات ، فيحرمان على أهل العبادة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 33 ] .
{ قُلْ } إنهما من المنافع الخاصة في أنفسهما . والإفضاء احتمال غير محقق ، فإذا أفضى ، فالحرام هو المفضى إليه بالذات لأنه : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } أي : ما تفاحش قبحه من الذنوب ، أي : تزايد وهي الكبائر ، وهي ما يتعلق بالفروج .
{ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : ما جاهر به بعضهم بعضاً ، وما ستره بعضهم عن بعض ، وما ظهر من أفعال الجوارح ، وما بطن من أفعال القلوب .
{ وَالإِثْمَ } أي : ما يوجب الإثم ، وهو عام لكل ذنب وذكره للتعميم بعد التخصيص ، ويقال إن الإثم هو الخمر ، قال الشاعر :
~نهانا رسول الله نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يُوجب الوزرا
وأنشد الأخفش :
~شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
وهومنقول عن ابن عباس والحسن .
وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره ، قال الحسن : ويصدقه قوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } .
وقال ابن الأنباري : لم تسم العرب الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام ، والشعر المذكور موضوع ، ورد بأنه مجاز لأنه سببه . وقال أبو حيان : هذا التفسير غير صحيح هنا
لأن السورة مكية ، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أُحد وقد سبقه إلى هذا غيره .
وأيضاً ، الحصر يحتاج إلى دليل ، كذا في " العناية " .
{ وَالْبَغْيَ } أي : الاستطالة على الناس وظلمهم ، إنما أفرده بالذكر ، مع دخوله فيما قبله ، للمبالغة في الزجر عنه .
وذلك لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميز من بينها حتى عد نوعاً مستقلاً .
{ بِغَيْرِ الْحَقِّ } متعلق بالبغي ، مؤكد له معنى ، وقيل : البغي قد يخرج عن كونه ظلماً إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص ، إلا أنه مثله لا يسمى بغياً حقيقة ، بل مشاكلة : { وَ } قد حرم : { أَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } أي : برهاناً أي : ما لم يقم عليه حجة .
قال الزمخشري : فيه تهكم ، لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره .
وفي " العناية " : إنما جاء التهكم من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان
لم يكن محرماً ، دلالة على تقليدهم في الغي ، والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معاً على الوجه الأبلغ . انتهى .
قال الرازي : وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل .
وتبعه القاضي فقال : في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان : { وَ } قد حرم عليكم : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : تتقولوا عليه ، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم ، أو في الشرك .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على تحريم جميع الذنوب ، لأن قوله الفواحش والإثم ، يشتمل على الصغير والكبير ، والأفعال القبيحة ، والعقود المخالفة للشرع ، والأقاويل الفاسدة ، والاعتقادات الباطلة .
ودخل في قوله : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أفعال الجوارح ، وأفعال القلوب والخيانات ، والمكر ، والخديعة ، ودخل تحت قوله : { وَالْبَغْيَ } كل ظلم يتعدى على الغير ، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج ، والأمراء إذا انتصروا بغير حق . ودخل تحت قوله
{ وَأَن تُشْرِكُواْ } تحريم كل شرك وعبادة لغير الله . ودخل تحت قوله : { وَأَن تَقُولُواْ } كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق ، وشهادة زور ونحوه .
فالآية جامعة في المحرمات ، كما أن ما قبلها جامعة في المباحات ، وفيه تعليم للآداب ، ديناً ودنيا ، وتدل على بطلان التقليد ، لأنه أوجب اتباع الحجة ، لقوله : { ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } ، والسلطان الحجة .
وتدل على أن لكل أحد وقت حياة ، ووقت موت ، لا يجوز فيه التقديم والتأخير ، فيبطل قول من يقول : المقتول مات قبل أجله . انتهى .
ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه ، كما نزل بالأمم ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ 34 ] .
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي : مدة أو وقت لنزول العذاب بهم : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } أي : ميقاتهم المقدر لهم .
{ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي : لا يتركون بعد الأجل شيئاً قليلاً من الزمان ، ولا يهلكون قبله كذلك ، والساعة مثل في غاية القلة من الزمان .
لطائف :
1 - وقع هذا التركيب في موضع من التنزيل ، وفيه بحث مشهور : وهو أنه لما
كان الظاهر عطف لا يستقدمون ، على لا يستأخرون ، كما أعربه الحوفيّ وغيره ، أُورد عليه أنه فاسد ، لأن إذا ، إنما يترتب عليها الأمور المستقبلة لا الماضية ، و الاستقدام حينئذ بالنسبة إلى محل الأجل متقدم عليه ، فكيف يترتب عليه ما تقدمه ؟ ويصير باب الإخبار بالضروري الذي لا فائدة فيه ، كقولك : إذا قمت فيما يأتي ، لم يتقدم قيامك فيما مضى .
وأجيب بأن المراد بالمجيء الدنو ، بحيث يمكن التقدم في الجملة ، كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة فيه .
وقيل : إن جملة : { لا يَسْتَقْدِمُونَ } مستأنفة . وقيل : إنها معطوفة على الشرط وجوابه ، أو على القيد والمقيد ، أو أن مجموع لا يستأخرون ولا يستقدمون ، كناية عن أنهم لا يستطيعون تغييره .
والتحقيق أنه عطف على : { يَسْتَأْخِرُونَ } لكن لا لبيان انتفاء التقدم ، مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، كما يتوهم ، بل للمبالغة في انتفاء التأخر ، يعني أن التأخر مساو للتقدم في الاستحالة ، ولذا نظمه معه في سلك ، كما في قوله سبحانه : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبة له رأساً ، قد نظم في عدم القبول ، في سلك من سوّفها إلى حضور الموت ، إيذاناً بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة .
2 - تقديم بيان انتفاء الإستئخار ، لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب . وأما ما ، في قوله تعالى : { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } من سبق السبق في الذكر ، فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : { ذََرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } . فالأهم هناك بيان انتفاء السبق .
3 - صيغة الإستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك ، مع طلبهم له ، أفاده أبو السعود .
ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلاً يهدونهم وبشّر وأنذر بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 35 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي }
شرط ذكره بحرف
الشك ، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائر غير واجب . وضمت إليها ، ما لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة .
والمراد ببني آدم جميع الأمم ، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم وليس المراد بالرسل نبينا صلى الله عليه وسلم ، وببني آدم أمته كما قيل ، فإنه خلاف الظاهر ، كذا في " القاضي و حواشيه " ، وجواب الشرط قوله تعالى : { فَمَنِ اتَّقَى } أي : التكذيب : { وَأَصْلَحَ } أي : عمله { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من العذاب : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } في الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 36 ] .
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ } أي : تكبروا : { عَنْهَا } فلم يؤمنوا بها : { أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
تنبيه : على وجوب اتباع الرسل
قال الجشمي : تدل الآية ، وقبول ما يؤدون ، وتدل على أن الصلاح في الرسل أن تكون من جملة من بعث إليهم ، لأنهم يكونون بطريقته أعرف ، ومن النفار عنه أبعد ، وإلى السكون إليه أقرب ، وتدل على أن الغرض بالرسول ما يؤدي من الأدلة ، فلذلك قلنا لا يجوز أن يكون رسولاً إلا ومعه ما يؤديه : وتدل على أن الجنة تنال بشيئين : بالأعمال الصالحة ، واتقاء المعاصي ، فبطل قول المرجئة .
وتدل على أن المؤمن في الآخرة لا يخاف ولا يحزن ، خلاف ما يقوله الأحسدية كذا ، والحشوية هكذا ، قاله أكثر أصحابنا .
وقال أبو بكر أحمد بن علي : قوله : { فلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } كقول الطبيب للمريض لا بأس عليك ، يعني أن أمره يؤول إلى العافية .
وليس هذا بالوجه لأنه نفى الخوف والحزن مطلقاً ، وتدل على الوعيد للمكذبين ، كما تدل على الوعيد للمطيعين ، ترغيباً وترهيباً ، وتدل على أن التقوى والصلاح والتكذيب فعل العبد فبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة . انتهى كلامه رحمه الله .
ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ 37 ] .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي : ممن تقول على الله كذباً بالتحليل والتحريم ، أو بنسبة الولد والشريك ، أو كذب بآياته المنزلة .
{ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } أي : يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك ، أي : مع ظلمهم وافترائهم وتكذيبهم ، لا يُحرمون ما قدر لهم من العمر والرزق إلى انقضاء آجالهم .
وفي الآية وجوه أخر ، هذا أظهرها وأقواها في المعنى ، وتتمة الآية تدل عليه ، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } .
وقوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً } الآية .
{ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } أي : ملائكة الموت تقبض أرواحهم
{ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ } أي : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء ، فلا نراهم يخلِّصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد .
وفائدة السؤال وجهان :
توبيخ تبكيت لهم يزيدهم غماً إلى غم ، ولطف بالمكلف لأنه إذا تصور ذلك صرفه عن التكذيب ، و ما ، وقعت موصولة بأين في خط المصحف العثماني ، ومقتضى الإصطلاح الفصل ، لأنها موصولة .
{ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } أي : غابوا عنا فلم يخلصونا من شيء .
{ وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } أي : عابدين لما لا يستحق العبادة ، اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه ، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ 38 ] .
{ قَالَ } أي : الله سبحانه لهم في الآخرة : { ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ } أي : في
جملة أمم قد مضت : { مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ } يعني كفار الأمم الماضية من النوعين .
{ فِي النَّارِ } متعلق بـ : { ادخلوا } .
{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ } أي : في النار : { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } أي : التي قبلها لضلالها بها ، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام :
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } الآية .
{ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } أي : تداركون ، بمعنى لاحقوا واجتمعوا في النار { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } وهم الأتباع ، { لأُولاَهُمْ } أي : لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله سبحانه ، لا معهم .
قال ابن كثير : أي : قالت أخراهم دخولاً وهم الأتباع لأولادهم وهم المتبعون ، لأنهم أشد جرماً من أتباعهم ، فدخلوا قبلهم ، فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة ، لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل ، فيقولون : { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا } أي : سنوا لنا الضلال ، ودعوا إليه ، فاقتدينا بهم { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ } أي : مضاعفاً لأنه ضلوا وأضلوا .
{ قَالَ } أي : تعالى : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ } أي : عذاب مضاعف ، أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال ، وأما الأتباع والسفلة ، فبالضلال وتقليد أهل الضلال ، مع وجود الهادين بالبراهين القاطعة : { وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } أي : ما لكم ، أو ما لكل فرقة ، وقرئ بالياء ، وعليها ، فهو تذييل لم يقصد إدراجه في الجواب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ 39 ] .
{ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي : لا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال حتى يكون عذابنا مضاعفاً دونكم ، فقد ضللتم كما ضللنا ، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب .
وقوله تعالى : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } من قول القادة ، أو من قول الله تعالى للفريقين ، وهو أظهر .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أن الكفار والضلال والمبتدعة وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم ، وتوادوا في الدنيا ، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم ، وتدل على فساد التقليد ، والاغترار بقول علماء السوء ، وتدل على أن الداعي إلى الضلال مضل ، وتدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له .
وتدل على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة ، بخلاف الإشتراك
في محن الدنيا .
وتدل على أن ذلك الإضلال فعلهم ، فيبطل قول المجبرة في المخلوق ، والهدى والضلال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } [ 40 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء } أي : لا تفتح لأعمالهم ، ولا لدعائهم ، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله ، أي : لا يقبل ذلك منهم لأنه ليس صالحاً ولا طيباً ، وقد قال سبحانه : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه } ، قال ابن عباس : أي : لا يرفع لهم منها عمل صالح ، ولا دعاء . رواه جماعة عنه وقاله مجاهد وابن جبير .
أو المعنى : لا تنزل عليهم البركة والرحمة ، ولا يغاثون ، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء ، كما في قوله : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ } ، أو المعنى : لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة ، على ما روي أن الجنة في السماء .
أو المعنى لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا ، أبواب السماء ، كما تفتح لأرواح المؤمنين . رواه الضحاك عن ابن عباس .
ورواه ابن جرير عن البراء : < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء ، فيصعدون بها ، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان ! بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له ، فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء } الآية > .
قال ابن كثير : هكذا رواه .
وهو قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد مطولاً وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق .
تنبيهات :
الأول : قال الشهاب كون السماء لها أبواب ، وأنها تفتح للدعاء الصالح ، وللأعمال الصاعدة أ وللأرواح ، وارد في النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، فلا حاجة إلى تأويل . انتهى .
وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك ، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة ، والتنزيل الكريم إنما ورد على مناحٍ للعرب معروفة في لسانهم . والله أعلم .
الثاني : التضعيف في تفتح ، لتكثير المفعول ، لا الفعل لعدم مناسبة المقام .
الثالث : قرئ بالتخفيف في تفتح ، وبالتخفيف ، والياء ، وقرئ على البناء للفاعل ، ونصب الأبواب ، على أن الفعل للآيات مجازاً ، وبالياء على أنه لله تعالى .
{ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ } أي : يدخل : { الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } أي : ثقب الإبرة ، وهو غير ممكن ، فكذا دخولهم .
لطائف :
الأول : قرأ الجمهور الجَمَل ، بفتح الجيم والميم ، وفسروه : بأنه الجمل المعروف وهو البعير .
قال الفراء : الجمل زوج الناقة ، وقال شمر : البكر والبكر بمنزلة الغلام والجارية ، والجمل والناقة منزلة الرجل والمرأة .
وقرئ في الشواذ الجُمّل ، كسكَّر وصُرد وقُفل ، وعُنق وجبْل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له القَلْس .
وقال أبو البقاء : يقرأ في الشاذ بسكون الميم ، والأحسن أن يكون لغة ، لأن تخفيف المفتوح ضعيف ، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها ، وهو الحبل الغليظ ، وهو جمع مثل صُوَّم وقُوَّم ، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل أسَد وأُسُد ، ويقرأ كذلك إلا أن الميم ساكنة ، وذلك على تخفيف المضموم . انتهى .
وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير ، ما عدا جُمَّلاً كسُكَّر وقفل ، ونوقش في ذلك . انتهى .
وقراءته كسُكَّر على معنى الحبل المذكور ، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، واختارها سعيد بن جبير .
قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنه ، أن الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل ، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة ، والبعير لا يناسبه ، إلا أن قراءة العامة أوقع ، لأن سم الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خَرْتِ الإبرة .
وقالوا للدليل الماهر خُرِّيت للإبتداء به في المضايق المشبهة بأخْرات الإبر ، والجمل مثل في عظم الجرم ، قال : جسم الجمال وأحلام العصافير .
إن الرجال ليسوا بجَزَر تراد منهم الأجسام ، فقيل : لايدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلا في باب واسع ، وفي ثقب الإبرة .
وعن ابن مسعود : أنه سئل عن الجمل ؟ فقال : زوج الناقة ، استجهالاً للسائل ، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف . انتهى .
وحاصله أن الجمل لما كان مثلاً في عظم الجسم ، لأنه أكثر الحيوانات جسماً عند العرب ، وخرق الإبرة مثلاً في الضيق ، ظهر التناسب .
على أن في إيثار الجمل ، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة .
الثانية : السَّم : الثقب الضيق . قال أبو البقاء : بفتح السين وضمها ، لغتان . انتهى .
وصح بالتثليث فيه ، وفي القاتل المعروف ، صاحب القاموس وغيره ، إلا أنهم قالوا : المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل ، والأفصح في القاتل الضم .
قال العلامة الفاسي : قال الزبيديّ : لم أر من تعرض لكسرهما ، وكأنها عامية .
قلت : قال الزمخشري : وقرئ : { فيِ سَمِّ الْخيَاطِ } بالحركات الثلاث ، وكفى به مرجعاً .
الثالثة : الخِياط ككِتاب ومِنبر ، ما خيط به الثوب ، والإبرة ، كذا في القاموس .
قال الزمخشري : وقرأ عبد الله ( في سم المخيط ) . قال الشهاب : بكسر الميم وفتحها ، كما ذكره المُعرب ، وهي قراءة شاذة .
الرابعة : قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ } الخ ، جواز فرض المحال ، والتعليق عليه كما يقع كثيراً للفقهاء . انتهى .
والتعليق على المحال معروف في كلام العرب ، كقوله :
~إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القارُ كاللبن الحليب
وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع
{ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ 41 ] .
{ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } أي : فرش من تحتهم : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أي : أغطية ، إذا أحاطت بهم الخطيئة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } أي : بالكفر ، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة ، وبالظالمين أخرى ، إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات ، اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين .
وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة ، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور ، تنبيهاً على أنه أعظم الجرائم ، ثم تأثر تعالى وعيده بوعده ، على سنته في تنزيله الكريم ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 42 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قال أبو البقاء : والذين آمنوا مبتدأ ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، والتقدير منهم ، فحذف العائد ، كما حذف في قوله : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .
والثاني : أن الخبر : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } و : { لا نُكَلِّفُ } معترض بينهما . انتهى .
وعلى الثاني اقتصر غير واحد من المحققين ، قالوا : وسر الإعتراض ، الترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله ، وتيسير تحصيله ، والذي حسنه سبق العمل الصالح قبله ، أي : وإذ علم أن مبنى التكليف على الوسع زادت الرغبة في ذلك الإكتساب ، لحصوله بما فيه يسر لا عسر .
لطيفة :
الوسع : ما يقدر عليه الْإِنْسَاْن بسهولة ويستمر . قال الرازي ، أخذاً من قول معاذ في الآية ، يسرها لا عسرها ، قال : وأما أقصى الطاقة فيسمى جهداً لا وسعاً ، وغلط
من ظن أن الوسع بذلك المجهود .
قلت : في القاموس : الوسع ـ مثلثةـ الجدة والطاقة كالسعة . وفيه : الجهد الطاقة ـ ويضم ـ والمشقة . انتهى .
قال ابن الأثير : الجهد بالفتح المشقة ، وقيل : المبالغة والغاية ، وبالضم الوسع والطاعة وقيل : وهما لغتان في الوسع والطاعة ، فأما في المشقة والغاية ، فالفتح لا غير . انتهى .
وبه يعلم أن ما جرى عليه الرازي قول للغويين ، ليس وفاقاً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 43 ] .
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } أي : نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعدواة ، أو نطهرها منها ، حتى لا يكون بينهم إلا التواد والتعاطف ، وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرره .
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } أي : لما جزاؤه هذا ، أي : لأسباب هذا العلو ، بإرسال الرسل والتوفيق للعمل .
{ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ } أي : ما كنا لنرشد لذلك العلم الذي هذا ثوابه ، لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته .
{ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } أي : فاهتدينا بإرشادهم قال الزمخشري : يقولون ذلك ، أي : { الْحَمْدُ لِلّهِ } الخ سروراً واغتباطاً بما نالوا ، وتلذذاً بالتكلم به ، لا تقرباً ولا تعبداً ، كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ، ولا يتمالك أن لا يقوله ، للفرح والتوبة .
{ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا ، فالميراث مجاز عن الإعطاء ، تجوّز به عنه إشارة إلى أن السبب في ليس موجبا ، ً وإن كان سباً بحسب الظاهر ، كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلاً سبباً له .
وعلى ما تقرر ، فلا يقال إنه معارض لما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : < واعلموا أن
أحدكم لن يدخله عمله الجنة ! قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل > .
ولا يحتاج إلى الجواب عنه ، ولا أن يقال الباء للعوض لا للسبب ، وهذا تنجيز للوعد بإثابة المطيع ، لا بالإستحقاق والإستيجاب ، بل هو بمحض فضله تعالى ، كالإرث كذا في " العناية " .
روى الإمام مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا دخل أهل الجنة الجنةَ ، نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً ، وإن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبداً ، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً ، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً > ، فذلك قوله عز وجل : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ } الآية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ } [ 44 ] .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } أي : إذا استقروا في منازلهم
{ أَصْحَابَ النَّارِ } توبيخاً وتحسيراً لهم : { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً } حيث نلنا هذه المراتب العالية : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } من تنزيلكم إلى أسفل سافلين ، لاستكباركم على الآيات والرسل .
{ قَالُواْ نَعَمْ } أي : وجدناه حقاً { فَأَذَّنَ } أي : نادى : { مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي : بين الفريقين ليسمعهم ، زيادة في شماتة أحد الفريقين وندامة الآخر : { أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } [ 45 ] .
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم ، الذي بيّنه على ألسنة رسله ، لمعرفته وعمارة الدارين .
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : يبغون لها زيغاً وميلاً عما هي عليه ، حتى لا يتبعها أحد .
{ وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } أي : وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به ، فلهذا لا يبالون ، فيأتون المنكر من
القول والعمل ، لأنهم لا يرجون حساباً عليه ولا عقاباً ، فهم شر الناس .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [ 46 ] .
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي : بين الفريقين سور وستر ، أو بين الجنة والنار ، ليمنع وصول [ في المطبوع : ووصل ] أثر إحداهما إلى الأخرى .
وقد سمي هذا الحجاب سوراً في آية : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } ، وقوله تعالى : { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ } أي : على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه ، وهو السور المضروب بينهما ، جمع عرف ، مستعار من عرف الفرس ، وعرف الديك ، وكل ما ارتفع من الأرض عرف ، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض .
وقد حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في رجال الأعراف ، عن التابعين وغيرهم ، أنهم فضلاء المؤمنين ، أو هم الشهداء ، أو الأنبياء ، أو قوم أوذوا في سبيل الله ، فاطّلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم ، فعرفوهم بسيماهم ، وسلموا على أهل الجنة .
واللفظ ، لإبهامه ، يحتمل ذلك ؛ لأن السياق يدل على سمو قدرهم ، لا سيما بجعل منازلهم الأعراف ، وهي الأعالي ، والشرف ، كما تقدم ومن ذكر كلهم جديرون بذلك ـ والله أعلم - .
{ يَعْرِفُونَ كُلاًّ } أي : من أهل الجنة والنار { بِسِيمَاهُمْ } أي : بعلامتهم التي أعلمهم الله بها ، كبياض الوجه وسواده .
فائدة :
السيما مقصورة وممدودة ، والسيمة والسيمياء بكسرهن العلامة .
قال القاضي : السيمى فعلى من سام إبله ، إذا أرسلها في المرعى معلمة ، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه . انتهى .
وعلى الثاني اقتصر ابن دريد : { وَنَادَوْاْ } أي : رجال الأعراف : { أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } أي : حين رأوهم من أعرافهم ، وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة
{ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } بطريق الدعاء والتحية ، أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره .
والوجه الأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه العوفي .
قال رضي الله عنه : أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار ، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ، يتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين ، وهم
في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف ، والأولى حال من الواو ، والثانية حال من فاعل
{ يَدْخُلوها } ، أي : نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد ، حال كونهم طامعين في دخولها ، مترقبين .
قال الجشمي رحمه الله : قيل : إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين ، فلم تأخر دخولهم ؟ قلنا : هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء وإن تأخر دخولهم ، لظهور فضلهم ، وجلالة طريقهم إلى منازلهم .
ولا يبعد عندي أن تكون [ في المطبوع : يكون ] جملة : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } حالاً من : { أصحاب الجنة } أي : نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب ، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة ، وعلو منازلهم على سواهم - والله أعلم - .
وذهب أبو مجلز إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة ، أي : نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام ، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها ، وهو وجه جيد ، فالجملة الأولى حال من المفعول وهو أصحاب الجنة ، والثانية حال من فاعل يدخلوها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 47 ] .
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } أي : أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة .
قال الجشمي : وإنما قال : { صُرِفَتْ } لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة ، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم .
فأما أهل الجنة فوجوههم إليهم سروراً بهم ، فلا يحتاج إلى تكلف ، وقيل : لأنهم مع أهل الجنة بُعَداء من أهل النار ، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار .
ثم قال الجشمي : تدل الآية على وجوب الاجتناب من الظَلمة في الدنيا ، كيلا يكون معهم في الآخرة . انتهى .
{ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ } أي : إلى جهنم { قَالُواْ } من شدة خوفهم تعوّذاً بالله { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : في النار ، وقال أبو السعود : في وصفهم بالظلم ـ دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء - إشعارٌ بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط ، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [ 48 ] .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً } يعني من عظماء أهل الضلالة { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي : التي تدل على أعيانهم إن تغيرت صورهم { قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } أي : كثرتكم أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } عن الحق ، أو على الخلق .
وقرئ ( تَسْتَكْثِرُونَ ) من الكثرة ، أي : من الأتباع الذين يستعان بهم في دفع الملمات .
قال ابن القيم : يعني ما نفعكم جمعكم وعشرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم .
وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ ، وهو أبلغ وأفحم .
ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا ، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا ، فيقول لهم أهل الأعراف .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [ 49 ] .
{ أَهَؤُلاءْ } الضعفاء من المؤمنين : { الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ } برفع درجاتهم في الآخرة ، فهاهم في الجنة يتمتعون ويتنعمون ، وفي رياضها يُحبرون .
وقوله تعالى : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أي : لا خوف عليكم من العذاب النازل بالكفار ، ولا تحزنون كحزن الكفار على فوات النعيم ، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف ، يتآمرون بينهم بدخول الجنة بعد تبكيت أهل النار ، فيقول بعضهم لبعض : ادخلوا الجنة ، وإما من كلام أهل الأعراف للمؤمنين ، أي : يقولون لهم : أدخلوا الجنة ، أو من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال ، كأنه قيل لهم : أنظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته ، كيف نالوها ، حيث قيل من قِبَله تعالى : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ } .
وعلى : كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازاً ، للعلم به .
لطيفة :
بيّن الزمخشري سر حبسهم على الأعراف ، ثم إدخالهم الجنة أبدع بيان ، فقال رحمه الله : يقال لأصحاب الأعراف : ادخلوا الجنة ، وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف ، وينظروا إلى الفريقين ، ويعرفوهم بسيماهم ، ويقولوا ما يقولون .
وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال ، وأن التقدم والتأخر على حسبها ، وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل ، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه ، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم ، وليتصوروا أن كل أحد يُعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر ، فيرتدع المسيء عن إساءته ، ويزيد المحسن في إحسانه وليعلم أن العصاة يوبخهم كل أحد ، حتى أقصر الناس عملاً . انتهى .
ثم بين تعالى ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم ، بعد التكبر عليهم ، وبعد ما أقسموا لا ينالهم الله برحمة ، وأنهم لا يجابون إلى ذلك ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 50 ] .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء } أي : الذي رحمكم الله به ليسكن حرارة النار والعطش .
قال الجشمي : وذكروا لفظ الإفاضة ، لأن أهل الجنة أعلى مكاناً .
{ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } أي : من الأطعمة والفواكه { قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : منعهما عنهم ، لأنه أنعم عليهم في الدنيا ، فلم يشكروه ، فمنعهم نِعَمَه في الآخرة . فالتحريم تحريم منع ، لا تحريم تعبد . ثم وصف الكافرين بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ 51 ] .
{ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً } أي : مما زينه لهم الشيطان . واللهو : كل ما
صد عن الحق ، واللعب : كل أمر باطل ، أي : ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك ، إذ هو دأبهم وديدنهم : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزخارفها العاجلة ، فلم يعملوا : { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ } أي : نتركهم ترك المنسي ، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة .
{ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا } أي : كما فعلو بلقائه ، فعل الناسين ، فلم يُخطروه ببالهم ، ولم يهتموا به .
لطيفة :
قال الشهاب : { نَنْسَاهُمْ } تمثيل ، شبّه معاملته تعالى مع هؤلاء بالمعاملة مع من لا يعتد به ، ويلتفت لغيه ، فينسى ، لأن النسيان لا يجوز على الله تعالى ، أي : لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ، كما قال : { فِيْ كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ، والنسيان يستعمل بمعنى الترك كثير في لسان العرب .
ويصح هنا أيضاً ، فيكون استعارة تحقيقية ، أو مجازاً مرسلاً ، وكذا نسيانهم لقاء الله أيضاً ، لأنهم لم يكونوا ذاكري الله حتى ينسوه ، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله والقيامة ببالهم ، وقلة مبالاتهم بحال من عرف شيئاً ، ثم نسيه ، وليست الكاف للتشبيه ، بل للتعليل ، ولا مانع من التشبيه أيضاً . انتهى .
وقال تعالى : { وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } أي : وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى .
روى الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيقول الله : ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً ، وسخرت لك الأنعام والحرث ، وتركتك ترأس وتربع ، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا ؟ قال فيقول : لا ! فيقول له : اليوم أنساك كما نسيتني > .
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : < فيلقى العبد ربه ، فيقول : أي : قل ! ألم
أكرمك وأسوّدك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى يا رب ! فيقول : أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : إني أنساك كما نسيتني ! >
ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 52 ] .
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } أي : بيّنا فيه الإعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلاً مبيناً { عَلَى عِلْمٍ } أي : عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه ، حتى جاء محكماً قيماً غير ذي عوج ، وهذا كقوله تعالى : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه } .
{ هُدًى } أي : دلالة ترشدهم إلى الحق ، وتنجيهم من الضلالة .
{ وَرَحْمَةً } أي : ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لأنهم المغتنمون لفوائده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 53 ] .
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي : ما ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمره ، من تبين صدقه ، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد .
قال الشهاب : فالنظر هنا بمعنى الإنتظار لا بمعنى الرؤية . والتأويل بمعنى العاقبة ، وما يقع في الخارج ، وهو أصل معناه ، ويطلق على التفسير أيضاً ، والمعنى : أنهم قبل وقوع ما هو محقق ، كالمنتظرين له ، لأن كل آت قريب ، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به ، فلا يقال : كيف ينتظرونه مع
جحدهم ؟ فإنهم وإن جحدوه ، إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم ، من حيث أن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة [ في المطبوع : لامحاله ] .
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } يعني يوم القيامة ، لأنه يوم الجزاء ، وما تؤول إليه أمورهم { يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ } أي : تركوه ترك المنسي ، حين كان ينفعهم الذكر ، فلم يؤمنوا به عند معاينة العذاب .
{ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } أي : بما هو واقع من
الإعتقادات والوعد والوعيد .
{ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا } في إزالة العذاب : { أَوْ نُرَدُّ } إلى مكان العمل : { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } من الجحود واللهو ، واللعب وأعمال الدنيا .
قال عز وجل : { قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بصرف أعمالهم في الكفر : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله ، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين .
ولما قدّم سبحانه ذكر الكفار وعبادتهم غيره ، سبحانه ، احتج عليهم ، مبيناً بأفعاله أنه لا معبود سواه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ 54 ] .
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي : إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس ، الذي أنشأ أعيان السموات والأرض في مقدار ستة أيام .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى : قال الشهاب : اليوم في اللغة مطلق الوقت ، فإن أريد هذا ، فالمعنى في ستة أوقات ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه } .
وإن أريد المتعارف ، وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها ، فالمعنى في مقدار ستة أيام ، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسموات ، فيقدر فيه مضاف . انتهى .
وفي شرح القاموس : إن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، وإن الثاني تعريف شرعي عند الأكثر .
ونقل عن الفاسي شارحه : أن اليوم عند المنجمين من الطلوع إلى الطلوع ، أو من الغروب إلى الغروب .
ثم قال الزبيدي : ويستعمل بمعنى مطلق الزمان ، نقله عن ابن هشام ، وحكاه عن سيبويه في قولهم : أنا ، اليوم ، أفعل كذا ، فإنهم لا يريدون يوماً بعينه ، ولكنهم يريدون الوقت الحاضر .
قال : وبه فسروا قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
ثم قال : وقد يراد باليوم الوقت مطلقاً ، ومنه والحديث : تلك أيام الهرج ، أي : وقته ولا يختص بالنهار دون الليل . انتهى .
وإرادة الوقت مطلقاً منه ، عين إرادة مطلق الزمان قبله ، كما يتبادر .
والظاهر أن إطلاقه على المتعارف والوقت مطلقاً ، لغوي فيهما - كما نقلهما شارح القاموس - خلافاً لظاهر كلام الشهاب السابق ، فتثبتْ هذا .
الثانية : قال ابن كثير : يخبر تعالى أنه خلق العالم ، سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام ، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، والستة الأيام : الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ، وفيه اجتمع الخلق كله ، وفيه خلق آدم عليه السلام .
واختلفوا في هذه الأيام : هل كل يوم منها كهذه الأيام ، كما هو المتبادر إلى الأذهان ، أو كل يوم كألف سنة ، كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ؟ ويروى من رواية الضحاك عن ابن عباس .
فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق ، لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت ، وهو القطع ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال : < أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجلال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة ، آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل > فقد رواه مسلم بن الحجاج في
" صحيحه " والنسائي ، من غير وجه ، وفيه استيعاب الأيام
السبعة ، والله تعالى قد قال : في ستة أيام ، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث ، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار,
ليس مرفوعاً - والله أعلم - انتهى .
وقد بسطت الكلام فيه في شرحي على " الأربعين العجلونية " .
الثالثة : قال القاضي : في خلق الأشياء مدرجاً ، مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للإختيار ، أي : لأنه لو كان بالإيجاب ، لصدر دفعة واحدة ، وفيه حث على التأني في الأمور .
وقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } اعلم أن الاستواء ورد على معان اشترك لفظه فيها ، فجاء بمعنى الإستقرار ومنه : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي } ، وبمعنى القصد ومنه :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } ، وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له ، وإليه قال الفراء : تقول العرب : استوى إليّ يخاصمني ، أي : أقبل عليّ ، ويأتي بمعنى الاستيلاء ، قال الشاعر :
~قد استوى بشر على العراق
وقال آخر :
~فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ويأتي بمعنى العلو ، ومنه آية : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْك } ومنه هذه الآية .
قال البخاري في آخر " صحيحه " ، في كتاب الرد على الجهمية ، في باب قوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } قال مجاهد : استوى ، علا على العرش . انتهى .
وفي كتاب " العلو " للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه : سمعت غير واحد من المفسرين يقول : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي : ارتفع .
ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع ، وقال : إنه في كل مواضعه بمعنى علا وارتفع ، وأقول : لا حجة إلى الإستكثار من ذلك ، فإن الاستواء غير مجهول ، وإن كان الكيف مجهولاً .
روى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه " الرد على الجهمية " عن شريح بن النعمان ، عن عبد الله بن نافع قال : قال مالك بن أنس : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء .
وروى البيهقي عن ابن وهب قال : كنت عند مالك ، فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله ! : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى ؟ فأطرق مالك ، وأخذته
الرُّحَضَاء ، ثم رفع رأسه فقال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كما وصف نفسه ، ولا يقال : كيف و كيف عنه مرفوع ، وأنت صاحب بدعة .
وفي رواية قال : الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
قال الحافظ الذهبي في كتاب " العلو " - بعدما ساق هذا - ما نصه :
وهو قول أهل السنة قاطبة ، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها ، وأن استواءه معلوم ، كما أخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، لا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً ، بل نسكت ونقف ، كما وقف السلف ، ونعلم أنه لو كان له تأويل ، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ، ولما وسعهم إقراره وإمراره ، والسكوت عنه ، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله ، لا مثل له في صفاته ، ولا في استوائه ، ولا في نزوله ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
ثم قال الذهبي : قال الإمام العلَم ، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف الشهيرة ، في كتابه
" مختلف الحديث " : نحن نقول في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم } ، أنه معهم ، يعلم ما هم عليه ، كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع : احذر التقصير فإني معك ، يريد أنه لا يخفى علي تقصيرك .
وكيف يسوغ لأحد أن يقول : إن الله سبحانه بكل مكان ، على الحلول فيه ، مع قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ومع قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب } ، كيف يصعد إليه شيء هو معه ؟ وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه ؟ قال : ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم ، وما ركبت عليه ذواتهم من معرفة الخالق ، لعلموا أن الله عز وجل هو العلي وهو الأعلى ، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه ، والأمم كلها عجميُّها وعربيها يقول : إن الله في السماء ، ما تُركت على فِطَرِها . انتهى .
ثم قال الذهبي أيضاً : عن يزيد بن هارون شيخ الإسلام ، أنه قيل له : من الجهمية ؟ قال : من زعم أن : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } على خلاف ما يقر في قلوب العامة ، فهو جهمي .
قال الذهبي والعامة ، مراده بهم ، جمهور الأمة وأهل العلم ، والذي وقر في قلوبهم من الآية ، وهو ما دل عليه الخطاب ، مع يقينهم بأن المستوي : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، هذا هو الذي وقر في فطرهم السليمة ، وأذهانهم الصحيحة ، ولو كان له معنى وراء ذلك ، لتفوهوا به ، ولما أهملوه ، ولو تأول أحد منهم الاستواء
لتوفرت الهمم على نقله ، ولو نقل لاشتهر . فإن كان في بعض جهلة الأغبياء من يفهم من الإستواء ما يوجب نقصا أو قياساً للشاهد على الغائب ، وللمخلوق على الخالق ، فهذا نادر . فمن نطق بذلك زُجر وعُلم ، وما أظن أحداً من العامة يقر في نفسه ذلك - والله أعلم - انتهى .
وقال الشيخ الإمام العارف قدوة العارفين ، الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله روحه في كتابه " تحفة المتقين وسبيل العارفين " في باب اختلاف المذاهب في صفات الله عز وجل ، وفي ذكر اختلاف الناس في الوقف عند قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه } قال إسحاق : في العلم ، إلى أن قال : والله تعالى بذاته على العرش ، علمه محيط بكل مكان والوقف عند أهل الحق على قوله : { إِلاَّ اللّهُ } .
وقد روي ذلك عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الوقف حسن لمن اعتقد أن الله بذاته على العرش ، ويعلم ما في السموات والأرض ، إلى أن قال : ووقف جماعة من منكري استواء الرب عز وجل على قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ } وابتدؤوا بقوله : { استوى له ما في السموات وما في الأرض } يريدون بذلك نفي الاستواء الذي وصف به نفسه ، وهذا خطأ منهم ، لأن الله تعالى استوى على العرش بذاته .
وقال في كتابه " الغنية " : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الإختصار ، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد .
إلى أن قال : لا يخلو من علمه مكان ، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان ، بل يقال إنه في السماء على العرش ، كما قال جل ثناؤه : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } ، وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ، والنبي صلى الله عليه وسلم حكم بإسلام الأَمَة لما قال لها : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله
عنه : < لما خلق الله الخلق ، كتب كتاباً على نفسه ، وهو عنده فوق العرش ، إن رحمتي غلبت غضبي > .
وفي لفظ آخر : < لما قضى الله سبحانه الخلق ، كتب على نفسه في كتاب ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي > .
وينبغي إطلاق صفة الإستواء من غير تأويل ، وأنه استواء الذات على العرش ، لا على معنى القعود والممَاسّة ، كما قالت المجسمة والكرامية ، ولا على معنى العلو والرفعة ، كما قالت الأشعرية ، ولا على الإستيلاء والغلبة ، كما قالت المعتزلة ، لأن الشرع لم يرد بذلك ، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث ، ذلك ، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق .
وقد روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } : < الكيف غير معقول ، والإستواء غير مجهول ، والإقرار به واجب ، والجحود به كفر > .
وقد أسنده مسلم بن الحجاج عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في " صحيحه " ، وكذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله قبل موته بقريب : أخبار الصفات تُمر كما جاءت ، بلا تشبيه ولا تعطيل ، وقال أيضاً في رواية بعضهم : لست بصاحب كلام ، ولا أرى الكلام في شيء من هذه الأماكن ، وفي كتاب الله عز وجل ، أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن أصحابه رضي الله عنهم ، أو عن التابعين ، فأما غير ذلك ، فإن الكلام فيه غير محمود ، فلا يقال في صفات الرب عز وجل كيف ؟ و لِمَ ؟ لا يقول ذلك إلا شكاك .
وقال أحمد رضي الله عنه في رواية عنه ، في موضع آخر : نحن نؤمن بأن الله عز وجل على العرش كيف شاء ، وكما شاء ، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف ويحدها حاد ، لما روي عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال ، قال الله تعالى في " التوراة " : أنا الله فوق عبادي ، وعرشي فوق جميع خلقي ، وأنا على عرشي ، عليه أدبر عبادي ، ولا يخفى عليّ شيء من عبادي .
وكونه عز وجل على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ، بلا كيف ، ولأن الله تعالى - فيما لم يزل - موصوف بالعلو والقدرة والإستيلاء والغلبة على جميع خلقه ، من العرش وغيره .
فلا يحمل الإستواء على ذلك ، فالإستواء من صفات الذات ، بعد ما أخبرنا به ، ونص عليه وأكده في سبع آيات من كتابه ، والسنة المأثورة به ، وهو صفة لازمة له ، ولائقة به ، كاليد والوجه والعين والسمع والبصر ، والحياة والقدرة ، وكونه خالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً ، موصوف بها ، ولا نخرج من الكتاب والسنة ، نقرأ الآية والخبر ، ونؤمن بما فيهما ، ونَكِل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل ، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله ، كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه ، فتفسيره قراءته .
لا تفسير له غيرها ، ولم نتكلف غير ذلك ، فإنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه ، ونسأل الله تعالى العفو والعافية ، ونعوذ به من أن نقول فيه وفي صفاته ما لم يخبرنا به هو أو رسوله عليه السلام . انتهى كلام الكيلاني قدس سره .
وروى أبو إسماعيل الأنصاري في " ذم الكلام وأهله " عن أبي زرعة الرازي ، أنه سئل عن تفسير : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فغضب وقال : تفسيره كما تقرأ ، هو على عرشه ، وعلمه في كل مكان ، من قال غير هذا فعليه لعنة الله .
وأسند عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال : سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك ؟ فقالا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار ، حجازاً وعراقاً ، ومصراً وشاماً ويمناً ، فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه ، بائن من خلقه ، كما وصف نفسه ، بلا كيف ، أحاط بكل شيء علماً .
تنبيهات :
الأول : في بطلان تأويل استوى باستَوْلَى :
قال الإمام عبد العزيز بن يحيى الكِنَانِي ، صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى ، في كتاب " الرد على الجهمية " :
زعمت الجهمية أن معنى استوى استولى من قول العرب : استوى فلان على مصر ، يريدون استولى عليها . قال : فيقال له : هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه ؟ فإذا قال لا ، قيل له : فمن زعم ذلك فهو كافر ، فيقال له : يلزمك أن تقول : إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه ، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ، ثم استولى عليه بعد خلقهن ، فيلزمك أن تقول : المدة التي كان العرش قبل خلق السموات والأرض ليس بمستول عليه فيها ، ثم ذكر كلاماً طويلاً في تقرير العلو والاحتجاج عليه .
وقال ابن عرفة في كتاب " الرد على الجهمية " : حدثنا داود بن علي قال : كنا عند ابن الأعرابي ، فأتاه رجل فقال : ما معنى قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ؟ قال : هو على عرشه كما أخبر ، فقال : يا أبا عبد الله ! إنما معناه استولى .
فقال : اسكت ، لا يقال استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد ، فأيهما غلب
قيل : استولى ، والله تعالى لا مضاد له ، وهو على عرشه كما أخبر . ثم قال الاستيلاء بعد المغالبة ، كما قال النابغة :
~إلا لمثلك أو من أنت سابقه سَبْق الجواد إذا استولى على الأمد
وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن أحمد بن النضر قال : كان ابن الأعرابي جارنا ، وكان ليله أحسن ليل ، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله : أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى ؟ فقال لا أعرفه !
وفي رواية : أرادني ابن أبي دؤاد أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } استوى بمعنى استولى ، فقلت له : والله ما يكون هذا ، ولا وجدته . وابن الأعرابي أبو عبد الله كان لغوي زمانه - كما قال الذهبي - .
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه " الإبانة في أصول الديانة " ، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه ، وعليه يعتمدون في الذبّ عنه ، عند من يطعن عليه ، فقال :
فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة
فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون .
قيل له : قولنا نقول به التمسك بكتاب ربنا ، وسنة نبينا ، وما روي عن الصحابة والتابعين ، وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، نضر الله وجهه ، ورفع درجته ، وأجزل مثوبته قائلون ، ولما خالف قوله مخالفون ، لأنه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل ، الذي أَبَان الله به الحق ، ودفع به الضلال ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين .
ثم قال في باب الاستواء على العرش : إن قال قائل : ما تقولون في الإستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله مستو على عرشه كما قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وقد قال الله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ، وقال : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه } ، وقال : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } ، وقال حكاية عن فرعون : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً }
كذّب موسى في قوله : إن الله فوق السموات ، وقال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } ، فالسموات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السموات قال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } ، لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات ، وكل ما علا فهو سماء ، والعرش أعلى السموات ، وليس إذا قال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } ، يعني جميع السماء ، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات .
ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال : { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } ، فلم يرد أن القمر يملؤهن ، وأنه فيهن جميعاً .
ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم ، إذا دعوا ، نحوالسماء لأن الله على العرش الذي هو فوق السموات ، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش ، كما لا يحطونها ، إذا دعوا ، إلى الأرض .
ثم قال :
فصل : وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن معنى قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله عز وجل في كل مكان ، وجحدوا أن يكون الله على عرشه ، كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ، فلو كان هذا كما ذكروه ، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ، لأن الله قادر على كل شيء ، فالله قادر على الأرض ، وعلى الحشوش ، وعلى كل ما في العالم .
فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الإستيلاء ، وهو
عز وجل مستول على الأشياء كلها ، لكان مستوياً على العرش ، وعلى الأرض ، وعلى السماء ، وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على كل الأشياء ، مستول عليها ، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها ، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية ، لم يجز أن يكون الإستواء على العرش الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ، وجب أن يكون معنى الإستواء يختص العرش دون الأشياء كلها .
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل . انتهى .
قلت : وكلام أبي الحسن الأشعري الأخير مأخوذ من كتاب رد الإمام أحمد على الجهمية ، حيث قال في كتابه المذكور :
ومما أنكرت الجهمية الضُّلال أن يكون الله سبحانه على العرش ، فقلنا لِمَ
أنكرتم ذلك ؟ إن الله سبحانه على العرش ، وقد قال سبحانه
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، وقال : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } ، قالوا : هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش ، فهو على العرش ، وفي السموات ، وفي الأرض ، وفي كل مكان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يكون في مكان دون مكان .
وتلَوا آيات من القرآن : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ }
فقلنا : قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ، وليس فيها من عظمة الله شيء فقالوا : أي : مكان ؟ فقلنا : أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء ، وقد أخبرنا أنه في السماء ، فقال سبحانه : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } ، وقال : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ } وقال : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ } وقال : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه } وقال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم } ، وقال : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه } ، وقال : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } فهذا أخبر الله أنه في السماء ، ووجدنا كل شيء أسفل مذموماً .
قال الله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } ، وقلنا لهم : أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه ، والشياطين مكانهم ؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس ، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } يقول : هو إله من في السموات ، وإله من في الأرض ، وهو على العرش ! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش ، لا يخلو من علم الله مكان ، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان ، وذلك قوله : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } .
قال : ومن الاعتبار في ذلك : لو أن رجلاً كان في يده قدح من قوارير صاف ، وفيه شيء ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح ، فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه ، من غير أن يكون في شيء من خلقه . وخصلة أخرى : لو أن رجلاً بنى داراً بجميع مرافقها ، ثم أغلق بابها وخرج منها ، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتاً في داره ، وكم سعة كل بيت ، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار . فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط
بجميع ما خلق ، وقد علم كيف هو ، وما هو ، من غير أن يكون في شيء مما خلق .
قال أحمد رضي الله عنه : ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم } إلى أن قال : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قالوا : إن الله عز وجل معنا وفينا . فقلنا : لم قطعتم الخبر من أوله ؟ إن الله يقول : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم } يعني أن الله بعلمه رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم ، يفتح الخبر بعلمه ، ويختمه بعلمه . انتهى .
ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور : وقلنا للجهمية : زعمتم أن الله في كل مكان ، لا يخلو منه مكان ، فقلنا لهم : أخبرونا عن قوله الله جل ثناؤه : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } .
لِمَ تجلى ، إذا كان فيه بزعمكم ؟ ولو كان فيه كما تزعمون ، لم يكن يتجلى لشيء ، لكن الله تعالى على العرش ، وتجلى لشيء لم يكن فيه ، ورأى الجبل شيئاً لم يكن يراه قط قبل ذلك .
وقلنا للجهمية : الله نور ؟ فقالوا : نور كله . فقلنا : قال الله عز وجل : { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } .
فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً ، قلنا : أخبرونا ، حين زعمتم أن الله في كل مكان ، وهو نور ، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان ؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء ؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله .
فرحم الله من عقل عن الله ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة ، وقال بقول العلماء ، وهو قول المهاجرين والأنصار ، وترك دين الشيطان ، ودين جهم وشيعته . انتهى .
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتاب " التمهيد " في شرح حديث : < ينزل ربنا كل ليلة > الحديث ، ما نصه : هذا الحديث ثابت من جهة النقل ، صحيح الإسناد ، لا يختلف أهل الحديث في صحته ، وفيه دليل على أن الله تعالى
في السماء ، على العرش من فوق سبع سموات ، كما قالت الجماعة ، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم : إن الله في كل مكان ، وليس على العرش .
والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى :
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ثم ساق عدة آيات في ذلك ، وقال : هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة .
وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء ، وقولهم في تأويل : { اسْتَوى } استولى ، فلا معنى له ، لأنه غير ظاهر في اللغة . ومعنى الإستيلاء في اللغة المغالبة ، والله تعالى لا يغالبه أحد ، وهو الواحد الصمد .
ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته ، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز ، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك ، وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر والأظهر من وجوه ، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم .
ولو ساغ ادّعاء المجاز لكل مدع ، ما ثبت شيء من العبادات . وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب ، من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين ، والإستواء معلوم في اللغة مفهوم ، وهو العلو والإرتفاع على الشيء ، والإستقرار والتمكن فيه .
قال أبو عبيدة في قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قال : علا ، قال : تقول العرب : استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت .
وقال غيره : استوى أي : استقر ، واحتج بقوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } انتهى شبابه واستقر ، فلم يكن في شبابه مزيد .
قال ابن عبد البر : الاستواء : الإستقرار في العلو ، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } وقال تعالى : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ } ، وقال تعالى : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلىْ الْفُلْكِ } وقال الشاعر :
~فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى ، لأن النجم لا يستولي .
وقد ذكر النضر بن شميل - وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة - قال : حدثني الخليل - وحسبك بالخليل - قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي ، وكان من أعلم ما رأيت ، فإذا هو على سطح ، فسلمنا ، فرد علينا السلام ، وقال : استووا ، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال ، فقال لنا أعرابي إلى جانبه : إنه أمركم أن ترفعوا ، فقال الخليل : هو من قول الله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } ، فصعدنا إليه ، قال : وأما من نزع منهم
بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قال : استولى على جميع بريته ، فلا يخلو منه مكان .
فالجواب : أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما ، ونقلَتُه مجهولة وضعفاء ، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان .
وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يُعرف ، وهم لا يقبلون بأخبار الآحاد ، فكيف يسوغ لهم الإحتجاج بمثل هذا الحديث ، لو عقلوا وأنصفوا ؟ أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً } ؟ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول : إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذباً . قال الشاعر :
~فسبحان من لا يقدرالخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد مُوحد
~مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت . وفيه يقول في وصف الملائكة :
~وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم رباً فوقه ويُمجد
قال : فإن احتجوا بقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } وبقوله تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } ، وبقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم } ، وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته - تبارك وتعالى جده - قيل : لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته ، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه ، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء ، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض ، وكذا قال أهل العلم بالتفسير .
وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش ، فالإختلاف في ذلك ساقط ، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر ، وأما قوله في الآية الأخرى : { وفِي الأَرْضِ إِلهٌ } فالإجماع والإتفاق قد بين أن المراد أنه معبود من أهل الأرض . فتدبر هذا فإنه قاطع .
ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع ، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم ، إذا كربهم أمر ، أو نزلت بهم شدة ، رفعوا
وجوههم إلى السماء ، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء ، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى ، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة ، من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته .
لأنه اضطراري لم يخالفهم عليه أحد ، ولا أنكره عليهم مسلم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها ، إن كانت مؤمنة ، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال لها : < أين الله ؟ > فأشارت إلى السماء . ثم قال لها : < من أنا ؟ > قالت أنت رسول الله . قال : < أعتقها فإنها مؤمنة > . فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها برفع رأسها إلى السماء ، واستغنى بذلك عما سواه .
قال : وأما احتجاجهم بقوله : تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية : هو على العرش ، وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .
وذكر سُنَيْد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مُزَاحم في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } قال : هو على عرشه ، وعلمه معهم أينما كانوا .
قال : وبلغني عن سفيان الثوري مثله . قال سُنَيْد : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بَهْدَلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الله فوق العرش ، وعلمه في كل مكان ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم .
ثم ساق من طريق يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بَهْدَلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام ، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام ، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام ، والعرش على الماء ، والله على العرش ، ويعلم أعمالكم . وذكر هذا الكلام أو قريباً منه في كتاب " الإستذكار " .
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في " الرسالة المدنية " : إذا وصف الله بصفة أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو وصفه بها المؤمنون
الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ، فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه ، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر ، ومجاز يخالف الحقيقة ، لا بد فيه من أربعة أشياء :
أحدها : أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي ، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي ، لا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب ، أو خلاف الألسنة كلها ، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ ، وإلا فيمكن كل مُبطل أن يفسر أي : لفظ بأي معنى ناسخ له ، وإن لم يكن له أصل في اللغة .
الثاني : أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه ، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة ، وفي معنى بطريق المجاز ، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء ، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة ، فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز .
الثالث : أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض ، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة ، امتنع تركها .
ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهراً فلا بد من الترجيح .
الرابع : أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم وأراد به خلاف ظاهره ، وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه ، سواء عينه أو لم يعينه ، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الإعتقاد والعلم ، دون عمل الجوارح ، فإنه سبحانه جعل القرآن نوراً وهدىً وبياناً للناس وشفاء لما في الصدور ، وأرسل الرسول ليبين للناس ما نُزّل إليهم ، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، و : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } .
ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات ، وأبين الألسنة والعبارات .
ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علماً ، وأنصحهم للأمة ، وأبينهم للسنة ، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره ، إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره ، إما بأن يكون عقلياً ظاهراً مثل قوله : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء } فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها .
وكذلك قوله : { خَالِقُ كُلِّ شَيْء } يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم ، أو سمعياً ظاهراً مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر .
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس ، سواء كان سمعياً أو عقلياً ، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى ، وأعاده مرات كثيرة ، وخاطب به الخلق كلهم ، وفيهم الذكي والبليد ، والفقيه وغير الفقيه ، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب شيئاً من ظاهره ، لأن هناك دليلاً خفياً يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان تدليساً أو تلبيساً ، وكان نقيض البيان ، وضد الهدى ، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان ، فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره ، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد ، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة ؟ انتهى .
الثاني : يتوهم كثير أن القول بالعلو والإستواء يلزم منهما القول بالتجسيم ، وقد رمى بذلك كثيرة من المحدثين ، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في " شرح العقائد العضدية " حيث قال ـ عفا الله عنه ـ : وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة ، وأكثرهم المحدثون ، ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة ، ومبالغة في القدح في نفيها .
ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال : هو معدوم ، أو يقال : طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده ، ونسب النافين إلى التعطيل ، هذا مع علو كعبه في العلوم العقلية والنقلية ، كما يشهد به من تتبع تصانيفه .
ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع ، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة الفوق ، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى ، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء .
ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلاً ، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول ، وأنكر كون الفوق قبلة الدعاء ، بل قال : قبلة الدعاء هو نفسه ، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة ، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوز . انتهى كلام الدواني .
وتعقبه غير واحد :
منهم : الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة " مجلى المعاني " قال : إن ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم ، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً ، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول .
وقال في رسالة أخرى : من قال إن الله تعالى مثل بدن الْإِنْسَاْن ، أو إن الله يماثل شيئاً من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه
بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة ، مع نفي اللوازم ، ونقل عليه إجماع السلف ، صرح به في الرسالة القدرية . انتهى .
ومنهم : ولي الله الدهلوي قدس سره ، قال في كتابه " حجة الله البالغة " : واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث ، وسموهم مجسمة ومشبهة ، وقالوا : هم المتسترون بالبلكفة ، وقد وضح علي وضوحاً بيناً أن استطالتهم هذه ليست بشيء ، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية ، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى . انتهى .
ومنهم : الشهاب الألوسي المفسر ، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه : حاشا لله تعالى أن يكون - يعني ابن تيمية - من المجسمة ، بل هو أبرأ الناس منهم .
نعم يقول بالفوقية ، وذلك مذهب السلف ، وهو بمعزل عن التجسيم .
وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث ، وكلام السلف الصالح ، كما لا يخفى على العارف المنصف ، نقله عنه ابنه في " محاكمة الأحمدين " .
وأقول . إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى ، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه ، في فتاويه التي أوضح فيها الحق وأنار بها مذهب السلف قاطبة .
وهاك شذرة من درره . قال رحمه الله في بعض فتاويه :
والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به ، مثل علو الرب ، واستوائه على عرشه ، ونحو ذلك ، وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات ، مثل قول القائل : هو جهة أو ليس في جهة ، وهو متحيز أو ليس بمتحيز ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس ، وليس مع أحدهم نص ، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان ، ولا أئمة المسلمين ، هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة ، ولا قال ليس هو في جهة ، ولا قال هو متحيز ، ولا قال ليس بمتحيز ، بل ولا قال هو جسم أو جوهر ، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر . فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحاً .
فإن يريدوا معنى صحيحاً يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولاً منهم ، وإن أرادوا معنى فاسداً يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردوداً عليهم .
فإذا قال القائل : إن الله تعالى في جهة ، قيل : ما تريد بذلك ؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به ، مثل أن يكون في جوف السموات ، أم تريد بالجهة أمراً عدمياً ، وهو
ما فوق العالم شيء من المخلوقات .
فإن أردت الجهة الوجودية ، وجعلت الله تعالى محصوراً في المخلوقات ، فهذا باطل ، وإن أردت بالجهة العدمية وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات بائن عنها ، فهذا حق ، وليس في ذلك أن شيئاً من المخلوقات حصره ، ولا أحاط به ، ولا علا عليه ، بل هو العالي عليها ، المحيط بها ، وقد قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه } الآية .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : < أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة ، ويطوي السموات بيمينه ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض > ؟ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما السموات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن ، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم .
وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة .
فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى ، وإلى هذا الحقر والصغار ، كيف تحيط به وتحصره ؟
ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة ، قيل له : ما تريد بذلك ؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات رب يعبد ، ولا على عرش إله ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى ، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء ، ولا تتوجه القلوب إليه فهذا فرعوني معطل ، جاحد لرب العالمين . وإن كان يعتقد أنه مقر به فهو جاهل متناقض في كلامه . ومن هنا دخل أهل الحلول والإتحاد وقالوا : إن الله تعالى بذاته في كل مكان ، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق .
وإن قال : مرادي بقولي ليس في جهة ، أن لا تحيط بها
المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى .
وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز : إن أرد بقوله متحيز أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ وإن أراد به منحاز عن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب ، وإن أراد ليس ببائن عنها ، بل هو لا داخل فيها ، ولا خارج عنها ، فقد أخطأ .
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : أهل الحلول والاتحاد ، وأهل النفي والجحود ، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة .
فأهل الحلول يقولون : إنه بذاته في كل مكان ، وقد يقولون بالإتحاد والوحدة ، فيقولون : وجود المخلوقات وجود الخالق .
وأما أهل النفي والجحود فيقولون : لا هو داخل العالم ، ولا خارج ، ولا مباين له ، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة ، كما أن الأول عَبَّاد الجهمية . فمتكلمة الجهمية لا يبعدون شيئاً ، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء ، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود ، الذي هو قول فرعون .
وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض ، ثم خلقها ، فإما أن يكون دخل فيهما ، وهذا حلول باطل ، وإما أن يكونا دخلا فيه ، وهو أبطل وأبطل ، وإما أن يكون الله سبحانه بائناً عنهما ، لم يدخل فيهما ، ولم يدخل فيه ، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة .
ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها ، وما فطر الله تعالى عليه عباده ، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة ، فإن هذه الأدلة كلها متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته ، عال عليها ، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب ، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
< كل مولود يولد على الفطرة ، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ > ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه : إقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَر َالنَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } وهذا معنى قول عُمَر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عليه ، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق ، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ، لا بتحويل الفطرة وتغييرها .
وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية و نحوهم ، فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى ، ودينه عز وجل ، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات ، لا
يفهم كثير من الناس مقصودهم بها ، ولا يحسن أن يجيبهم . وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ، وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله تعالى ، ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين .
كلفظ : المتحيز والجسم والجهة ونحو ذلك ، فمن كان عارفاً بحال شبهاتهم بينها ، ومن لم يكن عارفاً بذلك فليعرض عن كلامهم ، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه } .
ومن تكلم في الله تعالى وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة ، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل ، وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه .
وكثير منهم قرؤوا كتباً من كتب الكلام ، فيها شبهات أضلتهم ، ولم يهتدوا لجوابهم ، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله تعالى فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة ، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ ، ولا ما أراد بها أصحابها ، فإن ذكر لفظ الجسم في أسماء الله تعالى وصفاته ، بدعة لم ينطق كتاب ولا سنة ، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها ، ولم يقل أحد منهم : إن الله تعالى جسم ولا أن الله تعالى ليس بجسم ، ولا أن الله تعالى جوهر ، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر .
ولفظ الجسم لفظ مجمل ، فمعناه في اللغة هو البدن ، ومن قال إن الله تعالى مثل بدن الْإِنْسَاْن فهو مفتر على الله عز وجل ، بل من قال إن الله تعالى يماثل شيئاً من مخلوقاته فهو مفتر على الله ضال ، ومن قال إن تعالى ليس بجسم ، وأراد بذلك أنه لا يُرى في الآخرة ، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي ، بل القرآن العربي مخلوق أو هو تصنيف جبريل عليه السلام ، أو نحو ذلك ، فهو مفتر على الله تعالى فيما نفاه عنه .
وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ، ومن وافقهم على مذهبهم ، فإنهم يظهرون للناس التنزيه ، وحقيقة كلامهم التعطيل ، فيقولون : نحن لا نجسم ، بل نقول : الله ليس بجسم ، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته .
إلى أن قال : فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال ، منزه عن كل نقص وعيب ، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، فيثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات ، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات ، إثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تعطيل . قال عز شأنه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }

فقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رد على الممثلة ، وقوله تعالى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رد على المعطلة . انتهى ملخصاً .
قال رضي الله عنه في جواب على سؤال رفع إليه نصه : الإستواء هل هو حقيقة أو مجاز ؟ : ما نصه ملخصاً :
القول في الإستواء والنزول كالقول في سائر الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء ، ووصف بصفات ، فالقول في بعض هذه الصفات ، كالقول في بعض ، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه ، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين .
ومعلوم بالإضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز نفي صفات الله تعالى لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات ، بل هذه جحد للخالق ، وتمثيل له بالمعدومات . وقد قال ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، لأنهم لا ينفون شيئاً من ذلك ، ولا يجدون فيه صفة محصورة ، وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقر بها مشبه ، وهم عند من أقرَّ بها ، نافون للمعبود ، لا مثبتون ، والحق فيما قاله القائلون ، مما نطق به الكتاب والسنة ، وهم أئمة الجماعة . هذا الذي حكاه ابن عبد البر .
ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة ، فإنما أنكر لجهله لمسمى الحقيقة ، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين ، وذلك أنه قد نظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلاً للخالق ، فيقال له : هذا باطل ، فإن الله موجود حقيقة ، والعبد موجود حقيقة ، وله تعالى ذات حقيقة ، والعبد له ذات حقيقة ، وليس ذاته تعالى كذات المخلوقات ، وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة ، وللعبد سمع وبصر ، وعلم حقيقة ، وليس علمه وسمعه وبصره مثل علم العبد وسمعه وبصره .
ولله كلام حقيقة ، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين .
والله استوى على عرشه حقيقة ، وللعبد استواء على الفلك حقيقة ، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوق ، فإن الله لا يفتقر إلى شيء ، ولا يحتاج إلى شيء ، بل هو الغني عن كل شيء ، والله تعالى يحمل العرش وحملته ، بقدرته و
{ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا } .
فمن ظن أن معنى قول الأئمة : الله مستو على عرشه حقيقة ، يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام ، لزمه أن يكون قولهم : إن الله له علم حقيقة ، وسمع وبصر حقيقة ، و كلام حقيقة ، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم .
فمن ظن أن الحقيقة إنما تتناول صفة العبد المخلوقة دون صفة الخالق ، كان في غاية الجهل ، فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى ، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب ، كما لا نسبة بين ذاته وذاته .
فكيف يكون العبد مستحقاً للأسماء الحسنى حقيقة ، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازاً ؟ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الخالق سبحانه وتعالى ، فله المثل الأعلى .
فكل كمال حصل للمخلوق ، فالخالق أحق به ، وكل نقص ينزه عنه مخلوق ، فالحق أحق أن ينزه عنه ولهذا كان لله المثل الأعلى ، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم ولا تضرب به الأمثال ، فلا يشترك هو والمخلوق بمثل ولا في قياس .
ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات لله تبارك وتعالى ، بل صفات الكمال لازمة لذاته ، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له ، بل يمتنع تحقق ذات من الذات عريّةً عن جميع الصفات ، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع .
فإذا قال : وجود الله ، وذات الله ، وعلم الله ، وقدرة الله ، وسمع الله ، وبصر الله ، وكلام الله ، ورحمة الله ، وغضب الله ، واستواء الله ، ونزول الله ، ومحبة الله ، ونحو ذلك ، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات ، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات .
وإذا قال : وجود العبد وذاته ، وماهيته وعلمه ، وقدرته وسمعه وبصره ، وكلامه واستواؤه ونزوله ، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به ، من غير أن تماثل صفاته صفات الله تعالى .
بل أبلغ من ذلك ، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب ، والملابس والمناكح والمساكن ، ما ذكره في كتابه ، كما ذكر أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً ولحماً وحريراً وذهباً وفضة وحوراً وقصوراً وغير ذلك .
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء .
فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا ، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه ، والإسم يتناولهما حقيقة ، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق ، والمخلوق عن مشابهة الخالق ، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلاً لمخلوقاته ، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة ! وهل يكون أحق بهذا الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض ، مع أن
مباينتهما للمخلوقات أعظم مباينة كل مخلوق لكل مخلوق ؟ والجاهل يضل بأن يقول : العرب إنما وضعوا لفظ الإستواء لاستواء الْإِنْسَاْن على السرير أو الفلك ، أو استواء السفينة على الجودي ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات ، فهو كما يقول القائل : إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفاناً ، وأصمخة وآذاناًَ ، وشفتين ولساناً ، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاء ، وهذا كله جهل منه . فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه ، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه ، وعلمه وإرادته ورحمته ، مما يختص به ، يتناول ذلك خصائص العبد .
وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته ، كان هذا متناولاً لما يختص به الرب ، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين ، وكذلك إذا قيل استواء الرب ، فهذا الإستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع و البصر ، المضاف إلى الله لا يجوز أن يتناول ذلك شيئاً من خصائص المخلوقين .
وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق ، ثم ينفون ذلك ويعطلونه ، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق ، وينفون مضمون ذلك ، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته ، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته ، وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي ، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح ، ولا منقول صحيح .
ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات : فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض ، قيل لهم ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه ؟ ولم كان هذا حقيقة ، ولم يكن هذا حقيقة ؟ لم يكن لهم جواب أصلاً ، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعاً وعقلاً .
ونظائر هذا كثيرة ، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته ، وإذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلاً للمخلوقين ، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم ، كان من أجهل الناس ، وكان أول كلامه سفسطة ، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد .
وإن فرق بين صفة وصفة ، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز ، كان متناقضاً في قوله ، متهافتاً في مذهبه مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب ، وكفر ببعض .
وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور ، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطراد ، وأنه مقتضى المعقول الصريح ، والمنقول الصحيح ، وأن من خالفه ، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجاً عن موجب العقل والسمع ، مخالفاً للفطرة والشرع ، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين ، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة . انتهى .
فائدة : في منشأ هذا التعطيل
وبين رضي الله عنه ، في فتوى أخرى له في الصفات ، مورد هذا التعطيل .
حيث قال رضي الله عنه :
ثم أصل هذه المقالة إنما هو مأخود عن تلامذة اليهود والمشركين ، وضلال الصابئين ، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة - أعني أن الله ليس على العرش حقيقة وإنما
{ استوى } استولى ونحو ذلك - أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفون وأظهرها ، فتنسب مقالة الجهمية إليه ، والجعد أخذ مقالته عن أَبَان بن سمعان ، وأخذها أَبَان من طالوت ابن أخت لَبِيد بن أعصم ، وأخذها طالوت من لَبِيد بن أصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان الجعد هذا - فيما قيل - من أهل حران ، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة ، والفلاسفة ، بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين ، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم ، وكانوا يعبدون الكواكب ، ويبنون لها الهياكل ، ومذهبهم في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية ، أو مركبة منهما ، وهم الذين بُعث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إليهم ، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة ، وأخذها الجهم أيضاً - فيما ذكره الإمام أحمد وغيره - من السمنية بعض فلاسفة الهند ، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات ، فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والصائبين والمشركين .
والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين ، وإما من المشركين . ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المئة الثانية ، زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ، ابتداء من جنس ما ألقاه في قولب أشباههم .
ولما كان في حدود المئة الثانية ، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية ، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته ، وكلام الأئمة - مثل مالك رضي الله عنه وسفيان بن عيينة ، وأبي يوسف والشافعي ، وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم - في بشر المريسي هذا كثير في ذمة وتضليله .
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس ، مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب " التأويلات " ، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عُمَر الرازي في كتابه الذي سماه " تأسيس التقديس " ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء ، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني ، وأبي الحسين البصري وابن عقيل وأبي حامد
الغزالي وغيرهم ، وهي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه ، وإن كان قد يوجد في كلام هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً ، ولهم كلام حسن في أشياء ، فإنما بيَّنت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي . وعلمنا ذلك بكتاب " الرد " الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري ، صنف كتاباً سماه " نقض عثمان بن سعيد ، على الكاذب العنيد ، فيما افترى على الله في التوحيد " حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي ، بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها ، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذي اتصلت إليهم من جهته ، ثم ردها عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكيّ ، علم حقيقة ما كان عليه السلف فتبين له ظهور الحجة لطريقهم ، وضعف حجة من خالفهم .
ثم إذا رأى الأئمة - أئمة الهدى - قد أجمعوا على ذم المريسية ، وأكثرهم كفّروهم ، أو ضللوهم ، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين ، هو مذهب المريسي تبين له الهدى لمن يريد الله هدايته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ثم قال رضي الله عنه :
مذهب السلف بين التعطيل وبين يمثلون صفات الله بصفات خلقه ، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، فيعطلون أسماءه الحسنى ، وصفاته العليا ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ويلحدون في أسماء الله وآياته .
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل ، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل ، أما المعطلون ، فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق . ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل ، مثلوا أولاً ، وعطلوا آخراً ، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم ، تعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى .
فإنه إذا قال القائل : لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً ، وكل ذلك محال ، ونحو ذلك من الكلام ، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان ، على أي : جسم كان ، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم ، أما استواء يليق بجلال الله ، ويختص به ، فلا يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة ، كما يلزم سائر الأجسام . وصار هذا مثل قول الممثل : إذا كان للعالم صانع ، فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً ، إذا لا يعقل موجود إلا هذان ، أو قوله : إذا كان مستوياً على العرش ، فهو مماثل لاستواء الْإِنْسَاْن على السرير أو الفُلك ، إذا لا يعلم الاستواء إلا هكذا ، فإن كليهما مثّل ، كلاهما عطّل
حقيقة ما وصف الله به نفسه ، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للإستواء الحقيقي ، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين ، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط ، من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به ، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه سميع بصير ، ونحو ذلك ، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقُدرهم ، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها .
واعلم أنه ليس في العقل الصحيح ، ولا في النقل الصريح ، ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلاً ، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة عن الحق ، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها ، فذلك سهل يسير . انتهى كلامه .
ومن أحاط عقله بهذه الغرر ، علم براءة ساحة السلف مما رموا به من التجسيم .
وفي هذه النفائس من الفوائد ما يشفع لدى الواقف بطوله .
الثالث : يطلق العرش على معان : السرير ، ومنه آية : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } والملك ، يقال : ثل عرشهم . وسقف البيت ، ومنه آية : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } ، وحديث < كالقنديل المعلق بالعرش > أو البناء ، ومنه : { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } أي : يبنون ومنه : العريش ، وهو ما يستظل به . والعرش المضاف إلى الله تعالى لا يحد .
قال في القاموس : العرش ، عرش الله تعالى ، ولا يحدّ . انتهى .
وقال الراغب : عرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالإسم على الحقيقة ، ولذا لم يصح في صفته حديث ، وكل ما روي في ذلك فليس من مرويات الصحاح .
قال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " : وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير ، وأنه جسم مجسم ، خلقه الله تعالى ، وأمر ملائكته بحمله ، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به ، كما خلق في الأرض بيتاً ، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة ، وفي أكثر الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه ، وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك . انتهى .
وقال الحافظ الذهبي في كتاب " العلو " : اعلم أن الله عز وجل ، قد أخبرنا ، وهو أصدق القائلين ، بأن عرش بلقيس عرش عظيم : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }
ثم ختم الآية بقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم } ، فكان عرشها عظيماً بالنسبة إليها ، وما نحيط الآن علماً بتفاصيل عرشها ولا بمقداره ولا بماهيته .
ثم قال : فما الظن بما أعد الله تعالى من السُّرر والقصور في الجنة لعباده ، فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته ، وقوائمه وماهيته وحملته الحافين من حوله ، وحسنه ورونقه وقيمته ؟ اسمع وتعقل ما يقال ، والجأ إلى الإيمان بالغيب ، فليس الخبر كالمعاينة ، فالقرآن مشحون بذكر العرش ، وكذلك الآثار ، بما يمتنع أن يكون المراد به الملك . فدع المكابرة والمراء ، فإن المراء في القرآن كفر .
آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ، لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم ، الحمد لله رب العالمين . انتهى كلام الذهبي ـ رحمه الله تعالى - .
الرابع : سئل الشيخ تقي الدين بن تيمية ، عليه الرحمة والرضوان ، عن العرش : هل هو كري أم لا ، فإذا كان كرياً والله من ورائه محيط به بائن عنه ، فما فائدة توجه العبد إلى الله سبحانه حين الدعاء والعبادة ، فيقصد العلو دون غيره ، إذا لا فرق حينئذ بين الجهات التي تحيط بالداعي ، ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً يطلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة . فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها .
فأجاب رحمه الله بقوله :
إن لقائل أن يقول : لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرّية ، وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة ، فرأوا أن الأفلاك تسعة ، وأن التاسع ، وهو الأطلس ، محيط بها ، وهو الذي يحركها الحركة الشرقية ، وإن كان لكل فلك حركة تخصه ، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله سبحانه وكرسيه والسموات السبع ، فقالوا بطريق الظن : إن العرش هو الفلك التاسع ، لاعتقادهم أنه ليس وراء ذلك شيء ، إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق .
ثم إن منهم من رأى أنه هو الذي يحرك الأفلاك كلها ، فجعلوه مبدأ الحوادث ، وربما سماه بعضهم الروح أو النفس . وجعله بعضهم هو اللوح المحفوظ ، وبعض الناس ادعى أنه علم ذلك بطريق الكشف ، وذلك غير صحيح ، بل أخذه من هؤلاء المتفلسفة ، كما فعل أصحاب " رسائل إخوان الصفاء " .
والأخبار تدل أن العرش مباين لغيره من المخلوقات ، وأنه قبل السموات والأرض . فقد ثبت في صحيح
البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال : < كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض ، وأن له قوائم > كما في حديث أبي سعيد : < فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش > .
وقد استدل من قال إنه مقبب ، بما رواه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام < وإن الله تعالى على عرشه ، وإن عرشه على سمواته ، وسمواته فوق أرضه هكذا ، وقال بأصابعه مثل القبة > .
وهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك ، ولا مستدير مثل ذلك ، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلو ، لا من جميع الجوانب ، إلا بدليل منفصل ، ولفظ الفلك يستدل به على الإستدارة مطلقاً ، كما قال ابن عباس في : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ } : في فلكة مثل فلكة المغزل ، وأما لفظ القبة فإنه لا يتعرض لهذا المعنى ، لا بنفي ولا إثبات ، لكن يدل على الإستدارة من العلو .
واعلم أن العرش ، وسواء كان هذا الفلك التاسع ، أو جسماً محيطاً به أو كان فوقه من جهة وجه الأرض ، محيط به ، أو قيل فيه غير ذلك ، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر ، كما قال تعالى :
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < يقبض الله تبارك وتعالى الأرض
يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟ > ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر ، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
< يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ؟ > .
وفي لفظ : ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء .
وفي رواية أخرى قال : قرأ على المنبر : { وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة } الآية ، قال : مطويّة في كفه ، يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة ، ففي هذه الأحاديث وغيرها ، المتفق على صحتها ، ما يبين أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل ، أصغر من أن تكون مع قبضه لها ، إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا ، حتى يدحوها كما تدحى الكرة .
ثم قال في الجواب : فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ، ولم نتكلف علم ما سواه ، فلا نجحد ما وصف ، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف ، وإذا كان كذلك ، فهو قادر على أن يقضها ويدحوها كالكرة ، في ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى ، وإن شاء لم يفعل .
وبكل حال فهو مباين لها ، ليس بمجانب لها ، ومن المعلوم أن الواحد منا - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة ، إن شاء قبضها ، فأحاطت بها قبضته ، وإن شاء لم يقبضها ، بل جعلها تحته ، فهو في الحالين مباين لها ، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات ، كإحاطة الكرة بما فيها ، أم قيل إنه فوقها وليس محيطاً بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها ، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها ، أو غير ذلك ، فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات ، والخالق سبحانه فوقه ، والعبد في توجهه إليه عز وجل ، يقصد العلو ، دون التحت .
وتمام هذا البحث بأن يقال : لا يخلو إما أن يكون العرش كرياً كالأفلاك
ويكون محيطاً بها ، وإما أن يكون فوقها ، وليس بكري .
فإن كان الأول ، فمن المعلوم - باتفاق من يعلم هذا - أن الأفلاك مستديرة كرية ، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط ، وهو المحدود ، وأن الجهة السفلى هي المركز ، وليس للأفلاك إلا جهتان : العلو والسفل فقط ، وأما الجهات الست فهي للحيوان ، فإن له ست جوانب : يؤم جهة فتكون أمامه ، ويخلف أخرى فتكون خلفه ، وجهة تحاذي شماله ، وجهة تحاذي يمينه ، وجهة تحاذي رأسه ، وجهة تحاذي رجليه . وليس لهذه الجهات في نفسها صفة لازمة ، بل هي بحسب النسبة والإضافة ، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا ، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا ، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير ، فالمحيط هو للعلو ، والمركز هو السفل ، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام ، وأرساها بالجبال ، هو الذي عليه الناس والبهائم وغيرهما .
فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها ، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم ، ولو قدر أن هناك أحداً ، لكان على ظهر الأرض ، ولم يكن مَن في هذه الجهة تحت مَن في هذه الجهة ، ولا مَن في هذه تحت مَن في هذه . كما أن الأفلاك محيطة بالمركز ، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر ، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ، ولا بالعكس ، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الإستواء ، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً ، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة ، وهوالذي يسمى عرض البلد ، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها ، وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته ، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك ، وإنما هذا جبال يتخيله الْإِنْسَاْن ، وهو تحت إضافي .
كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف ، فالسقف فوقها ، وإن كانت رجلاه تلي السماء ، وكذلك قد يتوهم الْإِنْسَاْن إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك ، أن الجانب الآخر تحته ، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة ، وهذا كما أنه قول أهل الهيئة والحساب ، فهو الذي عليه علماء المسلمين ، كما ذكره أبو الحسن المناوي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم ، وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره .
ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر ، فهو متوهم عندهم .
فإذا كان الأمر كذلك ، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها ، وسقفها وهو فوقها مطلقاً ، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الْإِنْسَاْن إلا من العلو .
ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلاً من غير جهة العلوّ,
كان جاهلاً باتفاق العقلاء ، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه ! وغاية ما يقدر أن يكون كريّ الشكل ، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله ، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا .
وأما قول القائل : إذا كان كريّاً ، الله من ورائه محيط بائن عنه ، فما الفائدة في التوجه إلى العلو دون التحت ، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلو ؟ فيقال : هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض ، وتحت ما على وجه الأرض ، من الآدميين والبهائم ، وهذا غلط .
فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة ، لكان تحتها من كل جهة ، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقاً ، وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقاً ، وأهل الهيئة يقولون : لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا ، وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه ، لكان ينتهي إلى المركز ، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر ، لالتقيا جمعياً في المركز ، الذي هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض ، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر ، لالتقت رجلاهما ، ولم يكن أحدهما تحت الآخر ، بل كلاهما فوق المركز ، وكلاهما تحت الفلك .
وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا ، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب ، لأنه لو قدر أن رجلاً أو ملكاً يصعد إلى السماء ، كان صعوده مما يلي رأسه ، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية ، أو يذهب يميناً أو شمالاً ثم يصعد .
ولو أن رجلاً أراد مخاطبة القمر ، فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا ، مع أنه قد يشرق ويغرب ، فكيف بما هو فوق كل شيء لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى .
وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق ، وهو الخط المستقيم ، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد ، كيف يعدل عن الصراط المستقيم ؟ مطلب في حديث الإدلاء
إلى أن قال :
وحدث الإدلاء ، الذي رواه أبو هريرة وأبو ذر ، قد رواه الترمذي وغيره من
حديث الحسن عن أبي هريرة ، وهو منقطع ، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع . فإن كان ثابتاً ، فمعناه موافق لهذا ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم : < لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله > ، إنما هو تقدير مفروض ، أي : لو وقع الإدلاء لوقع عليه ، لكن لا يمكن أن يدلي أحد على الله عز وجل شيئاً ، لأنه عال بالذات ، وإذا أُهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ، والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه ، كما بين أنه يقبض السموات ، ويطوي الأرض ، ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته تعالى ، ولهذا قرأ في تمام الحديث :
{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا كله على تقدير صحته ، فإن الترمذي لما رواه قال : وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله .
وبعض الحلولية والإتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل من أنه سبحانه حال بذاته في كل مكان ، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك .
وكذلك تأويله بالعلم غير مستقيم ، بل على تقدير ثبوته ، فالمراد به الإحاطة ، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم ، وما لم نعلمه أمسكنا عنه ، وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلو ، وقال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلِدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها } فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة .
وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : < إذ قام أحدكم إلى الصلاة فلا
يبصق قِبل وجهه ، فإن الله تعالى قبل وجهه ، ولا عن يمينه فإن يمينه ملكاً ، وليبصق عن يساره أو تحت رجله > .
وفي رواية : إنه أذن أن يبصق في ثوبه ، وفي حديث أبي رَزين المشهور : لما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه ، فقال له أبو رَزين : كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع ؟ فقال : < سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى : هذا القمر آية من آيات الله تعالى كلكم يراه مخلياً به ، فالله أكبر > .
وفي الصحيحين : < لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة ، أو لا ترجع إليهم أبصارهم > .
واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه ، وروى محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء ، حتى نزل : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده .
فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة ، لأن الداعي المأمور بالذل ، لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ، خلافاً للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر ، وقد قال تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } الآية ، ثم بين تأويل : الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه ، وقال : قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل ، وهذا وهم ، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى ، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق ، فلا تكون اليد حقيقة . وقوله : فكأنما صافح الله تعالى . . . الخ ، صريح في أن المصافح ليس مصافحاً له تعالى ، لأن المشبه ليس هو المشبه به .
إلى أن قال : فهذا كله بتقدير كرّية العرش ، وأما إذا قدر لأنه ليس بكري الشكل ، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض ، وأنه فوق الأفلاك الكرية ، كما أن وجه الأرض الموضع للأنام ، فوق نصف الأرض الكريّ ، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه ، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا
إلى العلو ، مع كونه على عرشه مبايناً لخلقه .
وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض ، وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من اعتقاد فاسد ، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريّاً ، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته ـ سبحانه عن مشابهة المخلوقين - وجب فيما عند الزاعم أن يكون سبحانه كرياً ، ثم يعتقد أنه إذا كان كريّاً فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات ، وهذا خطأ ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها ، بل قد تبين أن سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا ، فإذا كانت الحمصة مثلاً في يد الْإِنْسَاْن أو تحته أو نحو ذلك ، هل يتصور عاقل ، إذا استشعر علو الْإِنْسَاْن على ذلك وإحاطته ، بأن يكون الْإِنْسَاْن كالفلك ؟ فالله تعالى - وله المثل الأعلى - أعظم من أن يظن به ذلك .
وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وإذا لم يكن كريّاً ، فالأمر ظاهر مما تقدم ، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة ، والله تعالى أعلم .
وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام ، لأنه من أصول العقائد الدينية ، ومهمات المسائل التوحيدية ، وقد كثر فيه تعارك الآراء ، وتصادم الأهواء ، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء ، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأتي تأباها فطرة الله أشد الغباء ، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين ، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين ، فإن الأئمة منهم ، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين ، والحمد لله رب العالمين .
وقوله تعالى : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي : يغطيه به ، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار ، فيغطيه ويلبسه ، حتى يذهب بنوره ، ويصير الجو مظلماً ، بعد ما كان مضيئاً .
قال الشهاب : وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الإستعارة ، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه ، فكأنه لف عليه لف الغشاة ، أو شبه تغييب كل منهما ، بطريانه عليه ، بستر اللباس للابسه . انتهى .
ولم يذكر العكس للعلم به ، أو لأن اللفظ يحتملها ، ولذلك قرئ : { يَغْشى اللَّيْلَ النَّهارُ } بنصب الليل ، ورفع النهار : { يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } أي : يعقبه سريعاً ، كالطالب له ، لا يفصل بينهما شيء .
قال الرازي : وإنما وصف سبحانه هذه الحركة السرعة,
لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم ، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة ، وأكملها شدة ، حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا : الْإِنْسَاْن إذا كان في العدو الشديد الكامل ، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ، وإذا كان الأمر كذلك ، كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة ، فلهذا السبب قال تعالى : { يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } أي : مذللات لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع بقضائه وتصريفه .
قال الشهاب : وسماه أمرا على التشبيه ، إذ جعل هذه الأشياء لكونها تابعة لتدبيره وتصريفه كما يشاء كأنهم مأمورات منقادة لأمره ، ويصح حمله على ظاهره . انتهى .
أي : وهو الكلام ، فيكون تعالى أمره هذه الأجرام بالسير الدائم ، والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا ، وخراب هذا العالم . وقد قرئ : { وَالشَّمْسَ } وما بعده بالنصب ، عطفاً على
{ السَّمَوَات } ونصب : { مُسَخَّرَاتٍ } على الحال . وقرأها ابن عامر كلها بالرفع على الإبتداء ، والخبر : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } أي : هو الذي خلق الأشياء كلها ، وهو الذي صرفها على حسن إرادته ، وفسر الأمر بالقضاء والحكم .
تنبيهان :
الأول : استخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى ، أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ، فقال : إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر ، فمن جمع بينهما فقد كفر ، يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى ، من جملة ما خلقه فقد كفر ، لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله . كذا في " اللباب " .
قال في " الإكليل " : استدل به ابن عيينة على أن القرآن غير مخلوق ، أخرجه ابن أبي حاتم . لأن الأمر هو الكلام ، وقد عطفه على الخلق ، فاقتضى أن يكون غيره ، لأن العطف يقتضي المغايرة ، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي . انتهى .
الثاني : قال في " اللباب " : في الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل ، أي : للحصر المستفاد من تقديم الظرف ، ففيه رد على من يقول : إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم .
{ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم . قال في " التاج " : سئل أبو العباس عن تفسير : { تَبَارَكَ اللّهُ } فقال : ارتفع . انتهى .
ولما ذكر تعالى الدلائل على كما القدرة والحكمة ، ليفردوه بالألوهية ، أمرهم بأن يدعوه وحده متذللين مخلصين ، فقال سبحانه :=

8. مجلد 8.محاسن التأويل محمد جمال الدين القاسمي

القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ 55 ] .
{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } نصب على الحال ، أي : ذوي تضرع وخفية ، والتضرع تفعل من الضراعة وهو الذل .
والخفية بضم الخاء وكسرها ، مصدر خفي كرضي بمعنى اختفى ، أي : استتر وتوارى ، وإنما طلب الدعاء مع تينك الحالتين لأن المقصود من الدعاء أن يشاهد العبد حاجته وعجزه وفقره لربه ذي القدرة الباهرة ، والرحمة الواسعة . وإذا حصل له ذلك ، فلا بد من صونه على الرياء ، وذلك بالإختفاء ، وتوصلاً للإخلاص .
فوائد :
في هذه الآية مشروعية الدعاء ، بشرطيه المذكورين :
قال السيوطي في " الإكليل " : ومن التضرع رفع الأيدي في الدعاء ، فيستحب .
وقد أخرج البزار عن أنس : < رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة يدعو ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هذا الإبتهال . ثم خاضت الناقة ، ففتح إحدى يديه فأخذها وهو رافع الأخرى > . انتهى .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إن الذي تدعون سميع قريب > الحديث .
وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعربه الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر
فيكون علانية أبداً . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } . وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } .
وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ، ويؤمر بالتضرع والإستكانة .
وقال الناصر في " الانتصاف " : وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية ، فالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء ، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع ، لقليل الجدوى ، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه .
وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء ، خصوصاً في الجوامع ، حتى يعظم اللغط ويشتد ، وتستكّ المسامع وتستدّ ، ويهتز الداعي بالناس ، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين : رفع الصوت في الدعاء ، وفي المسجد ، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة ، لا تحصل مع خفض الصوت ، ورعاية سمت الوقار ، وسلوك السنة الثابتة بالآثار . وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ، ليست خارجة عن صميم الفؤاد ، لأنها لو كانت من أصل ، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء ، وفي خفض الصوت به ، أوفر وأوفى وأزكى .
فما أكثر التباس الباطل بالحق ، على عقول كثيرة من الخلق ، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه . انتهى .
وقد روى الحافظ أبو الشيخ في " الثواب " عن أنس مرفوعاً : < دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية > .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : لا يحب دعاء المجاوزين لما أُمروا به في كل شيء ، ويدخل فيه الإعتداء بترك الأمرين المذكورين ، وهما التضرع والإخفاء دخولاً أولياً .
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية كراهية الإعتداء في الدعاء . وفسره زيد ابن أسلم بالجهر ، وأبو مجلز بسؤال منازل الأنبياء ، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالسر . أخرج ذلك ابن أبي حاتم ، ولا يخفى أن هذا جميعه مما يشمله الإعتداء .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود ، أن سعداً سمع ابناً له يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ، ونحواً من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال : لقد سألت الله خيراً كثيراً ، وتعوذت بالله من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء > وفي لفظ : < يعتدون في الطهور والدعاء ، وقرأ هذه الآية : { ادْعُوا رَبَّكُمْ } الآية > ، وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل .
وروى الإمام أحمد وأبو داود أن عبد الله بن مُغَفَّل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : يا بنيّ سل الله الجنة ، وعُذ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 56 ] .
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } قال أبو مسلم : أي : لا تفسدوها بعد إصلاح الله إياها ، بأن خلقها على أحسن نظام ، وبعث الرسل ، بين الطريق ، وأبطل الكفر .
قال أبو حيان : هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض ، وإدخال ماهيته في الوجود بجميع أنواعه ، من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان .
ومعنى : { بَعْدَ إِصْلاحِها } : بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ، ومصالح المكلفين . انتهى .
{ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } أي : ذوي خوف من وبيل العقاب ، نظراً إلى قصور
أعمالكم ، طمع فيما عنده من جزيل الثواب ، نظراً إلى سعة رحمته ، وفور فضله وإحسانه : { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : أن رحمته مرصدة للمحسنين الذي يتبعون أوامره ، ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُون } الآية .
لطائف :
الأولى : قال في " اللباب " : إن قلت : قال في أول الآية
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } وقال هنا : { وادْعُوهُ } ، وهذا هو عطف الشيء على نفسه ، فما فائدة ذلك ؟
قلت : الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ } أي : ليكن الدعاء مقروناً بالتضرع والإخبات ، وقوله : { وادْعُوهُ خَوْفاً وطَمعاً } أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين ، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء ، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء .
وقيل : معناه كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء ، وإن اجتهدتم فيهما .
الثانية : في قوله تعالى : { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ } الآية ، ترجيح للطمع على الخوف ، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف ، ولكنه إذا رأى سعة رحمته وسبقها ، غلب الرجاء عليه .
وفيه أيضاً تنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة ، وهو الإحسان في القول والعمل .
قال مطر الوراق : استنجزوا موعود الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين .
الثالثة : تذكير قريب ، لأن الرحمة بمعنى الرحم ، أو لأنه صفة لمحذوف ، أي : أمر قريب ، أو على تشبيه بفعيل ، الذي هو بمعنى مفعول ، أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل ، أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره ، فإنه يقال : فلانة قريبة مني لا غير ، وفي المكان وغيره يجوز الوجهان ، أو لاكتسابه التذكير من المضاف إليه ، كما أن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه ، وقد أوصلوا توجيه تذكيره إلى خمسة عشر وجهاً .
ولما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض ، وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر ، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قدير ، نبه تعالى على أنه الرزاق ، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 57 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : قدام رحمته التي هي المطر ، فإن الصبا تثير السحاب ، والشمال تجمعه والجنوب تدره ، والدبور تفرقه . وهذا كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } وقوله سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } .
قال الثعالبي : المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث .
تنبيه :
قال أبو البقاء : يقرأ : { نُشُراً } بالنون والشين مضمومتين ، وهو جمع ، في واحده وجهان :
أحدهما : { نَشُور } مثل صبور وصبر ، فعلى هذه يجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل ، أي : ينشر الأرض ، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول ، كركوب بمعنى مركوب ، أي : منشورة بعد الطي ، أو منشرة أي : مُحياة ، من قولك أنشر الله الميت فهو مُنشر ، ويجوز أن يكون جمع ناشر ، مثل بازل وبُزل . ويقرأ بضم النون وإسكان الشين ، على تخفيف المضموم . ويقرأ نشراً بفتح النون وإسكان الشين ، وهو مصدر نشر بعد الطي ، أو من قولك أنشر الله الميت فنشر أي : عاش .
ونصبه على الحال ، أي : ناشرة ، أو ذات نشر ، كما تقول : جاء ركضاً أي : راكضاً .
ويقرأ : بُشراً بالباء وضمتين ، وهو جمع بشير ، مثل قليب وقُلب ، ويقرأ كذلك إلا أنه بسكون الشين على التخفيف . ويقرأ بشرى مثل حُبلى ، أي : ذات بشارة ويقرأ بَشر بفتح الباء وسكون الشين ، وهو مصدر بشرته - أي : بالتخفيف - إذا بشرته . انتهى .
{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ } أي : حملت : { سَحَاباً ثِقَالاً } أي : من كثرة ما فيها من الماء : { سُقْنَاهُ } أي : السحاب .
قال الشهاب : السحاب إسم جنس جمعي ، يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، كتمر وتمرة ، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ، ويجمع ، وأهل اللغة تسميه جمعاً ، فلذا روعي فيه الوجهان ، في وصفه وضميره . انتهى .
أي : أرسلناه
مع أن طبعه الهبوط : { لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } أي : لأجله ولمنفعته ، أو لإحيائه أو لسقيه . و ميت ، قرئ مشدداً ومخففاً { فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء } أي : الضمير . والضمير في به للبلد : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي : المختلفة الأنواع ، مع أن ماءها واحد . والمراد بكل الثمرات ، المعادة في كل بلد تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها .
والضمير في به ، للماء أو لبلد { كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الإخراج { نُخْرِجُ الْموْتَى } أي : نحييها بعد صيرورتها رميماً يوم القيامة ، ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء ، فتمطر الأرض أربعين يوماً ، فتنبت منه الأجساد في قبورها ، كما ينبت الحب في الأرض : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : إنما وصفنا من هذا التمثيل لكي تتذكروا ، من أحوال الثمرات التي أعيدت إلى حالها بعد تلفها ، أحوال الآخرة ، فتعلموا أن من قدر على ذلك ، قدر على هذا بلا ريب .
تنبيه :
من أحكام الآية كما قال الجشمي : أنها تدل على عظم نعمه تعالى علينا بالمطر ، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات ، وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر ، وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء . وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء ، فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده ، لضرب من المصلحة ديناً ودنيا .
ومنها إذا رأى الأرض الطيبة تزرع دون الأرض السبخة ، وأنها قطع متجاورات ، علم فساد التقليد ، وأنه يجب أن يتفحص عن الحق حتى يعتقده .
ومنها أنه إذا زرع وعلم وجوب حفظه من المبطلات ، علم وجوب حفظ الأعمال الصالحة من المحبطات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } [ 58 ] .
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } أي : الأرض الكريمة التربة { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : يخرج نباته وافياً حسناً غزير النفع ، بمشيئته وتيسيره { وَالَّذِي خَبُثَ } أي : كالحرة ، وهي الأرض ذات الحجارة السود . وكالسبخة بكسر الباء ، وهي الأرض ذات الملح { لاَ يَخْرُجُ } أي : نباته : { إِلاَّ نَكِداً } أي : قليلاً ، عديم النفع . يقال : عطاء نكد ، أي : قليل
لا خير فيه ، وكذا رجل نكد . قال :
~فأعطِ ما أعطيتَه طيباً لا خيرَ في المنْْكُودِ والنَّاكِدِ
وقال :
~لا تُنْجِزِ الوَعْدَ إن وعَدْتَ وإن أعطيتَ ، أعطيتَ تافهاً نكِدا
تنبيه :
قال ابن عباس في الآية : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر .
وقال قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله ، وانتفع به ، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت ، والكافر بخلاف ذلك ، وهذا كما في الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضاً ، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به > .
لطيفة :
قال أبو البقاء : يقرأ : { يَخْرُجُ نَباَتُهُ } بفتح الياء وضم الراء ورفع النبات . ويقرأ كذلك إلا أنه بضم الياء ، على ما لم يسم فاعله . ويقرأ بضم الياء وكسر الراء ونصب النبات أي : فيخرج الله أو الماء . ثم قال : ويقرأ : { نَكِداً } بفتح النون وكسر الكاف ، وهو حال ، يقرأ بفتحهما على أنه مصدر أي : ذا نكد . ويقرأ بفتح النون وسكون الكاف وهو مصدر أيضاً ، وهو لفة ويقرأ : يُخرج بضم الياء وكسر الراء ، ونكداً مفعوله .
{ كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : نبين وجوه الحجج ونرددها ونكررها : { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } يعني كما ضربنا هذا المثل ، كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية ، وحجة بعد حجة ، لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية ، وأن جَنَّبهم سبيل الضلالة ، وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا بسماع القرآن .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 59 ] .
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } اعلم أن الله تعالى لما ذكر في أول السورة قصة آدم ، وما اتصل بها من آثار قدرته ، وغرائب صنعته الدالة على توحيده وربوبيته ، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت ، أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وما جرى لهم مع أممهم .
قال الرازي : وفيه فوائد :
أحدها : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ، ليس من خواص قوم النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة ، والمصيبة إذا عمت خفت ، فكان ذكر قصصهم ، وحكاية إصرارهم وعنادهم ، يفيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتخفيف ذلك على قبله .
ثانيها : أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا ، والخسارة في الآخرة ، وذلك يقوي قلوب المحقين ، ويكسر قلوب المبطلين .
وثالثها : التنبيه على أنه تعالى ، وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، ولكنه لا يهملهم ، بل ينتقم منها على أكمل الوجوه .
ورابعها : بيان هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أمياً ، وما طالع كتاباً ، ولا تلمذ أستاذاً . فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ ، دلّ ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله تعالى .
ونوح عليه السلام هو ابن لامَك بن مَتُوشَالَحَ بن أخْنوخَ بن يارَدَ بن مَهلَئِيل بن قَيْنانَ بن أنُوشَ بن شيث بن آدم عليه السلام ، هكذا نسبه ابن إسحاق وغير واحد من الأئمة ، وأصله من التوراة .
ومعنى أرسلنا : بعثنا ، وهو أول نبي بعثه الله بعد إدريس ، كذا في " اللباب " . وإدريس هو أخنوخ فيما يزعمون .
قاله ابن كثير : قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح ، إلا نبيّ قتل ، وقال يزيد الرَّقَاشِي : إنما سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه . انتهى .
وفيه نظر ، لأنه إنما يصح ما ذكره ، لو كان نوح لقباً مع وجود إسم له غيره ، واللفظ عربياً ، لمناسبة الاشتقاق . أما وهو إسمه
الوضعي ، واللفظ غير عربي ، فلا .
وفي كتاب " تأويل الأسماء الواقعة في الكتب السالفة " أن نوحاً معناه راحة أو سلوان ، فتثبَّتْ .
وكان قبل بعثة نوح عليه السلام ، قوم عرفوا الله وعبدوه خصوصاً في عائلة شيث عليه السلام ، ثم فسد نسل شيث أيضاً ، واختلطوا مع الأشرار ، وامتلأت الأرض من جرائمهم ، وزاغوا عن الصراط المستقيم ، وصاروا يعبدون الأوثان والأصنام ، فأرسل الله تعالى إليهم نوحاً عليه السلام ، ليدلهم على طريق الرشاد .
قال ابن كثير : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : كان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صور أولئك فيها ، ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم ، فلما طال الزمان جعلوا أجساداً على تلك الصور ، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين : وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً ، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه - وله الحمد والمنة - رسوله نوحاً فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له : { فَقَالَ يَا قَوْمِ } أي : الذين حقهم أن يشاركوني في كمالاتي : { اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ } أي : مستحق للعبادة في الوجود : { غَيْرُهُ } ، قرئ بالحركات الثلاث ، فالرفع صفة لإله ، باعتبار محله الذي هو الرفع على الإبتداء أو الفاعلية ، وبالجر على اللفظ ، وبالنصب على الإستثناء ، وحكم غير ، حكم الاسم الواقع بعد إلا ، أي : ما لكم من إله إلا إياه .
{ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : إن تركتم عبادته أو عبدتم غيره .
{ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به ، أو يوم نزول العذاب عليهم ، وهو الطوفان . ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه ، وتكميل الإنذار .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما موقع الجملتين بعد قوله :
{ اعْبُدُوا اللَّهَ } ؟ قلت :
الأولى : بيان لوجه اختصاصه بالعبادة ، والثانية : بيان للداعي إلى عبادته ، لأنه هو المحذور عقابه ، دون ما كانوا يعبدونه من دون الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 60 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ } أي : الأشراف ، أو الجماعة ، أو ذوو الشارة والتجمع .
{ إِنَّا لَنَرَاكَ } أي : بأمرك بعبادة الله ، وترك عبادة غيره وتخويف العذاب على ترك عبادة الله ، وعلى عبادة غيره .
{ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : في ذهاب عن طريق الحق والصواب

لكونه خلاف ما وجدنا عليه آباءنا .
قال ابن كثير : وهكذا حال الفجار ، إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كقوله : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ }
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } إلى غير ذلك من الآيات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 61 ]
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 62 ] .
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } أي : ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة ، أو في المعاني المختلفة ، من الأوامر والنواهي ، والمواعظ والزواجر ، والبشائر والنذائر .
ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده ، إدريس ، فهذا نكتة جمع الرسالات ، وإلا فرسالة كل نبي واحدة ، وهي مصدر ، والأصل فيه أن لا يجمع ، فجمع لما ذُكر .
{ وَأَنصَحُ لَكُمْ } وأصد صلاحكم بإخلاص { وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي ، أشياء لا علم لكم بها ، أو أعلم من قدرته الباهرة ، وشدة بطشه على أعدائه ، وأن بأسه لا يُرد عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه .
قال ابن كثير : وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله ، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات ، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة ، وهم أوفر ما كانوا وأكثر
جميعاً : < أيها الناس ! إنكم مسؤولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ، وينكسها عليهم ويقول اللهم اشهد ، اللهم اشهد > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 63 ] .
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ } أي : موعظة : { مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أي : من العذاب إن لم تؤمنوا : { وَلِتَتَّقُواْ } أي : وليوجد منكم التقوى ، وهي الخشية بسبب الإنذار ، { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : ولترحموا بالتقوى إن وُجدت منكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } [ 64 ] .
{ فَكَذَّبُوهُ } أي : أصروا على تكذيبه ، مع طول مدة إقامته فيهم ولم يؤمن معه منهم إلا قليل { فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } أي : عن الحق ، فلم يستبصروا الحق ولم يستنيروا بنور الوحي الذي هو كالشمس ، ولا بظهور الآيات ، ولا بآية الطوفان المغرق لهم ، بعد إنذاره به على تكذيبهم ، والعمى ذهاب بصر العينين وبصر القلب . يقال : عَمي فهو أعمى وعمٍ ، كما في القاموس .
وكان من أمر نوح عليه السلام ، أن قومه لما أعرضوا عن الإيمان ، وتمادوا على العصيان ، وعبدة الأوثان ، وطال عليه أمرهم ، شكاهم إلى الله تعالى ، فأوحى الله إليه أنه : { لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَن } ، وهم ناس قليل ، فحينئذ دعا عليهم فقال : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } .
فأوحى الله إليه أن يصنع السفينة ، وصار قومه يسخرون منه ، ويقولون : يا نوح ! قد صرت نجاراً بعد النبوة ! فقال : { إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } .
فلما فرغ من صنع السفينة ، أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين من أنواع الحيوانات ، حتى لا ينقطع نسلها . وحشرها إليه من كل جهة .
ولما رأى فوران
التنور ، وكان هو العلامة بينه وبين الله تعالى في ابتداء الطوفان ، ركب الفلك هو ومن آمن معه ، وحمل من كل زوجين اثنين ، وأمر الله تعالى السماء أن تمطر ، والأرض أن تتفجر عيوناً ، وارتفع الماء في هذا الطوفان رؤوس الجبال ، فهلك جميع ما على الأرض من جنس الحيوان ، ولم يبق حياً غير أهل السفينة .
وفي التوراة : أن الأمطار هطلت أربعين يوماً وليلة دون انقطاع ، حتى غمرت المياه وجه الأرض ، وعلت خمسة عشر ذراعاً فوق الجبال الشامخة وهلك بالطوفان كل جسم حي .
ثم أرسل الله ريحاً عاصفة ، فانقطعت الأمطار ونقصت المياه شيئاً فشيئاً ، وقضى نوح سنة كاملة داخل الفلك ، وحين خروجه منه بنى مذبحاً للقرابين ، شكراً لله تعالى ، وتناسلت الناس من أولاد نوح الثلاثة : سام وحام ويافث وتوطن سام بلاد آسية ، وأقام حام بنواحي أفريقية ، وسكن يافث الديار الأوروبية ـ والله أعلم ـ
تنبيه :
قال الجشمي : في الآيات فوائد منها : أن نوحاً دعاهم أولاً إلى التوحيد ، والرسولُ وإن حمل الشرائع ، فلا طريق له إلى بيان الشرائع إلا بعد العلم بالتوحيد ، ولأنهم لا ينتفعون بذلك إلا بعد اعتقاد التوحيد ، فلذلك بدأ به .
وجميع الرسل بدؤوا بالتوحيد ثم بالشرائع ولذلك كان أكثر حجاج نبينا عليه السلام بمكة ، في التوحيد . انتهى .
وقال ابن كثير : بين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم الكافرين ، كقوله : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } الآية ، وهذه سنة الله في عباده ، في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة للمتقين ، والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح بالغرق ، ونجى نوحاً وأصحابه المؤمنين .
قال مالك عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز .
قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ 65 ] .
{ وَإِلَى عَادٍ } متعلق بمضمر ، معطوف على قوله تعالى :
{ أرْسَلْنا } في قصة
نوح . أي : وأرسلنا إلى عاد ، وهي قبيلة كانت تعبد الأصنام ، وكانت ذات بسطة وقوة ، قهروا الناس بفضل القوة .
قال الشهاب : عاد إسم أبيهم ، سميت به القبيلة أو الحيّ فيجوز صرفه وعدمه ، كثمود - كما ذكره سيبويه - .
قال الليث : وعاد الأولى ، وهم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله .
قال زهير :
وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأما عاد الأخيرة ، فهو بنو تميم ، ينزلون رمال عالج .
وفي " كتاب الأنساب " : عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، كان يعبد القمر ، ويقال إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف ، وأنه نكح ألف جارية ، وكانت بلادهم إرم المذكورة في القرآن ، وهي من عُمان إلى حضرموت . ومن أولاده شَدَّاد بن عاد صاحب المدينة المذكورة ، كذا في " تاج العروس " .
وقال ابن عرفة : قوم عاد كانت منازلهم في الرمال وهي الأحقاف .
وقال ابن إسحاق : الأحقاف رمل فيما بين عُمان إلى حضرموت .
وقوله تعالى : { أَخَاهُمْ هُوداً } أي : أخاهم في النسب ، لأنه منهم ، في قول النسابين . وقيل : الناس كلهم إخوة في النسب ، لأنهم ولد آدم وحواء ، فالمراد صاحبهم ، وواحد في جملتهم ، كما يقال : يا أخا العرب ، للواحد منهم ، وإنما أرسل منهم ، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره ، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله ، وأرغب في اقتفائه .
قال الشهاب : اشتهر أن هوداً عربي ، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي ، ويشهد له ما قيل : إن أول العرب يعرب . انتهى .
وهود هو على ما قال ابن إسحاق : ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ويقال غير ذلك - والله أعلم - .
وروى ابن إسحاق بن عامر بن واثلة ، قال : سمعت علياً يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيباً أحمر يخالطه مَدرَةٌ حمراء ، ذا أراكٍ وسدرٍ كثير ، بناحية
كذا وكذا ، من أرض حضرموت ، هل رأيته ؟ قال : نعم ، يا أمير المؤمنين ! والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه ! قال : لا ، ولكني قد حُدِّثت عنه ، فقال الحضرمي : وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال : فيه قبر هود عليه السلام - ورواه ابن جرير - .
قال ابن كثير : وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن ، فإذا هوداً عليه السلام دفن هناك . وقال : إنهم كانوا يأوون إلى العُمُد في البر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } ، وذلك لشدة بأسهم وقوتهم ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } .
ولذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وإلى طاعته وتقواه ، كما قال تعالى .
{ قَالَ } أي : هود : { يَا قَوْمِ } أي : الذين حقهم أن يكونوا مثلي : { اعْبُدُواْ اللّهَ } أي : وحده : { مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي : تخافون عذابه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 66 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } أي : في خفة حلم ، وسخافة عقل ، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر ، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز ، أرادوا أنه متمكن فيها ، غير منفك عنها { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في إدعائك الرسالة ، إذ استبعدوا [ في المطبوع : إذا أستبعدوا ] أن يرسل الله أحداً من أهل الأرض إليهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 67 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : إليكم لإصلاح أمر نشأتيكم [ كذا ] .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } [ 68 ] .
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } أي : ناصح لكم فيما آمركم به من
عبادته تعالى وحده ، وأمين على تبليغ الرسالة ، لا أكذب فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 69 ] .
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أي : أيام الله ولقاءه ، أي : لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي : خلفتموهم في مساكنهم ، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً بعدهم ، فإن شَدَّاد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض ، من رمل عالج إلى شحْر عُمان - كذا قالوا - : { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } أي : قامة وقوة .
{ فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ } أي : في استخلافكم ، وبسطة أجرامكم ، وما سواهما من عطاياه ، لتخصصوه بالعبادة : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : تفوزون بالفلاح .
تنبيهان :
الأول : قال الزمخشري : في إجابة الأنبياء عليهم السلام ، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة ، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء ، وتارك المقابلة بما قالوا لهم ، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم أدب حسن ، وخلق عظيم . وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم ، على ما يكون منهم . انتهى .
وزاد القاضي : إن في ذلك كمال النصح والشفقة ، وهضم النفس وحسن المجادلة قال : وهكذا ينبغي لكل ناصح . انتهى .
الثاني : لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب ، بدون وضعها على محك النظر والنقد ، من المبالغة في طول قوم عاد ، وضخامة أجسامهم ، وأن أطولهم كان مائة ذراع ، وأقصرهم كان ستين ذراعاً ، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي ، وهو وهم .
وأما قوله جل شأنه مخاطباً لقوم عاد : { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } فإنه لا يدل على ما أرادوا ، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها ، وهذا من الأمور المعتادة ، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته ، بل تتفاوت لكن تفاوتاً قريباً .
ومما يدل على أن أجسام من سلف
كأجسامنا ، لا تتفاوت عنها تفاوتاً كبيراً ، مساكن ثمود قوم صالح الباقية ، وآثارهم البادية ، ومثله ، بل أعرق منه في الوهم ، ما ينقلونه وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان ، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله ، ويتناول الحوت من قرار البحر ، فيشويه بعين الشمس ، يرفعه إليها . والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها ، بمقابلة سطح الأرض والهواء ، فشدة حرارتها في الأرض ، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الإرتفاع .
وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في " مقدمة تاريخه " ، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية ، ومصانعهم العظيمة ، كأهرام مصر وإيوان كسرى ، فيتخيلون لأصحابها أجساماً تناسب ذلك .
والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها ، وإتساع [ في المطبوع : وإاساع ] ممالكها ، وقوة شوكتها ، ونماء ثروتها ، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال ، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن معشاره .
وأنكر أيضاً ما ينقلون من قصة جنة عاد ، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة ، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن ، بناها شَدَّاد بن عاد حيث سمع وصف الجنة ، وأنها لما تم بناؤها ، أرسل الله على أهلها صيحة ، فهلكوا كلهم ، وأن اسمها إرم ذات العماد ، وأنها المشار إليها بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } ، ويزعمون أنه لم تزل باقية في بلاد اليمن وإنما حجبت عن الأبصار .
وحيث إن ذلك لم يُرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه ، ولا نلتفت إليه ، وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة ، هم المؤرخون الذي يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ، ويقلدونهم من غير برهان ودليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل - كذا أفاده بعض المحققين - .
ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم وإنكارهم على هود عليه السلام ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 70 ] .
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ } أي : لنخصه بالعبادة : { وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا }
أي : من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى :
{ أفَلَا تَتَّقُونَ } . [ ؟ ؟ ]
{ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في الإخبار بنزول العذاب .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ 71 ] .
{ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ } أي : عذاب ، والرجس والرجز بمعنى ، حتى قيل إن أحدهما مبدل من الآخر ، كالأسد والأزد . وأصل معناه الإضطراب ، يقال : رجست السماء : رعدت شديداً وتمخضت ، وهم في مرجوسة من أمرهم ، أي : في اختلاط والتباس ، ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به .
وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز ، قال : لأنه حقيقة في الشيء القذر ، فاستعير لجزائهم .
وظاهر اللغة أنه حقيقة ، ووجه التعبير بالماضي عما سيقع ، تنزيل المتوقع كالواقع كما في : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا } .
{ وَغَضَبٌ } أي : سخط لإشراكهم معه من هو في غاية النقص ، في أعلى كمالاته التي هي الإلهية .
{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم } أي : في أشياء ما هي إلا أسماء وليس تحتها مسميات ، لأنكم تسمونها آلهة ، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومُحال وجوده . وهذا كقوله تعالى : { مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } ـ كذا في الكشاف - .
قال الشهاب : جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة ، كما يقال لما لا يليق : ما هو إلا مجرد إسم ، فالمعنى : والضمير حينئذ راجع لأسماء وهي المفعول الأول للتسمية ، والثاني آلة ، ولو عكس لزم الإستخدام . انتهى .
وقوله تعالى : { مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي : حجة ودليل على هذه التسمية ، لأن المستحق للمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكل ، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى ، إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل ، فتحقق بطلان ما هم عليه .
قال الجشمي : دلت الآية على فساد التقليد ، حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم . وتدل على أن المعارف مكتسبة ، وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه .
ويدل
قوله : { أَتُجَادِلُونَنِي } على أن المبطل مذموم في جداله ، والواجب عليه النظر ليعرف الحق . انتهى .
وقال القاضي : بين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم ، أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقيق المسمى ، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله ، إظهاراً لغاية جهالتهم ، وفرط غباوتهم .
{ فَانتَظِرُواْ } أي : نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم : { فَأْتِنا بِما تَعِدُنَا } ، لأنه وضح الحق ، وأنتم مصرون على العناد .
{ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } أي : لما يحل بكم .
قال المهايمي : جاء منتظرهم بحيث لا ينجو منه بمجرى العادة أحد ، وجعل من قبيل الريح التي تتقدم الأمطار ، لكفرهم برياح الإرسال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ 72 ] .
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : من آمن به ، على خرق العادة { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي : استأصلناهم .
قال الشهاب : قطع الدابر ، كناية عن الإستئصال إلى إهلاك الجميع ، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمرّ على غيره ، والشيء إذا امتد أصله أخذ برمته ، والدابر بمعنى الآخر .
{ وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } عطف على : { كَذَّبُواْ } داخل معه في حكم الصلة .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله : { وَما كانُواْ مُؤْمِنينَ } مع إثبات التكذيب بآيات الله ؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم ، كمرثد بن سعد ، ومن نجا مع هود على السلام ، كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ، ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين ، ونجى الله المؤمنين . انتهى .
قال الطيبي : يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين ، علم أن سبب النجاة هو الإيمان لا غير ، تزيد رغبته فيه ، ويعظم قدره عنده . انتهى .
قال ابن كثير : قد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن
بأنه أرسل عليهم الريح العقيم : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } ، كما قال في الآية الأخرى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } لما تمردوا وعتوا ، أهلكم الله بريح عاتية ، فكانت تحمل الرجل منهم ، فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلع رأسه حتى تُبينَهُ من جثته .
وقال محمد بن إسحاق : كانت منازل عاد وجماعتهم ، حين بعث الله فيهم هوداً ، الأحقاف قال : و الأحقاف الرمل ، فيما بين عُمان إلى حضرموت ، فاليمن كله .
وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله : صنم يقال له صُداء ، وصنم يقال له ، صمود وصنم يقال له الهباء : فبعث الله إليهم هوداً ، وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً ، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره ، وأن يكفوا عن ظلم الناس .
لم يأمرهم فيما يذكر ، والله أعلم ، بغير ذلك ، فأبوا عليه وكذبوه ، وقالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } .
واتبعه منهم ناس ، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم ، وكان ممن آمن به وصدقه رجل من عاد يقال له مرثد بن سعد بن عُفَيْر ، وكان يكتم إيمانه . فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيهم ، وأكثروا في الأرض الفساد ، وتجبروا وبنوا بكل ريع ريع آية عبثاً بغير نفع ، كلمهم هود فقال : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } .
{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوء } أي : ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ } إلى قوله : { صِراطٍ مُّسْتَقيمٍ } .
فلما فعلوا ذلك ، أمسك الله عنهم المطر من السماء ثلاث سنين ، فيما يزعمون ، حتى جهدهم ذلك .
وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد ، فطلبوا إلى الله الفرج منه ، كانت طلبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة ، مسلمهم ومشركهم ، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم ، وكلهم معظِّم لمكة ، يعرف حرمتها ومكانها من الله .
قال ابن إسحاق : وكان البيت في ذلك الزمان معروفاً مكانه ، والحرم قائم فيما يذكرون ، وأهل مكة يومئذ العماليق ، وإنما سموا العماليق ، لأن أباهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة ، فيما يزعمون ، رجلاً يقال لهم معاوية بن بكر ، وكان أبوه حياً في ذلك الزمان ، ولكنه كان قد كبر ، وكان ابنه يرأس قومه ، وكان السؤدد والشرف من العماليق فيما يزعمون ، في أهل ذلك البيت .
وكانت أم معاوية بن بكر ، كلهدة ابنة الخبيري ، رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجُهدوا قالوا : جهزوا منكم وفداً إلى مكة فليستسقوا لكم ، فإنكم قد هلكتم ! فبعثوا عقيل بن عنز ولقيم بن هزّال بن هزيل ، وعتيل بن صُد بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عُفَيْر ، وكان مسلماً يكتم إسلامه ، وجُلهُمة بن الخبيري ، خال معاوية بن بكر أخو أمه .
ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُد بن عاد الأكبر . فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلاً ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر ، وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وصهره .
فلم نزل وفد عاد على معاوية بن بكر ، أقاموا عنده شهراً يشربون الخمر ، تغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية بن بكر - وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً .
فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم ، وقد بعثهم قومهم يتعوذون بهم من البلاء الذي أصابهم ، شق ذلك عليه ، فقال : هلك أخوالي وأصهاري ! وهؤلاء مقيمون عندي ، وهم ضيفي نازلون علي ! والله ما أدري كيف أصنع بهم ؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي ، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهداً وعطشاً ! أو كما قال :
فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ، لا يدرون من قاله ، لعل ذلك أن يحركهم ! .
فقال معاوية بن بكر ، حين أشارتا عليه بذلك :
~ألا يا قيل ، ويحك ! قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما
~فيسقي أرض عاد ، إن عاداً قد أمسوا لا يبينون الكلاما
~من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلام
~وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم عيامى
~وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما
~وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
~فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فلما قال معاوية ذلك الشعر ، غنتهم به الجرادتان ، فلما سمع القوم ما غنتا به ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، إنما بعثكم قومكم يتعوذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ! فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم ! .
فقال لهم مرثد بن سعد بن عُفَيْر : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سقيتم ! فأظهر إسلامه عند ذلك .
فقال لهم جلهمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر ، حين سمع قوله ، وعرف أنه قد ابتع دين هود وآمن به :
~أبا سعدٍ فإنك من قبيل ذوي كرم وأمَّك من ثمود
~فإنا لن نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
~أتأمرنا لنترك دين رفدٍ ورمل وآل صد والعُبُودِ
~ونتركَ دين آباء كرام ذوي رأي ، ونتْبَعَ دينَ هودِ
ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر : أحبسا عنا مرثد بن سعد ، فلا يقدمنّ معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، ترك ديننا !
ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له . فلما انتهى إليهم ، قام يدعوا الله بمكة ، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون ، يقول : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد .
وكان قَيْلُ بن عنز رأس وفد عاد .
وقال وفد عاد : اللهم أعط قيلا ما سألك ، واجعل سؤلنا مع سؤله .
وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا ، لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد .
حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال : اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي ، فأعطني سؤلي .
وقال قيل بن عنز حين دعا : يا إلهنا ، إن كان هود صادقاً فاسقنا ، فإنا قد هلكنا .
فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثاً : بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب : يا قيل ! اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب . فقال : اخترت السحابة السوداء ، فإنها أكثر السحاب ماء . فناده مناد : اخترتَ رماداً رمْددَا ، لا تُبقي من آل عاد أحداً ، لا والداً تترك ولا ولداً ، إلا جعلته همداً إلا بني اللُّوذيَّة المُهَدَّى ، وبنو اللوذية ، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر ، وكانوا سكاناً بمكة مع أخوالهم ، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم ، فهم عادٌ الآخرة ، ومن كان نسلهم الذين بقوا من عاد وساق الله السحابة السوداء ، فيما يذكرون ، التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث .
فلما رأوها استبشروا بها وقالوا : { هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } يقول الله : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : كل شيء أُمِرَتْ به .
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح ، فيما يذكرون ، امرأة من عاد يقال لها مَهْدَد ، فلما [ في المطبوع : فما ] تيقنت ما فيها صاحت ثم صعقت . فلما أفاقت قالوا : ماذا رأيت يا مهدد ؟ قالت : رأيت ريحاً فيها ، كشهب النار ، أمامها رجال يقودونها !
ف : { سَخَّرَها } الله : { عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوما } ، كما قال الله ـ والحسوم الدائمة - فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك . فاعتزل هود فيما ذكر لي ، ومن معه من المؤمنين في حظيرة ، مايصيبه ومن معه من الريح ، إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس .
وإنها لتمر على عاد بالظَّعن بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة .
وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وأبيه ، فنزلوا عليه .
فبينما هم عنده ، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة ، مُمْسَى ثالثة في مُصاب عاد ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا له : أين فارقت هوداً وأصحابه ؟ قال : فارقتهم بساحل البحر

فكأنهم شكوا فيما حدثهم به ، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق ، ورب الكعبة .
قال ابن كثير : وهو سياق غريب ، فيه فوائد كثيرة ، وقد قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } .
وروى الإمام أحمد عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال :
خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالربذة ، فإذا بعجوز من بين تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ! إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها ، فأتيت المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ قالوا : يريد أن يبعث عَمْرو بن العاص وجهاً ، فجلست ، فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، فقال : هل كان بينكم وبين تميم شيء ؟ قلت : نعم . قال وكانت لنا الدبرة عليهم ، ومررت بعجوز من بين تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب ، فأذن لها ، فدخلت . فقلت : يا رسول الله ! إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً ، فاجعل الدهنا . فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله ! فإلى أين تضطر مضرك ؟ قال قلت : إن مثلي مثل ما قال الأول : معزاء حملت حتفها ، حملتُ هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ! قال : هيه ، وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه ، قلت : إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له قيل ، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر ، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان ، فلما مضى الشهر ، خرج جبل تهامة فنادى : اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه ! فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : اختر ، فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : خذها رماداً رمدداً ، لا تبقي من عاد أحداً . قال : فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا ، حتى هلكوا . قال أبو وائل : وصدق . قال : فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم قالوا : لا تكن كوافد عاد - هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير - .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 73 ] .
{ وَإِلَى ثَمُودَ } أي : وأرسلنا إلى ثمود ، وهي قبيلة أخرى من العرب سموا باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس بن عابر . وكذلك قبيلة طسم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة ، قبل إبراهيم الخليل عليه السلام .
وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله .
وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع - نقله ابن كثير - .
وثمود كصبور ، تضم ثاؤه ، وقرئ به أيضاً ، وقرئ بصرفه ، أو ومنعه ، أما الثاني فلأنه اسم القبيلة ، ففيه العلمية والتأنيث . وأما الأول فلأنه اسم للحي ، أو لأنه لما كان إسمها الجد القليل من الماء كان مصروفاً ، لأنه علم مذكر ، أو اسم جنس ، فبعد النقل حُكي أصله . كذا في " العناية " .
{ أَخَاهُمْ صَالِحاً } هو - على ما قاله علماء التفسير والنسب - : ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود : { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } دعاهم عليه الصلاة والسلام بما يدعو به الرسل أجمعون ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له . كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } .
وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت } { قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : حجة ظاهرة للدلالة على صحة نبوتي : { هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً } أي : خلقها حجة وعلامة على رسالتي ، وأضافها إليه تفضيلاً وتخصيصاً كبيت الله ، أو لأنه لا مالك لها غيره تعالى ، أو لأنها حجته عليهم في أنهم ، إن حفظوها وأطلقوا لها رعيها وسقيها حفظوا ، وإن غدروا بها أُهلكوا ، ولذا قال : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ } أي : التي لا يملكها غيره ، العشب : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ } أي : لا تضربوها ولا تطرودها ، ولا تُريبوها بشيء من الأذى ، ولو تأذت منها دوابكم ، إكراماً لآية الله : { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } أي : في الدارين لجرأتكم على آيات الله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 74 ] .
{ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ } قال الشهاب : لم يقل : خلفاء عاد ، إشارة إلى أن بينهما زماناً طويلاً .
{ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ } أي : أنزلكم في أرض الحجر . والمباءة المنزل .
{ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً } أي : تبنون في سهولها قصوراً لتسكنوها أيام الصيف . فمن بمعنى في ، كقوله تعالى :
{ نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَة } أو هي ابتدائية ، أو تبعيضية ، أي : تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل وهي الطين . والسهل خلاف الحَزْن ، وهو موضع الحجارة والجبال : { وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } أي : لتسكنوها أيام الشتاء .
والجبال إما مفعول ثان بتضمين نحت معنى اتخذ ، أو منصوب بنزع الخافض ، على ما جاء في الآية الأخرى : والنحت معروف في كل صلب ، ومضارعه مكسور الحاء . وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق : وقرئ تنحاتون بالإشباع ، كينباع ، أفاده الشهاب .
بحث الإشباع في وسط الكلمة :
أقول : بهذه القراءة يستدل على ثبوت الإشباع في وسط الكلمة لغة . ومثله ينباع المذكورة ، هي من قول عنترة :
يَنْباعُ من ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ
أي : ينبع العرق من خلف أذن ناقة غضوب ، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن ، فتولدت من إشباعها ألف .
ومثله قولنا آمين ، والأصل أمين فأشبعت الفتحة ، فتولدت من إشباعها ألف - قاله الزوزني - .
ومثله استكان على القول بأنه افتعل من السكون ، فزيدت الألف لإشباع الفتحة كما في " شرح الشافية " .
ومنه عَقْرَاب - قال في " تاج العروس " : سمع العَقْرَاب في اسم الجنس .
قال :
~أعوذ بالله من العَقْرَابِ الشائلاتِ عُقَد الأذْنابِ
قال : وعند أهل الصرف ألف عقراب للإشباع ، لفقدان فعلال بالفتح . انتهى .
وقوله تعالى : { فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ } أي : نعمه عليكم لتصرفوها إلى ما خلقها لأجله .
{ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } بالمعاصي وعبادة غيره تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ 75 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } أي : عن الإيمان بعد ظهور آية الناقة والكلمات الناصحة .
{ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ } أي : استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم ، إذ لم يكن لهم استكبار يمنعهم من الانقياد .
{ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } بدل من الذي استضعفوا بإعادة الجار ، بدل الكل ، إن كان الضمير لقومه ، فيدل على أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين بدل البعض ، إن كان الضمير
{ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ } فيدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين .
قال أبو السعود : والأول هو الوجه ، إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولا ً إلى جميع المستضعفين ، مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم ، على أن الإستضعاف مختص بالمؤمنين ، أي : قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم : { أَتَعْلَمُونَ } أي : من آية الناقة ومن الكلمات الناصحة : { أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ } إليكم لعبادته تعالى وحده لا شريك له .
وهذا قالوه على سبيل السخرية والإستهزاء ، لأنهم يعلمون بأنهم عالمون بذلك ، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر ، بل عدلوا منه ، كما قال تعالى : { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو إنه مرسل منه تعالى ، مسارعة إلى تحقيق الحق ، وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذي تنبئ عنه الجملة الإسمية ، وتنبيهاً على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغي أن يسأل عنه وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به . أفاده أبو السعود .
فهذا من الأسلوب الحكيم ، وهو تلقي السائل والمخاطب بخلاف ما يترقب
تنبيهاً على أنه هو الذي ينبغي أن يسأل عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ 76 ] .
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } وإنما لم يقولوا : إنا بما أرسل به كافرون ، إظهاراً لمخالفتهم إياهم ، وردا لمقالتهم .
قال في " الانتصاف " : ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا : إنا بما أرسل به كافرون ، ولكن أبوا ذلك حذراً مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته ، وهم يجحدونها ، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم ، كما قال فرعون :
{ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ، فأثبت إرساله تهكماً ، وليس هذا موضع التهكم ، فإن الغرض إخبار كل واحد من الفريقين ، والمكذبين ، عن حاله ، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة ، احتياطاً للكفر ، وغلواً في الإصرار . انتهى .
ولذلك أنكروا آية الناقة وكذبوه في إصابة العذاب عن مسها بالسوء . كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 77 ] .
{ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ } أي : نحروها ، والعقر : الجرح ، وأثر كالخز في قوائم الفرس والإبل يقال : عقره بالسيف يعقره بالكسر ، وعقره تعقيراً ، قطع قوائمه بالسيف وهو قائم .
قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ، ثم يجعل النحر عقراً ، لأن ناحر الإبل يعقرها : ثم ينحرها .
وفي اللسان : عقر الناقة وعقرها ، وإذا فعل بها ذلك حتى تسقط ، فينحرها مستمكناً منها ، أي : لئلا تشرد عند النحر .
وفي الحديث : < لا عقر في الإسلام > .
قال ابن الأثير : كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى ، أي :
ينحرونها ويقولون إن
صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته ، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته . كذا في " تاج العروس " .
وأسند العقر إلى جميعهم ، لأنه كان برضاهم ، وإن لم يباشره إلا بعضهم . ويقال للقبيلة الضخمة : أنتم فعلتم كذا وما فعله إلا واحد منهم . كذا في " الكشاف " .
قال أبو السعود : وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه ، بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى .
{ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي : استكبروا عن امتثاله ، وهو عبادته وحده ، أو الحذر من مس الناقة بسوء . وزادوا في الإستهزاء : { وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أي : من العذاب على عقر الناقة . والأمر للإستعجال لأنهم يعتقدون أنه لا
يتأتى ذلك ، ولذا قالوا : { إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : فإن الله ينصر رسله على أعدائه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 78 ] .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } أي : الصحية التي يحصل منها الزلزلة الشديدة بدل صوت الناقة عند عقرها ، وبدل حركتها عند نزع الروح : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } في بلادهم أو مساكنهم .
{ جَاثِمِينَ } أي : ساقطين على وجوههم ، هامدين لا يتحركون ، ميتين بدل موت الناقة وسقوطها . والصيحة والزلزلة من آثار الريح المرسلة التي كانت رحمة فانقلبت عذاباً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } [ 79 ] .
{ فَتَوَلَّى } أي : فأعرض صالح : { عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي } المتضمنة لتخويف العذاب عنه { وَنَصَحْتُ لَكُمْ } فأمرتكم بكل خير ، ونهيتكم عن كل شر { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } أي : من الرسل والأنبياء والعلماء لمخالفتهم أهوايتكم .
والظاهر أن صالحاً عليه السلام كان مشاهداً لما جرى عليهم ، وأنه تولى عنهم ، بعد ما أبصرهم جاثمين ، تولِّيَ مُغتمٍّ متحسرٍّ على ما فاته من إيمانهم ، يتحزن لهم بقوله
{ يا قَوْمِ } الخ ، كذا في " الكشاف " ، أو خاطبهم خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أهل قليب بدر حيث قال : < إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً > - كما رواه البخاري - لا تحزناً ، ولكن إعلاماً بنصر الله له ، وتحقيق رسالته ، زيادةً في حزنهم وتوبيخهم ، فإن الأحياء ليسوا بأسمع منهم ، ولكن لا يتكلمون . كما في " الصحيح " . ويجوز عطف قوله
{ فَتَوَلَّى } على قوله : { فأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } ، فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك ، لا بعده . فيكون عليه السلام تولى عنهم تولي ذاهب عنهم ، منكر لإصرارهم حين رأى علامات نزول العذاب . والمتبادر الأول لظهور الفاء في التعقيب - والله أعلم - .
تنبيهات
الأول : نأثر هنا ما رواه علماء التاريخ والنسب في بسط قصة ثمود ، لمكان العظة والإعتبار مفصلاً ، وإلا فجلي أن ما أجمله التنزيل الكريم لا غاية وراءه في ذلك ، وما سكت عن بيانه من تلك القصص ، فلا حاجة إلى السعي وراءه لفقد
القطع به ، اللهم إلا لزيادة الإتعاظ ، و تقوية العبرة ، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج > .
وخلاصة ما رووه عن ثمود أن عاداً لما هلكت ، عمرت ثمود بلادها ، وخلفوهم في الأرض ، وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا على الله ، وأفسدوا في الأرض ، وعبدوا الأوثان ، فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام ، وكانوا قوماً عرباً ، وصالح من أوسطهم نسباً ، فدعاهم إلى عبادته تعالى وحده ، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون ، فحذرهم وأنذرهم ، فسألوه آية ، واقترحوا عليه بأن يخرج لهم ناقة عُشَرَاءَ ، تمخض من صخرة صماء ، عينوها بأنفسهم ، وكانت صخرة منفردة في ناحية الجبل ، يقال لها الكائبة ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق : لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه .
فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح عليه السلام إلى صلاته ، ودعا الله عز وجل ، فتحركت تلك الصخرة ، ثم انصدعت
عن ناقة جوفاء وبراء ، يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا . فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عَمْرو بن لَبِيد ، والخباب صاحب أوثانهم ، ورباب بن صعمر بن جلمس .
وكان لجندع بن عَمْرو ابن عم له ، شهاب بن خليفة بن محلاة بن لَبِيد بن جواس ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فأراد أن يسلم أيضاً فنهاه أولئك الرهط ، فأطاعهم فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عنمة بن الزميل رحمه الله :
~وكانت عصبةٌ من آل عمروٍ إلى دين النبيّ دعوا شهابا
~عزيزَ ثمودَ كلِّهم جميعاً فهم بأن يجيب ولو أجابا
~لأصبح صالحٌ فينا عزيزاً وما عدلوا بصاحبهم ذُؤابا
~ولكن الغواة مِنَ آل حجر تولوا بعد رشدهُم ذُبابا
وأقامت الناقة وفصيلها ، بعد ما وضعته ، بين أظهرهم مدة ، تشرب من بئرها يوماً ، وتدعه لهم يوماً ، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } وقال تعالى : { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } .
وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ، ترد من فج وتصدر من غيره ، ليسعها . لأنها كانت تتضلع من الماء ، وكانت - على ما ذكر - خلقاً هائلاً ، ومنظراً رائعاً ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها ، فما طال عليهم ذلك ، واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام ، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم .
فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها . قال قتادة : بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها ، حتى على النساء في خدورهن . قال ابن كثير : قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا }
وقال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } ، وقال
{ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة ، فدل على رضى جميعهم بذلك - والله أعلم - .
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، وغيره من علماء التفسير ، أن سبب قتلها ، أن امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بن غنم بن مجلز ، تكنى بأم غنم ، وهي من بين عبيد بن المهل ، أخي رُميل بن المهل ، وكانت امرأة ذؤاب بن عَمْرو ، وكانت عجوزاً مسنة ، وكانت ذات بنات حسان ، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم
وامرأة أخرى يقال لها صدوف بن المحيا بن دهر بن المحيا ، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول ، وكان الوادي يقال له وادي المحيا ، وهو المحيا الأكبر ، جد المحيا الأصغر أبي صدوف .
وكانت صدوف من أحسن الناس ، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر ، وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح ، وأعظمه به كفراً .
وكانتا تحتالان أن تُعقر الناقة مع كفرهما به ، لما أضرت به من مواشيهما .
وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف ، من بني هلس ، فأسلم وحسن إسلامه .
وكانت صدوف قد فوضت إليه مالها ، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح ، حتى رق المال .
فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف ، فعاتبته على ذلك ، فأظهر لها دينه ، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيّتت له ، فأخذت بنيه وبناته منه فغيبتهم في بني عبيد ، بطنها الذي هي منه .
وكان صنتم زوجها من بني هليل ، وكان ابن خالها ، فقال لها : ردي عليّ ولدي فقالت : حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد ، فقال لهم صنتم : بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد ، وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون .
فقالت : لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه .
فقال بنو مرداس : والله لتعطِنّه ولده طائعة أو كارهة .
فلما رأت ذلك أعتطته إياهم .
ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل ، فدعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحُبَاب لعقر الناقة ، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها ، فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا ، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة . وكانت من أحسن الناس ، وكانت غنية كثيرة المال ، فأجابها إلى ذلك .
ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جندع ، رجلاً من أهل قُرْح ،
وكان قدار رجلاً أحمر أزرق قصيراً ، يزعمون أنه كان لزنية ، من رجل يقال له صهياد ، ولم يكن لأبيه سالف الذي يدعى إليه ، ولكنه قد ولد على فراش سالف ، وكان يدعى له وينسب إليه .
فقالت : أعطيتك أي : بناتي شئت ، على أن تعقر الناقة .
وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود ، وكان زوجها ذؤاب بن عَمْرو ، من أشراف رجال ثمود ، وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه .
فانطلق قدار بن سالف ، وصدع بن مهرج ، فاستنفرا غُواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فكانوا تسعة نفر .
أحد النفر الذي اتبعوهما رجل يقال له ، هويل بن مبلغ خال قدار بن سالف ، أخو أمه لأبيها وأمها ، كان عزيزاً فيأهل حجر ، و دعير بن غنم بن داعر ، وهو من بني خلاوة بن المهل .
و دأب بن مهرج ، أخو مصدع بن مهرج ، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم .
فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها قُدار في أصل شجرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في أصل أخرى ، فمرت على مصدع فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها ، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس وجهاً ، فأسفرت لقدار وأرته إياه ، ثم ذمرت فشد على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها ، فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها .
انطلق سقبها حتى أتى جبلاً منُيفاً ، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعاً ولاذ بها ، وإسم الجبل فيما يزعمون صنو ، فأتاهم صالح ، فلما رأى الناقة قد عقرت ، قال انتهكتم حرمة الله ، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته ، فاتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة ، وفيهم مصدع بن مهرج ، فرماه مصدع بسهم ، فانتظم قلبه ، ثم جر برجله فأنزله ، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه .
فلما قال لهم صالح : أبشروا بعذاب الله ونقمته ، قالوا له وهم يهزءون به : ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ - وكانوا يسمون الأيام فيهم : الأحد أول ، والاثنين أهون ، والثلاثاء وبار ، والأربعاء جبار ، والخميس مؤمن ، والجمعة العروبة ، والسبت شيار ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء - فقال لهم صالح حين قالوا له
ذلك : تصبحون غداة يوم مؤمن ، يعني يوم الخميس ، ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون يوم العروبة ، يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون يوم شيار ، يعني يوم السبت ، وجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول ، يعني يوم الأحد .
فلما قال لهم صالح ذلك ، قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحاً ، إن كان صادقاً عجلناه ، قبلنا ، وإن كان كاذباً يكون قد ألحقناه بناقته .
فأتوه ليلاً ليبيّتوه في أهله ، فدمغتم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطأوا على أصحابهم ، أتوا منزل صالح فوجدهم مشدخين قد رُضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ! ثم هموا به . فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً ، فقد وعدكم أن العذاب نازل لكم في ثلاث ، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا ، إن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون !
فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك ، والنفر الذين رضخهم الملائكة بالحجارة ، التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } إلى قوله : { لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .
فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح ، وجوههم مصفرة ، فأيقنوا بالعذاب ، وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه ، وخرج صالح هارباً منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم ، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل يكنى بأبي هدب ، وهو مشرك ، فغيبه ، فلم يقدروا عليه .
فغدوا على أصحاب صالح فعذبوهم ليدلوهم عليه ، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم : يا نبي الله ، إنهم يعذبوننا لندلهم عليك ، أفندلهم عليك ؟ قال : نعم ، فدلهم عليه ميدع بن هرم .
فلما علموا بمكان صالح ، أتوا أبا هدب فكلموه فقال لهم : عندي صالح وليس لكم إليه سبيل ، فأعرضوا عنه وتركوه ، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه .
فجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس ، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرة ، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم
محمرة ، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة ، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين ، وتخلف رجل من أصحابه يقال له ميدع بن هرم فنزل قُرح - وهي وادي القرى ، وبين القُرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلاً - فنزل على سيدهم رجل يقال له عَمْرو بن غنم ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشرك في قتلها .
فقال له ميدع بن هرم : يا عَمْرو بن غنم ، أخرج من هذا البلد ، فإن صالحاً قال : من أقام فيه هلك ، ومن خرج منه نجا .
فقال عَمْرو : ما شركت في عقرها ، وما رضيت ما صُنع بها .
فلما كانت صبيحة الأحد ، أخذتهم الصيحة ، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك ، إلا جارية مُقعدة يقال لها الزُّريعة وهي الكلبة ابنة السلق ، كانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذاب أجمع ، فخرجت كأسرع ما يُرى شيء قط ، حتى أتت أهل قُرح فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه ، ثم استسقت من الماء فسُقيت ، فلما شربت ماتت .
الثاني : قال الرازي : زعم بعض الملحدين أن ألفاظ التنزيل في حكاية هذه الواقعة اختلفت ، وهي الرجفة والطاغية والصيحة .
والجواب ما قاله أبو مسلم : إن الطاغية إسم لكل ما تجاوز حده ، سواء كان حيواناً أو غير حيوان ، وألحق الهاء به للمبالغة ، فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت . وقال تعالى : { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } . ويقال طغى طغياناً ، وهو طاغ وطاغية ، وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ } ، أي : غلب وتجاوز عن الحد .
وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض ، وهي حركة خارجة عن المعتاد ، فلم يبعد إطلاق إسم الطاغية عليها ، وأما الصيحة ، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة .
وأما الصاعقة ، فالغالب أنها الزلزلة ، وكذلك الزجرة ، قال تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } . فبطل ما زعمه ذلك البعض .
الثالث : قال علماء التفسير : ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام ، ومن تبعه رضي الله عنهم ، إلا أن رجلاً يقال له أبو رغال ، كان لما وقعت النقمة بقومه ، مقيماً إذ ذاك في الحرم ، فلم يصبه شيء ، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل ، جاءه حجر من السماء فقتله .
روى الإمام أحمد عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : < لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح ، فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم ، فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوماً ويشربون لبنها يوماً فعقروها ، فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم ، إلا رجلاً واحداً كان في حرم الله فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه > .
قال ابن كثير : وهذا الحديث ليس في شي من الكتب الستة ، وهو على شرط مسلم .
وروى عبد الرزاق عن معمر : أخبرني إسماعيل بن أمية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : < أتدرون من هذا ؟ > قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : < هذا قبر أبي رغال ، رجل من ثمود ، كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن ههنا ، ودفن معه غصن من ذهب > ، فنزل القوم ، فابتدروه بأسيافهم ، فبحثوا عنه ، فاستخرجوا الغصن .
وأبو رغال هو أبو ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف ، كما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو داود وغيره ـ .
الرابع : ذكرنا قبل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح ، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك ، سنة تسع ، وأمر أصحابه أن يدخلوا خاشعين وجلين أن يصيبهم ما أصاب أهلها ، ونهاهم أن يشربوا من مائها .
فروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ، ونصبوا القدور باللحم . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأهراقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذبوا ، وقال : < إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم > .
وروى أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال : لما مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : < ا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم مثل ما أصابهم > . ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي .
وللبخاري ، أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها . فقالوا قد عجنا منها ، واستقينا ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهريقوا ذلك الماء .
الخامس : قال ابن كثير : ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته ، كان يذهب فيقيم في الحرم ، حرم مكة ، والله أعلم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا زَمْعَة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسفان حين حج قال :
< يا أبا بكر ! أي : واد هذا ؟ > ، قال : هذا وادي عُسفان . قال : < لقد مر به هود وصالح على بكرات حُمر خُطُمها الليف ، أُزُرهم العباء ، وأرديتهم النِّمَار ، يُلبُّونَ ، يحجون البيت العتيق > .
قال ابن كثير : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، لم يخرجه أحد منهم .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } [ 80 ] .
{ وَلُوطاً } منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق ، أي : وأرسلنا لوطاً . ولفظه أعجمي معناه في العربية ملفوف أو مُرّ ، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل - وهو فيما قاله علماء النسب والتفسير - ابن هاران بن تارح ، ويقال آزر ، وهو ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما السلام . وكان قد آمن مع إبراهيم عليهما السلام ، وهاجر معه إلى الشام وتوطنا بلد الكنعانيين من فلسطين ، وهي الأرض المقدسة ، ثم حدثت مشاجرة بين رعاتهما فنزح لوط إلى وادي الأردن ، وسكن مدينة سدوم فبعثه الله إلى أهلها ، وإلى ما جاورها من القرى . فصار يدعوهم إلى الله
تعالى ، يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والفواحش التي اخترعوها ، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين ، من بني آدم ، لا غيرهم ، وهو إتيان الذكور .
قال ابن كثير : وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ، ولا يخطر ببالهم ، حتى صنعه أهل سدوم ، عليهم لعائن الله .
قال عَمْرو بن دينار : ما زنا ذكر على ذكر ، حتى كان قوم لوط .
وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي ، باني جامع دمشق : لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظنت أن ذكراً يعلو ذكراً .
ثم بين تعالى إنكار لوط عليهم بقوله سبحانه : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } أي : الفعلة المتناهية في القبح . وقوله تعالى : { مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } أي : ما علمها أحد قبلكم ، الباء للتعدية ، من قولك سبقته بالكرة ، إذا ضربتها قبله ، منه قوله صلى الله عليه وسلم : < سبقك بها عُكاشة > . كذا في
" الكشاف " .
قال أبو السعود : والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير ، وتشديد التوبيخ والتقريع ، فإن مباشرة القبح قبيح ، واختراعه أقبح ، فأنكر تعالى عليهم أولاً إتيان الفاحشة ، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها ، ثم استأنف بيان تلك الفاحشة تأكيداً للإنكار السابق وتشديداً للتوبيخ بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ 81 ] .
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } أي : الذين خلقهم الله ليأتوا النساء ، لا ليأتيهم الرجال . وقرئ بهمزتين صريحتين ، وبتليين الثانية ، بغير مد وبمد أيضاً . وفي زيادة إن و اللام مزيد توبيخ وتقريع ، كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد . وفي إيراد لفظ الرجال دون الغلمان والمردان ونحوهما ، مبالغة في التوبيخ وتأتون ، من أتى المرأة إذا غشيها . قاله الزمخشري .
وفي " تاج العروس " : أتى الفاحشة : تلبس بها ، ويكنى بالإتيان عن الوطء وهو من أحسن الكنايات ، ورجل مأتي أُتي فيه ، ومنه قول بعض المولدين :
~يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا هذا كذلك إبرة الخياط
انتهى .
وقوله تعالى : { شَهْوَةً } مفعول له ، أي : للإشتهاء ، أي : لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر ، ولا ذم أعظم منه ، لأنه وصف لهم بالبهيمية ، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل أو نحوه ، أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة ، غير ملتفتين إلى السماحة . كذا في " الكشاف " .
{ مِّن دُونِ النِّسَاء } أي : مجاوزين عن مواتاه النساء اللاتي خلقن لذلك . قال أبو السعود : ويجوز أن يكون المراد من قوله : { شَهْوَةً } الإنكار عليهم ، وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { مِّن دُونِ النِّسَاء } أي : متجاوزين النساء اللاتي هن محال الإشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم } .
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح ، وتدعوا إلى اتباع الشهوات .
وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف ، وتجاوز الحدود في كل شيء ، فمن ثَمَّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة ، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد . ونحوه : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } . كذا في " الكشاف " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ } [ 82 ] .
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } أي : المستكبرين في مقابلة نصحه ، [ في المطبوع : نصحة ] .
{ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم } أي : لوطاً والمؤمنين معه { مِّن قَرْيَتِكُمْ } أي : بلدكم .
قال الزمخشري : يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة ، وتعظيم أمرها ، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته ، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ، ضجراً بهم ، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم .
وقولهم : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم ، وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد .
قال ابن كثير : قال يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء . وروي مثله عن ابن عباس .
قال السيوطي في " الإكليل " : فيستدل به على تحريم أدبار النساء ، أي : بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع .
ورجح ابن القيم أنه حكم الموقوف .
والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم } فتذكر .
تنبيه :
قال الإمام شمس الدين بن القيم رحمه الله في كتابه " إغاثة اللهفان " :
قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه ، دون سائر الذنوب ، وإن كان مشتملاً على ذلك ، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } ، وقوله تعالى في حق اللوطية : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } ، وقالت اللوطية : { أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ، فأقروا مع شركهم وكفرهم ، أنهم هم الأخباث الأنجاس ، وأن لوطاً وآله مطهرون من ذلك ، باجتنابهم له .
وقال تعالى في حق الزناة : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَات } ، وأما نجاسة الشرك فهي نوعان :
نجاسة مغلظة ، ونجاسة مخففة . فالمغلظة : الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل ، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يُشرك به ، والمخففة : الشرك الأصغر ، كيسير الرياء ، و التصنع للمخلوقات والحَلِف به ، وخوفه ورجائه .
ثم قال : ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات ، من جهة أنها تفسد القلب ، وتضعف توحيده جداً . ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً ، فكلما كان الشرك في العبد أغلب ، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه
أكثر ، وكلما كان أعظم إخلاصاً ، كان منها أبعد ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد ، ولا سيما إذا استولى على القلب ، تمكن منه ، صار تتّيماً ، والتَّتَيِّمُ : التعبد ، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه ، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته ، وإيثار محابّه على حب الله وذكره ، والسعي في مرضاته . بل كثيراً ما
كم قلت العاشق يذهب ذلك بالكلية ، ويصير متعلقاً بمعشوقة من الصور - كما هو مشاهد - فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل ، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه ، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله ، ويتجنب سخطه ، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى ، فيصير آثر عنده من ربه ، حباً وخضوعاً وذلاً وسمعاً وطاعة .
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين ، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة ، فكلما قوي شرك العبد ، بُلي بعشق الصور ، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه .
الزاني واللواطة ، كمال لذته إنما يكون مع العشق ، ولا يخلو صاحبهما منه ، وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصوراً على محل واحد ، ينقسم على سهام كثيرة ، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين ، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فإنهما من أعظم الخبائث ، فإذا انصبغ القلب بهما بَعُدَ ممن هو طيب ، لا يصعد إليه إلا طيب ، وكلما ازداد خبثاً ، ازداد من الله بعداً .
ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد ، في كتاب " الزهد " : لا يكون البطالون من الحكماء ، ولا يلج الزناة ملكوت السماء . ولما كانت هذه حال الزنى ، كان قريناً للشرك في كتاب الله تعالى قال الله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
ثم قال رحمه الله : والمقصود أن الله سبحانه وتعالى سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات ، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة ، وإن كان حلالاً ، وسمى فاعله جنباً ، لبعده عن قراءة القرآن ، وعن الصلاة ، وعن المساجد ، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء .
فكذلك إذا كان حراماً ، يبعد القلب عن الله تعالى ، وعن الدار الآخرة ، بل يحول بينه وبين الإيمان ، حتى يحدث طهراً كاملاً بالتوبة ، وطهراً لبدنه بالماء .
وقول اللوطية : { أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ، وقوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْل } ، وهكذا المشرك ، إنما ينقم على السنيّ تجريده متابعة الرسول ، وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال ، ولا بشيء مما خالفها .
فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة ، خير له وأنفع ، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة :
~إذا لم يكن بدّ من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ
انتهى .
ولما همّ قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم ، أخرجه الله تعالى سالماً ، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين ، كما أشار لذلك بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [ 83 ] .
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أي : ومن يختص به من ذويه ، أو من المؤمنين لطيبهم . قال ابن كثير : ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .
{ إِلاَّ امْرَأَتَهُ } أي : فإنا لم ننجها لخبثها .
قال ابن كثير : إنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها ، تمالئهم عليه وتُعلِمهُمْ بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم .
ولهذا لما أُمر لوط عليه السلام ليسري بأهله ، أُمر أن لا يُعلمها ولا يخرجها من البلد . ومنهم من يقول بل اتبعتهم ، فلما جاء العذاب التفتت هي ، فأصابها ما أصابهم .
الأظهر أنها لم تخرج من البلد ، ولا أعلمها لوط ، بل بقيت معهم ، ولهذا قال ههنا : { إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : من الذين غبروا في ديارهم ، أي : بقوا فهلكوا .
وقيل : من الهالكين وهو تفسير باللازم ، التذكير للتغليب ، ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } [ 84 ] .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } أي : وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً غير متعارف ، وهو مبين بقوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } ، أي : طين متحجر .
قال المهايمي : ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره ، انقلب عليهم في صورة العقاب .
وقرأت في التوراة المعربة ، أن الملكين اللذين جاءا لوطاً عليه السلام ، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه ، قالا له : أخرج من هذا الموضع ، من لك ههنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك ، فإنا بعَثَنَا الرب لنهلك هذه المدينة .
ولما كان عند طلوع الفجر ألح الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه ، ثم أمسكا بأيديهم جميعاً وصيراهم خارج المدينة وقالا : لا يلتفت أحد منك إلى ورائه ، وتخلصا إلى الجبل .
ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً ، وقلب تلك المدن ، وكل البقعة وجميع سكان المدن ونَبْتَ الأرض ، والتفتت امرأته إلى ورائها صارت نُصُبَ مِلْح ، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه ، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة ، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتُون . انتهى .
وقرأت في نبوة حَزْقيال عليه السلام ، في الفصل السادس عشر : في بيان إثم سدوم ما نصه :
إن الإستكبار والشبع من الخبز ، وطمأنينه الفراغ ، كانت في سدوم وتوابعها ، ولم تعضد يد البائس والمسكين ، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي ، فنزعتهن كما رأيت . انتهى .
وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج ، لم يزل إلى يومنا هذا ، ويعرف بالبحر الميت ، أو بحيرة لوط ، والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئاً .
قال في " مرشد الطالبين " : بحر لوط ، هو بحر سدوم ، ويدعى أيضاً البحر الميت ، وهو بركة مالحة في فلسطين ، طولها خمسون ميلاً ، وعرضها عشرة أميال ، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدماً ، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم . انتهى .
وقوله : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } أي : هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش ، كيف أهلكناهم .
والنظر تعجيباً من حالهم ، وتحذيراً من أعمالهم ، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة ، تكبحه عن التوفيق نفساً وجسداً ، وتورده موارد الهلكة والبوار ، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء .
تنبيه في حد اللوطي :
اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر ، ولو كان بكراً ، كذلك المفعول
به إذا كان مختاراً ، لحديث ابن عباس ، عند أحمد وأبي داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من وجدتموه يعمل عمل قو لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به > .
قال ابن حجر : رجاله موثقون ، إلا أن فيه اختلافاً .
وأخرج ابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً : < اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا > - وإسناده ضعيف - .
قال ابن الطلاع في " أحكامه " : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ، ولا أنه حكم فيه . وثبت عنه أنه قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة - انتهى .
وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطياً .
وأخرج البيهقي أيضاً عن أبي بكر ، أنه جمع الناس في
حق رجل ينكح كما تنكح النساء ، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فكان من أشدهم يومئذ قولاً ، علي بن أبي طالب قال : هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة ، صنع الله بها ما قد علمتم ، نرى أن نحرقه بالنار ، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار ، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار .
وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد ، عن ابن عباس : في البكر يؤخذ على اللوطية ، يرجم .
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضاً ، أنه سئل عن حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكساً ، ثم يتبع بالحجارة .
وقال المنذري : حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي ، وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك .
وبالجملة : فلما ثبت أن حده القتل بقي الإجتهاد في هيئته حرقاً أو تردية أو غيرهما .
وقال بعض المحققين : إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل ، محصناً أو غيره ، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى ، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي . انتهى .
وقال الإمام الجشمي اليمني : لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة ، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه ، لما كتب إليه خالد بن الوليد .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء ، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم ، ولكن ثبت عنه أنه قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح - وقال الترمذي : حديث حسن ، وحكم به أبو بكر الصديق ، وكتب به إلى خالد ، بعد مشاورة الصحابة ، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك .
وقال ابن القصار وشيخنا : أجمعت الصحابة على قتله ، وإنما اختلفوا في كيفية قتله ، فقال أبو بكر الصديق : يرمى من شاهق ، وقال علي كرم الله وجه : يهدم عليه حائط ، وقال ابن عباس : يقتلان بالحجارة . فهذا اتفاق منهم على قتله ، وإن اختلفوا في كيفيته .
وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم ، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال . ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه > .
وروي أيضاً عنه : من وقع على ذات رحم فاقتلوه . وفي حديثه أيضاً بالإسناد : < من أتى بهيمة فاقتلوه معه > .
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع ، فإن المحرمات كلما تغلظت ، تغلظت عقوبتها ، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال ، فكون حده أغلظ .
وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه ، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء ، فيقتل بكل حال ، أو يكون حده حد الزاني .
واختلف السلف في ذلك ، فقال الحسن : حده حد الزاني .
وقال أبو سلمة : يقتل بكل حال . وقال الشعبي والنخعي : يعزّر ، وبه أخذ الشافعي
ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية ، فإن ابن عباس أفتى بذلك ، وهو راوي الحديث . انتهى .
وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث " الهداية " في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطي في رواية البيهقي : أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم ، فكان أشدهم في ذلك قولاً علي ، فقال : نرى أن نحرقه بالنار ، فاجتمع رأيهم على ذلك . قال ابن حجر : قلت : وهو ضعيف جداً ، ولو صح لكان قاطعاً للحجة . انتهى .
وجليٌّ أن عقوبات القتل أعظم الحدود ، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة ، أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن ، قطعي الدلالة .
ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراءاً لدينه - والله أعلم - .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 85 ] .
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } أي : وأرسلنا إليهم . قال ابن إسحاق : هم من سلالة مدين بن إبراهيم ، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين .
قال ابن كثير : مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجار وهم أصحاب الأيكة .
{ قَالَ يَا قَوْمِ } أي : الذين أحب كمالهم ديناً ودنيا : { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا
{ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم } أي : ما تبين به الحق من الباطل .
يعني دعوته وإرشاده ، ومن هنا قال بعضهم : عُني بالبينة مجيء شعيب ، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة ، ومن فسر البينة بالحجة والبرهان ، والمعجزة المحسوسة ذهاباً إلى أن النبي لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله ، فلا بد من دليل يعلم صدقه به ، وما ذاك إلا المعجزة .
قال : إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن ، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن ، ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم ، فكل من أبطلت شبهة ضلاله ، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة ، لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق ، فاحفظه .
قال الجشمي : واختلفوا ، فقيل : لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع - عن أبي هاشم - .
وقيل : يجوز أن يدعو إلى ما في العقل - عن أبي علي - انتهى .
وقد دلت الآيات هذه على أن شعيباً عليه السلام ، دعاهم إلى التوحيد والشرائع ، على ما جرت به عادة الرسل ، فمنها قوله : { فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ } أي : فأتموهما للناس بإعطائهم حقوقهم : { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } أي : لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم ، وتأخذوها على وجه البخس ، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليساً كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } إلى قوله : { لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .
يقال : بخسه حقه أي : نقصه إياه ، وظلمه فيه .
قال الزمخشري : كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم ، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً غلا مكسوه .
قال زهير :
~أفي كلِّ أسواقِ العراقِ إتاوةٌ وفي كلِّ ما باع امرُؤٌ مَكْسُ دِرَْهمِ
قال القاضي : وإنما قال : { أشْيَآءَهُمْ } للتعميم ، تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير . انتهى .
والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء . فقيل في فائدة التصريح بالمنهي عنه بيان لقبحه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى : { ولاَ تَبْخَسُواْ } الآية ، قال : أي : لا تسمّوا لهم شيئاً ، وتعطوا لهم غير ذلك .
ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن .
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } أي : بالكفر والظلم { بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أي : بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء ، وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم ، من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام .
{ ذَلِكُمْ } إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة ، وفي المآل : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : مصدقين قولي .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ 86 ] .
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } نهي عن قطع الطريق الحسي . أي : لا
تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس الغرباء ، تضربونهم وتخوفونهم ، تأخذون ثيابهم ، وتتوعدونهم بالقتل ، إن لم يعطوكم أموالهم .
قال مجاهد : كانوا عشارين - أخرجه أبو الشيخ ـ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله .
وعن ابن عباس وغير واحد أي : تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه .
قال ابن كثير : والأول أظهر ، لأنه قال : { بِكُلِّ صِراطٍ } وهو الطريق ، وهذا الثاني هو قوله : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : تصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بشعيب ، وتطلبون لها عوجاً بإلقاء الشبه ، ووصفها بما ينقصها لتغييرها : { وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } بالعدد والعُدد ، فاشكروا نعمة الله عليكم في ذلك : { وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : من الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ 87 ] .
{ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة { فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا } أي : بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد للمؤمنين ، ووعيد للكافرين .
قال الشهاب : وخطاب اصبروا للمؤمنين ، ويجوز أن يكون للفريقين ، أي : لصبر المؤمنون على أذى الكفار ، والكفار على ما يسوؤهم من إيمانهم . أو للكافرين أي : تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } لأنه منزه عن الجور في حكمه ، فسيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } [ 88 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ } أي : عن الإيمان
{ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ }
أي : إلى ترك دعوة الرسالة ، والإقرار بها داخلين : { فِي مِلَّتِنَا } أي : ملة المشركين .
قال الجشمي : الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة . والأصل فيه تكرر الأمر ، من قولهم : طريق ممل ومليل ، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلماً . ومنه الملل : تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه . انتهى .
{ قَالَ } أي : شعيب : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } أي : أتجبروننا على ذلك وإن كنا كارهين له ؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه ، لأن دينكم إن كان حقاً ، لم نكن بالإكراه منقادين له ، وإن كان باطلاً ، لم نكن بالإكراه متصفين به ، لأنه بالحقيقة صفة القلب ، ولا يسري إكراهكم إليه . وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ 89 ] .
{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً } أي : اختلفنا عليه باطلاً بأن له شريكاً { إِنْ عُدْنَا } إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها ، لندخل : { فِي مِلَّتِكُم } القائلة بأن له شريكاً .
{ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } فأرانا أنه كالإنجاء من النار .
{ وَمَا يَكُونُ } أي : ينبغي : { لَنَا أَن نَّعُودَ } أي : عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير : { فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا } أي : الذي يربينا بما علم من استعدادنا ، لأنه : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي : فعلم استعداد كل واحد في كل وقت ، لكن : { عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا } أي : لحفظنا عن المصير إليها : { رَبَّنَا } إن قصدوا إكراهنا عليها ، أو إخراجنا من قريتهم : { افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } فغلبنا عليهم { وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أي : خير الحاكمين ، فلا تغلّب الظالمين وإن كثروا ، على المظلومين إذا استفتحوك .
تنبيهات :
الأول : اعلم أن ظاهر قوله تعالى : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وقوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } يدل على أن شعيباً عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته ، ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر ، فضلاً عن الشرك .
وفي " المواقف وشرحها " : أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها ، غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب ، وكل ذنب عندهم كفر ، فلزمهم تجويز الكفر ، وجوز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك ، واحترازاً عن إلقاء النفس في التهلكة . ومثله في " شرح التجريد " .
ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر ، كان للعلماء في هذه الآية وجوه :
منها : أن العود المقابل للخروج ، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها .
والجار والمجرور حال ، أي : ليكن منكم الخروج من قريتنا ، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها ، داخلين في ملتنا ، وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي ، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية .
ومنها : أن العود المذكور إلى ما خرج منه ، وهو القرية . والمجرور حال كالسابق ، أي : ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها ، كائنين في ملتنا . وعُدِّي عاد بفي كأن الملة لهم منزلة الوعاء المحيط بهم .
ومنها : أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم ، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم .
ومنها : أنه صدر عن رؤسائهم تلبيساً على الناس ، وإيهاماً لأنه كان على دينهم ، وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة .
ومنها : أن : { لَتَعُودُنَّ } بمعنى لتصيرن ، إذ كثيراً ما يرد عاد بمعنى صار ، فيعمل عمل كان ، ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة ، بل عكس ذلك ، وهو الانتقال من حال سابقة ، إلى حال مؤتنفة مثل صار .
وكأنهم قالوا - والله أعلم - : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ، أو لتصيرن كفاراً مثلنا .
قال الرازي : تقول العرب : قد عاد إليَّ من فلان مكروه ، يريدون : قد صار إلي من المكروه ابتداء .
قال الشاعر :
~فإن تكنِ الأيام أحسنّ مدةً إليّ فقد عادت لهنَّ ذُنُوبُ
أراد [ في المطبوع : أردا ] : فقد صارت لهن ذنوب ، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان . انتهى .
ومنه حديث معاذ . قال له النبي صلى الله عليه وسلم : < أعُدت فتّاناً يا معاذ ؟ > أي : صرت .
ومنه حديث خزيمة : < عاد لها النِّقادُ مُجْرَنثماً > أي : صار .
وفي حديث كعب : وددت أن هذا اللبن يعود قطراناً ، أي : يصير . فقيل له : لم ذلك ؟ قال تتبعت قريش أذناب الإبل ، وتركوا الجماعات .
قال الشهاب : إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } إلا أن يقال بالتغليب فيه ، أو يقال : التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه ، ألا ترى إلى قوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } وأمثاله ؟
ومنها : أن العود يطلق ، ويراد به الابتداء . حققه الراغب والجار بردي وغير واحد .
وأنشدوا قول الشاعر :
وعادَ الرأسُ مِنِّي الكثَّغَامِ
ومعنى الآية : لتدخلّن في ملتنا ، وقوله تعالى : { إنْ عُدْنا } أي : دخلنا ـ كذا في " تاج العروس " ـ .
ومنها : إبقاء صيغة العود على ظاهرها ، من استدعائها رجوع العائد ، إلى حال كان عليها قبل ، كما يقال : عاد له ، بعد ما كان أعرض عنه ، إلا أن الكلام من باب التغليب .
قال الزمخشري : لما قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ } فعطفوا على ضميره ، الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم ، قالوا : { لَتَعُودُنَّ } فغلبوا الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعاً ، إجراءاً للكلام على حكم التغليب .
وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } وهو يريد عود قومه ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم ، وإن كان بريئاً من ذلك ، إجراء لكلامه على حكم التغليب . انتهى .
ومنها : ما قاله الناصر في " الانتصاف " : إنه يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق ، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } .
والإخراج يستدعي دخولاً سابقاً فيما وقع الإخراج منه ، نحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها ، وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان ، ولا كان فيه ، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الإختيارية التي خلق الله العبد متيسراً لكل واحد منها متمكناً منه لو أراده ، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر
ثم عدوله عنه إلى الإيمان ، إخباراً بالإخراج من الظلمات إلى النور ، توفيقاً من الله له ، ولطفاً به ، بل وبالعكس في حق الكافر .
وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } ، وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب ، وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والإختيار لإقامة حجة الله على عباده - والله أعلم - انتهى .
الثاني : في قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا } رد إلى الله تعالى مستقيم .
قال الواحدي : والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية ، أن شعيباً وأصحابه قالوا : ما كنا لنرجع إلى ملتكم ، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار ، إلا أن يريد إهلاكنا ، فأمورنا راجعة إلى الله ، غير خارجة عن قبضته ، يسعد من يشاء بالطاعة ، ويشقي من يشاء بالمعصية وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله .
ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة ، وانقلاب الأمر . ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } ؟ وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول : < يا مقلب القلوب ! ثبت قلبي على دينك > .
وقال الزجاج : المعنى : وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها ، وتصديق ذلك قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } ، يعني أنه تعالى يعلم ما يكون ، من قبل أن يكون ، وما سيكون ، وأنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء ، فالسعيد من سعد في علم الله تعالى ، والشقي من شقي في علم الله تعالى .
وقال الناصر في " الانتصاف " : موقع قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } الإعتراف بالقصور عن علم العاقبة ، والإطلاع على الأمور الغائبة ، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد ، ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه ، فالحذر قائم ، والخوف لازم .
ونظيره قول إبراهيم عليه السلام : { وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } لما رد الأمر إلى المشيئة ، وهي مغيبة ، مجد الله تعالى بالإنفراد بعلم الغائبات - والله أعلم ـ .
وقال أبو السعود : معنى : { وما يَكُونُ لَنا } الآية ، أي : ما يصح لنا أن نعود فيها حال من الأحوال ، أو في وقت من الأوقات ، إلا أن يشاء الله ، أي : إلا حال
مشيئة الله تعالى ، أو وقت مشيئته تعالى لعودنا فيها ، وذلك مما لا يكاد يكون ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { رَبَّنا } فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم ، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعاً ، وكذا قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } فإن تنجيته تعالى لهم منها ، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها .
وقيل معناه : إلا أن يشاء الله خذلاننا ، فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى ، وأياً ما كان ، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان ، وخطر الوقوع ، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك ، بل بيان استحالة وقوعها . كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ، وهيهات ذلك ، بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له . انتهى .
ولايخفى أن إفهام ذلك الإستحالة ، هو باعتبار الواقع وما يقتضيه منصب النبوة ، وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية ، الذي هو من أعلى مقامات الخواص ، فيكون ما ذكرناه أولاً أدق ، وبالقبول أحق .
قال الإمام ابن القيم في " طريق الهجرتين " : قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه ، فقال عن أنبيائه ، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } ، فالرغب الرجاء ، والرهب الخوف والخشية .
وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إني أعلمكم بالله ، وأشدكم له خشية > . وفي لفظ آخر : < إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي > . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
وقد قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، فكلما كان العبد بالله أعلم ، كان له أخوف .
الثالث : قال الفراء : أهل عُمان يسمون القاضي ، الفاتح والفتاح . لأنه يفتح مواضع الحق ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما كنت أدري ما قوله : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك ، أي : أحاكمك .
وقال الشهاب : الفتح ، بمعنى الحكم ، وهي لغةٌ لِحْمَير أو لمراد ، الفُتاحة
بالضم عندهم الحكومة . أو هو مجاز بمعنى : أظهر وبين أمرنا ، حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ، ويتميز المحق من المبطل .
ومنه فتح المشكل لبيانه وحلّه ، تشبيهاً له بفتح الباب وإزالة الأغلاق ، حتى يوصل إلى ما خلفها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ 90 ] .
{ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً } أي : فيما يأمركم به وينهاكم عنه { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } أي : لجاهلون مغبونون ، لاستبدالكم ضلالته بهداكم ، أو لفوات ما يحصل لكم من بخس الكيل والميزان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 91 ] .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } أي : الزلزلة الشديدة .
قال ابن كثير : أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة ، كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة هود ، فقال : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَة } ، والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا به في قولهم
{ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُك } الآية ، فجاءت الصيحة فأسكتتهم .
وقال تعالى في الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاء } ، الآية فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة .
وقد اجتمع عليهم ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة ، وهي سحابة أظلتهم ، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام .
{ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } أي : مدينتهم { جَاثِمِينَ } أي : ساقطين ميتين ، لا ينتفعون برؤوس أموالهم ولا بزوائدها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ
الْخَاسِرِينَ } [ 92 ] .
{ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم :
{ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا } وعقوبتهم بمقابلته .
والموصول مبتدأ ، وخبره جملة : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي : استؤصلوا بالمرة ، وصاروا كأنهم لما أصابتهم النقمة ، لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها .
ثم قال تعالى مقابلاً السابق : { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } ديناً ودنيا ، لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا .
قال ابن السعود : استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير ، وإعادة الموصول والصلة كما هي ، لزيادة التقرير ، والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة ، هو الذي استوجب العقوبتين ، أي : الذين كذبوه عليه السلام ، عوقبوا بمقالتهم الأخيرة ، فصاروا هم الخاسرين ، لا المتبعون له ، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام ، كما وقع في سورة هود من قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه } .
وقال الزمخشري : في هذا الإستئناف والإبتداء وهذا التكرير ، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم ، تسفيه لرأيهم ، واستهزاء بنصحهم لقومهم ، واستعظام لما جرى عليهم .
وفي " العناية " : أن من عادة العرب الإستئناف من غير عطف ، في الذم والتوبيح ، فيقولون : أخوك الذي نهب مالنا ، أخوك الذي هتك سترنا . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ 93 ] .
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } أي : أعرض عن شفاعتهم والحزن عليهم
{ وَقَالَ } أي : في الإعتذار { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي } أي : بالأمر والنهي { وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : حذرتكم من عذاب الله ، ودعوتكم إلى التوبة والإيمان بما يفيد ربح الدارين ، ويمنعكم خسرانهما ، لكنكم كفرتم { فَكَيْفَ آسَى } أي : أحزن حزناً شديدا ، ً : { عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } أي : بالله إن هلكوا ، فضلاً عن أن أشتغل بشفاعتهم ، يعني أنه لا يأسى عليهم ، لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى .
تنبيه :
قال الجشمي : من أحكام الآية أنها تدل على أن قوم شعيب أهلكوا بعذاب الإستئصال لما لم يقبلوا نصيحة نبيهم ، فتدل على وجوب قبول النصيحة في الدين .
وتدل على أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكفرة والظلمة ، بل يجب أن يحمد الله ويشكر ، كما قال تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
لطيفة :
ذكروا أن شعيباً ، عليه السلام ، يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته ، وجزالة موعظته ، وأصله ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً يقول : < ذاك خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته قومه > .
والمراجعة مفاعلة من الرجوع ، وهي مجاز عن المحاورة . يقال : راجعه القول ، وإنما عنى النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في هذه السورة ، كما يعلم بالتأمل فيه . كذا في " العناية " .
ثم أشار تعالى إلى أحوال سائر الأمم مع أنبيائهم إجمالاً ، إثر بيان الأمم المذكورة تفصيلاً فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } [ 94 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } أي : كذبه أهلها { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } أي : قبل الإهلاك الكلي { بِالْبَأْسَاء } أي : شدة الفقر { وَالضَّرَّاء } أي : المرض ، لاستكبارهم عن اتباع نبيهم ، وتعززهم عليه { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ليتضرعوا ويتذللوا ، ويحطّوا أردية الكبر والعزة ، فيؤمنوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 95 ] .
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } أي : أعطيناهم ـ بدل ما كانوا فيه من البلاء
كالشدة والمرض ـ السعةَ والصحةَ : { حَتَّى عَفَواْ } أي : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ، من قولهم : عفا النبات ، وعفا الشحم والوبر ، إذا كثرت ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم < وأعفوا اللحى > .
{ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء } يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا ، فقالوا كفراناً لها : هذه عادة الدهر ، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ، وقد مس آباءنا نحو ذلك فصبروا على دينهم ، فنحن مثلهم ، نقتدي بهم ، وما هو بابتلاء من الله لعباده ، تصديقاً لوعد الرسل ، فازدادوا كفراً بعد الإعلام القوليّ والفعليّ .
والمعنى : أن الله تعالى ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه ، فما فعلوا ، ثم بالحسنة ليشكروا ، فما فعلوا ، وإذا لم ينجع فيهم هذا ولا ذاك ، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ، وقد فعل ، كما قال سبحانه : { فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه ، وهو أخذهم فجأة ، من غير شعور منهم ، ولا خطور شيء من المكارة ببالهم ، كقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } الآية ، وفي الحديث : < موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر > . رواه الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة مرفوعاً .
تنبيه :
اعتقاد أن مناوبة الضراء والسراء عادة الدهر ، من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليهما ، ولا حكمة فيهما ، هو من اعتقاد الكافرين .
قال ابن كثير : المؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء ، فيشكر الله على السراء ، ويصبر على الضراء . ولهذا جاء في الحديث : < لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيّاً من ذنوبه والمنافق مَثَله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ، ولا فيما أرسلوه > أو كما قال .
وفي الصحيحين : < عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له > .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ 96 ] .
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى } أي : القرى المهلكة { آمَنُواْ } أي : بالله ورسلهم { وَاتَّقَواْ } أي : الكفر والمعاصي { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } أي : لوسعنا عليهم الخير ، ويسرناه لهم من كل جانب ، مكان ما أصابهم من فنون العقوبات ، التي بعضها من السماء ، وبعضها من الأرض . ففتحنا : استعارة تبعية ، لأنه شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول ، أو مجاز مرسل فيلازمه ، وهو التيسير ، أو أريد ببركات السماء : المطر ، وبركات الأرض : النبات والثمار { وَلَكِن كَذَّبُواْ } أي : الرسل { فَأَخَذْنَاهُم } أي : عاقبناهم : { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الكفر والمعاصي .
تنبيه :
أفادت الآية قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي : ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا ، وذلك بعد ما عاينوا من العذاب ، كما قال تعالى عنهم : { فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين } .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } [ 97 ] .
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } أي : القرى المذكورة : { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي : عذابنا ونكالنا { بَيَاتاً } أي : ليلاً ، أي : وقت بيات : { وَهُمْ نَآئِمُونَ } أي : حال كمال الغفلة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ 98 ] .
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي : يخوضون في الباطل ويلهون من فرط الغفلة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ 99 ] .
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ } وهو أخذه العبد من حيث لا يحتسب
{ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } أي : لا يأمن أحدٌ أخذَه تعالى العبدَ من حيث لا يشعر ، مع كثرة ما رأى من أخذه العباد من حيث لا يحتسبون ، إلا القوم الذي خسروا عقولهم ، وأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الإستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات ، فصاروا خاسرين إنسانيتهم ، بل أخس من البهائم ، وفي وقوله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ } تكرير للنكير في قوله : { أفأمِنَ أهْلُ الْقرُى } لزيادة التقرير .
قال الزمخشري : فعلى العاقل أن يكون في خوف من مكر الله ، كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين ، البيات ، والغيلة . وعن الربيع بن خُثيم أن ابنته قالت : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ؟ فقال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات . أراد قوله : { أن يأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً } . انتهى .
وقال الحسن البصري : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن .
تنبيه :
الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية ، وهو الإسترسال في المعاصي ، اتكالاً على عفو الله - كما في جمع الجوامع - .
وقال الحنفية : إنه كفر كاليأس ، لقوله تعالى : { إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .
واستدل الشافعية بحديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل : < ما الكبائر ؟ فقال : الشرك بالله ، والإياس من روح الله ، والأمن من مكر الله > . قال بعضهم : والأشبه أن يكون موقوفاً .
قال ابن حجر : وبكونه أكبر الكبائر ، صرح ابن مسعود : كما رواه عنه عبد الرزاق والطبراني .
قال الكمال بن أبي شريف : عطفهما - يعني الإياس والأمن - في الحديث على الإشراك بالله ، المحمول على مطلق الكفر ، ظاهر في أنهما غير الكفر .
وقال أيضاً : مراد الشافعية بكونه كبيرة ، أن من غلب عليه الرجاء غلبة دخل بها في حد الأمن من المكر ، كمن استبعد العفو عن ذنوبه لعظمها استبعاداً دخل به في حد اليائس . وأما من كان أمنه لاعتقاد أن لا مكر ، كمن كان يأسه لإنكار سعة الرحمة ذنوبه ، فينبغي أن يكون كل منها كافراً عند الشافعية أيضاً ، ويحمل عليه نص القرآن . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ 100 ] .
{ أَوَلَمْ يَهْدِ } : أي : يتبين { لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا } أي : المأخوذين .
{ أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ } أي : كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي : نختم عليها فلا يقبلون موعظة ولا إيماناً .
قال أبو البقاء : يقرأ يهد بالياء ، وفاعله أن لو نشاء . وأن مخففة من الثقلية ، أي : أو لم يبين لهم علمهم بمشيئتنا .
ويقرأ بالنون و أن لو نشاء مفعوله .
وقيل : فاعل يهدي ضمير اسم الله تعالى . انتهى .
ويؤيده قراءة النون ، وجوز أن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم مما قبله ، أي : أولم يهد ما جرى للأمم السابقة ، وتعدية يهد باللام ، لأنه بمعنى يبين إما بطريق المجاز ، أو التضمين .
قال الشهاب : وإنما جعل بمعنى يبين ، وإن كان هدى يتعدى بنفسه ، وباللام وبإلى ، لأن ذلك في المفعول الثاني لا في الأول ، كما هنا ، فهذا استعمال آخر .
وقيل : لك أن تحمل اللام على الزيادة ، كما : { رَدِفَ لَكُم } . والمراد بالذين ، أهل مكة ومن حلوها ، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } [ 101 ] .
{ تِلْكَ الْقُرَى } أي : المذكورة وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب : { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا } مما يدل على مؤاخذتهم بذنوبهم لإصرارهم عليها بعد التنبيه .
ثم بين تعالى أنه أعذر إليهم بأن بين لهم بالحجج على ألسنة الرسل بقوله : { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل بالبينات والدلائل القاطعة { بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } أي : بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم ، إذ تمرنوا على التكذيب ، فلم تفدهم الآيات ، واستوت عندهم الحالتان ، كقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة }
ولهذا قال : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } أي : من المذكورين وغيرهم ، فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر ، لما علم أنهم يختارون الثبات على الكفر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [ 102 ] .
{ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } أي : من وفاء عهد { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أي : خارجين عن الطاعة مارقين ، فلذلك أخذناهم .
قال الزمخشري : الضمير للناس على الإطلاق ، أي : وما وجدنا لأكثر الناس من عهد ، يعني : أن أكثر الناس نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى ، والآية اعتراض .
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين ، وأنهم كانوا,إذا عاهدوا الله في ضرّ ومخافة ، لئن أنجيتنا لنؤمنن ، ثم نجاهم ، نكثوا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ 103 ] .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } أي : الرسل المتقدم ذكرهم ، وهم نوح وهود وصالح
ولوط وشعيب ، أو الأمم المحكية من بعد هلاكهم : { مُّوسَى بِآيَاتِنَا } وهي العصا ، واليد البيضاء ، والسنون ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقُمل ، والضفادع ، والدم ، حسبما يأتي مفصلاً .
{ إِلَى فِرْعَوْنَ } وهو ملك مصر في عهد موسى : { وَمَلَئِهِ } أي : قومه { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي : كفروا بها ، أجرى الظلم مجرى الكفر في تعديته بالباء ، وإن كان يتعدى بنفسه ، لأنهما من واد واحد { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، أو هو بمعنى الكفر مجازاً أو تضميناً ، أي : كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه ، وهو موضع الإيمان ، لأنه أوتي الآيات لتكون موجبة للإيمان بما جاء به ، فعكسوا ، حيث كفروا فوضعوا الشيء في غير موضعه ، أو الباء سببية ، ومفعوله محذوف ، أي : ظلموا أنفسهم بسببها ، بأن عرضوها للعذاب الخالد ، أو ظلموا الناس لصدّهم عن الإيمان بها ، والمراد به الإستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا ، كما يشير له قوله تعالى : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : لعقائد الخلق ، أفسد الله عليهم ملكهم ، وآتاه أعداءهم ، فأغرقهم عن آخرهم ، وبمرآى من موسى وقومه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 104 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ 105 ] .
{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي : جدير بذلك وحري به ، لما علمت من حالي . والباء وعلى يتعاقبان ، يقال : رميت بالقوس وعلى القوس ، وجاء على حال حسنة وبحال حسنة . وقرأ أبي رضي الله عنه ( حقيق بأن لا أقول ) { قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : آية منه تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة .
{ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } روي أنه تعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له : إن إلهنا أمرنا أن يسير ثلاثة أيام في البرّية ، ونقرب له قرابين ونعبده ، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون ، ولكن ليظهر آياته على يد موسى ، ويهلك عدوه ، فلما
أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه ، أنكر أمر الرب له ، وقال : لماذا نعطل الشعب عن أعماله ؟ وكانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن ، وأمر بزيادة عملهم ، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم ، بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون .
ثم طلب فرعون موسى آية ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 106 ] .
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي رحمه الله هذه الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ 107 ] .
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ } التي هي جماد { فَإِذَا هِيَ } أي : من غير سترة ولا معالجة سبب { ثُعْبَانٌ } أي : حية كبيرة هائلة ، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه : { مُّبِينٌ } أي : ظاهر لا مُتخيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } [ 108 ] .
{ وَنَزَعَ يَدَهُ } أي : أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } أي : بيضاء بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة ، يجتمع عليه النظارة تعجباً من أمرها ، فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية ، ويتقوى بها الحياة بالله .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ 109 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } أي : الأشراف يكرهون شرف الغير عليهم ، في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي : ماهر فيه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ 110 ] .
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ } أي : من أرض مصر بسحره ليتملك عليها
{ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي : تشيرون في أمره ، وهذا من تمام الحكاية عن قول الملأ ، أو مستأنف من قول فرعون ، تقديره فقال : ماذا تأمرون ؟ ويدل عليه قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [ 111 ] .
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي : أخر أمرهما وأصدرهما عنك ، حتى ترى رأيك فيهما ، وتدبر شأنهما ، لئلا تنسب إلى الظلم الصريح .
قال أبو منصور : والأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر ، وهو الهم بقتله ، فقالوا أخره ليتبين حاله للناس .
وأصل : { أَرْجِهْ } أرجئه ، كما قرئ كذلك : من ( أرجات ) .
{ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ } أي : مدائن الصعيد من نواحي مصر { حَاشِرِينَ } أي : من يحشر لك السحرة ويجمعهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }[ 112 ] .
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ } وقرء ( سحَّار ) { عَلِيمٍ } أي : ماهر في باب السحر ، ليعارضوا موسى ما أراهم من البينات .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على عظيم معجزة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه ، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله تعالى ، حتى نسبوه إلى السحر . وتدل على أن عادة البشر ، أن من رأى أمراً عظيماً أن يعارضه ، فلذلك دعا فرعون بالسحرة ، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن ، لعارضوه .
وتدل على أن الطريق في المعجزات ، المعارضة بإتيان مثله ، ولذلك قال تعالى في القرآن : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } ، ولذلك لم يتكلف فرعون وقومه غير المعارضة وإيقاع الشبه .
وتدل أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال ، لذلك قالوا : { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُم } فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين المحافظة على الرياسة والمال
والجاه ، كما هو عادة الناس في هذا الزمن . انتهى .
ثم تسابقت شُرط فرعون ، فحشروهم . كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } [ 113 ] .
{ وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [ 114 ] .
{ قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ولما توثقوا من فرعون .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِين } [ 115 ] .
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ } أي : أول من ألقى ، كما في الآية الأخرى ، قيل : خيروا موسى إظهاراً للجلادة ، فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره .
وقال الزمخشري : تخييرهم إياه أدب حسن ، راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا ، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ 116 ] .
{ قَالَ } أي : موسى لهم : { أَلْقُوْاْ } أي : ما أنتم ملقون ، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراءاً لشأنهم ، وقلة مبالاة بهم ، وثقةً بما كان بصدده من التأييد الإلهي ، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً .
{ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } أي : خيلوا لها ما ليس في الواقع : { وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } أي : وخوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر ، كما في الآية الأخرى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } { وَجَاءوا بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ } أي : في باب السحر ، أو في عين من رآه ، فإنه ألقى كل واحد عصاه ، فصارت العصي ثعابين .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه ، وكان الزمان زمان سحر ، والغالب عليهم الإشتغال به ، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه ، وما لم يقدر عليه أحد ، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر . وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم ، ويتعذر عليهم مثله . وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى ، فجاء بإحياء الميت ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وليس في وسع طبيب . وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر ، فجاء القرآن وتحداهم به . وتدل على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة حتى أوهموا أنها أحياء ، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعُلم ، وكان مثله مقدوراً لكل من تعاطى صناعتهم ، عُلم أنه شعبذة . ولهذا تتفارق المعجزة والشعبذة ، أنه يوقف على أصلها ، ويمكن إتيان مثلها ، ويخفى أمرها ، بخلاف المعجزة .
ثم قال : وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف ، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ 117 ] .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أي : تبتلع : { مَا يَأْفِكُونَ } أي : ما يلقونه ويوهمون أنه حق ، وهو باطل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 118 ] .
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ } أي : ثبت الإعجاز : { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : من السحر لإبطال الإعجاز .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } [ 119 ] .
{ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } أي : في مكان الوعد الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوته ، لظنه
غلبة السحرة : { وَانقَلَبُواْ } أي : رجعوا : { صَاغِرِينَ } أي : ذليلين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ 120 ] .
{ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ } [ 121 ] .
{ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ 122 ] .
{ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } قال الجشمي : دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر ، فآمنوا في الحال .
وتدل على أنهم بتلك الآيات استدلوا على التوحيد والنبوة ، لذلك اعترفوا بهما .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }[ 123 ] .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا } أي : الصنع ، { لَمَكْرٌ } أي : حيلة : { مَّكَرْتُمُوهُ } أي : دبرتموه أنتم وموسى ، { فِي الْمَدِينَةِ } أي : في مصر قبل الخروج للميعاد { لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيد أجمله ثم فصله بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 124 ] .
{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ } أي : من كل جانب ، عضواً مغايراً للآخر ، كاليد من أحدهما ، والرجل من آخر .
قال الشهاب : { مِّنْ خِلافٍ } حال ، أي : مختلفة ، وقيل : { من } تعليلية متعلقة بالفعل ، أي : لأجل خلافكم ، وهو بعيد .
{ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : تفضيحاً لكم . وتنكيلاً لأمثالكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [ 125 ] .
{ قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } أي : فلا نبالي بما تهددنا به ، لأنه هو الذي يقربنا إلى من آمنا به ، فيحيينا بحياة خير من الحياة الدنيوية .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ 126 ] .
{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } أي : ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله ، أي : وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا ، لأنه خير الأعمال ، وأعظم المناقب ، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك .
{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } أي : أفض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : ثابتين على الإسلام .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [ 127 ] .
{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } أي : خوفاً من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا السحرة جاهروا بالإسلام ، ولم يبالوا بالتوعد .
{ أَتَذَرُ } أي : أتترك : { مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } أي : في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك .
{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } الآلهة جمع إله ، بمعنى المعبود ، وكان للمصريين آلهة كثيرة منها المسمى أوسيرس ، وكانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور المسمى أبيس ، فيعبدونه أيضاً ، ويعبدون كثيراً من الحيوانات ، وكانوا يعبدون الظلام أيضاً ، ويعبدون بعلز بوب ، صنم عقرون يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان .
وبالجملة فقد فاقوا كل سواهم في الضلال ، فكانوا يسجدون للشمس والقمر والنجوم والأشخاص البشرية
والحيوانات ، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض . هكذا حكى عنهم بعض المدققين .
وقد ذكر الشهرستاني في " الملل والنحل " أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة ، ثم انحرف عن ذلك ، وادعى لنفسه الربوبية ، إذ رأى في نفسه قوة الإستعمال والإستخدام . انتهى .
وتقدم في سورة البقرة بيان مذهب الصابئة . فتذكر .
وقال بعضهم : إن كلمة الآلهة لفظة اصطلاحية عند العبرانيين ، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله ، وأنها لو حملت على هذا ههنا ، لم يبعد ، ويكون المعنى : وبذرك وقضاتك وذوي أمرك ، ويكون الغرض من ذكرهمم معه تهويل الأمر ، وإلهاب قلب فرعون على موسى ، وإثارة غضبه ، وقد صرح غير واحد بوقوع ألفاظ من غير العربية في القرآن ، كما نقله السيوطي في النوع الثامن والثلاثين من " الإتقان " . انتهى .
والأظهر ما قدمناه أولاً .
{ قَالَ سَنُقَتِّلُ } قرئ بالتخفيف والتشديد { أَبْنَاءهُمْ } المولودين { وَنَسْتَحْيِي } أي : نستبقي : { نِسَاءهُمْ } أي : للإستخدام { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي : بالغلبة والقدرة عليهم ، ففعلوا بهم ذلك ، فشكا بنو إسرائيل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ 128 ] .
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ } أي : على أذاهم : { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا } أي : يعطيها : { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم .
وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أرضهم ، ويهلكهم وينجي قومه من عذاب آل فرعون لهم .
تنبيه :
قال الجمشي : تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته ، عدلوا إلى إغراء فرعون بموسى ، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض ، وأنه عند ذلك أوعده . وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى ، لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته ، ولهذا قال مشايخنا : إن العرب لما عدوا عن معارضة القرآن ، التي في إيرادها إبطال أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى القتال ، الذي لا يفيد ذلك ، دل على عجزهم .
وهكذا حال كل ضال مبتدع ، إذا أعيته الحجة ، عدل إلى التهديد والوعيد ، وتدل على أن عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله تعالى ، والإستعانة به والصبر .
ولا مفزع إلا في هذين : وهو الإنقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع ، واللطف له في الصبر . وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى ، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ 129 ] .
{ قَالُواْ } أي : قوم موسى { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي : فعلوا بنا من الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها .
ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة قبل .
{ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } أي : فرعون وجنوده { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي : فيرى الكائن منكم من العمل ، حسنه وقبيحه ، وشكر النعمة وكفرانها ، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم .
ثم بين تعالى ما أحل بفرعون وقومه من الضراء ، لما تأبى عن إجابة موسى وإرسال قومه معه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 130 ] .
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ } أي : بالجدب والقحط ، { وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى ، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب ، وترغب في الضراعة إلى الله تعالى .
قال الجشمي : تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفاً وصلاحاً في الدين ، لذلك قال : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } .
ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم ، والشدائد ، لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 131 ] .
{ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ } أي : الصحة والخصب { قَالُواْ لَنَا هَذِهِ } أي : لأجلنا
واستحقاقنا ، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم ، فيشكروه على إنعامه { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } شدة : { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } أي : يتشاءموا .
وأصله يتطيروا ، يعني أنهم يقولون : هذه بشؤمهم { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ } أي : شدتهم ، وما طار إليهم من القضاء والقدر عند الله ، ولا عند غيره ، أي : من قِبَلِهِ تعالى { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أن ما أصابهم من الله تعالى ، ما يقولون ، مما حكى عنهم .
ثم أخبر تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [ 132 ] .
{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : بمصدقين بالرسالة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [ 133 ] .
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ } أي : على آل فرعون ، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم ، فلم ينلهم ولا محالهم سوء من الطوفان ولا غيره .
والطوفان لغة هو المطر الغالب ، ويطلق على كل حادثة تطيف بالْإِنْسَاْن وتحيط به ، فعم الطوفان الصحراء ، وأتلف عشبها ، كسر شجرها ، تواصلت الرعود والبروق ، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر { وَالْجَرَادَ } فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر ، مما تركه الطوفان ، حتى لم يبق شيء من ثمرة ولا خضرة في الشجرة ، ولا عشب في الصحراء { وَالْقُمَّلَ } فعم أرض مصر ، وكان على الناس والبهائم ، وهو بضم وتشديد كسُكَّر صغار الذر ، أو شيء صغير بجناح أحمر ، أو دواب صغار من جنس القردان ، أو الدبي الذي لا أجنحة له ، وهو الجراد الصغار .
قال أبو البقاء : القمّل ، يقرأ بالتشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم . قيل : هما لغتان .
قيل : هما القمل المعروف في الثياب ونحوها ، والمشدد يكون في الطعام . انتهى .
وردّ ابن سيده ، وتبعه المجد في " القاموس " القول بأن المراد به قمل الناس .
{ وَالضَّفَادِعَ } فصعدت من الأنهار والخلج والمناقع ، وغطت أرض مصر { وَالدَّمَ } فصارت مياه مصر جميعها دماً عبيطاً ، ومات السمك فيها ، وأنتنت الأنهار ، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئاً .
{ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ } أي : مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته ، أو مفرقات بعضها إثر بعض . و آيات حال من المنصوبات قبل .
{ فَاسْتَكْبَرُواْ } أي : عن الإيمان ، فلم يؤمنوا لموسى ، ويرسلوا معه بني إسرائيل : { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : عاصين كافرين .
قال الجشمي : تدل الآية على عناد القوم ، وإصرارهم على الكفر وجهلهم ، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد ، أنهم لا يؤمنون بها وليس هذه عادة من غرضه الحق .
وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها ، وتدل على وجوب التدبر في الآيات . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } [ 134 ] .
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ } أي : نزل بهم العذاب المفصل ، { قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : بعهده عندك ، وهو النبوة ، فما مصدرية .
قال الشهاب : سميت النبوة عهداً ، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها ، وعهدوا إليه تحمل أعبائها ، أو لأن لها حقوقاً تحفظ ، كما تحفظ العهود ، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى .
انتهى .
{ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } أي : الذين أُرسلت لطلبهم ، ليعبدوا ربهم تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [ 135 ] .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ } يعني إلى الوقت الذي أجل لهم ، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم .
{ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي : ينقضون العهد الذي التزموه ، فلم يفوا به ، فإن فرعون كان كلما حلّ بمصر نقمة مما تقدم ، يدعو موسى
ويطب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها ، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى ، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد ، وقسا قلبه ، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم ، أتتهم النقمة القاضية ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } [ 136 ] .
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } أي : البحر { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم ، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها . وقد روي أن فرعون ، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر ، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا ، فارتحل بنو إسرائيل على عجلٍ ليلاً ، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواشٍ ، من عين شمس إلى سُكُّوت ، وسلكوا طريق برية البحر الأحمر ، ولما سمع فرعون بارتحالهم ، ندم على ما فعل ، من إطلاقهم من خدمته ، فجمع جيشه ومراكبه الحربية ، ولحقهم فأدركهم ، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر . حينئذ خاف الإسرائيليون ، وأخذوا يتذمرون على موسى ، فقال لهم : لا تخافوا ، إن الله معنا ، ثم أمر تعالى موسى ، فمد يده إلى البحر الأحمر ، فانشق ماؤه ، وصار فيه طريق واسعة ، وأرسل الله ريحاً شرقية شديدة ، فيبس قعره ، فعبر فيه الإسرائيليون ، والماء عن يمينهم وشمالهم ، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر ، فمد موسى يده ، بإذن الله ، على البحر ، فارتد ماؤه سريعاً ، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه ، فغرقوا جميعاً ، ثم طفت جيفهم على وجه الماء ، وانقذفت إلى الساحل ، فشاهدها الإسرائيليون عياناً .
هذا ملخص ما روي هنا .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات ، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم ، وتدل على قبح الإعتراض على آيات الله ، وتدل على وجوب النظر ، وتدل على أن النكث فعلهم ، والإعراض ، فلذلك عاقبهم عليهما . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } [ 137 ] .
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } أي : بالإستعباد وقتل الأبناء ، وفي التعبير عنهم بهذا ، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم ، وعظيم إحسانه إليهم ، وفي رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة .
{ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } أي : الأرض المقدسة ، أي : جوانبها الشرقية والغربية ، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة ، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا .
وقوله تعالى : { الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : بالخصب وسعة الأرزاق .
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ } أي : مضت واستمرت عليهم ، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين .
{ بِمَا صَبَرُواْ } أي : بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه .
قال الزمخشري : وحسبك به حاثّاً على الصبر ، ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع ، وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ، ضمن الله له الفرج .
وعن الحسن : عجبت ممن خفّ كيف خفّ ، وقد سمع قوله تعالى - وتلا الآية - ومعنى خفّ طاش جزعاً وقلة صبر ، ولم يرزن أولي الصبر .
{ وَدَمَّرْنَا } أي : خربنا وأهلكنا : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي : ما كانوا يعملون ويسووّن من العمارات وبناء القصور : { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } بكسر الراء وضمها ، أي : من الجنات .
أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء ، كصرح هامان ، وهذا كما قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } ، وقال تعالى : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } .
قال الزمخشري : وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط ، وتكذيبهم بآيات الله ، وظلمهم ومعاصيهم ، ثم أتبعه اقتصاص نبأ إسرائيل ، وما أحدثوه بعد
إنقاذهم من مُلكَةِ فرعون واستعباده ، ومعاينتهم الآيات العظام ، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر ، وطلب رؤية الله جهرة ، وغير ذلك من أنواع الكفر والعاصي ، ليعلم حال الْإِنْسَاْن وأنه كما وصفه : { لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } ، جهول كنود ، إلا من عصمه الله : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } ، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ 138 ] .
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ } أي : الذي أغرق فيه أعداءهم ، وهو بحر القلزم كقنفذ ، بلد كان في شرقي مصر ، قرب جبل الطور ، أضيف إليه ، لأنه على طرفه ، ويعرف البلد الآن بالسويس ، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر ، فقد أخطأ ، كما في " العناية .
{ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ } قرئ بضم الكاف وكسرها ، { عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ } أي : يواظبون على عبادتها ويلازمونها { قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً } أي : صنماً نعكف عليه : { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } أي : أصنام يعكفون عليها : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : شأن الألوهية وعظمتها ، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده .
قال البغوي رحمه الله : ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى ، وإنما معناه : اجعل لنا شيئاً نعظمه ، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى ، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة ، وكان ذلك لشدة جهلهم . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 139 ] .
{ إِنَّ هَؤُلاء } يعني عَبْدة تلك التماثيل { مُتَبَّرٌ } أي : مهلك .
{ مَّا هُمْ فِيهِ } أي : من الشرك { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : عبادة الأصنام ، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى ، فإنه كفر محض .
قال الرازي : أجمع كل الأنبياء ، عليهم السلام ، على أن عبادة غير الله تعالى كفر ، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم ، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله
تعالى ، لأن العبادة نهاية التعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام ، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها .
والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى ، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به . انتهى .
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط ، فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة } والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم > - أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم - .
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ، فيعظمونها و يرجون البرء والشفاء من قبلها ، ويضربون بها المسامير والخرق ، فهي ذات أنواط ، فاقطعوها .
وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب " البدع والحوادث " : وقد عم الإبتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد ، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه ، مع تضييعهم فرائض الله وسننه ، ويظنون أنهم متقربون بذلك ، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم ، فيعظمونها ، ويرجون الشفاء لمرضاهم ، وقضاء حوائجهم ، وبالنذر لها ، هي من بين عيون وشجر وحائط وحجر .
ثم شرح شجرة مخصوصة فقال : ما أشبهها بذات أنواط ، التي في الحديث .
وروى ابن وضاح في كتابه قال : سمعت عيسى بن يونس يقول : أمر عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت ، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها ، فخاف عليهم الفتنة . ولهذا البحث تتمة مهمة في " إغاثة اللهفان " لابن القيم . فلتنظر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 140 ] .
{ قَالَ } أي : موسى ، مذكراً لقومه نعمه تعالى عليهم ، الموجبة لتخصيصه
تعالى بالعبادة : { أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً } أي : أطلب لكم معبوداً . يقال : أبغاه الشيء طلبه له ، كبغاه إياه ، يتعدى إلى مفعولين ، وليس من باب الحذف والإيصال .
وفي الحديث : أبغني أحجاراً أستطيب بها ، بهمزة القطع والوصل . وقال الشاعر :
~وكم آمل من ذي غنى وقرابة لتبغيه خيراً وليس بفاعل
والإستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : والحال ، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ 141 ] .
{ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ } أي : من فرعون وقوم .
{ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ } أي : يكلفونكم إياه ، أو يولونكم إياه ، يقال : سامه الأمر يسومه ، كلفه إياه وجشمه وألزمه . أو أولاه إياه : { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي : فنجاكم منه وحده ، من غير شفاعة أحد .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر . وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس ، ويجري مجراه . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [ 142 ] .
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } .
روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر ، نزلوا في برّية طور سيناء ، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهراً ونصفاً . ولما نزلوا تلقاء الجبل ، صعد موسى إليه
وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه . . . ثم انحدر موسى إلى قومه ، وأعلمهم بما أمروا به ، وصاروا يشاهدون على الجبل ضباباً ، وصوت رعود ، وبروقاً ، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه ، فصعد موسى الجبل ، وكان مغطى بالغمام ، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوماً ، لم يأكل ولم يشرب ، لما أُمد من القوة الروحانية ، والتجليات القدسية ، وأُوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم ، ولما رجع إلى قومه ، كان على وجهه أشعة نور مدهشة ، فخافوا من الدنو منه ، فجعل على وجهه برقعاً ، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة ، رفعه ، وإذا أتاهم وضعه . والله أعلم .
{ وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ } أي : حين توجه للمناجاة ، { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } أي : كن خليفتي فيهم : { وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } أي : لا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه لما رأى أنهم أشد طاعة له ، وأكثر قبولاً منه ، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } ، كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية وإن اشتركا في النبوة .
والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع لأنه المعقول من الإستخلاف عند الغيبة .
وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله ، ويأمره بما يعلم أن سيفعله ، عظة له واعتباراً لغيره ، وتأكيداً ومصلحة للجميع . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ 143 ] .
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } أي : حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا .
{ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أي : خاطبه من غير واسطة ملك { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي
وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } أي : لن تطيق رؤيتي ، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية ، ولا طاقة لها بذلك ، لعدم استعدادها له ، بل ما هو أكبر جرماً ، وأشد خلقاً وصلابة - وهو الجبل - لا يثبت لذلك ، بل يندك ، ولذا قال تعالى : { انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } أي : الذي هو أقوى منك .
{ فإِنِ اسْتَقَرَّ } أي : ثبت مكانه ، حين أتجلى له ، ولم يتزلزل : { فَسَوْفَ تَرَانِي } ، أي : تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك ، وإلا فلا طاقة .
وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له ، والتنزل القدسي ما لا يخفى .
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي : ظهر له وبان - قاله الزجاج - .
{ جَعَلَهُ } أي : التجلي : { دَكّاً } أي : مفتتاً ، فلم يستقر مكانه . فنبه تعالى على أن الجبل ، مع شدته وصلابته ، إذا لم يستقر ، فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر ، وفيه تسكين لفؤاد موسى ، بأن المانع من الإنكشاف الإشفاق عليه ، وأما أن المانع محالية الرؤية ، فليس في القرآن إشارة إليه .
{ وَخَرَّ } أي : وقع : { موسَى صَعِقاً } أي : مغشياً عليه من هول ما رأى .
{ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } أي : من الإقدام على سؤالي الرؤية { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة .
قال في " الإنتصاف " : إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العمل قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا ، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه ، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق ، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم ، سبح الله ، وقدس علمه وخبره عن الخلف .
وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب ، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرأًَ من كل ما ينحط به ، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل . وقد ورد : سيئات المقربين ، حسنات الأبرار .
تنبيه :
قالا متكلمون : دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين :
الأول : أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها ، لأن العاقل ، وفضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يطلب المحال ، ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالإستحالة ، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله ، لا يصلح للنبوة ، إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة ، ولا ريب في نبوة موسى عيه السلام ، وأنه من أولي العزم .
الثاني : أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه
والمعلق على الممكن ممكن ، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به ، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة .
وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري ، فمعنى قوله : { أرِنِي } أي : اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً خلاف ظاهر . فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالإحتمال ، مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول .
وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام ، كان سألها لقومه حيث قالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } ، فسأل ليعلموا امتناعها ، فإنه خلاف الظاهر ، وتكلف يذهب رونق النظم ، فترده ألفاظ الآية . وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة ، بالكتاب والسنة ، أما الكتاب فلقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إلى ربِّهاَ ناظِرةٌ } ، وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح ، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة .
قال في " فتح البيان " : رؤيته تعالى في الآخرة ، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة ، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة . ومنهج الحق واضح ، ولكن الإعتقاد لمذهب نشأ الْإِنْسَاْن عليه ، وأدرك عليه أباه ، وأهل بلده ، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب . والمتعصب ، وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء ، وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه ، وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية :
~يأبى الفتى إلا اتّباعَ الهوى ومَنْهَجُ الحقِّ له واضِحُ
انتهى .
وهذا تعريض بالمعتزلة ، وفي مقدمتهم الزمخشري ، وقد انتقل ـ عفا الله عنه ـ أخيراً إلى هجاء أهل السنة بما أنشده :
~لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفه
~قد شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وتَخَوَّفُوا شُنْعَ الورى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَهْ

والبلكفة نحتٌ ، كالبسملة ، أي : بقولهم : بَلا كَيْفَ .
قال في " الإنتصاف " : ولولا الإستنان بحسان بن ثابت الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره ، والمنافح عنه ، وروح القدس معه ، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاماً ، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه ، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم ، فنقول :
~وجماعةٌ كفروا برؤية ربِّهم حقاً ووعدُ الله ما لن يُخلفَهْ
~وتلقَّبوا عدليَّة قلنا : أجل عدلوا بربهم فحسبهمو سفَهْ
~وتلقَّبوا الناجين كلاَّ إنهم إن لم يكونوا في لظى فَعلَى شفَهْ
وقال أبو حيان في الرد عليه :
~شبهت جهلاً صدر أمة أحمدٍ وذوي البصائر بالحمير المُوكَفَهْ
~وجب الخسار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفهْ
~أتُرى الكليم أتى بجهلٍ ما أتى وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفهْ
~إن الوجوه إليه ناظرةٌ بذا جاء الكتاب فقلتم : هذا سفهْ
~نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفهْ
وقال العلامة الجاربردي :
~عجباً لقوم ظالمين تستَّروا بالعدل ما فيهم لعمري معرفهْ
~قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصِّفهْ
وقد ساق السبكي في " طبقاته " في ترجمة الجاربردي عدة قصائد ومقاطيع في الرد عليه ، ثم ذكر الله تعالى أن خاطب موسى باصطفائه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } [ 144 ] .
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } أي : اخترتك على أهل زمانك ، وآثرتك عليهم { بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي }
أي : وبتكليمي إياك : { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أي : ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة : { وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } أي : على النعمة في ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [ 145 ] .
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ } من الحال والحرام .
{ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بعزم على العمل بما فيها : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي : بما أروا به دون ما نهوا عنه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين ، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر وبقائهم في البرية .
فإن موسى عليه السلام لما مات ، خلفه يشوع بن نون ، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان ، وفتح بلادهم ، وصارت ملكة للإسرائيليين .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على حدوث كلامه ، لأن قوله :
{ اصْطَفَيْتُكَ } أي : اختصصتك به ، ولو كان قديماً لكان موسى وغيره سواء ، ولما صح الإختصاص ، ويدل قوله :
{ وَكَتَبْنا } أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات ، لتكون محروسة ، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين ، ليقع لهم العلم ضرورة .
ويدل على أن في التوراة شرائع ، وجميع ما يحتاج إليه . ويدل قوله : { بِقُوَّةٍ } أن العبد قادر على الفعل قبل الفعل ، وأنه يفعل بقدرة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } [ 146 ] .
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ } أي : سأمنع فهم الحج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي ، قلوب المتكبرين عن طاعتي ، والمتكبرين على الناس ، أي : فكما استكبروا أذلهم الله بالجهل ، كقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم } ، وقوله تعالى : { بِغَيْرِ الْحَقِّ } إما صلة للفعل ، أي :
يتكبرون بما ليس بحق ، وهو دينهم الباطل ، أو حال من فاعله ، أي : يتكبرون غير محقين .
{ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ } أي : حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم .
{ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } تكبراً عليها { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ } يعني طريق الحق والهدى والإستقامة واضحاً ظاهراً { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } لمنافاته أهويتهم { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ }
أي : الضلال عن الحق والهلاك { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً يميلون إليه { ذَلِكَ } أي : الصرف عن الآيات ، أو اتخاذهم الغي سبيلاً .
{ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : لاهين لا يتفكرون فيها ، ولا يتعظون بها ، أو غافلين عما ينزل بهم من مخافة الرسل ، ثم بين وعيد المكذبين بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 147 ] .
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ } أي : القيامة ، وهي الكرة الثانية ، سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا ، { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت : فلم تعقب نفعاً ، والمراد جزاء أعمالهم ، لأن الحابط إنما يصح في المنتظر ، دون ما تقضى ، وهذا كقوله : { لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } .
{ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : إلا جزاء علمه من الكفر والمعاصي .
تنبيه :
ذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } الخ ، كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متصل بما سبق من قصصهم ، وهو : { أوَ لَمْ يَهْدِ } الخ .
وإيراد قصة موسى وفرعون للإعتبار .
وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه ، ومعنى صرفهم إهلاكهم ، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ، ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها ، وهو شبيه بقوله :
{ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ، فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ، ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة . انتهى . والله أعلم

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } [ 148 ] .
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بين إسرائيل ، في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط ، الذي كانوا استعاروه منهم ، فشكل لهم منه عجلاً ، جسداً لا روح فيه ، وقد احتال بإدخال الريح فيه ، حتى صار يسمع له خوار ، أي : صوت كصوت البقر ، وإنما أضاف الصوت إليه ، لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه ، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول إخباراً عن نفسه الكريمة : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } .
لطائف :
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : { واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى عِجْلاً } والمتخذ هو السامري ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن ينسب الفعل إليهم ، لأن رجلاً منهم باشره ، ووُجد فيما بين ظهرانيهم ، كما يقال : بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد . ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه ، راضين له ، فكأنهم أجمعوا عليه .
والثاني : أن يراد : واتخذوه إلهاً وعبدوه . فإن قلت : لم قال : { مِنْ حُلِّيِهِمْ } ولم يكن الحلي لهم ، إنما كانت عواري في أيديهم ؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة وكونها في أيديهم عواري ، كفى به ملابسة ، على أنهم قد ملكوها بعد المُهلكين ، كما قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ } . انتهى .
قال النسفي : وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان ، فدخل داراً استعارها يحنث ، وأن الإستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها . انتهى .
والحُليُّ بضم الحاء والتشديد ، جمع حَلْي بفتح فسكون ، كثَدْي وثُدِيّ ، وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى : ألم يروا ، حين اتخذوه إلهاً ، أنه لا يقدر على كلام ، ولا على إرشاد سبيل ، كآحاد البشر ؟ فهو جماد لا ينفع ولا يضر ، فكيف يكون إلهاً ؟
وقوله تعالى : { اتَّخَذُوهُ } تكرير لتأكيد الذم ، أي : اتخذوه إلهاً وعبدوه { وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } أي : واضعين الأشياء في غير مواضعها ، والجملة إما استئنافية ، أو اعتراض تذييلي للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك ، فلا ينكر هذا منهم . أو حالية ، أي : اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين ، وأنه تعالى دلهم ، في بطلان اتخاذ العجل إلهاً ، بأنه لا يتكلم ولا يهدي ، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفد فيه الحيلة ، ولا تنفد في الكلام .
وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب ، كما أزالها الله تعالى ، وتدل على أن القوم كانوا جهالاً غير عارفين حقيقة الأشياء ، لذلك عبدوا العجل ، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكاً لبني إسرائيل ، لذلك قال : { حُلِّيِهِمْ } ، فإن ثبت أنهم استعاروه ، فيدل على زوال ملكهم ، وانتقال الملك إلى بني إسرائيل ، كما تملك أموال أهل الحرب ، وتدل على أن الإتخاذ فعلهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 149 ] .
{ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ } أي : ندموا على عبادة العجل { وَرَأَوْاْ } أي : علموا وأيقنوا : { أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } أي : عن الحق والهدى .
{ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } أي : بقبول توبتنا { وَيَغْفِرْ لَنَا } أي : ما قدمنا من عبادة العجل { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : بالعقوبة ، أي : ممن خسروا أعمالهم وأعمارهم .
لطيفة :
يقال للنادم على ما فعل ، الحسر على ما فرط منه قد سُقِطَ في يده و أُسقط مضمومتين - قاله الزجاج - .
وقال الفراء : يقال سُقط في يده وأسقط ، من الندامة ، و سُقط أكثر وأجود .
وأنكر أبو عَمْرو أُسقط بالألف ، وجوزه الأخفش .
قال الزمخشري : من شأن من اشتد ندمه وحسرته ، أن يعض يده غماً ، فتصير يده مسقوطاً فيها ، لأن فاه قد وقع فيها .
وقال الزجاج : معناه : سقط الندم في أيديهم ، أي : في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال : حصل في يده مكروه ، وإن كان محالاً أن يكون في اليد ، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس ، بما يحصل في اليد ، ويرى بالعين . انتهى .
وقال الفارسي : أي : ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم ، فإن صح ذلك فهو إذن من السقوط .
وفي " العباب " : هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن ، ولا عرفته العرب ، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ، ووقوعه على الأرض ، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط ، لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه ، فيسقط ، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب ، وأثره يظهر في اليد ، كقوله تعالى : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَق } ، ولأن اليد هي الجارحة العظمى فربما يسند إليها ما لم تباشره ، كقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك } . انتهى .
وعليه ، فيكون سُقط من السقاط ، وهو كثرة الخطأ كما قال :
~كيف يرجون سِقَاطِي بَعْدَ ما لَفَعَ الرأسَ بياضٌ وَصَلعْ
وقيل : من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ، يضعه على يده ، معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه ، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه ، فكانت اليد مسقوطاً فيها ، لتمكن السقوط فيها .
ويكون قوله : { سُقِطَ فِي أيْدِيهِمْ } بمعنى سقط على أيديهم ، كقوله : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل } ، أي : عليها ، و سُقط عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف ، كنعم وبئس . وقرئ رباعي مجهول ، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج ، كما قدمنا .
ثم بين تعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات ، وكان أعلمه تعالى بفتنة قومه فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 150 ] .
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي : شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل ، وحزيناً أي : على ما فاته من مناجاة ربه { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ } أي : بئسما عملتم خلفي ، أو قمتم مقامي ، وكنتم خلفائي من بعدي والخطاب إما لعبدة العجل ، من السامري وأشياعه ، أو لوجوه بني إسرائيل ، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه . ويدل عليه قوله : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } ، وعلى التقدير يكون المعنى : بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى .
قال الرازي : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } أي : ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين ، فلم تصبروا إلى تمامها ، وكانوا استبطأوا نزوله من الجبل ، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه ، وينضمون إليه ، وفعلوا ذلك وجعلوا يغنون ويرقصون ويأكلون ويشربون ويلعبون حوله ويقولون : هذا الإله الذي أخرجنا من مصر - عياذاً بالله - .
وقال أبو مسلم : معناه سبقتم أمر الله ، فعبدتم ما لم يأمركم به : { وَأَلْقَى الألْوَاحَ } أي : طرحها من شدة الغضب ، وفرط الضجرة بين يديه فتكسرت ، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية ، وإنما ألقاها ، عليه السلام ، لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل ، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل ، ودنا من محلتهم رأى العجل ورقصهم حوله ، اتقد غضبه فألقاها غضباً لله ، وحمية لدينه ، وكان هو في نفسه حديداً ، شديد الغضب ، وكان هارون ألين منه جانباً ، ولذلك كان محبباً إلى قومه .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل ابن تيمية بقوله تعالى
{ وألْقَى الألواحَ } على أن من ألقى كتاباً على يده ، إلى الأرض وهو غضبان ، لا يلام . انتهى . وهو ظاهر .
{ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } أي : بشعره { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } ظناً أن يكون قصر في نهيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي }
وقال ههنا : { قَالَ ابْنَ أُمَّ } قرئ الفتح والكسر .
وأصله يا ابن أمي ، خفف بحذف حرف النداء والياء ، وذكر الأم ليرققه عليه ، وقوله : { إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } إزاحة لتوهم التقصير في حقه .
والمعنى : بذلت وسعي في كفّهم حتى قهروني واستضعفوني ، وقاربوا قتلي ، { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء } أي : بالإساءة إلي . الشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : في عقوبتك لي ، في عدادهم ، أو لا تعتقد أني منهم ، مع براءتي وعدم تقصيري .
قال الجشمي : تدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس ، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع ، لذلك قال هارون : { اسْتَضْعَفُونِي } . وتدل على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ 151 ]
{ قَالَ } أي : موسى عليه السلام ، متضرعاً إلى ربه استنزالاً لرحمته ، وتعوذاً بمغفرته من سخطه ، ولا يخفى اقتضاء المقام لذلك : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
وقال الزمخشري : لما اعتذر إليه أخوه ، وذكر له شماتة الأعداء قال : { ربِّ اغْفِرْ لِي ولأخِي } ليرضي أخاه ، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه ، فلا تتم لهم شماتتهم . واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة ، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [ 152 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } أي : من افترى بدعة ، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه ، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم ، وإن هملجت بهم البغال ، وطقطقت بهم البراذين .
وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجَرْمي أنه قرأ هذه الآية
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } قال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة .
وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل .
ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل التوبة من أي : ذنب كان ، ولو كفراً بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 153 ] .
{ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا } إلى الله : { وَآمَنُواْ } أي : أخلصوا الإيمان { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : محاء لذنوبهم ، منعم عليهم بالجنة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ 154 ] .
{ وَلَمَّا سَكَتَ } أي : سكن : { عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ } أي : التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت { وَفِي نُسْخَتِهَا } أي : فيما نسخ منها ، أي : كتب .
والنسخة فعلة بمعنى مفعول ، كالخطبة : { هُدًى وَرَحْمَةٌ } بالشرائع والوصايا الربانية ، المرشدة لما فيه الخير والصلاح : { لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } أي : يخشون .
لطيفتان :
الأولى : قال أبو السعود : في هذا النظم الكريم ، يعني قوله تعالى : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ } من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب ، الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول ، ومنزلة الآمر بذلك ، المغرى عليه بالتحكم والتشديد ، والتعبير عن سكونه بالسكوت ـ ما لا يخفى ـ انتهى .
وأصله للزمخشري حيث قال : هذا مثلٌ ، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء . ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سُلَيم ، وذوق صحيح إلا لذلك ، ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ( وَلَمَّا سَكَنَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ) لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهمزة ، وطرفاً من تلك الروعة ؟ انتهى .
ومراده بالمثل كونه استعارة مكنية ، حيث شبه الغضب بشخص آمرٍ ناهٍ ، وأثبت له السكوت تخييلاً .
وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب ، أي : من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز ، وكأن الأصل : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ } كما في خرق الثوب المسمار .
قال في " الإنتصاف " والتحقيق أنه ليس منه ، وأن هذا القلب أشرف وأفصح ، لما فيه من المعنى البليغ ، وهو أن الغضب كان متمكناً من موسى ، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره . ومثل هذه النكتة الحسناء ، لا تلفى في خرق الثوب المسمار .
انتهى .
وقرئ سكن وسكَّت وأسكت ، أي : أسكته الله ، أو أخوه باعتذاره إليه .
الثانية - اللام في للذين متعلقة بمحذوف ، صفة لرحمة ، أي : كائنة لهم ، أو هي لام الأجل ، أي : هدى ورحمة لأجلهم : واللام في لربهم لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ } ، أو هي أيضاً لام العلة ، والمفعول محذوف ، أي : يرهبون المعاصي لجل ربهم ، لا للرياء والسمعة ـ أفاده أبو السعود ـ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ 155 ] .
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا } .
روى محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام ، لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل ، وقال لأخيه وللسامري ما قال ، وحرق العجل ، وذراه في اليم ، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلاً ، الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله ، فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا ، وطهروا ثيابكم . فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون - فيما ذكر لي ـ حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه ، لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل .
فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا . وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه
فضرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه ، افعل ولا تفعل ، فلما فرغ إليه من أمره ، انكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم ، فقالوا لموسى : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة } وهي الصاعقة التي يحصل منها الإضطراب الشديد ، فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } قد سفهوا ، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل ؟
وفي رواية السدّي : فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم ، وقد أهلكت خيارهم { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } .
وقال ابن إسحاق : اخترت منهم سبعين رجلاً ، الخيّر فالخير ، أرجع إليهم ، وليس معي رجل منهم واحد ، فما الذي يصدقونني أو يأمنونني عليه بعد هذا ؟ وعلى هذا فالمعنى : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني .
وقال الزجاج : المعنى لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم ، بما أوجب عليهم الرجفة . انتهى .
قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " بعد نقل كلام من ذكرنا : وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود ، والذي يظهر - والله أعلم بمراده ومراد نبيه - أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه ، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل ، حتى عبد قومهم العجل ، ولم ينكروا عليهم ، يقول موسى : إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم ، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك ، ولم تهلكهم ، فيسعهم اليوم ما وسعهم من قبل ، وهذا كمن واخذه سيده بجرم يقول : لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم ، ولكن وسعني عفوك أولاً ، فيسعني اليوم .
ثم قال نبي الله : أهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ فقال ابن الأنباري وغيره [ في المطبوع : وغير ] : هذا استفهام على معنى الجحد ، أي : لست تفعل ذلك ، والسفهاء هنا عَبْدة العجل .
قال الفرّاء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل ، فقال : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ وإنما كان إهلاكهم بقولهم : { أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً } . انتهى .
واستظهار أن هذا استفهام استعطاف ، سبقه إليه المبرد .
تنبيه :
قال في " اللباب " : معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة ، أي : ثم
أحيوا .
وقال وهب بن منبه : لم تكن تلك الرجفة موتاً ، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة ، وأخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا ، حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك ، راحمهم وخاف عليهم الموت ، واشتد عليه فقدهم ، وكانوا له وزراء على الخير ، سامعين له مطيعين ، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه ، فكشف الله عنهم تلك الرجفة ، فاطمأنوا وسمعوا كلام الله . والله أعلم .
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء } أي : ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك ، وامتحانك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم ، فالأمر كله لك وبيدك ، لا يكشفه إلا أنت ، كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت . فنحن عائدون بك منك ، ولاجئون منك إليك .
يعني إن الأمر إلاَّ أمرك ، والحكم إلا لك فما شئت كان ، تضل من تشاء وتهدي من تشاء .
قال : { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي : متولي أمورنا القائم بتا { فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ 156 ] .
{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً } أي : أثبت لنا فيها خصلة حسنة ، كالعافية والحياة الطيبة ، والتوفيق للطاعة : { وَفِي الآخِرَةِ } أي : حسنة أيضاً ، وهي المثوبة الحسنى والجنة .
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي : تبنا إليك . يقال : هاد إليه يهود ، إذا رجع وتاب ، فهو هائد . ولبعضهم :
~يا راكب الذنب هُدْ ، هُدْ واسجد كأنك هُدْهُدْ
وقال آخر :
إني أمرؤ مما جَنَيْتُ هائِدُ
قال أبو البقاء : المشهور ضم الهاء ، وهو من هاد يهود إذا تاب .
وقرئ بكسرها ، من هاد يهيد إذا تحرك أو حرك ، أي : حركنا إليك نفوسنا ، وعلى القراءتين ، يحتمل الوجهين ، البناء للفاعل وللمفعول ، بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا ، أو حركنا
أنفسنا ، أو حركنا غيرنا ، وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى ، وإن اختلف التقدير .
{ قَالَ } استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : فماذا قال تعالى في جواب دعاء موسى ؟ فقيل قال : { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } أي : تعذيبه من العصاة { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان المراد هنا ، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل ، كما قابل الآية التي ذكرناها بقوله : { وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، والله أعلم .
{ فَسَأَكْتُبُهَا } أي : هذه الرحمة : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : الكفر والشرك والفواحش { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : يعطون زكاة أموالهم { وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا } أي : بكتابنا ورسولنا : { يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا ، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة ، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص ، لذلك قالوا : { إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ } .
وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر ، ويخص بالثواب المؤمن ، فلذلك فصل ، ومن تأمل هذا السؤال والجواب ، عرف عظيم محل هذا البيان ، لأنه عليه السلام ، سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة ، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه ، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم ، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها .
وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق ، حتى ينضم إليه الطاعات ، فيبطل قوله المرجئة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 157 ] .
{ الَّذِينَ } بدل من الموصول الأول بد الكل ، أو منصوب على المدح ، أو
مرفوع عليه ، أي : أعني الذين أو هم الذين : { يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ } أي : الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم : { النَّبِيَّ } أي : الذي نبئ بأكمل الإعتقادات ، والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي { الأُمِّيَّ } أي : الذي لم يحصل علماً من بشر : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً } أي : باسمه محمد وأحمد ونعوته { عِندَهُمْ } زيد هذا لزيادة التقرير ، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلاً .
{ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ } يعني الإيمان بالله ، ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق ، لأن جميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع .
{ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } يعني الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق ، لأن العقل والشرع ينكره .
{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } أي : التي حرمت عليهم لمعاصيهم .
{ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } أي : التي كانوا يتناولونها كالخنزير والميتة والدم - هذا في باب المأكولات ـ .
{ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } أي : الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة { وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } جمع غُل بالضم ، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد ، يستعار للشرائط الحرجة والمواثيق الشديدة ، أي : يخفف عنهم ما كلفوه منها - وهذا في باب العبادات ـ .
{ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ } أي : بالنبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم : { وَعَزَّرُوهُ } أي : عظموه ووقروه : { وَنَصَرُوهُ } أي : على أعدائه في الدين فمنعوهم عنه { وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ } وهو القرآن ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه .
ولا يقال : القرآن أنزل مع جبريل ، فما معنى : { أُنزِلَ مَعَهُ } ؟ لأن المراد أنزل مع نبوته ، لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به ، ويجوز أن يعلق باتبعوا أي : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته ، وبما أمر ونهى عنه ، فيكون أمراً بالعلم بالكتاب والسنة ، أو هو حال ، أي : اتبعوا القرآن كما اتبعه ، مصاحبين له في اتباعه .
وفي التعبير عن القرآن بالنور ، المنبئ عن كونه ظاهراً بنفسه لإعجازه ، ومظهراً لغيره من الأحكام ، لمناسبة الإتباع .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة .
تنبيهات :
الأول : يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى : { قالَ عَذَابِي } الخ ، جواب لموسى عليه السلام ، وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين ، كتابه حسنتي الدنيا والآخرة لهم ، فأجيب أولاً بأن ذلك لا يحصل لقومه كلهم ، برًّ أو فاجراً ، لما سبق من تقديره سبحانه العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلاً . ولذلك قرأ الحسن
وزيد بن علي هنا لمن أساء ، فعل ماض من الإساءة ، وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة من عذابه تعالى ، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم ، وثانياً إنه لا يستأهل كتابة الحسنتين إلا المتقون المتصدقون المؤمنون بالآيات ، والمتبعون للنبي الأمي ، فمن استقام على هذا الشرائط ، كتب له ذلك ، ولا يقال - على هذا - كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه ؟ لأنا نقول الإتباع أعم من الإتباع بالقوة ، وذلك بالإيمان به إجمالاً ، حسبما أشار له الكتابان لمن تقدم موته على زمن بعثته ، وإما بالفعل لمن لحق زمان بعثته .
وفيه تبشير لموسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وتعريف له بشأنه وإعلام بشأنه ، بأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه . وعليه فيكون قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ } بدلاً من الموصول الأول ، بدل الكل ، أو منصوب على المدح ، أو مرفوع عليه ، أي : أعني الذين ، أو هم الذين .
وقال بعضهم : إن الجواب موسى ينتهي إلي قوله تعالى :
{ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ } وما بعده مستأنف ، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب يصيب به من يشاء ، كما أصاب أصحاب الرجفة ، وذو رحمة واسعة تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات ، أي : فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المرقوم .
ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقاً ، عليه فيكون قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ } مبتدأ خبره : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ، وتكون القصة استتبعت أعقاب بني إسرائيل ، بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي ، كانوا هم المفلحين .
وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى : { قالَ عَذاَبِي } ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له ، صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه حقت لهم رحمته تعالى الواسعة ، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى ، كما جرى لأسلافهم .
وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين ، ما لا يخفى .
الثاني : تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان - هذا ما ذكر في اللغة ـ وعني أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة ، كما قال تعالى : { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ } ، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } بمعنى الجنة ، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل . والله أعلم .
وقال أبو المنصور : ما من أحد مسلم وكافر ، إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا ، بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون وفيها ينقلبون ، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة ، لا حظ للكافر فيها ، وذلك قوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : معصية الله ، والخلاف له { وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ } كقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة } جعل طيبات الدنيا ونعيمها مشتركة بين المسلم و الكافر ، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة ، لاحظ للكافر فيها .
فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا ، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة ، ويحتمل قوله ـ و الله أعلم ـ : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ } أنهم سألوا الرحمة ، فقال : سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته . انتهى .
الثالث : إنما أفرد الزكاة بالذكر ، ومع دخولها في التقوى قبل ، لعلوها وشرفها ، فإنها عنوان الهداية ، ولأنها كانت أشق عليهم ، فذكرها لئلا يفرطوا فيها .
الرابع : كونه صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ ، أمر مقرر مشهور . وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور ، أو أنه لم يكتب ، وإنما أسند إليه مجازاً ، أو أنه أصدر منه ذلك معجزة ؟ - انظر في " فتح الباري " تفصيله - .
و الأمي نسبة إلى أمة العرب ، لأن الغالب عليهم كان ذلك ، كما في الحديث : < إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب > ، وأما نسبته إلى أم القرى فلأن أهله كانوا كذلك ، أو إلى أُمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها .
وقيل : إنه منسوب إلى الأم - بفتح الهمزة - بمعنى القصد ، لأنه المقصود ، وضم الهمزة من تغيير النسب ، ويؤيده قراءة يعقوب ( الأمي ) - بفتح الهمزة - ، وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضاً ، وإنما وصفه تعالى به تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته ، فهي له مدح وعلو كعب ، لأنها معجزة له ، كما قال البوصيري .
كفَاكَ بالعلمِ في الأمِّي مُعْجزةَ
كما أن صفة التكبر لله مادحة ، وفي غيره ذامة ، كذا في " العناية " .
الخامس : في قوله تعالى : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام ، بنبوته صلى الله عليه وسلم .
قال الماوردي في " إعلام النبوة " في الباب الخمس عشر في بشائر الأنبياء بنبوته عليه الصلاة والسلام :
إن الله تعالى عوناً على أوامره ، وإغناءاً عن نواهيه ، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة ، بما تقدمه من بشائره ، وتبديه من أعلامها وشعائرها ، ليكون السابق مبشراً ونذيراً ، واللاحق مصدقاً وظهيراً ، فتدوم بهم طاعة الخلق ، وينتظم بهم إستمرار الحق .
وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم ، بما أطلعه الله تعالى على غيبه ، ليكون عوناً للرسول ، وحثاً على القبول .
فمنهم من عيّنه باسمه ، ومنهم من ذكره بصفته ، ومنهم من عزاه إلى قومه ، ومنهم من أضافه إلى بلده ، ومنهم من خصه بأفعاله ، ومنهم من ميزه بظهوره وإنتشاره .
وقد حقق الله تعالى جميعها فيه ، حتى صار جلياً بعد الإحتمال ويقيناً بعد الإرتياب ، ثم سرد الماوردي البشائر من نصوص كتبهم .
وجاء في " إظهار الحق " ما نصه : إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، كثيرة إلى الآن أيضاً ، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب ، ومن عرف أولاً طريق إخبار النبي المتقدم ، عن النبي المتأخر ، على ما عرفت في الأمر الثاني - يعني في كلامه - ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات ، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام ، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة .
وجاء في " منية الأذكياء في قصص الأنبياء " ما نصه : إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشرت به الأنبياء السالفون ، وشهدوا بصدق نبوته ، ووصفوه وصفاً رفع كل احتمال ، حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته . غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمعه - يعني من نسخهم الأخيرة - إلا أن ذلك لم يجدهم نفعاً ، لقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهي أظهر دلالة
من الاسم على المسمى ، إذ قد يشترك اثنان في اسم ، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف . لكن من أمد غير بعيد ، قد شرعوا في تحريف بعض الصفات ، ليبعد صدقها على النبي عليه الصلاة والسلام ، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع ، اختلافاً لا يخفى على اللبيب أمره ، ولا ما قصد به ، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم لانتشار النسخ بالطبع ، وتيسر المقابلة بينها ، وها نحن نورد شذرة من البشائر لديهم :
فمنها : في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر هكذا :
11 - وقال لها ملاكُ الربُ أنتِِ حُبلى فتلدين إبناً ، وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك .
12 - وإن يكون إنساناً وحشياً ، يده علي كل واحد ويد كل واحد عليه ، وأمام جميع إخوته يسكن .
هذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لا بجده إسماعيل ، لأن إسماعيل عليه السلام ، لم تكن يده فوق يد الجميع ، ولا كانت يد الجميع ، لا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص ، بل في التوراة أن إسماعيل وأمه هاجر أُخرج من وطنهما مكرهين ، ولم يرث إسماعيل مع إسحاق ، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق ، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش ، ولم يسمع أن الأمم دانت لهم ، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدانت له الملوك ، خضعت له الأمم ، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد ، وصارت يد كل بهم فكان ذكر إسماعيل مقصوداً به ولده .
كما أن في مواضع كثيرة من التوراة ، ذكر يعقوب ، والمقصود بالذكر ولد يعقوب .
فمن ذلك قوله في السفر الخامس : يا إسرائيلُ ! ألا تخشى الله ربَّك ، وتسلك في سَبِيِلهِ وتعمل له ؟
فهذا خطاب لبني إسرائيل باسم أبيهم ، وكذلك قوله لقوم موسى : اسمع إسرائيل ، ثم احفظ ، واعمل يحسن إليك ربك ، وتكثر وتنعم . ونظائره كثيرة .
فظهر أنه قد يذكر إسم الأب ، ويراد الإبن مجازاً ، بقرينة الحال ، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى .
ومنها : في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثينة هكذا :
1 - وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجلُ الله بني إسرائيل قبل موته .
2 - فقال : جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سَعِيرَ ، وتلألأ من جبل فَارَان ، وأتى من ربواتِ القُدسِ ، وعن يمنيه نار شريعةٍ لهم .
ولا غموض بأن مجئ الله جل وعلا من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سينا - هكذا يفسره أهل الكتاب - والأمر كذلك فيجب أن يكون إشراقه من سُعَيْر عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح ، وكان المسيح يسكن أرض الجليل من سُعَيْر بقرية تدعى ناصرة ، وإسم النصارى مأخوذ منها .
وإستعلاؤه من جبال فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد في جبل فاران ، وفاران هي مكة ، ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب .
ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا :
20 - وكان الله مع الغلام فكبر ، وسكن في البرية ، وكان ينمو رامِيَ قوس .
21 - وسكن في برِّيَّة فاران ، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر .
ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة ، وفيها مات ، وبها دفن ، وهذا البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم ، ظاهرة لا تخفى إلا على أكمة لا يعرف القمر .
فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد ، وأنتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها ، كما يقتضيه الإستعلان المذكور في البشارة .
ومنها : في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا :
17 - قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا .
18 - أُقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به .
19 - ويكون أن الْإِنْسَاْن الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه .
هذا البشارة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعاً ، لأنه من ذرية إسماعيل ، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم ، بدليل ما ذكر في التوارة في حق إسماعيل وأنه قبالة إخوته ، ينصب المضارب .
وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام ، عن بعد بعيد ، إخوةَ كما دعى في القرآن هود وصالح ، إخوة لعاد وثمود مع أنهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام .
وكما قيل في سفر العدد في الباب العشرين :
14 - وأرسل موسى رسلاً من قَادشَ إلى ملك أدُومَ : وهكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتناـ مع أنهما أعمام على بعد بعيد ـ .
وليست هذه الشهادة في حق أحد من أنبياء بني إسرائيل ، وإلَّا لقال : وسوف
أقيم لهم نبياً مثلك منهم أو من أنفسهم كما قال تعالى إخباراً بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُم } ، وكما قال تعالى في خطاب بني إسماعيل :
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى ، فهو باطل من وجوه :
1 - أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل ، لا من نفس بني إسرائيل ، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل .
2 - أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام لما في آخر سفر التثنية " الإصحاح الرابع والعشرون " .
10 - ولم يقم بعدُ نبيُّ في بني إسرائيل مثلُ موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه .
ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواه ، ويوشع ليس كذلك ، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى .
3 - أن يوشع عليه السلام كان حاضراً هناك ، وقد أشير بعبارة صريحة قبل هذه ففي الباب الأول من هذا السفر .
38 - يَشُوعُ بن نونٍ الواقف أمامك هو يدخل هناك ، شدَّده لأنه هو يقسمها لإسرائيل .
فأي مقتض للرمز والتلويح ، بعد هذا التصريح ؟ وأي موجب لإدخال سوف الدالة على الإستقبال على فعل حاصل في الحال ؟
وأما ما زعمته النصارى من أن المارد به عيسى عليه السلام ، فهو أيضاً باطل لوجوه :
1 - أنه من بني إسرائيل ، والمبشر به هنا من غيرهم .
2 - أن موسى بَّشر بنبيّ مثله ، وهم يدّعون أن عيسى إله ، وينكرون كونه نبياً مرسلاً ، وإلا لزم اتحاد المرسِل والمرسَل ، وهو غير معقول ، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام أقوى من مشابهته لعيسى ، لاتحادهما في أمور :
1 - كونهما ذََوى والدين وأزواج بخلاف عيسى عليه السلام .
2 - كونهما مأمورين بالجهاد ، بخلاف عيسى عليه السلام . وقد أشار في هذه البشارة بقوله :
19 - ويكون أي : الْإِنْسَاْن الذي لا يسمع لكلامي ، الذي يتكلم به
باسمي ، أنا أطالبه .
إلى كون هذا النبي مأموراً بجهاد من كفر بما جاء به من عند الله ، والإنتقام منه بسيفه البتّار .
وزعمت النصارى أن الإنتقام هنا بمعنى العذاب الأخرويّ لمنكريه ، وهو خطأ ، لأن ذلك لا يختص بهذا النبي ، بل كل من أنكر ما جاء به نبي من الأنبياء ينتقم منه في الآخرة ، فلا معنى لتخصيص هذا النبي بالذكر حينئذ .
3 - كون شريعتهما مشتملة على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء ، وإيجاب الطهارة وقت العبادة ، وهذا كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام - على ما تقول النصارى - ونظائر ذلك كثيرة .
وفي هذا البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أمياً لا يقرأ ، حيث قال : يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي .
وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ } الآية التي نحن في صددها .
ومنها : في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلا الأبد ، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ، ولا يعرفه ، وأنتم تعرفونه ، لأنه مقيم عندكم ، وهو ثابت فيكم .
وهذا بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس من يقوم مقامه ، وينوب في تبليغ رسالته ، وسياسة خلقه ، ومنابه ، وتكون شريعته باقية مخلدة أبداً ، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم . و الأب هنا بمعنى الرب والإله ، لأنه إصطلاح أهل الكتابين .
وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه روح الحق إلى أن الحق قبل مبعثه ، يكون كالميت لا حراك له ، ولا إنتعاش ، وأنه إذا بعث يكون كالروح له ، فيرجع حينئذ قائماً في الأرض .
ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام ، هو الذي أحيى الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعد ما اندرس ، ولم يبق فيه نفس . ثم قال : الفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شي ، وهو يذكركم كل ما قلته لكم .
ولا شك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق ، وأوضح ما خفي من الدقائق ، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عَبَّاد الله تعالى ، وقربه إليه بالرسالة واصطفاه ، وأنه لم يدْعُ لسوى عبادة الله وتوحيده ، وتنزيهه وتمجيده . وقوله : باسمي أي : بالنبوة .
ثم أَبَان لهم سبب إخبارهم به قبل أن يأتي فقال : والآن قد قلت لكم قبل أن يكون ، حتى إذا كان ، تؤمنون .
وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور : فأما إذا جاء الفارقليط الذي
أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق ، وهو يشهد لأجلي ، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء .
وفي الباب السادس عشر منه : لكني أقول لكم الحق ، إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق ، لم يأتكم الفارقليط ، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم ، فإذ جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطيئة ، وعلى بر ، وعلى حكم ، أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي ، وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ، ولستم ترونني بعد ، وأما على الحكم ، فإن رئيس هذا العالم قد دين ، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ، ولكنكم لستم تطيقون حمله ، وإذا جاء روح الحق ذاك ، فهو يعلمكم جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بكل ما يسمع ، ويخبركم بما سيأتي ، وهو يمجدني ، لأنه يأخذ مما هو لي ، ويخبركم جميع ما هو للأب ، فهو لي . من أجل هذا قلت : إن مما هو لي يأخذ ويخبركم .
ومن أمعن النظر في هذا العبارات ، ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحوى والإشارات جزم بأن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام ، شهد لعيسى بالنبوة والرسالة ، ومجده وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية ، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحراً كذاباً ، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل ، بريئة الساحة ، وهو الذي وبخ العالم ـ سيما اليهود ـ على الخطايا ، لا سيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام ، والطعن في والدته الطاهرة البتول ، وهو الأمين الصادق ، الذي علم جميع الحقائق ، هو الذي أَبَان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار ، وهو الذي ، لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } .
وفسر العلامة ابن قتيبة روح الحق الذي من الأب ينبثق ، أي : يصدر بكلام الله المنزل ، واستدل بقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا } ، والمراد به هنا القرآن الكريم ، لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة
[ في المطبوع : النزهة ] ، عما افتري عليه ، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله ، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه ، واهتدوا بهديه ، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك فتعين أن يكون هو المراد .
وفي قول عيسى عليه السلام : إن خير لكم أن أنطلق ، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط .
إشارة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل .
ولفظ فارقليط يوناني الأصل ، قيل : أصله باراكلي طوس ، بمعنى كان لسان
قومه ، وما كان يتكلم باليوناني ، لأنه كان عبرانياً ابن عبرانية ، نشأ في قومه العبرانيين ، فنقل أقواله في هذه الأناجيل ، نقل بالمعنى .
فترجيح من رجح من النصارى ، أن أصل فارقلط هو الأول ترجيح بلا مرجح ، والتفاوت بين اللفظين يسير جداً ، الحروف اليونانية متشابهة .
وأياً كان أصله ، فالإستدلال صحيح ، لصدق اللفظ بمعانيه كلها على النبي صلى الله عليه وسلم صدقاً جلياً ، لايخفى إلا على مشاغب .
وقد كانت هذه البشائر سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان ، كما بينه في كتابه " تحفة الأديب في الرد على أهل الصليب " .
وقد نبذ النصارى بعد الأناجيل المصرحة باسم محمد ، لكونها شجى في حلوق أهوائهم ، كإنجيل برنابا ففيه التصريح بقوله : إلى أن يجئ محمد رسول الله . كما نقله في " إظهار الحق " .
وإذا كان حالهم في تراجمهم ، في لقب إلههم ، ولقب خليفته ما علم ، فكيف يرجى منهم صحة بقاء محمد أو أحمد ؟
إلا أن سيف الحق أمضى ، وسهام الصوب أنفذ ، فثمة من الأوصاف الصريحة ، والأشائر الصحيحة ، ما لا يبق معه وقفه لحائر .
هذا ، وفي كتبهم بشائر كثيرة ، تعرض لذكرها جلة من العلماء ، مما أناف على العشرين .
قال الماوردي : لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر .
وقد اقتصرنا على ما قدمنا ، رَوْماً للإختصار ، ولسهولة الوقوف على البقية ، من مثل " أعلام النبوة " للماوردي و " إظهار الحق " وغيرهما .
وقد قال صاحب " إظهار الحق " الشيخ رحمه الله : إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول ، شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين ، مثل عبد الله بن سلام ، وأبني سعية ، وبنيامين ، ومخيريق ، وكعب الأحبار ، وغيرهم من علماء اليهود ، ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي ، وضغاطر ، وهو الأسقف الرومي الذي أسلم على يد دِحْية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه ، والجارود ، والنجاشي ، والسوس ، والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله
عنه ، وغيرهم من علماء النصارى .
وقد اعترف بصحة نبوته ، وعموم رسالته ، هرقل قيصر الروم ، ومقوقس صاحب مصر ، وابن صوريا ، وحُيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ، ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا .
ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران ، وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم ، دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى ، فنكصوا على أعقابهم ، خوفاً من شؤم مغبتها ، فكانوا كقوم فرعون آمنوا بها : { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } .
السادس : قوله تعالى : { يأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ } يحتمل أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون مفسراً : { مَكْتُوباً } أي : لما كتب .
السابع : الطيبات أعم من الطيبات في المأكل كالشحوم ، وكذا البحائر والسوائب والوصائل والحام .
ومن الطيبات في حكم الشريعة كالبيع ، وما خلا كسبه عن سحت ، وكذا الخبائث ما يستخبث ، من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به ، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة .
قيل : يستبعد إرادة ما طاب أو خبث في الحكم ، لأن معناه حينئذ ما حكم الشرع بحله ، أو حكم بحرمته ، فيرجع الكلام إلى أنه يحل ما يحكم بحله ، ويحرم ما يحكم بحرمته ، ولا فائدة فيه .
وردوه بأن يفيد فائدة وأي فائدة ! لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع ، لا بالعقل والرأي .
الثامن : في قوله تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير والسماحة ، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < بعثت بالحنيفية السمحة > . وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى
الأشعري ، لما بعثهما إلى اليمن : < بشرا ولا تنفرا [ في المطبوع : تنفراص ] ، ويسراً ولا تعسراً ، وتطاوعاً ولا تختلفاً > .
وقدمنا أن الإصر والأغلال استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة ، فمنها تحريم طبخ الجدي بلبن أمه ، ومنها نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظال ، وكذلك عيد كل سبت ، لا يعلم فيه أدنى علم .
وكذلك سبت المزارع ، ففي كل سنة سابعة سبت للأرض ، لا يزرع فيها ، ولا يقطف الكرم ، بل تترك الأراضي عطلاً ، غلت الكروم مأكلاً لفقراء شعبهم ووحوش البرية .
ومنه أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما
يقتل حداً . وكذا من يعمل يوم السبت يقتل ، ومن كان به جن أو تابعة يرجم بالحجارة حتى يموت ، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة ، ثم تبين كذبه ، جميعاً يقتلان ، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها ، وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات المنطوح يرجم الثور ولا يؤكل لحمه ، ومن اضطجع مع امرأة طمث يقطعان من شعبهم ، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر ، وطلقها أو مات عنها ، فلا يجوز لزوجها الأول أن يرجعها ، وغير ذلك من الآصار التي تقدم بعضها في آخر سورة البقرة - فراجعه - .
التاسع : قال الجشمي : تدل الآية على أن شريعته صلى الله عليه وسلم أسهل الشرائع ، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية ، وذلك نعمة عظيمة على هذا الأمة .
وتدل على وجوب تعظيم الرسول ، ونصره بالجهاد ، ونصرته بنصرة دينه ، وكل أمر يؤدي إلى توهين ما يتصل بذلك ، لأن جميع ذلك من باب النصرة .
وهذا لا يختص بعصره ، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف ، ولعل الجهاد بالبيان ، وإيراد الحجة ، ووضع الكتب فيه ، وحل شبه المخالفين ، يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف ، ولهذا قلنا : منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل .
العاشر : قال العلامة البقاعي : لما تراسلت الآي ، وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام ، وبيان مناقبه العظام ، ومآثره الجسام ، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً ، وأعظمهم رتبة ، ساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق ، على هذا الوجه ، الذي بين أعلاهم مراتب ، وأزكاهم مناقب ، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً .
وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل ، إهتماماً به ، وتعجيلاً له ، مع ما سيذكر ، مما يظهر أفضليته ، ويوضح أكمليته ، بقصته مع قومه ، في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه ، وفي سورة الأنفال وبراءة بكمالها .
ثم قال البقاعي : لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص ، من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم ، حث على الإيمان به ، إيجاباً على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف ، تقدم زمانه أو تأخر ، أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه ، ويصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه ، تحقيقاً لعموم رسالته ، وشمول دعوته ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 158 ] .
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } أي : كافة .
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ } نعوت للفظ الجلالة ، أي : الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة .
والآية نص في عموم بعثته للأحمر والأسود ، والعربي والعجمي . وفي الحديث : < أعطيت خمس لم يعطهن نبي قبلي - ولا أقولهن فخراً - بعثت إلى الناس كافة ، الأحمر والأسود ، ونصرن بالرعب مسيرة شهر ، وأُحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأعطيت الشفاعة ، فأخرتها لأمتي ، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً > . رواه الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً ، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : < قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي ، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة ، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ، ونُصرت على العدو بالرعب ، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعباً ، وأحلت لي الغنائم ، آكلها ، وكان من قبلي يعظمون أكلها ، كانوا يحرقونها ، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك ، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم ، والخامسة هي ما هي ! قيل لي : سل ، فإن كل نبيه قد سأل ، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة ، فهي لكم ، ومن يشهد أن لا إله إلا الله > .
قال الحافظ ابن كثير : إسنادهما جيد قوي .
وروى الإمام أحمد بمعناه عن ابن عمر وأبي موسى ، وهو ثابت في الصحيحين عن جابر :
وأخرج مسلم عن أبي موسى قال : < قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي
بيده ! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار > .
{ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ } أي : الذي نبئ ما يرشد الخلائق كلهم ، مع كونه أمياً ، وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين .
{ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي : ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ 159 ] .
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } أي : موقنين ثابتين ، يهدون الناس بكلمة الحق ، ويدلونهم على الإستقامة ، ويرشدونهم .
{ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ، ولا يجورون .
والآية سيقت لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام ، من كل خير ، وبين أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم .
وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف . أفاده أبو السعود .
وهذه الآية كقوله تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ، وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 160 ] .
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ } أي : قوم موسى { اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } أي : صيرناهم قطعاً ، أي : فرقاً ، وميزنا بعضهم من بعض . والأسباط : أولاد الولد ، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة ، من اثني عشر ولداً ، من ولد يعقوب عليه السلام .
{ أُمَماً } أي : عظيمة وجماعة كثيفة
العدد : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } أي : في التيه
{ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } فضربه : { فَانبَجَسَتْ } أي : انفجرت : { مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } بعدد الأسباط .
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } أي : سبط منهم { مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ } في التية من حر الشمس { وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث أوجبوا لها العذاب الدائم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } [ 161 ] .
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ } يعني بيت المقدس ، والقائل موسى عليه السلام ، دعاهم إلى دخول بيت المقدس ، أو يوشع ، فإنه دعاهم بعد وفاة موسى ، إلى غزو بيت المقدس : { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ } أي : قولوا حط عنا ذنوبنا .
وقيل : أمروا بكلمة إذا قالوها حط عنهم أوزارهم { وَادْخُلُواْ الْبَابَ } أي : باب القرية : { سُجَّداً } أي : ساجدين أو خاضعين . أُمروا بأن يدخلوها بالتواضع ، وكان ذلك شرطاً في قبول فعلهم : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } [ 162 ] .
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } وقد تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة بما يغني عن إعادته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ 163 ] .
{ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } هذا السياق هو بسط لقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
فقوله تعالى : { وَاسْألْهُمْ } عطف على اذكر المقدر عند قوله : { وَإِذْ قِيلَ } أي : وأسأل اليهود المعاصرين لك ، سؤال تقريع وتقرير ، بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله ، وإعلاماً بأن هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحي ، فإذا أعلمهم به من يقرأ كتابهم ، علم أنه من جهة الوحي .
قوال ابن كثير : أي : واسأل هؤلاء اليهود بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم ، لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم .
وهذه القرية هي أيلة ، بين مدين والطور ، وقيل هي متنا ، بين مدين وعينونا .
ومعنى كونها : { حَاضِرَةَ الْبحْرُ } أنها قريبة منه ، راكبة لشاطئه .
وقوله تعالى : { إِذْ يَعْدُونَ فِي السِّبْتِ } أي : يتجاوزون حد الله فيه ، وهو اصطيادهم في يوم السبت ، وقد نهوا عنه ، فقد أخذت عليهم العهود والمواثيق أن يحفظوا السبوت من عملٍ ما .
و الحيتان السمك ، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت ، في معنى السمكة .
و : { شُرَّعاً } جمع شارع ، من شرع بمعنى دنا . يقال : شرع علينا فلان ، إذا دنا منا ، وأشرف علينا ، وشرعت على فلان في بيته ، فرأيته يفعل كذا ، وهو حال من : { حِيتاَنُهُمْْ } أي : تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء ، قريبة من الساحل ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم أصلاً إلى السبت المقبل .
قرئ : { يُسْبِتُونَ } ثلاثياً ، ومزيداً فيه ، من أسبت معلوماً ومجهولاً أيضاً ، بمعنى ، لا يدخلون في السبت ولا يدار عليهم .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم } أي : مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع ، نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء ، في اليوم المحرم عليهم صيده ، وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده ، أي : نعاملهم معاملة من يختبرهم ، بسبب فسقهم ، فيظهر عدوانهم ، فيستحقون المؤاخذة .
ثم بين تعالى تماديهم في العدوان ، وعدم انزجارهم عنه ، بعد العظات والإنذارات ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 164 ] .
{ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ } أي : جماعة من صلحائهم ، يحاورون فريقاً ممن دأب في عظتهم { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ } أي : مخترمهم ومطهّر الأرض منهم : { أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي : بل معذبهم عذاباً شديداً ، إذ مجرد الإهلاك قد يوجد معه لطف ، وأما شدة العذاب فتلك القاصمة .
{ قَالُواْ } أي : الوعاظ : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي : نعظهم معذرة إليه تعالى ، لئلا ننسب إلى التفريط في وصيته بالنهي عن المنكر .
وقرئ بالرفع ، أي : موعظتنا معذرة { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : ورجاء في أن يتقوا فيتوبوا فينجوا من الإهلاك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ 165 ] .
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : فلما تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ، ترك الناسي للشيء ، وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً ، بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلاً .
{ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : المرتكبين المنكر .
{ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أي : شديد وزناً ومعنى { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بفعل المنكر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ 166 ] .
{ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } أي : تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } أي : صاغرين أذلاء ، بُعداء من الناس .
قال الزجاج : أمروا بأن يكونوا كذلك بقولٍ سُمع .
وقال غيره : المراد بالأمر هو الأمر التكويني ، لا القولي ، أي : التكليفي ، لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به .
وفي الكلام استعارة تخييلية ، شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف ، ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة ، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به ، من غير توقف . كذا في " العناية " .
وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد ، فعتوا بعد ذلك فمسخهم ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً لما قبلها .
تنبيهات :
الأول : قال الجشمي : تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت ، وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ ، وأنهم خالفوا أمر الله ، وهذا القدر يقتضيه الظاهر .
ومتى قيل : أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام ، هل كانت معجزة ؟
قلنا : اختلفوا فيه ، فقيل : كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيراً في يوم واحد ، ولا يظهر في سائر الأيام ، فإن كان كذلك ، فلا بد أن الله تعالى قوى دواعي الحيتان يوم السبت ، فظهروا ، وصرفهم في سائر الأيام ، فلم يظهروا ، فكانت معجزة .
وقيل : كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت ، فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم ، كما اعتاد الدواب كثيراً من الأشياء . انتهى .
وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات :
منها : أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت ، حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة ، نشبت بتلك الحبائل ، فلم تخلص منها يومها ، فإذا كان الليل ، أخذوها بعد انقضاء السبت .
ومنها : أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل ، ولكن يأكلونها في غيره من الأيام ، فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها ، لا عن صيدها ، فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت : ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف ، أو قذف ، أو بعض ما عنده من العذاب ، فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم ، وإذا هم قردة - رواه عبد الرزاق وابن جرير - وثمة روايات أخر .
وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم ، لا أبدانهم - والله أعلم - .
الثاني : اسُتدل بهذه القصة على تحريم الحِيَلِ .
قال الإمام ابن القيم في " إغاثة اللهفان " : ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله ، الحيل والمكر والخداع ، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله ، وإسقاط ما فرضه ، ومضادته في أمره ونهيه ، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه .
فإن الرأي رأيان : رأي يوافق النصوص ، وتشهد له بالصحة والإعتبار ، وهو الذي اعتبره السلف ، وعملوا به ، ورأي يخالف النصوص ، وتشهد له بالإبطال والإهدار ، فهو الذي ذموه وأنكروه .
وكذلك الحيل نوعان : نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به ، وترك ما نهى عنه ، والتخلص من الحرام ، وتخليص المحق من الظالم المانع له ، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي ، فهذا النوع محمود ، يثاب فاعله ومعلمه . ونوع يتضمن إسقاط الواجبات ، وتحليل المحرمات ، وقلب المظلوم ظالماً ، والظالم مظلوماً ، والحق باطلاً ، والباطل حقاً ، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه ، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض .
ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله .
وقال في سادسها :
إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما اختالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد ، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ، فلما وقع فيها الصيد ، أخذوه يوم الأحد .
قال بعض الأئمة : ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ، ممن يتلبس بعلم الفقه ، وهو غير فقيه ، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده ، وتعظيم حرماته ، والوقوف عندها ، ليس المتحيل على إباحة محارمه ، وإسقاط فرائضه .
ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة ، وإنما هو استحلال تأويل ، واختيال ظاهره ظاهر الإيفاء ، وباطنه باطن الاعتداء ، ولهذا - والله أعلم - مسخوا قردة ، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الْإِنْسَاْن ، وفي أوصافه شبه منهم ، وهو مخالف له في الحد والحقيقة .
فلما نسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره ، دون حقيقته ، مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم ، دون الحقيقة ، جزاء وفاقاً .
ثم روي في عاشرها عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود ، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل > .
الثالث : دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق : فرقة ارتكبت المحذور ، واحتالوا على صيد السمك يوم السبت ، كما بينا . وفرقة نهت
عن ذلك واعتزلتهم ، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ، ولكنها قالت للمنكرة : لم تنهون هؤلاء ، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم ؟
فأجابتها المنكرة : بأنا نفعل ذلك اعتذاراً إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثم نص الله على نجاة الناهين ، وهلاك الظالمين .
وقال ابن كثير : وسكت عن الساكتين ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا ، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم : هل كانوا من الهالكين ، أو من الناجين ؟ على قولين .
ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم ، ثم صار إلى نجاتهم ، لما قال له غلامه عِكْرِمَة : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه ، خالفوهم ، وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ؟ فكساه حلة .
الرابع : دل قوله تعالى : { قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } على أن النهي عن المنكر لا يسقط ، ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه ، إذ ليس من شرطه حصول الإمتثال عنه ، ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين ، والغيرة على حدود الله ، والإعتذار إليه تعالى ، وإذ شدد في تركه لكفاه فائدة .
ولما ذكر تعالى بعض مساوئ اليهود ، تأثره ببيان أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 167 ] .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي : آذن ، كتوعد بمعنى أوعد ، من الإيذان بمعنى الإعلام ، أُجري مجرى فعل القسم ، كعلم الله ، وشهد الله .
ولذلك أجيب بما يجاب به القسم ، وهو قوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } والمعنى : وإذ ختم ربك وحكم ليسلطن على اليهود : { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك ، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه ، واحتيالهم على المحارم ، وقد بعث الله تعالى بعد سليمان عليه السلام بختنصر مالك بابل ، فخرب ديارهم ، وقتل مقاتلتهم ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وجلى [ في المطبوع : وجلاً ] كثيراً منهم إلى بابل - قصبة ممكلته - وأقاموا فيها سبعين سنة ، ثم تسلطت عليهم ملوك شتى ، ولبثوا زماناً طويلاً يكابدون بلاء عنيفاً ، من تواتر تسلطت عليهم ملوك شتى ، ولبثوا زماناً طويلاً يكابدون بلاء عنيفاً ، من تواتر
الحروب على بلادهم ، إلى أن صاروا جميعاً تحت سلطة الرومان ، بعد ولادة عيسى عليه السلام بإحدى وسبعين سنة ، واستؤصلوا من أرضهم ، تفرقوا في البلاد شذر مذر ، صاغرين مقهورين .
ومن ها هنا ، استدل من استدل بأنهم لا يكون لهم دولة ولا عز ، وباتصال ذلهم .
{ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } لمن أقام على كفره ، ونبذ وصاياه : { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .
ثم أخبر تعالى عن تبددهم في الأقطار بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 168 ] .
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً } أي : فرقنا بني إسرائيل في الأرض ، وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها ، بحث لا تخلو ناحية منها منهم ، تكملة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة .
{ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } أي : من ينحط عن درجة الصلاح ، لكفر أو فسق { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } أي : النعم والنقم التي هي أمثلة جزاء الصلاح والفسق { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن أسباب السيئات إلى الحسنات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 169 ] .
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي : من بعد هؤلاء المذكورين { خَلْفٌ } أي : بدل سوء ، والمراد بهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والخلف مصدر ، ولذا يوصف به المفرد وغيره ، وقد شاع في الطالح ، ومفتوح اللام بالصالح ، وربما جاء عكسه .
{ وَرِثُواْ الْكِتَابَ } أي : التوراة من أسلافهم المختلفين ، يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي ، والتحليل والتحريم ، ولا يعملون بها كما قال :
{ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا ، وما يتمتع به منها .
وفي قوله : { هَذا الأدْنى } تخسيس وتحقير . والعرض بفتح الراء ، ما لا ثبات له ، ومنه استعار
المتكلمون العرض لمقابل الجوهر .
و الأدنى إما من الدنو ، بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها .
{ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره ، بعرض الحياة الدنيا ، ويتحكمون على الله تعالى بأنه لا يؤاخذهم بما أخذوا .
{ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال ، أي : يرجون المغفرة ، وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم ، غير تائبين ، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه .
{ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ } أي : الميثاق الوارد فيه ، { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي : فلوا صح ما تحكموا به على الله ، لم يكن لأخذ هذا الميثاق معنى .
ثم أخبر تعالى أن أخذهم ليس عن جهلهم بذلك الميثاق بقوله : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } أي : قرؤوا ما في الكتاب من الميثاق مرة بعد مرة .
{ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ } أي : من ذلك العرض الخسيس
{ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : أخذ هذا الأدنى بدل كتم الحق .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : فتعلموا ذلك ، فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب ، بالنعيم المخلد ، وقرئ بالياء ، وفي الإلتفات تشديد للتوبيخ .
ثم أثنى تعالى على تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، كما هو مكتوب فيه ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } [ 170 ] .
{ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ } أي : يتمسكون به في أمور دينهم . يقال : مسك بالشيء وتمسك به . وقرئ ( يُمْسكون ) ، من الإمساك ، وتمسكوا واستمسكوا .
{ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } من وضع الظاهر موضع المضمر ، تنبيهاً على أن الإصلاح كالمانع من التضييع ، لأن التعليق بالمشتق يفيد علة مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل : لا نضيع أجرهم لإصلاحهم .
فإن قلت : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة ، فكيف أفردت ؟
أجيب : بأن إفرادها ، إظهاراً لمزية الصلاة لكونها عماد الدين ، وفارقة بين الكفر والإيمان .
قال الجشمي : تدل الآية على وعيد المعرض عن الكتاب ، وعد من تمسك به ، تنبيهاً لنا وتحذيراً عن سلوك طريقتهم . وتدل على أن الإستغفار باللسان ، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 171 ] .
{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } أي : رفعناه : { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } أي : سحابة : { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي : ساقط عليهم ، لأن الجبل لا يثبت في الجو .
{ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم } أي : وقلنا ، أو قائلين : خذوا ما آتيناكم من أحكام التوراة : { بِقُوَّةٍ } أي : عزيمة وجد : { وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ } أي : بالعمل ولا تتركوه كالمنسي : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : مساوئ الأعمال ، أو راجين أن تنظموا في سلك المتقين . وهذه الآية كقوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّور } .
وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف : أنهم راجعوا موسى في فرائض التوراة وشرائعها ، حتى رفع الله الجبل فوق رؤوسهم ، فقال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي عز وجل ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها ، لأرمينكم بهذا فخروا سجداً ، فَرَقاً من أن يسقط عليهم . رواه النسائي وسُنَيْد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [ 172 ] .
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن ، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات ، ثم جعلت علقة ، ثم مضغة ، ثم أنشأهم بشراً سوياً حياً مكلفاً ، فجعل خلقه إياهم كذلك ، إخراجاً من أصلابهم ، لأن أصلهم خرج منها ، و
{ مِن ظُهُورِهِمْ } بدل من : { بني آَدَمَ } بدل البعض ، وقرئ
( ذرياتهم ) .
{ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } أي : أشهد كل واحدة من أولئك الذاريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها ، تقريراً لهم بربوبيته التامة .
قال الجشمي : أي : أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته ، وعجائب خلقته ، وغرائب صنعته ، من أعضاء سوية ، وحواس مدركة ، وجوارح ظاهرة ، وأعصاب وعروق وغير ذلك ، مما يعلمه من تفكر فيه ، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته ، فبالإشهاد بالأدلة ، صار كأنه أشهدهم بقوله .
وقوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } على إرادة القول ، أي : قائلاً ألست بربكم ، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق ، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم ، فينتظم استحقاق المعبودية ، ويستلزم اختصاصه به تعالى : { قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } أي : على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك ، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة صاروا كأنهم قالوا : { بلى } ، وإن لم يكن هناك قول باللسان .
فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب ، مثل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد ، وإخراجهم من ظهور آبائهم ، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب ، بحمله إياهم على الإعتراف بها بطريق الأمر ، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً .
والقصد من الآية الإحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية ، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة . قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } ، والفطرة هي معرفة ربوبيته .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ > .
والجمعاء سالمة الأذن والجدعاء مقطوعتها .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < يقول إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم > .
وروى الطبري عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها > .
قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه : { وإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بِني آَدمَ } الآية ـ رواه الإمام أحمد والنسائي ـ بدون استشهاد الحسن بالآية .
وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام ، وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم ، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم ، فغير صحيحة الإسناد .
وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك ، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية ، كما بينه الحافظ ابن كثير ، قال رحمه الله :
ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض والأسود . وقد فسر الحسن الآية بذلك .
قالوا : ومعنى أشهدهم أي : أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالاً وقالاً .
والشهادة تارة تكون بالقول ، كقوله : { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } الآية ، وتارة تكون حالا كقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر } أي : حالهم شاهداً عليهم بذلك ، لأنهم قائلون ذلك ، وكذا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } ، كما أن السؤال تارة يكون بالقال ، وتارة يكون بالحال ، كقوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه } .
قالوا : مما يدل على أن المراد هذا ، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع كما قاله من قاله ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه .
فإن قيل : إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد .
{ أَن تَقُولُواْ } أي : كراهة أن تقولوا .
{ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد .
{ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي : عن ربوبيته وتوحيده { غَافِلِينَ } أي : لم ننبه عليه .
فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر ، صاروا محجوبين عاجزين عن الإعتذار بذلك ، إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } [ 173 ] .
{ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } أي : سنوا الإشراك واخترعوه : { مِن قَبْلُ } أي : من
قبل زماننا : { وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } أي : فنشأنا على طريقتهم ، احتجاجاً بالتقليد ، وتعويلاً عليه ، فقد قطعنا العذر بما بيّنا من الآيات .
{ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } أي : أتؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك ، وأسسوا من الباطل ، أو بفعل آبائنا الذي أبطلوا تأثير والعقول ، وأقوال الرسل ؟ والإستفهام للإنكار ، أي : أنت حكيم لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء ، وقد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شعروا لنا من الباطل .
والمعنى : أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد ، هو في أصل فطرتكم ، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل ؟ والفطرة أكبر دليل ، فهي تسد باب الإعتذار بوجه ما ، لا سيما والتقليد عند قيام الدلائل ، والقدرة على الإستدلال بها ، مما لا مساغ له أصلاً .
تنبيهات :
الأول : وافق الإمام ابن كثير ، في هذا المقام أيضاً الجشمي في تفسيره ، قال : ويروي أصحاب الحديث أسلافهم من الآثار موقوفة ومرفوعة ، ويجعلون ذلك تأويلاً للآية ، وهو أنه تعالى مسح ظهر آدم ، فأخرج منه ذريته ، أمثال الذر ، فقال : ألست بربكم ؟ فقالوا : بلى طائعين ، ثم أعادهم في صلب آدم . وإن تأويل الآية على ذلك .
قال : وقد ذكر مشايخنا رحمهم الله أن ذلك فاسد ، وأن ظاهر الآية يخالف ذلك ، وذكروا في الرواية ما نذكره .
قالوا : فمما يدل على فساده وجوه :
منها : أنه لو كان حال كما ذكروا ، لذكرناه ، لأن مثل ذلك الأمر العظيم لا ينساه العاقل ، خصوصاً إذا كان أشهاداً عليه ، ليعمل به .
ومنها : ما ذكره شيخنا أبو علي ، أن ظهر آدم لا يسع هذا الجمع العظيم ، وهذا شنيع من الكلام .
ومنها : أنه ذكر أنه خلقنا من نطفة ، وكل ولد ولد من أب ومن نطفة ، فلو خلقهم ابتداء لا من شيء ، لم يصح ذلك .
ومنها : أن الجزء الواحد ، لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً ، لأن تلك البنية ، لا تحمل الحياة ، فلا بد من أن يكون مؤلفاً من أجزاء ، وحينئذ لا يصح أن يكون الجميع في ظهر آدم .
ومنها : أنه يفتح باب التناسخ ، والقول بالرجعة ، لأن لهم أن يقولوا : إذا جاز الإعادة ثمة ، لم ينكر التناسخ .
ومنها : أنه لا بد أن يكون فيه فائدة ، وفائدته أن يذكره ليجري على تلك الطريقة ، وإذا لم يذكره بطلت فائدته .
ومنها : أن الإعتراف لا يصح إلا وقد تقدم حال لهم عرفوا
ذلك ، فكيف يصح في ابتداء الخلق ، إلى غير ذلك مما لا يقبله العقل .
ثم قال : قال مشايخنا رحمهم الله : والآية ظاهرها بخلاف قولهم من وجوه :
منها : أنه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ } ولو يقل : من آدم . وقال : { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل : من ظهره ، وقال : { ذُرِّيَّتَهُمْ } ولم يقل : ذريته .
ومنها : أنه قال : { أَن تَقُولُواْ } يعني فعل ذلك ، لكيلا تقولوا : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } وأي غفلة أعظم من أن جميع العقلاء لا يذكرون شيئاً من ذلك .
ومنها : أنه قال : { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك .
وكل ذلك يبين فساد ما قالوا ، ولم يصحح أحد من مشايخنا هذه الرواية ، ولا قبلها ، بل ردها ، غير أبي بكر أحمد بن علي ، فإنه جوز ذلك من غير قطع على صحته ، غير أنه قال : ليس ذلك بتأويل الآية ، وذكر أن فائدة ذلك أن يجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة ، والإقرار بالربوبية .
كما قال : إنهم ولدوا على الفطرة ، قال : وأخرجهم كالذر ثم ألهمهم حتى قالوا بلى . انتهى ما قاله الجشمي .
الثاني : استدل بهذه الآية والأحاديث المتقدمة في معناها ، أن معرفته تعالى فطرية ضرورية ، قال تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكّ } ، و قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } .
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } .
وعن عِمْرَان بن حصين قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : < يا حصين : كم تعبد اليوم إلهاً ؟ > قال أبي : سبعة ، ستاً في الأرض ، وواحداً في السماء ؟ قال : < فأيهم تُعد لرغبتك ورهبتك ؟ > قال : الذي في السماء . - رواه الترمذي-
فالله تعالى فطر الخلق كلهم
على معرفته فطرة توحيد ، حتى من خلق مجنوناً مطبقاً مصطلماً لا يفهم شيئاً ، ما يحلف إلا به ، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس ، فطرة بالغة .
قال التقي ابن تيمية : إن الإقرار والإعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس ، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته ، حتى يحتاج إلى نظر ، يحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس ، وعليه حذاق النظار أن المعرفة تحصل بالضرورة ، وقد تحصل بالنظر لمن فسدت فطرته ، كما اعترف بذلك خلائق من أئمة المتكلمين .
وقال أيضاً : ذهب طوائف من النظار إلى أن معرفة الله واجبة ، ولا طريق لها إلا بالنظر فأوجبوا النظر على كل أحد . وهذا القول إنما اشتهر في الأمة عن المعتزلة ونحوهم .
ولهذا قال أبو جعفر السمناني وغيره : إيجاب الأشعري النظر في المعرفة بقية بقيت عليه من الإعتزال .
وذكر رحمه الله أن الذي يدل عليه كلامه الأئمة والسلف - وهو أعدل الأقوال - أن النظر يجب في حال دون حال ، وعلى شخص دون شخص ، فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال ، لا من اللوازم العامة .
والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه ، إنما يدل على أنه قد يجب ، كقوله تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض } ، وقوله : { فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين ، أُمروا بالنظر ، ليعرفوا الحق ، ويقروا به ، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء .
قال أبو حيان التوحيدي في " مقابساته " ، في المقابسة الثانية والأربعين :
قيل لأبي الخير : حدثنا عن معرفة الله ، تقدس وعلا ، ضرورة هي أم استدلال ؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافاً شديداً ، وتنابذوا عليه تنابذاً بعيداً ، ونحب أن يحصل لنا جواب ، فيفسر على حد الإختصار مع البيان .
فقال : هي ضرورة من ناحية العقل ، واستدلال من ناحية الحس ، ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول ، أو بالحس في المحسوس ، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال ، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله ، وأن يظن تارة أنها ضرورة ، فإن العقل السليم من الآفة ، البريء من العاهة ، يحث على الإعتراف بالله تقدس اسمه ، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه لكن ضرورة فيه لكن ضرورة لائقة بالعقل ، لأن ضرورة العقل ليست
كضرورة الحس ، لأن ضرورة الحس فيها جذب واختيار ، وحمل وإكراه ، وضرورة العقل لطيفة جداً ، لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويخفف .
ثم ضرب مثلاً لطيفاً ، وقال بعده : فعلى هذا ، فإن الله تقدس اسمه ، معروف عند العقل بالإضطرار ، لا ريب عنده في وجوده ، ومستدل عليه عند الحس ، لأنه يستحيل كثيراً ولا يثبت أصلاً ، فمن استدل ترقى من الجزئيات ، ومن ادعى الإضطرار انحدر من الكليات .
وكلا الطريقين قد وضح بهذا الإعتبار و كُفي مؤونة الخبط والإكثار .
فأما ما ينظر منه في الجدال ، فلا يرث منه إلا الشك والفرقة والحمية والعصبية ، وهناك للهوى ولادة وحضانة ، وللباطل استيلاء وجولة ، وللحيرة ركود وإقامة . أخذ الله بأيدينا ، وكفانا الهوى الذي يؤذينا . انتهى .

(/)


وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 174 ] .
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : مثل ما ذكرنا ، نُبين الأدلة والحجج ، ليرجعوا إلى الحق .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ 175 ] .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } أي : على قومك أو على اليهود : { نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } أي : علم الكتاب ، فلطف به حتى تعلم وفهم المعاني ، وصار عالماً بها { فَانسَلَخَ مِنْهَا } بأن نزع العلم عنه فكفر بها ، وخرج منها خروج الحية من جلدها { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي : فلحقه وأدركه وصار قريناً له حتى أضله
{ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ 176 ] .
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي : لعظمناه بالعمل بها { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } أي :
مال إلى الدنيا ورغب فيها { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } وذلك لأنه استوى في حقه إيتاء الآيات ، والتكليف بها ، والتعظيم من أجلها ، وعدم ذلك .
كالكلب يدلع لسانه بكل حال ، إن تحمل عليه ، أي : تشد عليه وتهيجه ، أو تتركه غير متعرض له بالحمل عليه ، فلهثه موجود في الحالتين جميعاً .
{ ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي : من التوراة أو غيرها { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } [ 177 ] .
{ سَاء } أي : ما مثل به { مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }
أي : حيث شبهوا بالكلاب ، إما في استواء الحالتين في النقصان وأنهم ضالون ، وعظوا أم لم يوعظوا كما قدمنا ، وإما في الخسة ، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن حيز الهدى والعلم ، وأقبل على هواه ، صار شبيهاً بالكلب ، وبئس المثل مثله .
ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : < ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه > .
{ وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } اعلم أن من السلف من ذهب إلى أن هذه الآية مثل ضربه الله لمن عرض عليه الإيمان فأبى أن يقبله وتركه ، وهو قول قتادة وعكرمة واختاره أبو مسلم ، حيث قال : قوله : { آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } أي : بيناها ، فلم يقبل ، وعرى منها .
وسواء قولك : انسلخ وعرى وتباعد ، وهذا يقع على كافر لم يؤمن بالأدلة ، وأقام على الكفر .
قال : نظيره قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم } ، وقال في حق فرعون : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } .
ومنهم من ذهب إلى أن الموصول فيها أريد به معين ، فروي عن عبد الله بن عُمَر وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم وأبي روق أنه أمية بن أبي الصلت ، فإنه كان قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ، فلما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام ، حسده ، ثم مات كافراً ، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قال فيه رسول الله : < إنه آمن شعره وكفر قلبه > يريد أن شعره كشعر المؤمنين ، وذلك أنه يوحد الله في شعره ، ويذكر دلائل توحيده .
وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب ، الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق ، كان يترهب في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق ، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم ، فمات هناك طريداً وحيداً . وهو قول سعيد بن المسيب .
وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكروه . عن الحسن والأصم .
وقيل : إنه فرعون ، والآيات آيات موسى ، كأنه لما اقتص أنبياء بني إسرائيل عاد إلى قصة فرعون وضرب المثل .
ومن الأقوال التي تناقلها المفسرون أنها نزلت في بلعام بن بعور ، ويحكون عنه قصة لم تُرو في جوامع الآثار الصحيحة عندنا ، ولا هي مطابقة لما عند أهل الكتاب .
فقد ذكر نبؤه في الفصل الثاني والعشرين والثالث والعشرين من سفر العدد ، من تاريخ التوراة ، بغير ما يرويه المفسرون عنه ، ثم رأيت الجشمي لم يصحح ذلك ، فحمدت المولى على الموافقة . وعبارته :
وعن مجاهد قال : هو نبي يقال له بلعم ، رشاه قومه فكفر . وهذا لا يجوز ، لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر ، لأن ذلك ينفر الخلق عن الأنبياء ، والقبول منهم ، ويحقرهم في النفوس ، ولأنهم حجج الله على خلقه اصطفاهم .
فالأقرب أنه لا يصح عن مجاهد . انتهى .
وهو كذلك لأن من قرأ نبأه السفر المتقدم ، رأى من ثباته ، وعدم موافقته لبالاق ، ملك مؤاب ، على ما أراد منه - ما يبرئه عن ذلك .
تنبيه :
قال الجشمي : إن قيل : كيف تتصل الآية بما قبلها ؟
قلنا : على القول بأنه عنى بها فرعون فقد اتصلت قصته بقصة بني إسرائيل .
وقيل لما نهى عن تقليد الآباء في الدين ، بين في هذه الآية حال علماء السوء ، الذين يختارون الدنيا على الآخرة ، نهياً عن تقليدهم واتباعهم ، كما نهى عن تقليد الآباء .
وقيل : لما تقدم ذكر أخذ الميثاق ، بين حال من آتاه الله الآيات فانسلخ منها ولم يتبعها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 178 ]
{ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال أبو السعود : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ على هؤلاء الضالين الذين مثلهم كمثله ، ليتفكروا فيه ، ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ، ويهتدوا إلى الحق عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهة الله عز وجل ، وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الإهتداء ، من غير تأثير لها فيه ، سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله ، حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه ، كسائر أفعال العباد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ 179 ] .
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي : خلقنا { لِجَهَنَّمَ } أي : لدخولها والتعذيب بها { كَثِيراً مِّنَ الْجِنِ وَالإِنسِ } وهم الكفار من الفريقين ، الموصوفون بقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } أي :
آيات الله الهادية إلى الكمالات { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } أي : دلائل وحدته ، بصَرَ اعتبار { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ ، يعني أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سبباً للهداية ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّه }
{ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ } أي : السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها ، إلا في الذي يقيتها ، كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء } أي : ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان ، كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها ، لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه ما يقول .
وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : الأنعام ، إذ ليس للأنعام قوة تحصيل تلك الكمالات ودفع تلك النقائص ، وهم مع ما لهم من تلك القوة قد خلوا عن الكمالات ، وعن دفع أضدادها ، فكانوا أردأ حالاً منها ، لنقصهم مع وجود قوة الكمال فيهم . وأيضاً : الأنعام تبصر
منافعها ومضارها ، فتلزم بعض ما تبصره ، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند ، فيقدم على النار .
وأيضاً : الأنعام قد تستجيب لراعيها ، وإن لم تفقه كلامه ، بخلاف هؤلاء ، وأيضاً : إنها تفعل ما خلقت له ، إما بطبعها ، وإما بتسخيرها ، بخلاف هؤلاء ، فإنهم خلقوا ليعبدوا الله ، ويوحدوه ، فكفروا به وأشركوا .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } أي : عن تلك الكمالات والنقائص ، ليهتموا لتحصيلها ودفعها ، اهتمامهم لجر المنافع الدنيوية ، ودفع مضارها .
تنبيه :
قال أبو السعود : المراد بهؤلاء الذي ذُرئوا لجهنم ، الذين
حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ، لكن لا بطريق الجبر ، من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك ، بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبداً ، بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر .
فبهذا الإعتبار جعل خلقهم مغياً بها ، كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة ، وتمكنهم التام منها ، جعل خلقهم مغياً بها . كما نطق به قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 180 ] .
{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } روى مقاتل أن رجلاً دعا الله في صلاته ، ودعا الرحمن ، فقال بعض المشركين : إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحداً ، فما بال هذا يدعو اثنين ؟ فنزلت الآية .
و الحسنى تأنيث الأحسن ، والمعنى : لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها ، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها : { فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } أي : يميلون عن الإقرار بها ويجحدونها ، ويعدلون عنها كفراً بها .
كقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } أي : زادهم ذكر الرحمن نفوراً ، ولذا قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ } وقوله تعالى : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني في الآخرة ، من جحدهم إياها ونفورهم عن الإيمان بها .
تنبيهات :
الأول : قال السيد محمد بن المرتضى اليماني في " إيثار الحق " : مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم ، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى ، من تمام التوحيد ، الذي لا بد منه ، لأن
كمال الذات بأسمائها الحسنى ، ونعوتها الشريفة ، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم .
ولذلك عد مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها ، من أعظم مكائدهم للإسلام ، فإنهم عكسوا المعلوم عقلاً وسمعاً ، فذموا الأمر المحمود ومدحوا الأمر المذموم ، القائم مقام النفي والجحد المحض ، وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة .
قال الله جل جلاله : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } الآية .
وقال : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن } الآية ، فما كان منها منصوصاً في كتاب الله ، وجب الإيمان به على الجميع ، والإنكار على من جحده ، أو زعم أن ظاهره اسم ذم لله سبحانه ، وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته ، وما نزل عن هذه المرتبة ، أو كان مختلفاً في صحته ، لم يصح استعماله ، فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمى به . انتهى .
الثاني : روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن لله تسعة وتسعين اسماً ، من حفظها دخل الجنة ، والله وتر يحب الوتر > ، وفي رواية : < من أحصاها > ، ثم قال : ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث . ورواه ابن ماجة أيضاً . فسرد الأسماء بزيادة ونقصان .
قال الحافظ ابن كثير : والذي عول عليه جماعة من الحفاظ ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه ، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير بن محمد بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك ، أي : أنهم جمعوها من القرآن ، كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي . انتهى . وقال النووي : اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى . وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين ، وإنما المقصود من الحديث الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها ، لا الإخبار بحصرها . ولهذا جاء في الحديث الآخر : < أسألك بكل اسم سميت به نفسك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك > . وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم ، أن لله ألف اسم . انتهى .
وقال السيد اليماني في " إيثار الحق " : عادة المتكلمين أن يقتصروا هنا على اليسير من الأسماء ، لا ينبغي ترك شيء منها ، ولا اختصاره ! فإن ذلك كالإختصار للقرآن الكريم ، ولو كان منها شيء لا ينبغي اعتقاده ولا ذكره ، ما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم .
وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها ، مع الإختلاف الشهير في صحته . وحسبك أن البخاري ومسلماً تركا تخريجه مع رواية أوله . واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه ، ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضاً لفضل الله العظيم في وعده ، من أحصاها بالجنة كما اتفق على صحته .
وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه إسم غير تلك الأسماء .
فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى ، بطل اليقين بذلك ، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله ، وما اتفق على صحته بعد ذلك ، وهو النادر وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص . أما الضرورة ، فإن في كتاب الله أكثر من ذلك ، وأما النص ، فحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما قال عبد أصابه همّ أو حَزْن : اللهم إني عبد وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكان حزنه فرحاً > - رواه أحمد ، وأبو عوانة في " صحيحه " وأبو يعلى والبزارـ .
ثم أخذ اليمانيّ يذكر ما وجده من الأسماء منصوصاً ، غير معرَّج على التقليد . فانظره في " إيثار الحق " فإنه جوّد البحث بمنزع شريف .
الثالث : قال بعض مفسري الزيدية في قوله تعالى : { فادعوه بها } : المعنى سموه بها ، وفي ذلك أمر بدعائه بالأسماء الحسنى ، وهو أمر ندب إذا حمل على التلاوة بالتسعة والتسعين ، وحث على ذلك في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ، وإن أريد بالتسمية بما فيه مدح ، دون ما فيه إلحاد ، فذلك وجوب .
الرابع : قال السيد اليماني في " إيثار الحق " : هل يجوز تسمية محامد الرب تعالى وأسمائه الحسنى صفات له سبحانه وتعالى ؟
قال الله : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } ، وذكر أهل التفسير واللغة أنه الوصف الأعلى ، وكذلك جاء في كلام علي عليه السلام أنه قال : فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته - ذكره السيد أبو طالب في " الأمالي " بإسناده ، والسيد الرضي في " النهج " كلاهما في جوابه عليه السلام ، على الذي قال له : صف لنا نار ربنا - .
وهذا لا يعارض قوله عز وجل : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون } ، لأنه لم ينزه ذاته عن الوصف مطلقاً ، حتى يعم الوصف الحسن ، وإنما ينزه عن وصفهم له بالباطل القبيح . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ 181 ] .
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } أي : للجنة ، لأنه في مقابلة : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } - قاله النسفي - .
{ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } أي : يدعون إليه { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أي :
يعملون ويقضون ، وقد جاء في الآثار ، أن المراد بالأمة ، هذه الأمة المحمدية ، وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ الآية يقول : هذه لكم ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها .
وعن الربيع بن أنس - في هذه الآية - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن من أمتي قوماً على الحق ، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل > . وفي الصحيحين عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى تقوم الساعة > . وفي رواية : < حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك > .
قال الشهاب : استدل بالآية على أن الإجماع حجة في كل عصر ، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى قيام الساعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 182 ] .
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي :
سنأخذهم بالعذاب من طريق لا يعلمونها ، أو نفتح لهم من الأحوال ما يلائم أهويتهم ، ثم نهلكهم .
وأصل الإستدارج : أن يتدرج إلى الشيء قليلاً قليلاً ، تشبيهاً بمن يرقى درجة درجة ، حتى ينتهي إلى العلو .
وقيل : أصله من الدرج الذي يطوى فكأنه منزلة بعد منزلة ، كما يطوى الدرج .
وقيل : لأنه من الدرجة فيكون ، لأنه ينحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى حال الهلاك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ 183 ] .
{ وَأُمْلِي لَهُمْ } أي : أمهلهم ليزدادوا إثماً { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : قوي شديد .
والمعنيون بهذا الخطاب كفار مكة .
قال في " التنوير " : هم أبو جهل وأصحابه المستهزئون ، أخذهم الله بعذابه في يوم أحد ، وأهلك كل واحد بهلاك غير هلاك صاحبه . انتهى .
ويدل قوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 184 ] .
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ } أي : كما يختلقون . والإستفهام ، للإنكار والتوبيخ ، أي : أو لم يتفكروا في أنه ليس بصاحبهم الذي هو أعظم الأمة الهادية بالحق ، شيء من جنة .
وجوز أن يكون الكلام تمّ عند قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } إنكاراً لعدم تفكرهم في شأنه ، الموقف على صدقه ، وصحة نبوته . ثم ابتدأ نفي الجنة عنه تعجيباً وتبكيتاً .
و : { الجِنَّةُ } مصدر ، كالجلسة ، بمعنى الجنون ، وليس المراد به الجن ، كما في قوله تعالى : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } ، لأنه يحوج إلى تقدير
مضاف ، أي : مسه جنة أو تخبطها .
والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم للإيذان بأن طول مصاحبتهم له ، مما يطلعهم على نزاهته عما ذكره ، ففيه تأكيد للنكير ، وتشديد له : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ } أي : رسول مخوف : { مُّبِينٌ } أي : موضح إنذاره ، مبالغة في الإعذار .
ولما نعى عليهم تفكرهم في شأنه صلى الله عليه وسلم ، أنكر إخلالهم في التأمل بالآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس ، الشاهدة بصحة الآيات المنزلة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ 185 ] .
{ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ } أي : نظر استدلال : { فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ } من الشمس والقمر والنجوم والسحاب .
والملكوت : الملك العظيم : { وَالأَرْضِ } أي : وفي ملكوت الأرض ، من البحار والجبال والدواب والشجر .
{ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ } أي : وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء ، من أجناس لا يحصرها العدد ، ولا يحيط بها الوصف : { وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } عطف على ملكوت .
أي : في احتمال أن يهلكوا عما قريب ، فيفارقوا الدنيا ، وهم على أتعس الأحوال .
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } أي : القرآن : { يُؤْمِنُونَ } أي : إذا لم يؤمنوا به ، وهو المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية ، وفي هذا قطع لاحتمال إيمانهم رأساً ، ونفي له بالكلية .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على وجوب النظر في وجوب النظر في الأدلة ، وأنها طريق المعرفة . وتدل على أنه لا شيء ينظر فيه ، إلا ويعرف الله تعالى به .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 186 ] .
{ مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : في كفرهم يتحيرون ، يعني أن من كتب عليه الضلالة ، فلا يهديه أحد ، ولا يغنيه النظر ، ولا الإنذار ، كما قال تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 187 ] .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } أي : عن قيامها وحينها { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } أي : متى إرساؤها أو وقت إرسائها ، أي : إثباتها وإقرارها .
والرسو يستعمل في الأجسام الثقلية ، وإطلاقه على المعاني ، تشبيهاً لها بالأجسام .
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } أي :
لا يظهرها في وقتها إلا هو .
{ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : عظمت وكبرت على أهلها لهولها وما فيها من المحاسبة والمجازاة ، أو ثقل علم وقتها على أهلهما ، أو عظم وصفها على أهل السموات والأرض ، من انتشار النجوم ، وتكوير الشمس ، وتسيير الجبال : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي : فجأة على حين غفلة منكم .
{ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } أي : عالم بها : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أن علمها عند الله ، لم يؤته أحداً من خلقه .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : لم كرر : { يَسْأَلُونَكَ } و : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ } ؟ قلت : للتأكيد ، وما جاء به من زيادة قوله : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم ، لا يُخلون المكرر من فائدة زائدة . انتهى .
وقال الناصر في " الإنتصاف " : وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلى في الكتاب العزيز ، وهو أجل من أن يشارك فيها ، وذلك أن المعهود في أمثال هذا التكرير ، أن الكلام إذا بُني على مقصد ، واعتراض في أثنائه عارض ، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول ، وقد بعد عهده ، طُرِّي بذكر المقصد الأول ، لتتصل نهايته ببدايته .
وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال ، وسيأتي ، وهذا منها .
فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } إلى قوله : { بَغْتَةً } أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو المضمن في قوله : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } وهو شديد التعلق بالسؤال ، وقد بعد عهده ، فَطُرِّيَ ذكره تطرية عامة ، ولا نراه أبداً يطرى إلا بنوع من الإجمال ، كالتذكرة للأول ، مستغنى عن تفصيله بما تقدم .
فمن ثم قيل : { يَسْأَلُونَكَ }
ولم يذكر المسؤول عنه ، وهوالساعة اكتفاء بما تقدم فلما كرر السؤال لهذا الفائدة كرر الجواب أيضاً مجملاً ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ } .
ويلاحظ هذه في تلخيص الكلام بعد بسطه . ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد ، تطرية للذكر ، قوله :
~عجِّلْ لنا هذا وألحقنا بذا ال شحم إن قد مللنا بَجلْ
أي : فقط ، فذكر الألف واللام ، خاتمة للأول من الرجزين ، ثم لما استفتح الرجز الثاني ، استبعد العهد بالأولى ، فطري ذكرها ، وأبقى الأول في مكانها .
ومن ثم استدل ابن جني على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء ، فهو بيت كامل ، وليس بنصف ، كما ذهب إليه أبو الحسن .
قال : ولو كان بيتاً واحداً ، لم يكن عهد الأولى متباعداً ، فلم يكن محتاجاً إلى تكريرها ، ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات ، وجعل آخر المصراع الأول أل ، لم يعدها أول المصراع الثاني ، لأنها بيت واحد ، فلم يرعهدها بعيداً ، وذلك قول عبيد بن الأبرص الأسدي :
~يا خليليّ ارْبَعا واستخبرا ال منزل الدَّارس عن أهل الحلالِ
~مثل سحق البُردِ عفّى بَعْدَكَ ال قَطْرُ مَغْنَاهُ وتَأْوِيبُ الشمالِ
إربعا : أقيما ، الحلال : اسم امرأة ، سحق البرد : يريد مثل البرد المسحوق أي : البالي ، وعفى بالتشديد : محا ، القطر : المطر ، مغناه : هو الموضع الذي كانوا يسكنونه ، والشمال - بالفتح والكسر - من الرياح ، ما مهبه من مطلع الشمس وبنات نعش ، وهي لا تكاد تهب ليلاً ، وتأويبها : هبوبها النهار كله .
ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتاً . فانظر هذه النكته ، كيف بالغت العرب في رعايتها ، حتى عدت القريب بعيداً ، والمتقاصر مديداً ، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان ، في صناعتي العربية والبيان ، والله المستعان . انتهى .
والقصيدة بتمامها في " مختارات ابن الشجري " بالصفحة رقم 37 .
ثم أمره تعالى أن يخبر بعبوديته الكاملة ، بما ينبئ عن عجزه عن علم الساعة بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 188 ] .
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي : لا أقدر لأجل نفسي ، على جلب نفعٍ ما
ولا على دفع ضر ما : { إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } أي : تمليكه لي من ذلك بأن يلهمنيه ، فيمكنني منه ، ويقدرني عليه . وهذا كقوله تعالى في سورة يونس : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } أي : النفع بترتيب أسبابه ، فكنت مثلاً أعد للسنة المجدبة من المخصبة ، ولوقت الغلاء من الرخص { وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } أي : الضر ، للتوقي عن أسبابه : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي : عبد أرسلت نذيراً وبشيراً ، وما من شأني أني أعلم الغيب .
وقوله تعالى : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يجوز أن يتعلق بـ : { بَشِيرٌ } وحده ، ومتعلق النذير محذوف ، أي : للكافرين ، وحذف للعلم به .
وقال الشهاب : ليطهر اللسان منهم .
ثم بيّن تعالى عظم جناية الكفرة في جراءتهم على الإشراك ، بتذكير مبادئ أحوالهم المنافية له ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ 189 ] .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهي نفس آدم عليه السلام { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : من جنسها ، كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } .
{ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أي : ليطمئن إليها ويميل ، ولا ينفر ، لأن الجنس إلى الجنس أميل ، وبه آنس ، وإذا كانت بعضاً منه كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الْإِنْسَاْن إلى ولده ، ويحبه محبة لكونه بضعة منه .
وذُكّر : { لِيَسْكُنَ } بعد ما أنث في قوله : { وَاحِدةٍ } و : { مِنْها زَوْجَها } ذهاباً إلى معنى النفس ، ليبين أن المراد بها آدم ، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها ، فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى . أفاده الزمخشري .
{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي : وطئها . والتغشي كناية عن الجماع ، وكذلك الغشيان والإتيان .
{ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } أي : خف عليها ، وذلك أول الحمل ، لا تجد المرأة له ألماً ، إنما هي النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة
{ فَمَرَّتْ بِهِ } أي : فاستمرت به خفيفة ، وقامت وقعدت .
{ فَلَمَّا أَثْقَلَت } أي : صارت ذات ثقل ، لكبر الولد في بطنها
{ دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } أي : ولداً سوياً قد صلح بدنه ، أو
غلاماً : { لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : على نعمائك التي منها هذه النعمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 190 ] .
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً } أي : كما طلبا : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } أي : أخَلا بالشكر في مقابلة نعمة الولد الصالح أسوأ إخلال ، إذا استبدلوه بالإشراك . وقوله تعالى : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه فيه معنى التعجب .
تنبيه :
هذه الآية سيقت توبيخاً للمشركين في جنايتهم ، ونقضهم ميثاقهم ، في جريهم على خلاف ما يعاهدون الله عليه ، وذلك أنه تعالى ذكر ما أنعم عليهم من الخلق من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ، ثم إنشائه إياهم بعد الغشيان ، متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود ، ومن الضعف إلى القوة ، ثم بين إعطاءهم المواثيق إن آتاهم ما يطلبون وولد لهم ما يشتهون ، ليكونن من الشاكرين ، ثم أخر عن غدرهم وكفرانهم هذه النعم ، التي امتن سبحانه بها عليهم ، ونقضهم ميثاقهم في إفراده الشكر ، حيث أشركوا معه غيره في ذلك .
ونظير هذه الآية ، في الإخبار عن تبديل المشركين نعمة الله كفراً ، قوله تعالى في سورة يونس : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ، وقد ذكر المفسرون ههنا أحاديث وآثاراً تفهم أن المراد بهذا السياق آدم وحواء . ولا حاجة بنا إلى روايتها لأنها واهية الإسناد معلولة ، كما بينه الحافظ ابن كثير في تفسيره .
وتقبُّل ثُلةٍ من السلف لها وتلقيها ، لا يجدي في صحتها شيئاً ، إذا أصلها مأخوذ من أقاصيص مسلمة أهل الكتاب ، كما برهن عليه ابن كثير .
وتهويل بعضهم بأنها مقتبسة من مشكاة النبوة ، إذا أخرجها فلان وفلان ، من تنميق الألفاظ لتمزيق المعاني ، فإن المشكاة النبوية أجلُّ من أن يقتبس منها إلا كل ما عرفت جودته .
إذا علمت ذلك ، تبين لك أن من استند إلى تلك الأحاديث والآثار ، فذهب إلى أن المراد بالنفس الواحدة وقرينتها ، آدم وحواء ، ثم أورد على نفسه أنهما بريئان من
الشرك ، وأن ظاهر النظم يقتضيه ، ثم أخذ يؤوله ، إما بتقدير مضاف ، أي : جعل أولادهما له شركاء ، فيما آتى أولادهما ، وإما بأن المراد جعل أحدهما وهو حواء من إطلاق المثنى وإرادة المفرد ، وإما بغير ذلك ، فإنه ذهب في غير مذهب .
وقد قرر ما ارتضيناه في معنى الآية غير واحد .
قال الحسن البصري ، فيما روى عنه ابن جرير : إن الآية عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده .
وفي رواية عنه : كان هذا في بعض الملل ، ولم يكن بآدم .
قال ابن كثير : والأسانيد إلى الحسن ، في تفسير هذا صحيحة ، وهو من أحسن التفاسير ، وأولى ما حملت عليه الآية .
قال : ولو كان الحديث المرفوع ، في أنها في آدم وحواء ، محفوظاً عنده من رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما عدل عنه هو ولا غيره ، لا سيما مع تقواه وورعه .
فهذا يدل على أنه - إن صح - موقوف على الصحابي ، لا مرفوع . انتهى .
وقال القفال : إنه تعالى ذكر هذا القصة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان هذا الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك . وتقرير هذا الكلام ، كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الْإِنْسَاْنية ، فلما تغشى الزوج زوجته ، وظهر الحمل ، دعا الزوج والزوجة ربهما ، لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك ، فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب ، كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان ، كما هو قول عَبْدة الأصنام .
وقال الناصر في " الإنتصاف " - متعقباً على الزمخشري - : الأسلم والأقرب ـ والله أعلم ـ أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ، لا يقصد فيه إلى معين ، وكأن المعنى - والله أعلم - خلقكم جنساً واحداً ، وجعل أزواجكم منكم أيضاً ، لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر ، الذي هو الأنثى ، جرى من هذين الجنسين كيت وكيت ، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس ، وإن كان فيهم الموحدون ، على حد بنو فلان قتلوا قتيلاً ، يعني من نسبة ما صدر من البعض إلى الكل .
فائدة :
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذا الآية أنه تعالى لما قال : { فَلَمَّا أثْقَلت }
جعل حال الإثقال يخالف ما قبله ، وأنه يختص فيه الدعاء لأجل أنه حال الخوف .
وقد ذهب الهادي إلى أن الحامل إذا أتى عليها من الحمل ستة أشهر ، كانت تصرفاتها كتصرفات المريض ، تنفذ من الثلث . وهو قول مالك والليث ، واحتجا بالآية ، لأنه تعالى فرق بين حال الخفة والإثقال .
وقال غيرهما : تصرفها من الجميع ، ما لم يأخذها الطلق . قلنا : إنه يجوز عليها بعد الستة ، وضع الحمل في كل وقت . انتهى .
ثم قال : ودلت الآية على أنه يجوز الدعاء لطلب أمور الدنيا ، وإن حصول الولد منة يجب الشكر عليها . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ 191 ] .
{ أَيُشْرِكُونَ } أي : بخالق الأشياء تعالى وتقدس { مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } أي : لا يقدر على خلق شيء ما ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا } أي : ومن هذه صفته كيف يعبد ؟ ومن حق المعبود أن يكون خالقاً لعابده لا محالة .
{ وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : بل هم مخلوقون مصنوعون ، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } [ 192 ] .
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } أي : لعبدتهم إذا حزبهم أمر { نَصْراً } أي : بجلب نفع ، أو دفع ضر { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } إذا اعترتهم حادثة من الحوادث ، كما قال تعالى : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } ، وكما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه ، ويهينها غاية الإهانة .
وقد حكى ابن كثير أن معاذ بن عَمْرو بن الجموح ، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكانا شابين ، فكانا يعدوان في الليل على
أصنام المشركين ، يكسرانها ويتلفانها ، ويتخذانها حطباً للأرامل ، ليعتبر قومها .
وكان لعمرو بن الجموح - وكان سيداً في قومه - صنم يعبده ويطيبه ، فكانا يجيئان في الليل ، فينكسانه على رأسه ، ويلطخانه بالعذرة ، فيجيء عَمْرو بن الجموح ، فيرى ما صنع به ، فيغسله ويطيبه ، ويضع عنده سيفاً ، ويقول له : انتصر ، ثم يعودان لمثل ذلك ، ويعود إلى صنيعه أيضاً . حتى أخذاه مرة ، فقرناه مع كلب ميت ، ودلياه في حبل في بئر هناك ، فلما جاء عَمْرو بن الجموح ، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل . وقال :
~تالله لو كنت إلهاً مستدن لم تك والكلب جميعاً في قرن
مستدن : ذليل مستعبد . والقرن : الحبل .
ثم أسلم فحسن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيداً ، رضي الله عنه وأرضاه .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين ، لأن قوله : { أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ } الآية - حجاج ، وتدل على أن المستحق للعبادة الذي يخلق وينعم ويقدر على النفع والضر هو الله تعالى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } [ 193 ] .
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ } أيها المشركون : { إِلَى الْهُدَى } أي : إلى ما فيه رشاد : { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } أي : إلى مرادكم وطلبتكم : { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها ، كما قال إبراهيم : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } .
وجوز في الآية أن يكون المعنى : وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم وتطلبوا منهم ، كما تطلبون من الله ، الخير والشر ، لا يجيبوكم كما يجيبكم الله ، لقوله تعالى بعد : { فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 194 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ } أي : تبعدونهم وتسمعونهم آلهة : { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }
أي : مخلوقات مماثلة لكم { فَادْعُوهُمْ } أمر تعجيز وتبكيت . أي : فادعوهم لجلب نفع ، أو كشف ضر : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في زعمكم أنها آلهة .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ 195 ] .
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } تبكيت إثر تبكيت ، مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي ، من عدم الإستجابة ، ببيان فقدان آلتها بالكلية ، فإن الإستجابة من الهياكل الجسمانية ، إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة ، ومدركة ، وما ليس له شيء من ذلك ، فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة ، كأنه قيل ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الإستجابة ، حتى يمكن استجابتهم لكم ؟
وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حدة ، تكريراً للتبكيت ، وتثنية للتقريع ، وإشعاراً بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها ، كاف في الدلالة على استحالة الإستجابة . أفاده أبو السعود .
ويقال : إنه لما جعلهم مثلهم ، كرّ على المثلية بالنقض بما ذكر ، لأنهم أدون منهم ، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق ، فكيف من هو دونه .
تنبيه :
قال الرازي : تعلق بعض أغمار المشبهة وجهَّالهم بهذه الآية ، في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى ، فقالوا : إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء ، لهذا الأصنام ، دليلاً على عدم إلهيتها ، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى ، لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية ، وذلك باطل ، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى . . . الخ .
وأقول : الظاهر أن ملحظ مثبتيها هو أن عدمها يدل على النقص ، وهو محال على المولى تعالى ، إذا له كل صفة كمال ، ومعلوم أن في إثباتها له تعالى من آيات أخر ، وأحاديث مشهورة ، ما يغني عن تكلف استثباتها له تعالى من مثل هذه الآية ، ولكن على المنهاج السلفي ، وهو إثبات بلا تكييف ، إذ من كيف فقد مثل ، ومن نفى فقد عطّل . فالمشبهة كالمعطلة ، والحق وراءهم ، والمسألة شهيرة .
ولما بين تعالى أن شركاءهم عاجزون ، أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يناصبهم
للمحاجة ، يكرر عليهم التبكيت ، فقال سبحانه : { قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ } أي : استنصروا بها علي : { ثُمَّ كِيدُونِ } أي : اعملوا أنتم وهم في هلاكي من حيث لا أشعر به ، حتى يمكنني دفعه .
{ فَلاَ تُنظِرُونِ } أي : عجلوا في كيدي ، فلا تمهلوني مدة أطلع فيها على كيدكم ، فإني لا أبالي بكم .
وقد أثبت نافع وأبو عَمْرو الياء في ( كِيدُونِي ) ، والباقون حذفوها . ومثله في قوله : { ولا تُنظِروُنِ } { ثُمَّ لا تُنِظرُرنَ } ، قال الواحدي : والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي ، وقد حذفوا هذه الياءات إذا كانت في القوافي ، كقوله :
~يلمسُ الأحلاسَ في منزلِهِ بيديه كاليَهُوديّ المُصَلّ
وأصلها المصلِّى .
والذين أثبتوها ، فلأن الأصل هو الإثبات .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [ 196 ] .
{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ } تعليل لعدم المبالاة ، المنفهم من السوق انفهاماً جلياً . أي : الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الذي أنزل الكتاب ، المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة .
قال أبو السعود : ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب ، للإشعار بدليل الولاية ، والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة ، كأنه قيل : لا أبالي بكم وبشركائكم ، لأن وليي هو الله الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري ، وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم ، فضلاً عن نصركم .
وقوله تعالى : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } تذييل مقرر لما قبله . أي : ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده ، ويصرهم ولا يخذلهم .
وفيه تعريض ، لمن فقد الصلاح ، بالخذلان والمحق .
قال الحسن البصري : إن المشركين كانوا يخوفون الرسول الله بآلهتهم ، فقال تعالى : { ادْعُوا شُرَكَاءِكُمْ } الآية ، ليظهر لكم أنه لا قدرة له على إيصال المضار إلي ، بوجه من الوجوه .
وهذا كما قال هود عليه السلام ، لما قال قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم }

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } [ 197 ] .
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } أي : لا يتولون أحداً ، لأنهم لا يستطيعون نصركم { وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } أي : إذا قصد إضرارهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ 198 ] .
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ } إذ ليس لهم سمع ، وإن صوّرت لهم الآذان ، كما أنه لا بصر لهم ، وإن صوّرت لهم الأعين . كما قال : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } إذ صورت لهم الأعين { وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } لأنهم جماد عوملوا معاملة من يعقل ، فعبر عنهم بضميره ، لأنهم على صور مصورة كالْإِنْسَاْن ، وهذا من تمام التعليل ، لعدم مبالاته بهم ، فلا تكرار .
وقال السدي : المراد بهذا المشركون ، وروي عن مجاهد نحوه ، أي : وإن كانوا ينظرون إليك ، فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية .
قال ابن كثير : والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة ، أي : تفصياً من التفكيك ، لأن المحدث عنهم الأصنام .
تنبيه :
من غرائب استنباط المعتزلة قولهم في هذه الآية - والعبارة للجشمي - ما مثاله : تدل الآية على أن النظر غير الرؤية ، وأنه لا يقتضي الرؤية ، لذلك أثبتهم ناظرين غير رائين .
قال : ومثله قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره . ويقسمون النظر إلى وجوه ، ولا تنقسم الرؤية .
قال : فبطل قول من يقول : إن قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } يقتضي الرؤية . انتهى .
ولا يخفى أن الأصل في إطلاق النظر هو الرؤية والإبصار ، ولذلك تتعاقب في هذا المعنى ، وتترادف كثيراً ، وانفكاكه عن الرؤية في هذا الآية لقرينة كون المحدث عنهم جماداً ، ولا قرينة في الآية لتقاس على ما هنا ، دع ما صح الأخبار في وقوعها ، مما هو بيان لها - فافهم -
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح عن المشركين إذا جادلوه في شركائهم بعد هذا البيان ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [ 199 ] .
{ خُذِ الْعَفْوَ } أي : مكان الغضب ، ليكونوا أقبل للنصيحة { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } أي : بالجميل المستحسن من الأفعال ، فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير .
ولما كان الناصح لغيره ، كالمعرض لعدوانهم ، ثلث بما يحتاج إليه في ذلك فقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } أي : المصرِّين على جهلهم ، فلا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ، لا تمارهم ، واحلم عنهم ، وأغْضِ على ما يسوؤك منهم .
تنبيهان :
الأول : قال بعض العلماء : إن سر الشريعة في الطباع والعادات ، هو تأييد المستحسن ومحو المستقبح . وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر } فإن المعروف ما عرفته الطباع السليمة واستحسنته ، والمنكر ما أنكرته واستقبحته ، ذلك لأن غاية الشريعة راحة الخلق على حال ونظام معقولين ، فلا يصح المحكم بتوحيد العادات في كل البلاد .
الثاني : روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها .
وروى البخاري عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب : هي يا ابن الخطاب ! فو الله ، ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل ، فغضب عمر ، حتى همّ أن يوقع به . فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين ! إن الله تعالى قال لنبيه
صلى الله عليه وسلم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ، وإن هذا من الجاهلين .
قال ابن عباس : والله ! ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 200 ] .
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ } أي : يصيبنك من الشيطان وسوسة تثير غضبك على جهلهم وإساءتهم ، وتحملك على خلاف ما أمر فيه من العفو والأمر بالمعروف : { فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ } أي : استجر به ، وادعه في دفعه : { إِنَّهُ سَمِيعٌ } أي : لدعائك : { عَلِيمٌ } أي : باستعاذتك .
قال الزمخشري : النزغ والنسغ : الغرز والنخس ، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي . أي : فشبهت وسوسته وإغراؤه بالغرز ، وهو إدخال الإبرة وطرف العصا وما يشبهه في الجلد ، كما يفعله السائق لحث الداوب .
وجعل النزغ نازغاً مجاز بالإسناد ، لجعل المصدر فاعلاً ، كجد جده .
قال أبو السعود : وفي الأمر بالإستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره ، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالإلتجاء إلى حرم عصمته عز وجل .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ 201 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ } أي : أصابهم : { طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ } أي : وسوسة وخاطر منه : { تَذَكَّرُواْ } أي : الإستعاذة به تعالى والتوكل عليه : { فَإِذَا هُم } أي : بسبب ذلك التذكر : { مُّبْصِرُونَ } أي : مواقع الخطأ ، ومكائد الشيطان ، فينتهون عنها ولا يتبعونه .
وقرئ ( طيف ) على أنه مصدر ، من قولهم طاف به الخيال يطيف طيفاً ، أو تخفيف طيّف كليّن وهيّن .
وهذه الآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الإستعاذة بالله تعالى عند نزغ الشيطان ، وأن المتقين هذه عادتهم . وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [ 202 ] .
{ وَإِخْوَانُهُمْ } يعني وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس . كقوله : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } وهم الذين لم يتقوا ، فلم يتأت لهم التذكر ، ولا ينفع فيهم الإستعاذة لأن الشياطين : { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } أي : يكونون مدداً لهم بتكثير الشبه والتزيين والتسهيل في الضلال ، يعني تساعدهم الشياطين على المعاصي ، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم .
{ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } أي : لا يمسكون عن إغوائهم ، حتى يصروا ولا يرجعوا .
يعني أن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ، ولا يسأمون من إمدادهم من الشر ، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية .
وجوز عود الضمير للإخوان ، أي : لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون ، وإن بولغ عليهم في الوعظ بآيات الله ، وإقامة الدلائل ، ورفع الشبه ، وغير ذلك .
وجوز أيضاً أن يراد أيضاً بالإخوان الشياطين ، ويرجع الضمير إلى : { الْجَاهِلينَ } أي : وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين ، يمدون الجاهلين في الغيّ .
قال الزمخشري : والأول أوجه ، لأن إخوانهم في مقابلة : { الَّذِينَ اتَّقَوْاْ } .
ثم بيّن تعالى ، من أنواع إغوائهم ، لجاجهم في طلب آيات معينة ، وتعنتهم في اقتراحها ، مع أن لديهم المعجزة العظمى ، والخارقة الكبرى ، وهي القرآن العظيم ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْم
يُؤْمِنُونَ } [ 203 ] .
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ } أي : مما اقترحوه : { قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا } أي : هلا تكلفتها وأنشأتها من عندك { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أي : فلست بمفتعل للآيات ، ولا أتقدم إليه تعالى في شيء منها .
ثم أرشدهم تعالى إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات ، وأبين الدلالات ، وأصدق الحجج والبينات ، فقال سبحانه :
{ هَذَا } أي : القرآن : { بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } أي : بمنزلة البصائر للقلوب ، بها يبصر الحق ، ويدرك الصواب .
فالكلام على طريقة التشبيه البليغ أو سبب البصائر ، فهو مجاز مرسل أو استعارة لإرشاده ، أو المعنى : حجج بيّنة ، وبراهين نيّرة . وإنما جمع خبر المفرد
لاشتماله على آيات وسور ، جعل كل منها بصيرة . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم - لتأكيد وجوب الإيمان بها { وَهُدًى } أي : من الضلالة : { وَرَحْمَةٌ } أي : من العذاب : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : به ، فيتفكرون في حقائقه .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة ، لا بحسب اقتراحهم ، لأن ذلك قد يكون فساداً . ويدل قوله : { هَذا بَصَائِرُ } أن المعارف مكتسبة .
وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه ، لذلك قال : { أتَّبِعُ ما يُوحى إِليَّ } ، ومتى قيل : هل تدل الآية على أنه لا يجتهد ولا يقيس ؟
قلنا : لا ، لأن القياس والإجتهاد إذا كان متعبداً به ، فاتباعه اتباع الوحي ، كالعامي يقبل من المفتي ، والعالم يجتهد ، ويتبع الوحي ، كذلك هذا .
والذي يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه حتى يؤمر به - انتهى كلامه - وفي إطلاقه تفصيل له موضع آخر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 204 ] .
{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } أي : عن حديث النفس وغيره { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة ، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة .
أي : وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه ، فاستمعوا له ، أي : أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه ، وتتدبروا مواعظه ، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي ، إعظاماً له واحتراماً ، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته ، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم : { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآية يقتضي وجوب الإستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ، وعليه أهل الظاهر ، وهو قول الحسن البصري ، وأبي مسلم الأصفهاني روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنما جعل
الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا > . وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة .
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : < هل قرأ أحد منكم معي آنفاً > ؟ قال رجل : نعم يا رسول الله . قال : < إني أقول : ما لي أنازع القرآن > ؟ قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الترمذي : هذا حديث حسن . وصححه أبو الرازي .
نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم . وذلك فيما رواه عبادة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : < إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم > ؟ قال : قلنا : يا رسول الله ! إي والله . قال : < لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها > - رواه أبو داود والترمذي - .
وفي لفظ : < فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به ، إلا بأم القرآن > . رواه أبو داود والنسائي ، والدارقطني وقال : رواته كلهم ثقات .
وأخرج ابن حبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام ، والإمام يقرأ ؟ فلا تفعلوا ، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه > .
وأما حديث أبي هريرة المتقدم ، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقاً بل جهراً ، لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم ، لا مع إسراره ، ولو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان الإستفهام الإنكاري فيه عامّاً لجميع القرآن ، أو مطلقاً في جميعه .
وحديث عبادة خاص أو مقيد ، ولا تعارض بين عام وخاص ، أو مطلق ومقيد ، لابتناء الأول على الثاني .
وكذا يقال في عموم الآية ، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب ، وصحيح السنة ، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن .
الثاني : روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة . وعن بعضهم : فيها وفي الخطبة يوم الجمعة ، وعن بعضهم : فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر . وقد
قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم : نزلت هذه الآية في كذا ، وبيّنّا أنه قد يراد بذلك ، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها ، لا أنه سبب لنزولها ، وذلك في بعض المقامات ، وما هنا منه .
وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة ، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين ، بأن يستمعوا لقراءته ، ليقفوا على إعجازه . وما للخازن ، بأن الآية مكية ، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة - فافهمه - .
الثالث : روى الأمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من استمع إلى آية من كتاب الله ، كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة > .
قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } [ 205 ] .
{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد عام ، أو المعنى : واذكر ربك أيها الْإِنْسَاْن ، والأول أظهر ، لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من خصائصه ، فإنه مشروع لأمته .
وقد أوضح هذا آية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } والأمر بالذكر .
قال الزمخشري : هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك .
وقال بعض الزيدية : هذا الأمر يحتمل الوجوب ، إن فسر الذكر بالصلاة ، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان ، فهو محمول على الإستحباب . قال : وبكل فسرت الآية .
ثم إنه تعالى ذكر آداباً لذكره :
الأول : أن يكون في نفسه ، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأقرب إلى الإجابة ، وأبعد من الرياء .
الثاني : أن يكون على سبيل التضرع ، وهو التذلل والخضوع والإعتراف بالتقصير ، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية .
الثالث : أن يكون على وجه الخيفة ، أي : الخوف والخشية من سلطان الربوبية ، وعظمة الألوهية ، من المؤاخذة على التقصير في العمل ، لتخشع النفس ، ويخضع القلب .
الرابع : أن يكون دون الجهر ، لأنه أقرب إلى حسن التفكر . قال ابن كثير : فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداءً ولا جهراً بليغاً .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : < يا أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته > .
قال الإمام : المراد أن يقع الذكر متوسطاً بني الجهر والمخافة كما قال تعالى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } .
الخامس : أن يكون باللسان لا بالقلب وحده ، وهو مستفاد من قوله : { وَدُونَ الْجَهُرِ } لأن معناه : ومتكلماً كلاماً دون الجهر ، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفاً على
{ تَضَرُّعاً } ، أو هو معطوف على : { فِي نَفْسِكَ } أي : اذكره ذكراً في نفسك ، وذكراً بلسانك دون الجهر .
السادس : أن يكون بالغدو والآصال ، أي : في البكرة والعشي . فتدل الآية على مزية هذين الوقتين ، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد ، وما بينهما الغالب فيه الإنقطاع إلى أمر المعاش .
وقد روي أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره ، فطلب الذكر فيهما ، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر .
ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله : { وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } أي : من الذين يغفلون عن ذكر الله ، ويلهون عنه ، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى ، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه ، بقدر الطاقة البشرية .
ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر ، وينهض الهمم إليه ، بمدح الملائكة الذي يسبحون الليل والنهار ، لا يفترون ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ 206 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } يعني الملائكة الذين هم في أعلى مقامات القرب { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : لايتعظمون عنها .
وقوله : { وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } أي : فينبغي أن يقتدى بهم فيما ذكر عنهم ، ففيه حث ولطف مرغب في ذلك ، لأنه إذا كان أولئك - وهم ما هم في قرب المنزلة والعصمة - حالهم في عبادته تعالى وتسبيحه ما ذكر ، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : تمسك أبو بكر الأصم بهذه الآية في تفضيل الملائكة على البشر قال : لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } الآية ، أي : فأنت أولى وأحق بالعبادة ، والمسألة مستوفاة في كتب الكلام .
واستنبط من قال بالتفضيل المذكور من الآية ، أنه ينبغي للعبد أن ينظر إلى من فوقه في طاعة الله تعالى .
الثاني : قال الرازي : المشبهة تمسكوا بقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } ، وقالوا : لفظ عند مشعر بالجهة .
ثم أجاب بما هو معروف للخلف .
ويعني ـ سامحه الله ـ بالمشبهة الحنابلة ، وهم براء من التشبيه ، كما يعلمه من طالع عقائدهم ، واقفون على حد النصوص بلا تشبيه ولا تعطيل ، ولم ينفردوا بذلك ، فقد تقدمهم من لا يحصى في هذه المسألة . راجع كتاب " العلوّ للذهبيّ " تعلم ما ذكرنا .
الثالث : قال الجشمي : تدل الآية على كون الملائكة مكلفين . وتدل على أنهم سجدوا لله ، وآدم كان قبلة السجود ، لأنه وصفهم بأنهم يسجدون له .
الرابع : هذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع .
وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة عن أبي الدرادء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه عدها في سجدات القرآن .
وروى الشيخان عن عبد الله بن عُمَر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن ، فيقرأ
سورة فيها سجدة ، فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته ، في غير وقت صلاة .
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار > .
وروى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < عليك بكثرة السجود لله ، فإنك لا تسجد لله سجدة ، إلا رفعك الله بها درجة ، وحط عنك بها خطيئة > .
الخامس : السجدة المشروعة ، إن كانت لآية أُمر فيها بالسجود فللأمر ، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه ، فلمخالفتهم وإرغامهم ، أو حكي فيها سجود الأنبياء أو الملائكة ، فللتأسي بهم - كذا في " العناية " ـ .
وهذا آخر ما تيسر تعليقه على سورة الأعراف ، فله الحمد على هذا التسهيل والإسعاف ، ونسأله بمنه وكرمه العون على الإتمام ، فإنه ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ .
وكان الفراغ في ذلك طلوع الشمس من يوم الثلاثاء ، في 26 رمضان المبارك سنة 1321 بشباك السدة العليا اليمنى من جامع السنانية على يد الفقير جمال الدين القاسمي غفر الله له ، ولوالديه ولجميع المؤمنين ، ورحمه وإياهم إنه أرحم الراحمين .

(/)


سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 1 ] .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
روى البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر .
وروى الإمام أحمد عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس ، فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب .
قال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، واشتغلنا به ، فنزلت :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الآية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قُواقٍ من المسلمين .
وهذا الحديث رواه الترمذي أيضاً وحسنه ، ورواه ابن حيان في صحيحه ، وصححه الحاكم .
ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال : فينا ، أصحاب بدر ، نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على السواء .
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من صنع كذا وكذا فله من النّفل كذا وكذا > . فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات .
فلما كانت المغانم ، جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءاً لكم ، لو انكشفتم لثُبتُم إلينا ن ، فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الآية ، وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعاً ، وأن الآية نزلت لفصله .
والأنفال : هي المغانم ، جمع نفل محركة ، وهو الغنيمة ، أي : كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب .
قال ابن تيمية : سميت بذلك ، لأنها زيادة في أموال المسلمين . أي : لأن النفل يطلق على الزيادة ، كما في " التاج " ، ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة .
وقوله تعالى : { قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } قال المهايمي : أي : ليست هي في مقابلة الجهاد ، وإنما مقابله الآجر الأخروي ، وهذه زائدة عليه ، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكاً خالصاً لله ولرسوله . والرسول خليفة يعطيها ، على ما أراه الله ، من يشاء ، لوما أطلق له صلى الله عليه وسلم الحكم فيها فقسمها بينهم بالسوية ، ووهب من استوهبه .
فروى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير وقتلتُ سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكتيفة ، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب فاطرحه في القبض ، قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله ، من قتل أخي ، وأخذ سلبي .
قال : فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال .
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اذهب فخذ سلبك > .
وروى الإمام أحمد والترمذي - وصححه - عن سعد بن مالك قال : قلت : يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال : < إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه > .
قال ، فوضعته ثم رجعت ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي .
قال : إذا رجل يدعوني من ورائي .
قال : قلت : قد أنزل الله فيّ شيئاً . قال : كنت سألتني السيف ، ليس هو لي ، إنه قد وهب لي ، فهو لك . قال : وأنزل الله هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الآية .
تنبيهات :
الأول : ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس ، فنسخت الأولى .
قال ابن كثير : فيه نظر . ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شَارفَيه اللذْين حصلا له ، من الخمس ، يوم بدر . فالصواب أنها مجملة محكمة ، بين مصارفها في آية الخمس .
الثاني : روي عن عطاء أنه فسر الأنفال بما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمةٍ أو متاع .
قال : فهو نفلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء .
قال ابن كثير : وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال .
قلت : صِدقُ النفل عليه ، لا شك فيه ، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه ، فلا يساعده سبب نزولها المارّ ذكره ، لا سيما قوله : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } المشير إلى التنازع المتقدم .
ثم قال ابن كثير : واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم ، أي : ما يدفع إلى الغازي زائداً على سهمه من المغنم ، والكلام الذي قلته قبل ، يجري هنا أيضاً .
ونقل الرازي عن القاضي ؛ أن كل هذا الوجوه تحتمله الآية . قال : وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض ، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين ، قضى به ، وإلا فالكل محتمل .
وكما أن كل واحد منها جائز ، فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها . أي : لصدق النَّفل عليها .
الثالث : وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر ، لمن الحكم فيها أللمهاجرين أم للأنصار ، أم لهم جميعاً ؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول ، وليس لأحد فيها حكم .
تأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر ، وزاد عليه اعتماده له ، بتطويل مملّ ، ولا أدري من أين سرت لهم هذا الرواية .
فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم ، بل ولا أصحاب السير ، كابن إسحاق وابن هشام ، وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم ، ويتنازعوا ولايتها ، والرسول بين أظهرهم ؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم ؟ سبحانك
هذا بهتان عظيم ! ولكن هو الرأي قاتله الله ! ونبذ كتب السنة ، والتقليد البحت ، الذي لا يهتم صاحبه بحقائق الأشياء ، ولا يريد معرفتها ولا فحصها بالعقل يضع قدمه على القدم ، حيث يكون مطواعاً لآراء غيره ، منقاداً لها مصدقاً ما ينطق به فمه ، غثاً كان أو سميناً . اللهم نور بصيرتنا بفضلك .
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللّهَ } أي : في الإختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله .
وقوله تعالى : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أي : أحوال بينكم ، يعني ما بينكم من الأحوال ، حق تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق .
وقوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في قسمه بينكم ، على ما أراه الله تعالى . وقوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : كاملي الإيمان .
ثم بين تعالى من أريد بالمؤمنين بذكر أوصافهم الجليلة ، المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث ، ترغيباً لهم في الإمتثال بالأوامر المذكورة ، فقال سبحانه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ 2 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي : الكاملون المخلصون فيه { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ } أي : حقه أو وعيده { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : فزعت لذكره ، واقشعرت إشفاقاً ألا تكون قامت بحقه ، وتهيباً من جلاله وعزة سلطانه ، وبطشه بالعصاة وعقابه .
قال الجشمي : ومتى قيل : لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنية في قوله
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْر } ، فجوابنا فيه وجوه :
منها : أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه ، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه .
ومنها : أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده ، ووعده ، ووعيده ، فعند ذلك توجل
لأوامره ونواهيه ، خوف التقصير في الواجبات ، والإقدام على المعاصي ، المستقبل يتغير حاله . انتهى .
{ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ } أي : حججه وهي القرآن { زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أي : يقيناً وطمأنينة نفس ، إلى ما عندهم ؛ فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه .
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة الآية وأشباهها ، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد ، كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد .
{ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : لا يرجون سواه ، ولا يخشون غيره ، ولا يفوضون أمورهم إلى غيره .
ولما ذكر تعالى ، من أعمالهم الحسنة ، أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ 3 ] .
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } أي : المفروضة بحدودها وأركانها ، في أوقاتها .
والموصول نعت للموصول الأول ، أو بيان له ، أو منصوب على المدح .
وقوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } عام في الزكاة ، وأنواع البر والقُربات .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 4 ] .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي : لا شك في إيمانهم .
و : { حَقّاً } صفة لمصدر محذوف ، أي : إيماناً حقاً أو مصدر مؤكد للجملة ، أي : حق ذلك حقاً ، كقولك ، هو عبد الله حقاً .
قال عَمْرة بن مرة في هذا الآية : إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقاً ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقاً ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقاً ، وفي القوم شعراء . انتهى .
وكأنه أراد الرد على من زعم أن حقاً من صلة قوله : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } بعد ، تأكيداً له ، وأن الكلام تم عند قوله
{ الْمُؤْمِنُونَ } ، فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم .
وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقاً .
قال الطوسي في " نقد المحصل " : المعتزلة ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال ، فقول القائل : أنا مؤمن إن شاء الله لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال . وما يوهم أحدهما ، لا يجوز أن يقال للتبرك . انتهى .
والغزالي في الإحياء ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوغ ذلك بأجوبة :
منها : التخوف من الخاتمة ، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة .
ومنها : الإحتراز من تزكية النفس .
ومنها : غير ذلك ، انظره بطوله .
وقال ابن حزم في " الفصل " : القول عندنا في هذه المسألة ؛ أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } .
ولا نعمة أوكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى في وقتي هذا .
ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم ، وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض ، وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها ، وليس هذا من باب الإمتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد .
وقول ابن مسعود : أنا مؤمن إن شاء الله عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات .
فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح .
ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع أن يقول المرء إني مؤمن بمعنى مصدق .
وأما قول المانعين : من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك .
وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ؛ ولا ندري ماذا نكسب غداً ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى كلام ابن حزم رحمه الله .
ولقد أجاد فيما أفاد .
وقوله تعالى : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } أي : منازل ومقامات عاليات في الجنة { وَمَغْفِرَةٌ } أي : تجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعد لهم من نعمي الجنة .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أشياء :
منها : أن الإيمان إسم شرعي لثلاث خصال : القول ، والإعتقاد ، والعمل ، خلاف ما تقوله المرجئة ، لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح .
ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقاً .
ومنها : أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجر للرغبة والرهبة ، وذلك حث على الطاعة ، وزجر عن المعاصي .
ومنها : وجوب التوكل عليه ، والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين .
أما في الدنيا فلا بد من خصال :
منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرماً
ومنها : إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم .
ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر ، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له .
ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها من جهته تعالى ، إما بنفسه أو بواسطة .
ومنها : ألا يحسبه عن حقوقه خشية الفقر .
ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يفتقر .
فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلاً .
فأما الذي يزعمه بعضهم ؛ أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ، فليس بشيء .
وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل ، وثبت عن الصحابة
ـ وهم سادات الإسلام - التجارة والزراعة والأعمال ، وكذلك التابعين ، وبهذا أجرى الله العادة .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل .
فأما التوكل في الدين فخصال :
منها : أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم ، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة .
ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة .
ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذا حصل بهدايته وتمكينه ولطفه .
ومنها : أن لا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، فعند ذلك يكون متوكلاً .
ثم قال الجشمي : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمناً ، خلاف قول المرجئة . انتهى .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } [ 5 ] .
وقوله تعالى : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الكاف في كما كاف التشبيه ، والعامل فيه يحتمل وجوها ، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه : { قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ } تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق ، كما أخرجك بالحق . وإما هو معنى الحق ، يعني هذا الذكر حق ، كما أخرجك بالحق ، وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه ، أي : حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة ، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له كما سيأتي في تفصيل القصة .
وهذا هو قول الفرّاء ، فإنه قال : الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته ، بالقصة المتقدمة ، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها ، مع أنها أولى بحالهم .
وقوله تعالى : { مِنْ بَيْتِكَ } أراد به بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مثواه ، أي : إخراجه إلى بدر .
وزعم بعض أن المراد إخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة للهجرة ، وهو ساقط ، برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد .
وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغنموها ، فعلمت قريش ، فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبوا عنها ، وهم النفير . وأخذ أبو سفيان بالعير
طريق الساحل ، فنجت ، فقيل لأبي جهل : ارجع ، فأبى وسار إلى بدر .
فشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم : إن الله وعدني إحدى الطائفتين ، فوافقوه على قتال النفير ، وكره بعضهم ذلك ، وقالوا : لم نستعد له ، كما قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [ 6 ] .
{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } وهو الجهاد وتلقي النفير { بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي : ظهر لهم أنهم يُنصرون فيه { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم ، وعدم تأهبهم .
إذا روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً ، فيهم فارسان : المقداد والزبير ، وقيل الأول فقط . والمشركون ألف ، ذوو عِدة وعُدة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } [ 7 ] .
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ } العير أو النفير { أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ } أي : تحبون { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } وهو العير ، لا ذات الشوكة ، وهي النفير ، والشوكة : السلاح أو حدته .
{ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي : يثبته ويعليه ، وهو دعوة رسوله { بِكَلِمَاتِهِ } أي : بآياته المنزلة ، وأوامره في هذا الشأن { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } أي : يستأصلهم فلا يبقى منهم أحداً .
ثم بين تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [ 8 ] .
{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ } أي : ليثبت الدين الحق ، ويمحق الدين الباطل ، باستئصال أهله ، مع ظهور شوكتهم { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } أي : المشركون ذلك .
ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه ، واستمدادهم منه النصر يوم بدر ، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ 9 ] .
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أي : تطلبون منه الغوث ، وهو التخلص من الشدة ، والعون بالنصر عليهم { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أي : الدعاء { أَنِّي مُمِدُّكُم } أي : معينكم { بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } بكسر الدال ، أي : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أومردفين غيرهم .
وقرئ بفتحها على معنى أن الله أردف المسلمين بهم ، أو مردفين بغيرهم ، أي : من ملائكة آخرين .
وقرئ ( بآلاف ) بالجمع ، كما يأتي .
روى مسلم عن ابن عباس قال : حدثني عُمَر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ؛ فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يده ، فجعل يهتف بربه ويقول : < اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام ، لا تعبد في الأرض > . فما زال يهتف بربه ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } .
وروى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر :
< هذا جبريل آخذ برأس فرسه ، عليه أداة الحرب > .
وروى البخاري عن معاذ بن رِفاعة ، عن رافع الزرقيّ ، عن أبيه - وكان ممن شهد بدراً - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة .
تنبيهات :
الأول : قال الجمشي : تدل الآية على أن الملك يجوز أن يتشبه بالآدمي ، ولا يخرج من كونه ملكاً ، بأن يغير أطرافهم دون الأجزاء التي صاروا بها أحياء والذي ينكر أن يقدر أحد على تغيير الصور ، بل نقول : إن الله هو الذي يقدر على ذلك .
انتهى .
الثاني : قال الزمخشري : وعن السدي : { بِآلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ } - على الجمع - ليوافق ما في سورة آل عِمْرَان .
فإن قلت : فيم يُعتذر لمن قرأ على التوحيد ، ولم يفسرالمردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين ، و المردفين بارتدافهم غيرهم ؟
قلت : بأن المراد بالألف ، من قاتل منهم ، أو الوجوه منهم ، الذين من سواهم أتباع لهم . انتهى .
قال شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " في بحث غزوة بدر :
فإن قيل : هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف ، وفي سورة آل عِمْرَان قال : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ } ، فكيف الجمع بينهما ؟
قيل : أختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف ، والذي بخمسة على قولين :
أحدهما : أنه كان يوم أُحد ، وكان إمداداً معلقاً على شرط ، فلما فات شرطه ، فات الإمداد . وهذا قول الضحاك ومقاتل ، وإحدى الروايتين عن عِكْرِمَة .
والثاني : أنه كان يوم بدر ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، والرواية الأخرى عن عِكْرِمَة ، واختاره جماعة من المفسرين .
وحجة هؤلاء ، أن السياق يدل على ذلك ، فإنه سبحانه قال :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } ، إلى أن قال : { وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ } أي : هذا الإمداد : { إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } .
قال هؤلاء : فلما استغاثوا ، أمدهم بألف ، ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف ، لما صبروا واتقوا . وكان هذا التدريج ، ومتابعة الإمداد ، أحسن موقعاً ، وأقوى لتقويتهم وأسرّ لها من أي : يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ، ونزوله مرة بعد مرة .
وقالت الفرقة الأولى : القصة في سياق أُحُد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً في أثنائها ، فإنه سبحانه قال : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ، ثم قال : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فذكره نعمه عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، ثم عاد إلى قصة أُحُد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : { أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم
بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ }
ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف .
فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف ، وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذلك مطلق .
والقصة في سورة آل عِمْرَان ، هي قصة أُحد مستوفاة مطولة ، و بدر ذكرت فيها اعتراضاً .
والقصة في سورة الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة ، فالسياق في آل عِمْرَان غير السياق في الأنفال ، يوضح هذا أن قوله : { وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قد قال مجاهد : هو يوم أُحُد ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه ، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أُحُد ، والله أعلم . انتهى .
وقوله تعالى

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 10 ] .
{ جَعَلَهُ اللّهُ } أي : هذا الإمداد { إِلاَّ بُشْرَى } أي : بشارة لكم بالنصر ، { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ } أي : من غير أن يكون فيه شركة لغيره { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قال بعض الحكماء : ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر ، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه ، وهو أدعى إلى قوة العزيمة ، فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون : رفعته تلك الفكرة ، وجعلته أقوى الناس ، وأقدرهم على صعاب الأمور ، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله ، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة ، فباؤا بغضب على غضب . انتهى .
ثم ذكرهم سبحانه بنعم أخرى جعلها سبباً لنصرهم ، وللعناية بهم ، فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } [ 11 ] .
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } أي : يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى
مما حصل لكم من الخوف من كثرة عدوكم .
وقد كان أسهرهم الخوف ، فألقى تعالى عليهم النوم فأمنوا واستراحوا . وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحُد ، كما قال جل ذكره : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } ، وقرئ : { يُغْشيكمَ } من الإغشاء ، بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الله تعالى وقرئ : { يَغْشاكم } على إسناد الفعل إلى النعاس .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسماً ، فقال : < أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل ، على ثغاياه النقع > . ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلوا
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } .
ثم ذكرّهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياه بقوله سبحانه : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } أي : من الحدث الأصغر والأكبر ، وهو تطهير الظاهر { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } أي : وسوسته ، بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة ، ومع فقد الماء كيف تفعلون ؟ فأزال تعالى بإنزاله ، ذلك ، فكان لهم به طهارة باطنة ، فكملت لهم الطهارتان ، أي : من وسوسة أو خاطر سيء ، وهو تطهير الباطن : { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي : يقويها بالثقة ، بالأمن وزوال الخوف .
{ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } أي : على الرمل .
قال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر ، فأطفأ به الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم ، وثبتت به أقدامهم .
قال الجشمي : قال القاضي : وهو أشبه بالظاهر .
وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم ، حتى ثبتوا لعدوهم . وقوله به ، يرجع إلى الماء المنزل ، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر .
ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ 12 ] .
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ } أي : الذين أمدّ بهم المسلمين ، { أَنِّي مَعَكُمْ } أي : بالعون والنصر .
قال الجشمي : يحتمل مع الملائكة ، إذا أرسلهم ردءاً للمسلمين ، ويحتمل مع المسلمين ، كأنه قيل : أوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين ، فانصروهم وثبتوهم .
وقوله تعالى : { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مدداً وعوناً { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ } أي : الخوف .
ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى : { فَاضْرِبُواْ } أمر للمؤمنين أو للملائكة . وعليه ، ففيه دليل على أنهم قاتلوا : { فَوْقَ الأَعْنَاقِ } أي : أعالي الأعناق التي هي المذابح ، تطييراً للرؤوس ، لأنها فوق الأعناق .
{ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي : أصابع ، جمع بنانة ، قيل : المراد بالبنان ، مطلق الأطراف مجازاً ، تسمية للكل بالجزء ، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل .
والمعنى : اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ } [ 13 ] .
{ ذَلِكَ } أي : الضرب أو الأمر بت { بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : خالفوهما فيما شرعا .
وقوله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } تقرير لما قبله ، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا ، أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة ، بعد ما حاق بهم في الدنيا ، وبيان لخسرانهم في الدارين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } [ 14 ] .
{ ذَلِكُمْ } خطاب للكفرة على طريقة الالتفات { فَذُوقُوهُ } أي : ذلك العذاب أيها الكفار في الدنيا { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } في الآخرة .
ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف ، مبيناً وعيده بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } [ 15 ] .
أي : الظهور بالإنهزام ، والزحف الجيش الكثير ، تسمية بالمصدر ، و الجمع زحوف ، مثل فلس وفلوس .
ويقال : زحف إليه ، أي : مشى ، وزحف الصبي على إسته قبل أن يقوم . شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال ، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف ، أي : يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان .
قال أبو السعود : { زَحْفاً } منصوب ، إما على أنه حال من مفعول : { لَقِيتُمْ } أي : زاحفين نحوكم ، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر ، هو الحال منه ، أي : يزحفون زحفاً .
وأما كونه حالاً من فاعله أو منه ، ومن مفعوله معاً كما قيل فيأباه قوله تعالى : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } ، إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو أو بكثرتهم ، بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة ، والمحوج إلى النهي عنه .
وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين ، حيث تولوا مدبرين ، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفاً بعيد .
والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال ، وهم كثير جم وأنتم قليل ، فلا تولوهم أدباركم ، فضلاً عن الفرار ، بل قابلوهم وقاتلوهم ، فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم .
قال الشهاب : عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحاً للإنهزام ، وتنفيراً عنه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 16 ] .
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم اللقاء { دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي : مائلاً له .
يقال : تحرف وانحرف واحرورف : مال وعدل ، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء ، وإما بالفرّ للكر ، بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره ، ويخرجه من بين أعوانه ، فيفر عنه ، ثم بكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه ، وهو باب من مكايد الحرب : { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } أي : منضماً إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم : { فَقَدْ بَاء } أي : رجع
{ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : ما صار إليه من عذاب النار .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على وجوب مصابرة العدو ، أي : الثبات عند القتال ، وتحريم الفرار منه يوم الزحف ، وعلى أنه من الكبائر ، لأنه توعده عليه وعيده شديداً .
الثاني : ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلا حالة التحرف ، أو التحيز ، وهو مروي عن ابن عباس ، واختاره أبو مسلم .
قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء .
وروى عن جماعة من السلف ، أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم بدر ، لقوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } وأجيب بأن الإشارة في : { يَوْمَئِذٍ } إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق ، لا إلى يوم بدر .
الثالث : ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى :
{ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } أي : جماعة أخرى من المسلمين ، سوى التي هو فيها ، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر رضي الله عنه : لو تحيز إلي لكنت له فئة .
وفي رواية عنه : أيها الناس ! أنا فئتكم .
وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة ، الفارّ إلى النبي وأصحابه .
وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه ، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال :
من فر من سرية إلى أميره ، أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .
ثم أورد حديث عبد الله بن عُمَر المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع ، وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ! ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة ، وإلا ذهبنا ! فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : < من القوم > ؟ فقلنا : نحن الفرارون . فقال :
< لا ، بل أنتم العكّارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين > ، قال : فأتيناه حتى قبلنا يده .
قال الترمذي : حديث حسن ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد . انتهى .
أي : وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة .
قال الحاكم في مسألة الفرار : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده ، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار ، وإن ظن الهلاك جاز الفرار
إلى فئة وإن بعدت ، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات . وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور .
وعن الكرخي : أن الثبات والمصابرة واجب ، إذا لم يخش الإستئصال ، وعرف عدم نكايته للكفار ، والتجأ إلى مصرٍ للمسلمين ، أو جيش ، وهكذا أطلق في
" شرح الإبانة " فلم يبح الفرار إلا بهذا الشروط الثلاثة ، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه .
الرابع : روي عن عطاء أن حُكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ } ، قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول : كنا أسلفنا أن السلف كثيراً ما يعنون بالنسخ تقييد المطلق ، أو تخصيص العام ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها .
قال بعض الأئمة : هذا الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة ، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافاً كثيرة ، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفا } .
وعن ابن عباس : من فرّ من اثنين فقد فرّ ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ .
وبالجملة ، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، فإن هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط بينه الله في آية الضعف .
وفي " المهذب " : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين ، جاز الفرار ، لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون ، فالأفضل الثبات ، وإن ظنوا الهلاك ، فوجهان : يلزم الإنصراف لقوله تعالى : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
والثاني : يستحب ولا يجب ، لأنهم إن قُتلوا فازوا بالشهادة وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار ، وإن ظنوه فوجهان :
يجوز لقوله تعالى : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
ولا يجوز ، وصححوه لظاهر الآية .
ثم بين تعالى أن نصرهم يوم بدر ، مع قلتهم ، كان بحوله تعالى وقوته ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 17 ] .
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } أي : بقوتكم { وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ } أي : سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم ، وقوى قلوبكم ، وأمدكم بالملائكة ، وأذهب عنها الفزع والجزع .
{ وَمَا رَمَيْتَ } أي : أنت يا خاتم النبيين ، أي : ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين { إِذْ رَمَيْتَ } أي : بالحصباء ، لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر { وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } أي : بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم .
وقال أبو مسلم في معنى الآية : أي : ما أصبت إذا رميت ، ولكن الله أصاب .
والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة ، وذلك ظاهر في أشعارهم .
وقد روي عن غير واحد ، أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر ، حين خرج من العريش ، بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : < شاهت الوجوه > . ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أَعْيَن المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله ما شغله عن حاله ، وانهزموا .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه ، إذ معلوم أنهم قتلوا ، وأنه رمى ، ولذلك قال : { إِذْ رَمَيْتَ } ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه .
وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر ، صارت أقوى ، فلذلك قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } .
وقال في " العناية " : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى ، حيث نفى القتل والرمي .
والمعنى : إذ رميت أو باشرت صرف الآلات .
والحاصل : ما رميت خلقاً إذا رميت كسباً . وأورد عليه أن المدعي وإن كان حقاً ، لكن لا دلالة في الآية عليه ، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر ، مدفوع بأن المراد ما رميت رمياً تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون ، وإن رميت حقيقة وصورة ، وهذا مراد من قال : ما رميت حقيقة إذ رميت صورة ، فالمنفي هو الرمي الكامل ، والمثبت أصله ، وقدر منه .
فالإثبات والنفي لم يردا على
شيء واحد ، حتى يقال : المنفي على وجه الخلق ، والمثبت على وجه المباشرة ، ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها ، الذي هو سبب النزول ، من أنه أثبت له الرمي ، لصدوره عنه ، ونفى عنه ، لأن أثره ليس في طاقة البشر ، ولذا عدت معجزة له ، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلاً . فمبنى الكلام على المبالغة ، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع ، لأن معناه الحقيقي غير مقصود . هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام إذ لو كان المراد ما ذكر ، لم يكن مخصوصاً بهذا الرمي ، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله . انتهى .
وهذا التحقيق جيد ، وقد نبه عليه أيضاً العلامة ابن القيم في " زاد المعاد " حيث قال :
وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله ، وأنه هو الفاعل حقيقة ، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة ، مذكورة في غير هذا الموضع .
ومعنى الآية : أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه ، فالرمي يراد به الحذف والإيصال ، فأثبت لنبيه الحذف ، ونفى عنه الإيصال . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ } أي : ليمنحهم من فضله { بَلاء حَسَناً } أي : منحاً جميلاً ، بالنصر والغنيمة والفتح ، ثم بالأجر والمثوبة ، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره ، فيعرفوا حقه ويشكروه .
قال أبو السعود : واللام ، إما متعلقة بمحذوف متأخر ، فالواو اعتراضية ، أي : وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة ، فعل ما فعل ، لا لشيء غير ذلك ، مما لا يجديهم نفعاً ، وإما برمي ، فالواو للعطف على علة محذوفة ، أي : ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي . . الخ . وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم : أبلاه الله ببلية إبلاء حسناً ، إذا صنع به صنعاً جميلاً ، وأبلاه معروفاً ، قال زهير في قصيدته التي مطلعها :
~صحا القلبُ عن سَلََْمَى وقد كَادَ لا يَسْلُو وأقفر من سَلْمَى التَّعانيقُ والثِّقلُ
والتعانيق والثقل : مواضع :
~جزى اللهُ بالإحسانِ ما فعلا بكم وأبلاهما خَيْرَ البَلاءِ الذي يَبْلُو
أي : إحسان فعلهما بكم ، فأبلاهما خير البلاء ، أي : صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده ، والْإِنْسَاْن يبلى بالخير والشر ، أي : صنع بهما خير
الصنيع الذي يبلو به عباده .
واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده . قال ابن الأعرابي : يقال : أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم ، ويقال : أبلى ذلك اليوم بلاء حسناً .
{ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ } أي : لدعائهم واستغاثتهم { عَلِيمٌ } أي : بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } [ 18 ] .
{ ذَلِكُمْ } إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي . ومحله الرفع ، أي : المقصود أو الأمر ذلكم .
وقوله : { وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } معطوف عليه ، أي : مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم ، أي : أن المقصود إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين .
قال ابن كثير : هذا بشارة أخرى ، مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنه في تبار ودمار ، أي : وقد وجد المخبر على وفق الخبر ، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولله الحمد والمنة .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 19 ] .
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ } خطاب للمشركين ، أي : إن تطلبوا الفتح ، أي : القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم القضاء بما سألتم .
روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم ، وصححه ، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال ، حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحمِ وآتانا بما لا نعرفه ، فأحِنْهُ - أي : فأهلكه - الغداة ، فكان المستفتِحَ .
وعن السّدّي ، أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر : أخذوا بأستار
الكعبة ، فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعز الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبليتين ، فقال تعالى : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } الآية .
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا : { اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } الآية ، قيل : في هذا الخطاب تهكم بهم ، يعني في قوله تعالى : { فَقَدْ جَاءكُمُ
الْفَتْحُ } لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة . كذا في " العناية " .
وهو مبني على أن الفتح بمعنى النصر ، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء . وبهما فسرت الآية أيضاً .
{ وَإِن تَنتَهُواْ } أي : عن الكفر وعداوة الرسول { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة { وَإِن تَعُودُواْ } أي : لمحاربة الرسول : { نَعُدْ } أي : لنصره عليكم { وَلَن تُغْنِيَ } أي : تدفع { عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بالنصر . قرئ بكسر ( إن ) استئنافاً ، وفتحها ، على تقدير اللام .
تنبيه :
جُوِّز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } للمؤمنين ، أي : إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم ، فقد حصل لكم ذلك ، فشكروا ربكم ، والزموا طاعته .
وقوله تعالى : { إن تَنتَهُواْ } أي : عن المنازعة في أمر الأنفال ، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَق } ، فقال تعالى : { وَإِنْ تَنْتَهُوا }
عن مثله - : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار ، وتهييج العدوّ ؛ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة ، وترك المخالفة ، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة ، إذا لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين في إيمانهم .
وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي .
قال البيضاوي : ويؤكده الآية بعدُ ، فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول ، والنهي عن الإعراض عنه ، والله أعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } [ 20 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } أي : تعرضوا عنه بمخالفة أمره : { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } أي : القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ 21 ] .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا } أي : ادعوا السماع { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي : سماع تدبر واتعاظ ، وهم المنافقون أو المشركون .
فالمنفي سماع خاص ، لكنه أتى به مطلقاً للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً ، بجعل سماعهم بمنزلة العدم . وقيل : السماع عن التصديق .
قال الزمخشري : والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة ، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور ، من قسمة الغنائم وغيرها ، كان تصديقكم كَلاَ تصديق ، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن .
ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم ، مبالغة في التحذير ، وتقديراً للنهي ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 22 ] .
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ } أي : ما يدب على الأرض ، أو شر البهائم : { عِندَ اللّهِ الصُّمُّ } أي : عن سماع الحق { الْبُكْمُ } أي : عن النطق به { الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي : لا يفهمونه ، جعلهم تعالى من جنس البهائم ، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له ، ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم ، وكابروا بعد العقل ، وفي ذكرهم في معرض التشبيه ، بهذا الأسلوب ، غاية في الذم .
وقد كثر في التنزيل ، تشبيه الكافرين بنحو هذا ، كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } ، وقال تعالى : { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَل } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ 23 ] .
وقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ } أي : في هؤلاء الصم البكم { خَيْراً } صدقاً ورغبة ، { لَّأسْمَعَهُمْ } أي : الحجج والمواعظ ، سماع تفهم وتدبر ، أي : لجعلهم سامعين حتى
يسمعوا سماع المصدقين ، أي : ولكن لم يعلم الله فيهم شيئاً من ذلك ، لخلوّهم عنه بالمرة ، فلم يسمعهم كذلك ، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة ، وإليه أشير بقوله تعالى : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } أي : ولو أسمعهم سماع تفهم ، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية ، لتولوا عما سمعوه من الحق .
{ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } أي : عن قبوله جحوداً وعناداً .
قال الرازي : كل ما كان حاصلاً ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فقدم علم الله بوجوده ، من لوازم عدمه ، فلا جرم حسُن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده .
تنبيه :
قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني ، هكذا : لو علم فيهم خيراً لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا ، ينتج : لو علم فيهم خيراً لتولوا ، وفساده بيّن .
وأجيب : بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية ، وهو ممنوع .
واعترض بأن هذا المنع ، وإن صح في قانون النظر ، إلا أنه خطأ في تفسير الآية ، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود شرائط الإنتاج ، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه .
وأجيب : بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس ، لانتفاء شرط ، لا أنه قياس فقد شرطه ، كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضاً ، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى ، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع ، لعدم الخيرية فيهم ، ولو وقع الإسماع ، لا تحصل الخيرية فيهم ، لعدم قابلية المحل . كذا في " العناية " .
وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياساً شرطياً ، متحد الوسط ، صحيح الإنتاج ، بتقدير : لو علم فيهم خيراً في وقت ، لتولوا بعده .
وقوله تعالى

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 24 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } الإستجابة : بمعنى الإجابة . قال :
~وداعٍ دعا يا مَنْ يُجِيبُ إلى النِّدا فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
يريد : فلم يجبه .
وقائله كعب بن سعد الغَنَوِي ، والقصيدة في الأصمعيات رقم 14 .
والمراد بها الطاعة والإمتثال ، وإنما وحد الضمير في قوله : { دَعَاكُمْ } - أي : الرسول - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى .
وقال الزمخشري : لأن استجابته صلى الله عليه وسلم ، كاستجابته تعالى ، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد .
وقوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، قال عروة بن الزبير - فيما رواه ابن إسحاق - أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقوّاكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .
وإنما سمي الجهاد حياة ، لأن في وهن عدوّهم بسببه حياة لهم وقوة ، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة ، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة ، كما قال تعالى :
{ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أي : الحياة الدائمة ، فيكون مجازاً مرسلاً ، بإطلاق السبب على المسبب ، أو استعارة . وقيل : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي : من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب ، كما أن الجهل موته .
قال الشهاب : وإطلاق الحياة على العلم ، والموت على الجهل استعارة معروفة ، ذكرها الأدباء ، وأهل المعاني . وأنشد الزمخشري لبعضهم :
~لا تعجبنّ الجهولَ حُلَّتهُ فَذاك مَيْتٌ ، وثَوبهُُ كَفَنُ
وقد ألمّ فيه بقول أبي الطيب ، من قصيدته التي أولها :
~أفاضلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزمنِ يخلوا من الهمِّ أخلاهُم من الفِطَنِ
والأظهر أن يُعنى بما يحييكم ، ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة ، فيدخل فيه ما تقدم وغيره .
تنبيه :
استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحداً وهو في الصلاة .
روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي ، فمرّ بي
النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ } الآية .
وقوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } يحتمل وجوهاً من المعاني .
أحدهما : أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف يشاء ، فيحول بينه وبين الكفر ، إن أراد هدايته ، وبينه وبين الإيمان ، إن أراد ضلالته ، وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس ، وصححه ، وقاله غير واحد من السلف .
ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول : < يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك > .
فقيل : يا رسول الله ! آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : < نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، يقلبها > .
رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس ولفظ مسلم :
< إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء > ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك > . انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عَمْرو .
وفي رواية : < إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه > - رواه الإمام أحمد عن عائشة - .
وروي أيضاً مثله عن جابر وبلال ، والنواس بن سمعان وأم سلمة ، كما ساقه ابن كثير .
وعلى هذا المعنى ، فالآية استعارة تمثيلية ، لتمكنه من قلوب العباد ، فيصرفها كيف يشاء ، بما لا يقدر عليه صاحبها .
شبه بمن حال بين شخص ومتاعه ، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه .
ثانيها : أنه حث على المبادرة إلى الطاعة ، قبل حلول المنية ، فمعنى يحول بينه وبين قلبه ، يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهو التمكن من إخلاص القلب ، ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليماً ، كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوها لطاعة الله ورسوله .
فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه ، والذي به يعقل ، في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه .
ثالثها : أنه مجاز عن غاية القرب من العبد ، لأن من فصل بن شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما ، وانفصال أحدهما عن الآخر .
و يحول إما استعارة تبعية معناه يقرب ، أو استعارة تمثيلية . وهذا المعنى نقل عن قتادة حيث قال : الآية كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وفيه تنبيه على أنه تعالى مطلع ، من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنه صاحبها .
{ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : فيجزيكم بأعمالكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 25 ] .
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } الفتنة : إما بمعنى الذنب كإقرار المنكر ، وافتراق الكلمة والتكاسل في الجهاد وإما بمعنى العذاب .
فإن أريد الذنب فإصابته بإصابة أثره ، وإن أريد العذاب ، فإصابته بنفسه .
و : { لاَّ تُصِيبَنَّ } جواب للأمر ، أي : إن إصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم ، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم ، وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم ، كقوله تعالى
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } .
قاله القاشانيّ .
وقد روى الإمام أحمد عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يعلم فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون,ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب .
وروي نحوه عن عدي بن عَميرة وحذيفة والنعمان وعائشة وأم سلمة .
قال الكرخي : ولا يستشكل هذا بقوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ، لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر ، فالواجب على كل من رآه أن يغيره ، إذا كان قادراً على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة . هذا يفعله ، وهذا برضاه . وقد جعل تعالى ، بحكمته ، الراضي بمنزلة العامل ، فانتظم في العقوبة . انتهى .
وذكر القسطلاني : أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الْإِنْسَاْن كارهاً له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده ، فكل من لم يكن بهذه الحالة
فهو راض بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الإعتبار . انتهى .
وعن ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم الله بالعذاب { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن يخالف أوامر ه .
ثم نبه تعالى عباده المؤمنين السابقين الأولين على نعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ، مستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، ورزقهم من الطيبات ، ليشكروه بدوام الطاعة ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 26 ] .
{ وَاذْكُرُواْ } أي : يا معشر المهاجرين { إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } أي : في العدد ، { مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ } أي : مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة ، تستضعفكم قريش { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } أي : أهل مكة .
وتخطفه و اختطفه بمعنى استلبه وأخذه بسرعة .
{ فَآوَاكُمْ } أي : إلى المدينة : { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } يعني أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره ، وذلك بمظاهرة الأنصار ، وإمداد الملائكة ، والتثبيت الرباني ، { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : الغنائم لأنها لم تطب إلا لهم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : المولى على ما فضل به وأولى .
وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة ، هو أنسب بالمقام والسياق ، وَالسياق يشعر به . وقيل : الخطاب للعرب كافة وعليه قول قتادة بن دعامة السدوسي ـ رحمه الله ـ في هذه الآية : كان هذا الحيّ من العرب أذل الناس وأشقاه عيشاً ، وأجوعه بطوناً ، وأعراه جلوداً ، وأثبته ضلالاً .
والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله . انتهى .
وأقول : الأمر في العرب ، وإن كان كما ذكر ، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآية عليه تكلف لا يخفى فالظاهر ما ذكرنا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 27 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه ، وكان من شكره الوقوف عند حدوده ، بين لهم ما يحذر منها ، وهو الخيانة .
ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه ، ومجاوزة حدوده ، وفي خيانة رسوله رفض سنته ، وإفشاء سره للمشركين . وفي خيانة أمانتهم الغلول في المغانم ، أي : السرقة منها ، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر ، وكل ما تعبدوا به .
وقد روي في نزول الآية شيء مما ذكرنا . ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره .
ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصرر عن عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت في أبي لبابة حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد ، فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد ، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم ، فأشار إلى حلقه - أنه الذبح - قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ، ثم حلف ألا يذوق ذواقاً حتى يموت ، أو يتوب الله عليه .
وانطلق إلى المسجد ، فربط نفسه بسارية ، فمكث أياماًَ ، حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد ، ثم أنزل الله توبته ، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال : < يجزيك الثلث أن تصدق بت > .
قال بعض المفسرين : دل هذا السبب على جواز إظهار الجزع على المعصية ، وإتعاب النفس وتوبيخها ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي لبابة .
ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة ، ولأنه عليه السلام قال : يجزيك ثلث مالك ، وهذا سبيل قوله في هود
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات } .
وفي قوله : { وَأنْتُمْ تَعْلَمْونَ } دليل على أن ذنب العالم بالخطيئة أعظم منه من غيره ، لأنه المعنى : وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله .
قال الرازي : ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد ، نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 28 ] .
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أي : محنة من الله ليبلوكم ، هل تقعون بهما في الخيانة ، أو تتركون لهما الإستجابة لله ولرسوله ، أو لا تلهون بهما عن ذكره ولا تعتاضون بهما منه .
فسموا فتنة اعتباراً بما ينال الْإِنْسَاْن من الإختبار بهم ، ويجوز أن يراد بالفتنة الإثم أو العذاب ، فإنهم سبب الوقوع في ذلك .
قال الحاكم : قد أمر الله بالعلم بذلك ، وطريق العلم به التفكر في أحوالهما وزوالهما ، وقلة الإنتفاع بهما ، وكثرة الضرر ، وأنه قد يعصي الله بسببهما .
وقوله تعالى : { وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد ، فلم يورط نفسه من أجلهما .
وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة مع الترهيب الشديد في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قيل : هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة ، وما فرط منه لأجل ماله وولده .
ولما حذر تعالى ، فيم تقدم عن الفتنة بالأموال والأولاد ، بشر من اتقاه في الإفتتان بهما ، وفي غيره بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 29 ] .
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قال المهايمي : أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة ، واستجاب لله ، فلا يخاف على أهله وماله وعرضه ، أي : كما خاف أبو لبابة .
فإن من اتقاه تعالى فلا يجترئ أحد على أهله وحوزته ، لأنه يؤتى فرقاناً يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز . انتهى .
وقيل : { فَرقاناً } أي : نصراً ، لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه ، والإسلام بإعزاز أهله .
ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ الْفُرْقَان } . وقيل : بياناً وظهوراً يشهر أمركم ، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم : بت
أفعل كذا حتى سطع الفرقان ، أي : طلع الفجر .
وقيل : فصلاً بين الحق والباطل ، ومخرجاً من الشبهات ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
والفرقان كالفرق ، مصدر فرق ، أي : فصل بين الشيئين ، سواء كان بما يدركه البصر ، أو بما تدركه البصيرة ، إلا أن الفرقان أبلغ ، لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل ، والحجة والشبهة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ 30 ] .
وقوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
لما ذكر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى :
{ وَاذْكُرُوا إِذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ } ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نعمته عليه خاصة ، في حفظه من مكر قريش به ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم ، واستيلائه عليهم ، وذلك أن قريشاً ، لما أسلمت الأنصار ، وأخذ نور الإسلام في الإنتشار ، فرقوا أن يتفاقم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ـ وهي دار بناها قصي بن كلاب ليصلح فيها بين قريش ، ثم صارت لمشاورتهم ، وهي الآن مقام الحنفيّ ، والندوة الجماعة من القوم ، وندا بالمكان اجتمع فيه ، ومنه النادي ـ ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم .
فقال أبو البحتري بن هشام : رأيي أن تحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا بابه ، غير كوّة ، تلقون إليه طعامه وشرابه منها ، وتتربصوا به ريب المنون .
وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : { لِيُثْبِتُوكَ } أي : ليحبسوك ويوثقوك ، لأن كل من حبس شيئاً وربطه فقد جعله ثابتاً لا يقدر على الحركة منه .
ثم اعترض هذا الرأي شيخ نجدي دخل معهم ، فقال : بئس الرأي ! يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم ! ثم قال هشام بن عَمْرو : رأيي أن تحملوه على جمله ، وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يسركم ما صنع ، واسترحتم .
وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : { أوْ يُخْرِجُوكَ } يعني من مكة ، ثم اعترض النجدي أيضاً بقوله : بئس الرأي ! يفسد قوماً غيركم ، ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل - لعنه
الله - : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً ، وتعطوه سيفاً ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا ، وهذا ما ذكره تعالى بقوله : { أوْ تَقْتُلُوكَ } .
ثم قال النجدي اللعين : صدق هذا الفتى ، هو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل ، مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن الله له في الهجرة ، فأمر علياً ، فنام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي ، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله بأبصارهم عنه ، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ : { يَس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ } إلى قوله
{ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
ومضى مع أبي بكر إلى الغار ، وبات المشركون يحرسون علياً ، يحسبون أنه النبي . فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه ، فرأوا علياً ، فقالوا : أين صاحبك ؟ فقال : لا أدري ! فاتبعوا أثره ، فلما بلغوا الغار ، رأوا نسج العنكبوت على بابه ، فقالوا : لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر . وخيب الله سعيهم ، وأبطل مكرهم .
ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثاً ، ثم خرج إلى المدينة .
روي ذلك عن ابن عباس من طرق عند ابن إسحاق ، والإمام أحمد والحاكم والبيهقي ، دخلت روايات بعضهم في بعض .
وقوله تعالى : { وَيَمْكُرُ اللَّهُ } أي : يدبر ما يبطل مكرهم . وقوله : { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمْاكِرينَ } أي : أعظمهم تأثيراً ، قاله المهايمي وأفاد أيضاً في مناسبة هذا الآية مع ما قبلها ؛ أن هذه تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقاناً يمنع من الإجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهراً يحفظه من مكر من مكر به ، بل يمكر له على ماكره . انتهى .
ثم أخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته تعالى بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } [ 31 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا } أي : مثل هذا { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } أي : المتلو .
وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد .
كيف لا ؟ ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة ، وقد تُحُدُّوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله ، وقُرعوا على العجز ، وذاقوا من ذلك الأمرين ، ثم قورعوا بالسيف ، فلم يعارضوا سواه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا ، خصوصاً في باب البيان الذي هم فرسانه ، المالكون لأزمته ، وغاية ابتهاجهم به .
وقوله تعالى : { إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي : ما سطروه وكتبوه من القصص . قيل : أساطير لا واحد له ، وقيل : هو جمع أسطر وسطور وأسطار ، جموع سطر وأحاديث . والأصل في السطر الخطب والكتابة . يقال : سطر : كتب ، ويطلق على الصف من الشيء كالكتاب والشجر . كذا في القاموس وشرحه .
وقد روي أن قائل هذا النضر بن الحارث من كَلَدة ، وأنه كان ذهب إلى بلاد فارس وجاء منها بنسخة حديث رُسْتُم واسفنديار ، ولما قدم ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله ، وهو يتلو على الناس ما قصه تعالى من أحاديث القرون .
قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، فزعم أنه مثل ما تلقفه ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس ، جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته . ثم يقول : بالله ! أينا أحسن قصصاً ، أنا أو محمد ؟
وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر ، وأسره المقداد ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم به ، فضربت عنقه .
وإسناده قوله إلى الجميع ، إما لرضا الباقين به أو لأن قائله كبير متبع ، وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ، ويغرهم بمثل هذا الجعجعة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 32 ] .
{ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا أسلوب من الجحود بليغ ، لأنهم عدوا حقية القرآن محالاً ، فلذا علقوا عليه طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ، ولو كان ممكناً لفروا من تعليقه عليه .
والمعنى ، إن كان هذا القرآن حقاً منزلاً ، فعاقبنا على إنكاره بالسجيل ، كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر .
وفي إطلاقهم الحق عليه ، وجعله من عند الله ، تهكم بمن يقول ذلك ، من النبي أو المؤمنين . وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن
المعلق به كونه حقاً على الوجه ، يدعيه صلى الله عليه وسلم ، وهو تنزيله ، لا الحق مطلقاً ، لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع ، غير منزل كالأساطير ، فالتعريف للعهد .
و : { أمْطِرْ } استعارة أو مجاز لأنزل .
قال الزمخشري : وقد كثر الإمطار في معنى العذاب . فإن قلت : ما فائدة قوله
{ مِّنَ السَّمَاء } ، والإمطار لا يكون إلا منها ؟ قلت : كأنه أريد أن يقال : فأمطر علينا السجيل ، وهي الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع : { حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء } موضع السجيل ، كما تقول : صبّ عليه مسرودة من حديد ، تريد درعاً .
وقوله : { بِعَذِابٍ أَلِيمٍ } أي : سوى الإمطار المذكور ، أو من عطف العام على الخاص .
وعن معاوية ، أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! قال : أجهل من قومي قومك ! قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ، ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
أي : الذي هو الأصلح لهم ، ولكن لشدة جهلهم وعتوهم وعنادهم استفتحوا على أنفسهم ، واستعجلوا تقديم العقوبة ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } . وقوله : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة ، كما قال قوم شعيب له : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث ، صاحب القول السالف .
قال عطاء : لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية ، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر .
وروى البخاري عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل .
وروى ابن مردويه عن بريدة قال : رأيت عَمْرو بن العاص واقفاً يوم أحد على فرس وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فاخسف بي وبفرسي .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ 33 ] .
{ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } بيان للموجب لإمهالهم ، وعدم إجابة دعائهم .
واللام لتأكيد النفي ، والدلالة على أن تعذيبهم ، والنبي بين أظهرهم ، غير مستقيم في الحكمة ، لأن سنته تعالى ، وقضية حكمته ، ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها ، لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ذكروا فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين .
قال الطيبي : وهذا الوجه أبلغ ، لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة .
والثاني : أن المراد به دعاء الكفرة بالمغفرة ، وقولهم : غفرانك في طوافهم بالبيت ، كما رواه ابن أبي حاتم ، فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعاً من عذابه ، ولو من الكفرة .
والثالث : أن المراد بالإستغفار التوبة ، والرجوع عن الجميع ما هم عليه من الكفر وغيره ، فيكون القيد منفيّاً في هذا ، ثابتاً في الوجهين الأولين .
قال القاشانيّ : العذاب سورة الغضب وأثره ، فلا يكون إلا من غضب النبي ، أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان صورة الرحمة ، لقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ، ولهذا لما كسروا رباعيته قال : < اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون > ، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام وقال : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } .
فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب ، وكذا وجود الإستغفار ، فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب ، والإستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته ، بل يوجب زواله ، فلا يتسبب لغضب الله ، فما دام الإستغفار فيهم فهم لا يعذبون . انتهى .
روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أنزل الله
عليّ أمانين لأمتي : { وَمَا كاَنَ اللّهُ لِيْعَذِّبَهُمْ } الآية ، فإذا مضيت تركت فيهم الإستغفار إلى يوم القيامة > .
قال ابن كثير : ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك ، لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .
وروى الإمام أحمد عن فَضَالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله عز وجل .
ثم بين تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 34 ] .
{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم ، وحالهم الصد عن المسجد الحرام ، كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة .
قال القاشاني : أي : ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم ، بل إنهم مستحقون بذواتهم ، لصدودهم ، وصدهم المستعدين ، وعدم بقاء الخيرية فيهم ، ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم .
ثم قال : واعلم أن الوجود الإمكاني يتبع الخير الغالب ، لأن الوجود الواجبيّ هو الخير المحض ، فما رجح [ في المطبوع : رجع ] خيره على شره فهو موجود بوجوده بالمناسبة الخيرية ، وإذا غلب الشر لم تبق المناسبة ، فلزم استئصاله وإعدامه .
فهم ما داموا على الصورة الإجتماعية كان الخير فيهم غالباً ، فلم يستحقوا الدمار بالعذاب ، وأما إذا تفرقوا فما بقي إلا شرهم خالصاً فوجب تدميرهم ، كما وقع في واقعة بدر .
ومن هذا يظهر تحقيق المعنى الثاني في قوله تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة }
لغلبة الشرع على المجموع حينئذ . انتهى .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } رد لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم ، نصد من نشاء ، وندخل من نشاء ، أي : ما كانوا مستحقين ولاية أمره ، لشركهم : { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ } أي : من الشرك ، فلهم أن يصدوا المفسدين : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أنهم لا ولاية لهم عليه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 35 ] .
{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء } أي : تصفيراً : { وَتَصْدِيَةً } أي : تصفيقاً بالأكف .
روى ابن أبي حاتم أن ابن عَمْرو رضي الله عنهما حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده ، وصفق بيديه .
وعن ابن عمر أيضاً قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون .
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، يصفرون ويصفقون .
وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته .
وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين .
وهذا الجملة إما معطوفة على : { وَهُمْ يَصُدُّونَ } ، فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ، أو على قوله : { وَمَا كاَنُوا أوْليِاءَهُ } ، فيكون تقريراً لعدم استحقاقهم لولايته .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذا الكلام ؟ قلت : هو نحو من قوله ـ أي : الفرزدق ـ :
~وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أَدَاهِمَ سوداً أو مُحدرجةً سُمْرا
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء ، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة .
وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، وهم مشبكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون .
وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ، ويخلطون عليه .
ما كنت أخشى ، أي : ما كنت أعلم . وأداهم : جمع أدهم ، وهو الأسود من الحيات . والعرب تذكر الأدهم ، وتريد به القيد ، كما في قصة القبعثري .
والمحدرجة : السياط . انتهى .
{ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : اعتقاداً وعملاً ، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت ، كفر ، للإستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها .
والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، كما قاله غير واحد من السلف واختاره ابن جرير .
تنبيه :
قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق ، والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة ، أشباه هؤلاء المشركين ، قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة ، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها ، المكاء والتصدية ، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار . وهذا كقولك : زرته فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة .
والمقصود أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه ، فيهم شبه من هؤلاء ، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر ، فلهم قسط من الذم ، بحسب تشبههم بهم ، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم ، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر ، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح ، لئلا يتشبهوا بالنساء ، فكيف إذا فعلوه ، لا لحاجة ، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً . انتهى .
وقال قبله : ومن مكائد عدو الله ومصاديه التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، سماع المكاء والتصدية ، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان .
وقال شيخه تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى ، في بعض فتاويه : وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والإجتماع على ذلك ، ديناً وطريقاً إلى الله وقربة ، فهذا ليس من دين الإسلام ، وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين ، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد أصحابه ، ولا تابعيهم بإحسان ، ولا تابعي التابعين ، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة ، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع ، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة ، ولهذا قال الشافعي - لما رأى ذلك - : خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن ، وسئل عنه أحمد فقال : أكرهه ، هو محدث . قيل ، أتجلس معهم ؟ قال : لا ! وكذلك كرهه سائر أئمة الدين ، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه ، فلم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم ، ولا الفضيل بن عياض ، ولا معروف الكرخي ، ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواري ، ولا السري السقطي ، وأمثالهم .
والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين ، تركوه في آخر أمرهم ، وأعيان المشايخ عابوا أهله ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر ، والشيخ أبو البيان وغيرهما من الشيوخ ، وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنهم أنه من إحداث الزنادقة ، من كلام إمام خبير بأصول الإسلام ، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ، ويدعو إليه في الأصل ، إلا من هو متهم بالزندقة ، كابن الزاونديّ والفارابيّ وابن سينا وأمثالهم .
ثم قال رحمه الله : نعم ! قد حضره أقوام من أهل الإرادة والمحبة ، ومن لم نصيب في المحبة ، لما فيه من التحريك لهم ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، كما دخل قوم من الفقهاء في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظناً منهم أنه حق موافق ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، فإن القيام بحقائق الدين علماً وقولاً وعملاً وذوقاً وخبرة لا يستقل به أكثر الناس ، ولكن الدليل الجامع هو الإعتصام بالكتاب والسنة .
ثم قال رحمه الله : ومن كان له خبرة بحقائق الدين ، وأحوال القلوب ، ومعارفها وأذواقها ، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة ، إلا وفي ضمن ذلك من المفسدة ما هو أعظم منه ، فهو للروح كالخمر للجسد ، يفعل في النفوس ، أعظم ما تفعله حمياً الكؤوس . ثم قال : وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يقرب إلى الجنة ، إلا وقد حدث به ، ولا شيئاً يبعد عن النار ، وإلا وقد حدث به ، وإن هذا السماع ، لو كان مصلحة ، لشرعه الله ورسوله ، فإن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية .
وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، لم يلتفت إليه . كما أن الفقيه إذا رأى قياساً لا يشهد له الكتاب والسنة ، لم يلتفت إليه انتهى .
وقد سلف لنا شيء من هذا البحث عند قوله تعالى : { فَاذْكُرُوِني أَذْكُرْكُمْْ } فليراجع .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [ 36 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين ، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق ، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عني بها المطعمون منهم يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش ، يطعم كل واحد منهم ، كل يوم عشرة جزر .
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان ، ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان ، ومن كانت له في تلك العير تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا ، ففعلوا . قال : ففيهم ـ كما ذكر عن ابن عباس ـ أنزلت الآية . ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك .
واللام في ليصدوا ، لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل ، لأن غرضهم الصدر عما هو سبيل الله بحسب الواقع ، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم .
وسبيل الله طريقه وهو دينه ، واتباع رسوله ، ولما تضمن الموصول معنى الشرط ، والخبر بمنزلة الجزاء ، وهو : { فَسَيُنفِقُونَهَا } اقترن
بالفاء { ينفقون } إما حال ، أو بدل من : { كفروا } وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار ، التوبيخ على الإنفاق ، والإنكار عليه ، كما في قوله :
{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه } .
وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء ، الدلالة على كمال سوء الإنفاق ، كما في قوله : { إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } . وقولهم : من أدرك الصَّمَّان فقد أدرك المرعى ، والمعنى : الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله ، والصدّ عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، سيعلمون عن قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق ، وانقلابه إلى أشد الخسران ، من القتل والأسر في الدنيا ، والنكال في العقبى : قال المتنبي :
~إذا الجودُ لم يُرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقياً
والأذى هنا المنّ
وفي جعل ذات الأموال تصير : { حسرة } أي : ندماً وتأسفاً - وهي عاقبة أمرها - مبالغة .
والمراد بالغلبة في قوله : { ثم يغلبون } الغلبة التي استقر عليها الأمر ، وإن كانت الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك . فإن قلت : غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم ، بالزمان ، فلم أخرت بالذكر ؟
قلت : المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك . كذا في " العناية " .
تنبيه :
قال بعضهم ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى ، وأن الإنفاق في ذلك معصية ، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم ، وكذلك بيع السلاح والكراع ، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 37 ] .
{ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : الكافر من المؤمن ، أو الفساد من الصلاح . واللام متعلقة بـ : { يحشرون } أو : { يغلبون } ، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما أنفقه المسلمون في نصرته ، واللام متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ }
أي : فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض ، حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم ، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ، ليزيد به عذابه كمال الكانزين .
{ أُوْلَئِكَ } إشارة إلى الخبيث ، لأنه مقدر بالفريق الخبيث ، أو إلى المنفقين : { هُمُ الْخَاسِرُونَ } لخسرانهم أنفسهم وأموالهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } [ 38 ] .
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني أبا سفيان وأصحابه ، فالتعريف فيه للعهد أو للجنس ، فيدخل هؤلاء دخولاً أولياً { إِن يَنتَهُواْ } أي : عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم : { يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } أي : من الكفر والمعاصي { وَإِنْ يَعُودُواْ } إلى قتاله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } أي : الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير ، أو الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر .
وقوله : { فقد مضت } الخ دليل الجزاء ، والتقدير : انتقمنا منهم فقد مضت الخ .
تنبيه :
استدل بالآية على أن الإسلام يجبّ ما قبله ، كما جاء في الحديث وأن الكافر إذا أسلم ، لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس .
وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب ، لعموم الآية ، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبي عليه قبل إسلامه .
أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك : لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم ، ولم يعد طلاقهم شيئاً ، لأن الله تعالى قال : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } كذا في " الإكليل " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 39 ] .
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شرك أو إضلال لغيرهم ، وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } أي : يخلص التوحيد لله ، فلا يعبد غيره { فَإِنِ انتَهَوْاْ } أي : عن الكفر والمعاصي ظاهراً : { فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : ببواطنهم
{ بَصِيرٌ } أي : فيجازيهم ، وعليه حسابهم ، فكفوا عنهم ، وإن لم تعلموا ببواطنهم . كقوله تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } الآية ، وفي الآية الأخرى : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل > .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة : لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ، فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لأسامة : < أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ، فكيف نصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ > فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوّذا ، فقال : < هلا شققت عن قلبه > ؟ وجعل يقول ويكرر عليه : < من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة > ؟ قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ 40 ] .
{ وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ } أي : ناصركم ومعينكم ، فثقوا بولايته ونصرته { نِعْمَ الْمَوْلَى } فلا يضيع من تولاه { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } فلا يغلب من نصره .
ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به ، وهو الغنائم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 41 ] .
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } أي : قلّ أو كثُر من الكفار { فَأَنَّ لِلّهِ } أي : الذي
منه النصر المتفرع عليه الغنيمة { خُمُسَهُ } شكراً له على نصره وإعطائه الغنيمة { وَلِلرَّسُولِ } أي : الذي هو الأصل في أسباب النصر { وَلِذِي الْقُرْبَى } وهم بنو هاشم والمطلب { وَالْيَتَامَى } أي : من مات آباؤهم ولم يبلغوا ، لأنهم ضعفاء ، { وَالْمَسَاكِينِ } لأنهم أيضاً ضعفاء كاليتامى { وَابْنِ السَّبِيلِ } وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق ويريد الرجوع إلى بلده ، ولا يجد ما يتبلغ بهم .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى : قال الفقهاء : الغنيمة المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب ، أي : ما ظهر عليه المسلمون بالقتال . وهل هي والفيء والنفل شيء واحد أو لا ؟ وسنفصله في آخر المسائل .
الثانية : ما في : { أنما } بمعنى الذي والعائد محذوف ، وكان حقها ، على أصولهم ، أن تكتب مفصولة .
قال الشهاب : وقد أجيز في ما هذه أن تكون شرطية .
الثالثة : قوله تعالى : { مِنْ شَيءٍ } ، بيان للموصول ، محله النصب ، على أنه حال من عائد الموصول ، قصد به الإعتناء بشأن الغنيمة ، وألا يشذّ عنها شيء ، أي : ما غنمتموه كائناً ما كان يقع عليه اسم الشيء ، حتى الخيط والمخيط .
الرابعة : الخمس بضم الميم ، وسكونها ، لغتان قد قرئ بهما .
الخامسة : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى ، وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ذي الفرس العربيّ ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر .
ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان .
والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين .
ومنهم من يقول : يسوى بين الفرس العربيّ والهجين في هذا ، الهجين يسمى البرذون والأكديش .
ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابي أحد ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها .
وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلاً على من دونه
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم . كذا في " السياسة الشرعية " لابن تيمية .
في " زاد المعاد " لابن القيم : كان صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بعدوه ، أمر منادياً فجمع الغنائم كلها ، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها ، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام ، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد ، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش : للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ، وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة .
وقيل : بل كان النفل من الخمس ، وجمع لسلمة بن الأكوع ، في بعض مغازيه ، بين سهم الراجل والفارس ، فأعطاه خمسة أسهم ، لعظم غنائه في تلك الغزوة .
قال ابن تيمية : وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس ، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر .
السادسة : ذهب الجمهور إليه أن ذكر الله تعالى في قوله : { فَأَنَّ للّه } للتعظيم ، أي : تعظيم الرسول ، كما في قوله تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه } ، أو لبيان أنه لابد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى ، وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه ، وتمسك بعضهم بظاهر ذلك ، فأوجب سهماً سادساً لله تعالى ، يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة قال : لأن كلام الحكيم لا يُعرّى عن الفائدة ، ولأنه ثبت اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّه } ، فكذا هنا .
وهذا مروي عن أبي العالية ، والربيع والقاسم وأسباطه ويؤيد ما للجمهور ، ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بوادي القرى ، وهو معترض فرساً ، فقلت : يا رسول الله ! ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : < لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش > . قلت : فما أحد أولى به من أحد ؟ قال ، < لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم > . ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال : ألا
أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ؟
السابعة : خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له ، كان أمره في حياته مفوضاً إليه ، يتصرف فيه بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء .
روى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم ، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتناول وبرة بين أنملتيه فقال : < إن هذا من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في
الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس ، في الله تبارك وتعالى ، القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم > .
قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .
وروى أبو داود والنسائي عن عَمْرو بن عَبَسة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : < ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود عليكم > - واستدل به على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصرفه لمصالح المسلمين .
وكان له صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه ، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك ، رواه أبو داود عن محمد بن سيرين والشعبي مرسلاً ، وأحمد والترمذي عن ابن عباس .
وللعلماء فيما يصنع بخمسه صلى الله عليه وسلم من بعده مذاهب :
فمن قائل : يكون لمن يلي الأمر من بعده ، قال ابن كثير : روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة . وجاء فيه حديث مرفوع .
ومن قائل : يصرف في مصالح المسلمين ، قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح .
ومن قائل : بأنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم .
ومن قائل : بأنه مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . واختاره ابن جرير . وللمسألة حظ من النظر .
الثانية : أجمعوا على أن المراد بذوي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم .
وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة ، لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية ، وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة ، وأنفة وطاعة لأبي طالب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا ابني عمهم ، لم يوافقوهم ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ، ولهذا كان ذمهم أبو طالب في قصيدته بقوله منها :
~جَزَى الله عنََّا عبد شمسٍ ونوفلاً عقوبة شّرٍ عاجلاً غير آجلِ
نوفل : هو ابن خويلد ، كان من شياطين قريش ، قتله على بن أبي طالب يوم بدر .
~بميزانِ قسطٍ لا يخيسُ شعيرةً له شاهدٌ من نفسهِ غيرُ عائلِ
لا يخيس ، من قولهم : خاس بالعهد إذا نقضه وأفسده . والعائل : الحائر .
~لقد سَفِهَتْ أحلامُ قوم تبدَّلوا بني خلف قيضاً بنا و الغياطل
قيضاً : عوضاً ، والغياطل : بنو سهم .
~ونحن الصَّميمُ من ذُؤابةِ هاشمٍ وآلِ قُصي في الخُطُوبِ الأوائِلِ
الصميم : الخالص من كل شيء ، والذؤابة : الجماعة العالية ، وأصله الخصلة من شعر الرأس .
وقال جبير بن مُطْعِم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك ؟ فقال : < إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد > . - رواه مسلم .
وفي رواية : أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام - أفاده ابن كثيرـ .
وقد روي عن ابن عباس وزين العابدين والباقر أنه يسوى في العطاء بين غنيّهم وفقيرهم ، ذكورهم وإناثهم ، لأن اسم القرابة يشملهم ، ولأنهم عُوضوه لما حرمت
عليهم الزكاة ، وقياساً على المال المقر به لبني فلان .
واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة ، فأشبه الميراث . قال : فللذكر منه مثل حظ الأنثيين . انتهى .
وقال في " العناية " : إنه كان لعبد مناف ـ جد النبي صلى الله عليه وسلم ـ خمس بنين : هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عَمْرو ، وكلهم أعقبوا إلا أبا عَمْرو .
التاسعة : سهم اليتامى : قيل يخص به فقراؤهم ، وقيل : يعم الأغنياء والفقراء ، حكاه ابن كثير . والأظهر الثاني ، والسرّ فيه ما قدمناه في سورة البقرة ، فتذكره فإنه مهم .
العاشرة : المساكين : المحاويج الذين لا يجدون ما يسدُّ خلتهم ويكفيهم ، وابن السبيل : ذكرنا معناه أولاً .
الحادية عشرة : قال بعضهم : يقتضي ما ذكر في هذه الآية وما في صدر هذه السورة من الأنفال ، وما في سورة الحشر من قوله تعالى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه }
أن القسمة في الأموال المظفور بها ثلاثية : نفل : وغنيمة ، وفيء ، ويتقضي إطلاق جعل النفل لله ولرسوله ، والغنيمة لمن ذكر مخمسة ، والفيء لمن ذكر بلا قيد . التخميس أن لكل من الثلاثة حكماً يخالف الآخر ، وإن النفل ما يعطى لمن له من العناية والمقاتلة ما ليس لغيره ، وفاء لعدته بذلك ، قبل إحراز الغنيمة كالسلب ، وإن الغنيمة ما أحرز بالقتال ، سوى ما شرط التنفيل به ، لأنه لا بخمس ، والفيء ما أخذ من الكفار بغير قتال ، كالأموال التي يصالحون عليها ، والجزية والخراج ، ونحو ذلك ، وإلى هذا التفصيل ذهب الجمهور .
وذهب بعضهم إلى اتحاد الثلاثة ، وعدم التفرقة بينها ، وإلى دخولها في الغنيمة ، وقال : ما أطلق في آية الأنفال ، وآية الحشر ، مقيد بآية الغنيمة هذه . وهذا هو مراد قول بعضهم : إنهما منسوختان بهذه ، بمعنى أن إطلاقهما مقيد بهذه ـ والله أعلم ـ .
وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ } أي : فاعملوا بما ذكر ، وارضوا بهذه القمسة فالإيمان يوجب العمل بالعلم ، والرضا بالحكم .
وقد جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : < وآمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع : آمركم
بالإيمان بالله > . ثم قال : < هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم > ، الحديث - فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوّب البخاري على ذلك في باب الإيمان من صحيحه ، فقال : باب أداء الخمس من الإيمان ، وساق الحديث المذكور .
وقوله تعالى : { وَمَا أَنزَلْنَا } معطوف على : { باللَّه } أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل { عَلَى عَبْدِنَا } أي : محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : من الآيات والملائكة والنصر ، { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } أي : يوم بدر ، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . و الفرقان بمعناه اللغوي ، والإضافة فيه للعهد { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } يعني جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، فالتعريف للعهد ، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، والمؤمنون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشرة رجلاً ، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثل ذلك .
{ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيقدر على نصر القليل على الكثير ، كما فعل بكم يوم بدر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 42 ] .
{ إِذْ أَنتُم } بدل من يوم الفرقان ، أو ظرف لمحذوف ، أي : اذكروا إذ أنتم يا معشر المؤمنين { بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } يعين بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، { وَهُم } يعني المشركين أبا جهل وأصحابه { بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } أي : البُعدَى عن المدينة ، مما يلي مكة { وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي : العير التي فيها أبو سفيان ، بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها ، أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن
العير كانت أسفل منهم ؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدته ، تمهّد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتباث أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذا الحال ، ليست إلا صنعاً من الله سبحانه ، ودليلاً على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته ، باهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون ، كان فيها الماء ، كانت أرضاً لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبارـ ما لان من الأرض واسترخى ـ تسوخ فيه الأرجل ، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذبّ عن الحريم ، والغيرة على الحرب ، على بذل جُهيداهم في القتال ، وألا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالإنحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط همومهم ، ويوطن نفوسهم ، على ألا يبرحوا موطنهم ، ولا يُخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم ، وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر ، ليقضي أمراً كان مفعولاً ، من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين ، مبهمة غير مبينّة ، حتى خرجوا ليأخذوا العير ، راغبين في الخروج ، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم ، حتى نفروا ليمنعوا غيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا ، وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب على ساق ، وكان ما كان ، انتهى .
قال الناصر في " الإنتصاف " : وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري ، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز .
وقوله تعالى : { وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ } أي : ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لخالف بعضكم بعضاً ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم ، على الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له . قاله الزمخشري .
وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .
وروى ابن جرير عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر
هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة وشهد الناس بعضهم إلى بعض .
{ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي : ولكن جمع بينكم على هذه الحال على غير ميعاد ، ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، من غير ملأ منكم .
وقوله : { كاَنَ مَفْعُولاً } أي : حقيقاً بأن يفعل ، وقيل : { كان } بمعنى صار ، أي : صار مفعولاً ، بعد أن لم يكن ، وقيل : إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى .
وقوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } أي : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع حجة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهراً ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك ، أي : يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره ، أنه مبطل لقيام الحجة عليه ، ويؤمن من آمن عن حدة وبصيرة ويقين ، بأنه دين الحق ، الذي يجب الدخول فيه ، والتمسك به .
وذلك أن ما كان من وقعة بدر ، من الآيات الغرّ المحجّلة ، التي من كفر بعدها ، كان مكابراً لنفسه ، مغالطاً لها .
لطائف :
الأولى : قوله تعالى : { لِيَهْلِكَ } بدل من : { لِيَقْضِيَ } أو متعلق بـ : { مفَعْولاً } .
الثانية : الحياة والهلاك استعارة للكفر والإسلام ، وقرئ : { ليهلَك } بفتح اللام .
الثالثة : { حَيَّ } يقرأ بتشديد الياء ، وهو الأصل ، لأن الحرفين متماثلان متحركان ، فهو مثل شدّ ومدّ ، ومنه قول عبيدة بن الأبرص :
~عَيُّوا بأمرهِمُ كما عيَّتْ بِبْيضتها الحمامَهْ
ويقرأ بالإظهار وفيه وجهان :
أحدهما : أن الماضي حمل على المستقبل ، وهو يحيا ، فكما لم يدغم في المستقبل ، لم يدغم في الماضي ، وليس كذلك شد ومد ، فإنه يدغم فيهما جميعاً .
والوجه الثاني : أن حركة الحرفين مختلفة ، فالأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، واختلاف الحركتين ، كاختلاف الحرفين ، ولذلك أجازوا في الاختيار : لححت عليه ، وضبب البلد ، إذا كثر ضبه ، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة ، فكأن الياء الثانية : ساكنة ، ولو سكنت لم يلزم الإدغام ، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن ، والياآن أصل ، وليست الثانية بدلاً من واو ، فأما الحيوان ، فالواو فيه بدل من الياء . وأما
الحواء ، فليس من لفظ الحية ، بل من حوى يحوي إذا جمع - قاله أبو البقاء - .
{ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 43 ] .
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } منصوب بأذكر ، أو بدل آخر من يوم الفرقان ، وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه ، فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم : { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } أي : لجبنتم وهبتم الإقدام .
{ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } أي : أمر الإقدام والإحجام ، فتفرقت كلمتكم ، { وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ } أي : عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع . ولذلك دبر ما دبر .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } [ 44 ] .
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } وذلك تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به ، فيزداد يقينهم ، ويجدوا ، ويثبتوا .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيينا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ! فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفاً ! - رواه ابن أبي حاتم وابن جريرـ .
{ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } أي : في اليقظة ، حتى قال أبو جهل : إن محمداً وأصحابه أكلة جزورٍ ، مثل في القلة ، كأكلة رأس ، أي : أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك .
وأكلة بوزن كتبة ، جمع آكل ، بوزن فاعل ، والجزور الناقة ، كذا في " العناية " .
{ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً } أي : من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام ، وكذب دين الكفر .
{ كَانَ مَفْعُولاً } أي : كالواجب فعله على الحكيم ، لما فيه من الخير الكثير . قاله المهايمي .
لطائف :
الأولى : قال الزمخشري : فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أَعْيَن المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم ؟
قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترئوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة ، فيبهتوا ويهابوا ، وتفلَّ شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الإحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم آخراً .
الثانية : قال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً ؟ قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستلون به الكثير ، كما أحدث في أَعْيَن الحول ما يرون به الواحد اثنين قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين - وكان بين يديه ديك واحد - فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة ؟ انتهى .
قال الناصر في " الإنتصاف " : وفي هذا - يعني كلام الزمخشري - دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة ، أو قرب ، أو ارتفاع حجب ، أو غير ذلك ، إذا لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلاً ، لما أمكن أن يستر عنهم البعض ، وقد أدركوا البعض ، والسبب الموجب مشترك .
فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها ، فلا ربط إذن بين الروية ونفيها في مقدرة الله تعالى ؟ وهي رادّة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى ، بناءاً على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلاً ، وأنها تستلزم الجسمية ، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم .
فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم ، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . والله الموفق .
الثالثة : لا يقال : إن قوله تعالى : { لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } مكرر مع ما سبق . لأنا نقول : إن المقصود من ذكره أولاً هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أَعْيَن المشركين ، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة .
وفي قوله تعالى : { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ } تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد .
ثم أرشد تعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ، ومبارزة الأعداء ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [ 45 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ } أي : إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم واصبروا على مبارزتهم ، فلا تفروا ولا تجبنوا ولا تنكلوا ، وتفسير اللقاء بالحرب لغلبته عليه ، كالنزال ولم يصف الفئة بأنها كافرة ، لأنه معلوم غير محتاج إليه .
{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً } أي : في مواطن الحرب ، مستظهرين بذكره مستنصرين به ، داعين له على عدوكم { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } أي : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة .
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه ، التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس فقال : < يا أيها الناس ! لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف > .
ثم قال : < اللهم منزل الكتاب ، ومُجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم > .
وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتُر عن ذكر ربه ، أشغل ما يكون قلباً ، وأكثر ما يكون هماً ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ، ويقبل إليه بكليته ، فارغ البال ، واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال . . .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 46 ] .
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في كل ما يأمران به وينهيان ، وهذا عامّ
والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } أي : باختلاف الآراء ، أو فيما أمرتم به { فَتَفْشَلُواْ } أي : تجبنوا ، إذ لا يتقوى بعضكم ببعض .
{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي : قوتكم وغلبتكم ، ونصرتك ودولتكم ، شبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته ، بالريح وهبوبها ، ويقال : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، قال :
~إذا هبّت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقةٍ سكُونُ
~ولا تغفَلْ عن الإحسانِ فيها فما تَدرِي السكونَ متى يكونُ
{ وَاصْبِرُواْ } أي : على شدائد الحرب ، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع ، فالصبر مستلزم للنصر { إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } أي : بالنصر .
قال ابن كثير رحمه الله : وقد كان للصحابة رضي الله عنهم ، وفي باب الشجاعة والإئتمار بما أمرهم الله ورسوله ، وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم ، والقرون قبلهم ولا يكون لأحد من بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً ، وفي المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك ، والصقالبة والبربر والحبوش ، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجميعن .
تنبيه :
قال بعض المفسرين في قوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُوا } ، أي : لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد ، بل ليتفق رأيكم .
قال : ولقائل أن يقول : استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبّر أمرهم . ويقطع اختلافهم ، فإن بلزوم طاعته ، ينقطع الإختلاف ، وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا ، وقال : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي . انتهى .
ولما أمر تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء ، أمرهم بالإخلاص فيه ، بنهيهم عن التشبه بالمشركين ، في انبعاثهم للرياء ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ 47 ] .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً } أي : فخراً بالشجاعة : { وَرِئَاء النَّاسِ } أي : طلباً للثناء بالسماحة والشجاعة { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ } أي : لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه ، وقد أتاهم رسول أبي سفيان ، وهم بالجحفة أن ارجعوا ، فقد سلمت عيركم ، فأبوا ، وقالوا : لا نرجع حتى نأتي بدراً ، فننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا فيه القيان ، وتسمع بنا العرب ، فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها ، فسُقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، أي : لا يكن أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله النية والحسبة ، في نصر دينكم ، ومؤازرة نبيكم ، لا تعملوا إلا لذلك ، ولا تطلبوا غيره .
والرئاء مصدر راءى ، إذا أظهر العمل للناس ليروه غفلة عن الخالق ، وقد يقال راياه مراياة ورياء ، على القلب .
و : { بطراً ورئاء } إما مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال .
و يصدون إما حال ، بتأويل اسم الفاعل ، أو بجعله مصدر فعل هو حال ، وإما مستأنف .
ونكتة التعبير بالإسم أولاً ثم الفعل ، الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم ، بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 48 ] .
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } أي : في معاداة الرسول والمؤمنين ، بأن وسوس إليهم { وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ } أي : من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } أي : مجير ومعين لكم { فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ } أي : تلاقتا ، وتراءت كل واحدة صاحبتها ، فرأى الملائكة نازلة من السماء لإمداد المؤمنين ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ } أي :
ولّى هارباً قفاه : { وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ } أي : من عهد جواركم { إِنِّي أَرَى } أي : من الملائكة النازلة لإمداد المؤمنين { مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ } أي : أن يعذبني قبل يوم القيامة { وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : فلا يبعد مع إمهالي إلى القيامة ، أن يعذبني لشدة عقابه .
تنبيه :
ذكروا في التزيين وجهين :
أحدهما : أن الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل ، في صورة إنسان ، وهو مروي عن الحسن والأصم .
فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة ، والنكوص وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده .
وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان ، لأنهم لما أرادوا المسير إلى بدر ، خافوا من بني كنانة ، لأنهم كانوا قتلوا رجلاً ، وهو يطلبون دمه ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل إبليس اللعين في صورة سُرَاقَة الكِنَانِي ، وقال : أنا جاركم من بني كنانة ، فلا يصل إليكم مكروه منهم . فقوله إني جار لكم على الحقيقة .
وقال الإمام : معنى الجار هنا الدافع للضرر عن صاحبه ، كما يدفع الجار عن جاره . والعرب تقول : أنا جار لك من فلان ، أي : حافظ لك ، مانع منه . وهذا القول الثاني ذهب إلى جمهور المفسرين .
روى مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز مرسلاً ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ ، منه في يوم عرفة > .
وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام . إلا ما رأى يوم بدر ، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة .
قال الإمام : وكان في تغيير صورة إبليس إلى صورة سُرَاقَة ، معجزة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا : هزم الناس سُرَاقَة ، فبلغ ذلك سُرَاقَة فقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغتني هزيمتكم ، فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سُرَاقَة ، بل كان شيطاناً .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 49 ] .
{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ } أي : بالمدينة ، و إذ منصوب بأذكر مقدراً ، أو بزين
{ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، لأن هذه صفة للمنافقين ، لا تنفك عنهم .
قال تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض } ، أو تكون الواو داخلة بين المفسِّر والمفسَّر نحو : أعجبني زيد وكرمه .
ويجوز أن يراد : الذين هم على حرف ، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام .
وعن الحسن : هم المشركون .
{ غَرَّ هَؤُلاء } يعنون المؤمنين { دِينُهُمْ } فظنوا أنهم ينصرونهم به على أضعافهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : من يعتمد عليه سبحانه وتعالى فإنه
ينصره على أضعافه ، بالغين ما بلغوا ، لأنه عزيز غالب على ما أراد ، وهو يريد نصر أوليائه ، حكيم وحكمته تقتضي نصرهم . وهو جواب لهم من جهته تعالى ، ورد لمقالتهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ 50 ] .
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : يقبض أرواحهم { الْمَلآئِكَةُ } أي : ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } لإعراضهم عن الحق ، ولهيآت الكبر والعجب والنخوة فيها : { وَأَدْبَارَهُمْ } لميلهم إلى الباطل ، وشدة انجذابهم إليه ، ولهيئات الشهوة والحرص والشره { وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } عطف على يضربون بإضمار القول ، أي : ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة . وجواب لو محذوف ، لتفظيع الأمر وتهويله .
وقال ابن كثير : وهذا السياق ، وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عام في حق كل كافر . وفي سورة القتال مثل هذه الآية ، وتقدم في الأنعام نحوها ، وهو قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } ، أي : بالضرب فيهم بأمر ربهم . [ في المطبوع وقع خطأ في الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 51 ] .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : ما كسبتم من الكفر والمعاصي { وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : بأن يأخذهم بلا جرم .
فإن قيل : ما سر التعبير بظلام بالمبالغة ، مع أن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ، ونفي الكثرة لا ينفي أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفي للقيد ؟
وأجيب بأجوبة :
منها : أنه نفي لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل : ظالم لفلان ولفلان وهلم جراً ، فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك ، أي : لكثرة الكمية فيه .
ومنها : أنه إذا انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم ، يظلم للإنتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركاً .
ومنها : أن ظلاماً للنسب ، كعطار ، أي : لا ينسب إليه الظلم أصلاً .
ومنها : أن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب ، فلو كان تعالى ظالماً ، كان ظلاماً ، فنفى اللازم ، لنفي الملزوم .
ومنها : أن في الظلام لنفي الظالم ، ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله ، انتقالاً من اللازم إلى الملزوم .
ومنها : أن العذاب من العظم بحيث ، لولا الإستحقاق ، لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه ، فالمراد تنزيهه تعالى ، وهو جدير بالمبالغة .
وأيضاً لو عذب تعالى عبيده بدونه استحقاق وسبب ، لكان ظلماً عظيماً ، لصدروه عن العدل الرحيم . كذا في " العناية " .
وفي صحيح مسلم عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله
تعالى يقول : < إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا ، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه > . والحديث طويل جليل ، معروف عند المحدثين ، بالحديث المسلسل بالدمشقيين .
ثم بين تعالى أن سير المشركين المستمر ، وعادتهم الدائمة ، مع ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم كسير الأمم السالفة مع رسلهم ، بقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 52 ] .
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } خبر لمقدر ، أي : دأب هؤلاء كدأب آل فرعون وممن تقدمهم من الأمم ، كقوم نوح ، وهو عملهم الذي دأبوا ، أي : استمروا عليه ، ثم فسره فقال : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ } أي : قبل يوم القيامة : { بِذُنُوبِهِمْ } أي : كما أخذ هؤلاء ، لأنهم اجترؤوا على معاصيه بما رأوا لأنفسهم من القوة فضعفهم ، إظهاراً لقوته .
{ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } قال المهايمي : تأخير العذاب إنما يكون للرحمة ، لكنه لما اشتد عنادهم ، اشتد غضبه ، لأنه شديد العقاب لمن اشتد عناده معه ، فلا يكون في حقه رحمة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 53 ] .
{ ذَلِكَ } أي : التعذيب الذي علم كونه مؤاخذة بالذنوب { بِأَنَّ اللّهَ } أي : بسبب أنه تعالى : { لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ } بتبديله إياها بالنقمة
{ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من وجبات تلك النعم من اعتقاد أو قول أو علم .
وهذا إخبار عن تمام عدله وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .
قال القاشانيّ : كل ما يصل إلى الْإِنْسَاْن هو الذي يقتضيه استعداده ، ويسأله بدعاء الحال ، وسؤال الاستحقاق .
فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة
لسلامة الإستعداد ، وبقاء الخيرية فيه لم يغيرها حتى أفسد استعداده ، وغير قبوله للصلاح ، بالإحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه بالقوة إلى الشر ، لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه ، بحيث لم يبق له مناسبة للخير ، ولا إمكان لصدروه منه ، فيغيرها إلى النقمة عدلاً منه وجوداً ، وطلباً من ذلك الاستعداد إياها بجاذبة الجنسية والمناسبة ، لا ظلماً وجوراً . انتهى .
{ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فيغير إذا غيّروا ، غضباً عليهم بما يسمع منهم أو يعلم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } [ 54 ] .
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فكان مبدأ تغييرهم أنهم : { كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } أي : الذي رباهم بالنعم ، فصرفوها إلى غير ما خلقت له بمقتضى تلك الآيات ، فكانت ذنوباً { فَأَهْلَكْنَاهُم } أي : زيادة على سلبه النعم { بِذُنُوبِهِمْ } أي : بما صرفوا بها النعم إلى غير ما خلقت له { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ } لإغراقهم النعم في بحر الإنكار بنسبتها إلى فرعون حيث أقروا بآلهيته { وَكُلٌّ } أي : من الفرق المكذبة الكافرة ، أو من آل فرعون ومن قبلهم ، وكفار قريش .
{ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أي : بصرف النعم إلى غير ما خلقت له ، وهو نوع من الإغراق لها في بحر الإنكار لأنه مرجع التغيير لها . كذا أوّل المهايمي .
وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهم من التكرار في الآيتين ، بتغير التشبيهين فيهما ، فلا يحتاج إلى دعوى التأكيد ، فمعنى الأول : حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر ، فأخذهم وآتاهم العذاب ، ومعنى الثاني : حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم ، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير ، وهو أنه أغرقهم .
وقيل : إن النظم يأباه ، لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب ، فينبغي أن يكون وجهه في الثاني قوله : { كَذبوا } لأنه مثله ، إذ كل منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه ، صالحة لأن تكون وجه الشبه ، فتحمل عليه كقوله تعالى :
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب } ، وأما قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً } فكالتعليل لحلول النكال ، معترض بين التشبيهين ، غير مختص بقوم ، فَجَعْلُهُ وجهاً للتشبيه بعيدٌ عن الفصاحة . كذا في " العناية " .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 55 ] .
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : أصروا على كفرهم ورسخوا فيه : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : فلا يتوقع منهم إيمان .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } [ 56 ] .
{ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } أي : لا يخافون عاقبة الغدر ، ولا يبالون بما فيه من العار والنار .
تنبيهات :
الأول : قال المهايمي : أشار تعالى إلى أنه كيف يترك نعمه على من غير أحواله التي كانت أسباب النعم ، وقد كان بها إنسانيته ، فبتغييرها لحق بالدواب ، وبإنكار المنعم صار شراً منها ، والنعم تسلب ممن لا يعرف قدرها ، فكيف لا تسلب ممن ينكر المنعم ؟ .
الثاني : دلت الآية على جواز تحقير العصاة ، والإستخفاف بهم ، حيث سماهم تعالى دواب ، وأخبر أنهم شر الدواب .
الثالث : قالوا : نزلت الآية في يهود بني قريظة ، رهط كعب بن الأشرف ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عاهدهم ألا يحاربوه ، ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا العهد ، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضاً . ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرابع : الذين بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان له ، أو نصب له على الذم . وضمن عاهدت معنى الأخذ ، حتى عدِّي بمن ، أي : أخذت منهم عهدهم .
وقيل : من صلة ، وقال أبو حيان : هي للتبعيض ، لأن المباشر بالذات للمعاهدة بعض القوم ، وهي الرؤساء والأشراف .
الخامس : قوله : { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } ، حال من فاعل ينقضون ، أي : يستمرون على النقض ، والحال أنهم لا يتقون العار فيه ، لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم
أن يتقي نقض العهد ، حتى يسكن الناس إلى قوله ، ويثقون بكلامه ، فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد ، فهو شر من الدواب .
ثم شرع تعالى في بيان أحكام الناقضين ، بعد تفصيل أحوالهم ، بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 57 ] .
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ } أي : فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي : فرق بهم من وراءهم من المحاربين ، يعني : بأن تفعل بهم من النكال وتغليظ العقوبة ، ما يشرد غيرهم خوفاً ، فيصيروا لهم عبرة ، كما قال : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : لعل المشردين يتعظون بما شاهدوا ما نزل بالناقضين ، فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر .
قال في " التاج " : وقيل : معنى : { فَشرد بهم } فسمع بهم وقيل : فزع بهم ، ولا يخفى أن هذه المعاني متقاربة .
وأصل التشريد الطرد والتفريق ، ويقال : شرد به تشريداً ، سمع الناس بعيوبه . قال :
~أُطوف بالأباطحِ كلِّ يوم مخافَةَََ أن يُشرِّد بي حكيمُ
معناه أن يسمِّع بي ، و حكيم رجل من بي سُليم كانت قريش ولَّته الأخذ على أيدي السفهاء .
استشهد به في اللسان في مادة : ش ر د .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } [ 58 ] .
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد ، وإثر بيان الناقضين له بالفعل . و الخوف مستعار للعلم ، أي : وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي ، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر ، ومخايل الشرّ .
{ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ } أي : فاطرح إليهم عهدهم { عَلَى سَوَاء } أي : على طريق مستوٍ ، قصد بأن تظهر لهم النقض ، وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، كي لا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلاً ، وإن كانت في مقابلة خيانتهم .
وقوله : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } تعليل للأمر بالنبذ ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال ، لكونها خيانة ، فيكون تحذيراً له صلى الله عليه وسلم منها ، وإما باعتبار استتباعه للقتال ، فيكون حثاً له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولاً ، وعلى قتالهم ثانياً ، كأنه قيل : وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ، ثم قاتلهم ، إن الله لا يحب الخائنين ، وهم من جملتهم ، ولما علمت من حالهم . أفاده أبو السعود .
تنبيه :
دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة ، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة ، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر ، وأن يعلمهم بذلك ، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد .
روى أصحاب السنن أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر ! الله أكبر ! وفاء لا غدر ، فإذا هو عَمْرو بن عَبْسَةَ فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء > فرجع معاوية . وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال :
إنما كنت رجلاً منكم فهداني الله عز وجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم مالنا ، وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سوء ، إن الله لا يحب الخائنين .
يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها .
هذا ، وما ذكر من وجب إعلامهم ، وإنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها ، كما هو منطوق الآية .
وأما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد ، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهو في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرَ الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } [ 59 ] .
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ } قرئ بالياء والتاء { الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ } أي : فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } أي : لا يفوتون الله من الإنتقام ، وإما في الدنيا بالقتل ، وإما في الآخرة بعذاب النار .
وقرئ بفتح ( أن ) على تقدير لام التعليل ، وهذا كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، وقوله تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وقوله تعالى : { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ 60 ] .
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم } أي : لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم ، أو الكفار مطلقاً ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم { مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } أي : من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها ، أطلق عليه القوة مبالغة .
قال الشهاب : وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام ، فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان .
{ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } الرباط في الأصل مصدر ربط ، أي : شد ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقاً ، كثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله ، فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركاً بين معان أخر ، كانتظار الصلاة وملازمة ثغر العدو ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان ، كعين الشمس ، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركاً .
وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد ، فهو على معنى من التبعيضية .
وقد يكون الرباط جمع ربيط ، كفصيل وفصال .
قال في " التاج " : يقال : نعم الربيط هذا ، لما
يرتبط من الخيل ، ثم إن عطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها ، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة { تُرْهِبُونَ بِهِ } أي : تخوفون بذلك الإعداد { عَدُوَّ اللّهِ } وهو المثبت له شريكاً ، المبطل لكلمته { وَعَدُوَّكُمْ } أي : الذي يظهر عداوتك ، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم .
تنبيه :
دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، إتقاء بأس العدو وهجومه .
ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية ، أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزاً عظيماً ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذا نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فبقض على ناصية الأقطار والأمصار ، وخضد شوكة المستبدين الكافرين ، وزحزح سجوف الظلم والإستعباد ، وعاش بنوه أحقاباً متتالية وهم سادة الأمم ، وقادة مشعوب ، وزمام الحول والطول وعطب روحي العز والمجد ، لا يستكينون لقوة ، ولا يرهبون لسطوة .
وأما اليوم ، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني ، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإسلامية ، ولا ترى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو ؟
أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية ؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدو بلادها من أطرافها درساً يجب أن تتدبره ، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله ، فيقضي - والعياذ بالله - على الإسلام وممالك المسلمين ، لاستعمار الأمصار ، واستعباد الأحرار ، ونزع الإستقلال المؤذن بالدمار . وبالله الهداية .
وقوله تعالى : { وَآخَرِينَ } أي : وترعبون قوماً آخرين { مِن دُونِهِمْ } أي : من دون من يظهر عداوتكم ، وهم المنافقون { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } أي : أنهم يعادونكم { اللّهُ يَعْلَمُهُمْ } أي : أنهم أعداؤكم ، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم .
ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة ، ورباط الخيل ، مبشراً لهم بتوفية جزائه كاملاً ، بقوله تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : الذي أوضحه الجهاد : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي : في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج ، وفي الآخرة بالثواب المقيم : { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : بترك الإثابة .
تنبيهات :
الأول : هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات .
الثاني : في قوله تعالى : { تُرْهِبُون بِهِ } إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء .
وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ولرجل وزر ، فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخراً ورياءً ونِواءً لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر > .
الثالث : ما ذكرناه في تأويل الآخرين من أنهم المنافقون ، يشهد له قوله تعالى
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } .
ثم بين تعالى جواز مصالحة الكفار بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 61 ] .
{ وَإِن جَنَحُواْ } أي : مالوا وانقادوا { لِلسَّلْمِ } بكسر السين وفتحها ، لغتان ، وقد قرئ بهما ، أي : الصلح والاستسلام بوقوع الرهبة في قلوبهم ، بمشاهدة ما بكم من الإستعداد ، وإعتاد العتاد { فَاجْنَحْ لَهَا } أي : فمل إلى موافقتهم وصالحهم وعاهدهم ، وإن قدرت على محاربتهم ، لأن الموافقة أدعى لهم إلى الإيمان .
ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر . و السلم يذكر ويؤنث ، كما في " القاموس " .
قال الزمخشري : السلم تؤنث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب .
قال العباس بن مرداس :
~السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفسها جُرَعُ
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } أي : لا تخف في الصلح مكرهم ، فإنه يعصمك من مكرهم ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لأقوالهم { الْعَلِيمُ } أي : بأحوالهم ، فيؤاخذهم بما يستحقون ويرد كيدهم في نحرهم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } [ 62 ] .
{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } أي : بالصلح لتكف عنهم ظاهراً ، وفي نيتهم الغدر : { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ } أي : كافيك بنصره ومعونته .
قال مجاهد : يريد قريظة .
ثم علل كفايته له ، بما أنعم عليه من تأييده صلى الله عليه وسلم بنصره وبالمؤمنين ، فقال تعالى : { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } أي : يوم بدر بعد الضعف ، من غير إعداد قوة ولا رباط : { وَبِالْمُؤْمِنِينَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 63 ] .
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : جمع بين قلوبهم وكلمتهم ، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم ، بعد ما كان فيها العصيبة والضغينة { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } أي : من الذهب والفضة { مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر ، لكونه من عالم الغيب { وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } أي : بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه ، { إِنَّهُ عَزِيزٌ } أي : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن { حَكِيمٌ } أي : فاقتضت حكمته ذلك ، لما فيه من تأييد دينه ، وإعلاء كلمته .
قال الزمخشري ـ رحمه الله تعالى ـ : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الآيات الباهرة ، لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية ، والإنطواء على الضغينة في أدنى شيء ، وإلقائه بين أعينهم ، وإلى أن ينتقموا ، لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كما شاء ، ويصنع فيها ما أراد .
وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم ، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى ، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس .
وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً
وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته . انتهى .
وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه . كذا في " العناية " .
أقول : لكن شهرة ما كن بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده ، واستحال قبل البعثة نضوب مائه ، يصلح أن يكون قرينة . ونقل علماء السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج ، ودعاهم إلى الله تعالى . فأجابوه وصدقوه ، قالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك . رواه ابن إسحاق وغيره .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين ، قال لهم : < يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي > ؟ كلما قال شيئاً قال : < الله ورسوله أمنّ > .
لطيفة :
روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم يقرأ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْض } الآية .
وعند البيهقي نحوه . وقال موجود في الشعر :
~إذا بتّ ذو قربى إليك بزلة فغشك واستغنى فليس بذي رُحْم
~ولكن ذا القربى الذي إن دعوته أجاب ، وأن يرمي العدو الذي ترمي
قال : ومن ذلك قول القائل :
~ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم وبلوت ما وصلوا من الأسباب
~فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً وإذا المودة أقرب الأسباب
قال البيهقي : لا أدري هذا موصولاً بكلام ابن عباس ، أو هو قول من دونه من الرواة .
قال الرازي : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات ، كلها من خلق الله تعالى ، وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم . انتهى .
ولما بين تعالى كفايته لنبيه صلى الله عليه وسلم عند مخادعة الأعداء ، في الآية المتقدمة ، أعلمه بكفايته له في جميع أموره مطلقاً ، فقال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 64 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال العلامة ابن القيم في مقدمة " زاد المعاد " في تفسير هذه الآية : أي : الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا يحتاجون معه إلى أحد .
ثم قال : وهاهنا تقديران :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لمَنْ على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، على المذهب المختار ، وشواهد كثيرة ، وشُبه المنع منه واهية .
والثاني : أن تكون الواو واو مع ، وتكون من في محل نصب عطفاً على الموضع فإن حسبك في معنى كافيك ، أي : الله يكفيك ، ويكفي من اتبعك ، كما يقول العرب : حسبك وزيداً درهم ، قال الشاعر :
~إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
وهذا أصح التقديرين . وفيها تقدير ثالث ، أن تكون من في موضع رفع بالإبتداء ، أي : ومن اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله .
وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن يكون من في موضع رفع عطفاً على إسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك .
وهذا ، وإن قال به بعض الناس ، فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة .
قال الله تعالى : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده ، حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ، ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ؟ وأتباعه ، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب,ولم يشركوا بينه وبين رسوله ؟ هذا من أمحل المحال ، وأبطل الباطل . ونظير هذه قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } ، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله ، كما قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه } ، وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال : { إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } ولم يقل وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده . كما قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَالفاسد َإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } ، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب ، لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود ، لله وحده ، والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } فالحسب هو الكافي ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده ، فكيف يجعل أبتاعه مع الله في هذه الكفاية ؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد ، أكثر من أن نذكرها هنا . انتهى .
قال الخفاجي في " العناية " : وتضعيفه الرفع لا وجه له ، فإن الفراء والكسائي رجّحاه ، وما قبله وما بعده يؤيده . انتهى .
وأقول : هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة ، كما هو دأبه ، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وقفة لما ضعفه ، والفراء والكسائي من علماء العربية ، ولأئمة التأويل فقه آخر ، فتبصر ولا تكن أسير التقليد .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ } [ 65 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : حثهم : { عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 66 ] .
{ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
في الآية مسائل :
الأولى : مشروعية الحض على القتال ، والمبالغة في الحث عليه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه عند صفهم ، ومواجهة العدو ، كما قال لهم يوم بدر ، حين أقبل المشركون في عددهم وعُددهم : < قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض > ، فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < نعم > ! فقال : بخٍ بخٍ ، فقال : < ما يحملك على قولك بخ بخ > ؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها . قال : < فإنك من أهلها > . فتقدم الرجل ، فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده ، وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن ، إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه .
الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفا } شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي : بألا يفر منهم .
روى البخاري عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ولا عشرون من مائتين ، ثم نزلت : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } الآية ، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين .
وفي رواية أخرى عنه قال : لما نزلت : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } شق ذلك على المسلمين ، فنزلت : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } الآية ، فلما خفف الله عنهم من العدة ، نقص عنهم من الصبر ، بقدر ما خفف عنهم .
قال في " اللباب " : فظاهر هذا أن قوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } ناسخ لما تقدم في الآية الأولى ، وكان هذا الأمر يوم بدر ، فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين ، فثقل ذلك على المؤمنين ، فنزلت : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } أيها المؤمنون { وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يعني في قتال الواحد للعشرة ، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله . فرد العشرة إلى الإثنين ، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز لهم أن يفروا ، فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فرَّ من اثنين فقد فرّ . انتهى .
قال في " العناية " : وذهب مكي إلى أنها مخففة لا ناسخة ، كتخفيف الفطر للمسافر . وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة ، فقتل ، هل يأثم أو لا ؟ فعلى الأول يأثم ، وعلى الثاني لا يأثم .
وقال الرازي : أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية ، وقال : الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر ، أي : إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم .
ثم دل قوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم ، فلم يكن التكليف لازماً عليهم .
وبالجملة ، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة ، فلم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا فلا نسخ ، ولا يقال إن قوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } مشعر بأن هذا التكليف كان متوجهاً عليهم قبله ، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله ، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى في ترخيصه للحرّ في نكاح الأمَة : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم } وليس هناك نسخ ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر ، فكذا هاهنا .
ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارناً للمنسوخ ، لا يجوز إلا بدليل قاهر .
قال الرازي : بعد تقرير كلام أبي مسلم : إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم
على حصول النسخ في الآية ، فلا كلام عليه ، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن . انتهى .
الثالثة : في قوله تعالى : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ } إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار ، فالظرف متعلق بـ : { يَغْلِبُوا } أي : بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر ، لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً لأمر الله تعالى ، وإعلاءاً
لكلمته ، وابتغاءاً لرضوانه ، كما يفعله المؤمنون ، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية ، واتباع خطوات الشيطان ، وإثارة نائرة البغي والعدوان ، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان . أفاده أبو السعود .
الرابعة : قال الرازي : احتج هشام على قوله : إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها ، بقوله : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } إذ يقتضي أن علمه يضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت .
وأجاب المتكلمون بأن معناه : الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العمل بأنه سيقع أو سيحدث . انتهى .
وقال الطيبي رحمه الله : معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى ، أي : كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم .
الخامسة : في الضعف لغتان : الفتح والضم ، بهما قرئ . وهويؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن . وقيل : الفتح في الرأي والعقل ، الضم في البدن . وهو منقول عن الخليل [ في المطبوع : الخيل ] وقرء : ( ضعفاء ) بصيغة الجمع .
السادسة : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للإثنين في الثانية ، فما سر هذا التكرير ؟
أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الإطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ، لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي .
قال في " الفتح " : وقد قيل في سر ذلك : إن بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف .
السابعة : قال في " البحر " : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث أثبت في
الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختمت بقوله :
{ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } مبالغة في شدة المطلوبية ، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر ، اكتفاءاً بما قبله .
قال الشهاب : هذا نوع من البديع يسمى الإحتباك ، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف
{ بِإِذْنِ اللّهِ } وهو قيد لهما ، وقوله : { وَاللَّهُ معَ الصَّابِرِينَ } إشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتماً لأن من كان الله معه لا يغلب .
وبقي فيها لطائف ، فللّه درّ التنزيل ما أحلى ماء فصاحته ! وأنضر رونق بلاغته !

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 67 ] .
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } .
روى الإمام أحمد عن أنس قال : استشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر فقال : < إن الله قد أمكنكم منهم > ، فقال عُمَر بن الخطاب : يا رسول الله ! اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته وقال : < إنما هم إخوانكم بالأمس > ، وعاد عمر لمقالته ، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله ! نرى أن تعفوا عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء . قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغمّ ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء .
وأخرج مسلم في أفراده من حديث عُمَر بن الخطاب ، قال ابن عباس : لما أسروا الأسارى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : < ما ترون في هؤلاء الأسارى > ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ! هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما ترى يا ابن الخطاب > ؟ قال : قلت لا ، والله يا رسول الله ! ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكِّن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده . فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت .
فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ! أخبرني من أي : شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة > ، لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } الآية .
ذكره الحميدي في " مسنده " عن عُمَر بن الخطاب ، من أفراد مسلم بزيادة فيه .
ومعنى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } ما صح له وما استقام وقرئ ( للنبيّ ) على العهد ، والمراد على كلٍّ ، نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكر تلطفاً به ، حتى لا يواجه بالعقاب . وقرئ ( أُسَارَى ) .
ومعنى : { يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } يكثر القتل ويبالغ فيه ، حتى يذل الكفر ، ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ، ويستولي أهله . يقال : أثخن في العدو ، بالغ في قلتهم . كما في " الأساس " ، وأثخن في الأرض قتلاً إذا بالغ . وقال ابن الأعرابي : أثخن إذا غلب وقهر .
قال الرازي : وإنما حمله الأكثرون على القتل ، لأن الدولة إنما تقوى به .
قال المتنبي :
~لا يسلم الشرفُ الرفيعُ من الأذى حتى يراقَ على جوانِبِهِ الدمُ
ولأنه يوجب قوة الرعب ، وشدة المهابة ، فلذلك أمر تعالى به . وقوله تعالى
{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } أي : متاعها الزائل ، بفداء أسارى بدر .
والعرض ما لا ثبات له ولو جسماً ، ومنه استعار المتكلمون العرض المقابل للجوهر ، قاله الشهاب .
{ وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } أي : يريد لكم ثوابها { وَاللّهُ عَزِيزٌ } أي : غالب على ما أراد .
{ حَكِيمٌ } أي : فيما يأمر به عباده .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 68 ] .
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ } أي : لأصابكم { فِيمَا أَخَذْتُمْ } أي : بسببه ، وهو الفداء : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : شديد ، بقدر إبطالكم الحكمة العظيمة ، وهي قتلهم ، الذي هو أعز للإسلام ، وأهيب لمن وراءهم وأفلّ لشوكتهم . والمراد بالكتاب
الحكم ، وإنما أطلق عليه لأنه مكتوب في اللوح .
ولأئمة التفسير أقوال في تفسيره ، فقيل : هو أنه لا يعذب قوماً إلا بعد تقديم النهي ، ولم يتقدم نهي عن ذلك ، وقيل : هو أنه لا يعذب المخطئ في اجتهاده ، وقيل : هو كون أهل بدر مغفوراً لهم . وقيل : هو حل المغانم .
وللرازي مناقشة في هذه الأقوال ، واختار أن الكتاب هو حكمه في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وسبقت رحمته غضبه .
أقول : لعل الأمسّ في تهويل ما اكتسبوه ، تفسير الكتاب بما في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ـ والله أعلم ـ .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : قال ابن عباس : هذا الحاكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم ، أنزل الله بعد ذلك في الأسارى : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } .
وأقول : هذا الكلام يوهم أن قوله : { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } يريد حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء . انتهى .
وقال بعضهم : لا تظهر دعوى النسخ من أصلها ، إذ النهي الضمني ، كما هنا مقيد ومُغَيّاً بالإثخان ، أي : كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته ، وما في سورة القتال من التخيير ، محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال ، فلا تعارض بين الآيتين ، إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا . نقله في " الفتح " .
الثاني : قال القاضي : في الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون ، وأنه قد يكون خطأ ، ولكن لا يقرّون عليه .
الثالث : قال ابن كثير : وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم ، إن شاء قتل ، كما فعل ببني قريظة ، وإن شاء فادى بمال ، كما فعل بأسرى بدر ، بمن أُسِر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين .
وإن شاء استرق من أسر ، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة ، مقرر في موضعه .
الرابع : قال بعض مفسري الزيدية : في هذه الآية سؤال وهو أن يقال : إن كان فعلهم اجتهاداً وخطأ ، فلِمَ عوتبوا ؟ ويلزم أن لا معصية ، وإن تمكنوا من العلم وقصروا ، فكيف أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وجواب ذلك من وجهين :
الأول : عن أبي علي أن ذلك كان معصية صغيرة . قال الحاكم : وكانوا متمكنين من العلم ، إذا ما عاتبهم ، وقيل : كان خطأ وقصروا فعوتبوا على التقصير . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 69 ] .
{ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } أي : كلوا بعضه بعد إخراج الخمس حلالاً ، أي : مطلقاً عن العتاب والعقاب ، من حل العقال .
{ طَيِّباً } أي : لذيذاً هنيئاً ، أو حلالاً بالشرع ، طيباً بالطبع .
قيل : هذا الأمر تأكيد لحل المغنم ، لأنه علم مما تقدم من قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } الآية ، وإشارة لاندراج مال الفداء في عمومها ، فما غنمتم هنا ، إما الفدية ، لأنها غنيمة ، أو مطلق الغنائم .
والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وجعل الفاء عاطفة على سبب مقدر ، أي : أبحت لكم الغنائم ، فكلوا قد يستغنى عنه بعطفه على ما قبله بمعناه ، أي : لا أؤاخذكم بما أخذ من الفداء فكلوه . كذا في " العناية " .
قال أبو السعود : والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : دعوه فكلوا مما غنمتم . ثم قال : وقيل : ما عبارة عن الفدية ، فإنها من جملة الغنائم ، ويأباه اتساق النظم الكريم وسياقه . انتهى . وهو متجه .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : في مخالفة أمره ونهيه { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيغفر لكم ويرحمكم إذا اتقيتموه .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 70 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى } أي : لمن في ملكتكم ، كأن
أيديكم قابضة عليهم وذلك تخليصاً لهم من أسر الضلال بضعف الإيمان { إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } أي : قوة إيمان وإخلاصاً فيه { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } أي : من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 71 ] .
{ وَإِن يُرِيدُواْ } أي : الأسرى { خِيَانَتَكَ } أي : نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة ، أو منع ما ضمنوا من الفداء { فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ } أي : من قبل بدر بالكفر به .
{ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } أي : فأمكنك منهم ، أي : أظفرك بهم قتلاً وأسراً ، كما رأيتم يوم بدر ، فسيُمكن منهم إن عادوا إلى الخيانة { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بما في بواطنهم من إيمان وتصديق ، أو خيانة ونقض عهد ، حكيم يجازي كلاً بعلمه ، الخير بالثواب ، والشر بالعقاب .
روى ابن هشام في السيرة أن فداء المشركين يوم بدر ، كان أربعة آلاف درهم بالرجل إلى ألف درهم ، إلا من لا شيء له ، فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه .
وقال ابن إسحاق : كان أكثر الأسارى يوم بدر فداءً العباس ، وذلك أنه كان رجلاً موسراً ، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهباً .
وفي " صحيح البخاري " عن أنس أن رجالاً من الأنصار قالوا : يا رسول الله ! ائذن لنا ، فنترك لابن أختنا عباس فداءه . قال : < لا والله ! لا تذرون منه درهماً > .
وروى إسحاق أن العباس قال : يا رسول الله ! قد كنت مسلماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل وعقيل وحليفك عتبة > . قال : ما ذاك عندي يا رسول الله ! قال : < فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل > ، فقلت لها : إن أُصبت في سفري هذا ، فهذا المال الذي دفنته لبنيّ : الفضل وعبد الله وقثم ؟ قال : والله ! يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري
وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ، ما أصبتم من عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا ، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك > .
ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، فأنزل الله عز وجل فيه : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُم } الآية .
قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام ، عشرين عبداً كلهم في يده مال ، يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .
وروى ابن إسحاق أيضاً أن العباس كان يقول : في نزلت ، والله ! حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي .
وروى ابن جريج عن عطاء بن عباس ، أن عباساً وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومنا ، فأنزل الله تعالى : { إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ } الآية . قال ، فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا ، وأن لي الدنيا ، لقد قال : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم } فقد أعطاني خيراً مما أخذ منى مائة ضعف . وقال : { وَيَغَفِرْ لَكُمْ } وأرجو أن قد غفر لي .
وروى البيهقي عن أنس قال : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ، فقال : < انثروه في مسجدي > . قال ، وكان أكثر ما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الصلاة ، ولم يلتفت إليهم ، فلما قضى الصلاة فجاء فجلس إليه ، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه ، إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله ! أعطني ، فاديت نفسي ، وفاديت عقيلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < خذ > ، فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله ، فلم يستطع . فقال : مر بعضهم يرفعه إلي ، قال : لا ، قال : < فارفعه أنت علي > ، قال : لا ! فنثر منه ، ثم احتمله على كاهله ، ثم انطلق ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه ببصره حتى خفي عنه ، عجباً من حرصه .
فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم . وفي رواية : وما بعث إلى أهله بدرهم . ورواه البخاري تعليقاً .
وفي رواية : فجعل العباس يقول وهو منطلق : أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد
أنجزنا ، وما ندري ما يصنع في الأخرى !
ثم ذكر تعالى أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى مهاجرين وأنصار فقال :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 72 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } أي : من مكة إلى المدينة لنصر الله ورسوله { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : طاعته { وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ } أي : وطنوا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ، ونصروهم على أعدائهم { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : يتولى بعضهم بعضاً في النصرة والمظاهرة ، ويقوم مقام أهله ونفسه ، ويكون أحق به من كل أحد ، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .
قال ابن إسحاق : وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال فيما بلغنا : < تآخوا أخوين أخوين > ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : < هذا أخي > . وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله ، وأسد رسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم ، وزيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم أخوين . وإليه أوصى حمزة يوم أُحد ، حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت .
وجعفر ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخوين ، وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين ، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين ، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين ، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين ، وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين ، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين ، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين ، وأبو حذيفة وعباد بن بشر أخوين ، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين ، وأبو ذر الغفاري والمنذر بن عَمْرو أخوين ، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين ، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين ، وبلال الحبشي وأبو رويحة الخثعمي أخوين .
ولما خرج بلال إلى الشام ، وأقام فيها مجاهداً ، قال له عمر : إلى من نجعل ديوانك ؟ قال : مع أبي رويحة ، لا أفارقه أبداً ، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني . فضم إليه ، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم ، لمكان بلال منهم .
قال ابن إسحاق : فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه :
تنبيه :
نقل الواحدي عن ابن عباس وغيره ، أن المراد من هذه الولاية ، هي الولاية في الميراث . قال ابن كثير : لما تآخوا كانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة ، حتى نسخ الله ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد .
قال الخفاجي : فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري ، إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري . واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بالنسب بعد ، إذ لم تكن هجرة .
والولي القريب والناصر ، لأن أصله القرب المكاني ، ثم جعل للمعنوي ، كالنسب والدين والنصرة .
فقد جعل صلى الله عليه وسلم ، في أول الإسلام ، التناصر الديني أخوة ، وأثبت لها أحكام الأخوة الحقيقية من التوارث ، فلا وجه لما قيل إن هذا التفسير لا تساعده اللغة ، فالولاية على هذا ، والوراثة المسببة عن القرابة الحكمية . انتهى .
ومراده بما قيل ، ما ذكره الرازي في تضعيف تفسير الولاية بالوراثة ، حيث قال : واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى ، لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب .
ويقال : السلطان ولي من لا ولي له ، ولا يفيد الإرث ، وقال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ، ولا يفيد الإرث ، بل الولاية تفيد القرب ، فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظماً للبعض ، مهتماً بشأنه ، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته ، والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء ، وأن يكون حب كل واحد لغيره جارياً مجرى حبه لنفسه .
وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى ، كان حمله على الإرث بعيداً عن دلاله اللفظ ، لا سيما وهم يقولون : إن ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } ، وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثم
الحكم بأنه صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه ؟ هذا في غاية البعد ، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك ، فحينئذ يجب المصير إليه ، إلا أن دعوى الإجماع بعيدة .
وأقول : لعموم هذا الخطاب ونظمه وجه في إثبات التوارث ، لا سيما وقد نفى تعالى ولاية من لم يهاجر نفياً استغرق أقرب الأقارب حيث قال : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } أي : بأن أقاموا في بواديهم : { مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } أي : إلى المدينة . وقول تعالى : { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } أي : إذا استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني ، فيجب عليكم أن تنصروهم على أعدائهم المشركين ، لأنهم إخوانكم في الدين { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } أي : عهد ومهادنة إلى مدة ، فلا تعينوهم عليهم ، لئلا تخفروا ذمتكم ، وتنقضوا عهدكم { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فلا تخالفوا أمره .
تنبيهات :
الأول : احتج من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى : { مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ } أي : من توليتهم في الميراث ، وأنه هو المارد في الآية السابقة أيضاً ، بقوله تعالى :
{ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } فإن هذا موالاة في الدين ، فحينئذ لا يجوز حمل الموالاة المنفية على النصرة والمظاهرة ، لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين .
وأجاب الرازي بما معناه : إن الولاية هنا ليس المراد بها مطلق التولي حتى يرده ما ذكروه ، بل عنى بها معنى خاص ، وهو علاقة شديدة ، ومحبة أكيدة ، وإيثار قوي ، وأخوة وثيقة ، ولا يلزم من النصر التولي ، فقد ينصر المرء ذمياً لأمر ما ولا يتولاه ، ويدافع عن عبده أو أمته ويعينهما ولا يتولاهما - والله أعلم - .
الثاني : يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر ، وطلب من كل من آمن من البادين أن يهاجر ، ليكثر سواد المسلمين ، ويظهر اجتماعهم ، وإعانة بعضهم لبعض ، فتتقوى بألفتهم شوكتهم ، ولم يزُل طلب الهجرة إلا بفتح مكة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : < لا هجرة بعد فتح مكة > . رواه البخاري عن مجاشع بن مسعود .
الثالث : شمل نفي الموالاة عن الذين لم يهاجروا وقتئذ ، حرمانهم من المغانم والفيء . روى الإمام أحمد عن بريدة بن الحُصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً . وقال : < اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك ، أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم ، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم > .
قال ابن كثير : انفرد به مسلم ، وعنده زيادات أخر .
الرابع : قرأ حمزة ( ولايتهم ) بكسر الواو ، الباقون بفتحها .
قال الشهاب : جاء في اللغة : الولاية مصدراً بالفتح والكسر ، فقيل : هما لغتان فيه بمعنى واحد ، وهو القرب الحسي والمعنوي ، وقيل : بينهما فرق ، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه ، والكسر ولاية السلطان ، قاله أبو عبيدة . وقيل الفتح من النصرة والنسب . والكسر من الإمارة . قاله الزجاج .
وخطأ الأصمعي قراءة الكسر ، وهو المخطئ لتواترها ، واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين . ولما قال المحققون من أهل اللغة : إن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ، ويجعل فيه كاللفافة والعمامة ، وفي المصادر يكون في الصناعات وما
يزاول بالأعمال ، كالكتابة والخياطة ، ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعة ، لذا جاء فيها الكسر ، كالإمارة .
وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك ، فتكون حقيقة ويحتمل - كما في بعض شروح الكشاف - أن تكون استعارة ، كما سموا الطب صناعة . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ 73 ] .
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : فلا يتولاهم إلا من كان منهم ، ففيه إشارة إلى نهي المسلمين عن موالاتهم ، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم ، وإن كانوا أقرب وقد استدل به على أنه لا توارث بين المسلمين والكفار .
روى الحاكم في " مستدركه " عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافراً مسلماً ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } الآية ، رواه الشيخان عنه بلفظ : < لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم > .
وقوله تعالى : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل ، وتولي بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك ، كان الشرط ظاهراً ، والفساد زائداً ، في الإعتقادات والأعمال .
وقيل : الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو النصر أو الإثبات . وقيل إنه للإستنصار المفهوم من الفعل ، والفتنة : إهمال للمؤمنين المستنصرين بنا ، حتى يسلط علينا الكفار ، إذ فيه وهن للدين . ؟
قال الشهاب : وفيه تكلف ، أي : فالأوجه عوده للتولي والتواصل - كما بينا - .
قال الرازي : بيان هذه الفتنة والفساد عن وجوه :
الأول : أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين ، وقلة عددهم وزمان قوة الكفار ، وكثرة عددهم ، فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكفار .
الثاني : أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سبباً لجرأة الكفار عليهم .
الثالث : أنه إذا كان جميع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدد والعدد صار ذلك سبباًَ لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ، ورغبة المخالف في الإلتحاق بهم . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 74 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } عود لذكر المهاجرين والأنصار ، للثناء عليهم ، والشهادة لهم ، مع الموعد الكريم ، فلا تكرار ، لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم ، فذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم ، وعلو درجتهم .
قال الرازي : وبيانه من وجهين :
الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم ، وذلك يدل على الشرف والتعظيم .
والثاني : وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه :
أولها : قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } فقوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ } يفيد الحصر ، وقوله : { حَقّاً } يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين ، وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقاً في دينه ، لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال ، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين .
وثانيها : قوله : { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ } والتنكير يدل على الكمال ، أي : مغفرة تامة كاملة .
وثالثها : قوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } والمراد منه الثواب الرفيع الشريف . انتهى .
وقد أثنى تعالى على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه الكريم ـ والله أعلم ـ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 75 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } أي : من جملتكم ، أي : المهاجرون والأنصار ، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة ، وكمال
الإيمان والمغفرة والرزق الكريم .
وهل المراد من قوله : { مِنْ بَعْدُ } هو من بعد الهجرة الأولى ، أو من بعد الحديبية . وهي الهجرة الثانية ، أو من بعد نزول هذه الآية ، أو من بعد يوم بدر ؟ أقول :
واللفظ الكريم يعمها كلها ، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص .
{ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } أي : في حكمته وقسمته ، أو في اللوح ، أو في القرآن ، لأن كتاب الله يطلق على كل منها { إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه ، التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح .
تنبيهات :
الأول : إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وما بعده بالتوارث .
أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بينهما نسب ، فيرث أحدهما من الآخر ، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال :
{ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ } الخ ، إلا أن في إسناده من فيه مقال .
وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم ، فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض ، وذلك أن تلك الآية ، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث ، بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة ، إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم .
قال الرازي : وهذا أولى ، لأن تكثير النسخ ، من غير ضرورة وحاجة ، لا يجوز .
الثاني : استدل بالآية من ورث ذوي الأرحام ، وهم من ليسوا بعصبات ، ولا ذوي سهام . قال : ويعضده حديث : < الخال وارث من لا وارث له > ، وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات ، ومن الحديث : < من كان وارثه الخال فلا وارث له > ، ورد بأنها عامة فلا موجب للتخصيص ، وبأن معنى الحديث : من كان لا وارث له غيره ، لحديث : < أنا عمد من لا عماد له > .
ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب ، أو بالتنزيل ، وهل يرث القريب مع البعيد ، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا ؟ والآية محتملة . أفاده بعض مفسري الزيدية .
قال ابن كثير : ليس المراد بقوله : { وَأُولُوا الأَرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال ، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما يزعمه بعضهم ، ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحاً في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة ، تشمل جميع القرابات ، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، والحسن وقتادة وغير واحد ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالإسم الخاص ، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة ، من أقواها حديث : < إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث > .
قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك ، لم يكن وارثاً . انتهى .
ولا يخفى ضعف هذا الإستدلال ، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض ، على أن معنى الحديث أعطى كل ذي حق حقه مفصلاً ومجملاً ، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة ، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل .
وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في " تاريخ الوزراء " في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات ، نأثرها هنا ، لأنها جمعت فأوعت ، قال رحمه الله :
ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث : وصل كتاب الأمير ، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجباً من مال المواريث لبيت المال ، ومالاً أراه واجباً منه ، وتلخيص ذلك وتبيينه - وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله - .
الناس مختلفون في توريث الأقارب ، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة - إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم - لجماعة من المسلمين وبيت
مالهم ، وكذلك يقول في الفصل بعد السهمان المسماة ، إذا لم تكن عصبة ، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت .
وقد خالفه عُمَر بن الخطاب ، وعلي ابن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وجعلوا ما يفضل من السهمان رداً على أصحاب السهام من القرابة ، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه .
والسنة تعاضد ما روي عنهم ، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت ، وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه ، وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي .
قال الله تعالى : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . فصير القريب أولى من البعيد ، وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة ، وعليه اعتمدوا ، وبه تمسكوا - والله أعلم ـ .
ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة ، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين ، وترك قبول من سواهم ممن لا يحلق بدرجتهم بسابقته .
وإذا رد أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف ، فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيداً لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله ؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة ، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت ، القرابة . ا روي عنهم ، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه ، وبالسنة فيما أفتوا به ؟ والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة .
فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهروي عن المقدام ابن معدي كرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < الخال وارث من لا وارث له يرث ماله ، ويعقل عنه > .
وكذلك بلغنا عن شَرِيك بن عبد الله عن ليث ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وعن ابن جريج عن عُمَر بن سلم ، عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك .
وذكر عن عُبَاْدَة بن أبي عَبَّاد عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عُتْبَة عن محمد بن يحيا بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن أبي الدحداح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي : < أله فيكم نسب > ؟
قال : فدفع تركته إلى ابن أخته فقد أوجب عليه السلام ، بما نقلته عنه هذه الرواية ، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب .
وأعطى الجدة السدس من الميراث ، ولا فرض لها ، وفي ذلك الإتفاق ، وفيما صير لها من السدس ، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها ؟ إذا بطلت السهام ولم يكن من أهلها ، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي .
والمروي عن زيد بن ثابت أنه جعل المفضل عن سهام الفرائض ، وكل المال ، إذا سقطت السهام بعد أهلها ، لجماعة المسلمين ، فجعلهم كلها وارثاً ، وجعل ما يصير لهم من ذلك - في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك - يكون فيما روي عنه للناس كافة ، وعددهم لا يحصى ، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض ، مشارقها ومغاربها .
وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن ، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابرالأئمة .
وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ } فقال فيه : كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة ، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب ، مُنع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص ، فذلك غير واجب مع عدم الدليل ، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم .
وبعد ، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه ، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض ، لوجب في بدء ، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما ، وعلى المقدم من حكمها ، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذه التأويل من له سهم دون من لا سهم له ، فإذا ارتفع المانع ، رجع الحكم إلى بدئه .
ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم ، وإن كان لا وارث سواه ، وهذا يدل على فساد تأويلهم ، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه ، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد . وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد ، وترك الرواية عن عمر وعلي وبعد الله عليهم السلام جانباً ، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب ، وأن يجعل ذا الرحم أولى ، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة .
وترتيب المواريث في الأصل ، يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة ، كالأخ للأب والأم ، والأخ للأب ، وابن العم للأب والأم ، وابن العم للأب واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع ، قال الله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } ، وولد الولد ، من سفل منهم ومن ارتفع ، يعمهم هذا الاسم ، إلا أن الأقرب منهم ، في معنى الآية ، أحق من الأبعد ، فإذا كان ذلك كذلك ، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرب بها دونه .
وبعد ، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة ، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما ، وما روي عن ابن مسعود ، ثم لم
يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم ، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، وترجمان القرآن ، وبحر العلم ، ومن كان إذا تكلم سكت الناس ، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ! فقهه في الدين وعلمه التأويل ، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة ، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب .
وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله والجماعة ، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين ، أعزه الله ، يستقضون الحكام ، فيقضون برد المواريث على الأقارب ، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم ، ولا ترودنه متجاوزاً للحق فيه ، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة ، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف ، واقتدى بخلفاء الله ، ومال إلى أفضل المذهبين ، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير ، وتسديده ، والحمد لله رب العالمين . انتهى .
ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث ، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة ، وأنه حكى فيه أن عُمَر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم ، رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث ، وإذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه ، وجعلوا ، رضي الله عنهم ، تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه ، إن لم يكن له وارث سواهم ، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترويثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة . انتهى .
الثالث : استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة ، لاندراجها في عموم الأولوية .
والجواب - على فرض صحة هذه الدلالة - أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه .

(/)


سورة التوبة
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 1 ] .
وقوله تعالى :
{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } خبر لمحذوف ، وتنوينه للتفخيم ، أي : هذه براءة ، أو مبتدأ مخصص ، وخبره : { إلى الذين } .
و البراءة في اللغة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان براءة ، أي : انقطعت بيننا العصمة ، ولم يبق بيننا علقة .
فإن قيل : حق البراءة أن تُنسب إلى المعاهد ، فلم لم تنسب إليهم ، ونسبت إلى الله ورسوله ؟
أجيب : أن : { عاهدتم } إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة ، فنسب إلى الكل ، كما هو الواقع ، وإن كان بإذن الله أيضاً .
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدد ، فكيف ينسب إليهم ، وهم لم يحدثوه بعد ، وإنما يسند إلى من أحدثه ؟
وقال الناصر : إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين ، لا يحسن أدباً ، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم :
< إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أولا ! وإن طلبوا ذمة الله ، فأنزلهم على ذمتك ، فلأن تخفر ذمتك ، خير من أن تخفر ذمة الله > !
فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله ، مخافة أن تخفر ، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله ، وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر . فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه .
وقال الشهاب : ولك أن تقول : إنما أضاف العهد إلى المسلمين ، لأن الله علم أن لا عهد لهم ، فلذا لم يضف العهد إليه ، لبراءته منهم ، ومن عهدهم في الأزل .
وهذا نكتة الإتيان بالجملة إسمية خبرية ، وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد . انتوبينهم ، ابن إسحاق . نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك .
وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون .
وقال ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ، وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس : { براءة من اللَّه ورسوله } ، فلما قفل ، وأتبعه بعلي بن أبي طالب ، لكونه مبلغاً عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكونه عصبةٌ له ، كما سيأتي .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } [ 2 ] .
{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أي : فقولوا لهم : سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد ، آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر ، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر .
والمقصود تأمينهم من القتل ، وتفكرهم واحتياطيهم ، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف ، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم .
وهذه الأربعة الأشهر كانت عهداً لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمت له .
فأما من كان له عهد موقت ، فأجله إلى مدته ، مهما كانت ، لقوله تعالى : { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِم } ، كما يأتي .
روي هذا عن غير واحد ، واختاره ابن جرير . وقال مجاهد : هذا تأجيل للمشركين مطلقاً ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، ومن كان عهده بغير أجل حُدَّ بها ، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن .
أقول : ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى : { إِلَى مُدَّتِهِمْ } ، لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد ، أي : المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر . والله أعلم .
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ } يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لحكمة ولطف بكم ، أي : فلا تفوتونه وإن أمهلكم { وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } أي : مُذلهم بالقتل في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 3 ] .
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } . الأذان بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء .
وارتفاعه كارتفاع : { براءة } وهذه الجملة معطوفة على مثلها ، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما عُلقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعامّ لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث كذا في " الكشاف " .
ويوم الحج الأكبر : قيل يوم عرفة ، وقيل يوم النحر .
قال ابن القيم : وهو الصواب ، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما ، أذّناً بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة .
وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة .
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والإبتهال والإستقامة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنه قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة ، كالطهور والإغتسال بين يدي هذه اليوم ، انتهى .
تنبيه :
روى الأئمة هاهنا آثاراً كثيرة ، نأتي منها على جوامعها :
قال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد الحج ثم قال : < إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن
أحج > ، حتى لا يكون ذلك : فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات ، عشرون من ذي الحجة ، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال ، إلى أن يؤمنوا .
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : < لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي > ، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : < اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته > .
فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ، حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذا ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : < أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته > .
وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحدٌ كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .
ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : فكان هذا من أمر براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى .
وروى البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبوبكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذّنين ، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : < ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان > .
قال حميد : ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يؤذن ببراءة .
قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .
وفي رواية أخرى للبخاري ، قال أبو هريرة : بعثني أبو بكر فيمن يؤذّن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس - للعمرة - الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك . هذا لفظ البخاري في " كتاب الجهاد " .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي : < أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمدهُ - إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك > . قال : فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي ، صحل الرجلُ وصحل صوتُهُ : بَحَّ .
وقوله تعالى : { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : فإن تبتم أيها المشركون ، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي : عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم { فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ } أي : غير فائتين أخذه وعقابه { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : موجع يحل بهم .
وفيه من التهكم والتهديد ما فيه ، كيلا يظن أن عذاب الدنيا ، لو فات وزال خلصوا من العذاب ، بل العذاب مُعَدٌّ لهم يوم القيامة .
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل ، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر ، من له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، فقال سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ 4 ] .
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } أي : من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم فقط .
قال أبو السعود : وقرئ بالمعجمة ، أي : لم ينقضوا عهدكم شيئاً ، من النقض ، وكلمة ثم ، للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ } أي : لم يعاونوا { عَلَيْكُمْ أَحَداً } أي : عدواً من أعدائكم .
{ فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك ، منبهاً على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : فاتقوه في ذلك .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 5 ] .
{ فَإِذَا انسَلَخَ } أي : انقضى { الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } أي : التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض ، وحرم فيها قتالهم { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي : من حلٍّ أو حرمٍ - كذا قاله غير واحد - .
قال ابن كثير : هذا عام ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُم } .
{ وَخُذُوهُمْ } أي : ائسروهم { وَاحْصُرُوهُمْ } أي : احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد { وَاقْعُدُواْ لَهُمْ } أي : لقتالهم ، { كُلَّ مَرْصَدٍ } أي : طريق وممرّ { فَإِن تَابُواْ } أي : عن الكفر { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : فاتركوا التعرض لهم { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .
تنبيهات :
الأول : ما ذكرناه من أن المراد بالأشهر الحرام أشهر العهد ، هو الذي اختاره الأكثرون .
سماها حرماً لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم ، فالألف واللام للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيداً لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها .
وقيل : المراد بالأشهر الحرام : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر ، واختاره ابن جرير .
وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ، لأنه يأباه ترتبه عليه بالفاء ، فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر .
قال ابن القيم : الحرم هاهنا هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر . وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم } ، فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو العقدة وتالياه .
ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ، لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . انتهى .
وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر ، وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن هذا الإجماع كلاماً ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في " العناية " .
وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حلّه معلوماً من دليل آخر .
وأقول : يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع .
قال في " فتح البيان " : ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم ، التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوماً ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم . انتهى .
ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوماً ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة ، بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : < إن الزمان قد استدار > الحديث ، لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، المحرم ، فعوملوا بحسابهم .
الثاني : قال السيوطي في " الإكليل " في قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة . انتهى .
وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد : { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } .
ورده الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ، ومقتضى كلام الحاكم ، أنها لا ناسخة ولا منسوخة ، قال : لأن الجمع من غير منافاة ممكن ، فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير ، وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتماً ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل . انتهى .
ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : { وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم .
الثالث : فهو من قوله تعالى : { فَإِنْ تَابُواْ } الآية ، أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر .
ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذا الآية الكريمة وأمثالها .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وعنهما وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة > .
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم > . رواه البخاري وغيره .
الرابع : ذكر ابن القيم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة ، قال رحمه الله :
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر ُقُمْ فَأَنْذِرْ } فنبأه بقوله : { اقرأ } ، وأرسله بـ : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن لم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة .
فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده لما نزلت سورة براءة ، نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام .
وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم .
وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم له عهدهم إلى مدتهم .
وقسماً لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم .
فقتل الناقص لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .
ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن . وخائف محارب .
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويَكِلَ سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلّي عليه وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين . انتهى .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } [ 6 ] .
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } : أي : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم ، أي : استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد ، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي : القرآن الذي تقرؤه عليه ، ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، وتقوم عليه حجة الله به ، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين ، وإن أبى فإنه يردّ إلى مأمنه ، وداره [ في المطبوع : دراه ] التي يأمن فيها ، ثم قاتله إن شئت .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون ، أي : جهلة ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، ولا يبقى لهم معذرة .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى ، وأنه يمكّن من العود من غير
غدر به ولا خيانة ، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر .
فروى البخاري في " تاريخه " والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من أمّن رجلاً على دمه فقتله ، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً > .
وروى أحمد والشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة > .
قال ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام ، في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة ، أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي ، ما دام متردداً في دار الإسلام ، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه .
قال الحاكم : وإنما يجار ويؤمّن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر ، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله : { حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } .
الثاني : قال الحاكم : تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله .
الثالث : استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين ، وهم الحنابلة ، ومن وافقهم كالعضد .
قالوا : لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق ، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات .
فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات ، والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله كلام الله إلا لها ، وقد اعترف الرازي بقوة هذا ، لإلزام من خالف فيه ، وقد مضى لنا في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } في آخر سورة النساء ، فارجع إليه .
الرابع : قال الرازي : دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والإستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك ، فلما لم يُقل له ذلك ، بل أمهل وأزيل الخوف عنه ، ووجب تبليغه مأمنه ، علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل ، فلذا أمهل ليحصل لها النظر والإستدلال .
ثم بين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ، ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعدها السيف المرهف بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ 7 ] .
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } أي : أمان { عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } أي : وهم كافرون بهما ، فالإستفهام بمعنى الإنكار ، والإستبعاد لأن يكون لهم عهد { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } أي : فما داموا مستقيمين على عهدهم ، مراعين لحقوقكم ، فاستقيموا لهم على عهدهم .
{ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم .
قال ابن كثير : وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ، ومالؤوا حلفاءهم ، وهم بنو بكر ، على خزاعة ، أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم ، بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا قريباً من ألفين ، ومن استمر على كفره ، وفرَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء ، ومنهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله للإسلام .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [ 8 ] .
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } أي : يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } أي : قرابة ويميناً { وَلاَ ذِمَّةً } أي : عهداً .
وهذه الجملة
مردودة على الآية الأولى ، أي : كيف يكون لهم عهد ، وحالهم ما ذكر ؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرء منهم ، لأن من كان أسير الفرصة ، مترقياً لها ، لا يرجى منه دوام العهد .
قال الناصر : ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد ، أعيدت كيف تطرية للذكر ، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض . انتهى .
ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله : { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } أي : ما تتفوه به أفواههم { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } أي : متمردون ، لا عقيدة تزعمهم ، ولا مروءة تردعهم .
وتخصيص الأكثر ، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر ، والتعفف عما يجرّ إلى أحدوثة السوء .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 9 ] .
{ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : استبدلوا بها { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : من متاع الدنيا ، يعني أهويتهم الفاسدة { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } أي : فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [ 10 ] .
{ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } أي : المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 11 ] .
{ فَإِن تَابُواْ } أي : مما هم عليه من الكفر { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } أي : فهم إخوانكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، فعاملوهم معاملة الإخوان ، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه .
وقوله : { وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [ 12 ] .
{ وَإِن نَّكَثُواْ } أي : نقضوا { أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } أي : فقاتلوهم .
وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم ، للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسة وتقدم في الكفر ، أحقاء بالقتل والقتال .
وقيل : المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم ، وتخصيصهم بالذكر إما لأهمية قتلهم ، أو للمنع من مراقبتهم ، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم ، فإن قتلهم غالباً يكون بعد قتل من دونهم . أفاده أبو السعود .
{ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } جمع يمين أي : لا عهود لهم على الحقيقة ، حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضها محذوراً ، فهم وإن تفوهوا بها ، لا عبرة بها .
وقرئ ( لا إيمان ) بكسر الهمزة ، أي : لا إسلام ، ولا تصديق لهم ، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي : عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بهذه الآية من قال إن الذّمّي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بسوء ، سواء شرط انتفاض العهد به أم لا ، واستدل من قال بقبول توبتهم بقوله : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } . انتهى .
ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [ 13 ] .
{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ } أي : التي حلفوها في المعاهدة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ } يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة ، حسبما ذكر في قوله
تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فيكون نعياً عليهم جنايتهم القديمة ، { وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : بالقتال يوم بدر ، حين خرجوا لنصر غيرهم فما نجت وعلموا بذلك ، استمروا على وجوههم طلباً للقتال ، بغياً وتكبراً .
وقيل : بنقضهم العهد ، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة ، أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان . قاله ابن كثير .
وقال الزمخشري : أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة ، لعجزهم عنها ، إلى القتال ، فهم البادئون بالقتال ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم .
{ أَتَخْشَوْنَهُمْ } أي : أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم { فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } بمخالفة أمره وترك قتالهم { إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله تعالى : { وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّه } . قاله الزمخشري . وفيه من التشديد ما لا يخفى .
ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ 14 ] .
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ } أي : بآلام الجراحات والموت { بِأَيْدِيكُمْ } أي : تغليباً لكم عليهم { وَيُخْزِهِمْ } أي : بالأسر والإسترقاق ، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي ، { وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } أي : ممن لم يشهد القتال .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 15 ] .
{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } أي : بما كابدوا من المكاره والمكايد { وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء } أي : فيحصل لك أجرهم { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : في أفعاله وأوامره .
وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها ، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة ، دالة على صدقه وصحة نبوته .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 16 ] .
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } أي : على ما أنتم عليه ، ولا تؤمروا بالجهاد { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي : بطانه يفشون إليهم أسرارهم .
والواو في ولما حالية ، و لما للنفي مع التوقع ، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني ، إذ لو شم رائحة الوجود ، لعلم قطعاً ، فلما يعلم لزم عدمه قطعاً { وَلَمْ يَتَّخِذُوا } عطف على : { جاهدوا } داخل في حيز الصلة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، والحال أنه لم يتبين الخّلص من المجاهدين منك من
غيرهم ، بل لا بد أن تختبروا ، حتى يظهر المخلصون منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ، لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة ، أي : بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم . ودلت لما على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن ، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين ، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين ، حيث لم يتعرض للمقصرين ، وذلك لأنه بمعزل من الإندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين ، وهذا كما قال :
~وما أدري إذا يمَّمتُ أرضاً أرِيدُ الخيرُ أيُّهما يَلنِي
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : { آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } . وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة } الآية ، و قال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْه } الآية ، وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } [ 17 ] .
قال في " البصائر " : يعمر إما من العمارة التي هي حفظ البناء ، أو من العمرة التي هي الزيارة ، أو من قولهم : عمرت بمكان كذا أي : أقمت به . انتهى .
{ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } أي : بحالهم وقالهم ، وهو حال من الضمير في
{ يَعْمُرُواْ } .
{ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } وهذا كقوله تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ
إِلَّا الْمُتَّقُونَ } ولهذا قال تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ 18 ] .
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } أي : لم يعبد إلا الله { فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } أي : إلى الجنة .
وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية ، في معرض التوقع ، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الإهتداء ، والإنتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون ، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون ، فإن المؤمنين ، ما بهم من هذه الكمالات ، إذا كان أمرهم دائراً بين لعل وعسى ، فما بال الكفرة وهم هم ، وأعمالهم أعمالهم ! ! وفيه لطف للمؤمنين ، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء ، ورفض الإغترار بالله تعالى . كذا حرره أبو السعود .
وقال الناصر : وأكثرهم يقول : إن عسى من الله واجبة ، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين .
والحق أن الخطاب مصروف إليهم ، كما قال الزمخشري ، أي : فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوّة العاقبة عند الله معلومة ، ولله عاقبة الأمور .
تنبيهات :
الأول : قال الزمخشري : العمارة تتناول زمّ ما استرمّ منها وقمّها ، وتظيفها وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذِّكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجلّه وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، فضلاً عن فضول الحديث .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من غدا إلى المسجد أو راح ، أعدّ الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح > .
ورويا أيضاً عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى ، بنى الله له بيتاً في الجنة > .
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد ، فاشهدوا له بالإيمان > ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ } الآية .
الثاني : إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لدخوله في الإيمان بالله ، فتُرك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة ، دلالة على أنهما كشيء واحد ، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر ، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، ومن جملته رسالة صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } . كذا في " العناية " .
الثالث : في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر ، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما .
الرابع : دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه .
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 19 ] .
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
روى العوفي في " تفسيره " عن ابن عباس أن المشركين قالوا : عُمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ، ويستكبرون به ، من أجل أنهم أهله وعماره ، فخير اللهُ الإيمانَ والجهاد مع رسوله ، على عُمارة المشركين البيت ، قيامهم على السقاية ، وبيّن أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك ، وأنهم ظالمون بشركهم ، لا تغني عمارتهم شيئاً .
قال اللغويون : السقاية بالكسر والضم موضع السقي . وفي " التهذيب " : هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها . انتهى .
وفي " التاج " : سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام . انتهى .
وروى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ؛ وقال الآخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله عز وجل : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } الآية .
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " ولفظه : إن رجلاً قال : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام . الحديث .
قال بعضهم : فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما ، ونزلت الآية في ذلك ، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه ، وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه
به ، وكذا وصفهم بالظلم لأجل تسويتهم المذكورة .
وأقول : لا منافاة ، وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه ، وقول النعمان فأنزل الله ، بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم ، وهو هذه الآية ، لا بمعنى أنه كان سبباً لنزولها كما بينها غير ما مرة .
وهذا الاستعمال شائع بين السلف ، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات ، ويحار في المخرج ، فافهم ذلك وتفطن له .
وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه ، ذهول عن سباق الآية وعن سياقها ، فيما صدعت فيه من شديد التهويل ، وعن لاحقها في درجات التفضيل ، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشتبه به .
لطيفة :
لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين ، أي : أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله . . . إلخ ، ويؤيده
قراءة من قرأ ( سقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام ) أو : أجعلتموها كإيمان من آمن . . الخ .
قال أبو البقاء : الجمهور على سقاية بالياء ، وصحّت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث .
ثم بيّن تعالى مراتب فضل المؤمنين ، إثر بيان عدم الإستواء وضلال المشركين وظلمهم ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ 20 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ } أي : من أهل السقاية والعمارة ، وهم وإن يكن لهم درجة عند الله ، جاء على زعمهم ومدعاهم . قاله في " العناية " .
{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي : لا أنتم . أي : المختصون بالفوز دونكم .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [ 21 ]
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ]

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 22 ] .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . ثم نهاهم تعالى عن موالاة المشركين ، وإن كانوا أقرب الأقربين ، بقوله سبحانه :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 23 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء } أي : بطانة وأصدقاء ، تفشون إليهم أسراركم ، وتمدحونهم وتذبون عنهم { إَنِ اسْتَحَبُّواْ } أي : اختاروا : { الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : لوصفهم الموالاة في غير موضعها ، ولتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله به .
ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعاً من محبة
الله ، ومحبة واسطة الوصول إليه ، ومحبة ما يعلي دينه بقوله :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 24 ]
{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي : أقاربكم الأدنون ، أو قبيلتكم .
قال أهل اللغة : عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون ، أو قبيلته ،
كالعشير - بلا هاء - مأخوذة من العشرة ، أي : المعاشرة ، لأنها من شأنهم ، أو من العَشَرة الذي هو العدد لكمالهم ، لأنها عدد كامل { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي : اكتسبتموها { وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي : فوات وقت نفادها بقراقكم لها .
{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } أي : منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين { أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ } أي : المنعم بالكل { وَرَسُولِهِ } وهو واسطة نعمه { وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } أي : مما يعلي دينه { فَتَرَبَّصُواْ } أي : انتظروا : { حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } أي : بقضائه ، وهو عذاب عاجل ، أو عقاب آجل ، أو فتح مكة ، وهذا أمر تهديد وتخويف . أي : فارتقبوا قهر الله بدعوى محبته بالإيمان ، وتكذيبها بترجيح محبة غيره { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين والمؤثرين لما ذكر على رضاه تعالى .
تنبيهات :
الأول : قال بعضهم : ثمرة الآيتين تحريم موالاة الكفار ، ولو كانوا أقرباء ، وأنهم كبيرة لوصف متوليهم بالظلم ، ووجوب الجهاد ، وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله .
الثاني : قال الرازي : الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين ، وبين جميع مهمات الدنيا ، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا .
الثالث : في هذه الآية وعيد وتشديد ، لأن كل أحد قلما يخلص منها ، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصَّله في " الكشاف " بقوله :
وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها ، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين فلينصف أورعُ الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله ، والثبات على دين الله ، ما يستحبّ له دينه على الآباء والأبناء والأخوات ، والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ، ويتجرد منها لأجله ؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصحلته فلا يدري أي : طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيّره ؟ !
وقوله تعالى :

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ 25 ] .
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } أي : في مواقف حروب كثيرة ، ووقعات شهيرة ، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة ، وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم - على ما ذكر في الصحيحين - من حديث زيد بن أرقم ، تسع عشرة غزوة ، زاد بريدة في حديث : قاتل في ثمان منهن ويقال : إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون ، وقيل ثمانون .
{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } أي : فاعتمدتم عليها ، حيث قلتم : لن نغلب اليوم من قلة : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } أي : من أمر العدو مع قلتهم ، { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : برحبها وسعتها .
والباء للملابسة والمصاحبة ، أي : ضاقت ، مع سعتها ، عليكم ، وهو استعارة تبعية ، إما لعدم وجدان مكان يقرّون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب ، أو أنهم لا يجلسون في مكان ، كما لا يُجْلَس في المكان الضيق { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } أي : منهزمين .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ 26 ] .
{ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } أي : ما تسكنون به ، وتثبتون من رحمته ونصره ، وانهزام الكفار ، واطمئنان قلوبهم للكرّ بعد الفرّ { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين انهزموا ، وإعادةُ الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما ، أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفروا ، أو على الكل ، وهو الأنسب .
ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل ، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعليّة الإنزال . أفاده أبو السعود .
{ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة { وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : بالقتل والأسر والسبي { وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } لكفرهم في الدنيا .

(/)


القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 27 ] .
{ ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء } أي : منهم ، لحكمة تقتضيه ، أي : يوفقه للإسلام { وَاللّهُ غَفُورٌ } أي : يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي { رَّحِيمٌ } أي : يتفضل عليهم ويثيبهم .
تنبيهات :
الأول : فيما نقل في غزوة حنين ، وتسمى غزوة أوطاس ، وهما موضعان بين مكة والطائف ، فسميت الغزوة باسم مكانهما ، وتسمى غزوة هوازن ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة ، في شوال سنة ثمان من الهجرة ، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان ، وبعده أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة ، وهو يقصر الصلاة ، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له ، وهم عامدون إلى مكة ، وقد نزلوا حنيناً وكانوا ، حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، يظنون أنه إنما يريهم ، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر ، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جُشَم ، معاوية وبني سعد بن بكر ، وناساً من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ، والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر .
وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم ، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شجاعاً مجرباً ، وجميع أمر الناس إلى مالك بن عوف .
فلما أتاهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، أقبلوا عامدين إليه ، فأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، يرى أنه أثبت لموقفهم ، فلما نزل بأوطاس ، اجتمع إليه الناس ، فقال دريد : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نِعْمَ مجال الخيل ، لا حَزْنٌ ضِرسٌ ، ولا سهلٌ دَهْس ، مالي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، ويُعَار الشاء وبكاء الصغير ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس نسائهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها ، فقال : راعيَ ضأن والله ! وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه ، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك !
ثم قال : ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحدٌ منهم : قال : غاب الحدّ والجِدّ ، لو كان يوم علاءٍ ورفعةٍ لم يغب عنهم كعب ولا كلاب ، ولودِدْت أنكم فعلتم ما فعلا . فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عَمْرو وعوف ابنا عامر . قال : ذانك
الجذعان ، لا ينفعان ولا يضران ؛ ثم أنكر على مالك رأيه في ذلك وقال له : لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً ، أرفعهم إلى ممتنع بلادهم ، وعليا قومهم ، ثم ألق الصبيان على متون الخيل شيئاً ، فإن كانت لك ، لحق بك من ورائك ، وإن كانت لغيرك ، كنت قد أحرزت أهلك ومالك .
قال : لا ، والله لا أفعل ذلك ، إنك قد كبرت ، وكبر عقلك ، والله لتطعنني يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذاالسيف حتى يخرج من ظهري ! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي . قالوا : أطعناك .
فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ، ولم يفتني . ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ، ثم شدوا شدة رجل واحد .
وبعث عيوناً من رجاله فأتوه ، وقد تفرقت أوصالهم ، فقال : ويلكم ! ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالاً بيضاً ، على خيل بُلْق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى . فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .
فلما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يستعلم خبرهم ، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر ، وأنهم قاصدون إليه ، فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع - وقيل أربعمائة - وخرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين : عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة ، وألفان من مسلمة الفتح ، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ، ومضى لوجهه ، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس ، والضحاك بن سفيان الكلابي ، وجموع من عبس وذبيان ، ومزينة ، وبني أسد .
ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء ، وكان لهم في الجاهلية مثلها ، يطوف بها الأعراب ويعظمونها ، ويسمونها ذات أنواط ، فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال لهم : < قلتم كما قال قوم موسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم > .
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة ، وهو واد حَزْن فتوسطوه في غبش الصبح ، وقد كمنت هوازن في جانبيه ، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد ، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا ، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وجماعة سواهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم على بلغته البيضاء دلدل ، والعباس آخذ بشكائمها ، وكان جهير الصوت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة ـ قيل : والمهاجرين ـ فما سمعوا الصوت وذهبوا
ليرجعوا ، صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم ، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم ، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمع منهم حوالي المائة ، فاستقبلوا هوازن ، والناس متلاحقون ، واشتد الحرب ، وحمي الوطيس .
ولما غَشَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته ، ثم قبض قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل به وجوههم وقالت : < شاهت الوجوه > ! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم ، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب .
فلم يملكوا أنفسهم ، فولوا منهزمين ، ولحق آخر الناس ، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه ، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم ، واستحرّ القتل في بني مالك من ثقيف ، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً ، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس ، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة ، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه .
وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن ، أبا عامر الأشعري عمّ أبي موسى ، فقاتلهم ، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة ، فأخذ أبو موسى الراية ، وشدّ على قاتل عمه ، فقتله ، وانهزم المشركون ، وانفضّت جموع أهل هوازن كلها ، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة ، ثم جُمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها ، فأمر بها فحبست بالجعرانة بنظر مسعود بن عَمْرو الغفاري .
وسار صلى الله عليه وسلم من فوره إلى الطائف ، فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة ، وقاتلوا من وراء الحصون ، وأسلم من كان حولهم من الناس ، وجاءت وفودهم إليه ، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم عن الطائف ، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن ، مسلمين راغبين ، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال ، فاختاروا العيال والأبناء ، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : < ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم > ، وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم تطب نفسه عوّضه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصيبه ، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم .
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى ، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين ، ونقل كثيراً من الطلقاء ـ وهم الذين منّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه ـ يتألفهم على الإسلام ، مائة من الإبل ، ومنهم مالك بن عوف النصريّ . فقال حين أسلم :
~ما إن رأيتُ ولا سمعت بمثله في الناس كلهم بمثل محمد
~أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتُدِي ومتى يشأ يخبرك عما في غدِ
~وإذا الكتيبة عَرَدَتْ أنيابُها بالسمهري وضربِ كل مهندِ
~فكأنه ليث على أشباله وسْط الهباءَة خادر في مَرْصَدِ
الثاني : قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في فصل جوّد فيه :
الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية ما نصه :
كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ قد وعد رسولَه ، وهو صادقُ الوعد ، وأنه إذا فتح مكَّة ، دخل النَّاسُ في دينه أفواجاً ، ودانت له العربُ بأسرها ، فلما تمَّ له الفتحُ المبين ، اقتضت حِكمتُه تعالى أن أمسك قلوبَ هَوازِنَ ومَن تَبِعَهَا عن الإسلام ، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، لِيظهر أمرُ الله ، وتمامُ إعزازه لرسوله ، ونصره لدينه ، ولِتكون غنائمُهم شكراناً لأهل الفتح ، وليُظهرَ اللهُ سبحانه رسولَه وعِبادَه ، وقهرَه لهذه الشَوْكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يُقاومهم بعدُ أحدٌ من العرب ، ولغير ذلك مِن الحكم الباهرة التي تلوحُ للمتأملين ، وتبدو للمتوسمين .
واقتضت حكمتُه سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارةَ الهزيمة ، والكسرة مع كثرة عَددهم وعُددهم ، وقوةِ شَوْكتهم لِيُطامِنَ رُؤوساً رُفِعت بالفتح ، ولم تدخل بلدَه وحرمه كما دخله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه ، حتى إنَّ ذقنه تكادُ تَمَسُّ سرجه تواضعاً لربه ، وخضوعاً لعظمته ، واستكانةً لعزَّته ، أن أحلَّ له حَرَمهُ وبلده ، ولم يَحِلَّ لأحد قبله ولا لأحد بعدَه ، ولِيبين سُبحانه لمن قال : < لَنْ نغْلَبَ اليَوْمَ عن قِلَّةٍ > ، أن النصرَ إنما هو من عنده ، وأنه مَن ينصرُه ، فلا غالب له ، ومَن يخذُله ، فلا ناصر له غيره ، وأنه سبحانه هو الذي تولَّى نصر
رسوله ودينه ، لا كثرتُكم التي أعجبتكم ، فإنها لم تُغن عنكم شيئاً ، فوليتُم مُدبرين ، فلما انكسرت قلوبُهم ، أُرسلت إليها خِلَعُ الجبر مع بَرِيدِ النصر ، فأنزل الله سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وقد اقتضت حكمتُه أن خِلَعَ النصر وجوائزَه إنما تفِيضُ على أهل الإنكسار : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ ونُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ
يَحْذَرُون } .
ومنها : أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائمَ مكة ، فلم يغنمُوا منها ذهباً ولا فضةً ، ولا متاعاً ولا سبياً ، ولا أرضاً كما روى أبو داود ، عن وهب ابن منبِّه ، قال : سألتُ جابراً : هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الفَتْح شَيْئاً ؟ قال : لا !
وكانوا قد فتحوها بإيجافِ الخيل والركاب ، وهُم عشرةُ آلاف ، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيشُ مِن أسباب القوة ، فحرَّك سبحانَه قلوبَ المشركين لغزوهم ، وقذفَ في قلوبهم إخراجَ أموالهم ، ونَعمهم وشياهم ، وسَبيهم معهم نُزُلاً وضِيافةً ، وكرامةً ، لِحزبه وجنده ، وتمَّمَ تقديرَه سبحانه بأن أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ، ليقضى اللهُ أمراً كان مفعولاً .
فلما أنزل اللهُ نصرَهُ على رسوله وأوليائه ، وبرزت الغنائمُ لأهلها ، وجرت فيها سهامُ الله ورسوله ، قيل : لا حاجةَ لنا في دمائكم ، ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى اللهُ سبحانه إلى قلوبهم التوبةَ والإنابةَ ، فجاؤوا مسلمين .
فقيل : إن مِن شُكْرِ إسلامِكم وإتيانكم أن نَرُدَّ عَلَيْكُمْ نِسَاءَكُم وأَبْنَاءَكُم وَسَبْيَكُم .
و : { إن يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ومنها : أن الله سبحانه افتتح غزوات العرب بغزوةِ بدر ، وختم غزوهم بغزوة حُنَيْن ، ولهذا يُقْرَنُ بين هاتين الغزاتين بالذكر ، فيقال : بدرٌ وحُنَيْن ، وإن كان بينهما سبعُ سنين ، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما ، وبهاتين الغزاتين طُفِئَت جمرةُ العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فالأُولى خوَّفتهم وكسرت مِن حَدِّهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامَهم ، وأذلَّت جمعهم حتى لم يجدوا بُداً من الدخول في دين الله .
ومنها : أن الله سبحانه جَبَرَ بها أهلَ مكة ، وفرَّحهم بما نالُوه من النصر والمغنم ، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم ، وإن كان عينَ جبرهم ، وعرَّفهم تمامَ نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هَوازِن ، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة ، وإنما نُصِرُوا عليهم بالمسلمين ، ولو أُفردوا عنهم ، لأكلهم عدوُّهم . . . إلى غير ذلك من الحكم التي لا يُحيط بها إلا الله تعالى . انتهى .
الثالث : قال بعضهم : دلت الآية على أنه يجب الإنقطاع إلى الله تعالى ، والإتكال عليه .
ودل ما حكى في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف ، وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصا حالة الحرب ، والأصوات التي يرهب بها . انتهى .
ولابن قيم في " زاد المعاد " فصول حسنة في فقه هذه الواقعة . فلينظر .
الرابع : مسعود : ويوم حنين ، قيل : منصوب بمضمر معطوف على نصركم ، أي : ونصركم يوم حنين ، واستظهر عطفه على محل في مواطن ، بحذف المضاف في أحدهما ، أي : ومواطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين .
قال أبو مسعود : ولعل التغيير لإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر . انتهى .
قال الشهاب : فيكون عطف يوم حنين على منوال ملائكته وجبريل ، كأنه قيل : نصركم الله في أوقات كثيرة ، وفي وقت إعجابكم بكثرتكم ، ولا يرد عليه ما قيل إن المقام لا يساعد عليه ، لأنه غير وارد ، لتفضيل بعض الوقائع على بعض ، ولم يذكر المواطن توطئة ليوم حنين كالملائكة ، إذ ليس يوم حنين بأفضل من يوم بدر ، وهو فتح الفتوح ، وسيد الواقعات ، وبه نالوا القدح المعلى ، والدرجات العلى ، لأن القصد في مثله إلى أن ذلك الفرد فيه من المزية ما صيَّره مغايراً لجنسه ، لأن المزية ليس المراد بها الشرف ، وكثرة الثواب فقط ، حتى يتوهم هذا ، بل ما يشمل كون شأنه عجيباً ، وما وقع فيه غريباً ، للظفر بعد اليأس ، والفرج بعد الشدة ، إلى غير ذلك من المزايا . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين ، مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر ، تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة ، فقال : ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. رائع

الفيزياء الثالث الثانوي3ث. =============== . ...